يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الخميس، 30 مارس 2023

نهج السلامة إلى مباحث الإمامة-- صنفه أبو الثناء الألوسي وأتمه حفيده محمود الألوسي

نهج السلامة إلى مباحث الإمامة

محتوي فهرسي

نهج السلامة إلى مباحث الإمامة



فهرست الكتاب ومحتواه
 مقدمة المؤلف

المبحث الأول في بيان فرق الشيعة

المبحث الثاني في حكم أهل القبلة

المقصد: الباب الأول في مباحث الإمامة

الباب الثاني في تحقيق ما وقع في هذا المبحث من خلاف الشيعة

الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل

خاتمة
-----

أول الكتاب {نهج السلامة إلى مباحث الإمامة-- صنفه أبو الثناء الألوسي وأتمه حفيده محمود الألوسي}

مقدمة المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لخص الأدلة على الحق الحقيق بالقبول، وخلّص الأجلّة عن شرك الأوهام التي كم ارتكبت بها نسور العقول، والصلاة والسلام على حبيبه الذي أخرجه من قشر الإمكان لبابا، واختاره من بين أعيان الأعْيان، وأختار له أصحابا، فهو ﷺ حَوَر عين العماء، وتوّرد وجنة النبوة وآدم عليه السلام بين الطين والماء، وعلى آله الذين يُخفٌّ في حقهم رزين المدائح إذ كانوا أحد الثقلين، ويُجفُّ في وصفهم معين القرائح، إذ كانوا خير مِعَين لسيد الكَوْنين، وعلى أصحابه الذين بدوا في سماء الدين نجوما، وغَدَوا لشياطين الكفرة الملحدين رجوما.. وبعد.

فان إهاب العراق قد تهرى من سم الضلالة، وعرى معظم أهله داء السكتة لعظم الجهالة، وذلك لأن الإمامية أوقدوا نار الحرب بأسنة الشُبَهِ، أمام كل لاحِبْ، فعشي إليها كل أعشى غرّه قياس الَشّبَه، ولم يعلم أنه نار الحبَاحِب، فعظم تأجج الشر، وشاع التشيع في البر والبحر.

ولما كان في مثل ذلك يجب على العالم إظهار علمه، وتلافي هتك حرمة الدين وإعظام ثلمه، فيشفق على الجاهل شفقة أبيه أو عِرْسِه لئلا يهوى في مهاوي الضلال على أم رأسه؛ أحببت أن أكتب وريقات تتضمن بيان شيء من المهم في هذا الباب، فلعل الله تعالى يهدي بها من يشاء من عباده إلى صْوَب الصواب، ورتبت ذلك على مقدمة ومقصد وخاتمة، وسميته: ( نهج السلامة إلى مباحث الإمامة ).

وقد أخذت معظم ما ذكر من الترجمة العبقرية والصولة الحيدرية للتحفة الاثني عشرية، حيث إنّها لم تترك لأحدٍ مقالا ولم تدع فيما يرام جوابا وسؤالا، ولقد فاقت الكتب المؤلفة في ذلك الشأن كلها، فلعمري أني لم أجد فيها عيبا سوى أنها في بابها لا نظير لها، ولولا أن غرضي الاقتصار على ما كثر درره من مطالبها، والإعراض لبعض الأغْراض عن غالبها، مع ذكر ما خُيّل لي حسن التنبيه عليه، وألقي في روعي لطف الإشارة إليه:

لقُلتُ لِعُشّاقِ الملاحةِ: أقبِلوا ** إليها، على رأيي، وعن غيرِها ولّوا

وأسأل الله تعالى أن يوفقني والسامعين للسداد، وأن يجعل كلامي لثغور المعاندين أحكم سداد، فأقول:

أما المقدمة ففيها بحثان: أما الأول ففي بيان المراد بالإمامية عند الإطلاق في محل خلاف أو وفاق، وهو أمر مهم كما لا يخفى.

اعلم أنّ الإمامية إحدى فرق الشيعة، لكنها تنقسم إلى فرق كثيرة، بينها فروق في أمور خطيرة وتفصيل الكلام في هذا المقام، على وجه لا يورث في وجه المرام خللا، ولا يؤثر في قلب الناظر أو السامع مللا، إن الشيعة الذين يدعون إن صدقا وإن كذبا، مشايعة الأمير علي كرم الله تعالى وجهه ومتابعته وحبه الذي افترضه الله تعالى على عباده أربع فرق:

=================

المبحث الأول في بيان فرق الشيعة

الفرقة الأولى: الشيعة الأولى

ويسمّون الشيعة المخلصين أيضا، وهم عبارة عمّن كان في وقت خلافة الأمير كرم الله تعالى وجهه من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان وكلهم عرفوا له حقه، واحلوه من الفضل محله، ولم ينتقصوا أحدا من أخوانه أصحاب رسول الله ﷺ، فضلا عن إكفاره وسبه، بيد أن منهم من قاتل معه على تأويل القران، كما قاتلوا مع ابن عمه عليه الصلاة والسلام على تنزيله.

فقد كان معه رضي الله تعالى عنه في حرب صفين من أصحاب بيعة الرضوان ثمانمائة صحابي، وقد استشهد منهم تحت رايته هناك ثلاثمائة، ومنهم من تقاعد عن القتال تورعا واحتياطا لشبهة عرضت له، ولكنه مع ذلك كان قائما بمحبته وتعظيمه، ونشر فضائله وذلك لا يقصر بكثير عن القتال معه، ومن مشهوري هذا الصنف عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما، وقد كشف عن عينه من بعد غين الشبهة غاية فندم غاية الندم على قعوده وتخلفه عن الأمير كرم الله تعالى وجهه، لكن فات ذاك، وتعذر الأستدراك، وحالت المنية دون الأمنية.

وهذا يشبه من وجه ما كان من محمد بن الحنفية، رضي الله تعالى عنه من التوقف يوم الجمل حتى قال له أسد الله: ويحك أتتوقف وأبوك سائقك.

ومنهم من غلب عليه القضاء والقدر، فوقع منه ما أدى إلى قتاله كطلحة والزبير وأم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنهم، فهم وإن وقع بينهم وبين الأمير كرم الله تعالى وجهه ما وقع يوم الجمل، محبون له عارفون له فضله، كما أنه رضي الله تعالى عنه في حقهم كذلك.

وليس بين ذلك وبين القتال الواقع في البين تناف، لأن القتال لم يكن مقصودا بل وقع عن غير قصد، لمكر من قتلة عثمان رضي الله تعالى عنه الذين كانوا بعشائرهم في عسكر الأمير، إذ غلب على ظنهم من خلوته بطلحة والزبير أنه سيسلمهم إلى أولياء عثمان، فاطاروا من نيران غدرهم شرارا، ومكروا مكرا كبّارا، فأوقعوا القتال بين الفريقين، فوقع ما وقع إن شاء وإن أبى أبو الحسنين، فكل من الفريقين كان معذورا، وكان أمر الله قدرا مقدورا، وتفصيل ذلك في محله، ولولا مخافة الإملال لمنحتك به كله.

على أن القتال لو فرض أنه كان قصدا فهو لشبهة قوية عند المقاتل، أوجب عليه أن يقاتل، فهو بزعمه من الدين ونصرة المسلمين، وليس من الغي والإستهانة بالأمير في شيء، ومتى كان كذلك فهو لا ينافي المحبة ولا يدّنس رداء الصحبة، وقد صرح بعض العلماء أن شكوى الولد على أبيه، لدين له عليه قادر على أدائه ومماطل فيه ليس من العقوق، ولا مخل بما للوالد من واجب الحقوق.

وإنْ أبى تعصبك هذا قلنا إنّ القوم رضي الله تعالى عنهم، كانوا من قبل ما وقع من الشيعة المخلصين الأبرار، لكن لعدم العصمة وقع منهم ما غسلوه بِبَرَد التوبة وثلج الاستغفار، ويأبى الله تعالى أن يذهب صحابي إلى ربه قبل أن يغسل بالتوبة والإستغفار دَرَن ذنبه.

وبنحو هذا يجاب عن أصحاب صفين من رؤساء الفرقة الباغية على علي أمير المؤمنين والمتلوثة سيوفهم في تلك الفتنة من الصحابة أقل قليل، ولولا عريض الصحبة وعميق المحبة، لدلع أفعوان القلم لسانه الطويل، فقف عند مقدارك، فما أنت وإن بلغت الثريا، إلا دون ثرى نعال أولئك، نعم يلزمك أن تقول، إن الحق في ما وقع كان مع زوج البتول، هذا واعلم أن ظهور هذا اللقب كان عام سبع وثلاثين من الهجرة، والله تعالى أعلم.

الفرقة الثانية: الشيعة التفضيلية

وهم عبارة عن الذين يفضلون الأمير كرم الله تعالى وجهه، على سائر الصحابة من غير إكفار أحد منهم ولا سب ولا بغض كأبي الأسود الدؤلي الذي اشتهر، وهو الأصح، بل الصحيح أنه واضع النحو بأمر باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه، وكتلميذه أبي سعيد يحيى بن يعمر أحد قرّاء البصرة، وكسالم ابن أبي حفصة راوي الحديث عن الإمامين الباقر وابنه الصادق رضي الله تعالى عنهما، وكعبد الرزاق صاحب المصنف في الحديث، وكأبي يوسف يعقوب بن إسحاق المعروف بابن السكيت صاحب إصلاح المنطق في اللغة، وكخلق آخرين، ولبعض متأخري الصوفية قدست أسرارهم، كالفاضل الجامي، كلمات ترشح بالتفضيل، وانسلاكهم في هذا القبيل، وكثير من العلماء يصرفها عن ذلك صيانة لأولئك الأجلّة عن أن ينسب إليهم الابتداع، والأنخزال عن الشيعة المخلصين من الأشياع، وقد ظهرت هذه الفرقة بعد الأولى بنحو عامين أو ثلاثة، وقد صح ان الأمير كرم الله تعالى وجهه أحس أيام خلافته بقوم يفضلونه على الشيخين [ رضي الله تعالى عنهما ]، فكان ينهى عن ذلك، حتى قال: « لئن سمعت أحدا يفضلني على الشيخين رضي الله عنهما لأحدنه حد الفِرية »، وهو على ما في التحفة ثمانون جلدة، وقيل عشرة والله تعالى أعلم.

الفرقة الثالثة: الشيعة السبية

ويقال لها التبرائية، وهم عبارة عن الذين يسبون الصحابة إلا قليلا منهم كسلمان الفارسي وأبي ذر والمقداد وعمار بن ياسر رضي الله تعالى عنهم، وينسبونهم - وحاشاهم - إلى الكفر والنفاق ويبرؤن منهم، ومنهم من يزعم – والعياذ بالله تعالى – ارتداد جميع من حضر غدير خم يوم قال عليه الصلاة والسلام: « من كنت مولاه فعلي مولاه... الحديث »، ولم يف ِبمقتضاه من بيعة الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، بل بايع غيره.

وهذه الفرقة حدثت في عهد الأمير رضي الله تعالى عنه بإغواء عبد الله بن سبأ اليهودي الصنعاني، وليس هو هيان بن بيان، وزعم ذلك مكابرة وإنكار للمتواتر، ولما ظهرت أظهر الأمير كرم الله تعالى وجهه، البراءة منها وخطب عدة خطب في قدحها وذمها.

وقد روى الإمام المؤيد بالله يحيى بن حمزة الزيدي في آخر كتابه ( طوق الحمامة في مباحث الإمامة )، عن سويد بن غفلة انه قال: « مررت بقوم ينتقصون أبا بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، فأخبرت عليا كرم الله تعالى وجهه، وقلت لولا إنهم يرون انك تضمر [ مثل الذي أعلنوا به ] ما أعلنوا وما اجتروا على ذلك [ منهم عبد الله بن سبأ ]. فقال علي رضي الله تعالى عنه، نعوذ بالله، رحمهما الله، ثم نهض وأخذ بيدي، وأدخلني المسجد فصعد المنبر، ثم قبض على لحيته وهي بيضاء فجعلت دموعه تتحادر عليها وجعل ينظر للبقاع حتى اجتمع الناس، ثم خطب فقال: ما بال أقوام يذكرون أخوي رسول الله ﷺ ووزيريه وصاحبيه، وسيدي قريش وأبوي المسلمين، وأنا بريء مما يذكرون، وعليه معاقب، صحبا رسول الله ﷺ بالجد والوفاء، والجد في أمر الله يأمران وينهيان ويبغضان ويعاقبان، لا يرى رسول الله كرأيهما رأيا ولا يحب كحبهما حبا لما يرى من عزمهما في أمر الله، فقبض وهو عنهما راض والمسلمون راضون، فما تجاوزا في أمرهما وسيرتهما رأي رسول الله ﷺ، وأمره في حياته وبعد موته فقبضا على ذلك رحمهما الله فو الذي فلق الحبة، وبرئ النسمة لا يحبهما إلا مؤمن فاضل ولا يبغضهما إلا شقي مارق، وحبهما قربة، وبغضهما مروق... » الحديث، وفي رواية: « لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل ».

ثم أرسل إلى ابن سبأ فسيره إلى المدائن، وقال: لا تساكني [ في بلدة ] أبدا، وهذا مما يفت باعضاد هذه الفرقة، أعني الشيعة السبيّة لو ينصفون، ولما ظهرت ما ارتضى الشيعة المخلصون بلقب الشيعة فتركوه تحرزا عن الالتباس، وكراهة للاشتراك الاسمي مع أولئك الأرجاس، ولقبوا أنفسهم بأهل السنة والجماعة.

فما وقع في بعض الكتب كتاريخ الواقدي والاستيعاب، من أن فلانا كان من الشيعة مثلا، لا ينافي ما وقع في غيرها من أنه من رؤساء أهل السنة والجماعة، حيث ان المراد بالشيعة هناك الشيعة الأولى، وكل أهل السنة منهم، وكيف لا وهم يرون فرضيّة حب أهل البيت، وعلي كرم الله تعالى وجهه عمادهم.

ويروون في ذلك عدة أحاديث منها ما رواه البيهقي، وأبو الشيخ والديلمي إن رسول الله ﷺ قال: « لا يؤمن أحد حتى أكون أحب إليه من نفسه، وتكون عترتي أحب إليه من نفسه »، وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ: « أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمة وأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي »، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحصى أو يحصر، وقد نسب للإمام الشافعي، وموضعه من أهل السنة موضع الواسطة من العقد نظم كثير يشهد بما ذكرناه عن أهل السنة، ويرد به على من أنكر ذلك من جهلة الشيعة كقوله:

يا أهلَ بيتِ رسولِ الله حُبُّكُمُ ** فَرْضٌ مِنَ اللهِ في القرآنِ أنْزَلَه

يَكْفِيكُمُ مِنْ عَظِيمِ الفَخْرَ أنَّكُمُ ** مَنْ لمْ يُصَلِّ عَليْكُمْ لا صَلاةَ لَهُ

وقوله:

ان فتشوا قلبي رأوا وسطه ** سطرين قد خطا بلا كاتب

العلم والتوحيد في جانب ** وحب أهل البيت في جانب

وقوله:

إذَا ذكروا عَليا أو بنيهِ ** وجاءوا بالرواياتِ العلية

يقال تجاوزوا يا قَوْمُ عنه ** فهذَا مِنْ حَديثِ الرَّافِضّية

برئْتُ إلى المهمين مِنْ أنَاس ** يَرونَ الرَّفْضَ حُبَّ الفاطمِيّة

وقوله:

يَا راكبا قِفْ بالمُحصَّب مِنْ مِنًى ** وَاهْتِفْ بساكنِ خَيْفهِا والنَّاهِضِ

سَحَرا إذا فَاضَ الحَجيجُ إلى منًى ** فَيْضا كَمُلْتَطمِ الفُرَاتِ الفَائِضِ

إنْ كانَ رَفْضا حُبذُ آلِ مُحَمَّدٍ ** فْلَيشْهَدِ الثَّقلانِ أنَّي رَافِضِي

وقوله:

إلام الأم وحتى ومتى ** أعاتب في حب هذا الفتى

فهل زوجت غيره فاطم ** وفي غيره هل أتى هل أتى

إلى غير ذلك مما هو مذكور في كتب الشيعة صحت نسبته إليه أم لا.

وهذا أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وهو هو بين أهل السنة كان يفخر ويقول بأفصح لسان: لولا السنتان لهلك النعمان، يريد السنتين اللتين صحب فيها لأخذ العلم الإمام جعفر الصادق، وقد قال غير واحد انه أخذ العلم والطريقة من هذا الإمام، ومن أبيه الإمام محمد الباقر، ومن عمه زيد بن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهم.

وللأعمش وهو أحد مجتهدي أهل السنة سفر كبير في مناقب الأمير كرم الله تعالى وجهه، ويكفي في هذا الباب أن معظم طرائق أهل السنة موصولة بأهل البيت، ولا يكاد ينكر هذا إلا من ينكر الفرق بين الحي والميت، ومن الشيعة من يزعم انه لا يعد محبا لعلي وسائر أهل البيت رضي الله تعالى عنهم من أحب الشيخين واضرابهم من الصحابة الذين لم يبايعوا الأمير كرم الله تعالى وجهه، يوم وفاته عليه الصلاة والسلام حيث يزعمون أنهم أعداء الأمير، وينشدون في ذلك من قال:

إذا صافى صديقك من تعادي ** فقد عاداك وانقطع الكلام

وقوله:

صديق صديقي داخل في صداقتي ** عدو صديقي ليس لي بصديق

ولا يخفى كذب مبناه، ويشير إلى كذبه الخبر الذي قدمناه، عن يحيى بن حمزة المؤيد بالله، وكذا غيره من الأخبار التي ملئت منها بطون الأسفار، ورحم الله تعالى أمرءا انصف، وعرف الحق فاعترف.

الفرقة الرابعة: الشيعة الغلاة

وهم عبارة عن القائلين بألوهية الأمير كرم الله تعالى وجهه، ونحو ذلك من الهذيان، وعندنا ان ابن أبي الحديد في بعض تلوناته، وكان يتلون تلون الحرباء كان من هذه الفرقة، وكم له في قصائده السبع الشهيرة من هذيان، كقوله يمدح الأمير كرم الله تعالى وجهه:

ألا إنما الإسلام لولا حسامه ** كعطفة عنز أو قلامة ظافر

وقوله:

يجل عن الأعراض والأين والمتى ** ويكبر عن تشبيهه بالعناصر

إلى غير ذلك. وأول حدوثهم، قيل في عهد الأمير بإغواء ابن سبأ أيضا، وقد قتل كرم الله تعالى وجهه من صح عنده انه يقول بألوهيته فلم ينحسم بذلك عرق ضلالتهم، ولم ينصرم حبل جهالتهم، بل استمر الفساد، وقوى العناد، ومن يضلل الله فما له من هاد، وهذه الفرقة على قلتها بالنسبة إلى الفرق الأخرى انقسمت إلى أربع وعشرين فرقة: السبئية، والمفضلية والسريغية، والكاملية، والبزيغية، والمغيرية، والجناحية، والبيانية، والمنصورية والغمامية، ويقال لهم الربيعية، والأموية والتفويضية، والخطابية، والمعمرية، والغرابية، والذبابية، والذمية، والاثنينية، والخمسية، والنصيرية والإسحاقية، والعلبائية، والمروزية، والمقنعية، وبيان ما غلت به في التحفة وفي غيرها.

وأكثر الفرق الأربع الشيعة السبيّة، فقد انتشرت في جميع الربع المعمور، فلا تكاد ترى بلدا إلا وهو بها مغمور، والإمامية فرقة منها، وهي أيضا فرقة كبيرة وطائفة كثيرة، وقد انقسمت إلى تسع وثلاثين فرقة على ما في التحفة:

الأولى الحسنية: يقولون ان الحسن المجتبى هو الإمام بعد أبيه علي المرتضى، والإمام من بعده الحسن المثنى بوصيته له، ثم ابنه عبد الله، ومن ثم ابنه محمد الملقب بالنفس الزكية، ثم أخوه إبراهيم بن عبد الله، وهذان خرجا في عهد المنصور الدوانيقي، ودعوا الناس إلى متابعتهما فتبعهما خلق كثير، واستشهدا بعد حرب شديد على يد بعض أمراء الدوانيقي رحمه الله تعالى عليهما، وقد ظهرت هذه الفرقة سنة مائة وخمس وتسعين.

الثانية النفسية: وهي طائفة من الحسنية تقول: ان النفس الزكية لم يقتل بل غاب واختفى وسيظهر بعد.

الثالثة الحكمية: ويقال لها الهشامية أيضا، وهم أصحاب هشام بن الحكم يقولون بإمامة الحسين بعد أخيه الحسن، ثم بإمامة أولاده على الترتيب المشهور إلى الصادق، وقد ظهرت سنة مائة وتسع.

الرابعة السالمية: ويقال لهم أيضا الجواليقية أصحاب هشام بن سالم الجواليقي، وهم في الإمامة كالحكمية وفي الاعتقاد مختلفون، فالحكمية يقولون ان الله عز وجل جسم طويل عريض عميق متساوي الأبعاد غير مصور بالصور المتعارفة، وهم يقولون جسم مصور بصورة الإنسان تعالى الله عما يصفون علوا كبيرا، وقد ظهرت سنة مائة وثلاثة عشر.

الخامسة الشيطانية: ويقال لها النعمانية أيضا اصحاب محمد بن نعمان الصيرفي الملقب بشيطان الطاق، وهم يقولون بالإمامة على الترتيب المشهور إلى موسى الكاظم، وبالتجسيم كالسالمية، وقد ظهرت سنة مائة وثلاثة عشر أيضا.

السادسة الزرارية: أصحاب زرارة بن أعين الكوفي، وهم في الإمامة كالحكمية، وخالفوهم في زعمهم ان صفاته سبحانه حادثة، لم تكن في الأزل، وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين.

السابعة والثامنة والتاسعة اليونسية: أصحاب يونس بن عبد الرحمن القمي، والبدائية والمفوضة، وكلهم متفقون على إمامة الأئمة الستة بالترتيب المشهور، وزعمت اليونسية منهم ان الله سبحانه على العرش بالمعنى المعروف تحمله الملائكة، والبدائية ان الله سبحانه قد يريد بعض الأشياء، ثم يبدو له ويندم لكونه خلاف المصلحة، وحملت خلافة الثلاثة ومدحهم في الآيات على ذلك.

والمفوضة: منهم من يزعم ان الله تعالى فوض خلق الدنيا إلى محمد عليه الصلاة والسلام، ومنهم من يقول إلى علي كرم الله تعالى وجهه، ومنهم من يقول إلى كليهما، وقد ظهرت الأخيرتان سنة ظهور الزرارية.

العاشرة الباقرية: ويقولون ان الإمام محمد الباقر لم يمت وهو الإمام المنتظر.

الحادية عشر الحاصرية: يقولون ان الإمام بعد الباقر ابنه زكريا، وهو مختف في جبل الحاصر لا يخرج حتى يؤذن له.

الثانية عشر الناؤسية: أصحاب عبد الله بن ناؤس البصري، يقولون إن الإمام جعفر الصادق حي غائب، وهو المهدي المنتظر.

الثالثة عشر العمارية: أصحاب عمار، يقولون إن الصادق قد مات والإمام بعده ابنه محمد، وقد ظهرت سنة مائة وخمس وأربعين.

الرابعة عشر المباركية: من الإسماعيلية أصحاب المبارك، يعتقدون ان الإمام بعد جعفر ابنه الأكبر إسماعيل ثم ابنه محمد، وهو خاتم الأئمة، والمهدي المنتظر.

الخامسة عشر الباطنية: منهم يرسلون الإمامة بعد إسماعيل بن جعفر في أولاده بنص السابق على اللاحق، ويزعمون وجوب العمل بباطن الكتاب دون ظاهره.

السادسة عشر القرامطة: منهم، وهم أصحاب قرمط، وهو المبارك في قول، وقال بعض العلماء هو اسم رجل آخر من أهل سواد الكوفة، اخترع ما عليه القرامطة، وقيل هو اسم أبيه، وأما المخترع نفسه فاسمه حمدان، وكان ظهوره سنة سبعين ومائتين، وقيل ان قرمط اسم لقرية من قرى واسط منها حمدان المخترع فهو قرمطي واتباعه قرامطة، وكان ظهوره فيها، وقيل غير ذلك، ومذهبهم ان إسماعيل بن جعفر خاتم الأئمة وهو حي لا يموت، ويقولون بإباحة المحرمات.

السابعة عشر الشمطية: أصحاب يحيى ابن أبي الشمط، يزعمون أن الإمامة تعلقت بعد الصادق بكل من أبنائه الخمسة بهذا الترتيب: إسماعيل ثم محمد ثم موسى الكاظم ثم عبد الله الأفطح، ثم إسحاق.

الثامنة عشر الميمونية: أصحاب عبد الله بن ميمون القداح الأهوازي، وهم قائلون بإمامة إسماعيل ويزعمون أن العمل بظواهر الكتاب والسنة حرام ويجحدون الميعاد.

التاسعة عشر الخلفية: أصحاب خلف، وهم القائلون بإمامة إسماعيل ونفي المعاد كالميمونية، إلا انهم يقولون كل ما في الكتاب والسنة من الصلاة والزكاة ونحوهما محمول على المعنى اللغوي لا غير.

العشرون البرقعية: أصحاب محمد بن علي البرقعي، وهم في الإمامة كمن سمعت آنفا، وينكرون أيضا المعاد، ويؤلون النصوص بما تهوى أنفسهم، وينكرون نبوة بعض الأنبياء، ويوجبون لعنهم والعياذ بالله تعالى.

الحادية والعشرون الجنابيّة: اتباع أبي الطاهر الجنابيّ، وهم كالقرامطة في الإمامة، وينكرون المعاد والأحكام بأسرها، ويوجبون قتل من يعمل بها، ولذا قتلوا الحجاج وقلعوا الحجر الأسود، وعدهم غير واحد فرقة من القرامطية كما انهم عدوا القرامطة فرقة من الإسماعيلية.

الثانية والعشرون السبعية: وهم من الإسماعيلية أيضا، يقولون ان الأنبياء الناطقين بالشرائع سبعة آدم وأولوا العزم الخمس والمهدي، وان بين كل رسولين سبعة رجال آخرون يقيمون الشريعة السابقة إلى حدوث اللاحقة، وإسماعيل بن جعفر كان أحد هؤلاء السبعة، وهم المقيمون للشريعة بين محمد عليه الصلاة والسلام والمهدي المنتظر الذي هو آخر الرسل بزعمهم، وزعموا انه لا يخلو الزمان عن واحد من أولئك الرجال.

الثالثة والعشرون المهدوية: زعموا ان الإمامة بعد إسماعيل لابنه محمد الوصي ثم لابنه أحمد الوفي، ثم لابنه محمد التقي، وفي بعض الكتب قاسم التقي، ثم لابنه عبيد الله الرضي، ثم لابنه أبي القاسم عبد الله، ثم لابنه محمد الذي لقب نفسه بالمهدي، وقد صار واليا بالمغرب، واستولى على بلاد أفريقية، وملك مصر وما حولها، ثم لابنه [ محمد ] القائم بأمر الله، ثم لابنه إسماعيل المنصور بقوة الله ثم لابنه معد المعز لدين الله، ثم لابنه المنصور نزار العزيز بالله، ثم لابنه أبي علي الحاكم بأمر الله، ثم لأبي الحسن الظاهر بدين الله، ثم لمعد المستنصر بالله، وذلك بنص الآباء للأبناء بترتيب الولاء.

وهذا الترتيب إلى هنا مجمع عليه عندهم، واختلفوا بعد المستنصر لما انه نص أولا على إمامة أخيه نزار، وثانيا على إمامة ابنه أبي القاسم المستعلي بالله، فبعضهم تمسك بالنص الثاني، وقال انه ناسخ للأول فقال بإمامة المستعلي فسموا بالمهدوية المستعلية، ثم بإمامة ابنه المنصور الآمر بأحكام الله، ثم بإمامة أخي المنصور هذا عبد المجيد الحافظ لدين الله، ثم بإمامة ابنه أبي المنصور محمد الظافر بأمر الله، ثم بإمامة ابنه أبي القاسم الفائز بنصر الله، ثم بإمامة ابنه محمد العاضد لدين الله، وقد خرج على هذا أمراء الشام واستولوا عليه فسجنوه حتى مات، وما بقي بعده أحد من أولاد المهدي داعيا للإمامة.

وبعضهم تمسك بالنص الأول وألغى الثاني، فقال بإمامة نزار، ويقال للقائلين بذلك النزارية، ويقال لهم الصباحية والحميرية نسبة للحسن بن صباح الحميري، حيث قام بالدعوة لطفل سماه الهادي زاعما انه ابن نزار، فهو الإمام عندهم بعد أبيه، ثم ابنه الحسن وزعم هذا انه يجوز للإمام ان يفعل ما شاء، وان يسقط التكاليف الشرعية، وقد قال لأصحابه انه أوحي إلي أن اسقط عنكم التكاليف الشرعية، وأبيح لكم المحرمات بشرط ان لا تنازعوا بينكم، ولا تعصوا إمامكم.

ثم ابنه محمد وكان متخلقا بأخلاق أبيه وكذا ابنه علاء الدين محمد، وأما ابنه جلال الدين حسن ابن محمد بن الحسن فقد كان متصلبا في الإسلام منكرا مذهب آبائه حسن الأخلاق آمرا بالمعروف ناهياعن المنكر، وأما ابنه علاء الدين، فقد صار ملحدا بعد أبيه الحسن، وكذا ابنه ركن الدين.

وقد ظهر في زمن هذا جنكيزخان، فخرب مملكته، وكان إذ ذاك بالري، وتحصن في قلعة ألموت من قلاع طبرستان، ولم يتم له ذلك بل كان آخر أمره من أتباع جنكيز خان، وقد انطلق معه حين عاد إلى وطنه فمات في الطريق.

ثم خرج ابنه الملقب نفسه بجديد الدولة، فلما سمع به ملوك التتار فرقوا جمعه، فاختفى في قرى طبرستان حتى مات، فلم يبق من أولاده أحد مدعيا الإمامة، وهذه الفرقة هي الرابعة والعشرون، وكان ظهور المهدوية الجامعة للفرقتين سنة مائتين وتسع وتسعين.

الخامسة والعشرون الأفطحية: ويقال لها العمائية أيضا لأنهم كانوا أصحاب عبد الله بن عماءة، وهم القائلون بإمامة عبد الله الأفطح، أي عريض الرجلين ابن جعفر الصادق شقيق إسماعيل معتقدين موته ورجعته، إذ لم يترك ولدا حتى ترسل سلسلة الإمامة في نسله.

السادسة والعشرون المفضلية: أصحاب مفضل بن عمرو ويقال لهم القطعية أيضا لأنهم قاطعون بإمامة موسى الكاظم قاطعون بموته.

السابعة والعشرون الممطورية: وهم قائلون بإمامة موسى معتقدون انه حي وانه المهدي الموعود، متمسكين بقول الأمير كرم الله تعالى وجهه سابعهم قائمهم سمي صاحب التوراة، وقيل لهم ممطورية لقول يونس بن عبد الرحمن رئيس القطعية لهم أثناء مناظرة وقعت بينهما: أنتم أهون عندنا من الكلاب الممطورة، أي المبللة بالمطر.

الثامنة والعشرون الموسوية: يقطعون بإمامة موسى ويترددون في حياته وموته، ولذا لا يرسلون سلسلة الإمامة بعده في أولاده.

التاسعة والعشرون الرجعية: وهم قائلون بإمامة موسى أيضا، لكنهم يقولون بموته ورجعته وهذه الفرق الثلاث يقال لها الواقفية أيضا لوقفهم الإمامة على موسى الكاظم وعدم إرسالها في أولاده.

الثلاثون الإسحاقية: يعتقدون بإمامة إسحاق بن جعفر، وكان في العلم والتقوى على جانب عظيم، وقد روى عنه ثقات المحدثين من أهل السنة كسفيان بن عيينة وغيره.

الحادية والثلاثون الأحمدية: يقولون بإمامة أحمد بن موسى الكاظم بعد وفاة أبيه.

الثانية والثلاثون الاثنا عشرية: وهذه هي المتبادرة عند الإطلاق من لفظ الإمامية، وهم قائلون بإمامة علي الرضا بعد أبيه موسى الكاظم، ثم بإمامة ابنه محمد التقي المعروف بالجواد، ثم بإمامة ابنه علي النقي المعروف بالهادي، ثم بإمامة ابنه الحسن العسكري، ثم بإمامة ابنه محمد المهدي معتقدين انه المهدي المنتظر، ولم يختلفوا في ترتيب الإمامة على هذا الوجه.

نعم اختلفوا في وقت غيبة المهدي وعامها وسنّهُ يوم غاب، بل قال بعضهم بموته وانه سيرجع إلى الدنيا إذا عم الجور وفشا والعياذ بالله تعالى [ من ] الحور بعد الكور، وقد ظهرت هذه الفرقة سنة مائتين وخمس وخمسين، وهي قائلة بالبداء، ولذا تراها تنادي بأعلى صوت عند زيارة روضة موسى الكاظم: « أنت الذي بدا الله فيه »، يعنون ما كان بزعمهم من نصب أخيه إسماعيل إماما بعد أبيه، وموته من قبل أن ينال الإمامة ونصب أبيه إياه إماما، وكأنهم تبعوا في ذلك البدائية أو أنهم قالوا بالبداء بمعنى وقالت البدائية بمعنى آخر.

في بيان فرق الاثني عشرية

الثالثة والثلاثون الجعفرية: يرتبون الإمامة نحو ترتيب الاثني عشرية بيد انهم يقولون ان الإمام بعد الحسن العسكري أخوه جعفر، وقد اتفقوا على ذلك واختلفوا في انه هل ولدَ ولدٌ للعسكري أسمه محمد أم لا؟، فقال بعضهم بأنه لم يولد له، وقال آخرون ولد وعاش بعد أبيه لكنه مات صغيرا، أو قتله سرا من كان في زمانه من خلفاء [ بني ] العباس، وقد علم بذلك عمه جعفر فادعى أرثه فلقبته الاثنا عشرية بالكذاب، هذا ولعل ما سمعت من اختلاف بعض الفرق يجعل كل طائفة من المختلفين فرقة، وبذلك تتم فرق الإمامية تسعا وثلاثين، فليراجع وليتأمل.

ثم اعلم أن الاثني عشرية المعروفين اليوم على علاتهم في الاعتقاديات أهون شرا بكثير من كثير من فرق الإمامية وسائر الشيعة، فهم في معظم الاعتقادات متطفلون على المعتزلة، وقول الخواجة نصير الدين الطوسي المتكلم على ما نقله عنه تلميذه ابن المطهر الحلي انهم مخالفون لجميع الفرق في ذلك، مما يتعجب منه المطلع على اعتقاداتهم، وأعجب من ذلك جعله تلك المخالفة دليلا على أنهم الفرقة الناجية.

وإنه قد ظهرت في هذه الاعصار من الاثني عشرية طائفة يقال لهم الشيخية، وقد يقال لهم الأحمدية، وهم أصحاب الشيخ أحمد الأحسائي ترشح كلماتهم بأنهم يعتقدون في الأمير كرم الله تعالى وجهه نحو ما يعتقد الفلاسفة في العقل الأول بل أدهى وأمر.

وطائفة أخرى يقال لها الرشتية، وكثيرا ما يقال لها الكشفية، وهو لقب لقبهم به بعض وزراء الزوراء أعلى الله تعالى درجته إلى أعلى عليين، وهم أصحاب السيد كاظم الحسيني الرشتي وهو تلميذ الأحسائي وخريجه لكن خالفه في بعض المسائل، وكلماته ترشح بما هو أدهى وأمر مما ترشح به كلمات شيخه، حتى ان الاثني عشرية يعدونه من الغلاة، وهو يبرأ مما تشعر به ظواهر كلماته، وقد عاشرته كثيرا فلم أدرك منه ما يقوله فيه مكفروه من علماء الاثني عشرية، نعم عنده على التحقيق غير ما عندهم في الأئمة وغيرهم مما يتعلق بالمبدأ والمعاد، ولقد وجدت أكثر ما يقرره ويحرره مما لا برهان له سوى سراب شبه يحسبه الظمآن ماء، ولا أظن ان مخالفاته لشيخه تجعله وأصحابه القائلين بقوله فرقة غير الشيخية.

وطائفة أخرى يقال لها البابية: وهم أصحاب ميرزا الملقب بالباب، والباب واحد الأبواب، وهم أحد الأقسام السبعة لمن لا بد منه في بناء المذهب، الأول الإمام الذي يصل إليه علم الغيب بلا واسطة، والثاني الحجة الذي يقرر علم الإمام على وفق مذاق المخاطبين وقدر عقولهم وفهومهم بالبرهان والخطابة، الثالث ذو المصة الذي يمتص العلم من ثدي الحجة، الرابع الأبواب، ويقال لهم الدعاة، ولهم مراتب وأكبرهم من يرفع درجات المؤمنين عند الإمام، والحجة وهذا الأكبر هو رابع السبعة، الخامس الداعي المأذون الذي يأخذ العهود والمواثيق من الناس ويفتح للطالب باب العلم والمعرفة، السادس المكلّب الذي شأنه البحث والاحتجاج والترغيب في صحبة الداعي وليس له الأذن بالدعوة، وسمي بذلك على التشبيه بالمكلب المعلّم السابع المؤمن المتبع الذي يؤمن بالإمام بمساعي المكلّب والداعي.

وقد أظهر هذا الباب شنائع كثيرة، منها زعم ارتفاع فرضية الصلوات الخمس، وان سترفع فرضية الحج، وانه يوحى إليه، وألف كتابا زعم أنه تفسير سورة يوسف مع انه ليس فيه تفسير شيء من آياتها، وقد حشاه هذيانات وحرّف فيه آيات وزعم التحدي به، وذكر فيه انه تحرم كتابته بالحبر الأسود المعروف، وانه يحرم مسه لغير متطهر، إلى أمور أخرى شنيعة، ينكرها عليه سائر الشيعة، وقد أرسل بعض دعاته بكتابه إلى قصبة كربلاء، فزمر فيها بنغم شنائع تودّ أذن المؤمن لو كانت عنها صماء، فرقص على زمره في المقام الحسيني جملة من جهلة شيعة العراق، وصبا إليه غير واحد من ذوي الشقاء والشقاق.

فلما سمعت عرضت ذلك لوزير الزوراء، فانتهض لإطفاء تلك الثائرة بهمته الشمّاء، وعَقدَ لحل ما عُقِدَ من المحنة مجلسا عظيما فيه علماء الاثني عشرية وعلماء أهل السنة، فكنت أنا والحمد لله تعالى المباحث ذلك الداعي إلى مهاوي الحَيْن، فلم يتفرق ذلك الجمع حتى أجمع على كفر تلك الفرقة علماء الفرقتين، فكتبوا بذلك محضر للدولة العلية العثمانية، فبعد أيام حضر الأمر بنفي ذلك الداعي إلى الديار الرومية، فنفي واثبت محبوسا في تكرلي طاغ، وأرغم بموته هناك أنف كل طاغ.

وأما الباب ففتح باب البغي والخروج على شاه إيران، وأمر بعض مردته بقتله غيلة ليتم له ما أضمره من الإضلال والعدوان، فلم يتيسر له ما أراد، وقتل في تبريز مع جملة من اتباعه ذوي الفساد، ولم يزل الشاه يتتبع قتل أتباع الباب بعد تعذيبهم بأنواع العذاب، والعجب انهم يرون العذاب عذبا، فترى أحدهم يضحك والعذاب يصب على رأسه صبا، والإنصاف ان الشاه كان فيما فعل ناصر الدين، وحافظا له من فساد أولئك المفسدين، والله تعالى يجزي المحسنين

وطائفة أخرى يقال لها القرتية: أصحاب امرأة اسمها هند، وكنيتها أم سلمة، ولقبها قرة العين، لقبها بذلك السيد كاظم الرشتي في مراسلاته لها إذ كانت من أصحابه، وهي ممن قلدت الباب بعد موت الرشتي، ثم خالفته في عدة أشياء منها التكاليف، فقيل أنها كانت تقول بحل الفروج ورفع التكاليف بالكلية، وأنا لم أحس منها بشيء من ذلك مع أنها حبست في بيتي نحو شهرين، وكم بحث جرى بيني وبينها رفعت فيه التقية من البين.

والذي تحقق عندي أن البابية والقرتية طائفة واحدة، يعتقدون في الأئمة نحو اعتقاد الكشفية فيهم، ويزعمون انتهاء زمن التكليف بالصلوات الخمس، وان الوحي غير منقطع فقد يوحى للكامل لكن لا وحي تشريع، بل وحي تعليم لما شرع قبل ولنحو ذلك، وهو رأي لبعض المتصوفة.

وأخبرني بعض من خالطهم انهم يوجبون على من نظر أجنبية من غير قصد التصدق بمثقال من الذهب، وعلى من نظرها بقصد التصدق بمثقالين منه، وأن منهم من يحيي الليل بكاءً وتضرعا، وأنهم يخالفون الاثني عشرية في كثير من الفروع، وأنا حققت أن الاثني عشرية يكفرونهم ويبرؤن منهم، ثم إني أرى أنهم شرارة من نيران الكشفية والأحسائية، وأعظم أسباب ضلالتهم النظر في كلام الرشتي وشيخه الأحسائي مع عدم فهم مقاصدهما منه، وحمله على ما هو بعيد عن الدين المحمدي بمراحل، ولذا أكفرهم أصحاب هذين الرجلين أيضا على ما سمعته بأذني من كبارهم.

وقد قتلت هذه المرأة أيضا بعد أن بغت وخرجت على الشاه في طهران، وتتبع أصحابها بالقتل، فقتلوا إلا قليلا منهم تحصّن بالتقية، والانسلاك ظاهرا في سلك الاثني عشرية، وفي قرى العراق بقية باقية منهم، وكم وكم من شنيعة تروى عنهم؟ ثم انه لا يبعد أن تظهر فرق أخرى من الإمامية بعد، نسأل الله تعالى العافية في الدين والدنيا والآخرة، هذا والله تعالى أعلم.

=======

المبحث الثاني في حكم أهل القبلة

وأما البحث الثاني ففي بيان حكم أهل القبلة من حيث إكفار من خالف منهم أهل السنة والجماعة وعدمه

اعلم أنه لا ينبغي إطلاق القول بكفر كل فرقة خالفت أهل السنة من الفرق التي حدثت في أمة الدعوة على ما أخبر به الصادق المصدوق ﷺ، ويشهد لما ذكرنا كلام كثير من الأجلة قال الإمام حجة الإسلام الغزالي في كتابه ( فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ): « الوصية أن تكف عن أهل القبلة ما أمكنك ما داموا قائلين لا إله إلا الله محمد رسول الله غير مناقضين لها »، قال: « المناقضة هي تجويزهم الكذب على رسول الله ﷺ بعذر أو بغير عذر »، انتهى.

وقال المحقق السيد السند قدس سره في ( شرح المواقف ) عند قول الماتن: جمهور المتكلمين والفقهاء انه لا يكفر أحدا من أهل القبلة انتهى ما لفظه: « فإن الشيخ أبا الحسن قال في أول كتاب ( مقالات الإسلاميين ): واختلف المسلمون بعد نبيهم ﷺ في أشياء ضلل بعضهم بعضا وتبرأ بعضهم من بعض، فصاروا فرقا متباينين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويعمهم فهذا مذهبه »، ونُقل عن اكثر أصحابنا.

وقد نقل عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه قال: « لا أرد شهادة أحد من أهل البدع والأهواء إلا الخطابيّة، فإنهم يعتقدون حل الكذب ».

وحكى الحاكم صاحب ( المختصر من كتاب المنتقى ) عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه: أنه لم يكفّر من أهل القبلة، وحكى أبو بكر الرازي مثل ذلك عن الكرخي وغيره، انتهى.

وقال في موضع آخر منه: وأعلم ان عدم تكفير أهل القبلة موافق لكلام الشيخ الأشعري والفقهاء كما مر، وما نقله عن الإمام الشافعي حكاه غير واحد عن الحنفية، وحكى الإمام النووي في الروضة على ما قال الشهاب الخفاجي عن الإمام الشافعي انه قال: « لا أكفر أحدا من أهل القبلة إلا الخطابية »، وما نقل أولا أبلغ.

وكان سحنون من المالكية يذهب إلى عدم تكفير أهل البدع والأهواء من أهل القبلة، ويرى انه لا إعادة للصلاة على من صلى خلف أحدهم في وقت أو أكثر، وهو رأي المغيرة وابن كنانة واشهب منهم، بل قول جميع أصحاب مالك، كما في شفاء القاضي عياض.

واختلفت الرواية عن الإمام مالك، ففي رواية عبد الله بن مسهر الغساني، ومروان بن محمد الطاطري، إطلاق القول بكفر أهل الأهواء جميعا، وفي رواية ابن نافع خلاف ذلك، لكن إذا ظفر بأحدهم يجلد ويحبس حتى يتوب، وهذا كما قال الشهاب هو الصحيح، واتفقت الرواية عنه وعن جميع أصحابه أنهم يقاتلون إذا تخيروا، وانفردوا بمكان مختص بهم.

وقال العلامة العضد في آخر كتاب ( المواقف ): « ولا نكفر أحدا من أهل القبلة إلا بما فيه نفي الصانع القادر العليم أو شرك، أو إنكار للنبوة أو إنكار ما علم مجيئه ﷺ به ضرورة، أو إنكار مجمع عليه، كاستحلال المحرمات »، انتهى.

قال المحقق الشريف قدس سره، أي المحرمات التي أجمع على حرمتها، فإن كان المجمع عليه مما علم ضرورة من الدين فذاك ظاهر داخل في ما ذكره، وإلا فان كان إجماعا ظنيا فلا كفر بمخالفته، وان كان قطعيا ففيه خلاف، انتهى.

وقال العلامة الثاني المحقق التفتازاني في ( التلويح ): « الحكم الشرعي المجمع عليه ان كان إجماعه ظنيا فلا كفر بمخالفته، وان كان قطيعا ففيه خلاف »، انتهى.

وما ذكراه من أن الإجماع الظني لا كفر بمخالفته هو محل الاتفاق بين العلماء، وقد حكى إجماعهم على ذلك غير واحد من المحققين، فمن الشافعية السيف الآمدي والصفي الهندي، وصاحب المواقف في ( شرح المختصر ) وغيرهم، ومن الحنفية المحقق الكمال ابن الهمام، والسيد الشريف الجرجاني كما مر آنفا وغيرهما.

ومن المالكية أبو العباس القرطبي وغيره، وما ذكراه من أن إنكار المجمع عليه القطعي فيه خلاف فهو كذلك، والخلاف فيه مشهور.

وممن حكاه الآمدي وابن الحاجب في أصولهما، قال الأول: « اختلفوا في تكفير المجمع عليه فأثبته بعض الفقهاء، وأنكره الباقون مع اتفاقهم على ان إنكار حكم الإجماع الظني غير موجب »، وقال الثاني: « إنكار حكم الإجماع القطعي، ثالثها المختار أن نحو العبادات الخمس يكفر »، انتهى.

وما أشار إليه بالمختار من التفصيل تبع فيه الآمدي حيث قال: « والمختار إنما هو التفصيل بين أن يكون داخلا في مفهوم اسم الإيمان كالعبادات الخمس ووجوب اعتقاد التوحيد والرسالة، فيكون جاحده كافرا كحل البيع وصحة الإجازة، فلا يكون كافرا »، انتهى.

ولعل مراده بمفهوم الإيمان هو مفهوم الإسلام، أما مجازا أو بناء على اتحادهما، وإلا فالعبادات الخمس ليست داخلة في مفهوم الإيمان إذ الإيمان هو التصديق عند المحققين كما حقق في محله.

وقال العلامة الزين المرحل: لا يكفر منكر إجماع أي مجمع عليه بإجماع سكوتي أو أكثري أو ظني بالآحاد، قيل وكذا ما لم يبلغ المجمعون فيه عدد التواتر، ولا يكفر منكر إجماع قطعي إلا إذا كان الحكم ضروريا، لأن العلم بحجية الإجماع ليس داخلا في الإيمان لأنه نظري، انتهى.

وما ذكره من أن الأصح عدم التكفير بالقطعي إلا إذا كان ضروريا هو الذي عليه المحققون، فإنهم لا يكفرون بإنكار المجمع عليه من حيث انه مجمع عليه، ولا يعدونه من أسباب الردة، وإنما يكفرون بجحد نحو الصلاة من حيث كونه معلوما من الدين بالضرورة.

قال الإمام الرافعي ( عليه الرحمة ) في باب حد الشرب: لم يستحسن إمام الحرمين إطلاق القول بكفر المستحل أي للحرام المجمع عليه، قال: وكيف يكفر من خالف حكم الإجماع، ولا يكفر من رد أصل الإجماع، وإنما نبدعه ونضلله، ثم أوّل ما ذكره أصحابه الشافعية بحمله على ما إذا صدق المجمعين، على ان التحريم ثابت في الشرع ثم حلله فانه يكون رادا للشرع.

وقال الزنجاني: « إنه لا يكفر من حيث أنه خالف الإجماع؛ بل لأنه خالف ما ثبت ضرورة أنه من دين محمد ﷺ ».

وقال ابن دقيق العيد: « الحق ان المسائل الإجماعية ان صحبها التواتر كالصلاة كفر منكرها لمخالفته التواتر لا لمخالفته الإجماع، وإلا فلا يكفر »، انتهى. ونقله ابن شهبة في ( شرح المنهاج ) وأقره.

وقال المحقق ابن الهمام في كتابه ( المسايرة ): ما ينفي جحده الإستسلام، ويوجب التكذيب فجحده المكلف كفر وإلا فسق، قال وما يوجب التكذيب هو جحد ما ثبت ادعائه بالضرورة، فما كان ثبوته ضرورة عن نقل اشتهر وتواتر، فاستوى في معرفته الخاص والعام كفر بجحده ومالا، بل نقل آحادا يكفر مشاهده دون الغائب، انتهى حاصله.

ثم إذا زاد قيدا آخر وهو علم الجاحد بالإجماع فقال: أما ما ثبت فيه الإجماع قطعا ولم يبلغ حد الضرورة، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب بإجماع المسلمين، فظاهر كلام الحنفية الإكفار بجحده، فانهم لم يشترطوا سوى القطع بالثبوت، ويجب حمله على ما إذا علم المنكر ثبوته قطعا؛ لأنّ مناط التكفير وهو التكذيب والاستحقاق، لا يكون إلا عند العلم بذلك فلا يكفر إلا ان يذكر له ذلك فيلج.

قال شارحه المحقق الكمال ابن أبي شريف: وهذا الحمل وقع لإمام الحرمين، وأول إطلاق من أطلق من الشافعية القول بتكفير جاحد المجمع عليه أي وقد حد آنفا، نقله عن الرافعي.

أقول: وقيد العلم أخذه من كلام الغزالي في ( الفيصل ) حيث قال: « إن الحكم بالتكفير بمخالفة الإجماع من أغمض الأشياء، إذ شرطه أن يجمع أهل الحل والعقد في صعيد واحد، فيتفقون على أمر واحد اتفاقا صريحا، ثم يستمرون عليه مدة عند قوم أو إلى تمام انقراض العصر عند قوم، أو يكاتبهم الإمام في أقطار الأرض، فيأخذ فتاويهم في زمان واحد، بحيث تتفق أقوالهم اتفاقا صريحا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده، ثم النظر بعد ذلك في صاحب المقالة هل بلغه الإجماع إذ كل من يوجد لا تكون الأقوال عنده متواترة، ولا مواضع الإجماع عنده متمايزة عن مواضع الخلاف إنما يدرك ذلك شيئا فشيئا، وإنما يعرف من مطالعة الكتب المصنفة في الاختلاف وإجماع السلف، فإذا كلّ من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل، وليس بمكذب ولا يمكن تكفيره والاستقلال بمرتبة التحقيق في هذا ليس باليسير، فإذا رأيت الفقيه الذي بضاعته الفقه يخوض في التكفير والتضليل فأعرض عنه »، انتهى.

وقيدّ أيضا إطلاقهم بذلك الإمام النووي في ( الروضة ) فقال: « ليس تكفير جاحد المجمع عليه أي بالإجماع القطعي على إطلاقه، بل من جحد مجمعا عليه فيه نص وهو من الأمور الظاهرة التي يشترك في معرفتها الخاص والعام، كالصلاة وتحريم الخمر ونحوهما فهو كافر، ومن جحد مجمعا عليه لا يعرفه إلا الخواص، كاستحقاق بنت الابن السدس مع بنت الصلب ونحوه فليس بكافر، ومن جحد مجمعا عليه ظاهرا لا نص فيه ففي الحكم بتكفيره خلاف يأتي في باب الردة »، انتهى.

وكلامه هناك: « هذا إن جحد مجمعا عليه يعلم من دين الإسلام ضرورة [ كفر إن كان فيه نص، وكذا إن لم يكن فيه نص في الأصح، وإن لم يعلم من دين الإسلام ضرورة ] بحيث لا يعرفه كل المسلمين لا يكفر » انتهى.

حكم التكفير عند العلماء وحكم من سب الصحابة

وبالجملة فمعتمد المذاهب عند المحققين أن مدار التكفير على جحد ما علم ضرورة مجمعا عليه أم لا، ولا يكفر بجحد المجمع عليه من حيث أنه مجمع عليه، ولا بجحد الظني والإجماع السكوتي والأكثري والمسبوق بالخلاف من الظني كما حقق في موضعه، بل لم يعد كثير من المحققين الظني في الحجة، وأن قول من قال من الأجلّة أنّا لا نكفر أحدا من أهل القبلة ليس على إطلاقه، بل هو محمول على ما إذا لم يجحد ما علم ضرورة، أما إذا جحد ذلك فلا ينبغي التوقف في إكفاره إذا علمت ذلك، فاعلم أنه لا ينبغي أن تكفر فرقة من الفرق التي تخالف ما أنت عليه، إلا بعد الاطلاع على عقائدهم والوقوف على إنكارهم ما علم ضرورة، فالتكفير لمن شهد الشهادتين خطر جدا.

وفي الحديث من قال: « لأخيه يا كافر فقد باء به أحدهما »، فإن كان كما قال وإلا حارَتْ عليه، وروى البخاري وغيره انه عليه الصلاة والسلام قال: « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها - يعني كلمة الشهادة - عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله »، فالعصمة مقطوع بها مع الإتيان بالشهادة، ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع، ولا قاطع في حق المبتدعة الذين لا يجحدون ما علم ضرورة.

وألفاظ الأحاديث الظاهرة في تكفير بعض أهل البدع والأهواء من لم يكفرهم الجمهور كالقدرية والخوارج والرافضة عرضة للتأويل، فلا تعارض الأدلة [ القاطعة بخلافها ]، وقد ورد مثلها في غير الكفرة من عصاة المسلمين كالمرائين، مع القطع بعدم كفرهم إجماعا على طريق التغليظ، وكفر دون كفر وإشراك دون إشراك.

ولخطر أمر التكفير وتعارض الأدلة ظاهرا توقف جماعة منهم القاضي أبو بكر الباقلاني، وهو شافعي في المشهور، وقيل مالكي، عن تكفير أهل الأهواء والحكم بإسلامهم؛ ويحكى عن أبي المعالي عبد الملك بن يوسف الشهير بإمام الحرمين، أن عبد الحق بن محمد بن هارون السهمي سأله عن أهل البدع والأهواء، فلم يجبه، واعتذر له عن ترك الجواب بأن الغلط في هذه المسألة يصعب على من خاف أن يقول في الشرع ما ليس منه، لأن إدخال الكافر في الملة، وهو ليس من أهلها وإخراج مسلم منها وهو من أهلها أمر مشكل عظيم في الدين.

وقال غير واحد: الخطأ في ترك قتل ألف كافر، أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم واحد بحسب الظاهر لم يتحقق كفره، ولخطر التكفير، قيل ينبغي للمفتي الاحتياط في ذلك ما أمكنه حتى انه ينبغي له أن يؤل كلام من تلفظ بما ظاهره الكفر، وان بَعُدَ قصد المتلفظ نفسه ذلك المؤول به، ولا ينبغي أن يكتفي بالظاهر فيفتي بالكفر فإن معنا أصلا محققا وهو الإيمان فلا نرفعه إلا بيقين.

ولا يغتر بما ذكره أهل الفتاوى من الحنفية عن مشايخهم من التكفير بألفاظ حفتها تأويلات تخرجها عن أن يكفر بها، ولعل منها ما لا يكاد يقصد به المتلفظ المعنى المكفر، فإن ذلك تساهل لا يرضى به المتورعون منهم. وقد قال غير واحد من الأجلّة إذا كان في المسألة تسعة وتسعون قولا بالتكفير، وقول واحد بعدم التكفير، يفتى بعدم التكفير.

وبالجملة الذي أختاره في أهل الأهواء ان من جحد منهم ما علم ضرورة انه من الدين، فهو كافر كغلاة الشيعة والمجسمة القائلين ان الله تعالى جسم كالأجسام، فإنهم كفار على ما صرح به الإمام الرافعي وهو الأصح. وكذا القائلون انه سبحانه جسم لا كالأجسام في قول، وكالقرامطة الجاحدين فرضية الصلوات الخمس إلى شنائع أخرى من هذا القبيل.

وأختلف العلماء في إكفار الاثني عشرية، فكفرّهم معظم علماء ما وراء النهر، وحكم بإباحة دمائهم وأموالهم وفروج نسائهم، حيث أنهم يسبون الصحابة رضي الله تعالى عنهم، لاسيما الشيخين رضي الله تعالى عنهما، وهما السمع والبصر منه عليه الصلاة والسلام، وينكرون صحة خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه، ويقذفون عائشة أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها بما برأها الله تعالى منه، ويفضلون بأسرهم عليا كرم الله تعالى وجهه على الملائكة عليهم السلام، وعلى غير أولي العزم من المرسلين، ومنهم من يفضله عليهم ما عدا نبينا ﷺ، ويحتجون على التفضيل بحجج أوهن من بيت العنكبوت، سنذكرها مع ردها إن شاء الله تعالى، ويجحدون سلامة القرآن من الزيادة والنقص.

ومن العلماء من لم يكفرّهم زاعما أن سب الصحابي ليس بكفر بل فسق عظيم، واستدل على ذلك بحديث: « من سب أصحابي فاضربوه، وفي رواية فاجلدوه ».

وفي ( شرح الشفاء ) للخفاجي نقلا عن فتاوى السبكي: « إن سب صحابيا لا من حيث كونه صحابيا، وكان ممن تحققت فضيلته، ففيه وجهان: فإنه قد يكون لأمر آخر دنيوي غير الصحبة، وليس بكفر لأنه لتقديم علي كرم الله تعالى وجهه واعتقادهم لجهلهم أنهما وحاشاهما ظلماه »، انتهى.

وعلى هذا النحو سبهم والعياذ بالله تعالى غيرهما من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، كمعاوية وعمرو ابن العاص وأم المؤمنين عائشة وطلحة والزبير رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، وزاعما أيضا ان إنكار خلافة الصديق رضي الله تعالى عنه ليس بكفر أيضا، بل ابتدع وفسق، ونقل هذا الخفاجي عن ( الأنوار )، وكأن مداره ان خلافته رضي الله تعالى عنه ليست معلومة من الدين بالضرورة، بل لا نصا صريحا عليها من رسول الله ﷺ، وعلى تسليم وجوده وهو غير متواتر والإجماع في زعمهم غير تام، على انهم يزعمون انه في مقابلة النص على الأمير كرم الله تعالى وجهه.

وأما قذف عائشة رضي الله تعالى عنها، بما برأها الله تعالى منه فلا شك في انه كفر لما فيه من تكذيب الآيات الدالة على براءتها، لكن الاثني عشرية بريئون من ذلك وان شاع عنهم، نعم انهم يزعمون أنها أرادت أن تتزوج بعد وفاة رسول الله ﷺ، يوم توجهت من مكة إلى البصرة لحرب الأمير كرم الله تعالى وجهه، بأحد الحواريين طلحة والزبير رضي الله تعالى عنهما فلم تمكن من ذلك.

وكذا لهم هذيانات أخر في حقها رضي الله تعالى عنها، ولكنها لا تصل إلى جحد ما علم من الدين بالضرورة على ما لا يخفى على المنصف، وذلك مثل زعمهم ان النبي ﷺ فوض طلاقها بعد وفاته إلى علي كرم الله تعالى وجهه، وانه رضي الله تعالى عنه طلقها يوم الجمل، فخرجت من أمهات المؤمنين، وهو حديث خرافة، تضحك منه الثكلى.

وأما تفضيل علي كرم الله تعالى وجهه على الأنبياء عليهم السلام غير نبينا وإخوانه من أولي العزم من المرسلين صلى الله تعالى وسلم عليه وعليهم أجمعين، فهو مما اتفقوا عليه فيما أعلم، كما اتفقوا على انه كرم الله وجهه ليس بأفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام، نعم توقف بعضهم كابن المطهر الحلي وغيره في تفضيله على من عداه ﷺ من أولي العزم، وذهب بعض آخر إلى مساواته لهم عليهم السلام، وكذا تفضيله كرم الله تعالى وجهه على الملائكة عليهم السلام متفق عليه فيما بينهم فيما أعلم، ولهم في ذلك أيضا هذيانات كثيرة.

لكن قصارى [ ذلك ] كل ما قالوه جحد تفضيل الأنبياء عليهم السلام على من سواهم، وانه لا يبلغ ولي درجة نبي، وجحد تفضيل الملائكة عليهم السلام على من عدا الأنبياء من البشر، وانه لا يبلغ مؤمن تقي غير نبي درجتهم في الفضل، وليس ما جحدوه مما علم من الدين بالضرورة بل لم يقم عليه قاطع.

وقد قال العلامة الثاني السعد التفتازاني: « حكى عن بعض الكرامية إن الولي قد يبلغ درجة النبي بل أعلى »، انتهى.

وحيث لم يجمع على تكفير الكرامية علم أن المسألة خلافية، وأن لا قاطع فيها، وقال الّلقاني في شرحه الأوسط ( لجوهرة التوحيد )، قال أبو المظفر السمعاني: اتفقوا على إن العصاة والسوقة من المؤمنين دون الأنبياء والملائكة عليهم السلام، وأمّا المطيعون الصالحون، فاختلفوا في المفاضلة بينهم وبين الملائكة عليهم السلام على قولين، انتهى.

وقد حكى ابن يونس المالكي هذين القولين اللذين أشار إليهما السمعاني، ثم قال: والأكثر منا على أن المؤمن الطائع أفضل من الملائكة عليهم السلام.

وفي ( منهج الأصلين ) أيضا متصلا بما مر: وأما الصالحون من البشر من غير الأنبياء عليهم السلام، فأكثر العلماء على تفضيل الملائكة عليهم، وعندنا ان من كان منهم تقيا نقيا موقنا إلى الموت على ذلك، قد يفضل على الملائكة باعتبار المشاق في عبادته مع ما فيه من الدواعي إلى الشهوة وغيرها، لاسيما من كان خليفة لسيد الأولين والآخرين صلى الله تعالى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، انتهى، انتهى كلام اللقاني.

نعم قال أبو حيان في تفسيره المسمى ( بالبحر ) عند الكلام في قوله تعالى: { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ }، « ومن ذهب إلى أن الولي أفضل من النبي فهو زنديق يجب قتله » انتهى.

لكن يمكن حمله ولو على بعد على ان المراد من ذهب إلى أن كل ولي صغيرا كان أو كبيرا أفضل من كل نبي من أولي العزم كان أو لا فهو زنديق؛ وبالجملة كلتا المسألتين خلافية، ولا قاطع في نفي أو إيجاب فيهما على ما لا يخفى على المنصف.

وقال بعض الأفاضل: إن تكفير الاثني عشرية فيما ذهبوا إليه من التفضيل هو مذاق الفقهاء المكتفين في المطالب بالظواهر، وعدم تكفيرهم فيه هو مذاق المتكلمين الملتزمين للقواطع في ذلك، وأنا أقول ما ذهبوا إليه مما هو مفصّل في محله، إن لم يكن كفرا فهو من الكفر أقرب، ونحن قد ذكرنا لك أصلا في التكفير وعدمه فلا تغفل عنه والله تعالى العاصم.

وفي الشفاء للقاضي عياض وشروحه كشرح الخفاجي وغيره في هذا المقام كلام نفيس ينبغي الاعتناء به والاهتمام فارجع إليه متأملا، والله تعالى الموفق للصواب آخرا وأولا.

======

المقصد

الباب الأول في مباحث الإمامة

اعلم أن الإمامة لغة التقدم، وتنقسم إلى إمامة وحي كالنبوة، وإمامة وراثة كالعلم، وإمامة عبادة كالصلاة، وإمامة مصلحة خاصة كتدبير المنزل، وإمامة مصلحة عامة وهي الخلافة العظمى كمصلحة جميع الأمة، وحيث أطلقت في لسان أهل الشرع انصرفت لهذا القسم الأخير، وهي باعتبار ذلك رئاسة عامة في أمر الدين والدنيا نيابة عنه عليه الصلاة والسلام.

واختلف في أن مباحثها هل هي من الفقه، أو من الكلام؟ فذهبت الشيعة والخوارج إلى الثاني، حتى عرّف بعضهم الكلام: بأنه العلم الباحث عن الصانع عز وجل والنبوة والإمامة والمعاد وما يتصل بذلك على قانون الإسلام، لما أنهم يقولون ان نصب الإمام إنما يجب عليه تعالى.

وذهب أهل السنة والجماعة إلى الأول، لما انهم يقولون أن النصب إنما يجب على العباد، أي عند عدم النص من الله تعالى ورسوله ﷺ على التولية لمعين، وعند عدم العهد والوصية من السابق لغيره المعين، وإنما ذكروها في الكلام مع أنها ليست من مباحثه عندهم لما تعلق بالإمامة من التعصبات وفاسد الاعتقادات، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الباب الثاني بيان ما هو الحق من القولين.

فإن قلت لو وجب النصب على العباد لزم إطباق الأمة في أكثر الأعصار على ترك الواجب؛ لانتفاء المتصف بما يجب من الصفات، لكن اللازم منتفٍ، لأن ترك الواجب ضلالة، والأمة كما صح لا تجتمع عليها.

قلت أجاب السعد: « بأنه إنما يلزم ذلك لو تركوا ما كلفوا به عن قدرة واختيار، وهم عند الانتفاء المذكور إنما تركوه عن عجز واضطرار، وكأنه لهذه الشبهة ونحوها ذهب النجدات من الخوارج إلى عدم الوجوب أصلا »، فتدبر.

فصل [ في نصب الإمام ]

القائلون بوجوب نصب الإمام على العباد اختلفوا، فقال أهل السنة وجمهور المعتزلة ان وجوبه بالشرع لوجوه، أحدها: إن الصحابة رضي الله تعالى عنهم تسارعوا إلى نصب الإمام حتى قدّموه على تجهيزه ودفنه عليه الصلاة والسلام، وتبعهم عليه سائر الأمة في كل زمان، عقيب موت السلطان، ثانيها: أن الشارع أمر بإقامة الحدود وسد الثغور وتجهيز الجيوش، وكثير من الأمور المتعلقة بحفظ النظام، وحماية بيضة الإسلام مما لا يتم إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وكان مقدورا للمكلف فهو واجب، كما قرر في محله.

ثالثها إن نصب الإمام دفع ضرر عام مظنون، وكل ضرر عام مظنون يجب على العباد دفعه إن قدروا عليه إجماعا، ولا يخفى ان بعض هذه الأوجه لا يثبت أكثر من الوجوب، فتأمل.

وقال الجاحظ والخياط والكعبي وأبو الحسين البصري من المعتزلة ان وجوب نصب الإمام على العباد بحكم العقل، مجتمعين بأن أصل دفع المضرة الثابتة واجب بحكم العقل قطعا، فكذلك المضرة المظنونة، وأنت تعلم أن الوجوب الذي قضى به العقل في دفع المضرة إنما هو كونه من مقتضيات العقول والعادات وملائماتها، والنزاع في الوجوب العقلي بمعنى استحقاق التارك الذم في العاجل، والعقاب في الآجل وهو ههنا ممنوع، بل قد قضت كتب الأصول الوطر من إقامة الأدلة على نفيه.

فصل [ في وجوب الإمامة ]

اختلف القائلون بالوجوب أيضا في أن ذلك هل هو على الإطلاق أم لا؟ فقال أهل السنة وأكثر المعتزلة بأنه على الإطلاق أي في زمن الفتنة وغيره، وقال أبو بكر الأصم من المعتزلة: إنه يجب في زمن الفتنة، ولا يجب عند ظهور العدل والإنصاف لعدم الاحتياج إلى الإمام حينئذ.

وقال هشام الفوطي منهم أيضا: أنه إنما يجب عند ظهور العدل لإظهار الشرائع ولا يجب عند ظهور الظلم، لأن الظلمة ربما يطيعون الإمام فيما لا يرضي الملك العلاّم، فيصير ذلك لزيادة الفتن ووفور المحن، وفي كل من القولين ما فيه، على أن حديث من: « مات ولم يعرف إمام زمانه، فقد مات ميتة جاهلية »، ظاهر في أن الإمام لا يختص بوقت دون وقت، فليفهم.

فصل [ عدد من تنعقد ببيعتهم الإمامة ]

اختلفوا أيضا في اشتراط العدد في المبايعين الناصبين الإمام، فذهب الإمام الأشعري إلى أنه لا يشترط عدد، بل تنعقد الإمامة بمبايعة واحد من أهل الحل والعقد كما يدل عليه ما وقع يوم السقيفة، فان بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه انعقدت ولزمت ببيعة عمر رضي الله تعالى عنه إياه، ويكفي بيعة الواحد في خروج الأمة عن عهدة وجوب النصب.

وحكى أبو المعالي الإجماع على ذلك، فقال: « من انعقدت له الإمامة بعقد واحد فقد لزمت إمامته، [ إذ لا ] يجوز خلعه من غير حدث وتغيير أمر، وهذا مجمع عليه »، انتهى.

والحق مع ناقل الخلاف، فقد ذهب أكثر المعتزلة إلى اشتراط خمسة ممن يصلح للإمامة، أخذا مما صنع الفاروق رضي الله تعالى عنه في قصة الشورى، ويشبه أن يكون ذلك واقعة حال، واختلفوا أيضا في اشتراط العلانية، فقضية كلام بعضهم عدم اشتراطها، واستصوب اشتراطها إظهارا للإشهاد على بيعة الواحد لئلا يدعي أحد انه عقد له الإمامة سرا، فيثير ذلك شرا وعليه فيكفي في ذلك شاهدان، خلافا للجبائي حيث قال: لا بد من أربعة شهود وعاقد ومعقود له، وهذا في الإمامة العظمى، وإلا فمذهب كثير من الفقهاء إلى ثبوت الولايات والعزل بالسماع الفاشي.

وعلى عدم اشتراط العلانية لو أدعى كل واحد من جماعة ان البيعة عقدت له وجب الفحص عن الأسبق فيقدم، ويكون غيره باغيا يستفاء، فإذا لم يفئ قوتل حتى يفيء، فإن لم يعلم الأسبق قيل يجب إبطال الجميع واستئناف العقد لمن وقع عليه الاختيار، وقيل يقدم من فيه شرائط الإمامة أتم، فإن استووا وجب إبطال الجميع والاستئناف، وقال بعض الأجلّة القياس يقتضي الاقتراع والله تعالى أعلم.

ثم انه ينبغي على قول بكفاية الواحد في انعقاد الإمامة أن يكون ذلك الواحد موثقا بعقله ودينه وإلا فكيف ينعقد مثل هذا الأمر العظيم بيد منحّل عرى العقل والدين، وتسري بيعته على جميع الإسلام والمسلمين، وربما يقال ان بيعة الواحد كافية في صحة إمامة المبايع دون لزومها، وان لزومها يحتاج إلى بيعة معظم أهل الحل والعقد ورضاهم ينوب مناب بيعتهم، لكني لم أعلم أن أحدا ذهب إلى ذلك فتأمله والله تعالى الهادي.

فصل [ البيعة لإمامين ]

لا يجوز إقامة إمامين في عصر واحد إجماعا ممن يعتد به لما روى مسلم من حديث: « من بايع إماما فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر »، وفي حديث عرفجة: « فاضربوه بالسيف كائنا من كان »، وجاء: « إذا بويع لخليفتين فاقتلوا أحدهما »، وفسر القتل بالخذلان والخلع، ولعل هذا الحديث فيما إذا كانت المبايعة للاثنين بلفظ واحد فتدبر.

وكأن الحكمة في المنع من ذلك خوف فتح باب المخالفة والشقاق، فأن العادة قاضية في مثل ذلك بالتمانع وعدم الاتفاق، وقال الإمام أبو المعالي: « الذي عندي في هذه المسألة أن عند الإمامة لشخصين في صقيعٍ واحد غير جائز، وقد حصل الإجماع عليه، فأما إذا بَعُد المدى وتخلل بين الإمامين وشسوع النوى، فلاحتمال الجواز مجال لضعف احتمال النزاع والجدال ».

وكان الأستاذ أبو إسحاق: يجوز ذلك في إقليمين متباعدين غاية البعد كالأندلس وخراسان، لئلا تتعطل حقوق الناس وأحكامهم ومذهب الكرامية التجويز من غير تفصيل، ويلزمهم إجازة ذلك في بلد واحد، وذهبوا إلى إن عليا كرم الله تعالى وجهه ومعاوية رضي الله تعالى عنه كانا إمامين غافلين عن قوله عليه الصلاة والسلام لعمار بن ياسر تقتلك الفئة الباغية، فقتله أصحاب معاوية، أو مؤولين له بأحد التأويلين والذي يضحك منهما ابن يومين.

قالوا وإذا كان اثنان في بلدين أو ناحيتين، كان كل منهما أقوم وأضبط فيما يراد من الإمامة، وانه لما جاز بعثة نبيين في عصر واحد ولم يؤد ذلك إلى إبطال النبوة، كانت الإمامة أولى ولا يؤدي ذلك إلى إبطالها، وما ذكروه على ما فيه، يرده الأحاديث المانعة عن ذلك مع الإجماع على مقتضاها المنعقد قبل ظهور المخالف.

ويا للعجب من زعمهم إمامة معاوية رضي الله تعالى عنه في عهد الأمير كرم الله تعالى وجهه، مع أنه نفسه لم يدعّها بلسانه، وإنما أدّعى ولاية الشام بتولية من قبل الخليفتين عمر وعثمان رضي الله تعالى عنهما، وإن من ولاه خليفة على بلد لا ينفذ عزل خليفة بعده له من غير جنحة، وأنه لا جنحة له إلى أشياء أخر لا يقوم له بها حجة على باب مدينة العلم الذي يدور معه الحق حيثما دار، ولا تنفي عنه البغي على ذلك الأمير كرم الله تعالى وجهه.

وأعجب من زعمهم هذا زعمهم معه إنه إذا كان اثنان في بلدين أو ناحيتين، كان كل منهما أقوم وأضبط فيما يراد من الإمامة، فإن دون صحة قولهم هذا حرب صفين، حيث أنه في تلك الأيام ترك الجهاد وتعطل أمر كثير من العباد، وشغل من زعموه خليفة الخليفة الحق عن فصد أخادع الكفرة بأسنته، وقصد رمي قلاع كفرهم بمناجيق سطوته، وذلك من أهم ما يراد بالإمامة، يطلب بالإمارة والزعامة، نعم ذكر بعض الحنابلة: إن قتال البغاة أفضل من الجهاد، احتجاجا بفعل الأمير كرم الله تعالى وجهه، وشفعه فينا يوم المعاد، فتأمل.

فصل [ شروط الإمامة ]

ذكر كثير من الفقهاء والمحدثين والمفسرين من أهل السنة للإمامة شروطا كثيرة، الأول أن يكون من تعقد له مسلما وهذا مما لم يختلف فيه اثنان ولم ينتطح فيه عنزان.

الثاني: أن يكون من قريش لما صح من قوله عليه الصلاة والسلام: « الأئمة من قريش »، وقد رد به الصديق رضي الله تعالى عنه على الأنصار القائلين للمهاجرين: « منا أمير ومنكم أمير »، فلم يبضوا ببنت شفة.

وقوله ﷺ: « قدموا قريشا ولا تقدموها »، وقوله عليه الصلاة والسلام: « الناس تبع لقريش »، إلى غير ذلك ومواليهم في الإمامة ليسوا منهم على الصحيح.

والمراد بقريش أولاد النضر بن كنانة أو أولاد فهر للخلاف في جماع قريش، والأولى أن يكون فاطميا إن وجد متوفر الشروط الأخر، وإلا فعلوي غير فاطمي كذلك، وإلا فعباسي كذلك وإلا فمن سائر قريش كذلك، وإلا فصالح من سائر المؤمنين، وفي ( شرح المقاصد ): « إن لم يوجد من قريش من يستجمع الصفات المعتبرة فكناني، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل u يعني العرب، وإلا فرجل من غيرهم ».

وشذ من قال من أهل السنة بعد اشتراط القرشية في الإمامة، الثالث أن يكون مجتهدا لا يحتاج إلى غيره في الاستفتاء في الحوادث الشرعية.

الرابع: أن يكون ذا خبرة ورأي خصيف بأمر الحروب وتدبير الجيوش وسد الثغور وحماية البيضة والانتقام من الظالم والأخذ منه للمظلوم، الخامس أن يكون قوي القلب على إقامة الحدود لا تأخذه بحدود رأفة في دين الله تعالى.

السادس: أن يكون حرا خالصا وحديث: « اسمع وأطع وإن كان عبدا مجدع الأطراف »، محمول على من قهر الناس بشوكة، أو على نائب فوض له الإمام أمرا من الأمور، أو ندبه لاستيفاء بعض الحقوق.

السابع: أن يكون ذكرا لا امرأة ولا خنثى مشكلا لاحتمال أنه أنثى.

الثامن: أن يكون سليم الأعضاء ناطقا سميعا بصيرا، والبدانة تحسن في الإمام كما يشير إليه قوله تعالى: { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ }، التاسع أن يكون بالغا.

العاشر: أن يكون عاقلا، الحادي عشر أن يكون شجاعا، الثاني عشر: أن يكون عدلا اعتقادا وفعلا. انتهى.

ولا يخفى أن في بعض الشروط إغناء عن بعض، وبعض أهل السنة لم يشترط الاجتهاد ولا الشجاعة وقوة الرأي، فإن الغرض يحصل بالاستعانة من المعين بأن يفوض أمر الحروب، ومباشرة الخطوب إلى الشجعان، ويستفتى المجتهدين أو العلماء المتقنين في أمور الدين، ويستشير ذوي الآراء الصائبة في أمور الملك، نعم ان وجد ذلك فهو خير، وبهذا القول أقول.

ثم ان هذه الشروط والأوصاف إنما يحافظ عليها عند القدرة والإنصاف، وإلا تعطلت الأحكام الدينية المنوطة بالإمام، لعزّة وجود ذلك بل فقده في أكثر الأيام، فلا كلام عند العجز عن نصب من اتصف بما سمعت، أما لفقده أو لوجود المانع من نصبه في جواز تقليد القضاة وتنفيذ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام، من كل ذي شوكة قادر على ذلك والضرورات تبيح المحظورات:

إذا لم يكن إلا الأسنة مركبٌ ** فما حيطة المضطر إلا ركوبها

وقد سئل سهل بن عبد الله التستري: « ما يجب علينا لمن غلب على بلادنا، وليس له أهلية الإمامة، فقال تجيبه وتؤدي إليه ما يطالبك به من حقه وتنكر أفعاله، ولا تنفر منه، وإذا ائتمنك على سر من أمر الدين لا تفشه ».

ويفهم من كلام بعض الأجلّة انه إذا لم يوجد إمام على الوجه المشروع بحيث يستجمع الشرائط، وبايعت طائفة من أهل الحل والعقد قرشيا فيه بعض الشرائط من غير نفاذ لأحكامه، وطاعة من العامة لأوامره، وشركة بها يتصرف في مصالح العباد، من غير عزل ونصب لمن أراد، يكون ذلك إتيانا بالواجب.

ويجب على ذي الشوكة العظيمة من ملوك الأطراف المتصفين بحسن السياسة والأنصاف، أن يفوضوا الأمر إليه بالكلية ويكونوا لديه بمنزلة الرعية، ويشدوا أزره، وينفذوا نهيه وأمره، ففي الحديث: « قدموا قريشا »، و: « إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم »، انتهى.

والظاهر أنه إذا تعذر نصب قريش مطلقا مع وجوده فنصب غيره، لزم أيضا طاعته بالمعروف، فتأمل والله تعالى أعلم.

واعلم أن المستوفى للشرائط لا يكون إماما بمجرد الاستيفاء والصلاحية، بل لا بد من النصب من أهل الحل والعقد أو نص السابق عليه وتعيينه إياه، بناء على ما هو الحق من أن نص السابق، كنصب أهل الحل والعقد، وسيأتي إن شاء الله ما يتعلق بهذه الشروط من الخلاف وبيان ما هو الحق من الأقوال، وعلى الله تعالى الاعتماد في كل حال.

فصل [ طاعة الإمام ]

نقل المازري عن ابن عرفة ما حاصله من ثبتت إمامته، وجبت طاعته فيما ليس بمعصية، لقوله عليه الصلاة والسلام: « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق »، فإن تغيرت حالته بكفر واضح خلع، وببدعة كالاعتزال فان دعا إليها كالمأمون الداعي إلى القول بخلق القران، لم يطع فإن قاتل قوتل، وإن لم يدع إليها، فإن كانت مكفرّة يخلع، وإن كانت مفسقة ففي خلعه إن أمكن بلا إراقة دم أو هتك حرم مذهبان أرجحهما الخلع، وإن تغيرت بفسق كالزنا وشرب الخمر، فإن قدر على خلعه بدون ما سمعت، ففي وجوب الخلع قولان، وكثير من أهل السنة على عدم الوجوب، وهو مقتضى قول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما بعدم الخروج من ولاية يزيد الطريد في جيش الحرّة حسبما ذكره مسلم في صحيحه.

ومنهم من ذهب إلى الوجوب، وهو مقتضى قول عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما في قصة الحرة المشار إليها على ما ذكره المؤرخون، انتهى.

والتمثيل مبني على القول بانعقاد بيعة يزيد، وهو القول المشهور، وفي ( شرح المقاصد ): « ينحل عقد الإمامة بما يزول به مقصود الإمامة كالردة، والعياذ بالله تعالى، والجنون المطبق، وصيرورة الإمام أسيرا لا يرجى خلاصه، وكذا بالمرض الذي ينسيه المعلوم، وبالعمى والصمم والخرس، وكذا بخلعه نفسه لعجزه عن مصالح المسلمين، وإن لم يكن ظاهرا بل استشعره من نفسه، وعليه يحمل خلع الحسن رضي الله تعالى عنه نفسه، وأما خلعه نفسه بلا سبب ففيه كلام، وكذا في انعزاله بالفسق، والأكثرون على انه لا ينعزل، وهو المختار من مذهب أبي حنيفة والشافعي رضي الله تعالى عنهما، وعن محمد روايتان وإسحاق العزل بالاتفاق »، انتهى.

وفي ( الإكمال ): « جمهور أهل السنة من أهل الحديث والفقه والكلام إنه لا يخلع السلطان بالظلم والفسق وتعطيل الحقوق ولا يجب الخروج عليه، بل يجب وعظه وتخويفه »، وزاد أبو حامد في ( إحيائه ): وتضييق صدره. انتهى.

ويعارض قوله: جمهور... الخ قول القرطبي إذا نصّب الإمام غدرا ثم فسق بعد انبرام العقد، فقال: « الجمهور انه تنفسخ إمامته وينخلع بالفسق الظاهر المعلوم لأنه قد ثبت أن الإمام إنما يقام لإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق وحفظ أموال الأيتام والمجانين والنظر في أمورهم إلى غير ذلك، وما فيه من الفسق يقعده عن القيام بتلك الأمور والنهوض فيها، فلو جوزنا أن يكون فاسقا أدّى إلى إبطال ما أقيم له، وقال آخرون لا ينخلع إلا بالكفر أو بترك إقامة الصلاة أو ترك الدعاء إليها، أو ترك شيء من أركان الشريعة لعدة أحاديث تدل على ذلك وما نقل عن شرح المقاصد في أمر خلع الإمام نفسه إذا وجد في نفسه نقصا يؤثر في الإمامة.

فأما إذا لم يجد ذلك فهل له أن يعزل نفسه ويقلدها غيره؟ اختلف فيه الناس فمنهم من قال ليس له ان يفعل ذلك وان فعل لم ينخلع عن إمامته، ومنهم من قال له أن يفعل ذلك، واستدل بقول الصديق رضي الله تعالى عنه: « اقيلوني اقيلوني، وقول الصحابة رضي الله تعالى عنهم لا نقيلك [ أبدا ] دون ليس لك ذلك »، وبأنه ناظر للغير فحكمه حكم الوكيل بل هو معنىً وكيل الأمة » انتهى باختصار، وظاهره اختيار القول الأخير.

وذكر اللقاني المالكي: أن المذهب إنه ليس له خلع نفسه لغير عذر وبه أقول، ثم إنه ينبغي أن يعلم أنه على القول بعدم جواز الخلع بالفسق لو خلع لم تنعقد إمامة غيره كما نص على ذلك في ( شرح المقاصد )، وإنه إذا خرج على الإمام الفاسق خارج مظهر العدل لا ينبغي للناس أن يسرعوا إلى نصرة الخارج حتى يتبين أمره فيما يظهره من العدل، أو تتفق كلمة الجماعة على خلع الأول، وذلك لأن كل من طلب هذا الأمر أظهر من نفسه الصلاح، حتى تمكن رجع إلى عادته التي كان عليها من قبل، ولله تعالى در القائل:

فلا تحكم بأول ما تراه ** فأول طالع فجر كذوب

وإذا أمر الإمام بأمر من الأمور فإن جائزا وجبت طاعته فيه، وإن [ كان ] قد زجر الشارع عنه زجر تحريم حرمت طاعته فيه، وإن زجر عنه زجر تنزيه فإن متفقا عليه، فاستظهر القرطبي جواز المخالفة تمسكا بحديث: « إنما الطاعة في المعروف »، وهذا ليس بمعروف إلا أن يخاف على نفسه منه، فله أن يمتثل وإن مختلفا فيه، فالعبرة بمذهب الإمام قياسا على الحكم، قاله اللقاني.

وقال أيضا لو أجبر الإمام أحدا على ما لا يحل مما أجمع على حرمته أو كراهة، ففعله لا يوصف بشيء من الأحكام الخمسة، ومتى كانت مفسدة ما أكره عليه دون مفسدة القيام والخروج امتنع الخروج.

ومذهب طائفة من المعتزلة جواز منازعة الجائر، والكثير على أن الصبر على الطاعة أولى من المنازعة والخلاف، فشجرة الخلاف لا تثمر، وربما تفضي المنازعة إلى ما هو أدهى وأمر، نعم يجب نهي الجائر ونصحه وإرشاده إلى الحسن بلطف على من تمكن من ذلك عند ظن أو توهم افادته لكن أين الناصحون، وقد ملأ العالم المنافقون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ثم اعلم إنه لا يجوز الدعاء على الأمراء، وكذا العمال جهرا لما يجلب من الفتن ويجوز سرا لكن الأولى الدعاء لهم بالصلاح، والتوفيق للفلاح، وعن الإمام الشافعي: « لو أعْلِمتُ أن لي دعوة مستجابة لجعلتها في ولي الأمر »، لما أن في صلاحه نفع العامة، نسأل الله تعالى أن يوفق الأمراء للعمل بأحكام الشريعة الغراء، فقد كادت تطوى على عزها، ولا يسأل أحد عن نهيها وأمرها، ولا أرى الأمر إلا يتدرج بالنقصان، حتى يأتي صاحب الزمان، وأظن ذلك قريبا يكون على رغم أنف ابن خلدون، والله تعالى أعلم.

فصل [ الخلافة والإمامة ]

قد تسمى الإمامة بالخلافة لأنها خلافة عن رسول الله ﷺ، فيما كان عليه من السعي فيما فيه صلاح الأمة، وحماية البيضة، فيقال للإمام خليفة من غير إضافة، وخليفة رسول الله ﷺ، حتى إذا توفى وقام مقامه الفاروق رضي الله تعالى عنه، قيل إنه خليفة خليفة رسول الله بتكرار لفظة خليفة، فرأى رضي الله تعالى عنه طول ذلك، فقال: « أيها الناس أنتم المؤمنون وأنا أميركم » فكان يدعى بعد ذلك أمير المؤمنين.

ولا شبهة عندنا في صحة إطلاق خليفة رسول الله ﷺ، كما أطلق على الصديق رضي الله تعالى عنه، ولا يضر في ذلك وقوع الواسطة، ومثله في ذلك سائر الخلفاء الراشدين رضي الله تعالى عنهم أجمعين، وكذا غيرهم من ملوك بني أمية وبني العباس، وإن كانت خلافتهم غير كاملة، بل خلافة بعضهم بنت أخت خالة الباطلة.

ففي الحديث: « الخلافة بعدي في أمتي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا »، وقد تمت الثلاثون بخلافة الحسن رضي الله تعالى عنه ستة أشهر، فعلى هذا معاوية رضي الله تعالى عنه أول الملوك، وقد يقول ذلك عن [ نفسه ] كما في الإصابة، وفي بعض الروايات: « ثم تكون ملكا عضوضا » ولما كان، ثم الظاهر في التراخي الزماني عن مضي الثلاثين يكون مظهر الملك العضوض يزيد الطريد، ومن حذا حذوه من الأمويين عليهم ما يستحقون.

وأنا أتحرج من إطلاق خليفة رسول الله ﷺ على نحو مروان بن الحكم، الذي هو على ما روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها: « فضضٌ من لعنة الله تعالى »، وعلى نحو يزيد من باب أولى، بل أتحرج أيضا من إطلاق ذلك على كل ملك فاسق جائر.

وفي جواز إطلاق خليفة الله تعالى على الإمام مطلقا كلام، فمن الناس من قال به ومنهم من منعه، وحيث أن الإضافة لتعظيم المضاف كما في بيت الله وناقة الله، لا يحسن من غير خوف فتنة إطلاقه على فاسق إذ هو غير حري بالتعظيم، والأسلم أن يطلق على الخلفاء الراشدين ملوك وسلاطين بل لا بأس في تسمية الرئاسة العامة ممن كانت غير نبينا عليه الصلاة والسلام وخلفائه الراشدين ملكا.

وقال اللقاني الذي اختاره الأئمة كراهة إطلاق الملك على استحقاقه ﷺ التصرف العام في الأمة، وكذلك على استحقاق ذلك الخلفاء بعده، ولا يكره إطلاق الملك على استحقاق غيره عليه الصلاة والسلام التصرف العام من الأنبياء عليهم السلام، لقوله تعالى في داود عليه السلام: { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ [، وقال سليمان عليه السلام: { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي }، انتهى.

وتمام البحث في شرحه الكبير لجوهرة التوحيد، وفي النفس من سلامة إطلاق الملك على استحقاق نبي من الأنبياء عليهم السلام التصرف العام اليوم من كدر شيء، فتأمل.

ثم اعلم أن السلطنة في ملوك بني العباس كانت تطلق على ما دون الخلافة، فكان السلطان ينصبه الملك الذي يسمونه خليفة على قطر، ويفوض أمره إليه فينصب هو الولاة والقضاة في أطرافه، وكان في مبدأ ما ظهرت السلطنة متى أراد الملك عزله عزله، ثم ضعف أمر الملوك، وقوى أمر السلاطين حتى صار الملك المسمى بالخليفة كالأسير للسلطان، ولم يبقَ له مما يتغذى به ويميّزه على غيره إلا انه يخطب باسمه، بل عاد ككلمة يراد لفظها.

وأمّا اليوم فالسلطنة هي التي كانت تسمى من قبل بالخلافة وبالإمامة الكبرى وبالإمارة العظمى وبنحو ذلك، والخليفة والسلطان متحدان صدقا، فاستعمل أيهما تراه أحرى، وأبْعِد عن عتابك في الأخرى، وإياك أن تستعمل وتطلق ملك الملوك وشهنشاه، وكذا ما في معناه على أحد من الملوك، ولو استوى على من في البسيطة من غني وصعلوك، ولعمري لقد كثر في توصيف الملوك اليوم ألفاظ ينبغي أن يجتنبها من يعرف ربه عز وجل إنه سبحانه الضار النافع، والمعطي المانع، وأنا استغفر الله تعالى من ذلك إن كان قد نطق به فمي، أو جرى به قلمي.

ومن العجيب أني سمعت بعض الجهلة يفرق بين السلطان والخليفة، بأن الخليفة من له التحليل والتحريم لما شاء، فمتى أمر بمحرم حل أو نهي عن محلل حرم، وله العدول عن حدود الله تعالى من قطع يد السارق ورجم الزاني المحصن ونحوهما إلى حدود يستحسنها، والسلطان من ليس له ذلك، وهذا والعياذ بالله تعالى كفر صريح، وهذيان قبيح، وإنما نبهت عليه مع ظهور فساده، ووضوح كساده، ليتعجب منه المتعجبون، ويقول المؤمنون، إنا لله وإنا إليه راجعون.

=============

الباب الثاني في تحقيق ما وقع في هذا المبحث من خلاف الشيعة

وهذا أهم من الباب الأول، نظرا لغرضنا من هذه الرسالة.

اعلم أن أول ما اختلف فيه من مسائل الإمامة نصب الإمام، هل هو واجب على العباد أو على الله تعالى؟ فأهل السنة على الأول والشيعة على الثاني والفطرة شاهدة بالأول، إذ كل فرقة تقرر لأنفسهم رئيسا من بينهم، وكذا الشرع أيضا، إذ الشارع قد أوضح شرائط الإمام وأوصافه ولوازمه بوجه كلي كما هو شأنه في الأمور الجبلية كالنكاح ولوازمه مثلا، وأيضا لا معنى للوجوب عليه تعالى، بل هو مناف للألوهية والربوبية كما هو مقرر في محله.

وأيضا كل ما يتعلق بوجود الرئيس العام من أمور المكلفين من إقامة الحدود والجهاد، وتجهيز الجيوش إلى غير ذلك واجب عليهم، فلا بد أن يكون النصب واجبا عليهم لأن مقدمة ما يجب على أحد واجب عليه، ألا ترى الوضوء وتطهير الثوب وستر العورة واجبة على المصلي كالصلاة، لا عليه تعالى وهذا ظاهر

وأيضا إن تأملنا علمنا أن نصب الإمام من قبل الباري يتضمن مفاسد كثيرة، لأن آراء العالم مختلفة، وأهواء نفوسهم متفاوتة، ففي تعيين رجل لتمام العالم في جميع الأزمنة إلى منتهى بقاء الدنيا إيجاب لتهييج الفتن، وجر لأمر الإمامة على التعطيل، ودوام الخوف والمرام الإختفاء، كما وقع للجماعة الذين تعتقد الشيعة إمامتهم، فمع هذا قولهم نصب الإمام لطف في غاية السفاهة يضحك عليه، إذ لو كان لطفا لكان بالتأييد والإظهار لا بغلبة المخالفين والانتصار، فإذا لم يكن التأييد في البين، لم يكن النصب لطفا كما يظهر لذي عينين.

وما أجاب عنه بعض الإمامية بأن وجود الإمام لطف، ونصرته وتمكينه لطف آخر، وعدم تصرف الأئمة إنما هو من فساد العباد وكثرة الفساد، فإنهم خوفوهم ومنعوهم بحيث تركوا من خوفهم على أنفسهم إظهار الإمامة، وإذا ترك الناس نصرتهم لسوء اختيارهم، فلا يلزم قباحة في كونه واجبا عليه تعالى.

والاستتار والخوف من سنن الأنبياء، فقد اختفى ﷺ في الغار خوفا من الكفار، ففيه غفلة عن المقدمات المأخوذة في الاعتراض، إذ المعترض يقول الوجود بشرط التصرف، والنصرة لطف وبدونه متضمن لمفاسد، فالواجب في الجواب التعرض لدفع لزوم المفاسد، ولم يتعرض له كما لا يخفى، وأيضا يرد على القائل بكونه لطفا آخر ترك الواجب عليه تعالى، وترك هذا أقبح من ترك النصب، وأيضا يقال عليه هذا اللطف الآخر.

أمّا من لوازم النصب أولا: فعلى الأول لزم من تركه ترك النصب، لأن ترك اللازم يستلزم ترك الملزوم، وعلى الثاني لم يبق النصب لطفا للزوم المفاسد الكثيرة، بل يكون سفها وعبثا تعالى الله عن ذلك، وأيضا ما ذكره من تخويف الناس للأئمة غير مسلم، وهذه كتب التواريخ المعتبرة في البين، وأيضا التخويف الموجب للاستتار إنما هو إذا كان بالقتل، وهذا لا يتصور في حق الأئمة لأنهم يموتون باختيارهم، كما أثبت ذلك الكليني في الكافي وبوب له، وأيضا لا يفعل الأئمة أمر إلا بإذن، فلو كان الاختفاء بأمره تعالى، وقد مضت مدة، والخفاء هو الخفاء، فلا لطف بلا امتراء.

وأيضا إن كان واجبا للتخويف لزم ترك الواجب في حق الذين لم يكونوا كذلك، كزكريا ويحيى والحسين، وإن لم يكن واجبا بأن كان مندوبا لزم على من اختفى ترك الواجب، الذي هو التبليغ لأجل مندوب وهو فحش، وإن كان أمر الله تعالى مختلفا بأن كان في حق التاركين بالندب مثلا، وفي حق المستترين بالفرض لزم ترك الأصلح الواجب بزعم الشيعة في أحد الفريقين وهو باطل، ولا يمكن أن يقال الاصلح في حق كل ما فعل، لأنا نقول إن الإمام بوصف الإمامة لا يصح اختلاف وصفه كالعصمة، لأن اختلاف اللوازم يستلزم اختلاف الملزومات فيلزم أن لا يكون أحد الفريقين إماما فلا يكون الأصلح في حقهم إلا أحد الحالين، وإلا لزم اجتماع النقيضين.

كما أن الموضوع إذا كان مأخوذا بالوصف العنواني، فثبوت المحمول له بالضرورة بشرط الوصف يكون لازما، ويمتنع حمل نقيضه عليه كما لا يخفى وأيضا نقول الإختفاء من القتل نفسه محال، لأن موتهم باختيارهم، وإن كان من خوف الإيذاء البدني يلزم أن الأئمة فروا من عبادة المجاهدة وتحمل المشاق في سبيل الله تعالى، وهذا بعيد عنهم، ومع هذا لا معنى لاختفاء صاحب الزمان بخصوصه، فإنه يعلم باليقين أنه يعيش إلى نزول عيسى، ولا يقدر أحد على قتله وانه سيملك الأرض بحذافيرها، فبأي وجه يتخوف ويختفي ولم يظهر الدعوة، ويتحمل المشقة كما فعله سيد الشهداء؟.

وما قاله المرتضى في كتابه ( تنزيه الأنبياء والأئمة ) من أنه فرّق بين صاحب الزمان وبين آبائه الكرام، فإنه مشار إليه بأنه مهدي قائم صاحب السيف قاهر للأعداء، منتقم منهم مزيل للدولة والملك عنهم فله مخافة لا تكون لغيره، فكلام لا لب فيه، لأن خوف القتل نفسه قد علمته، ومع هذا معلوم له باليقين أن أحدا لن يقتله أبدا؛ [ لأن الإمام عندهم عالم بما كان ويكون، كما هو مسطور عندهم ].

وأيضا ألا يعلم أن المخالفين لا يقبلون من أحد دعوى المهدوية قبل ألف سنة؟، وأن المهدي يظله السحاب، لا سقف السرداب، وانه يظهر في مكة لا في سر من رأى، ويدعو الناس بعد الأربعين من عمره لا في زمن الطفولية ولا الشيخوخة.

على أن السيد محمد الجونفوري في الهند ادعى المهدوية، ولم يقتل ولم يخوف، وأيضا قد كثر محبوه وناصروه في زمن الدولة الصفوية، أكثر من رمل الصحارى والحصى فالاختفاء منافٍ لمنصب الإمامة، الذي مبناه على الشجاعة والجرأة فهلاّ خرج وصبر، واستقام إلى أن ظفر، وهلاّ كان كالقوم الذين قال الله تعالى فيهم: { وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }.

ثم ما حكى أولا من قصة الغار، واستتار سيد الأبرار من خوف الكفار، فكلام وقع في غير موقعه، لأن استتاره عليه الصلاة والسلام لم يكن لاخفاء دعوى النبوة، بل كان من جنس التورية في الحرب حتى إن الكفار لن يطلعوا على مقصده، ولن يسدوا الطريق عليه، وهذا أيضا كان ثلاثة أيام، فقياس ما نحن فيه عليه غاية حماقة ووقاحة، ففرق واضح لا يخفى على من له أدنى عقل بين الاختفاء، الذي هو مقدمة لظهور الدين، والغلبة على الكافرين وبين الاختفاء الذي لازمه الخذلان، وترك الدعوى وانتشار الطغيان، فالأول تقطر مياه الهمة من أسرته، وتبتلج أقمار النصرة من تحت طرّته، بخلاف الثاني فغبار الجبن على خده، والفرار عن الدعوى مرسوم على حدّه.

فأي فرقة سخرها الإمام لنفسه في هذه الغيبة؟، وأي ملك ملكه؟، ولو ابتغى صاحب الزمان فرصة ثلاثمائة سنة، مكان ثلاث ليال، وعوض الغار سرداب سر من رأى، وبدل مدينته المنورة دار المؤمنين قم، ودار الإيمان كاشان، وبدل الأنصار شيعة فارس والعراق، قائلا بأني في هذه الصورة أجمع الأسباب، وأتخذ الأصحاب، ثم أخرج لكشف الغمة وإصلاح حال الأمة، لتحمل أهل السنة وغيرهم هذه الشرائط وأنى ذلك، فليست هذه إمامة، بل هي لعمرك قيامة.

وقد ترك الشيخ مقداد صاحب ( كنز العرفان ) من المتأخرين طريق القدماء، وقال كان الاختفاء لحكمة استأثرها الله تعالى في علم الغيب عنده، ويرد عليه أن هذا إدعاء مجرد يمكن أن يقال بمثله في كل أمر يكون مناقضا للطف، فلا يثبت اللطف في شيء، وبه يفسد كلام الشيعة كله لأن مبنى أدلتهم عليه يقولون ان أمر كذا لطف واللطف واجب عليه تعالى فليتأمل، والله يحق الحق وهو يهدي السبيل.

تتمة: قوله تعالى: { ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ }، وقوله تعالى: { الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ }، وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا }.. إلى غير ذلك من الآيات.

يدل على ان هداية الناس والصبر على مشقة مخالطتهم من لوازم الإمامة، وكذا الجهاد في سبيل الله والعقل يحكم بذلك، وقد قال أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه: « لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في أمرته المؤمن ويستمتع فيها الكافر ويبلغ فيها الأجل ويأمن فيها السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي حتى يستريح بر ويستراح من فاجر »، كذا في ( نهج البلاغة )، من انه رضي الله تعالى عنه قاله لما سمع قول الخوارج: لا إمارة فلا محل للتقية في مقابلتهم فتأمل في هذا الكلام، وتفكر في هذا المقام، تر الفلاح، أوضح من الصباح وان الحق عند أصحاب الجنة وأهل السنة، والله تعالى أعلم.

فصل [ الإمامة والعصمة ]

العدالة شرط الإمامة لا العصمة، بمعنى عدم تصور الذنب كما في الأنبياء، خلافا للشيعة سيما الإمامية والإسماعيلية، قالوا لا بد منها علما وعملا وهو مخالف للكتاب والعترة.

أمّا الكتاب فقوله تعالى: { إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا }، فكان واجب الطاعة بالوحي، ولم يكن معصوما بالإجماع، وقوله تعالى: { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً } فكان قبل النبوة، إماما وخليفة وصدر منه ما صدر، ويدل على ذلك قوله تعالى: { وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى } وقوله: { ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى } والاجتباء في قوله تعالى في حق يونس فاجتباه ربه فجعله من الصالحين، والاصطفاء للدعاء، وعذره ورده إليه لا الاستنباء إذ قد ثبت قبل بقوله تعالى: { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ } بخلاف ما نحن فيه كذا قيل، فليتأمل.

وأمّا أقوال العترة، فقد أسلفنا قول الأمير لا بد للناس... الخ، وأيضا روى في الكافي ما قال الأمير لأصحابه: « لا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل، فإني لست آمن أن أخطئ »، والحمل على المشورة الدنيوية يأباه الصدر كما لا يخفى، وأيضا روى صاحب ( الفصول ) عن أبي محنف أنه قال: كان الحسين يبدي الكراهة من صلح أخيه الحسن مع معاوية ويقول: لو جر أنفي كان أحب إلي مما فعله أخي، وإذا خطأ أحد المعصومين الآخر، ثبت خطأ أحدهما بالضرورة لامتناع اجتماع النقيضين.

وأيضا في الصحيفة الكاملة للسجاد: « قد ملك الشيطان عناني في سوء الظن وضعف اليقين، وإني أشكو سوء محاورته لي طاعة نفسي له »، فظاهر أنه على الصدق والكذب مناف للعصمة، ومن أدلتهم على العصمة ان الإمام لو لم يكن معصوما لزم التسلسل، بيان الملازمة أن المحوج للنصب، هو جواز الخطأ للأمة، فلو جازالخطأ عليه أيضا لأفتقر إلى آخر وهكذا فيتسلسل.

ويجاب بمنع أن المحوج ما ذكر، بل المحوج تنفيذا لأحكام ودرء المفاسد وحفظ بيضة الإسلام مثلا، ولا حاجة في ذلك إلى العصمة، بل الاجتهاد والعدالة كافيان، ولمّا لم يكن إثم على التابع إذ ذاك استوى جواز الخطأ وعدمه، سلمنا لكن التسلسل ممنوع بل تنتهي السلسة إلى النبي، سلمنا لكنه منقوص بالمجتهد النائب عن الإمام في الغيبة عند الإمامية، وليس بمعصوم إجماعا فيلزم ما لزم والجواب هو الجواب.

ومن الأدلة أيضا أنه حافظ للشريعة، فكيف الخطأ، ويجاب بالمنع بل هو مرّوج والحفظ بالعلماء لقوله تعالى: { وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ }، وقوله تعالى: { كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ }.

وأيضا إذا كان الحفظ بالعلماء زمن الفترة وفي الغيبة على ما في ( كشكول الكرامة ) للحلي، ففي الحضور كذلك سلمنا، لكن الحفظ بالكتاب والسنة والإجماع، لا بنفسه ويمتنع الخطأ في الثلاثة، والأداء لا دخل له في صلب الشريعة فلا ضرورة في حفظه، سلمنا لكن ذلك منقوض بالنائب، وقد يقال بأن وجود المعصوم لو كان ضروريا للأمن من الخطأ، لوجب أن يكون في كل قطر بل في كل بلدة، إذ الواحد لا يكفي في الجميع، بل هو مستحيل بداهةً؛ لانتشار المكلفين في الأقطار والحضور مستحيل عادة، ونصب نائب لا يفيد لجواز الخطأ وعدم إمكان التدارك، سيما في الغيبة والوقائع اليومية، إذ الاطلاع ممنوع، وعلى تسليمه الإعلام أمّا برسول ولا عصمة أو بكتاب والتلبيس جائز.

على أن الفهم إنما هو باستعمال قواعد الرأي وضوابط القياس، والكل مظنة الخطأ فلا يحصل المقصود إلا بنصب معصوم في كل قطر وهو محال.

فصل [ النص على الإمام ]

الإمام لا يلزم أن يكون منصوصا من الباري تعالى، لأن نصبه واجب على العباد كما تقدم، فتعيين الرئيس مفوض إليهم وهو الأصلح لهم، وقالت الإمامية لا بد أن يكون منصوصا من قبله تعالى كما ان نصبه واجب عليه تعالى، وهذا مخالف للعقل والنقل، أمّا الأول فمر، وأما الثاني فلأن الله تعالى يقول: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً }، ] وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً }، ] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ } إلى غير ذلك، ولم يكن في أحد من تلك الفرق نص، بل كان برأي أهل الحل والعقد، فمعنى الجعل إلقاء اختياره في قلوب مسموعي القول فينصبوه، فان عدل فعامل وإلا فجائر.

وقد قيس طالوت بعصاة الملوك فساومها، فملك كما لا يخفى على المتتبع فافهم وتدبر.

فصل [ هل الإمام أفضل أهل العصر ]

لا يلزم أن يكون الإمام أفضل أهل العصر عنده تعالى، إذ قد خلّف طالوت وداود واشمويل موجودان، نعم لا بد لأهل الحل والعقد نصب الأفضل رئاسة وسياسة لا عبادة ودراسة، والشيعة على خلاف هذا، وقد علمت ردهم إجمالا، واشترطوا ما اشترطوا لنفي الخلافة عن الثلاثة لعدم العصمة والنص، وفي الأفضلية مجال بحث، وهذه نبذة يسيرة في الرد، وسيأتي التفصيل في إثبات الخلافة ان شاء الله تعالى، فلينظره.

فصل مهم [ في الإمامة بعد وفاة النبي ﷺ ]

اعلم أن الإمام بعد الرسول ﷺ أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بإجماع [ أهل ] الإسلام، وقد تفردت الشيعة بإنكار ذلك، وقالوا الإمامة كذلك لعلي رضي الله تعالى عنه، وعند أهل السنة له بعد الثلاثة، ثم لابنه الحسن رضي الله تعالى عنه، والصلح لمصالح رآها وهو اللائق بذاته الكريمة، لا لخوف من كما افترى.

إذ قد ورد في كتب الشيعة خطبة له يقول فيها: « إنما فعلت ما فعلت إشفاقا عليكم »، وقد ثبت في أخرى أورده المرتضى وصاحب الفصول أنه قال: لما انبرم الصلح بينه وبين ومعاوية: « إن معاوية قد نازعني حقا لي دونه فنظرت الصلاح للأمة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني، ورأيت أن حقن دماء المسلمين خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم ».

فهاتان الخطبتان يدلان على أن الصلح للمصلحة لا للعجز وعدم النصرة، والثانية أيضا تدل بالصراحة على إسلام الفريق الثاني لأن المصالحة لأهل الكفر والردة لمخالفة الفتنة لا تجوز بل ترك قتالهم وغلبتهم هو الفتنة، لقوله تعالى: { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ }.

وأيضا قد سبق ما كان يقوله الحسين في صلح الحسن افنسى أن الضرورات تبيح المحظورات، ثم إظهار الكراهة لخلاف المصلحة المعقولة للكاره، لا تكون قبيحة، وأيضا الاختلاف بين أكابر الدين في المصالح المنجر إلى عدم الرضاء لا يقدح في أحد الجانبين فليحفظ وليفهم.

ثم لا يغتر بما تقوّله أهل الزور على أهل السنة من أنهم يقولون بخلافة معاوية بعد الشهيد، حاشا وكلا، بل هم يقولون بصحة خلافته بعد صلح الحسن رضي الله تعالى عنه، إلا انه غير راشد والراشدون هم الخمسة، بل قالوا إنه باغ، فإن قلت: فإذا ثبت بغيه لِمَ لا يجوز لعنه؟.

جوابه: أن أهل السنة لا يجوّزون لعن مرتكب الكبيرة مطلقا، فعلى هذا لا تخصيص بالباغي لأنه مرتكب كبيرة أيضا، على أنه إذا كان باغيا بلا دليل، أما به بالاجتهاد ولو فاسدا، فلا إثم فضلا عن الكبيرة، ويشهد لهم قوله تعالى: { وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ }، والأمر بالشيء نهي عن ضده عند الإمامية، فالنهي عن اللعن واضح.

نعم ورد اللعن في الوصف في حق أهل الكبائر مثل قوله تعالى: { أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ }، وقوله تعالى ] فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ }، لكن هذا اللعن بالحقيقة على الوصف لا على صحابه، ولو فرض عليه يكون وجود الإيمان مانعا، والمانع مقدم كما هو عند الشيعة، وأيضا وجود العلة مع المانع لا يكون مقتضيا فاللعن لا يكون مترتبا على وجود الصفة حتى يرتفع الإيمان المانع، وقوله تعالى: { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ }، نص في طلب المغفرة وترك العداوة؛ بحيث جعل مترتبا على الإيمان من غير تقييد، ويشهد لهم أيضا ما تواتر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه من نهي لعن أهل الشام، قالت الشيعة النهي لتهذيب الأخلاق، وتحسين الكلام، كما يدل قوله في هذا المقام: « إني أكره لكم أن تكونوا سبابين ».

وأهل السنة يقولون هو مكروه للإمام فينبغي كراهته لنا وعد محبوبيته، وجعله قربة وإن لم نعلم وجه الكراهة، وأيضا روى في نهج البلاغة عنه رضي الله تعالى عنه ما يدل صراحة على المقصور، وهو أنه لما سمع لعن أهل الشام خطب، وقال: « أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل ».

فإذا صحت الروايتان في كتب الإمامية حملنا ان الأولى في حق من كان يلعنهم بالوصف، وهو جائز لا مطلقا، بل لمن لم يبلغ الشريعة كالأنبياء، إذ قد يستعمل لبيان قباحة تلك الصفات، وأما الغير فهو في حقه مكروه، لأنه لو اعتاده لخشي في حق من ليس أهلا، وأن الثانية في حق من كان يلعن أهل الشام بتعيين الأشخاص غافلا عن منع الإيمان فأعملنا الروايتين لأن الأصل في الدلائل الإعمال دون الإهمال.

وقال بعض علماء الشيعة البغي غير موجب للعن على قاعدتنا، لأن الباغي آثم لكن هذا الحكم مخصوص بغير المحارب، وأما هو فكافر عندنا، بدليل حديث متفق عليه عند الفريقين أنه ﷺ قال للأمير: « حربك حربي »، وانه قال لأهل العباءة: « أنا سلم لمن سالمتم، حرب لمن حاربتم »، وحرب الرسول كفر بلا شبهة، فكذا حرب الأئمة.

قال أهل السنة هذا مجاز للتهديد والتغليظ بدليل ما حكم به الأمير من بقاء إيمان أهل الشام، وأخوتهم في الإسلام، على ان قوله حرب الرسول كفر ممنوع، إذ قد حكم على آكل الربا بحرب الله ورسوله معا، قال تعالى: { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ }، وعلى قطّاع الطريق كذلك قال تعالى: { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ...} الآية ؛ فلم لم تحكم الشيعة بكفر هؤلاء.

هذا ولنرجع إلى ما كنا فيه، ولنورد عدّة آيات قرآنية، وأخبار عترية تدل على المرام، وتوضح المقام، وتفسد أصل الشيعة، وتبطل هذه القاعدة الشنيعة، وبالله تعالى التوفيق، ومنه يرجى الوصول إلى سواء الطريق.

فمن الآيات قوله تعالى: { وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ }، الحاصل ان الله تعالى وعد المؤمنين الصالحين الحاضرين وقت النزول بالاستخلاف والتصرف، كما جعل بني إسرائيل متصرفين في مصر والشام كداود u الوارد في حقه: { يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأْرْضِ } وغيره من أنبياء بني إسرائيل، وبإزالة الخوف من الأعداء الكفار والمشركين بأن يجعلهم في غاية الأمن حتى يخشاهم الكفار، ولا يخشون أحدا إلا الله وبتقوية الدين المرتضى بأن يروجه ويشيعه كما ينبغي.

ولم يقع هذا المجموع إلا زمن الخلفاء الثلاثة؛ لأن المهدي ما كان موجودا وقت النزول، والأمير وإن كان حاضرا لكن لم يحصل له رواج الدين كما هو حقه بزعم الشيعة، بل صاروا أسوء وأقبح من عند الكفار، كما صرح به المرتضى في تنزيه الأنبياء والأئمة، مع أن الأمير كرم الله تعالى وجهه وشيعته كانوا يخفون دينهم خائفين هائبين من أفواج أهل البغي دائما.

وأيضا الأمير كرم الله تعالى وجهه فرد من الجماعة ولفظ الجمع حقيقة في ثلاثة أفراد ففوق، والأئمة الآخرون لم يوجد فيهم مع عدم حضورهم تلك الأمور كما لا يخفى، وخلف الوعد مختلف اتفاقا فلزم أن الخلفاء الثلاثة كانوا هم الموعودين من قبله تعالى بالاستخلاف وأخويه وهو معنى الخلافة الراشدة المرادفة للإمامة.

وقال الملاّ عبد الله المشهدي في ( إظهار الحق ): بعد الفحص الشديد يحتمل أن يكون الخليفة بالمعنى اللغوي والاستخلاف الإتيان بأحد بعد آخر كما ورد في حق بني إسرائيل: { عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ }، والمعنى الخاص مستحدث بعد الرحلة، جوابه أنا متى قلنا أن الاستخلاف غير مستعمل في الكلام بالمعنى اللغوي، ولكن القاعدة الأصولية للشيعة أن الألفاظ القرآنية ينبغي ان تحمل على المعاني الاصطلاحية الشرعية، حتى الإمكان لا على المعاني اللغوية، وإلا فالشرعية كلها تفسد ولا يثبت حكم كما لا يخفى.

وأيضا كيف يصح تمسكهم بحديث: « أنت مني... الخ »، المنضم إليه: { اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي }، وكيف التمسك بحديث: « يا علي أنت خليفتي من بعدي »، ولقد سعى المدققون من الشيعة في الجواب عن هذه الآية وتوجيهها وأحسن الأجوبة عندهم اثنان، الأول: أن من للبيان لا للتبعيض والاستخلاف الاستيطان، قلنا حمل من الداخلة على الضمير على البيان، مخالف للاستعمال وبعيد عن المعنى في الآية الكريمة، وإن قال به البعض، سلمنا بناء على قول البيضاوي، [ وورود البيان في آخر سورة الفتح، تدبر ].

لكن لا يضرنا لأن المخاطبين هم الموعودون بتلك المواعيد وقد حصلت لهم، إلا أن الاستخلاف غير معقول للكل حقيقة، فالحصول للبعض حصول للكل باعتبار المنافع، وأيضا قيد وعملوا الصالحات وكذا الإيمان يكون عبثا إذ الاستيطان يحصل للفاسق وكذا الكافر أيضا وحاشا القران من العبث، الثاني أن المراد الأمير فقط وصيغة الجمع للتعظيم أو مع أولاده، قلنا يلزم تخلف الوعد كما لا يخفى، إذ لم يحصل لأحد منهم تمكين دين وزوال خوف والناس شهود على ذلك.

وانظر أيها المنصف العرّيف، واللوذعي الشريف إلى ما قاله الإمام، مما ينحسم فيه الإشكال في هذا المقام ذكر في نهج البلاغة للمرتضى الذي هو أصح الكتب عندهم أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه لماّ استشار الأمير كرم الله تعالى وجهه عند انطلاقه لقتال فارس، وقد جمعوا للقتال، أجابه: « إنّ هذا الأمر لم يكن نصره ولا خذلانه بكثرة ولا بقلة، وهو دين الله تعالى الذي أظهره، وجنده الذي أعزه وأيده حتى بلغ ما بلغ، وطلع حيث طلع، ونحن على وعد من الله تعالى حيث قال عز أسمه: وعد الله الذين آمنوا وتلا الآية، والله تعالى منجز وعده، وناصر جنده ومكان القيّم في الإسلام، مكان النظم من الخرز، فان انقطع النظام تفرّق، ورب متفرق لم يجتمع.

والعرب اليوم وإن كانوا قليلا فهم كثيرون بالإسلام، وغزيرون بالاجتماع، فكن قطبا واستدر الرحى بالعرب، وصلهم دونك نار الحرب، فإنك إن شخصت من هذه الأرض انتفضت عليك العرب من أطرافها وأقطارها، حتى يكون ما تدع ورائك من العورات، أهم إليك مما بين يديك، وكان قد آن للأعاجم أن ينظروا إليك غدا يقولون هذا أصل العرب فإذا قطعتموه استرحتم، فيكون ذلك أشد لِكَلَبهم عليك، وطمعهم فيك.

فأما ما ذكرت من سير القوم إلى قتال المسلمين فإن الله سبحانه وتعالى هو أكره لمسيرهم منك وهو أقدر على تغيير ما يكرهه، وأما ما ذكرت من عدوهم فإنا لم نكن نقاتل فيما مضى بالكثرة، وإنما كنا نقاتل بالنصرة والمعونة »، انتهى بلفظه المقدس، فتدبر منصفا، فارتفع الإشكال، واتضح الحال، والحمد لله رب العالمين.

ومنها قوله تعالى: { قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنْ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمْ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا }، المخاطب بعض القبائل ممن تخلف عن الرسول ﷺ في غزوة الحديبية، لعذر بارد وشغل كاسد.

وقد أجمع الفريقان أنه لم يقع بعد نزول هذه الآية إلا غزوة تبوك، ولم يقع فيها لا القتال ولا الإسلام فتعين الغير، والداعي ليس جناب الرسول عليه الصلاة والسلام لا محالة، فلا بد أن يكون خليفة من الخلفاء الثلاثة الذين وقعت الدعوة في عهدهم، كما في عهد الخليفة الأول لمانعي الزكاة أولا، وأهل الروم آخرا، وفي عهد الخليفة الثاني والثالث كما لا يخفى على المتتبع، فقد صحت خلافة الصديق لأن الله تعالى وعد وأوعد، ورتب كلا على الإطاعة والمعصية، فهلاّ يكون ذلك المطاع المنقاد له بالوجوب إماما، المنصف يعرف ذلك.

وقد خبط ابن المطهر الحلي وقال: يجوز أن يكون الداعي الرسول عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوات التي وقع فيها القتال ولم ينقل لنا، وإذ فتح الباب يقال يجوز عزل الأمير كرم الله تعالى وجهه بعد الغدير ونصب أبي بكر وتحريض الناس على اتباعه ولم ينقل لنا فانظر وتعجب؛ وقال بعض الداعي هو الأمير كرم الله وجهه، فقد دعى إلى قتال الناكثين والقاسطين والمارقين، وفيه ان قتل الأمير كرم الله تعالى وجهه لم يكن لطب الإسلام، بل لانتظام أحوال الإمام، ولم ينقل في العرف القديم والجديد أن يقال لا طاعة الإمام الإسلام ولمخالفته الكفر.

ومع هذا نقل الشيعة بروايات صحيحة عن النبي ﷺ في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: « إنك يا علي تقاتل على تأويل القران كما قاتلت على تنزيله »، وظاهر أن المقاتلة على تأويل القران لا تكون إلا بعد قبول تنزيله، وذلك لا يعقل بدون الإسلام، بل هو عينه فلا يمكن المقاتلة على التأويل مع المقاتلة على الإسلام بالضرورة وهو ظاهر.

ومنها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }، مدح الله تعالى في هذه الآية الكريمة الذين قاتلوا المرتدين بأكمل الصفات، وأعلى المبرات، وقد وقع ذلك من الصديق وأنصاره بالإجماع، لأن ثلاث فرق قد ارتدوا في آخر عهده عليه الصلاة والسلام.

الأولى بنو مدلج قوم أسود العنسي ذي الخمار الذي ادعى النبوة في اليمن، وقتل على يد فيروز الديلمي، الثانية بنو حنيفة أصحاب مسيلمة الكذاب المقتول في أيام خلافة الصديق على يد وحشي، الثالثة بنو أسد قوم طليحة بن خويلد المتنبئ، ولكنه آمن بعد أن أرسل النبي ﷺ خالدا وهرب منه إلى الشام، وقد ارتد في خلافة الصديق سبع فرق:

بنو فزارة قوم عيينة بن حصين، وبنو غطفان قوم قرة بن مسلمة، وبنو سليم قوم ابن عبد ياليل، وبنو يربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر، وبنو كندة قوم أشعث بن قيس الكندي، وبنو بكر في البحرين، وارتدت فرقة في زمن عمر رضي الله تعالى عنه، والتحقت بالنصارى إلى الروم.

وقد استأصل الصديق كل فرقة وازعجهم واستردهم إلى الإسلام، كما أجمع عليه المؤرخون كافة، ولم يقع للأمير كرم الله تعالى وجهه ذلك بل كان متحسرا وكم قال: ابتليت بقتال أهل القبلة، كما رواه الإمامية، وتسمية منكري الإمامة مرتدين مخالفة للعرف القديم والحديث، على انّ المنكر للنص غير كافر كما قاله الكاشي وصاحب الكافي.

وانظر إلى ما قاله الملاّ عبد الله صاحب إظهار الحق ما نصه: فإن قيل إن لم يكن النص الصريح ثابتا كما في باب خلافة الأمير، فالإمامية كاذبون، وإن كان لزم أن جماعة الصحابة مرتين العياذ بالله تعالى؛ أجيب ان إنكار النص الذي هو موجب للكفر إنما هو اعتقاد ان الأمر المنصوص باطل، وان كذّبوا في ذلك التنصيص رسول الله ﷺ حاشا، أما لو تركوا الحق مع علمهم بوجوبه للأغراض الدنيوية وحب الجاه، فيكون ذلك من الفسوق والعصيان لا غير.

ثم قال فالذين اتفقوا على خلافة الخليفة الأول لم يقولوا إن النبي ﷺ نص عليها لأحد أو قال بما لا يطابق الواقع فيها معاذ الله بل منهم من أنكر بعض الأحيان تحقق النص، وأوّل بعضهم كلام الرسول عليه الصلاة والسلام تأويلا بعيدا انتهى كلامه.

وأيضا قال الأمير كرم الله وجهه في بعض خطبه المروية عنه عندهم: « أصبحنا نقاتل أخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج والشبهة والتأويل »، وأيضا قد منع السبّ كما تقدم وسب المرتد غير منهي عنه، قطعنا النظر وسلّمنا ان الأمير كرم الله تعالى وجهه قاتل المرتدين، فالمقاتل لهم زمن الخليفة الأول شريك في المدح أيضا، وإلاّ لزم الخلف لعموم مَنْ في الشرط والجزاء كما هو مقرر في الأصول، والمقاتل هو وأنصاره الأمير كرم الله تعالى وجهه، إذ لم يدافع أحدا منهم ولا عساكره، إذ هم غير موصوفين بما ذكر، فلكم شكى الإمام منهم، وأعلن بعدم الرضاء عنهم، ودونك ما في نهج البلاغة من خطابه لهم:

« أنبئت أن بسرا [ هو ابن أرطاة أمير اليمن من قبل معاوية ]، قد طلع اليمن، وإني والله لأظن هؤلاء القوم سينالون منكم باجتماعهم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم، وبمعصيتكم إمامكم في الحق وطاعتهم إمامهم في الباطل، وبإبدائهم الأمانة إلى صاحبهم وخيانتكم، وبصلاحهم في بلادهم وفسادكم، فلو ائتمنت أحدكم على قعب لخشيت أن يذهب بعلاقته، اللهم إني قد مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئموني، فابدلني بهم خيرا منهم، وأبدلهم بي شرا مني، اللهم أمت قلوبهم كما يمات الملح بالماء، لوددت والله لو أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم، لو دعوت أتاك منهم فوارس مثل أزمية الحميم ».

والنهج مملوّ من أمثال هذه الكلمات، ومحشوّ من مثل هذه الشكايات، فانظر هل يمكن تطبيق الأوصاف القرآنية على هؤلاء الأقوام، وهل يجتمع النقيضان، أو كلام الله تعالى كاذب أو كلام الإمام.

وأيضا يستفاد من سياق الآية وسباقها إن فتنة المرتدين، تدفع بسعي القوم الموصوفين، ويتحقق إصلاح الدين، إذ الآية سيقت لتسلية قلوب المؤمنين وتقويتهم ولإزالة خوفهم من المرتدين وفتنتهم، ولم تنته مقاتلات الأمير إلا إلى الضد كما لا يخفى.

هذا وبقيت آيات كثيرة، وأدلة غزيرة، تركناها اكتفاء بما ذكرناه واعتمادا على أن المنصف يكفيه ما سطرناه.

[ أقوال العترة في الإمامة ]

أما أقوال العترة فمنها:

ما أورده المرتضى في ( نهج البلاغة ) عن أمير المؤمنين من كتابه الذي كتبه إلى معاوية وهو: « أما بعد فان بيعتي يا معاوية لزمتك وأنت بالشام فإنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار ولا للغائب أن يرد، وإنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسمّوه إماما كان لله رضى، فإن خرج منهم خارج لطعن أو بدعة، ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه ما تولى واصلاه جهنم وساءت مصيرا ».

ومنتهى ما أجاب الشيعة عن أمثال هذا بأنه من مجارات الخصم، ودليل إلزامي، وهو تحريف لا ينبغي لعاقل، ولا يليق بفاضل، إذ فيه غفلة وإغماض عن أطراف الكلام الزائدة على قدر الإلزام، إذ يكفي فيه بيعة أهل العقد والحل، كما لا يخفى على ذي عقل.

وأيضا الدليل الإلزامي مسلّم عند الخصم ومعاوية لا يسلم ما ذكر يرشدك إلى ذلك كتبه إلى الأمير كرم الله تعالى وجهه، كما هو مذكور عند الإمامية وغيرهم، فمذهبه كما يظهر منها أن كل مسلم قرشي مطلقا إذا كان قادرا على تنفيذ الأحكام، وإمضاء الجهاد، وحماية حوزة الإسلام، وحفظ الثغور، ودفع الشرور، وبايعه جماعة من المسلمين من أهل العراق أو من أهل الشام، أو من المدينة المنورة، فهو الإمام.

وإنما لم يتبع الأمير لاتهامه له بقتلة عثمان، وحفظه أهل الجور والعصيان، وما كان يعتقده قادرا على تنفيذ الأحكام، وأخذ القصاص الذي هو من عمدة أمور شريعة سيد الأنام، وذاك بزعمه، ومقتضى فهمه، ومن أجلى البديهيات أن بيعة المهاجرين والأنصار، التي لم تكن خافية على معاوية قط، لو حسبها معتدّا بها لم يذكر في مجالسه ومكاتيبه قوادح الأمير، بل خطأ تلك البيعة أيضا بالصراحة، كما هو معروف من مذهبه على ما لا يخفى على الخبير. فما ذكر في مقابلته من بيعة المهاجرين والأنصار دليل تحقيقي مركب من المقدمات الحقه فيثبت المطلوب.

ومنها ما في النهج أيضا عن الأمير كرم الله تعالى وجهه: « لله بلاد أبي بكر، لقد قوم الأود وداوى العلل، وأقام السنة خلف البدعة ذهب نقي الثوب، قليل العيب، أصاب خيرها، وأبقى شرها، أدى لله طاعة واتقاه بحقه، رحل وتركهم في طرق متشعبة لا يهتدي فيها الضال، ولا يستيقن المتهدي ».

وقد حذف صاحب النهج حفظا لمذهبه أبا بكر، واثبت بدله فلان، وتأبى الأوصاف إلا أبا بكر، ولهذا الإبهام اختلف الشراح فقال البعض هو أبو بكر وبعض هو عمر، ورجح الأكثر الأول وهو الأظهر فقد وصفه المعصوم من الصفات بأعلى مراتبها فناهيك به وناهيك بها، وغاية ما أجابوا أن مثل هذا المدح كان من الإمام لاستجلاب قلوب الناس لاعتقادهم بالشيخين أشد الاعتقاد.

ولا يخفى على منصف ان فيه نسبة الكذب إلى المعصوم لغرض دنيوي مظنون الحصول، بل كان اليأس حاصلا له قطعا، وفيه تضييع غرض الدين بالمرة فحاشا لمثل الإمام أن يمدح مثل هؤلاء، وفي الحديث الصحيح: « إذا مدح الفاسق غضب الرب »، وأيضا أيّة ضرورة تلجئه إلى هذه التأكيدات والمبالغات؟ وكان يكفيه أن يقول: لله بلاد فلان قد جاهد الكفرة والمرتدين، وشاع بسعيه الإسلام، وقام عماد المسلمين، ووضع الجزية وبنى المساجد، ولم تقع في خلافته فتنة ولا بقى معاند ونحو ذلك وفرق بين هذا والسلوك في هاتيك المسالك.

وأيضا في هذا المدح العظيم الكامل، تضليل الأمة وترويج للباطل، وذاك محال من المعصوم، بل كان الواجب عليه بيان الحال لمن بين يديه، بموجب الحديث الصحيح: اذكروا الفاسق بما فيه يحذره الناس، فانظر وانصف، وأجاب بعض الإمامية ان المراد من فلان رجل من الصحابة مات في عهد النبي ﷺ، وأختار هذا القول الرواندي.

وانظر هل يمكن لغيره ﷺ في زمنه الشريف تقويم الأود، ومداوات العلل وإقامة السنة وغيرها، وهل يعقل أن رجلا مات وترك الناس فيما ترك، والنبي ﷺ موجود بنفسه النفيسة، وذاته الأنيسة، سبحانك هذا بهتان عظيم وزور جسيم.

وقال البعض غرض الإمام من هذه العبارة توبيخ عثمان والتعريض به، فانه لم يذهب على سيرة الشيخين، وفيه أما أولا فالتوبيخ يحصل بدون هذه الكذبات فما الحاجة إليها؟ وأما ثانيا فسيرة الشيخين إن كانت محمودة فقد ثبت إمامتهما، وإلا فالتوبيخ على عثمان بتركها لا ينبغي، وأما ثالثا فهذه من خطبات الكوفة، فما الموجب لعدم الصراحة بالتوبيخ: أنا الغريق فلا أخشى من البلل.

ومنها ما نقله علي بن عيسى الأردبيلي الاثنا عشري في كتابه ( كشف الغمة عن معرفة الأئمة ): « انه سئل الإمام أبو جعفر عن حلية السيف: هل يجوز؟ فقال: نعم، قد حلى أبو بكر الصديق سيفه بالفضة، فقال الراوي: أتقول هكذا؟ فوثب الإمام عن مكانه فقال: نعم الصديق، نعم الصديق، نعم الصديق، فمن لم يقل الصديق فلا صدق الله قوله في الدنيا والآخرة ».

ومن الثابت أن مرتبة الصدّيقية بعد النبوة، ويشهد لها القران والآيات كثيرة، ولا أقل من كونها صفة مدح فوق الصالح، وإذا قال المعصوم في رجل صالحٌ، ارتفع عنه احتمال الجور والفسق والظلم والغصب، وإلا لزم الكذب وهو محال فكيف يعتقد فيه غصب الإمامة وتضييع حق الأمة، ولعمرك المعتقد داخل في عموم هذا الدعاء، ويكفيه جزاء.

وغاية ما أجابوا عن ذلك أنه تقيّة، وأنت تعلم أن وضع السؤال يعلم منه أن السائل شيعي، فلِمَ التقيّة منه؟ وهذا التأكيد، وبعضهم أنكر هذا الكلام، والنسخ شاهدة لنا، وإن لم يوجد في البعض فالبعض الآخر كاف، والنسخ كثيرة والروايات في هذا الباب أكثر، والله تعالى أعلم وأبصر.

تتمة في ذكر بعض الأدلة المأخوذة من الكتاب وأقوال العترة الأنجاب

مما يوصل إلى المطلوب بأدنى تأمل

الأول: أن الله تعالى ذكر جماعة الصحابة الذين كانوا حاضرين حين انعقاد خلافة أبي بكر الصديق وممدين وناصرين له في أمور الخلافة ملقبا لهم بعدة ألقاب في مواضع تنزيله، قال في موضع: { وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ }، وفي آخر: { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }، وفي آخر: { حَبَّبَ إِلَيْكُمْ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمْ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ }، فإجماع مثل هؤلاء الأقوام على منشأ الجور والآثام محال، والإلزام الكذب هو كما ترى.

الثاني: أن قوما جاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، وقتلوا آبائهم وأبنائهم وإخوانهم وأقاربهم، ولم يراعوا حقهم نصرة لله تعالى ورسوله ﷺ، وقد حضروا هذه البيعة ولم يخالفوا، أفيليق بهم ما نسب إليهم؟ العاقل لا يقول به.

الثالث: أن جماعة كثيرين من الصحابة قد وقع اتفاقهم على خلافة أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكل ما يكون متفقا عليه لجماعة الأمة فهو حق، وخلافه باطل بما ذكره في النهج مرويا عن الأمير في كلام له كرم الله تعالى وجهه: « ألزموا السواد الأعظم، فان يد الله تعالى على الجماعة، وإياكم والفرقة، فان الشاذ من الناس للشيطان، كما ان الشاذ من الغنم للذئب ».

الرابع: أن أمير المؤمنين كرم الله تعالى وجهه لما سئل عن أحوال الصحابة الماضين، وصفهم بلوازم الولاية، وقال كما في النهج: « كانوا إذا ذكروا الله همت أعينهم حتى تبل جباههم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف خوفا من العقاب، ورجاء للثواب »، فالإنكار من هؤلاء والإصرار على مخالفة الرسول ﷺ من المحالات.

الخامس: ما ذكر في الصحيفة الكاملة للسجاد من الدعاء لهم ومدح متابعيهم، ولا احتمال للتقية في الخلوات، وبين يدي رب البريات، ونصه: « اللهم وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان، الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، خير جزائك الذين قصدوا سمتهم، وتحروا وجهتهم، ومضوا في قفوا أثرهم، والاهتمام بهداية منارهم، يدينون بدينهم على شاكلتهم، لم يأتهم ريب في قصدهم، ولم يختلج شك في صدورهم... » إلى آخر ما قال.

فالإصرار من هؤلاء الأخيار على كتمان أحق، وتجويز الظلم والجور على عترة سيد الخلق ﷺ، لا يقول به عاقل، ولا يفوه به كامل، والكتب ملئ من أمثال هذه الكلمات، والأدلة القطعيات، وفيما ذكر كفاية، لمن حلت في قلبه الهداية، والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الردى.

===========

الباب الثالث في ذكر قول فاصل وكلام يميز بين الحق والباطل

احتجاجهم بالآيات القرآنية على الإمامة

اعلم أن الشيعة استدلوا على مطلوبهم بالكتاب والسنة وأقوال العترة، والأدلة العقلية وبالمطاعن في الخلفاء الثلاثة رضي الله تعالى عنهم، على ما سيظهر لك ان شاء الله تعالى.

أمّا الكتاب فآيات أوردها أهل السنة في رد الخوارج والنواصب، فاخذوها وحرفوا بعض المقدمات وأوردوها فيما أوردوها، فمنها قوله تعالى: { إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ } تقرير الاستدلال ان أهل التفسير أجمعوا على نزولها في حق الأمير كرم الله تعالى وجهه، إذ أعطى السائل خاتمه في حالة الركوع، وكلمة إنما للحصر، والولي المتصرف في الأمور، والمراد به هنا التصرف العام المرادف للإمامة بقرينة العطف، فثبتت إمامته وانتفت إمامة غيره للحصر وهو المطلوب.

الجواب: الحصر أيضا ينافي خلافة باقي الأئمة، ولا يمكن أن يكون إضافيا بالنسبة إلى من تقدمه، لأنّا نقول أن حصر ولاية من استجمع هذه الصفات لا يفيد إلا حقيقيا، بل لا يصح لعدم استجماع من تأخر، وان أجابوا بأن المراد الحصر للولاية في جنابه في بعض الأوقات، وهو وقت إمامته لا وقت إمامة الباقي، فمرحبا بالوفاق فإنا كذا نقول: هي محصورة فيه وقت إمامته لا قبله أيضا.

ودونك هذا التفصيل: فنقول أولا ما ذكرْ من إجماع أهل التفسير ممنوع، فقد روى أبو بكر النقاش صاحب التفسير المشهور عن محمد الباقر انها نزلت في المهاجرين والأنصار، وقال قائل: سمعنا في علي فقال هو منهم، وهذه الرواية أوفق بصيغة الجمع، وروى جمع من المفسرين عن عكرمة انها نزلت في أبي بكر ويؤيده الآية السابقة في قتال المرتدين، وأورد صاحب اللباب في التفسير أنها نزلت في شأن عبادة بن الصامت، إذ تبرأ من حلفائه الذين كانوا هودا على زعم عبد الله بن أبي، فأنه لم يتبرأ منهم، وهذا القول أنسب بسياق الآية وهو: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ }.

وقال جماعة من المفسرين ان عبد الله بن سلام لما اسلم هجرته قبيلته فشكى ذلك، وقال يا رسول الله أن قومنا هجرونا فنزلت هذه الآية، وهذا القول باعتبار فن الحديث أصح الأقوال، وأما القول الذي ذكروه، فإنما هو للثعلبي فقط، وقد قالوا فيه انه حاطب ليل.

هذا وثانيا ان لفظ الولي مشترك بين المحب والناصر والصديق والمتصرف في الأمور فالحمل على أحدها بدون قرينة لا يجوز والسباق لكونه في تقوية قلوب المؤمنين وتسليتها وإزالة الخوف عنها من المرتدين، والسياق من قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين... الآية، لأن أحدا لم يتخذ اليهود والنصارى أئمة لنفسه، وهم ما اتخذوا بعضهم بعضا إماما أيضا قرينتان على إرادة معنى الناصر والمحب كما لا يخفى، وكلمة إنما تقتضي هذا المعنى أيضا لأن الحصر في ما يحتمل اعتقاد الشركة والتردد والنزاع من المظان، ولم يكن بالإجماع وقت النزول تردد ونزاع في الإمامة والولاية بل كان في النصرة والمحبة.

وثالثا العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب كما هو عند الجميع، واللفظ عام ولا ضرورة إلى التخصيص، وكون التصدق في حالة الركوع لم يقع لغيره، غير داع له إذ القصة ليست مذكورة في الآية بحيث تكون مانعا من حمل الموصول وصلاته على العموم، بل جملة وهم راكعون عطف على السابق، وصلة للموصول أو حال من ضمير يقيمون، وعلى كل فالركوع الخشوع، وقد ورد كقوله تعالى: { وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ }، ولم يكن ركوع اصطلاحي في صلاة من قبلنا بالإجماع، وقوه تعالى: { وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ }، وليس في الاصطلاحي خرور، بل انحناء إلى غير ذلك من الآيات فهو معنى متعارف أيضا يصح الحمل عليه كما هو المقرر في محله.

وأيضا حمل الزكاة على التصدق كحمل الركوع على الخشوع، فالجواب هو الجواب، بل ذكر الركوع بعد إقامة الصلاة مؤيد لنا لئلا يلزم التكرار، وذكر الزكاة بعدها مضر لكم، إذ في عرف القرآن يكون المراد بها حينئذ الزكاة المفروضة لا الصدقة المندوبة، ولو حملنا الركوع على المشهور، وجعلت الجملة حالا من ضمير يقيمون لعمت المؤمنين أيضا لأنه احتراز عن صلاة اليهود الخالية من الركوع، وفي هذا التوجيه غاية لصوق بالنهي عن موالاة اليهود الوارد بعد.

وأيضا لو كان حالا من ضمير يؤتون، لم يكن فيه كثير مدح إذ الصلاة إنما تمدح إذا خلت عن الحركات المتعلقة بالغير وقطع صاحبها العلائق عما سوى الخالق المتوجه إليه، الواقف بين يديه، ومع هذا لا دخل لهذا القيد بالإجماع لا طردا ولا عكسا في صحة الإمامة، فالتعليق به لغو ينزه الباري تعالى عنه على أنها معارضة بما تقدم فافهم.

وتكلف صاحب ( إظهار الحق ) غاية التكلف، وتعسف نهاية التعسف، في تصحيح هذا الاستدلال وتنميق هذا المقال، فلم يأتِ إلا بقشور بلا لب، وظني انه بلا عقل ولب، فمن جملة ما قال ان الأمر بمحبة الله ورسوله يكون بطريق الوجوب والحتم لا محالة، فكذا الأمر بمحبة المؤمنين المتصفين بالصفات المذكورة أيضا يكون بطريق الوجوب، إذ الحكم في كلام واحد يكون موضوعه متحدا أو متعددا أو متعاطفا لا يمكن أن يكون بعضه واجبا، وبعضه مندوبا، إذ لا يجوز أخذ اللفظ في استعمال واحد بالمعنيين فهذا المقتضى تصير معدة للمؤمنين واجبة.

وثالثه لمودة الله ورسوله الواجبة على الإطلاق بدون قيد وجهة، فلو أخذ ان المراد بالمؤمنين كافة المسلمين، باعتبار أن من شأنهم الاتصاف بتلك الصفات لا يصح، لأن معرفة كل منهم يكون متعذرا لكل واحد من المكلفين فضلا عن مودتهم، وأيضا قد تكون العادات لمؤمن بسبب من الأسباب مباحة، بل واجبة، فالمراد به البعض وهو المرتضى، انتهى.

وهو كلام الوقاحة تفور منه، والجهالة تروى عنه، إذ مع تسليم المقدمات أين اللزوم بين الدليل والمدعي؟، وإذا تعذر العام كيف يتعين الأمير وهو المتنازع فيه، واستنتاج المتعين من المطلق وقاحة وجهل محض كما لا يخفى؛ ثم نقول لا يخفى على من له أدنى تأمل ان مولاة المؤمنين من جهة الإيمان عام بلا قيد ولا جهة وهي موالاة إيمانهم في الحقيقة والعداوة بسبب غير ضار في الموالاة من جهة الإيمان.

ثم ماذا يقول في قوله تعالى: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمْ اللَّهُ }، ولو كانت الموالاة الإيمانية عامة لجميع المؤمنين، فأية استحالة تلزمها والملاحظة الإجمالية للكثرة بعنوان الوحدة لا شك في إمكانها، ألا ترى أنهم يقولون كل عدد فهو نصف مجموع حاشيتيه، وكذا يقولون كل حيوان حساس، والكثرة فيهما ظاهرة، وليت شعري ما جوابه عن معادات الكفار، وكيف الأمر فيها؟ وهي هي كما لا يخفى.

نعم المحذور كون الموالاة الثلاثة في مرتبة واحدة كافيا وليس فليس، إذ الأول أصل، والثاني تبع والثالث تبع له، فالمحمول مختلف والموضوع كذلك، لأن الولاية من الأمور العامة، وكالعوارض المشككة والعطف موجب للتشكيك في الحكم لا في جهته، فالباري تعالى وما سواه موجود في الخارج والوجوب والإمكان ملاحظ، وهذا قوله تعالى: { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي } مع أن الدعوة واجبة على الرسول ﷺ مندوبة في غيره وعليه الأصوليون، وإن نزلنا عن هذا أيضا فالأظهر أن اتحاد نفس الوجوب ليس محذورا، بل المحذور الاتحاد في المرتبة والأصالة وهو غير لازم، فتدبر.

ومن جملة ما قال: إنه يظهر من بعض أحاديث أهل السنة أن بعض الصحابة التمسوا من حضرة النبي ﷺ الاستخلاف، كما ذكر في مشكاة المصابيح عن حذيفة: « قالوا: يا رسول الله لو استخلفت، قال: لو استخلفت عليكم فغصبتموه عذبتم، ولكن ما حدثكم حذيفة فصدقوه، وما أقرأكم عبد الله فأقرؤه »، رواه الترمذي، وهكذا استفسروا منه ﷺ من يكون حريا بالإمامة أيضا.

وعن علي رضي الله تعالى عنه قال: « قيل يا رسول الله من يؤمر بعدك، قال إنْ تؤمروا أبا بكر تجدوه أمينا في الدنيا زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة، وإن تؤمروا عمر تجدوه قويا أمينا لا يخاف في الله لومة لائم، وإن تؤمروا عليا ولا أراكم فاعلين تجدوه هاديا مهديا يأخذ بكم الصراط المستقيم »، رواه أحمد، وهذا الالتماس والاستفسار يقتضي كل منهما وقوع التردد في حضوره ﷺ عند نزول الآية، فلم يبطل مدلول ( إنما ) انتهى.

وفيه محض الاستفسار لا يقتضي وقوع التردد، نعم لو كانوا شاوروا في هذا الأمر وخالفوا ونازع بعضهم بعضا بعد ما سمعوا من النبي ﷺ لتحقيق المدلول وليس فليس، ومجرد السؤال غير مقتضٍ ل ( إنما ) على ما في كتب المعاني، وأيضا سلمنا التردد لكن لم يعلم أنه بعد الآية أو قبلها متصلا أو منفصلا سببا للنزول، أو اتفاقا، فلا بد من إثبات القبلية والاتصال والسببية، وأين ذلك؟ والاحتمال غير كاف في الاستدلال فلا تغفل.

وليعلم أن الحديث الثاني ينافي الحصر؛ لأنه ﷺ في مقام السؤال عن المستحق للخلافة ذكر الشيخين، فكيف الحصر فإن كانت الآية متقدمة لزم مخالفة الرسول القران أو بالعكس لزم التكذيب، والنسخ لا يعقل في الأخبار على ما تقرر، ومع هذا تقدم كل مجهول فسقط العمل، وإن قيل الحديث خبر الواحد غير مقبول في الإمامة، قلنا وكذلك لا يصح في مقام إثبات التردد والاستدلال به، وأيضا الاستدلال بالآية موقوف عليه فافهم، وأيضا الحديث الأول يفيد أن ترك الاستخلاف أصلح فتركه كما يفهم من الآية تركه، فتأمل.

ومنها قوله تعالى: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا }، تقرير الاستدلال أن المفسرين اجمعوا على نزول هذه الآية في حق علي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله تعالى عنهم، وهي تدل على عصمتهم دلالة مؤكدة وغير المعصوم لا يكون إماما، ولا يخفى أن المقدمات كلها مخدوشة، أما الأولى فلكون الإجماع ممنوعا.

روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: « أنها نزلت في نساء النبي ﷺ »، وروى ابن جرير عن عكرمة: « أنه كان ينادي في الأسواق أن قوله تعالى: إنما يريد الله... الآية، نزلت في نساء النبي ﷺ »، والسياق والسباق يشهدان له.

على أن ذكر حال الغير في أثناء خطاب الأزواج بهذه الصورة مناف للبلاغة، وأيضا إضافة البيوت إلى الأزواج، أعني قوله ( في بيوتكن ) تدل على ان المراد بأهل البيت، إنما هو الأزواج المطهرات إذ بيته ﷺ لا يمكن أن يكون غير ما سكن فيه أزواجه.

وقال عبد الله المشهدي: إن كون البيوت جمعا في ( بيوتكن )، وإفراد البيت في ( أهل البيت ) يدل على الغيرية، وفساد هذا ظاهر لأن بيت اسم جنس يطلق على القليل والكثير والإفراد باعتبار الإضافة إلى النبي ﷺ، فالبيوت بهذا الاعتبار بيت، والجمع في بيوتكن باعتبار الإضافة إلى الأزواج، ثم قال لا يبعد أن يقع بين المعطوف والمعطوف عليه، فاصل وإن طال كما في قوله تعالى: { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ }، ثم قال بعد تمام الآية: وأقيموا الصلاة وأتوا الزكاة )، قال المفسرون ( وأقيموا الزكاة ) عطف على ( أطيعوا )، انتهى.

وفيه غفلة عن محل النزاع إذ الكلام في الفصل بالأجنبي باعتبار المواد، وهو المنافي للبلاغة لا الأجنبي من حيث الإعراب على أن في عطف ( وأقيموا ) على ( وأطيعوا ) بحثا؛ لأنه وقع واطيعوا أيضا بعد ( أقيموا ) فيلزم التكرار، وعطف الشيء على نفسه ولا احتمال للتوكيد لوجود حرف العطف، ثم قال كلاما لا ينبغي لنا ذكره هنا.

وأما إيراد ضمير جمع المذكر في ( عنكم ) فبملاحظة لفظ ( الأهل ) كقوله تعالى خطابا لسارة امرأة الخليل: { أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ }، وكذا { قال لأهله امكثوا }.. الآية خطابا من موسى لامرأته.

وما روى في سنن الترمذي والصحاح الأخر أن رسول الله ﷺ: « دعا هؤلاء الأربعة ودعا لهم اللهم هؤلاء أهل بيتي، فاذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وقالت أم سلمة: أشركني فيهم أيضا، قال: أنت على خير وأنت على مكانك »، فهو دليل صريح، وناطق فصيح على أن نزولها في حق الأزواج فقط.

وقد أدخل النبي ﷺ هؤلاء الأربعة رضي الله تعالى عنهم أيضا بدعائه المبارك في تلك الكرامة، ولو كان نزولها في حقهم لكان تحصيلا للحاصل كذا قالوا، ولكن ذهب محققوا أهل السنة إلى هذه الآية لو كانت واقعة في حق الأزواج، ولكن بحكم العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص السبب دخل في البشارة الجميع، واختيار الأربعة هربا من توهم الاختصاص بالأزواج بمعونة القرائن كالسباق واللحاق.

وما قال عبد الله المشهدي: أن المراد بالبيت بيت النبوة، ولا شك في أن أهل البيت لغة شامل للخدام من الإماء اللاتي يسكن في البيت، وليس المراد هذا بالاتفاق، فالمراد أهل العبا الذين خصصهم حديث الكساء، ففيه ان هذه التوسعة لا تضر أهل السنة؛ لأن العصمة بالمعنى الذي يقول بها الشيعة لا يثبتونها، والغير غير ضار، وأيضا عدم كون هذا مرادا من أجل أن القرائن تعين المراد، وأيضا يخصص العقل هذا اللفظ باعتبار العرف والعادة يمكن يسكنون في البيت لا بقصد الانتقال، ولم يكن التحول والتبدل جاريين عادة فيهم كالأزواج والأولاد دون العبيد والخدام الذين هم في معرض من التبدل والتحول من ملك إلى ملك بالهبة والبيع وغير ذلك ثَمَّ، وإنما يدل التخصيص بالكساء على كون هؤلاء المذكورين مخصصين لو لم يكن للتخصيص فائدة أخرى وهي ظاهرة فتدبر.

وأمّا الثانية فلأن دلالة هذه الآية على العصمة مبنية على أبحاث أحدها كون كلمة ( ليذهب عنكم الرجس )، أي محل لها مفعول له ليريد أدبه، الثاني معنى أهل البيت، الثالث أي مراد من الرجس، وفي هذا المباحث كلام كثير، يطلب من الكتب المبسوطة في التفسير، وبعد اللتيا والتي لو كانت هذه الكلمة مفيدة للعصمة ينبغي أن يكون الصحابة لا سيما البدريين قاطبة معصومين، لأن الله تعالى في حقهم تارة: ولكن يريد ] لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }، وتارة ] لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ }، وظاهر أن تمام النعمة في حق الصحابة كرامة زائدة بالنسبة إلى ذينك اللفظتين، ووقوع هذا الإتمام أدل على عصمتهم لأن إتمام النعمة لا يتصور بدون الحفظ عن المعاصي وشر الشيطان فتأمل فيه تأملا صادقا، فيظهر حقيقة الملازمة وبيان وجهها وبطلان اللازم مع فرض صدق المقدّم.

وأما الثالثة فلأن غير المعصوم لا يكون إماما مقدمة باطلة، وكلمة عاطلة، يدرئها الكتاب، وكلام رب العزة المستطاب، فتذكر ولا تغفل وتبصر.

ومنها قوله تعالى: { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى }، فانها لما نزلت قالوا: « يا رسول الله من قرابتك الذين وجبت علينا مودتهم، قال: علي وفاطمة وابناهما رضي الله تعالى عنهم »، فآل البيت واجبوا المحبة، وكل من كان كذلك فهو واجب الطاعة، فعلي واجب الإطاعة وهو معنى الإمام، وغير علي لا تجب محبته فلا تجب طاعته.

وأجيب أولا بأن المفسرين اختلفوا في هذه الآية، فالطبراني والإمام أحمد، رويا عن ابن عباس هكذا، ولكن ضعّف ذلك الجمهور فإن السورة بتمامها مكية، ولم يكن هنالك الإمامان وما كان علي متزوجا بفاطمة.

وروى أن القربى من بينه وبين النبي ﷺ قرابة، وجزم قتادة والسدي الكبير وسعيد بن جبير، وأختاره جمع، و[ ذهب ] الإمام الرازي بأن معنى الآية: « إني لا أسألكم على الدعوة والتبليغ، إلا المودة والمحبة بي لأجل قرابتي بكم ».

وهذه الرواية في صحيح البخاري موجودة عن ابن عباس: « وما في بطن قريش إلا وقد كان للنبي ﷺ قرابة بهم فيذكرّهم تلك القرابة » لأداء الحقوق، فالاستثناء والمعنى منقطع.

وهذا المعنى هو المناسب لشأن النبوة، لأن الأغراض الدنيوية ليست من شيم الأنبياء، قال تعالى: { قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى اللَّهِ }، وقال تعالى: { وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ }، وقال تعالى: { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ }، والآيات كثيرة.

وثانيا: لا نسلّم الكبرى، وهي كل واجب المحبة، فهو واجب الإطاعة، وكذا لا نسلم كل واجب الإطاعة صاحب الإمامة والرئاسة الكبرى، وأما الأول فلأنه لو كان وجوب المحبة مستلزما لوجوب الطاعة لكن العلويون كذلك لوجوب محبتهم، كما ذكره ابن بابويه في ( كتاب الاعتقادات )، ولكانت الزهراء إماما، بل ولكان الأربعة أئمة في عهد النبي ﷺ واللوازم باطلة.

وأما الثاني فلأنه يلزم أن يكون كما نبي في زمانه صاحب الرئاسة الكبرى كاشمويل وغيره، وهو ظاهر البطلان.

وأما الثالث: فلا نسلم انحصار وجوب المحبة في المذكورين عندنا، بل أبو بكر وعمر وعثمان كذلك، بالروايات الصحيحة والدليل إلزامي، فلا بد من ملاحظة جميع روايات أهل السنة، ولا تكفي الواحدة وان الحوّاء، فقوله تعالى: يحبهم ويحبونه يشهد لنا، لأنه في حق القائلين وهؤلاء رؤسائهم والمحبوب واجب المحبة هنا، ثم لا يخفى أن التقريب غير تام، لأن النتيجة شيء والمدعي شيء آخر، وأين العام من الخاص، وهذا المطلوب لا ذاك، فتدبر.

ومنها قوله تعالى: { فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ... الآية }، فانه لما نزلت خرج النبي ﷺ خارجا من منزله آخذا بيده الشريفة أهل العباء وهو يقول: إذا دعوت فأمّنوا، فعلم أن المراد بالأبناء الحسن والحسين وفاطمة وبالنفس الأمير.

وظاهر استحالة الحقيقة، فالمراد المساواة فمن كان مساويا للأفضل فهو أولى بالتصرف بالضرورة، فهو الإمام لا غيره، وهذا أحسن تقريرهم في الآية، كما لا يخفى على المتتبع، وللنواصب فيه كلام كثير ليس هذا محله.

وفي هذا الدليل نظر، أمّا أولا فلا نسلم أن المراد بأنفسنا الأمير، بل نفسه الشريفة ﷺ والإمام داخل في الأبناء حكما كالحسنين والعرف يعد الختن ابنا من غير ريبة، والمنع مكابرة، والاعتراض بأن الشخص لا يدعو في غاية الضعف، فقد شاع وذاع قديما وحديثا دعته نفسه، ودعوت نفسي: { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ }، وشاورت نفسي إلى غير ذلك.

وأيضا لو قررنا الأمير من الأمير من قبل النبي ﷺ لمصداق أنفسنا فمن نقررّه من جهة الكفار لمصداق أنفسكم مع الاشتراك في ندعو إذ لا معنى لدعوة النبي ﷺ إياهم وأبنائهم بعد قوله تعالوا، وأيضا قد جاء لفظ النفس بمعنى القريب والشريك في الدين، قال تعالى: { تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ } أي أهل دينهم، { وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ }، { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا }، فللقرب والألفة عبر بالنفس فلا يلزم المساواة، كما في الآيات.

وأما ثانيا فلزوم المساواة في جميع الصفات بديهي البطلان، لأن التابع دون المتبوع، وفي البعض لا تفيد المساواة في بعض صفات الأفضل والأولى بالتصرف لا تجعل من هي له أفضل وأولى بالتصرف بالضرورة، فليتدبر.

ومنها قوله تعالى: { إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ }، قالوا: ورد في المتفق عليه عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: « أنا المنذر وعلي الهادي »، ولا يخفى ضعفه، مع انه رواية الثعلبي ولا اعتبار لمروياته في التفسير.

وأيضا لا دلالة له على إمامة الأمير كرم الله تعالى وجهه، ونفيها عن غيره أصلا، لأن كون رجل هاديا لا يستلزم أن يكون إماما، نعم الإمامة بمعنى القدوة مراده، وليست محل النزاع، قال تعالى وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا، ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير الآية.

ومنها قوله تعالى: { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ }، قالوا: روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا انه قال: « وقفوهم إنهم مسؤلون عن ولاية علي رضي الله تعالى عنه »، ولا يخفى إن هذا النحو من التمسك بالروايات لا بالآيات، وفي هذه الروايات كلام قوي لا سيما هذه، على أن نظم القران مكذّب لها؛ لأن هذا الحكم في حق المشركين، بدليل: { وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }، وما هم وعلي؟

وأيضا النظم يدل على أن السؤال عن مضمون الجملة الاستفهامية، وهي: { مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ } فقط، ولهذا اجمعوا على ترك الوقوف على ( مسؤلون )، ولئن سلمنا لكن المراد بالولاية المحبة، بدليل رواية الواحدي في تفسيره عن ولاية علي وأهل البيت، وظاهر أن جميع أهل البيت لم يكونوا أئمة، سلمنا أنها الزعامة الكبرى، لكن المفاد اعتقادها في وقت من الأوقات، وهذا هو مذهبنا لا مذهبكم، فأين التقريب؟.

ومنها قوله تعالى: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ }، قالوا: روى عن ابن عباس مرفوعا أنه قال: « السابقون ثلاثة فالسابق إلى موسى يوشع بن نون، والسابق إلى عيسى صاحب ياسين، والسابق إلى محمد ﷺ علي بن أبي طالب ».

ولا يخفى ان هذا تمسك بالحديث، ومدار إسناده على أبي الحسن الأشقر وهو ضعيف بالإجماع، قال العقيلي: « هو شيعي متروك الحديث »، فالحديث منكر بل موضوع، وأمارات الوضع عليه لائحة، لأن صاحب ياسين لم يكن أول من آمن بعيسى بل برسله، كما دل عليه النص، وكل حديث يناقض مدلول الكتاب من الأخبار فهو موضوع، كما هو مقرر في محله.

وأيضا انحصار السباق في ثلاثة غير معقول، فلكل نبي سابق لا محالة، وأيضا أية ضرورة أن يكون كل سابق إماما؟ وأيضا لو صحت الرواية لنا قضت قوله تعالى في حق السابقين: { ثُلَّةٌ مِنْ الأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنْ الآخِرِينَ }، والثلة الجمع الكثير، ولا يمكن إطلاق الجمع الكثير على اثنين، ولا القليل على الواحد أيضا، فعلم أن المراد بالسبق من الآية عرفي أو إضافي شامل للجماعة الكثيرة، لا حقيقي بدليل: { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ }، والقرآن يفسر بعضه بعضا.

وأيضا الثابت بالإجماع أن أول من آمن خديجة رضي الله تعالى عنها، فلو كان مجرد السبق كافٍ لصحة الإمامة لزم إمامتها وهو باطل، فإن قلت: قد تحقق المانع فيها وهو الأنوثة، قلنا أيضا: المانع متحقق وهو وجود الثلاثة، الذين كانوا أصلح للرئاسة من جنابه عند الجمهور.

هذا فانظر أيها المنصف الرشيد والفطن اللوذعي المجيد إلى حال هؤلاء، جند الأهواء، قد نسجت غشاوة المتعصب على أبصارهم فهم عمون، وحلت غواية الشيطان في قلوبهم فهم في بيداء الضلالة يهرعون، استدلوا بما استدلوا، وحلوا عقال التثبت إذ خلو بلاقع الزيغ ولم يعقلوا، فدونك أدلةً سموم البطلان يهب من أرجائها ورسومها، وخلب البرق تلوح في خلال غمومها وغيومها، مع أنها أقوى دلائلهم في هذا المقام، وأعلى وأغلى تحريراتهم في صنوف الكلام وقد كفيت شرها وأمنت حربها، والحمد لله على ما أولاه.

احتجاجهم بالأحاديث النبوية على الإمامة

وأما السنة، فأحاديث منها حديث الغدير، إذ أخذ بيد الأمير وقال: « يا معشر المسلمين ألست أولى بكم من أنفسكم، قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه ».

قالوا: إن المولى بمعنى الأولى بالتصرف وهذا عين الإمامة، فنقول أولا: لم يثبت كون المولى بمعنى الأولى، بل لم يجيء قط المفعل بمعنى أفعل أبدا، إلا ان أبا زيد اللغوي جوزه متمسكا بقول أبي عبيدة في تفسير: هي مولاكم؛ أي أولى بكم، وقد خطئوه قائلين، لو صح هذا لصح أن يقال مكان فلان أولى منك مولى، وهذا باطل منكر إجماعا، والتفسير بيان حاصل المعنى وهو النار مقركم ومصيركم.

وثانيا لو كان المولى كما ذكروا فمن أي لغة ينقل ان صلته بالتصرف، فلا يحتمل بالمحبة والتعظيم، وأية ضرورة في كل ما نسمعه نحمله على ذلك، قال تعالى: { إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا }، وظاهر ان اتباع إبراهيم لم يكن أولى بالتصرف.

وثالثا: القرينة البعدية تدل على أن المراد الأولى بالمحبة، وهي اللهم والِ من والاه، وعاد من عاداه، وإلاّ لقال: اللهم والِ من كان في تصرفه معه، وعاد من لم يكن كذلك، ولما ذكر المحبة والعداوة، والرسول ﷺ أعلم الناس وأفضلهم، وقد بيّن لهم الواجبات أتمّ تبيين، وهذه المسألة عمدة الدين، فلم لم يفصح بالمراد، وإرشاد العباد، ويقول: « يا أيها الناس علي ولي أمري، والقائم عليكم بعدي، اسمعوا واطيعوا »، قلت ومثل هذا نقل عن السبط الأكبر.

وأما تخصيص الإمام بالذكر، فلما علمه ﷺ لوقوع الفساد والبغي في خلافته، وإنكار بعض الناس إمامته، وقد تمسك بعض علماء الشيعة على إثبات المراد بالمولى، الأولى بالتصرف باللفظ الواقع في صدر الحديث، وهو قوله: ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهذا الكلام هو القديم، وعين الدعوى، فأي حاجة إلى هذا الحمل؟ بل هو ههنا أيضا بمعنى الأولى بالمحبة.

وحاصل المعنى يا معشر المسلمين: إنكم تحبوني أزيد من أنفسكم كذلك أحبوا عليا، اللهم أحب من يحبه، وعاد من يعاديه، وهذا الكلام، بمقام من الانتظام، وهذا اللفظ قد وقع في غير موضع بحيث لا يناسب معنى الأولى بالتصرف، كقوله تعالى: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } والسوق شاهد كما لا يخفى.

ولو فرضنا كون الأولى في صدر الحديث بمعنى الأولى بالتصرف أيضا، لا يكون حمل المولى على ذلك مناسبا، إذ يحتمل أن يراد تنبيه المخاطبين بهذه العبارة ليستمعوا بإذن واعية وقلوب غير لاهية، وليعلموا إنه أمر إرشادي واجب الإطاعة، كما أن الأب يقول لأبنائه في مقام الوعظ والنصيحة: ألست أباكم فافعلوا كذا، فمعنى ألست أولى بالمؤمنين: ألست رسول الله إليكم أو ألست بنبيكم؟، والربط حاصل بهذه العبارة كما هو ظاهر.

ومن العجب أن بعض المدققين منهم أورد دليلا على نفي معنى المحبة، وهو أن محبة الأمير كرم الله تعالى وجهه أمر معاد، حيث كان ثابتا في ضمن آية: { وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ }، فلو أفاد هذا الحديث ذلك المعنى أيضا كان لغوا، ولا يخفى فساده، إذ فرق بيّن بين بيان محبة أحد في ضمن عموم، وبين إيجاب محبته بخصوصه.

مثلا لو آمن أحد بجميع الأنبياء والرسل، ولم يتعرض لاسم محمد ﷺ في الذكر، لم يكن إسلامه معتبرا، على أن وظيفة النبي ﷺ تأكيد مضامين القرآن، قال تعالى: { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ }، وعلى ما قيل أن يكون التأكيدات من النبي ﷺ في باب الصلاة والزكاة مثلا لغوا والعياذ بالله تعالى، وبلغوا أيضا التأكيد في التنصيص على إمامة الأمير، وقد قالوا به.

وسبب الخطبة على ما ذكره المؤرخون يدل صراحة على أن المراد المحبة، وذلك أن جماعة كانوا مع الأمير في سفر اليمن كبريدة الأسلمي وخالد بن الوليد وغيرهما، فلما رجعوا شكوا عليا ولم يحمدوا سيرته، ولم يحسنوا سريرته، فلما أحس النبي ﷺ بذلك، خطب هذه الخطبة العامة دفعا للكلام، ودرأ لسائر الأوهام، وممن أورد القصة مفصلة محمد بن إسحاق، وقد ذكرها غيره أيضا، فليتأمل.

ومنها ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام: « لما استخلف الأمير كرم الله تعالى وجهه في غزوة تبوك على أهل بيته من النساء والبنات قال الأمير: يا رسول الله أتخلفني في النساء والصبيان، فقال له النبي ﷺ أما ترضى أن تكون بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي ».

قالوا: إن المنزلة اسم جنس مضاف للعَلَم، فيعم جميع المنازل لصحة الاستثناء، وإذا استثنى مرتبة النبوة، فثبت للأمير جميع المنازل الثابتة لهارون، ومن جملتها صحة الإمامة وافتراض الطاعة أيضا لو عاش بعد موسى؛ لأن ذلك له في عهد موسى، فلو انقطعت بعده لزم العزل، وهو محال للزوم الإبانة المستحيلة، فثبتت المرتبة للأمير أيضا وهي الإمامة.

هذا واعترضه النواصب [ قالوا: هذا لا يدل إلا على استخلاف خاص على أهل البيت، وإلا لما قرر النبي عليه الصلاة والسلام في تلك الغزوة محمد بن مسلمة عاملا في المدينة، وسباع بن عرفطة عساسا فيها، وابن أم مكتوم [ إماما ] للصلاة في مسجده بإجماع أهل السير، ويرد بما لا أظنه يخفى، فتدبر ]، وهو مع جوابه في المطولات.

ونحن نقول فيه اختلاف من وجوه، أما أولا فلأن اسم الجنس المضاف إلى العَلَم ليس من ألفاظ العموم عند جميع الأصوليين، بل هم صرحوا بأنه في نحو غلام زيد للعهد، وكيف يمكن العموم في ركبت فرس زيد، ولبست ثوبه غاية الأمر الإطلاق، وللعهد هنا قرينة أتخلفني... الخ.

فالاستخلاف كالاستخلاف فينقطع انقطاعه ولا إهانة وهو واضح، والاستثناء لا يكون دليل العموم، إلا إذا كان متصلا وهنا منقطع لفظا للجملية، ومعنى للعدم وهو ليس من المنازل، وأيضا بالعموم والاتصال يلزم كذب المعصوم، إذ من المنازل ما لا شك في انتفائه كالاسنية والأفطحية، والشركة في النبوة والأخوة النسبية وأين هذا من الأمير؟.

ثانيا: فلانّا لا نسلم أن الخلافة بعد موت موسى كانت من جملة منازل هارون؛ لأنه كان نبيا مستقلا، ولو عاش لبقي كذلك، وأين النبوة من الخلافة، وهل هذا الاستدلال إلا من السخافة؟

وأما ثالثا: فلأن ما قالوا من إنه لو زالت هذه المرتبة من هارون لزم العزل وهو باطل، إذ لا يقال لانقطاع العمل عزل لغة وعرفا، ولا يفهم أحد من مثله إهانة كما لا يخفى على المنصف، وأيضا تشبيه الأمير بهارون المستخلف في الغيبة الثابت خلافة ما سواه كيوشع بن نون وكالب بن لوقنا بعد الوفاة، يقتضي بموجب التشبيه الكامل عدم خلافة الأمير بعد الوفاة أيضا، فتدبر.

ولو تنزلنا عن هذا كله قلنا أين الدلالة على نفي إمامة الثلاثة ليثبت المدّعى؟ غاية ما يثبته الحديث الاستحقاق، ولو في وقت من الأوقات، وهو عين مذهب أهل السنة، فالتقريب غير تام، والله تعالى أعلم.

ومنها ما رواه بريدة مرفوعا أنه ﷺ [ قال ]: « ان عليا مني وأنا من علي، وهو ولي كل مؤمن بعدي »، نقول هذا الحديث باطل لأن في إسناده أجلح وهو شيعي متهم في روايته، على أنه غير مفيد، إذ البعديّة تحتمل الاتصال والانفصال، فهي مطلقة فلا يثبت المدعى، فافهم.

ومنها ما رواه أنس بن مالك أنه كان عند النبي ﷺ طائر [ قيل إنه نهار، وقيل إنه حبارى، وقيل حجل ] قد طبخ له واهدي إليه، فقال ﷺ: « اللهم ائتني بأحب الناس إليك يأكل معي، فجاءه علي »، نقول قد حكم أكثر المحدثين بوضع هذا الحديث، وممن صرح به الحافظ شمس الدين الجزري، وشمس الدين الدمشقي الذهبي في تلخيصه.

ومع هذا غير مفيد للمدعي؛ لأن القرينة تدل على أن المراد بأحب الناس الأحب في الأكل، ولا شك أن الأمير كان أحبهم في هذا الوصف، لأن أكل الولد أو من في حكمه مع الأب موجب لتضعاف اللذة، كما لا يخفى على من له ذوق. ولو سلمنا الإطلاق فلا نسلم كون الأحب إلى الله تعالى هو صاحب الرئاسة العامة وهكذا زكريا ويحيى يشهدان لنا، وكذا اشمويل الذي كان طالوت في زمنه صاحب الرئاسة بالنص ينادي بهذا.

وأيضا يحتمل أن يكون المراد بمن هو من أحب الناس إليك بطريق التبعيض، وهو كثير كقولهم: فلان أعقل الناس وأعلمهم، وأيضا يحتمل غيبة أبي بكر، إذ ذاك وسؤال الخارق إنما هو عند التحدي لا غير، وإلا لما احتاج في الحرب والقتال إلى السلاح والرجال، فتدبر.

وأيضا لا يقام حديث: « اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ».

ومنها ما رواه جابر عن النبي ﷺ: « أنا مدينة العلم وعلي بابها »، نقول هذا الحديث مطعون، قال يحيى بن معين: لا أصل له، وقال البخاري: انه منكر وليس له وجه صحيح، وقال الترمذي: انه منكر غريب، وذكره ابن الجوزي في الموضوعات، وقال الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد هذا الحديث لم يثبتوه، وقال الشيخ محي الدين النواوي والحافظ شمس الدين الذهبي، والشيخ شمس الدين الجزري إنه موضوع، فالتمسك بالأحاديث الموضوعة التي أخرجها أهل السنة عن حيز الاحتجاج، والتمسك بها في مقام إلزامهم دليل صريح على قلة فقه الشيعة.

ومع هذا غير مفيد لمدعاهم، إذ لا يلزم أن من كان باب مدينة فهو صاحب الرئاسة العامة بلا فصل، غاية الأمر أن شرطا من شرائط الإمامة قد تحقق فيه بوجه من الوجوه، ولا يلزم من تحقق شرط واحد تحقق المشروط بالشروط الكثيرة، مع أن هذا الشرط كان ثابتا في غيره أيضا أزيد منه برواية أهل السنة مثل: « ما صبّ الله في صدري إلا صببته في صدر أبي بكر »، ونحو: « لو كان بعدي نبي لكان عمر »، فلا بد من ملاحظة جميع الروايات ليحصل الإلزام، ولا يكفي الرواية الواحدة فيه كما لا يخفى.

ومنها ما رواه الإمامية مرفوعا أنه ﷺ قال: « من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوح في تقواه، وإلى إبراهيم في حلمه وإلى موسى في بطشه، وإلى عيسى في عبادته، فلينظر إلى علي بن أبي طالب »، وجه التمسك أن مساواة الأمير للأنبياء الكبار في صفاتهم الجليلة قد علمت، والأنبياء أفضل من غيرهم، والمساوي للأفضل أفضل، فيكون علي أفضل من غيره، والأفضل متعين للإمامة.

وفيه إما أولا: فلأن هذا الحديث ليس من أحاديث السنة بل أورده الحلي في كتبه، وينسبه تارة للبيهقي، وتاره للبغوي، وليس في كتبهما أثر منه، أفبالافتراء يحصل الإلزام؟ وبالبهتان ينال المرام؟ وقد أوجب أهل السنة لقبول الحديث في غير الكتب الصحاح التنصيص من الثقة على صحته، فبمثل هذا لا يلزمون، ونحوه لا يعبئون، وأما ثانيا فهو محض تشبيه، بلا شك ولا تمويه، كقوله:

لا تعجبوا من بلا غلالته ** وقد زرّ أزراره على القمر

وقال المتنبي:

نَشَرَتْ ثَلاثَ ذَوائِبٍ من شَعْرِها ** في لَيْلَةٍ فَأرَتْ لَيَاليَ أرْبَعَا

واستَقْبَلَتْ قَمَرَ السّماءِ بوَجْهِها ** فأرَتْنيَ القَمَرَينِ في وقْتٍ مَعَا

وأقل ما يلزم مما لا بد منه الاستعارة، ومبناها على التشبيه وفهم المساواة منه كمال حماقة بها فيدعي مساواة الكف للبرق فيقوله:

أَرَى بارِقا بالأَبْرَقِ کلْفَرْدِ يُومِضُ ** يُذَهِّبُ ما بَيْنَ کلدُّجى وَيُفَضِّضُ

كَأَنَّ سُلَيْمى مِنْ أَعاليهِ أَشْرَقَت ** تَمُدُّ لَنا كَفًّا خَضيبا وَتقْبِضُ

على أنه روي عند أهل السنة تشبيه أبي بكر بإبراهيم، وتشبيه عمر بنوح وموسى، رواه الحاكم عن ابن مسعود وصححه في قصة مشاورة النبي ﷺ لهما في أسارى بدر، فإنه قال: « إن هؤلاء كانوا مثل أخوة لكم كانوا من قبلهم، قال نوح: { رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا }، وقال موسى: { رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ } الآية، وقال إبراهيم: { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }، وقال عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم ُ } ».

وأما ثالثا: فلأن مساواة الأفضل في صفة لا تكون موجبة لأفضلية المساوي؛ لأن ذلك الأفضل له صفات أخرى قد صار بسببها أفضل. وأما رابعا فلأن الأفضلية ليست موجبة للزعامة الكبرى كما مر غير مرة. وأما خامسا فكتب العلم ملئ من مثل هذه الأحاديث في حق الشيخين، فلا يثبت التفضيل، فتصفح والله تعالى الهادي.

ومنها ما روى عن أبي ذر الغفاري أنه قال: « من ناصب عليا في الخلافة فهو كافر »، نقول هذا لا أثر لهذا الأثر في كتب أهل السنة، بل نسب ابن المطهر الحلي روايته إلى الأخطب الخوارزمي، والحلي خوّان في النقل، والأخطب من الغلاة الزيدية، ومع هذا لم يرَ في كتابه المؤلف في مناقب الأمير، وعلى التسليم لا اعتبار به لمخالفته الأحاديث الصحاح المروية في كتب الإمامية من نحو قول الأمير: « أصبحنا نقاتل إخواننا في الإسلام على ما دخل فيه من الزيغ والاعوجاج »، ولئن اعتبر مضمونه لا يتحقق إلا إذا طلب الأمير الخلافة وانتزعت عن يده، وهو لم يطلبها في زمن الثلاثة؛ لأنه كان مأمورا بالسكوت والتقية كما هو محرر في كتب الإمامية.

وأيضا قد سمى الله تعالى منكر خلافة الثلاثة في آية الاستخلاف كافرا قال تعالى: { وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ }، والمعنى من أنكر خلافة أولئك بعد استماع الآية والعلم باستخلافهم فأولئك هم الكاملون في الفسق، والكامل فيه هو الكافر كما لا يخفى فتدبر.

ومنها ما رووه أن الرسول ﷺ قال: « كنت أنا وعلي بن أبي طالب نورا بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بأربعة عشر ألف عام، فلما خلق الله تعالى آدم قسّم ذلك النور جزئين، فجزء أنا وجزء علي بن أبي طالب ».

هذا الحديث موضوع بإجماع أهل السنة، وفي إسناده محمد بن خلف المروزي، قال يحيى بن معين: هو كذاب، وقال الدارقطني: متروك لم يختلف في كذبه، ويروى من طريق آخر وفيه جعفر بن أحمد، وكان رافضيا غاليا كذّابا وضاعا.

وأيضا قد ثبت اشتراك الخلفاء مع علي في رواية أحسن من هذه، وهي ما رواه الإمام الشافعي بإسناده عنه ﷺ انه قال: « كنت أنا وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي بين يدي الله تعالى قبل أن يخلق آدم بألف عام، فلما خلق أسكنا ظهره ولم نزل نتنقل في الأصلاب الطاهرة، حتى نقلني الله تعالى إلى صلب عبد الله، ونقل أبا بكر إلى صلب أبي قحافة، ونقل عمر إلى صلب الخطاب، ونقل عثمان إلى صلب عفان، ونقل عليا إلى صلب أبي طالب ».

وبعد اللتيا والتي لا يدل على المدعى أصلا؛ لأن اشتراك الأمير في النور لا يستلزم وجوب إمامته بلا فصل فليبينوا، ودونه خرط القتاد ولا بحث لنا في قرب النسب، وإنما الكلام في أن ذلك القرب موجب للإمامة بلا فصل أم لا، فلو كان مجرد القرب في النسب موجبا للتقدم في الإمامة، لكان العباس أولى بالإمامة كما لا يخفى؛ فإن العباس لحرمانه من النور لم يحصل له لياقة الإمامة، قلنا إن كان مدار التقدم في الإمامة على قوة النور وكثرته فالحسنان حينئذ أولى من الإمام.

أما القوة فلأن حصة النبي ﷺ وصلت إليهما فلا شك في قوتها، وأما الكثرة فلأنهما كانا جامعين لنوري النبي ﷺ والأمير كرم الله تعالى وجهه وهذا ظاهر.

احتجاجهم بالأحاديث النبوية على الإمامة (2)

ومنها ما رواه عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ قال يوم خيبر: « لأعطينّ الراية غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يده ».

وهذا الحديث على الرأس والعين لكن أي الملازمة بين المحبة والإمامة بلا فصل، وأيضا هذا الإثبات له لا ينفي عمّا عداه، كيف وقد قال تعالى في الصديق ورفقائه يحبهم ويحبونه، وفي أهل بدر: { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ }، ومحبوب الله محبوب الرسول ﷺ، وفي أهل مسجد قبا: { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ }، وقال ﷺ لمعاذ فقال: « إني احبك فقل... ».

ولما سئل: « من أحب النساء؟، قيل: عائشة ومن الرجال؟ قال: أبوها »، والتخصيص هنا باعتبار المجموع أو دفعا لشبهة أن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، أو للتمهيد بالمشترك كما تقول العرب فإني رجل عاقل، مع ان المقصود إثبات العقل دون الرجولية، فافهم.

ومنها: « رحم الله عليا دار الحق معه حيث دار »، هذا مسلم أيضا لكن أين الإمامة بلا فصل، وقد جاء في حق عمار بن ياسر: « الحق مع عمار حيث دار »، في عمر: « الحق بعدي مع عمر حيث كان »، والتفاوت بيّن، سيما عند الشيعة من أنّ الدعاء منه ﷺ غير لازم الإجابة، فقد دعا ربه بجميع أصحابه على صحبة علي فلم يحصل كما رواه ابن بابويه القمي، على أن البعض قد استدل بهذا الحديث على صحة خلافة الثلاثة بقياس المساواة، وهو الحق مع علي وعلي مع الثلاثة، فالحق معهم ودليل الكبرى صلاته معهم، ولم يثبت القضاء ومبايعته لهم ونصحه في أمور الرئاسة.

فقد ذكر في النهج أن الأمير قال لعمر حين استشاره في غزوة الروم: « متى تسير إلى هذا العدو بنفسك، فتكسر وتنكب، لا تكن للمسلمين كأنفه دون أقصى بلادهم، وليس بعدك مرجع يرجعون إليه فارسل إليهم رجلا مجربا، واحضر معه البلاغة والنصيحة، فإن ظهره الله تعالى فذلك ما تحمد، وأن تكن الأخرى، كنت درء الناس ومثابا للمسلمين » وقد مرت نصيحة أخرى.

والعجب من الشيعة يقولون هذا ونحوه من المتابعة لقلة الأعوان والأنصار، ثم يروون ما يناقضه كما روى ابن أبي عياش عن سليم بن قيس الهلالي وغيره أن عمر قال لعلي: « لئن لم تبايع أبا بكر لنقتلنك، قال له علي: لولا عهد عهده إلي خليلي لن أخونه، لعلمت أينا أضعف ناصرا وأقل عددا ».

فهذه الرواية تدل بالصراحة بكثرة الأعوان، وكان السكوت لما سمعه من النبي ﷺ بصحة إمامة الصديق، والدليل العقلي يؤيده؛ لأن النبي ﷺ لا يليق بمقامه أمر مثل الإمام بتعطيل أمر الله وحرم الأمة من لطفه واتباع أهل الباطل، كيف وقد قال له تعالى في زمان الكلفة والمشقة وقبل تمام الدين: { يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ }، أفيأمر أسد الله بعد تمام الدين بالجبن والخوف وفساد أمر المسلمين وترك تبليغ الأحكام واتباع الفساق والظلام: { أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ } حاشاه ثم حاشاه، أولئك مبرؤن مما يقولون.

وقال ابن طاوس سبط أبي جعفر الطوسي إن ترك منازعة الإمام وإظهار الرضى في الأحكام، كان اقتداء بأفعال الله تعالى، وهي إمهال الجاني والتأني في المؤاخذة، والتأني محمود، والعجول لا يسود، وقد ارتضى هذا الجم الغفير ممن يدعى أنه من شيعة الأمير، وهو مما يضحك المغبون، ويعجب العاقل والمجنون، كيف والاقتداء بأفعال الله تعالى فيما الشرع غير جائز، فضلا عن أن يكون واجبا إذ الباري قد ينصر الكفرة، ويعين الفجرة، ويخذل الصلحاء، ويقدر الرزق على العلماء، أفيجوز الاقتداء بهذه الأفعال..؟ سبحانك ربنا هذا الداء العضال.

وأما ما قيل: « تخلقوا بأخلاق الله »، فبأبر المكارم دون الأحكام، وإلا فمتى لم يصلِّ ولم يصمْ ولم يفعل الطاعات أينجو يوم القيامة؟ ثم ما قاله من ان التأني محمود، فهو في غير طاعة الملك المعبود، قال تعالى في مدح المتعجلين ] أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ }، وفي غيرهم: { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ } والإمام له منصب الهداية والإرشاد للطاعات، فكيف يجوز له التأني وبه يفوت كثير من الواجبات، ولو قالوا تأني الأمير كان بالأمر فلا يلزم ترك الواجبات، قلنا إذا إمامته غير متحققة، وإلا فالنصب والأمر بالتأني غير معقول كما لا يخفى، وأيضا إذا كان الأمير مأمورا من الله تعالى بالتأني وإخفاء الإمامة وترك دعواها يكون المكلفون في ترك مبايعته وإطاعة الآخر معذورين، فلو خالفوا ونصبوا غيره لحفظ دينهم ودنياهم وتمشية مهماتهم في هذه المدة لا يكون للعتاب والعقاب لهم محلا أصلا فتدبر.

ومنها ما رواه زيد بن أرقم عن النبي ﷺ انه قال: « إني تارك فيكم الثقلين فإن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي، أحدهما أعظم الآخر كتاب الله وعترتي »، هذا مسلّم أيضا لكن لا مساس لهم له بالمطلوب سلمنا، ولكن قد صح أيضا: « عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، واقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر »، سلّمنا لكن العترة في اللغة الأقارب، فلو دل على الإمامة لزم إمامة الجميع، وهو باطل سيما إمامة عبد الله بن عباس وابن الحنفية وزيد بن علي وإسحاق بن جعفر الصادق، وأمثالهم من آل البيت، فتدبر.

وأما الأدلة العقلية: فمنها إن الإمام يجب أن يكون معصوما وغير الأمير من الصحابة لم يكن معصوما، فكان هو إماما لا غيره، وفي هذا الترتيب نظر يظهر لذي نظر، وفيه بُعد منع أما الصغرى؛ فلأن الأمير نص بقوله: « إنما الشورى للمهاجرين والأنصار » على أن الشورى لهم فقط، وبديهي عدم العصمة فيهم ولما سمع ما قال الخوارج: لا أمرة، قال: « لا بد للناس من أمير برا وفاجر »، كذا في نهج البلاغة.

وأيضا طريق العصمة لغير النبي ﷺ مسدود، إذ أسباب العلم ثلاثة الحواس السليمة والعقل والخبر الصادق، ولا سبيل لأحد منها إلى تحصيله، أما الأول فظاهر إذ العصمة ملكة نفسانية تمنع من صدور القبائح، وهي غير محسوسة، وأما الثاني فلأن العقل لا يدرك الملكة إلا بطريق الاستدلال بالآثار والأفعال وأين الاستقراء التام في هذا المقام؟ سيما مكنونات الضمائر من العقائد الفاسدة والحسد والبغض والعجب والرياء ونحوها.

ولو فرضنا الاطلاع على عدم الصدور فأين الاطلاع على عدم إمكانه وهو المقصود، وأما الثالث فلأن خبر الصادق أما متواتر أو خبر الله ورسوله، وظاهر ان المتواتر لا دخل له ههنا، إذ يشترط انتهائه إلى المحسوس في إفادة العلم، ولا انتهاء إذ لا محسوس وخبر الله، والرسول لا يكون موجبا للعلم هنا على أصول الشيعة، لإمكان البداء عندهم.

وأيضا وصول الخبر إلى المكلفين أما بواسطة معصوم أو بواسطة تواتر ففي الأول يلزم الدور، وفي الثاني يلزم خلاف الواقع؛ لأن كل متواتر ليس مفيدا للعلم القطعي عند الشيعة كتواتر المسح على الخف وغسل الرجلين في الوضوء و { أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ }، وصيغة التحيات ونحو ذلك فلا بد من التعيين وذلك غير مفيد، إذ حصول العلم القطعي من المتواتر يكون بناء على كثرة الناقلين وبلوغهم إلى ذلك المبلغ، ولما كذب الناقلون في مادة ومادتين ارتفع الاعتماد عن أقسامه، ولا يرد هذا في الأنبياء للمعجزة وتمييزهم على غيرهم، وفرق بين التابع والمتبوع فأفهم.

وأما الكبرى فلأن الأمير قال لأصحابه: « لا تكلفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل فاني لست بفوق ان اخطأ ولا آمن ذلك في فعلي » كذا في النهج، وهذا لا يصدر عن معصوم لا سيما وبعده إلا ان يلقي الله في نفسي ما هو املك به مني، والمعصوم يملّكه الله نفسه، وأيضا روى في دعاء الأمير: « اللهم اغفر لي ما تقربت به إليك ثم خالفه قلبي »، كذا في النهج أيضا، فتدبر حق التدبر.

ومنها إن الإمام لا بد من أن لا يرتكب الكفر قط، لقوله تعالى: { لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ }، والكافر ظالم لقوله تعالى: { وَالْكَافِرُونَ هُمْ الظَّالِمُونَ }، وغير الأمير من الصحابة عبدوا الأصنام في الجاهلية، فيكون هو إماما دون غيره.

وفيه ما في الأول والنقض بابن عباس، لا يشترط العصمة فيدفعه، لأنا نقول بعد التسليم، فالدليل إذا ذاك لا هذا كما لا يخفى، وأيضا من تاب وآمن وعمل صالحا لا يصدق عليه الظلم، إذ قد تقرر ان المشتق فيما قام به المبدأ في الحال حقيقة وفي غيره بشرط الاطراد، والتعارف مجاز فلا يقال للشيخ صبي وللنائم مستفيض وللحي ميت.

وأيضا قد روى القاضي أبو الحسن الزاهدي من الحنفية في ( معالي العرش ) في حديث طويل: « ان أبا بكر رضي الله تعالى عنه قال للنبي ﷺ بمحضر من المهاجرين والأنصار: وعيشتك يا رسول الله اني لم أسجد للصنم قط، فنزل جبريل عليه السلام وقال: صدق أبو بكر »، وكذا نقل أهل السير والتواريخ، فصحت إمامته أيضا بملاحظة هذا الشرط، ولله تعالى الحمد.

ومنها انه أدعى الإمامة واظهر المعجزة كدحي باب خيبر، والقصة معلومة وحمل الصخرة في صفين إذ عطش القوم، وحفروا بئرا فصادفوا صخرة عظيمة في الأثناء وعجزوا عن قلعها فقلعها الإمام، ومحاربته الجن في غزوة بني المصطلق، ورد الشمس وهي مشهورة فيكون إماما، وفيه أولا فلأن إظهار المعجزة خاص بالأنبياء عند دعوى النبوة، إذ لا سبيل للعلم إلا بها، وفي الغير لا تثبت دعوى رجل على آخر بإثبات خارق دون شهود وبينّة، والإمامة متعلقة بتعيين النبي ﷺ أو أمته من يصلح لذلك فلا تكون المعجزة دليلا هنا.

وأما ثانيا فلأن الإظهار لم يكن عند الدعوى، ودعوى ذلك محض كذب فالرد والدحي والمحاربة في زمن النبي ﷺ ولا دعوى بالإجماع، على إن ذلك من معجزاته ﷺ لا من معجزاته رضي الله عنه وحمل الصخرة على تقدير تسليمه لم ينقل مقارنته للدعوى، وعلى تقدير النقل فالإمامة إذ ذاك حق له دون غيره عندنا، وأيضا ليس محل النزاع.

ومنها ما قالوا ما روى أحد من الموافق والمخالف ما يوجب الطعن في الأمير بخلاف الثلاثة، فإن الموافق والمخالف روى المطاعن الكثيرة في حقهم، بحيث تسلب استحقاق الإمامة عنه، فالأمير سالم وغيره لا، فهو الإمام لا غيره، قد وقع في هذا المقام الخبط التام؛ لأن الذين قالوا بإمامة الثلاثة لم يووا شيئا من قوادحهم ومن لم يقل روى بالطعن وطعن، وجزمت قواه فوهن، وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى.

وما قالوا من ان الموافق والمخالف لم يرو ما يطعن بالأمير ان أرادوا بالمخالف أهل السنة فلا يجديهم نفعا لأنهم يعتقدون إمامته ويثبتون كرامته، وكيف يطعنون ويقولون ما لا يعلمون، وان أراد الخوارج والنواصب فكذب صريح لأنهم سودوا الدفاتر وبيضوا المحابر في إيراد المطاعن على الأمير، ولا يخفى ذلك على المتتبع الخبير، وهي قسمان قسم محض كذب وافتراء وبهتان فهذا لا يستحق جوابا لأنه من محض الهذيان. وقسم ثبت في كتب الشيعة وأهل السنة بطرق صحيحة، وروايات رجيحة، فهذا لا بد له من الجواب، فلنورد ذلك في هذا الكتاب.

فمن جملة ذلك أن الأمير كرم الله تعالى وجهه صار متصرفا بسلاح عثمان وماله بعد قتله مع أنه غير وارث، ولا يوهب له بل طلب كما نظم الوليد ابن عقبة في هذا الباب عدة أشعار:

ألا ما لليلى لا تغور كواكبُهْ ** إذا غاب نجم لاح نجم نراقبُهْ

بني هاشم رُدّوا سلاحَ ابن أختكم ** ولا تَنْهبوه لا تحلُّ مناهِبُةْ

بني هاشم لا تعجلونا فإنه ** سواءٌ علينا قاتلوه وسالبه

وأنا وأياكم وما كان منكم ** كصدع الصفا لا يرأب الصدع شاعِبُهْ

بني هاشم كيف التقاعد بيننا ** وعند عليٍّ سيفه وحرائبُهْ

لعَمركَ لا أنسى ابنَ أَرْوَى وقتلَه ** وهل ينسيَنّ الماءَ ما عاش شارِبُهْ

همُ قتلوه كي يكونوا مكانَه ** كما غدرتْ يوما بكسْرى مزاربُهْ

ومنها إن الأمير أختار في حق إمهات الأولاد مذاهب مختلفة ولم يقر على مذهب، فكان أولا قائلا بصحة بيعهن ثم دخل في الإجماع الذي أنعقد في عهد عمر رضي الله تعالى عنه، ثم أفتى بخلافته بالصحة حتى قال له القاضي شريح: « رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك »، مع أنه هو قال: « ألا إن يد الله تعالى على الجماعة، وغضب الله على من خالفها »، وأيضا قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقْ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ } الآية فخالف الإجماع صراحة.

ومنها انه قضى في الجد بالقضايا المختلفة ولم يستقر على واحدة، مع إنه قال: « من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد ».

ومنها إن البخاري روى إن عليا أتى بزناقة فحرقهم بالنار، وقد أنكر عليه هذا الأمر ابن عباس إنكارا عظيما، والأمير أيضا ندم، وقصة إحراقه بالنار موجودة في كتب الشيعة أيضا، روى الشريف المرتضى في ( تنزيه الأئمة ) إن الأمير أحرق رجلا أتى غلاما في دبره، والحديث الصحيح المجمع عليه: « لا تعذبوا بالنار ».

ومنها إنه جلد رجلا في حد الخمر ثلاثين جلدة، ولما مات أدى ديته، وقال إنما وديته لأن هذا شيء فعلناه برأينا، مع انه كان أشار على عمر لذلك فعرض له الشك في اجتهاده، ومنها انه جلد وليد بن عقبة أربعين جلدة، واكتفى بها فداهن في حدود الله تعالى لقرابة هذا من عثمان، ومنها انه عفا عن القصاص والحد عمن أقر بذلك وهذا خلاف النفس بالنفس: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ } أي في حدوده.

ومنها انه أمر برجم مولاة حاطب، ولا رجم على الإماء والعبيد، ومنها ان زيد بن ثابت إلزمه إلزاما صريحا في باب المكاتب بأنه عبدٌ ما بقي عليه درهم، وكان مذهب الإمام انه حر بقدر ما أدى وعبد بقدر ما لم يؤد، كما هو منقول في الصحاح، ومنها إنه رضي بالتحكيم أولا، ثم قال: « لقد عثرت عثرة لا تنجبر سوف أكيس بعدها واستمر، واجمع الأمر الشتيت المنتشر »، مع ان نقض التحكيم لا يجوز.

ومنها ما رواه الشعبي إن عليا قطع يد السارق من أصول الأصابع، فما علم الحد فكيف يليق بالإمامة؟، ومنها انه قبل شهادة الصبيان بعضهم على بعض، مع ان قول الصبي لا اعتبار به بالبداهة، وقال تعالى: { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ... الآية }، ومنها انه أقرر نصف الآية في الاقتصاص بعين الأعور، بأن يأخذ هو من فقأ عينه اقتصاصا ذلك مع انه خلاف صريح العين بالعين، ومنها انه أقام حد الساق على صبي كما هو موجود في كتب الشيعة مع انه روى: « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ... الحديث ».

ومنها إن محمد بن بابويه روى في ( الفقيه ): « إنه جاء رجل إلى الأمير، فأقر بسرقة إقرارا يقطع به اليد، فلم يقطع »، والمداهنة في الحدود كبيرة، ومنها ما رواه هذا أيضا انه زاد عشرين جلدة في حد الخمر على النجاشي الشاعر لما شرب في رمضان، والزيادة في الحدود لا تجوز، ومنها ما أورده المرتضى في ( التنزيه ) إن الأمير أتى بمال من مهور البغايا فقال: ارفعوه حتى يجيء عطا غني وباهلة، مع ان تلك الأمور سحت وحرام صرف.

ومنها انه قضى في بيع الصرف من الدراهم السود بما يخالف قوله ﷺ: « لا تبيعوا الدرهم بالدرهم »، ومنها انه تكلم بما يشعر بدعوى الألوهية كما في خطبة البيان التي رواها أصبغ بن نباتة من رجال الشيعة: « أنا أخذت العهد على الأرواح في الأزل أنا المنادي ألست بربكم » وكذا قوله: « أنا منشئ الأرواح »، وقوله في خطبة الافتخار كما رواه رجب بن محمد بن رجب البرسي في كتابه: ( مشارق أنوار اليقين ): « أنا صاحب الصور أنا مخرج من في القبور »، وقوله أنا حي لا يموت أنا جاوزت بموسى البحر وأغرقت فرعون وجنوده، أنا الجبال الشامخات وفجرت العيون الجاريات، أنا ذلك النور الذي اقتبس موسى منه الهدى.

ومنها انه لم يرض بإمارة طلحة والزبير على الكوفة والبصرة وولي أقاربه في اليمن وغير ذلك، مع إنهما أحق بالإمارة منهم، ومنها انه توقف في إقامة القصاص على قتلة عثمان مع انه لم يثبت عليه شيء موجبات القتل، ومنها إنه أهان أبا موسى الأشعري ونهب أمواله وأحرق داره وكذا أهان أبا مسعود الأنصاري، ومنها انه كان في قصة الأفك من المسلمين كما رواه البخاري مع ان الله تعالى يقول: { لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ... الآية }، فعمل بخلاف ما يقتضيه الإيمان، ومنها انه تبرأ من قتل عثمان ولما ساءت به قلوب القاتلين، قال قتلة الله وأنا معه وهذا لي اللسان، وهو خلاف الصدق والإخلاص. وهكذا مطاعن النواصب خذلهم الله تعالى وشبهاتهم في إبطال إمامته لا يسع المقام ردها ولا إيرادها.

وللقوم كتب في ذلك ولكنا نجيب عن هذه المطاعن الركيكة بطريق الإجمال، لئلا يطول المقال ويحصل الملل والملام، ويخرج الكلام عن دائرة المرام، فنقول على أصول أهل السنة إن سلاح عثمان من قبيل ما يتعلق ببيت المال ومن لوازم الخلافة كالخيول والمدافع ونحوها في زماننا، والأمير أحق والورثة لم يفهموا ذلك فسئلوا، وأيضا الأمير مجتهد والرجوع جائز وحتى للشيخين وعثمان والإجماع في عهد عمر لم يكن عند الأمير إجماعا قطعيا بل لعله كان ظنيا ومخالفته جائزة كالسكوتي، على انه من شرط الإجماع عند الأكثر بقاء أهله على قولهم والأمير منهم وقد تغير فالإجماع في حقه لم يبق إجماعا.

والاختلاف في حكم الجد طويل الذيل جدا في زمن الخلفاء، فمراد الأمير في قوله من أراد.. الخ إن مسألة الجد كما تعلمون طويلة الباع، كثيرة النزاع، فمن قال قولا جازما معتقدا فساد باقي الأقوال، فهو غير محتاط وغير مبال، وهذا حال الراسخين من العلماء العاملين في الأقوال المختلف فيها، وإحراق اللوطي والزنادقة غفلة في الاجتهاد، ولما سمع ندم واستيعاب جميع الأخبار غير لازم، وقد وقع للصديق التوقف في ميراث الجدة إلى أن اخبره مغيرة بن شعبة ومحمد بن سلمة مع انه مجتهد بالإجماع وأداء الدية للاحتياط لا للشك، وهو كمال لا نقص فيه، ولا طعن يعتريه والاكتفاء بأربعين جلدة لتطرق الشبهة في شهادة حده، إذ البعض شهد بالشرب والآخر بالأستقائة، حتى قال عثمان: « ما تقيئها إلا وقد شربها »، لكن الأمير اكتفى للاحتياط بأقل الحدين، ومعاذ الله تعالى من تقصير الأمير للمراعات مع أن عثمان حث الحث الشديد، بكمال الرغبة والتأكيد على استيفاء الحد كما تشهد به التواريخ المتفق عليها.

والعفو عن القصاص من أولياء المقتول بمشورة الأمير، لأن المعفو عنه كان قد هرب وقد اتهم غيره، فلم يسعه غير الإقرار لقوة أمارات فيه من تلطخ ثوب وسكين، وخروجه من مكان فيه المقتول، فلما سمع القاتل خبر هذا الرجل رجع قائلا: أنا القاتل حقا، فقال الأمير: « إنك وان قتلت نفسا ولكنك أحييت أخرى، إذ خلصت بريئا، فأنت حري بالعفو فلما سمع الأولياء كلام الأمير عفوا عنه، فأين الطعن هنا؟ هكذا في كتبٍ معتبرة ».

ورجم الأمة يجوز أن يكون بعد العتق أو لم يطلع على كونها أمة، وإلزام زيد له في مسألة لا حقارة فيه، فقد نقل عن عمر انه قبل الإلزام بقول امرأة، وقال: « كل الناس أفقه من عمر حتى المخدرات في الحجال »، ونقض التحكيم؛ لأن أحدهما قد خُدع وهو إنما يلزم لو كان بتأمل وتفكر من الطرفين دون خديعة ومكر في البين.

وقطع يد السارق من أصول الأصابع من خطأ الجلاّد، وقبول شهادة الصبيان فيما يجري منهم صحيح، وقد قال به مالك لتعذر حضور البالغين معهم فهي كشهادة الكفار بعضهم على بعض، وتقرير أخذ نصف الدية لعين الأعور مبني على دقيقة فقهية إذ عينه منحصرة في فرد فلها حكم العينين فمن فقأ قصاصا مثل هذه العين التي لها حكم العينين فكأنه فقأ عينا أخرى زائدة من حقه فلزم عليه الدية.

وأما الاقتصاص منه فلما قال الله تعالى: { وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ } فصار جائزا، فههنا قد تحقق العمل بالحقيقة والشبهة كليهما، وهذا وان لم يكن مذهب أحد لكن يمكن أن يبين نظيره في قواعد الشرع، كأخذ بنت اللبون في الصدقات مكان بنت المخاض ورد الزائد في المقيمة.

وبالجملة الطعن في الاجتهاديات غاية الوقاحة، وحد السرقة للصبي كذب أو من قبيل السياسة، كالضرب على الصلاة، تدبر. وزيادة عشرين جلدة كذلك، ورواية المهور لا أصل لها، بل هي كذب محض، بل في الاستيعاب عند ذكر المختار ما يخالفها، فانظر هناك.

ويجوز التفاضل في بيع الدراهم السود إذا غلب الغش بعد إنقطاع رواجها وزوال حكم الثمنية عنها، وعليه الشافعية، بل في الفلوس الرائجة أيضا عندنا على الأصح، فلعل قول الأمير من هذا القبيل، والمراد بالدراهم في الحديث الفضة الخالصة، أو الدراهم الرائجة، وخطب البيان والافتخار ليست في كتبنا، بل قالوا بوضعها وعلى الفرض فكلام جذب وغلبة حال، وهذا كثير من الأولياء الكرام، ما عدا الإمام، وهم معذورون، ولا يسألون إذ ذاك عما يفعلون، أو هذا التكلم حكاية عن لسان الحال فتدبر.

وتولية الأقارب وقعت لعثمان أيضا، ولا بأس بها إذا تضمنت مصلحة كما لا يخفى.

والتوقف في قتلة عثمان كان لعدم التعيين، والتفتيش على الأولياء لا على الخليفة، وإهانة أبي موسى وحرق بيته من مالك الأشتر لا من الأمير، بل لم يكن مطلعا كما في تاريخ الطبري، وإهانة أبي مسعود لحمايته جانب البغاة، وتسليمه في حق الطاهرة قبل نزول الآية ولا محذور؛ لأن الخبر محتمل للصدق والكذب، ومن لم يسمع يخل، وقوله قتله الله وأنا معه من قبيل التورية رفعا للضر، كقول إبراهيم في زوجته أختي.

وبالجملة هؤلاء الفرق كحجارة الطاهرة بعضهم أنجس من بعض ! والحمد لله على دين الإسلام.

فصل [ رجعة الإمام ]

لا رجعة في الدنيا بعد الموت، وقالت الإمامية بها للنبي ﷺ ووصيه وسبطيه وأعدائهم من الخلفاء والأمراء وكذا الأئمة الآخرون وقاتليهم يحيون بعد ظهور المهدي ويعذبون ويقتصون منهم، ثم يموتون ويحيون يوم القيامة، وهذا مخالف لصريح آيات منها: { وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }، ومنها: { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } إلى غير ذلك.

وقال المرتضى في ( المسائل الناصرية ): « ان أبا بكر وعمر يصلبان على شجرة في زمن المهدي، قيل خضراء فتيبس، ويرتد كثيرون، وقيل بالعكس فيهتدي كثيرون »، وقال جابر الجعفي: « إن الأمير سيرجع والدابة في القرآن رمز إليه »، نستغفر الله من سوء الأدب.

والدليل العقلي على أصولهم يبطل هذا الاعتقاد لأنهم أن عذبوا بسوء أعمالهم في الدنيا، ثم عذبوا في الآخرة كان ظلما أو لم يعذبوا حصل التخفيف الأبدي وهو مناف لعظم الجناية، وأيضا لو كان المقصود من أحيائهم تعذيبهم في الدنيا فقط فذاك حاصل في عالم القبر فيكون عبثا وننزه الله تعالى عنه أو إظهار جنايتهم، فالأولى بذلك الإظهار من كانوا معتقدين بحقية خلافتهم وممدين لهم وناصرين، وأيضا في هذا التأخير ترك الأصلح إذ قد مضى أكثر الأمة على الضلالة، وأيضا يلزم على هذا التقدير ان النبي والوصي والأئمة لا بد لهم أن يذوقوا موتا زائدا على سائر الناس، وظاهر ان الموت شديد فلا ينبغي إذاقته للمحبوب.

وأيضا يلزم مذلة الأمير والسبطين حيث لم يأخذوا الثأر بعد مضي هذه المدة إلا بواسطة المهدي، ولم ينتقم الله تعالى من أعدائهم إلا حينئذ، وبالجملة المفاسد في هذا كثيرة والاعتراضات غزيرة، والذي ألجأهم تخيلات باطلة، وتسلّيات عاطلة.

فصل [ الإمامة تكفر الذنوب ! ]

إن الله تعالى يعذب من يشاء ويرحم من يشاء، قالت الإمامية كلهم أن أحدنا لا يعذب بصغير ولا كبير لا في القيامة ولا في القبر، وحب علي كاف في الخلاص إذ لات حين مناص، تبا لهم أولا يفقهون ان حب الله تعالى ورسوله بلا إيمان ولا عمل غير كاف، وهذا غير خاف، وهذا في الأصل مأخوذ من اليهود حيث قالوا: { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاّ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ، فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ }، وعمدة ما يتمسكون به مفتريات وضعها الضالون المضالون، وتلقتها الحمقاء الجاهلون.

منها ما روى بن بابويه القمي في ( علل الشرائع ) عن المفضل بن عمر قال قلت لأبي عبد الله: « لم صار عليّ قسيم الجنة والنار، قال: لأن حبه إيمان وبغضه كفر، لا يدخل الجنة إلا محبوه، ولا يدخل النار إلا باغضوه »، ويدل على الوضع المخالف للكتاب، وأيضا إن حب الأمير ليس الإيمان وإلا بطلت التكاليف ولإتمام المشترك، لأن التوحيد والنبوة أصل قوي وأهم، فهو جزء من أجزاء الإيمان، فلا يكفي وحده لدخول الجنة، وأيضا لا يدخل النار إلا مبغضوه يدل على أن لا يدخل أحد من الكافرين الغير الباغضين كفرعون وهامان لأنهم لم يعرفوا، فلم يبغضوا سبحانك هذا بهتان عظيم.

سلمنا ما يريدون لكن لا يثبت المطلوب أيضا؛ لأن حاصل لا يدخل الجنة إلا محبوه: أن لا يدخل الجنة من لا يحب عليا، لا أن كل من يحبه يدخلها والمدعى هذا لا ذاك، والفرق واضح، فلهذا روى ابن بابويه القمي رواية أخرى عن ابن عباس انه قال: قال رسول الله ﷺ: « جاءني جبريل وهو مستبشر فقال: يا محمد إن الله الأعلى يقرئك السلام وقال: محمد نبيي وعلي حجتي لا أعذب من والاه وإن عصاني، ولا أرحم من عاداه وان أطاعني ».

ويدل على وضعهما لزوم التفصيل كيف ولا خوف على العاصي، ولو منكر للرسول بحب علي، ولا منفعة للمطيع ولو مؤمنا ببغضه، وهي مخالفة أيضا لنصوص قاطعة كقوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا }، وقوله تعالى: { وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا } إلى غير ذلك.

على أن التكاليف تكون عبثا لم يبق إلا الحب والبغض وفيه الإغراء للنفوس وإمداد الشيطان ومفاسد شتى على انه لم يذكر ذلك في القرآن، وانظر إلى مرويات لهم أخر تناقض ما سبق وتعارضه لكن الكذاب كما قيل لا حافظة له

منها ما روى سيدهم وسندهم حسن بن كبش عن أبي ذر قال: « نظر النبي ﷺ إلى علي فقال: هذا خير الأولين والآخرين من أهل السموات وأهل الأرض، هذا سيد الصدّيقين، هذا سيد الوصيين وإمام المتقين وقائد الغر المحجلين، إذا كان يوم القيامة كان على ناقة من نوق الجنة، قد أضاءت عرصة القيامة من ضوئها، على رأسه تاج مرصع من الزبرجد والياقوت، فتقول الملائكة: هذا ملك مقرب، ويقول النبيون: هذا نبي مرسل، فينادي المنادي من تحت بطلان العرش: هذا الصديق الأكبر، هذا وصي حبيب الله تعالى علي بن أبي طالب، فيقف على متن جهنم فيخرج منها من يحب، ويدخل فيها يبغض، فيأتي أبواب الجنة، فيدخل فيها من يشاء بغير حساب ».

ولا يخفى أن هذه ناصة على ان بعض العصاة ممن يحب الأمير يدخلون النار، ثم يخرجهم الأمير ويدخلهم الجنة، فإن كانوا محبيه فلِمَ دخلوا؟ وان لم يكونوا فلِمَ خرجوا؟ وأيضا تدل على كذب الحصر السابق في قوله: « لا يدخل الجنة إلا محبوه ولا يدخل النار إلا باغضوه »، فالرواية باطلة.

ومنها ما روى ابن بابويه القمي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه انه قال: قال رسول الله ﷺ: « إن عبدا مكث في النار سبعين خريفا كل خريف سبعون سنة، ثم انه سئل الله تعالى بحق محمد وآله أن يرحمه، فأخرجه من النار وغفر له »، انتهى. فإن كان هذا محبا فلم يعذب وإلا فلم يدخل الجنة، فلينظر في كلامهم وليتأمل.

===============

خاتمة نسأل الله حسنها

في دفع مطاعن أهل الأهواء [ عن ] الكرام من الصحابة والخلفاء

وليعلم أولا انه لم يسلم أحد من الكلام عليه، وإلقاء التهمة بين يديه، ولله تعالى در من قال:

قيل إن الإله ذو ولد ** قيل ان الرسول قد كهنا

ما نجا الله والرسول معا ** من لسان الورى فكيف أنا؟

ومه هذا لا يخفى على ذوي الألباب، إن مطاعنهم من عواء الكلاب، بل لعمري انه لصرير باب أو طنين ذباب

وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ ** فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ

فدونك فأنظر فيها وتأمل بظواهرها وخوافيها:

المطاعن الأولى في حق الصديق الأجل

فمنها انه صعد يوما على منبر رسول الله ﷺ ليخطب فقال له السبطان أنزل عن منبر جدنا، فعلم الناس أن ليس له لياقة الإمامة، والجواب بعد التسليم أن السبطين إذ ذاك صغيرين، فإن الحسن ولد في الثالثة من الهجرة في رمضان والحسين في الرابعة منها في شعبان، والخلافة في أول الحادية عشر منها فأفعلهما ان اعتبرت بحيث يترتب عليها الأحكام لزم ترك التقية الواجبة وإلا فلا نقص ولا عيب، فمن دأب الأطفال انهم أن رأوا احدا في مقام محبوبهم، ولو برضائه يزاحمونه ويقولون له قم عن هذا المقام، فلا يعتبر العقلاء هذا الكلام، وهم وان ميزوا عن غيرهم لكن للصبي أحكام، ولهذا اشترط في الاقتداء البلوغ إلى حد كمال العقل، ألا ترى ان الأنبياء لم يبعثوا إلا على رأس الأربعين إلا نادرا كعيسى، والنادر كالمعدوم.

ومنها أنه درأ الحد عن خالد بن الوليد أمير الأمراء عنده، ولم يقتص منه أيضا، ولهذا أنكر عليه عمر رضي الله تعالى عنه لأنه قتل مالك بن نويرة مع إسلامه، ونكح امرأته في تلك الليلة ولم تمضِ عدة الوفاة.

وجوابه أن في قتله شبهة، إذ قد شهد عنده أن مالك وأهله أظهروا السرور فضربوا بالدف وشتموا أهل الإسلام عند وفاة النبي ﷺ، بل وقد قال في حضور خالد في حق النبي ﷺ قال: « رجلكم أو صاحبكم كذا »، وهذا التعبير إذ ذاك من شعار الكفار والمرتدين، وثبت عنده أيضا انه قال لما سمع بالوفاة فردّ صدقات قومه عليهم، [ وقال ]: قد نجوتم من مؤنة هذا الرجل، فلما حكى هذا للصديق لم يوجب عليه القصاص ولا الحد إذ لا موجب لهما فتدبر.

وعدم الاستبراء بحيضة لا يضر أبا بكر وخالد غير معصوم، على أنه لم يثبت انه جامعها في تلك الليلة في كتاب معتبر، على أنه قد أجيب عنه بأن مالكا كان قد طلقها وحبسها عن الزواج على عادة الجاهلية مدة مضى العدة فالنكاح حلال هنا، ثم ان الصديق قد حكم في درء القصاص حكم رسول الله ﷺ، إذ قد ثبت في التواريخ ان خالدا هذا غار على قوم من المسلمين فجرى على لسانهم: صبأنا صبأنا، أي صرنا بلا دين، وكان مرادهم أنّا تبنا عن ديننا القديم، ودخلنا الصراط المستقيم، فقتلهم خالد حتى غضب عبد الله بن عمر فاخبر النبي ﷺ فأسف وقال: اللهم إني ابرأ إليك مما صنع خالد، ولم يقتص منه ولم يؤدهم فالفعل هو الفعل.

على أن الصديق أودى، ويجاب أيضا أنه لو كان توقف الصديق في القصاص طعنا لكان توقف الأمير في قتله عثمان اطعن وليس فليس، وأيضا استيفاء القصاص إنما يكون واجبا لو طلبه الورثة وليس فليس، بل ثبت أن أخاه متمم بن نويرة اعترف بارتداده في حضور عمر مع عشقه ومحبته فيه محبة تضرب بها الأمثال:

وكنا كندماني جذيمة حقبة ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا

فلما تفرقنا كأني مالكا ** لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

ثم ان عمر ندم على ما كان من إنكاره زمن الصديق، والله ولي التوفيق.

ومنها انه تخلف عن جيش إسامة المجهز للروم مع انه ﷺ أكد التأكيد الشديد حتى قال جهزوا جيش إسامة لعن الله من تخلف، وجوابه ان كان الطعن من جهة عدم التجهيز فهذا افتراء صريح لأنه جهز وهيأ وان كان من جهة التخلف فله عدة أجوبة: الأول ان الرئيس إذا عين رجلا مع جيش ثم أمر بخدمة من خدمات حضوره، فقد استثناه وعزله والصديق لأمره بالصلاة كذلك، فالذهاب أما ترك الأمر أو ترك الأهم وهو محافظة المدينة المنورة من الأعراب.

الثاني إن الصديق قد انقلب له المنصب لأنه كان آحاد المؤمنين فصار خليفة النبي ﷺ، فانقلبت الأحكام، ألا ترى كيف انقلبت أحكام الصبي إذا بلغ والمجنون إذا فاق والمسافر إذا اقام والمقيم إذا سافر إلى غير ذلك، والنبي ﷺ لو عاش لما ذهب فالخليفة لكونه قائما مقامه يكون كذلك.

الثالث إن الأمر عند الشيعة ليس مختصا بالوجوب كما نص عليه المرتضى في الدرر والغرر فلا ضرر في المخالفة، وجملة لعن الله من تخلف مكذوبة لم تثبت في كتب السنة.

الرابع إن مخالفة آدم ويونس لحكم الله تعالى بلا واسطة قد ثبت عند كتب الشيعة، فالإمام لو خالف أمرا واحدا لا ضير فتدبر.

ومنها إن النبي ﷺ لم يأمر أبا بكر قط على أمر مما يتعلق بالدين، فلم يكن حريا بالإمامة، الجواب إن هذا كذب محض يشهد على ذلك السير والتاريخ، فقد ثبت تأميره لمقاتلة أبي سفيان بعد أحد، وتأميره أيضا في غزوة بني فزارة كما رواه الحاكم عن سلمة بن الأكوع، وتأميره في العام التاسع ليحج بالناس أيضا ويعلمهم الأحكام من الحلال والحرام، وتأميره أيضا بالصلاة قبل الوفاة إلى غير ذلك مما يطول.

ويجاب أيضا على تقدير التسليم بأن عدم الجعل ليس لعدم اللياقة، بل لكونه وزيرا ومشيرا على ما هو العادة، روى الحاكم عن حذيفة بن اليمان انه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: « اني أريد أن أرسل الناس إلى الأقطار البعيدة الممتدة لتعليم الدين والفرائض كما كان عيسى أرسل الحواريين، قال من الحضار يا رسول الله مثل هؤلاء الناس موجودون فينا كأبي بكر وعمر، وقال انه لا غنى لي عنهما إنهما من الدين كالسمع والبصر ».

وأيضا قال ﷺ: « أعطاني الله تعالى أربعة وزراء وزيرين من أهل السماء ووزيرين من أهل الأرض، فأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر »، وأيضا لو كان عدم الإرسال موجبا لسلب للياقة يلزم عدم لياقة الحسنين معاذ الله تعالى من ذلك.

ومنها ان أبا بكر ولى عمر أمور المسلمين مع أن النبي ﷺ ولاه على أخذ الصدقات سنة ثم عزله، فالتولية مخالفة ويجاب بأن هذا محض جهالة، فيقال لانقطاع العمل عزل، وعلى تقدير العزل فأين النهي عن توليته كي تلزم المخالفة بالتولية فافهم.

ومنها أن النبي ﷺ جعله وعمر تابعين لعمرو بن العاص وإسامة أيضا، ولو كانا لائقين لأمّرهما، ويجاب بأن ذلك لا يدل على الأفضلية ونفي اللياقة إذ المصلحة ربما اقتضت ذلك فإن عمرا ذا خديعة ومكر وحيل عارفا بمكائد الأعداء ولم يكن غيره فيها كذلك كما يولي مثل هذا لأخذ السارقين وعسس الليل ونحوهما مما لا يولي عليه إلا الأكابر، وإسامة استشهد أبوه على يد كفار الشام والروم فكان ذلك تسلية له وتشفية. وأيضا مقصود النبي ﷺ من ذلك أطلاعهما على حال التابع والمتبوع كما هو شأن تربية الحكيم خادمة فلا تغفل.

ومنها أن أبا بكر استخلف والنبي ﷺ لم يستخلف فقد خالف، ويجاب بأنه ﷺ أشار بالاستخلاف والإشارة إذ ذاك كالعبارة، وفي زمن الصديق كثر المسلمون من العرب والعجم وهم حديثوا عهد بالإسلام وأهله، فلا معرفة لهم بالرموز والإشارات، فلا بد من التنصيص والعبارة حتى لا تقع المنازعات والمشاجرات، وفي كل زمان رجال، ولكل مقام مقال.

وأيضا عدم استخلاف النبي ﷺ إنما كان لعلمه بالوحي، بخلاف الصديق كما ثبت في صحيح مسلم ولا كذلك الصديق إذ لا يوحى إليه ولم تساعده قرائن فعمل بالاصلح للأمة ونعم ما عمل فقد فتح البلاد ورفع قدر ذوي الرشاد، وباد الكفار واعاذ الأبرار.

ومنها ان أبا بكر كان يقول: « إن لي شيطانا يعتريني فإن استقمت فأعينوني وإن زغت فقوموني »، ومن هذا حاله لا يليق بالإمامة، ويجاب بأن هذا غير ثابت عندنا فلا إلزام، بل الثابت انه أوصى عمر قبل الوفاة قال: « والله ما نمت فحلمت، وما شبهت فتوهمت، وأني لعلى السبيل ما زغت ولم آل جهدا، واني أوصيك بتقوى الله تعالى ».. الخ.

نعم أول خطبة خطبها على ما في مسند الإمام أحمد: « يا أصحاب الرسول أنا خليفة الرسول فلا تطلبوا مني الأمرين الخاصين بالنبي ﷺ الوحي والعصمة من الشيطان... وفي آخرها لست معصوما فاطاعتي فرض عليكم، فما وافق سنة الرسول وشريعة الله تعالى من أمور الدين، ولو أمرتكم فرضا بخلافها لا تقبلوه مني ونبهوني »، وهذا عين الأنصاف.

ولما كان الناس معتادين عند المشكلات الرجوع إلى وحي ألهي، وإطاعة النبي ﷺ كان لازما على الخليفة التنبيه على الاختصاص بالجناب الكريم، وأيضا روى في الكافي للكليني رواية صحيحة عن جعفر الصادق: « ان لكل مؤمن شيطانا يقصد إغوائه ».

وفي الحديث المشهور ما يؤيد هذا أيضا، ومن جملته: « حتى أنت يا رسول الله؟ قال: نعم ولكن الله غلبني عليه فاسلم »، فأين الطعن فيما ذكروه؟ والمؤمن من يعتريه الشيطان بالوسوسة فيتبينه قال تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ } نعم النقصان الاتباع وهو بمعزل عنه، إلى غير ذلك من مطاعنهم المدفوعة بأول النظر ولمح البصر.

المطاعن الثانية في حق الفاروق رضي الله تعالى عنه

منها، وهو عمدة مطاعنهم، ما روى البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: « انه ﷺ طلب في مرض موته دواةً وقرطاسا ليكتب كتابا لن يضلوا بعده، فاختلف الحضار في الإتيان بها وعدمه، وقال عمر حسبنا كتاب الله الذي عندنا وكثر اللغط فقال أحدهم: اهجر، عرض له فاسألوه عما يريد بهذا القول، فسألوا النبي ﷺ عن ذلك فقال: قوموا عني »، إذ لا ينبغي التنازع ورفع الصوت عند الأنبياء فترك تحرير الكتاب بسبب ما وقع من النزاع.

فرد عمر قوله عليه الصلاة والسلام وهي وحي لقوله تعالى: { وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى } ورد الوحي كفر لقوله تعالى: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ }، وانه قال: أهجر عرض له مع ان الأنبياء معصومون عن مثل ذلك، وأقوالهم وأفعالهم في جميع الأحوال معتبرة، وانه رفع الصوت وتنازع في حضرته عليه الصلاة والسلام، وقد قال تعالى: { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ }، وانه اتلف حق الأمة إذ لو كتب ذلك الكتاب لحفظت الأمة من الضلال، ولم ترهم في كل وادٍ يهيمون ووبال جميع ذلك على عمر.

والجواب عن الأول، على فرض تسليم ان هذا القول صدر من الفاروق فقط، ان الأمر منه عليه الصلاة والسلام لم يكن إلا من باب الاستحباب، وهو أمر إرشاد وإصلاح ولم يكن لأمر ضروري، وأن عمر قصد راحته عليه الصلاة والسلام في حال شدة المرض، ومثل هذه المخالفة لا تعد فسقا، وقد وقع للأمير كرم الله تعالى وجهه بخصوصه مثل هذه المخالفة عام الحديبية، فإنه كتب في كتاب الصلح: « هذا ما عاهد عليه محمد رسول الله... »، فلم يرض المشركون بهذا العنوان، وقالوا: « لو كنا نعلم أنه رسول الله ما حاربناه »، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يمحو ذلك، وبالغ فيه، فلم يفعل حتى محاه عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة.

بل وقع منه كرم الله تعالى وجهه ما يرى أشد من ذلك، فقد صح من طرق متعددة أن النبي ﷺ ذهب إلى بيت البتول رضي الله تعالى عنهما ليلة، وأيقضهما لصلاة التهجد، وأمرهما بها فقال الأمير: « والله لا نصلي إلا ما كتب الله لنا، وإنما أنفسنا بيد الله لو وفقنا لصلينا فرجع عليه الصلاة والسلام وهو يضرب فخذيه ويقول: وكان الإنسان أكثر شيء جدلا ». ومع ذلك فأهل السنة لا يطعنون على الأمير بمثل هذه المخالفات، فكيف يطعنون على بما هو أخف منها؟

ثم ان قولهم أقوال الرسول كلها وحي مردود؛ لأنها لو كانت كذلك فلِمَ قال الله تعالى: { عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ }، وقال تعالى: { وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }، وقال تعالى: { وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ }، وقال تعالى في المعاتبة عن أخذ الفدية من أسارى بدر: { لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }.

وأيضا يلزم ان الأمير أيضا قد رد الوحي حين أمره النبي ﷺ بالتهجد ومحو اللفظ مع انهم لا يقولون بذلك، والجواب عن الثاني ان قائل هذا القول ليس عمر، وقد ورد في أكثر الروايات قالوا: بصيغة الجمع استفهموا على طريق الإنكار، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لا يتكلم بالهذيان البتة، وكانوا يعلمون انه عليه الصلاة والسلام ما خط قط، بل كان يمتنع صدور هذه الصنعة منه ﷺ لقوله تعالى: { وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } ولذا قالوا: فأسلوه.

وتحقيق ذلك إن الهجر في اللغة هو اختلاط الكلام بوحه غير مفهم، وهو على قسمين لا نزاع لأحد في عروضه للأنبياء عليهم السلام وهو عدم تبين الكلام لجة الصوت وغلبة اليبس بالحرارة على اللسان، كما في الحميات الحارة وقد ثبت بإجماع أهل السير ان النبي عليه الصلاة والسلام، قد عرضت له بحة الصوت في مرض موته ﷺ، وقسم هو جريان الكلام الغير المنتظم المخالف للمقصود على اللسان بسبب الغشي العارض بسبب الحميّات المحرقة في الأكثر وهذا القسم وأن كان ناشئا من العوارض البدنية، ولكن قد اختلف العلماء في جواز عروضه على الأنبياء فجوزه بعضهم قياسا على النوم، ومنعه آخرون قياسا على الجنون فلعل القائل بذلك القول أراد القسم الأول.

والجواب عن الثالث على فرض التسليم ان رفع صوته إنما كان صوت غيره من الحاضرين لا على صوت النبي ﷺ، وقوله عليه السلام: « قوموا عني » من قبيل قلة الصبر للمريض فانه يضيق صدره إذا وقعت منازعة في حضوره، وما يصدر من المريض في حق أحد لا يكون محلا للطعن عليه، مع ان هذا الخطاب كان لجميع الحاضرين ومنهم الأمير كرم الله تعالى وجهه.

والجواب عن الرابع ان الإتلاف إنما يتحقق لو حدث حكم من الله تعالى نافع للأمة، وقد منعه عمر وقوله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ }.. الآية يدل على عدم الحدوث، بل لم يكن الكتاب إلا لمصالح الملك وتأكيد ما بلغه، وإلا فلا يتصور منه عليه الصلاة والسلام أن يقول أو يكتب في هذا الوقت الضيق ما لم يقله مع ان زمن نبوته عليه الصلاة والسلام أمتد ثلاثا وعشرين سنة، وكيف يمتنع عن ذلك بمجرد منع عمر، ولم يقله لأحد بعد ذلك من خاصة أهل بيته كالأمير كرم الله تعالى وجهه، فانه عليه الصلاة والسلام [ بقي ] بعد هذه الوقعة حيّا خمسة أيام بالاتفاق، فإن قيل لو لم يكن ما يكتب أمرا دينيا فلِمَ قال: لن تضلوا بعدي.. الخ.

قلنا للضلال معانٍ والمراد هاهنا الخطأ أي في سلوك طريق تدبير الملك، كما في قوله تعالى: { وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى } لا الضلالة والغواية عن الدين لما سبق، فقد تبين بطلان ما طعنوا به، وظهر فساده وقبيح كذبه.

ومنها انه أنكر موت الرسول ﷺ، وحلف على موته حتى قرأ أبو بكر قوله تعالى: { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ }، والجواب إن ذلك من شدة دهشته بموت قرة عينه وعيون المؤمنين أبي القاسم عليه أفضل الصلاة وأكمل السلام، حتى لم يبق له في ذلك الحين شعور بشيء، إذ كثيرا ما يحصل الذهول وتدهش العقول بتفاقم الأحزان والمصائب، وتراكم الشدائد والنوائب وذلك من لوازم البشرية والأمور الطبيعية، ألا ترى ان يوشع عليه السلام مع كونه نبيا معصوما عن الآثام، نسى أن يخبر موسى بما حصل من فقد الحوت عن المكتل، بل موسى عليه السلام مع كونه من أولي العزم الهداة، قد نسى معاهدته مع الخضر على السؤال ثلاث مرات.

وقال تعالى في حق آدم عليه السلام: { فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }، وقد روى أبو جعفر الطوسي عن أبي عبد الله الجلي ان الإمام أبا عبد الله عليه السلام كان يسهو في صلاته ويقول في سجدتي السهو: « باسم الله وبالله وصلى الله على محمد وآله وسلم »، فأي ذنب لابن الخطاب في دهشته من هذا الخطاب العظيم لدى أولي الألباب؟ وأي طعن عليه بسبب ما حصل له في هذا الأمر الوخيم من فقد محبوبه عليه أفضل الصلاة وأكمل التسليم؟. فتبا لكم أيها الفرقة الضالة فقد بال الشيطان في نفوسكم الخبيثة حتى صرتم شياطين أمثاله.

ومنها ان عمر درأ حد الزنا عن المغيرة بن شعبة مع ثبوته بالبينة وهي أربعة رجال ولقّن الرابع كلمة تدرأ الحد، فقال له لما جاء للشهادة: « أرى وجه رجل لا يفضح الله به رجلا من المسلمين »، والجواب ان درأ الحد إنما يكون بعد ثبوته، ولم يثبت لعدم شهادة الرابع كما ينبغي وتليقنه الشاهد كذب وبهتان من أولئك البهتان من أولئك العدوان.

إذ قد ثبت في التواريخ المعتبرة كتاريخ البخاري وابن الأثير وغيرهما انه لما جاء الرابع وهو زياد بن أبيه قالوا له أتشهد كأصحابك قال: « أعلم هذا القدر اني رأيت مجلسا ونفسا حثيثا وانتهازا، ورأيته مستبطنها أي مخفيها تحت بطنه، ورجلين كأنهما أذني حمار، فقال عمر هل رأيت كالميل في المكحلة، قال: لا ». وقد وقع ذلك بمحضر الأمير وغيره من الصحابة فأين التلقين يا أرباب الزور المفترين.

ولفظ أرى وجه.. الخ، إنما قال المغيرة بن شعبة في ذلك الحين كما هو حال الخصم مع الشهود، ولا سيما إذا كان يترتب عليه حكم موجب لهلاكه، على ان عمر لو درأ الحد لكان فعله موافقا لفعل المعصوم، فقد روى محمد بن بابويه: « ان رجلا جاء إلى أمير المؤمنين عليه السلام وأقر بالسرقة إقرارا موجبا للقطع فلم يقطع يده ». والله تعالى سبحانه وتعالى الهادي وعليه اعتمادي.

ومنها ان عمر لم يعط أهل البيت سهمهم من الخمس الثابت بقوله تعالى: { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ } فقد خالف حكم الله تعالى.

والجواب ان فعل عمر موافق لفعل النبي ﷺ، وتحقيقه ان أبا بكر وعمر كانا يخرجان سهم ذوي القربى من الخمس ويعطيانه لفقرائهم ومساكينهم، كما كان ذلك في زمن النبي ﷺ، وعليه الحنفية وجمع كثير من الإمامية، وذهب الشافعية ان لهم خمس الخمس يستوي فيه غنيهم وفقيرهم ويقسم بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، ويكون بين بني هاشم والمطلب دون غيرهم.

والأمير أيضا عمل كعمر عمر فقد روى الطحاوي والدارقطني عن محمد بن إسحاق انه قال: « سألت أبا جعفر محمد بن الحسن ان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لما ولي أمر الناس كيف يصنع في سهم ذوي القربى؟ فقال: سلك به والله مسلك أبي بكر وعمر ». إلى غير ذلك من رواياتهم، فإذا كان فعل عمر موافقا لفعل النبي والأمير كيف يكون محلاّ للطعن؟!.

ومنها ان عمر أحدث في الدين ما لم يكن منه كصلاة التراويح وإقامتها بالجماعة، فإنها بدعة كما اعترف هو بذلك وكل بدعة ضلالة، وقد روى عن النبي ﷺ: « من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد عليه ».

والجواب انه قد ثبت عند أهل السنة بأحاديث مشهورة متواترة انه عليه الصلاة والسلام صلى التراويح بالجماعة مع الصحابة ثلاث ليالي من رمضان جماعة ولم يخرج في الليلة الرابعة وقال: « إني خشيت أن تفرض عليكم »، فلما زال هذا المحذور وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام أحيى عمر السنة السنيّة، وقد ثبت في أصول الفريقين ان الحكم إذا كان معللا بعلة في نص الشارع يرتفع ذلك الحكم إذا زالت العلة.

واعترافه بكونها بدعة حيث قال: نعمت البدعة هي، فمراده أن المواظبة عليها بالجماعة شيء حديث لم يكن في عهده عليه الصلاة والسلام، وما ثبت في زمن الخلفاء الراشدين والأئمة المطهرين مما لم يكن في زمنه عليه الصلاة والسلام لا يسمى بدعة، ولو سمي فمحمول على البدعة الحسنة، والحديث مخصوص بإحداث ما لم يكن له أصل في الشرع.

وأيضا كما أن الشيعة لم يعتقدوا بدعية صلاة الشكر يوم قتل عمر رضي الله تعالى عنه وهو يوم التاسع من ربيع الأول وتعظيم النيروز، وتحليل فروج الجواري، وحرمان بعض الأولاد من بعض التركة إلى غير ذلك من الأمور التي لم تكن في زمنه عليه الصلاة والسلام بناء على زعمهم ان الأئمة أحدثوها.

كذلك لا يعتقد أهل السنة بدعية ما أحدثه عمر إذ هو عندهم كالأئمة عند الشيعة لقوله عليه الصلاة والسلام: « ومن يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ »، والله سبحانه وتعالى الهادي.

ومنها ان عمر منع الناس من متعة النساء ومتعة الحج، مع ان كلتا المتعتين كانتا في زمن النبي ﷺ، فنسخ حكم الله وحرم ما أحل الله حيث قال: « متعتان كانتا على عهد رسول الله ﷺ وأنا أنهى عنهما ».

والجواب عن تحريم متعة النساء ان أصح الكتب عند أهل السنة الصحاح الست المشهورة، وأصحها البخاري ومسلم، وقد روى مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع وسبرة بن معبد الجهني انه عليه الصلاة والسلام حرم هو المتعة بعد ما كان احلّها ورخصها لهم ثلاثة أيام وجعل تحريمها إذ حرمها مؤبدا إلى يوم القيامة، ومثل هذه الرواية في الصحاح الأخر، وقد ثبت في الصحيحين وغيرهما من كتب أهل السنة رواية الأئمة عن الأمير بتحريمها.

فان ادعت الشيعة ان ذلك كان في غزوة خيبر ثم أحلت في غزوة الاوطاس، فمردود لأن غزوة خيبر كانت مبدأ تحريم لحوم الحمر الأهلية لا متعة النساء، فقد روى جمع من أهل السنة عن عبد الله والحسن ابني محمد بن الحنفية عن أبيهما عن الأمير كرم الله تعالى وجهه انه قال: أمرني رسول الله ﷺ أن أنادي بتحريم المتعة، فقد علم ان تحريم المتعة كان في عهد رسول الله ﷺ مرة أو مرتين، فالذي بلغه النهي امتنع عنها ومن لا فلا.

لما شاع في عهد عمر ارتكابها أظهر حرمتها وأشاعتها وهدد من كان يرتكبها، وآيات الكتاب شاهدة على حرمتها، وقد سبق في ذلك في المسائل الفقهية، فتذكر فما في العهد من قدم.

والجواب عن متعة الحج، أعني تأدية أركان العمرة مع الحج في سفر واحد في اشهر الحج قبل الرجوع إلى بيته، ان عمر لم يمنعها قط، ورواية التحريم عنه افتراء صريح، نعم انه كان يرى أفراد الحج والعمرة أولى من جمعهما في إحرام واحد وهو القران، أو في سفر واحد وهو التمتع، وعليه الإمام الشافعي وسفيان الثوري وإسحاق بن راهوية وغيرهم، لقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } الآية، فأوجب سبحانه الهدي على المتمتع لا على المفرد جبرا لما فيه من النقصان، كما أوجبه تعالى في الحج إذا حصل فيه فصور ونقص؛ ولأنه ﷺ حج في حجة الوداع مفِردا، واعتمر في عمرة القضاء وعمرة جِعِرانة كذلك، ولم يحج فيهما بل رجع إلى المدينة مع وجود المهلة.

وأما ما رووا من قول عمر رضي الله تعالى عنه وأنا انهى عنهما، فمعناه ان الفسقة وعوام الناس لا يبالون بنهي الكتاب، وهو قوله تعالى: { فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ }، وقوله تعالى: { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } إلا ان يحكم عليهم الحاكم والسلطان ويجبرهم على مراعاة ما أمروا به وما نهوا عنه؛ فلذلك أضاف النهي إلى نفسه.

فقد تبين لك ولله تعالى الحمد زيف أقوالهم وظهر لك تجاوزهم الحد في ضلالهم، والحق يعلو، وكلمة الحق تسمو.

المطاعن الثالثة في حق ذي النورين رضي الله تعالى عنه

منها إن عثمان ولّى وأمّر من صدر منه الظلم والخيانة وارتكاب الأمور الشنيعة كوليد بن عقبة، الذي شرب الخمر وأمّ الناس في الصلاة وهو سكران، وصلى الصبح أربع ركعات ثم قال وأزيدكم، وولّى معاوية الشام التي هي عبارة عن أربع ممالك، فتقوى حتى انه نازع الأمير وبغى عليه في أيام خلافته، وولى عبد الله بن سعد مصر فظلم أهلها ظلما شديدا حتى اضطرهم للمهاجرة إلى المدينة وخرجوا عليه، وجعل مروان وزيره وكاتبه، فمكر في محمد بن أبي بكر، وكتب مكان اقبلوه اقتلوه، ولم يعزلهم بعد الاطلاع على أحوالهم حتى تضجرت الناس منه فآل أمره إلى أن قتل، ومن كان هذا حاله كيف يليق بالإمامة.

والجواب ان الإمام لا بد له أن يفوض بعض الأمور إلى من يراه لائقا لما هنالك بحسب الظاهر، إذ ليس له علم الغيب فإنه ليس بشرط في الإمامة عند أهل الحق، وقد كان عماله مطيعين له ومنقادين لأوامره ظاهرا، وقد ثبت في التواريخ إنهم خدموا الإسلام وشيدوا الدين فقد فتحوا بلادا كثيرة حتى وصلوا غربا إلى أندلس وشرقا إلى بلخ وكابل، وقاتلوا برا وبحرا، واستأصلوا أرباب الفتن والفساد من أعراق العجم وخراسانها. وقد عزل بعض من تحقق لديه بعد ذلك سوء حاله كما عزل الوليد ومعاوية لم يبغِ في زمنه، حتى يستحق العزل بل قد أجرى خدمات كثيرة فقد غزا الروم وفتح منها بلادا كثيرة.

وأما الشكايات التي وقعت على عبد الله بن سعد فمن تزوير عبد الله بن سبأ وتسويلاته وبالجملة لم يكن لعثمان قصور مما هنالك، وحاله مع عماله كحال الأمير مع عماله واتباعه، لكن عمال عثمان كانوا منقادين لأوامره ومطيعين له، بخلاف عمال الأمير كرم الله تعالى وجهه ومن راجع ما سلف من خطب الأمير في حق اتباعه وجنده وأشياعه، تبين لديه صدق ذلك الكلام، وأن لا عتب على عثمان في ذلك ولا ملام.

وقد كتب الأمير كرم الله تعالى وجهه إلى منذر بن جارود العبدي: « أما بعد فصلاح أبيك غرني وظننت انك تتبع هداه وتسلك سبيله، فإذا أنت فيما نمى إلي عنك لا تدع لهواك انقيادا، ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك، وتصل عشيرتك بقطيعة... » إلى آخر ما قال رضي عنه المتعال، ومثل هذا كثير في النهج والله سبحانه الموفق للهداية، وبه نستعيذ من الضلال والغواية.

ومنها ان عثمان ادخل أبو مروان الحكم بن العاص المدينة، وقد أخرجه رسول الله ﷺ منها، والجواب ان الرسول عليه الصلاة والسلام إنما أخرجه لحبه المنافقين، وتهييجه الفتن بين المسلمين ومعاونته الكفار، وميله إلى الفجار، ولما زال الكفر والنفاق بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، وقوى الدين في خلافة الشيخين، لم يبق محذور من إرجاعه إليها.

وقد سبق مما هو مقرر عند الفريقين ان الحكم إذا علل بعلة، ثم زالت زال، وعدم إرجاع الشيخين إياه لما حصل عندهما من ظن بقائه على ما كان عليه في زمن الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد ارتفع ذلك عن عثمان زمن خلافته؛ لأن الحكم كان ابن أخيه، على ان عثمان قال لما اعترضوا عليه بذلك: اني كنت أخذت الأذن من رسول الله ﷺ في مرض موته على دخول الحكم المدينة، وعدم قبول أبي بكر ذلك مني لطلبه شاهدا آخر على أذنه عليه الصلاة والسلام له بدخول المدينة، وكذلك عمر ولما رجعت الخلافة إلى عملت بما علمت. وأيضا قد ثبت ان الحكم قد تاب في آخر عمره من النفاق، وما كان يفعله من التزوير والاختلاق، والله تعالى الهادي إلى طريق السداد، وبيده التوفيق والسداد.

ومنها ان عثمان درأ القصاص عن عبيد الله بن عمر وقد قتل هرمزان ملك الأهواز، الذي أسلم في زمن عمر بعد أن اتهمه في مشاركة من قتل عمر مع ان القاتل كان أبو لؤلؤة فقط، وقد قتل ابنته وقتل أيضا جفينة النصراني لاتهامه بذلك، وقد اجتمعت الصحابة عليه ليقتصَّ من عبيد الله، فلم يوافق وأدى ديتهم، فخالف حكم الله، فكيف يليق بالإمامة؟.

الجواب أن القصاص لم يثبت في تلك الصور؛ لأن ورثة هرمزان لم يكونوا في المدينة، بل كانوا في فارس ولما أرسل عليهم عثمان لم يحضروا المدينة خوفا كما ذكر المرتضى في بعض كتبه، وشرط القصاص حضور جميع ورثة المقتول كما ذهب إليه الحنفية، فلم يبق إلا الدية وقد أعطاها من بيت المال لا من القاتل، ولأن بنت أبي لؤلؤة كانت مجوسية وجفنة كان نصرانيا وقد قال عليه الصلاة والسلام: « لا يقتل مسلم بكافر » وهذا ثابت عندهم، على انه لو اقتص عثمان من عبيد الله لوقعت فتنة عظيمة؛ لأن بني تيم وبني عدي كانوا مانعين من القتل، وكانوا يقولون لو اقتص عثمان من عبيد الله لحاربناه، ونادى عمرو بن العاص رئيس بني سهم وقال: « أيقتل أمير المؤمنين أمس ويقتل ابنه اليوم، لا والله لا يكون هذا أبدا ». وهذا كما ثبت عندهم ان الأمير لم يقتص من قتلة عثمان خوفا من الفتنة.

ومنها ان عثمان غيّر سنة رسول الله ﷺ لأنه صلى أربع ركعات في مِنى، مع انه عليه الصلاة والسلام كان يقصر صلواته الرباعية في سفره دائما، وقد أنكر عليه جماعة من الصحابة ذلك الفعل. والجواب ان عثمان ما كان إذ ذاك مسافرا؛ لأنه تزوج في مكة وتبوّأ منزلا فيها، وأقام في تلك البقعة المباركة، ولما اطلع الأصحاب على حقيقة الحال، زال عنهم الإنكار والإشكال.

ومنها ان عثمان وهب لأصحابه ورفقائه كثيرا من أراضي بيت المال وأتلف حقوق المسلمين.

والجواب انه كان يأذن لهم بإحياء أرض الموات ومن أحياها فهي له لقوله عليه الصلاة والسلام: « موتان الأرض لله ورسوله فمن أحيا شيئا منها فهو له »، ولم يهب لأحد أرضا معمورة مزروعة، كما لا يخفى على من راجع التواريخ.

ومنها ان الصحابة كلهم كانوا راضين بقتله متبرئين منه حتى تركوه بعد قتله ثلاثة أيام بلا دفن.

والجواب ان هذا كله كذب صريح، وبهتان فضيح لا يخفى على الصبيان، فضلا عن ذوي العرفان، ألا ترى ان طلحة والزبير وعائشة الصديقة ومعاوية وعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهم قد تحاربوا لأجل قصاص قتلة عثمان، وقد ثبت عند الفريقين ان الصحابة كلهم لم يألوا جهدا في دفع البلوى عنه حتى استأذنوا منه على قتال المحاصرين، فلم يجوز لهم وكانوا مهما تمكنوا يوصلون إليه الماء ويفرجون عنه.

وجاء زيد بن ثابت مع الأنصار وقال شبابهم له: « ان شئت كنا أنصار الله مرتين »، وجاء عبد الله بن عمر مع المهاجرين وقال: « ان الذين خرجوا عليك قد أمنوا سيوفنا، واستأذنه لقتالهم فلم يؤذن له »، وكان السبطان وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عامر ابن ربيعة وأبو هريرة وغيرهم من الصحابة معه في داره، وكانوا يدافعون عنه كلما هجم عليه أهل البغي والعدوان، ولم يأذن لهم ولا لأحد بقتالهم.

وقد ثبت في نهج البلاغة من كلام الأمير انه قال: « والله قد دفعت عنه... » إلى غير ذلك، وقد شيع جنازته جماعة من الصحابة والتابعين ودفنوه بثيابه الملطخة بالدم ليلا، ولم يؤخروه، وقد حضرت الملائكة جنازته لما روى الحافظ الدمشقي مرفوعا عن النبي ﷺ أنه قال: « يوم يموت عثمان يصلي عليه ملائكة السماء، قال الراوي قلت: يا رسول الله عثمان خاصة أو الناس عامة، قال: عثمان خاصة ».

ونسبة هجره وبغضه إلى الصحابة كذب وزور، وذلك في غاية الظهور، فقد روى الديلمي وهو من المعتبرين عند الشيعة في المنتقى عن الحسن بن علي قال: « ما كنت لاقاتل بعد رؤيا رأيتها، رأيت رسول الله ﷺ واضعا يده على العرش، ورأيت أبا بكر واضعا يده على منكب رسول الله ﷺ ورأيت عمر واضعا يده على منكب أبي بكر ورأيت عثمان واضعا يده على منكب عمر ورأيت دما دونه، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: دم عثمان يطلبه الله تعالى به ».

وروى ابن السمان عن قيس بن عباد قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: « اللهم اني أبرأ إليك من دم عثمان ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وجاؤني للبيعة فقلت: ألا أستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال له رسول الله ﷺ: ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة، واني لاستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل في الأرض ولم يدفن بعد فانصرفوا، فلما دفن رجع الناس يسألون البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما اقدم عليه , ثم جاءت عزيمة فبايعت، قال فقالوا: يا أمير المؤمنين فكأنما صدع قلبي ».

وروى ابن السمان أيضا عن محمد بن الحنفية ان عليا قال يوم الجمل: لعن قتلة عثمان في السهل والجبل، وعنه أيضا ان عليا بلغه ان عائشة تلعن قتلة عثمان، فرفع يديه حتى بلغ بهما وجهه فقال: « وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل مرتين أو ثلاثا إلى غير ذلك من أقوال أهل البيت وسائر الصحابة التي تدل على مزيد حبهم له وتأسفهم على مصيبته ».

وهذا الكتاب لا يسع ذكره على التفصيل، وان ما ذكرناه هو النزر القليل، وتأخير دفنه إلى ثلاثة أيام زور وبهتان على ما سبق من البيان كيف وقد اجمع المؤرخون على أن شهادته رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة بعد العصر لعشر خلون من ذي الحجة، ودفن في البقيع ليلة السبت رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وجعل الغرف العالية مستقره ومثواه، فقد ظهر انه كسائر الصحابة الكرام مبرأ عن كل ما يتقوله أهل الرفض الطغام، فإن ديدنهم الكذب والزور، ودينهم الفسق والفجور، وفضل الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أشهر من أن ينبه عليه، وأظهر من أن يشار إليه، فقد انكشف لكل ذي عين وثبت في كتب الفريقين.

وهذا فخر العبّاد وزين العابدين السجاد يقول في صحيفته داعيا لأتباع الرسول عليه السلام وصحابته: « اللهم وأصحاب محمد ﷺ خاصة الذين أحنوا الصحبة وأبلوا البلاء الحسن وأسرعوا في نصرته وسابقوا إلى دعوته، واستجابوا لهم حيث أسمعهم حجة رسالاته وفارقوا الأزواج والأولاد في إظهار كلمته وقاتلوا الأباء في تثبيت نبوته وانتصروا به، ومن كانوا منوطين على محبته يرجون تجارة لن تبور في مودته.. إلى أن قال فلا تنس لهم اللهم ما تركوا لك وفيك وأرضهم من رضوانك وبما حاشوا الخلق عليك وكانوا مع رسولك دعاة لك وإليك واشكرهم على هجرهم فيك ديار قومهم وخروجهم من سعة المعاش إلى ضيقه، وقال وأوصل إلى التابعين لهم بإحسان الذين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان خير جزائك الذين قصدوا سمتهم وتحروا وجهتهم ومضوا على شاكلتهم.. إلى آخر ما قال، مما يغيظ أهل الضلال وهكذا كلام سائر الأئمة الأطهار، في حق أصحاب النبي المختار، اللهم احشرنا في زمرتهم وأمتنا على محبتهم ».

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وأزواجه وذرياته أجمعين، اللهم اشرف منازلنا عند مواقف الأشهاد يوم تجزي كل نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون، يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا ولا هم ينصرون.

وقد وقع الفراغ من تحرير هذا الكتاب المفيد المشتمل على القول السديد على يد حفيد المؤلف السيد محمود شكري بن السيد عبد الله بهاء الدين غفر لهم سنة 1301هـ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...