يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الخميس، 30 مارس 2023

ج2.وج3منحة.القريب المجيب في الرد على عباد اهل الكتاب

ج2.وج3منحة.القريب المجيب في الرد على

 عباد اهل الكتاب

أولا: ج2. المقام الأول

قال النصراني: "فصل في ابتداء ظهور دين الإسلام: معلوم مشهور مما وجد مسطورا في كتب التواريخ، وأخبار أحوال الزمان أن التقوى الصحيحة الخالصة التي شهرت أولا في المسيحيين حين كانوا مبتلين بأشد البلايا، ومظلومين في غاية الظلم، قد أخذت أن تنقص أولا فأول بعد أن كان بواسطة قسطنطين ومن بعده من الملوك، وصار ذلك الاعتقاد ليس أمنا فقط بل ومكرا".

ثم ذكر أن سبب ذلك هو الاختلاف والفتن بين الأساقفة من أجل الرئاسة وعلو المرتبة، إذ قدموا الافتخار بالعلم على تقوى الله، وجعلوا الدين حيلة، وأن ذلك صار سبب اختلاف الأقوال والآراء.

قال: "وإذا رأى عامة الناس ذلك لم يدروا ما يختارون لأنفسهم، يلومون الكتب المقدسة كأنها سبب تلك الفتنة، وينفرون عنها كأنها سم زعاف. وأما فغالب الأمر قد بدا الدين أن يجعل ليس في طهارة النفس بل في ظاهر السنن، كما صار في اليهودية وفي حفظ الأشياء التي مقصودها تهذيب الأبدان أكثر من صلاح الأنفس بها، وفي السعي في إثبات الدعاوى التي اختاروها. والذي آل الأمر إليه أنه قد وجد في جميع البلاد عدة من المسيحيين اسما، وأقل من القليل حقا وفعلا" إلى آخر كلامه الآتي.

ونقول، وبالله التوفيق:

حقيقة ما ذكره هو الاعتراف بتبديل النصارى دين المسيح عليه السلام وتغييرهم له وتفرقهم فيه في تلك الأزمان القريبة من زمن المسيح عليه السلام، فهو من الحجج على صحة نبوة محمد ﷺ، لأنها قد مضت سنة الله في خلقه ببعثة الرسل عند خفاء الحق وظهور الضلال إعذارا وإنذارا: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.

فأرسل تبارك وتعالى الرسل في بني آدم جيلا بعد جيل وقرنا بعد قرن، كلما درست رسالة رسول وخفيت آثارها بعث رسولا بتجديد الرسالة وإقامة الحجة، إلى أن وصلت النبوة إلى بني إسرائيل، فبعث الله فيهم عبده ورسوله الكريم ونجيه المقرب الكليم موسى بن عمران -عليه الصلاة والتسليم-، وأنزل عليه التوراة فيها هدى ونور، يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار، فساسهم موسى عليه السلام بسياسة النبوة، وشرع لهم شرائع الدين، وحد لهم حدوده.

ثم كانت فيهم الأنبياء بعده تسوسهم بأحكام التوراة وشريعة موسى، ثم حدثت فيهم الأحداث، وتفرقوا في الدين، واتبعوا الأهواء، وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، وأفسدوا في الأرض، وتعدوا حدود الله، وغيروا دينه، وقتلوا أنبياءه، فسلط عليهم الأعداء مرة بعد أخرى، فجاسوا خلال ديارهم، وتبروا ما علوا تتبيرا.

وفي كل ذلك يبعث الله فيهم الأنبياء ويجدون لهم ما درس من الدين ويقيمون ما غيروا، إلى أن كان آخر أنبيائهم عبد الله ورسوله وكلمته عيسى ابن مريم عليهما السلام، فجدد لهم الدين، وبين معالمه، ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من الأحداث والآراء الباطلة، فعادوه، وكذبوه، ورموه بالعظائم، وراموا قتله وصلبه فطهره الله، ورفعه، فلم يصلوا إليه بسوء. كما سيأتي تفصيل القصة فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فلما رفع تفرق أتباعه شيعا، فمنهم من آمن بما بعثه الله به، وأنه عبد الله ورسوله، وابن أمته، ومنهم من غلا فيه وتجاوز به حد العبودية إلى منزلة الربوبية والإلهية، وقد حكى الله عنهم في كتابه ثلاث مقالات من الكفر، فقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} وقال تعالى: {وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}.

وقد اختلف العلماء في هذه المقالات الثلاث التي ذكرها الله عن النصارى: هل هي مقالات لثلاث طوائف منهم أو أنها مقالة لجميعهم؛ أعني: كفرت النصارى على قولين. والتحقيق الثاني كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله تعالى.

واعلم أن النصارى من أجهل الناس بالعلم الصحيح، وأضلهم في أصول دينهم وفروعه، وهم وإن ادعوا أنهم على دين عيسى عليه السلام، وأنهم أتباعه، وعلى شريعته، فقد كذبوا وضلوا ضلالا بعيدا، بل بدلوا دين عيسى وغيروه، ولم يبق بأيديهم منه شيء، وإنما اتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وسنذكر -بعون الله- ما ذكر علماؤنا الذين هم أهل العلم الصحيح، والعقل الرجيح، والتمييز بين صحيح النقل وسقيمه ومقبوله ومردوده. ما نقل إليهم من أمر هذه الأمة الضالة في ابتداء أمرها، ووصل إليهم علمه من ثقات المخبرين من مؤرخي أهل الكتاب وغيرهم ممن له تمام المعرفة بأيامهم واجتماعهم وافتراقهم.

ونبدأ بذكر حديث في ذلك عن النبي ﷺ تيمنا وتبركا، قال الإمام الحافظ عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي: حدثنا إسحاق ابن أبي حمزة أبو يعقوب الرازي قال: حدثنا السري بن عبد ربه، حدثنا بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، عن القاسم بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «قال لي رسول الله ﷺ: يا ابن مسعود. قلت: لبيك يا رسول الله، قال: علمت أن بني إسرائيل تفرقوا على اثنتين وسبعين فرقة لم ينج منها إلا ثلاث فرق، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام، فدعت إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقاتلت الجبابرة، فقتلت وصبرت ونجت، ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، فقامت بين الملوك والجبابرة تدعو إلى دين الله، ودين عيسى ابن مريم، فقتلت، وقطعت بالمناشير، وحرقت بالنيران، فصبرت ونجت. ثم قامت طائفة أخرى لم تكن لها قوة بالقتال، ولم تطق القيام بالقسط، فلحقت بالجبال، فتعبدت، وترهبت، وهم الذين ذكرهم الله عز وجل بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} ». ورواه ابن جرير وأبو يعلى من طريق أخرى.

وقال ابن كثير: روي عن قتادة قال: "اجتمع بنو إسرائيل، فأخرجوا أربعة نفر، أخرج كل قوم عالمهم، فامتروا في عيسى حين رفع. فقال بعضهم: هو الله هبط إلى الأرض، فأحيا من أحيا، وأمات من أمات، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية. فقال الثلاثة: كذبت، ثم قال الاثنان منهم للثالث: قل أنت، قال: هو ابن الله، وهم النسطورية. فقال الاثنان: كذبت. ثم قال أحد الاثنين للآخر: قل فيه، قال: هو ثالث ثلاثة: الله إله، وهو إله، وأمه إله، وهم الإسرائيلية ملوك النصارى. فقال الرابع: كذبت. هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته، وهم المسلمون. فكان لكل رجل منهم أتباع على ما قالوا، فاقتتلوا، فظهروا على المسلمين، وذلك قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ}. قال قتادة: وهم الذين قال الله فيهم: {فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ}. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن عروة بن الزبير عن بعض أهل العلم قريبا من ذلك. [1]

قال ابن كثير بعد أن ذكر مقالاتهم الثلاث: فاستمروا كذلك قريبا من ثلاثمائة سنة. ثم نبغ فيهم ملك من ملوك اليونان يقال له: قسطنطين، فدخل في دين النصرانية، قيل: حيلة؛ ليفسده، فإنه كان فيلسوفا، وقيل: جهلا منه. إلا أنه بدل دين المسيح، وحرفه، وزاد فيه ونقص، ووضعت له القوانين والأمانة الكبيرة، بل هي الخيانة الحقيرة، وصلوا له إلى المشرق، وصور لهم الصور، وبنى لهم الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون، وصار دين المسيح دين قسطنطين، لأنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد، وبنى المدينة المنسوبة إليه، وتبعته طائفته الملكية منهم. [2]

وأخرج النسائي في سننه وابن جرير في تفسيره عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت ملوك بعد عيسى عليه السلام بدلوا التوراة والإنجيل، وكان بينهم مؤمنون يقرؤون التوراة والإنجيل، فقيل لملوكهم: ما نجد شتما أشد من شتم يشتمونا هؤلاء، إنهم يقرؤون: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} مع ما يعيبونا به في أعمالنا في قراءتهم، فادعهم، فليقرؤوا كما نقرأ، وليؤمنوا كما نؤمن. فدعاهم، فعرض عليهم القتل، أو يتركوا قراءة التوراة والإنجيل إلا ما بدلوا فيها، فقالوا: ما تريدون إلى ذلك، دعونا. فقالت طائفة منهم: ابنوا لنا أسطوانا، ثم ارفعونا إليها، ثم أعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا، ولا نرد عليكم. وقالت طائفة منهم: دعونا نسيح في الأرض، ونهيم ونشرب كما يشرب الوحش، فإن قدرتم علينا في أرضكم فاقتلونا. وقالت طائفة: ابنوا لنا دورا في الفيافي، ونحتفر الآبار، ونحترث البقول، ولا نرد عليكم، ولا نمر بكم، وليس أحد من القبائل إلا وله فيهم حميم. ففعلوا ذلك، فأنزل الله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}. وآخرون قالوا: نتعبد كما تعبد فلان ونسيح كما ساح فلان، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان الذين اقتدوا بهم، فلما بعث النبي ﷺ ولم يبق منهم إلا القليل انحط رجل من صومعته، وجاء رجل من سياحته، وصاحب الدير من ديره، فآمنوا به وصدقوه، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}، يعني: أجرين بإيمانهم بعيسى عليه السلام وبالتوراة والإنجيل، وبإيمانهم بمحمد ﷺ وتصديقهم {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} القرآن واتباعهم النبي ﷺ قال: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} الذين يتشبهون بكم: {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.

وقد ذكر الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أبي بكر ابن القيم طرفا من شرح هذه الجملة، وأن دين المسيح تناسخ واضمحل. قال:

ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركبوا دينا بين دين المسيح ودين الفلاسفة عباد الأصنام، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يدخلوا في النصرانية. فنقلوهم من عبادة الأصنام المجسدة إلى الصور التي لا أصل لها، ونقلوهم من السجود للشمس إلى السجود إلى جهة المشرق، ونقلوهم من القول باتحاد العاقل والمعقول والعقل إلى القول باتحاد الأب والابن وروح القدس. هذا ومعهم بقايا من دين المسيح كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة إلا ما أحل لهم بنص الإنجيل، ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير، وأحلوا السبت وعوضوا منه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال من الجنابة. وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح صليبا قط فعظموا هم الصليب وعبدوه، ولم يصم المسيح صومهم هذا أبدا ولا شرعه ولا أمر به البتة، بل هم وضعوه على العدد ونقلوه إلى زمن الربيع، فجعلوا ما زادوا فيه من العدد عوضا عن نقله من الشهور الهلالية إلى الشهور الرومية؛ وتعبدوا بالنجاسات وكان المسيح في غاية الطهارة والطيب والنظافة وأبعد الخلق عن النجاسة، فقصدوا بذلك تغيير دين اليهود ومراغمتهم، فغيروا دين المسي وتقربوا إلى الفلاسفة عباد الأصنام بأن وافقوهم في بعض الأمر ليرضوهم به وليستنصروا بذلك على اليهود.

ولما أخذ دين المسيح في التغير والفساد اجتمعت النصارى عدة مجامع تزيد على ثمانين مجمعا. ثم تفرقوا على الاختلاف والتلاعن يلعن بعضهم بعضا، حتى قال فيهم بعض العقلاء: لو اجتمع عشرة من النصارى يتكلمون في حقيقة ما هم عليه لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا.

حتى جمعهم قسطنطين الملك آخر ذلك من الجزائر والبلاد وسائر الأقطار. فجمع كل بترك وأسقف وعالم، فاختار منهم ثلاثمائة وثمانية عشر. فقال: أنتم اليوم علماء النصرانية وأكابر النصارى، فاتفقوا على أمر تجتمع عليه كلمة النصرانية، ومن خالفه لعنتموه وحرمتموه. فقاموا وقعدوا وفكروا وقدروا، واتفقوا على وضع الأمانة التي بأيديهم اليوم، وذلك سنة خمس عشرة من ملك قسطنطين.

وكان سبب ذلك أن بطريق الإسكندرية منع أريوس من دخول الكنيسة ولعنه. فخرج أريوس إلى قسطنطين الملك مستعديا عليه ومعه أسقفان، فشكوه إليه، وطلبوا منه مناظرته بين يدي الملك. فاستحضر الملك، وقال لأريوس: اشرح مقالتك.

فقال أريوس: أقر أن الأب كان إذ لم يكن الابن، فكان له إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة. فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما، كما قال في إنجيله إذ يقول: (وهب لي سلطانا على السماء والأرض) فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك. ثم إن تلك الكلمة بعد اتحدت من مريم العذراء ومن روح القدس، فصار ذلك مسيحا واحدا. فالمسيح إذن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.

فقال بطريق الإسكندرية: خبرنا أيما أوجب علينا عندك: عبادة من خلقنا، أو عبادة من لم يخلقنا؟

فقال أريوس: بل عبادة من خلقنا.

فقال: فعبادة الابن الذي خلقنا وهو مخلوق أوجب من عبادة الأب الذي هو ليس بمخلوق، بل تصير عبادة الأب الخالق كفرا، وعبادة الابن إيمانا.

فاستحسن الملك والحاضرون مقالته، وأمرهم الملك أن يلعنوا أريوس ومن يقول بمقالته.

فلما انتصر البطريق، قال للملك: استحضر البطارقة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع، ونضع قصة نشرح فيها الدين، ونوضحه للناس، فحشرهم قسطنطين من سائر الآفاق، فاجتمع عنده بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا، وكانوا مختلفي الآراء متباينين في أديانهم.

فلما اجتمعوا كثر اللغط بينهم، وارتفعت الأصوات، وعظم الاختلاف، فتعجب الملك من شدة اختلافهم، فأجرى عليهم الأنزال، وأمرهم أن يتناظروا حتى يعلم الدين الصحيح مع من منهم، فطالت المناظرة بينهم، فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على رأي واحد، فناظروا بقية الأساقفة، وظهروا عليهم.

فعقد الملك لهؤلاء الثلاثمائة مجلسا خاصا، وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه، ودفعه إليهم، وقال لهم: (قد سلطتكم على المملكة، فاصنعوا ما بدا لكم مما فيه قوام دينكم، وصلاح أمتكم).

فباركوا عليه، وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذد عنه. ودفعوا إليه الأمانة التي اتفقوا على وضعها، فلا يكون عندهم نصرانيا من لم يقر بها، ولا يتم له قربان إلا بها.

وهي هذه: (نؤمن بالله الواحد الأب، خالق كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابنه الأحد بكر الخلائق كلها، الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق من جوهر أبيه. وهو الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا -معشر الناس- ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحمل به، ثم ولد من مريم البتول، وألم وشج، وقتل وصلب ودفن، وقام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس الواحد، روح الحق الصادر من الأب والابن، الذي يتكلم على ألسنة الأنبياء، وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وبكنيسة واحدة جامعة رسولية، وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين).

فهذا هو العقد الذي أجمع عليه الملكية والنسطورية واليعقوبية، وهذه الأمانة هي الأمانة التي ألفها أولئك البتاركة والأساقفة والعلماء وجعلوها شعار النصرانية.

وكان رؤساء هذا المجمع: بترك الإسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس، فافترقوا عليها وعلى لعن من خالفها والتبري منه وتكفيره.

ثم ذهب أريوس يدعو إلى مقالته وينفر النصارى عن أولئك الثلاثمائة، فجمع جمعا عظيما وصار إلى بيت المقدس، وخالف بكثير من النصارى لأولئك المجمع، فلما اجتمعوا قال أريوس: إن أولئك النفر تعدوا علي وظلموني ولم ينصفوني في الحجاج وحرموني ظلما وعدوانا. فوافقه كثير من الذين معه، وقالوا: صدق. فوثبوا عليه، فضربوه حتى كاد أن يقتل لولا أن ابن أخت الملك خلصه. وافترقوا على هذه الحال.

ثم كان لهم مجمع ثالث بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول اجتمع الوزراء والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت، وغلب عليهم مقالة أريوس، فاكتب إلى جميع البتاركة والأساقفة أن يجتمعوا، ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده، فاجتمع بقسطنطينية خمسمائة وخمسون أسقفا.

وكان مقدموهم بترك الإسكندرية وبترك أنطاكية وبترك بيت المقدس، فنظروا في مقالة أريوس، وكان من مقالته: (إن روح القدس مخلوق مصنوع ليس بإله وليس روح الله).

فقال بترك الإسكندرية: ليس لروح القدس عندنا معنى غير روح الله، وليس روح الله شيئا غير حياته، فإن قلنا: إن روح الله مخلوقة، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد جعلناه غير حي، ومن جعله غير حي فقد كفر، ومن كفر فقد وجب عليه اللعن.

فلعنوا بأجمعهم أريوس وأشياخه، وأتباعه، والبتاركة الذين قالوا بمقالته، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق من طبيعية الأب والابن، جوهر واحد وطبيعة واحدة، وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة وثمانية عشر: (ونؤمن بروح القدس الرب المحيي الصادر من الأب والابن الذي يمجد ويعبد مع الابن والآب).

وكان في الأمانة الأولى: (بروح القدس) فقط.

وبينوا أن الأب والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه وثلاثة خواص، وحدة في تثليث وتثليث في وحدة. وزادوا ونقصوا في الشريعة، وأطلق بترك الإسكندرية للرهبان والأساقفة والبتاركة أكل اللحم. وكانوا على مذهب ماني لا يرون أكل ذوات الأرواح. فانفض هذا المجمع وقد لعنوا فيه أكثر أساقفهم وبتاركتهم، ومضوا على تلك الأمانة.

ثم كان لهم مجمع رابع، بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع على نسطورس، وكان مذهبه: (أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولكن ثمة اثنان: الإله الذي هو موجود من الأب، والآخر الإنسان الذي هو موجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول: إنه المسيح متوحد مع أب الإله، وابن الإله ليس ابنا على الحقيقة، ولكن على سبيل الموهبة، والكرامة واتفاق الاسمين).

فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد، فجرت بينهم مراسلات، واتفقوا على تخطئته، واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسس، وأرسلوا إلى نسطورس للمناظرة، فامتنع ثلاث مرات، فأوجبوا عليه الكفر، ولعنوه، ونفوه، وحرموه، وثبتوا: أن مريم ولدت إلها، وأن المسيح إله حق، وإنسان معروف بطبيعتين، متوحد في الأقنوم.

فلما لعنوا نسطورس غضب له بترك أنطاكية، فجمع أساقفته الذين قدموا معه، وناظرهم، فقطعهم، فتقاتلوا، ووقع الحرب والشر بينهم، وتفاقم أمرهم، فلم يزل الملك حتى أصلح بينهم، فكتب أولئك صحيفة بـ (أن مريم القديسة ولدت إلها، هو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع أبيه في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت). وأنفذوا لعن نسطورس.

فلما نفي نسطورس سار إلى أرض مصر، وأقام بأخميم سبع سنين، ومات بها، ودرست مقالته، إلى أن أحياها ابن صرما مطران نصيبين، وبثها في بلاد المشرق، فأكثر نصارى العراق والمشرق نسطورية.

وانفض ذلك المجمع أيضا على لعن نسطورس ومن قال بقوله.

وكل مجامعهم كانت تجتمع على الضلال وتفترق على اللعن، فلا ينفض المجمع إلا وهم بين لاعن وملعون.

ثم كان لهم مجمع خامس. وذلك أنه كان بقسطنطينية طبيب راهب يقال له: أوطيوس، يقول: (إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا في الطبيعة، وإن للمسيح قبل التجسد طبيعتين، وبعد التجسد طبيعة واحدة).

وهذه مقالة اليعقوبية، فرحل إليه أسقف دولته، فناظره، فقطعه، ودحض حجته.

ثم صار إلى قسطنطينية، فأخبر بتركها بالمناظرة، وبانقطاعه، فأرسل بترك الإسكندرية إليه، فاستحضره، وجمع جمعا عظيما، وسأله عن قوله، فقال: إن قلنا: إن المسيح طبيعتان فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول: إن المسيح طبيعة واحدة، وأقنوم واحد، لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد، لما تجسد زالت الاثنينية، وصار طبيعة واحدة، وأقنوما واحدا. فقال له بترك القسطنطنية: إن كان المسيح طبيعة واحدة فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم هو المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث، لكان القائم هو القاعد، والحار هو البارد.

فأبى أن يرجع عن مقالته فلعنوه، فاستعدى إلى الملك، وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة، فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة "أفسس"، فثبت بطريق الإسكندرية مقالة أوطيوس، وقطع بتاركة الإسكندرية، وأنطاكية، وبيت المقدس، وسائر البتاركة والأساقفة.

وكتب إلى بترك رومية، وإلى جميع البتاركة والأساقفة، فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس، ففسدت الأمانة، وصارت المقالة مقالة أوطيسوس، وخاصة في مصر والإسكندرية، وهو مذهب اليعقوبية.

فافترق هذا المجمع الخامس وهو بين لاعن وملعون، وضال ومضل، وقائل يقول: الصواب مع اللاعنين، وقائل يقول: الحق مع الملعونين.

ثم كان لهم بعد ذلك مجمع سادس، في دولة مرقيون، فإنه اجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد، فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع، وقلة الإنصاف، وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس، وأفسدت دين النصرانية، فأمر الملك باستحضار سائر البطارقة والأساقفة إلى حضرته، فاجتمع عنده ست مائة وثلاثون أسقفا، فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية، التي قطعا بها جميع البتاركة، فأفسدوا مقالتيهما، ولعنوهما، وأثبتوا (أن المسيح إله وإنسان، فهو مع الله في اللاهوت، ومعنا في الناسوت، له طبيعتان تامتان، فهو تام باللاهوت، تام بالناسوت، وهو مسيح واحد). وثبتوا أقوال الثلاث مائة وثمانية عشر أسقفا، وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان وأنه إله حق من إله حق، ولعنوا أريوس، وقالوا: إن روح القدس إله، وقالوا: (إن الأب والابن وروح القدس واحد بطبيعة واحدة، وأقانيم ثلاثة). وثبتوا أقوال أهل المجمع الثالث.

وقالوا: (إن مريم العذراء ولدت إلها ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة، ومعنا في الناسوت). وقالوا: (إن المسيح طبيعتان وأقنوم واحد).

ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية، فانفض هذا المجمع بين لاعن وملعون.

ثم كان لهم بعد هذا مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك، ذلك أن سورس القسطنطيني جاء إلى الملك فقال: إن أصحاب ذلك المجمع الست مائة والثلاثين أخطؤوا. والصواب ما قاله أوطيسوس وبترك الإسكندرية، فلا تقبل ممن سواهما، واكتب إلى جميع بلادك أن يلعنوا الست مائة والثلاثين، وأن يأخذوا الناس بطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وأقنوم واحد.

فأجاب الملك إلى ذلك. فلما بلغ ذلك بترك بيت المقدس جمع الرهبان، فلعنوا أنسطاس الملك، وسورس، ومن يقول بمقالتهما.

فبلغ ذلك الملك، فغضب، وبعث، فنفى البترك إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس، لأنه كان قد ضمن للملك أن يلعن الستمائة والثلاثين.

فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع الرهبان، وقالوا: إياك أن تقبل من سورس، ولكن اقبل من الستمائة والثلاثين، ونحن معك. ففعل وخالف الملك، فلما بلغه أرسل قائدا، وأمره أن يأخذ يوحنا بلعنة أولئك. فإن لم يفعل أنزله عن الكرسي، ونفاه.

فقدم القائد، وطرح يوحنا في الحبس، فصار إليه الرهبان في الحبس، وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فليقر بلعنة كل من لعنه الرهبان.

فاجتمع الرهبان فكانوا عشرة آلاف راهب، فلعنوا أوطيسوس، ونسطورس وسورس ومن لا يقبل من أولئك الستمائة والثلاثين، ففزع رسول الملك من الرهبان.

وبلغ ذلك الملك فهمّ بنفي يوحنا، فاجتمع الرهبان والأساقفة، فكتبوا إلى الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولو أريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم.

وكتب بترك رومية بقبح فعله وبلعنه، فانفض هذا المجمع على اللعنة أيضا.

وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب البراذعي، لأنه كان يلبس من قطع براذع الدواب ويرقع بعضها ببعض، وإليه تنسب اليعاقبة. فأفسد أمانة القوم.

ثم هلك أنسطاس. فولي بعده قسطنطين، فرد كل من نفاه أنسطاس إلى موضعه، وكتب إلى بيت المقدس بأمانته، فاجتمع الرهبان، وأظهروا كتابه، وفرحوا به، وأثبتوا قول الستمائة وثلاثين أسقفا، وغلبت اليعقوبية على الإسكندرية، وقتلوا بتركا لهم -يقال له: بولس -، وكان ملكانيا، فولي الملك أسطيانوس، فأرسل قائدا، ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في ثياب البترك، وتقدم وقدس، فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، فانصرف وتوارى عنهم، ثم ظهر لهم بعد ثلاثة أيام، وأظهر لهم أنه أتاه كتاب الملك، وأمر الحراس أن يجمعوا الناس لسماعه، فلم يبق أحد بالإسكندرية إلا حضر لسماعه.

وكان قد جعل بينه وبين جنده علامة إذا هو فعلها وضعوا السيوف في الناس، فصعد المنبر، وقال: يا أهل الإسكندرية، إن رجعتم إلى الحق، وتركتم مقالة اليعاقبة، وإلا لم تأمنوا أن تأمنوا أن يوجه الملك إليكم من يسفك دماءكم.

فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه، فأظهر العلامة، فوضعوا السيوف على من بالكنيسة، فقتل خلق لا يحصيهم إلا الله، حتى خاض الجند في الدماء، وظهرت مقالة الملكانية بالإسكندرية.

ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن.

وذلك أن أسقف منبج كان يقول بالتناسخ، وأنه ليس ثم قيامة، ولا بعث، وكان أسقف الرهاء وأسقف المصيصة وأسقف ثالث يقولون: إن جسد المسيح خيال غير حقيقة.

فحشرهم الملك إلى قسطنطينية، فقال لهم بتركها: إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خيالا، وكل جسد نعاينه لأحد من الناس أو فعل أو قول فهو كذلك.

وقال له: إن المسيح قد قام من الأموات، وعلمنا أنه كذلك يقوم الناس يوم الدين، واحتج بنصوص من الإنجيل كقوله: (إن كل من في القبور إذا سمعوا الله سبحانه يحيون).

فأوجب عليه اللعن، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه، واستحضر بتاركة البلاد، فاجتمع عنده مائة وأربعة وستون أسقفا، فلعنوا أسقف منبج، وأسقف المصيصة، وأثبتوا على (أن جسد المسيح حقيقة لا خيال، وأنه إله تام وإنسان تام، معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين، أقنوم واحد، وأن الدنيا زائلة، وأن القيامة كائنة، وأن المسيح يأتي بمجد عظيم، فيدين الأحياء والأموات). كما قال الثلاثمائة وثمانية عشر الأوائل، فتفرقوا على ذلك.

ثم كان لهم مجمع تاسع على عهد معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه.

وذلك أنه كان برومية راهب له تلميذان، فجاء إلى قسطا الوالي، فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره، فأمر به قسطا؛ فقطعت يداه ورجلاه، ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين كذلك، وضرب الآخر بالسياط، ونفاه.

فبلغ ذلك ملك قسطنطينية، فأرسل إليه أن يوجه إليه من أفاضل الأساقفة، ليعلم وجه هذه الشبهة، وما كان ابتداؤها، ويعلم من يستحق اللعن.

فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاثمائة شماسا، فلما وصلوا إليه جمع الملك مائة وثمانية وخمسين أسقفا، فصادروا مائتين وثمانية وتسعين، وأسقطوا الشماسة.

وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية. فلعنوا من تقدم من القسيسين والبتاركة واحدا واحدا، وجلسوا، فلخصوا الأمانة، وزادوا فيها ونقصوا.

فقالوا: (نؤمن أن الواحد من الناسوت الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية الدائم المستوي مع الأب الإله في الجوهر، الذي هو ربنا يسوع المسيح بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين، في أقنوم واحد ووجه واحد، تاما بلاهوته تاما بناسوته، وشهدت بأن الإله الابن في آخر الأيام اتخذ من العذراء السيدة مريم القديسة جسدا إنسانا بنفس ناطقة عقلية وذلك برحمة الله تعالى محب البشر، ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل، ولكن هو واحد يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمله في طبيعته الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة، التي صارت في الحقيقة لحما كما يقول الإنجيل المقدس من غير أن ينتقل من مجده الأزلي، وليست بمتغيرة، ولكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهي وإنسي، الذي بهما يكمل قول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبها مشيئتين غير مضادتين ولا متصارعتين، ولكن مع المشيئة الإنسية المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء).

هذه أمانة هذا المجمع، فوضعوها ولعنوا من لعنوه. وبين المجمع الخامس الذي اجتمع فيه الستمائة والثلاثون وبين هذا المجمع مائة سنة.

ثم كان لهم بعد ذلك مجمع عاشر.

وذلك لما مات الملك، وولي ابنه بعده، اجتمع أهل المجمع السادس، وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا، فثبتوا قول أهل المجامع الخمسة، ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وانصرفوا بين لاعن وملعون.

فهذه عشرة مجامع كبار من مجامعهم مشهورة، اشتملت على أكثر من أربعة عشر ألفا من البتاركة والأساقفة والرهبان كلهم ما بين لاعن وملعون.

فهذه حال المتقدمين مع قرب زمانهم من أيام المسيح ووجود أخباره فيهم، والدولة دولتهم، والكلمة كلمتهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا، واهتمامهم بأمر دينهم واحتفالهم به كما ترى.

وهم حيارى تائهون ضالون مضلون، لا يثبت لهم قدم، ولا يستقر لهم قول في إلههم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه، وصرح بالكفر والتبري ممن اتبع سواه، قد تفرقت بهم في نبيهم وإلههم الأقاويل، وهم كما قال الله تعالى: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.

فلو سألت أهل البيت عن دينهم ومعتقدهم في ربهم ونبيهم لأجابك الرجل بجواب وامرأته بجواب وابنه بجواب والخادم بجواب، فما ظنك بمن في عصرنا هذا؟ وهم نخالة الماضين، وزبالة الغابرين، وثفالة المتحيرين، وقد طال عليهم الأمد، وبعد عهدهم بالمسيح ودينه.

وهؤلاء هم الذين أوجبوا لأعداء الرسل من الفلاسفة والملاحدة أن يتمسكوا بما هم عليه، فإنهم شرحوا لهم دينهم الذي جاء به المسيح على هذا الوجه. ولا ريب أن هذا دين لا يقبله عاقل.

فتواصى أولئك بينهم أن يتمسكوا بما هم عليه، وساءت ظنونهم بالكتب والرسل، ورأوا أن ما هم عليه من آراء أقرب إلى العقول من هذا الدين.

وقال لهم هؤلاء الحيارى الضلال: إن هذا هو الحق الذي جاء به المسيح، فتركب من هذين الظنين الفاسدين إساءة الظن بالرسل، وإحسان الظن بما هم عليه. [3]

قلت: وهذا القدر قد اعترف به النصراني في هذا الفصل الذي نتكلم عليه، حيث ذكر ما وقع من الاختلاف بين الأساقفة، وأن ذلك صار سبب وقوع عامة الناس في الحيرة حتى لا يدرون ما يختارون لأنفسهم، وينفرون عن الكتب المقدسة كأنها سم زعاف.

ومعلوم أنه لا يمكن أن يدعي أن النصارى صلحوا بعد أولئك الذين وصفهم من أسلافهم الضلال التائهين، بل دينهم الذي هم عليه الآن هو دين أولئك الحيارى، بل إنهم زادوا عليهم بالضلال الكثير، واتبعوا أهواءهم، وجادلوا في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فقد سجلوا على أنفسهم بمخالفة كتب الله، واعترفوا بذنبهم، فسحقا لأصحاب السعير.

والمقصود أنهم كما خالفوا في دينهم منهج الرسل، فقد عاندوا أيضا صريح العقل.

قال ابن القيم:

ولهذا قال بعض ملوك الهند وقد ذكرت له الملل الثلاث، فقال: أما النصارى فإن كان محاربوهم من أهل الملل يحاربونهم بحكم شرعي، فإني أرى ذلك بحكم عقلي، وإن كنا لا نرى بحكم عقولنا قتالا. ولكن أستثني هؤلاء القوم من بين جميع العوالم، لأنهم قصدوا مضادة العقل، وناصبوه العداوة، وحلوا ببيت الاستحالات، وحادوا عن المسلك الذي انتهجه غيرهم من أهل الشرائع، فشذوا عن جميع مناهج العالم الصالحة العقلية والشرعية، واعتقدوا كل مستحيل ممكنا، وبنوا على ذلك شريعة لا تؤدي البتة إلى صلاح نوع من أنواع العالم، إلا أنها تصير العاقل إذا تشرع بها أخرقا، والرشيد سفيها، والمحسن مسيئا، لأن من كان أصل عقيدته التي نشأ عليها الإساءة إلى الخالق والنيل منه، ووصفه بضد صفاته الحسنى، فأخلق به أن يستسهل الإساءة إلى المخلوق، مع ما بلغنا عنهم من الجهل وضعف العقل وقلة الحياء وخساسة المهمة. هذا وقد ظهر له من باطلهم وضلالهم غيض من فيض، وكانوا إذ ذاك أقرب عهدا بالنبوة.

قال أفلاطون رئيس سدنة الهياكل بمصر، وليس بأفلاطون تلميذ سقراط؛ ذاك أقدم من هذا: لما ظهر محمد بتهامة، ورأينا أمره يعلو على الأمم المجاورة له، رأينا أن نقصد أسقطر البابلي، لنعلم ما عنده، ونأخذ برأيه فلما اجتمعنا على الخروج من مصر رأينا أن نصير إلى أقراطيس معلمنا وحكيمنا لنودعه، فلما دخلنا عليه ورأى جمعنا أيقن أن الهياكل قد خلت منا فغشي عليه حينا غشية ظننا أنه فارق الحياة فيها، فبكينا، فأومأ إلينا أن كفوا عن البكاء، فتصبرنا جهدنا حتى هدأ وفتح عينيه، فقال: هذا ما كنت أنهاكم عنه وأحذركم منه، إنكم قوم غيرتم فغير بكم، أطعتم جهالا من ملوككم فخلطوا عليكم في الأدعية، فقصدتكم البشر من التعظيم بما هو للخالق وحده، فكنتم في ذلك كمن أعطى القلم مدح الكاتب، وإنما حركة القلم بالكاتب.

ومن المعلوم أن هذه الأمة ارتكبت محذورين عظيمين لا يرضى بهما ذو عقل ولا معرفة:

أحدهما: الغلو في المخلوق حتى جعلوه شريكا للخالق وجزءا منه، إلها آخر معه، ونفوا أن يكون عبدا له.

والثاني: تنقص الخالق وسبه ورميه بالعظائم، حيث زعموا أن الله -سبحانه وتعالى عن قولهم علوا كبيرا- نزل من العرش وكرسي عظمته، ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر، يتخبط بين البول والدم والنجو قد علته أطباق المشيمة والرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعا صغيرا يمص الثدي، ولف في القمط، وأودع السرير يبكي، ويجوع، ويعطش، ويبول، ويتغوط، ويحمل على الأيدي والعواتق. ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه، وربطوا يديه، وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه، وصلبوه جهرا بين لصين، وألبسوه إكليلا من الشوك، وسمروا يديه ورجليه، وجرعوه أعظم الآلام!.

هذا هو الإله الحق الذي بيده أتقنت العوالم، وهو المعبود المسجود له! ولعمر الله، إن هذه مسبة لله سبحانه ما سبه بها أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، كما قال تعالى فيما حكاه عنه رسوله الذي نزهه، ونزه أخاه المسيح عن هذا الباطل الذي تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، فقال: «شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك: أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون من إعادته».

وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في هذه الأمة: "أهينوهم ولا تظلموهم، فقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".

ولعمر الله، إن عباد الأصنام -مع أنهم أعداء الله على الحقيقة وأعداء رسله وأشد الكفار كفرا- يأنفون أن يصفوا آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وهي من الحجارة والحديد والخشب، بمثل ما وصفت هذه الأمة رب العالمين وإله السماوات والأرضين، وكان الله في قلوبهم أجل وأعظم من أن يصفوه بذلك بما يقاربه، وإنما شرك القوم أنهم عبدوا من دونه آلهة مخلوقة مربوبة محدثة، زعموا أنها تقربهم إليه زلفى، لم يجعلوا شيئا من آلهتهم كفوا له ولا نظيرا ولا ولدا، ولم ينالوا من الرب تعالى ما نالت منه هذه الأمة.

وعذرهم في ذلك أقبح من قولهم، فإن أصل معتقدهم أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح، فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار بسبب خطيئة آدم وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس، وسجنه بذنب أبيه، ثم إن الله سبحانه لما أراد رحمتهم وخلاصهم من العذاب تحيل على إبليس بحيلة، فنزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن مريم حتى ولد، وكبر، وصار رجلا، فمكن أعداءه اليهود من نفسه، حتى صلبوه، وسمروه، وتوجوه بالشوك على رأسه، فخلص أنبياءه ورسله، وفداهم بنفسه ودمه، فهرق دمه في مرضاة جميع ولد آدم، إذ كان ذنبه باقيا في أعناق جميعهم، فخلصهم منه بأن مكن أعداءه من صلبه وتسميره وصفعه إلا من أنكر صلبه أو شك فيه.

وقال: إن الإله يجل عن ذلك، فهو في سجن إبليس معذب حتى يقر بذلك، وأن إلهه صلب وصفع وسمر، فنسبوا الإله الحق سبحانه إلى ما يأنف أسقط الناس أن ينسبه إليه مملوكه وعبده، وإلى ما يأنف عباد الأصنام أن تنسب إليه أوثانهم.

وكذّبوا الله سبحانه في كونه تاب على آدم وغفر له خطيئته، ونسبوه إلى أقبح الظلم، حيث زعموا أنه سجن أنبياءه ورسله وأولياءه في الجحيم بسبب خطيئة أبيهم، ونسبوه إلى غاية النقص، حيث سلط أعداءه على نفسه وابنه، ففعلوا ما فعلوا.

وبالجملة، فلا نعلم أمة من الأمم سبت ربها ومعبودها وإلهها بما سبه به هذه الأمة، كما قال عمر: "إنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر".

وكان بعض أئمة الإسلام إذا رأى نصرانيا أغمض عينه عنه، وقال: "لا أستطيع أملأ عيني ممن سب إلهه ومعبوده أقبح السب".

ولهذا قال عقلاء الملوك: "إن جهاد هؤلاء واجب شرعا وعقلا، فإنهم عار على بني آدم مفسدون للعقول والشرائع". انتهى. [4]

وسيأتي شرح مذهبهم في التثليث فيما بعد إن شاء الله تعالى.

فصل

قال النصراني: "والذي آل إليه أنه قد وجد في جميع البلاد عدة من المسيحيين اسما وأقل من القليل حقا وفعلا، ولكن الله لم يكن يتغافل عن هذه الخطايا في قومه بل من أقصى أطراف أفاض كالطوفان جنودا لا تحصى عددا إلى بلاد النصارى. وإذا لم يتعظ الباقون بما لقوا من هؤلاء من القتل والشدائد، ولم يعودوا للحق أذن بعدله أن يظهر محمد، ويدعو الناس إلى الشريعة الجديدة، التي مع أنها مخالفة لدين المسيح، مضادة له، لكنها في ظاهر الألفاظ كانت تحاكي سيرة كثيرين من النصارى. وكان أول المدعوين إلى هذه الشريعة العرب الذين على أيديهم فتحت -في مدة يسيرة من الزمان- بلاد العرب والشام ومصر وبلاد الفرس، ثم ملكت المغرب والأندلس أيضا. وأما دولة العرب فقد انتقلت إلى غيرهم من الأمم، وبالخصوص إلى الأتراك الذين هم أمة ذات بأس وقوة في الحرب، وهم بعد طول محاربة المسلمين دعوا إلى العهد، وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع، ونقلوا حكم الدولة لأنفسهم. ثم فتحت على أيديهم بلاد الروم وبإقبال سعادتهم في الحروب وصلوا إلى حدود بلاد النمسا أيضا".

ونقول وبالله التوفيق:

إن ما ذكره من قلة الدين قبل ظهور محمد ﷺ دليل ظاهر، وحجة واضحة، وبرهان قاطع على نبوته، وصحة رسالته كما أشرنا إليه فيما تقدم، وذلك أن سنة الله في أوقات فترات الرسالة، وإعراض الناس عما جاءت به الرسل إعذارا منه تعالى إلى الخلق، ورحمة بمن أراد به خيرا.

فلما كانت الشرائع قد اندرست قبل مبعث محمد ﷺ، لتقادم عهدها، وطول زمانها، واختلط بسبب ذلك الحق بالباطل والهدى بالضلال، والصدق بالكذب، وصار ذلك سببا لإعراض الخلق عن العبادات، وأن يقولوا: يا إلهنا قد عرفنا أنه لا بد من عبادتك، ولكنا لا نعرف كيف عبادتك. فلا بد أن يزيح الله عذرهم ببعثة الرسل إليهم.

ولهذا قال تعالى في كتابه العزيز: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فخاطب سبحانه أهل الكتاب من اليهود والنصارى في هذه الآية بأنه بعث إليهم رسوله محمدا ﷺ على حين فترة من الرسل، ودروس من السبل، وتغير الأديان، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان، فكانت النعمة به أتم، والحاجة إليه أعم.

فإن الفساد قد عم البلاد، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد، إلا قليلا من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين من بعض أحبار اليهود، وعباد النصارى والصابئين.

وقد أخرج الإمام أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه والنسائي في سننه من غير وجه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ خطب ذات يوم، فقال في خطبته:

«إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا، كل مال أنحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا، وإن الله سبحانه نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل، وقال: إنما بعثتك لأبتليك، وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء، تقرؤه نائما ويقظانا. ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشا، فقلت: يا رب، إذا يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، فقال: استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جندا نبعث خمسة أمثاله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك.

وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف فقير ذو عيال.

وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلا ولا مالا، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلا خانه، والرجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعكم عن أهلك ومالك» وذكر البخل والكذب والشنظير الفاحش.

والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله: «إن الله نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من بني إسرائيل». وفي لفظ مسلم: «إلا بقايا من أهل الكتاب» فكان الدين قد التبس على أهل الأرض كلهم حتى بعث الله رسوله محمدا، خاتم النبيين الذي لا نبي بعده، بل هو المعقب لجميعهم، فهدى الخلائق، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء. ولهذا قال تعالى: {أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ} أي: بشير بالخير ونذير عن الشر {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} يعني: محمدا ﷺ {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.

فثبت بمقتضى هذه المقدمة التي قررناها، واعترف الخصم بصحة معناها، وهو حصول غربة الدين قبل ظهور محمد ﷺ حتى عند النصارى، الذين هم أقرب الناس عهدا بالكتب والرسل، أن بعثة محمد ﷺ كانت رحمة من الله لخلقه، هداهم الله بها بعد الضلالة، وبصرهم بها بعد العمى، وأرشدهم بها بعد الغي، وأخرجهم بها من الظلمات إلى النور.

وهذا هو اللائق بحكمته، ورحمته، وما مضى في خلقه من سابق سنته، لا ما يقول أعداؤه الكاذبون عليه، المكذبون رسوله، الزاعمون أنه كاذب عليه متقول على الله ما لم ينزل إليه، فإنه لا يليق بحكمة الرب الحكيم، ورحمة الملك القادر الرحيم، أن يؤيد من هذا شأنه أعظم التأييد، ويمكن له في الأرض غاية التمكين، بل كان اللائق به أن يأخذه ويجعله نكالا وعبرة للمعتبرين، كما قال -سبحانه وتعالى-: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} فأقام سبحانه في هذه الآية البرهان القاطع على صدق رسوله، وأنه لم يتقول عليه فيما قاله، وأنه لو تقول عليه لما أقره، ولعاجله بالإهلاك، فإن كمال علمه وقدرته وحكمته تأبى أن يقر من تقول عليه، وافترى، وأضل عباده، واستباح دماء من كذبه وحريمهم وأموالهم، وأظهر في الأرض الفساد والجور والكذب وخلاف الحق.

فكيف يليق بأحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأقدر القادرين أن يقدره على ذلك؟!. بل كيف يليق به أن يؤيده وينصره ويعليه ويظهره، ويظفره، بأهل الحق يسفك دماءهم ويستبيح أموالهم وأولادهم ونساءهم قائلا: إن الله أمرني بذلك، وأباحه لي؟ بل كيف يليق به أن يصدقه بأنواع التصديق كلها، فيصدقه بإقراره، وبالآيات المستلزمة لصدقه التي دلالتها على التصديق كدلالة التصديق بالقول أو أظهر، ثم يصدقه بأنواعها كلها على اختلافها، فكل آية على انفرادها مصدقة له، ثم يحصل باجتماع تلك الآيات تصديق فوق كل آية على انفرادها، ثم يعجز الخلق عن معارضته، ثم يصدقه بكلامه وقوله، ثم يقيم الدلالة القاطعة على أن هذا قوله وكلامه، فيشهد له بإقراره وفعله وقوله؟. فمن أعظم المحال وأبطل الباطل وأبين البهتان أن يجوز على أحكم الحاكمين ورب العالمين أن يفعل ذلك بالكاذب المفتري عليه الذي هو شر الخلق على الإطلاق. فمن جوز ذلك، على الله أن يفعل هذا بشر خلقه وأكذبهم عليه فما آمن بالله قطعا، ولا عرف الله وأنه رب العالمين، ولا يحسن نسبة ذلك إلى من له مسكة من عقل وحكمة وحجا. ومن فعل ذلك فقد أزرى على نفسه، ونادى على جهله.

وقد ذكر الإمام أبو عبد الله ابن القيم مناظرة جرت له مع بعض علماء أهل الكتاب تتعلق بهذا المقام، قال:

قلت له بعد أن أفضى في نبوة النبي ﷺ إلى أن قلت له: إنكار نبوته يتضمن القدح في رب العالمين وتنقصه بأقبح التنقص، فكان الكلام معكم في الرسول والكلام الآن في تنزيه الرب تعالى. فقال: كيف تقول مثال هذا الكلام؟ فقلت له: بيانه علي فاسمع الآن، أنتم تزعمون أنه لم يكن رسولا، وإنما كان ملكا قاهرا قهر الناس بسيفه حتى دانوا له، ومكث ثلاثا وعشرين سنة يكذب على الله، ويقول: أوحي إلي، ولم يوح إليه، وأمرني، ولم يأمره، ونهاني، ولم ينهه، وقال الله كذا، ولم يقل ذلك، وأحل كذا وحرم كذا وأوجب كذا وكره كذا، ولم يحل ذلك ولا حرمه ولا أوجبه ولا كرهه، بل هو فعل ذلك من تلقاء نفسه كاذبا مفتريا على الله وعلى أنبيائه وعلى رسله وملائكته. ثم مكث على ذلك عشر سنين يستعرض عباده، يسفك دماءهم، ويأخذ أموالهم، ويسترق نساءهم وأبناءهم، ولا ذنب لهم إلا الرد عليه ومخالفته، وهو في ذلك كله يقول: الله أمرني بذلك ولم يأمره، ومع ذلك فهو ساع في تبديل أديان الرسل، ونسخ شرائعهم، وحل نواميسهم، فهذه حاله عندكم. فلا يخلو: إما أن يكون الرب تعالى عالما بذلك مطلعا عليه من حالة يراه ويشاهده أو لا. فإن قلتم: إن ذلك جميعه غائب عن الله لم يعلمه قدحتم في الرب تعالى، ونسبتموه إلى الجهل المفرط، إذ لم يطلع على هذا الحادث العظيم، ولا علمه، ولا رآه. وإن قلتم: بل كان بعلمه واطلاعه ومشاهدته، قيل لكم: فهل كان قادرا على أن يغير ذلك، ويأخذ على يده ويحول بينه وبينه أم لا؟ فإن قلتم: ليس قادرا على ذلك، نسبتموه إلى العجز المنافي للربوبية، وكان هذا الإنسان هو وأتباعه أقدر منه على تنفيذ إرادتهم. وإن قلتم: بل كان قادرا، ولكن مكنه ونصره وسلطه على الخلق، ولم ينصر أولياءه وأتباع رسله نسبتموه إلى أعظم السفه والظلم والإخلال بالحكمة. هذا لو كان مخليا بينه وبين ما فعله، فكيف وهو في ذلك كله ناصره ومؤيده، ومجيب دعواته ومهلك من خالفه وكذبه، ومصدقه بأنواع التصديق كلها، ومظهر الآيات على يديه التي لو اجتمع أهل الأرض كلهم على أن يأتوا بواحدة منها لما أمكنهم، ولعجزوا عن ذلك، وكل وقت من الأوقات يحدث له من أسباب النصر والتمكين والظهور والعلو وكثرة الأتباع أمرا خارجا عن العادة؟ فظهر أن من أنكر كونه رسولا نبيا فقد سب الله تعالى وقدح فيه ونسبه إلى الجهل والعجز والسفه.

قلت له: ولا ينتقض هذا بالملوك الظلمة الذين مكنهم في الأرض وقتا ما ثم قطع دابرهم وأبطل سنتهم ومحا آثارهم ووجودهم، فإن أولئك لم يدعوا شيئا من هذا ولا أيدوا ونُصروا وظهرت على أيديهم الآيات، ولا صدقهم الرب تعالى بإقراره ولا بفعله ولا بقوله. بل كان أمرهم بالضد من دين الرسول كفرعون ونمرود وأضرابهما. ولا ينتقض هذا بمن ادعى النبوة من الكذابين، فإن حاله كانت بضد حال الرسول. ومن حكمة الله سبحانه أن أخرج مثل هؤلاء في الوجود ليعلم حال الكذابين، وحال الصادقين، فكان ظهورهم من أبين الأدلة على صدق الرسل والفرق بين هؤلاء وبينهم (فبضدها تتبين الأشياء)، (والضد يظهر حسنه الضد). فمعرفة أدلة الباطل وشبهه من أنواع أدلة الحق وبراهينه.

فلما سمع مني ذلك قال: معاذ الله، لا نقول: إنه ملك ظالم، بل نبي كريم، من اتبعه فهو من السعداء، وكذلك من اتبع موسى فهو كمن اتبع محمدا.

قلت له: بطل كل ما تموهون به بعد هذا، فإنكم إذا أقررتم بأنه نبي صادق فلا بد من تصديقه في جميع ما أخبر به، وقد علم أتباعه وأعداؤه بالضرورة أنه دعا الناس كلهم إلى الإيمان به، وأخبر أن من لم يؤمن به فهو مخلد في النار، وقاتل من لم يؤمن به من أهل الكتاب، واستباح دماءهم ونساءهم وأبناءهم. فإن كان ذلك عدوانا منه وجورا لم يكن نبيا، وعاد الأمر إلى القدح في الرب تعالى، وإن كان ذلك بأمر الله ووحيه لم يسع مخالفته وترك اتباعه، ولزم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر. انتهى. [5]

وأما قول النصراني: " إنها -يعني شريعة محمد ﷺ- مخالفة لدين المسيح مضادة له"

فهذا الإطلاق والعموم باطل، فإن دين المسيح، بل وجميع أديان الرسل من أولهم إلى آخرهم خاتمهم محمد ﷺ، متفقة في قواعد الدين وأصول الإيمان: من توحيد الله تعالى، ونفي الشريك له، وتنزيهه عن النقائص المتضمن لنفي الصاحبة والولد، وعلى إفراده سبحانه بالعبادة، وتصديق جميع رسله، والإيمان بملائكته وكتبه والإيمان باليوم الآخر والجنة والنار، وغير ذلك من أصول الإيمان وقواعد الدين.

كما قال تعالى في كتابه: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.

وفي صحيح البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «نحن معشر الأنبياء إخوة العلات، ديننا واحد» يعني ذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله، وضمنه كل كتاب أنزله.

وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراما، ثم يحل في الشريعة الأخرى وبالعكس، وخفيفا فيزاد بالشدة في هذه دون هذه، وذلك لما لله تعالى في ذلك من الحكمة البالغة والحجة الدامغة.

قال سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في قول الله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} يقول: "السنن مختلفة: في التوراة شريعة، وفي الإنجيل شريعة، وفي القرآن شريعة، يحل فيها ما يشاء، ويحرم ما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. والدين الذي لا يقبل غيره: التوحيد والإخلاص الذي جاءت به الرسل".

والمقصود أن شريعة محمد ﷺ موافقة لدين المسيح في التوحيد وأصول الديانات، وإن خالفته في بعض ما دون ذلك من الشرائع، لكنها مخالفة لما ابتدعه ضلال النصارى، واخترعوه من قبل أنفسهم، وبدلوا به دين المسيح، من الغلو في المخلوق حتى أنزلوه منزلة الخالق، وادعوا أنه الله، وأنه ابن الله -تعالى الله وتقدس وتنزه عن قولهم علوا كبيرا- وكذا ما بدلوه من فروع دين المسيح عليه السلام كاستحلال الميتة والخنزير، وإحداث البدع في العبادات مما نسخوا به دين المسيح عليه السلام، فبعث الله رسوله محمدا ﷺ يدعوهم إلى عبادة الله من عبادة العباد، وإلى متابعة عبده ورسوله المسيح عيسى ابن مريم وتصديقه في بشارته بخاتم الرسل، وسيدهم في الدنيا والآخرة - الذي هو أولى الناس به، كما ثبت عن رسول الله ﷺ أنه قال: «أنا أولى الناس بابن مريم في الدنيا والآخرة، ليس بيني وبينه نبي، والأنبياء إخوة أبناء علات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد». أخرجه البخاري ومسلم.

وإخوة العلات: أبناء أمهات شتى من رجل واحد.

أما ما ذكره النصراني من وقوع الفتوحات على أيدي العرب، ثم انتقال الدولة إلى غيرهم، ففي ضمنه دليلان من أدلة الرسالة المحمدية وعلمان من أعلامها:

الأول: أن النبي ﷺ أخبر بتلك الفتوحات وبلوغ دينه إلى المشارق والمغارب، وظهور أمته على فارس والروم، فوقع ذلك على وفق ما أخبر، كما سيأتي ذكر الأحاديث بذلك إن شاء الله تعالى، فكان ذلك دليلا على صدقه.

الثاني: أنه ﷺ أنذر بانتقال الأمر من قريش الذين هم السادة العرب وقادتها إذا وقع منهم الخلل في إقامة الدين، كما أخرج البخاري في صحيحه وغيره عن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: «إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله على وجهه في النار ما أقاموا الدين».

وهذا يدل على أنهم إذا لم يقيموا الدين يخرج الأمر عنهم.

وأخرج الطبراني عن علي رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: «ألا إن الأمراء من قريش ما أقاموا ثلاثا».... الحديث.

وأخرج الطيالسي والبزار والبخاري في التاريخ من طريق سعد بن إبراهيم عن أنس بلفظ: «ما إذا حكموا فعدلوا» الحديث، وله طرق متعددة.

وأخرج الإمام أحمد بن حنبل وأبو يعلى الموصلي من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: «يا معشر قريش، إنكم أهل هذا الأمر ما لم تحدثوا، فإذا غيرتم بعث الله عليكم من يلحاكم كما يلحى القضيب».

قال الحافظ ابن حجر: "ورجاله ثقات".

وأخرج الشافعي والبيهقي من طريقه بسند صحيح إلى عطاء بن يسار يرفعه إلى النبي ﷺ أنه قال لقريش: «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم على الحق إلا أن تعدلوا عنه فتلحون كما تلحى هذه الجريدة».

فقد دلت هذه الأحاديث وما ورد في معناها من منطوق أو مفهوم على خروج الأمر عن قريش الذين هم أئمة العرب والعرب لهم تبع، وأن ذلك إنما يكون إذا وقع منهم التغيير، ولم يستقيموا على السنن القويم، وأنه يتقدم ذلك ما هددوا به من تسليط من يؤذيهم عليهم.

قال ابن حجر: "فوجد ذلك في الدولة العباسية، بغلبة مواليهم بحيث صاروا معهم كالصبي المحجور عليه، يتمتع بلذاته ويباشر الأمور غيره. ثم اشتد الخطب، فغلب عليهم الديلم، فضايقوهم في كل شيء حتى لم يبق للخليفة إلا الخطبة، واقتسم المتغلبون الممالك في جميع الأقاليم، ثم طرأ عليهم طائفة بعد طائفة حتى انتزع الأمر منهم في جميع الأقطار، ولم يبق للخليفة إلا مجرد الاسم في بعض الأمصار". انتهى. [6]

وهذا، لأن الذي نالته العرب من العز والظهور والغلبة إنما حصل لهم ببركة اتباع الرسول ﷺ، وطاعتهم له كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

وقال النبي ﷺ فيما صح عنه: «إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون».

فلما كانت الخلفاء على الاستقامة والسداد في أمر الدين كان لهم في الأرض غاية التمكين تصديقا لما أخبر به الصادق الأمين.

فلما غيروا بمخالفته بعض أمر النبي ﷺ وقع بهم ما هددوا به، حيث كانت نعم الله عليهم أعظم منها على غيرهم، وكان الواجب عليهم من شكرها بحسب ما خصوا به منها.

فكان في أول الأمر وآخره براهين ساطعة وأدلة قاطعة على أن محمدا رسول الله ﷺ من جهة وقوع ما أخبر به مطابقا لخبره، ومن جهة اقتران العز والظهور والسعادة باتباع سنته، واقتران الذل والخذلان بترك أمره ومخالفته، فقد تضافرت حجج الله وبيناته على صدق هذا الرسول الكريم في كل عصر على ممر الدهور والأزمان.

ثم إن الفتوحات التي حصلت على أيدي غير العرب من الأمم الذين دخلوا في الإسلام، وانتموا إلى الملة وقاموا بجهاد الأعداء المضادين لها هي من آثار الوعد الصادق من التمكين لهذه الأمة الإسلامية في الأرض، وظهور دينهم على غيره من الأديان، وانتصارهم على عبدة الأوثان والصلبان، فليس في خروج الأمر عن العرب في بعض الأزمان وبعض الأقطار إلى غيرهم من هذه الأمة ما يقتضي نقصا في الدين ووهنا في الملة، فإن كل خير حصل لهذه الأمة من العرب وغير العرب، فهو من بركة اتباع النبي ﷺ والانتماء إلى ملته.

فصل

وأما قول النصراني: "وهم -يعني الأتراك- بعد طول محاربة للمسلمين، دعوا إلى العهد وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع، ونقلوا حكم الدولة لأنفسهم" إلى آخره.

فهذا فيه نوعان من الخطأ:

الأول منهما: ما دل عليه كلامه من أن الأتراك الذين حاربوا المسلمين أولا هم الذين كانت لهم الدولة آخرا. وهذا باطل وجهل بالدول وأخبارها، فإن الأتراك الذين حاربوا المسلمين في الحوادث المشهورة هم التتار الذين خرجوا من أطراف بادية الصين، فأفسدوا في الأرض، وأبادوا البلاد والعباد، وكانت منهم الحادثة العظمى على بغداد سنة 654 هـ، وبها زالت دولة بني العباس من بغداد وكان رئيسهم جنكيزخان، ثم هولاكو بعده، ووصلوا إلى حلب وأطراف الشام، فالتقوا هناك بالعسكر المصري، فهزمهم الله تعالى شر هزيمة في سنة ثمان وخمسين وستمائة، قال السخاوي المؤرخ: "ثم لم يزل لهم بقايا يخرجون إلى أن كان آخرهم تيمور لنك الأعرج، الذي خرج سنة ثلاث وسبعين وسبع مائة. وبالجملة فلم يبق لهم على المسلمين سلطنة، ولم تستقر لهم دولة".

وأما الأتراك الذين كانت لهم سلطنة على المسلمين فهم طوائف، وأول حدوثهم في دول الإسلام أيام المعتصم العباسي لكون السبي كثر فيهم إذ ذاك، فاستكثر المعتصم منهم المماليك، حتى كان أكثر عسكره منهم. ثم غلبوا على الملك -كما أشرنا إليه قريبا- حتى قتلوا ابن سيدهم المتوكل ابن المعتصم، ثم خالطت المملكة بنو بويه ملوك الديلم، ثم كانت الملوك السامانية من الترك أيضا، ثم غلب على الممالك آل سبكتكين غلام معز الدولة ابن بويه الديلمي، ثم آل سلجوق، فامتدت مملكتهم من خراسان إلى العراق والشام والروم، ثم كانت حادثة التتار التي زالت بها الخلافة من بغداد. ثم كانت بقايا أتباع آل سلجوق بالشام، ثم كان أتباع آل زنكي - بنو أيوب اكراد -، فاستكثر بنو أيوب من المماليك الأتراك، فغلبوهم بالديار المصرية والشامية. وكان من هؤلاء الأتراك السلطان الملك المظفر قطز الذي خرج بالعساكر المصرية إلى ملاقاة التتار بالشام في الواقعة التي أشرنا إليها، ثم كانت بعدهم الدولة الجاركسية، وكانوا مماليك للأتراك المذكورين، استكثروا منهم، ثم غلبوهم على المملكة، وهم الذين أخرجهم السلطان الغوري، وكانوا أيضا من الأتراك.

فهذه دولة الأتراك المشهورة في الإسلام، لم يكن ملكهم ودولتهم إلا بالطريق الذي ذكرناها.

وأما التتار فهم -وإن كان قد دخل في الإسلام منهم من شاء الله- فلم يبق لهم على المسلمين دولة، ولم يستقر لهم سلطنة، بل كان آخر أمرهم الدمار والبوار.

ومنشأ غلط النصراني هو من جهة ما يقال: إن سلاطين بني عثمان كانوا في الأصل من التتار، كما هو أحد الأقوال في نسبهم، وهذا وإن كان هو الأصح في نسبهم عند البعض، لكن دولتهم لم تنشأ من جهة التتار ولا كان لهم بها تعلق، وإنما كان ابتداؤها في أطراف الروم مما يلي الشام.

وسبب ذلك أن السلطان عثمان -وهو الذي ينسبون إليه- كان هو وأبوه في خدمة السلطان علاء الدين السلجوقي -ملك تلك الناحية- فترقت بهم الأحوال في خدمته، فتوفي السلطان السلجوقي -وعثمان في خدمته، ومن أعيان دولته- ولم يكن بعد السلطان من أهل بيته من يقوم مقامه، فاتفق العسكر على تولية عثمان وتقديمه، فتم له الأمر ولأولاده من بعده، فافتتحوا الديار الرومية، واستقرت بها سلطنتهم، ثم أخذوا ممالك الشام ومصر والحرمين من الجراكسة فيما بعد العشرين وتسعمائة.

النوع الثاني: قوله: "وقبلوا الشريعة الموافقة لأخلاقهم بغير امتناع".

فتحت هذا الكلام تمويه باطل، وهو خطأ ظاهر، ثم هو مناقض لما يأتي من كلامه: "أن الشريعة الإسلامية متعلقة بالكلية بالسيف والقتال". ولكنه لما سمع بدخول من دخل في الإسلام من التتار بغير إكراه ولا قتال، حاول أن يجعل ذلك ليس من باب الاختيار الذي دعاهم إليه ما عرفوه بعقولهم من صحة دين الإسلام وشرفه، حتى اختاروه على دينهم، وعلى اليهودية والنصرانية، فأحال ذلك على موافقة أخلاقهم.

ومن المعلوم أن من نشأ على دين وجد عليه آباءه وأسلافه والمعظمين عنده، فإنه لا يدعه ويؤثر غيره عليه إلا أن يحمله على ذلك رغبة أو رهبة، أو يدله العقل على فضيلة ما اختاره، فأما خلقه الموافق لهواه فإنه لا يدعوه إلى اختيار دين غير آبائه لا سيما والدين الذي اختاره يتضمن من التكاليف الشاقة على الأنفس ما هو مضاد لهوى النفس.

ولا ريب أن الذين دخلوا في الإسلام من أولئك التتار -وقد كانوا أهل شوكة ودولة- لم يكن لهم داع إلى ذلك من رغبة ولا رهبة، وإنما دخلوا في الإسلام لما رأوا من شرفه وفضله بعد مخالطة المسلمين.

وهذا يدل على معنى ما أشرنا إليه فيما تقدم، ويأتي إيضاحه فيما بعد إن شاء الله من أن من الحكمة في شرع الجهاد ليس إجبار الناس على الدخول في الإسلام بالظاهر دون الباطن، وإنما سيف الجهاد منفذ للشريعة موصل لها إلى أسماع المكلفين؛ حتى يصغوا إليها، فيعلموا أنها الحق، فيعملوا بها باطنا وظاهرا.

ولما كان هؤلاء القوم خالطوا المسلمين، وسمعوا القرآن، ورأوا محاسن الإسلام دعتهم عقولهم إلى استحسانه من غير داع آخر، ولا رغبة ولا رهبة، مع أن إسلام أكثرهم ضعيف من جهة تساهلهم في فعل المأمورات، وترك المحظورات، كما ذكر العلماء بأحوالهم.

واعلم أن السنة النبوية قد أشارت إلى قتال الترك وفتنتهم، فهو من الأعلام الظاهرة على نبوة محمد ﷺ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما نعالهم الشعر، وحتى تقاتلوا قوما كأن وجوههم المجان المطرقة، صغار الأعين، ذلف الأنوف». أخرجه البخاري ومسلم وغيرهما.

وفي رواية: «حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، حمر الوجوه، فطس الأنوف، كأن وجوههم المجان المطرقة».

وفي رواية للبخاري: «لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خوزا وكرمان من الأعاجم، حمر الوجوه، فطس الأنوف، صغار الأعين، وجوههم كالمجان المطرقة، نعالهم الشعر». وفي لفظ: عراض الوجوه.

وجاء عنه ﷺ أنه أخبر: «بأن الترك ستغلب على العرب حتى تلحقها بمنابت الشيح والقيصوم»، وورد عنه في حديثه: «اتركوا الترك ما تركوكم، فإن أول من يسلب أمتي ملكها بنو قنطوراء». [7]

فقد ظهر مصداق ما أخبر به ﷺ في هذه الواقعة كغيرها من الغيوب التي أطلعه الله عليها فوقعت على وفق ما أخبر.

هامش

تفسير ابن كثير/سورة مريم

تفسير ابن كثير/سورة آل عمران

إغاثة اللهفان/الباب الثالث عشر

إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان

التبيان في أقسام القرآن

فتح الباري

قال الهيثمي في مجمع الزوائد/كتاب الجهاد ح9575: "رواه الطبراني في الأوسط وفيه مروان بن سالم وهو متروك =ج2.

 

المقام الثاني

 

 

قال النصراني: "فصل في الرد على المسلمين بحجة مأخوذة من الكتب المقدسة التي لليهود والنصارى، وأنهم لم تتغير. من المشهور المجتمع عليه عند المسلمين، وما قد شهد له محمد أن الله بعث موسى، ويشوع، الذي اسمه في العربية عيسى. وأن الذين دعوا الناس في أول الأمر إلى قبول شريعة يشوع كانوا من أهل الصلاح، ولكن مع ذلك توجد في القرآن أخبار عدة مخالفة لما أتى به موسى وتلاميذ يشوع. ومن جملة تلك الأخبار نقتصر على ما أوتي به من أمر يشوع: فأما الذي حقق رسله وتلاميذه بإجماع منهم كلهم أنه صلب، ومات، وفي اليوم الثالث قام من بين الأموات وشاهده عدة من الناس، وأما المسلمون يزعمون بخلاف ذلك، أنه رفع إلى السماء خفية، وأن المصلوب هو الشخص المشبه به ظنه اليهود أنه هو، وأما يشوع فلم يصلب، ولم يقتل. ولا سبيل إلى فك هذا الاعتراض إلا أن يقولوا -وهو قولهم-: إن كتب موسى وتلاميذ يشوع لم تبق على ما كانت عليه أولا، إنها تغيرت. وقولهم هذا مما أبطلناه فيما تقدم. وإنما لو قال أحد: "إن القرآن قد تغير" لأنكر المسلمون ذلك، وقالوا: إن في إنكارهم ذلك ما يكفي ردا على من يقول: "إنه بدل " ما لم يكن له حجة يستدل بها على صحة قوله. مع أنهم لا يمكنهم أن يستدلوا على صحة كتابهم بما يعادل دلالتنا على صحة كتابنا من حيث انتشار عدة نسخ منذ أول الأمر في جميع الآفاق، لا كحال كتابهم بلسان واحد، بل بلغات عدة، وأنها محفوظة عند الفرق المختلفة". هذا كلامه.

 

والجواب عنه من وجوه:

 

الأول: أن هذا الاعتراض وأمثاله نظير اعتراض اليهود على نبوة عيسى عليه السلام واحتجاجهم بأشياء من التوراة التي بأيديهم، كاعتراضهم في إحلال السبت بأن في التوراة الأمر بالتمسك بالسبت ما دامت السماوات والأرض. وكاعتراضهم بما في التوراة من وصف زمن المسيح مثل: أنه سيسكن الذئب مع الجمل، والنمر مع الجدي، والأسد مع الضأن وأن الطفل يلاعب الحية، وأن جبل الله سيعلو على سائر الجبال، وأن غير اليهود من الأمم سيأتون ويسجدون لله فيه، إلى غير ذلك من اعتراضات اليهود على نبوة عيسى عليه السلام.

 

وليس عند النصارى جواب عن اعتراضهم إلا وعند المسلمين من الأجوبة عن اعتراض الطائفتين ما هو أظهر وأوضح، كما سيأتي ما يتيسر من ذلك مما يتعلق بغرضنا - إن شاء الله -.

 

الوجه الثاني: أن المعجزات الظاهرة والأدلة القاطعة قد قامت على نبوة محمد ﷺ وبعد ثبوت المعجزات فلا التفات إلى مثل هذه الاعتراضات. كما قد أجاب به النصراني عن شبهات اليهود فلا يبقى إلا التسليم لخبر من قامت المعجزة على صدقه. فلما ثبت بالأدلة القاطعة صدق محمد ﷺ في خبره عن الله علم قطعا كذب كل خبر يخالف ما جاء به.

 

يوضح ذلك الوجه الثالث: وهو أن دعوى النصارى قتل المسيح، وصلبه مستندة إلى أخبار من وضع الكتب التي بأيدي النصارى، وهي غير موثوق بها، لما سنبينه من أمرها، ولأنها كانت في أول الأمر بأيدي عدد قليل لا يستبعد تواطؤهم على الكذب والتبديل والتغيير، فلا يعارض بها خبر من جاء بالمعجزات التي لا مرية معها أنه أخبر بما أخبر به عن وحي من الله.

 

وقد قال الله تعالى في الكتاب الذي أنزل عليه فيما ذم به اليهود: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا}.

 

وكان من خبر اليهود أنهم لما بعث الله عيسى بالبينات والهدى حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرات التي منها: أنه يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى - بإذن الله -، ويصور من الطين طائرا، ثم ينفخ فيه، فيكون طائرا يشاهد طيرانه - بإذن الله عز وجل -، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها، فأجراها على يديه.

 

ومع هذا كذبوه وخالفوه ورموه بالعظائم كما قال تعالى في الآية: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا}.

 

قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس: "إنهم رموها بالزنا". وكذا قال غير واحد من السلف، وهو ظاهر من الآية، فجعلوها زانية قد حملت بولدها من ذلك. زاد بعضهم: وهي حائض {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ} أي: هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب وقد قتلناه، وهذا من باب التهكم والاستهزاء كقول المشركين: {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أي: يا ذا الذي يدعي لنفسه ذلك إنك لمجنون.

 

والمقصود أن اليهود آذوا نبي الله عليه السلام بكل ممكن حتى جعل لا يساكنهم في بلد، بل كان يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام حتى كان آخر ذلك أن سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان، وكان رجلا مشركا من عبدة الكواكب من اليونان، وأنهوا إليه أن ببيت المقدس رجلا يفتن الناس، ويضلهم، ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك، وكتب إلى نائب بيت المقدس: "أن يحتاط على هذا المذكور، ويصلبه، ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه عن الناس". فامتثل والي بيت المقدس ذلك. وذهب هو وطائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة: اثنا عشر، أو ثلاثة عشر، وقيل: سبعة عشر نفرا، وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر إقبال السبت فحصروه، فلما أحس بهم، وأنه لا محالة من دخولهم إليه أو خروجه إليهم قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فابتدر لذلك شاب منهم، فاستصغره عن ذلك، فأعادها ثانية، فكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب، فقال: أنت هو، وألقي عليه شبه عيسى حتى كأنه هو، وفتحت روزنة في سقف الباب، وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم، فرفع إلى السماء، وهو كذلك كما قال تعالى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}. فلما دخل أولئك النفر ورأوا ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى عليه السلام؛ فأخذوه في الليل، وصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم قتلوه، وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى، ذلك بجهلهم وقلة عقلهم ما عدا من كان في بيت المسيح؛ فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت. ويقال: إنه خاطبها. والله أعلم.

 

وهذا كله امتحان من الله لعباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة، وقد وضح الله الأمر وجلاه وبينه، وأظهره في القرآن الذي أنزله على رسوله المؤيد بالمعجزات، والبينات، والدلائل الواضحات، فقال تعالى وهو أصدق القائلين، ورب العالمين المطلع على السرائر والضمائر الذي يعلم السر في السماوات والأرض، العالم بما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ} أي: رأوا شبهه؛ فظنوا أنه إياه {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} يعني: من ادعى قتله من اليهود ومن سلمه لهم من جهلة النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال.

 

قال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن سنان، ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: "لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج عيسى على أصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلا من الحواريين -يعني فخرج عليهم- من عين في البيت ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة. ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي؛ فيقتل مكاني، ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سنا فقال: أنا، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم، فقام الشاب فقال: أنا، فقال أنت هو ذاك، فألقى عليه شبه عيسى، ورفع عيسى من روزتة في البيت إلى السماء، وجاء الطلب من اليهود، فأخذوا الشبيه، فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة من بعد أن آمن به، وافترقوا ثلاث فرق: فقالت طائفة: كان الله فينا ما شاء، ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء اليعقوبية. وقالت فرقة: كان عبد الله ورسوله، ثم رفعه إليه، وهؤلاء المسلمون. وقالت طائفة: هو ابن الله، كان فينا ما شاء، ثم رفعه إليه، فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسا حتى بعث الله محمدا ﷺ". وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس، قاله الحافظ ابن كثير. قال: ورواه النسائي عن أبي كريب عن أبي معاوية بنحوه. وكذا ذكر غير واحد من السلف أنه قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني وهو رفيقي في الجنة. [1]

 

وللقصة طرق كثيرة ملخص الصحيح منها ما قدمنا.

 

ثم قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}.

 

قال ابن عباس في قوله: {قَبْلَ مَوْتِهِ} قال: "قبل موت عيسى". قال العوفي عنه: "عند نزول عيسى لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به "، وقيل: "قبل موت الكتابي". والصحيح القول الأول؛ لأن المقصود من سياق الآية كما قال ابن كثير: تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه، وتسليم من سلم لهم ذلك من النصارى.

 

فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك، وإنما شبه لهم، فقتلوا الشبيه، وأنه رفعه إليه، وأنه باق حي، وأنه سينزل قبل يوم القيامة، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة، فيقتل مسيح الضلالة، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية؛ أي: لا يقبلها من أحد، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف.

 

وأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ، ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم، ولهذا قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا} أي: بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه وبعد نزوله إلى الأرض.

 

وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: «والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل عيسى ابن مريم حكما عدلا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى تكون السجدة خيرا من الدنيا وما فيها» ثم قال أبو هريرة اقرؤوا: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}.

 

وروى الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «الأنبياء إخوة العلات، أمهاتهم شتى، ودينهم واحد، وإني أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن نبي بيني وبينه، وإنه نازل فإذا رأيتموه فاعرفوه، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض، عليه ثوبان مخضران، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل، فيقذف الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمنة في الأرض، ثم ترتع الأسود مع الإبل، والنمار مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الصبيان بالحيات، لا تضرهم، فيمكث في الأرض أربعين سنة، فيتوفى، ويصلي عليه المسلمون».

 

والأحاديث في هذا المعنى والأخبار بنزول عيسى كثيرة مقطوع بها، وهذا كله معلوم من نعته عند أهل الكتاب.

 

لكن النصارى ظنوا أن نزوله ومجيئه مرة أخرى إنما يكون يوم القيامة، فغلطوا في مجيئه الثاني، كما غلطوا في مجيئه الأول حيث ظنوا أنه الله. واليهود أنكروا مجيئه الأول وظنوا أنه غير المبشر به، وصاروا ينتظرون غيره، وإنما بعث إليهم أولا، فكذبوه، فجاء القرآن بالحق من أمره وبقاء حياته في السماء، وأنه سينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة، ليكذب هؤلاء وهؤلاء من اليهود والنصارى الذين تباينت فيه أقوالهم، وخرجوا عن الحق، فتنقصه اليهود، ورموه بالعظائم، وأطراه النصارى، فادعوا فيه الربوبية -تعالى الله عن قول هؤلاء وقول هؤلاء علوا كبيرا-.

 

والنصارى لم يؤمنوا بنزوله قبل يوم القيامة لم ينفصلوا عن شبهة اليهود المأخوذة من نعت زمان المسيح المذكور في التوراة كما أشرنا إليه قريبا، واضطروا إلى تأويل ذلك الوصف على المجاز البعيد الذي يعلم كل أحد أنه غير مراد.

 

قال شيخ الإسلام أبو العباس: والمسلمون واليهود والنصارى متفقون على أن الأنبياء أنذرت بالمسيح الدجال، وعلى أن الأنبياء بشروا بالمسيح من ولد داود، ومتفقون على أن مسيح الضلالة له آيات، وعلى أن مسيح الهدى سيأتي أيضا. ثم المسلمون والنصارى متفقون على أنه عيسى، واليهود تنكر ذلك مع إقرارهم أنه من ولد داود. قالوا: لأنه تؤمن به الأمم كلها، والنصارى مقرون بأنه بعث، وأنه سيأتي، لكن يقولون: يوم القيامة ليجزي الناس بأعمالهم. وأما المسلمون فآمنوا بما أخبرت به الأنبياء على وجهه. وهو موافق لما أخبر به خاتم الرسل في الأحاديث المشار إليها. [2]

 

 

الوجه الرابع: ما اعترف به النصراني في المقالة الأولى من كتابه من حصول الاختلاف بين النصارى في صحة بعض هذه الكتب التي هي عمدتهم في الدين بزعمهم، وأنهم في أول الأمر شاكون فيها، كرسالة بطرس الثانية، ورسالتي يعقوب ويهوذا، والرسالتان المنسوبتان إلى يوحنا، أي: الرؤيا والرسالة إلى العبرانيين. ولم يجب النصراني عن هذا الإيراد إلا بأنها كانت مقبولة في بعض الكنائس، ثم بعد ذلك حصل اتفاق النصارى عليها.

 

ولا ريب عند كل ذي لب صحيح أن هذا يمنع الثقة بشيء من كتبهم، حيث قبلوا ما كان مشكوكا فيه عند أوائلهم أو مردودا مكذوبا، ثم عمدوا إليه، فألحقوه بإنجيل المسيح الذي زعموا أنه لم يغير، ولم يبدل، فإن مثل هذا لا يرتضيه ثقات المؤرخين أن يضعوا في كتبهم ما يكون مستندا إلى الشك وعدم الثقة، فكيف بكتب الشريعة المنسوبة إلى الأنبياء المجعولة عمدة في الدين؟

 

فهذا أوضح دليل وأظهر برهان على جهالة الأمة الضالة بالعلم الصحيح الموروث عن المسيح عليه السلام، بل قد التبس عليهم الصدق بالكذب، والصحيح بالسقيم، لأنه ليس لهم من الحفاظ المتقنين الذين ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، كما لهذه الأمة الإسلامية من الأئمة العلماء والسادة الأتقياء، والبررة النجباء، من الجهابذة النقاد، والحفاظ الجياد الذين دونوا الحديث، وحرروه، وبينوا صحيحه من حسنه من ضعيفه ومنكره ومتروكه ومكذوبه، وعرفوا الوضاعين والكذابين والمجهولين، وغير ذلك من أصناف الرجال. كل ذلك صيانة للجناب النبوي، والمقام المحمدي خاتم الرسل وسيد البشر ﷺ أن ينسب إليه كذب أو يحدث عنه بما ليس عنه. فضلا عن عنايتهم بنقل القرآن وحفظه حتى لا يشك في حرف من حروفه أنه من عند الله، فرضي الله عنهم، وأرضاهم، وجعل جنة الفردوس مأواهم، وقد فعل.

 

 

الوجه الخامس: أن هذه الكتب كما يدل عليه صريح كلام النصراني لم تتلق إلا من صحف وجدت بأيدي النصارى، لا كحال المسلمين في تلقي القرآن من أفواه الثقات المتقنين قرنا بعد قرن، حتى لم يقع اختلاف بينهم في حرف واحد أنه من القرآن. ولا كنقلهم لحديث رسول الله ﷺ، وأخباره وسيرته وسيرة أصحابه، حيث رووا ذلك كله بالأسانيد الصحيحة الموثوق برجالها، المعروفين بالصدق والأمانة وتمام الثقة، وميزوا الصحيح من المعلول والمجروح من المقبول كما قال أبو العباس الدغولي: "سمعت محمد بن حاتم بن المظفر يقول: إن الله تعالى قد أكرم هذه الأمة وشرفها وفضلها بالإسناد، وليس لأحد من الأمم كلها قديمها وحديثها إسناد، إنما هي صحف في أيديهم، وقد خلطوا بكتبهم أخبارهم، فليس عندهم تمييز بين ما نزل من التوراة والإنجيل وبين ما ألحقوه بكتبهم من الأخبار التي اتخذوها عن غير الثقات. وهذه الأمة الشريفة -زادها الله شرفا بنبيها- إنما تنص الحديث عن الثقة المعروف في زمانه بالصدق والأمانة عن مثله حتى تتناهى أخبارهم، ثم يبحثون أشد البحث حتى يعرفوا الأحفظ فالأحفظ، والأضبط فالأضبط، والأطول فالأطول مجالسة لمن فوقه ممن هو أقصر مجالسة، ثم يكتبون الحديث الواحد من عشرين وجها فأكثر، حتى هذبوه من الغلط والزلل وضبطوا حروفه وعدوه عدا. فهذا من فضل الله على هذه الأمة، فنستودع الله تعالى شكر هذه النعمة وغيرها من نعمه. [3]

 

قال أبو حاتم الرازي: "لم يكن في أمة من الأمم منذ خلق الله آدم أئمة يحفظون آثار الرسل إلا في هذه الأمة. فقال له رجل: يا أبا حاتم ربما رووا حديثا لا أصل له؟ فقال: علماؤهم يعرفون الصحيح من السقيم". [4]

 

 

الوجه السادس: أن الاختلاف والتناقض والإخبار بأشياء على غير ما هي عليه واقع في هذه الكتب، فكان ذلك دليلا على التغيير والتبديل، فإن ما كان من عند الله لا يكون فيه اختلاف ولا تناقض.

 

ومن أمثلة ذلك ما وقع في إنجيل متى، وهو عند النصارى أصح الأناجيل وعمدتها، فإنه بعد أن ذكر فيه أن الذي دل اليهود على عيسى بما بذلوا له من الفضة ندم وطرح الفضة في الهيكل عند اليهود ومضى وخنق نفسه، وأن اليهود قالوا: هذه الفضة لا تحل لنا، فابتاعوا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء، قال: (حينئذ تم ما قيل في أرميا النبي القائل: وأخذوا الثلاثين فضة ثمن المثمن الذي أثمنوه من بني إسرائيل، وجعلوها لحقل الفخاري كما أمرني به الرب). انتهى.

 

وهذا المذكور لا وجود له في صحيفة أرميا التي بأيدي اليهود، كما حقق ذلك من له خبرة بكتبهم. [5]

 

وحينئذ فلا يخلو إما أن يكون هذا الكلام لا وجود له في صحيفة أرميا أصلا، فتكون نسبته إليها من الزيادة في إنجيل متى؛ أو أن يكون قد نقص وحذف من صحيفة أرميا، فيكون من تحريف النقصان. فقد ثبت التحريف إما في العهد العتيق بالنقصان أو في الجديد بالزيادة، وهو المطلوب.

 

وعندهم مما يدل على التحريف أشياء كثيرة. ولم ينفصلوا عن هذا الإيراد إلا باحتمال أن يكون ذلك من غلط الكاتب، وحينئذ فنقول: إذا احتمل أن يكون من غلط الكاتب، ولم يكن في النصارى إذ ذاك من يبين الغلط وينفي التحريف ويصلح التصحيف، دل على أنهم قبلوا من ذلك الكاتب ما ألقاه إليهم من هذه الكتب من غير علم بصحتها عمن نسبت إليه، فسقطت الثقة بها.

 

يقرر ذلك الوجه السابع: وهو أن هذه الكتب لما لم تتلق إلا من الصحف التي وصفناها كما اعترف به الخصم، وليست بيد من هو معلوم الثقة والأمانة، ولم تنقل من طريق أهل التواتر، الذي ينفي عنها تطرق التهمة، لم يصح أن يستند إليها في دين الله وشرعه، فكيف يعارض بها ما جاء به صاحب المعجزات القاطعة الذي ظهرت أدلة صدقة أعظم من ظهور الشمس، فقد علم يقينا أن كل ما خالف خبر من دلت المعجزة على صدقه فهو كذب مردود.

 

 

وأما ما احتج به النصراني من انتشار نسخ هذه الكتب في الآفاق، فهو غير مفيد للعلم بصحة أصلها، لأنا نقول: لما خالف بعض ما فيها خبر صاحب المعجزة، علمنا أن التغيير قد حصل فيها قبل الانتشار المانع من حصول التواطؤ على الكذب. وهذا بخلاف ما وقع في نقل القرآن العزيز، فإن الله تعالى وله الحمد قيض له من أسباب الحفظ والضبط ما لم يقع نظيره لغيره من الكتب، حتى حصل تمام اليقين الذي لا يخالجه شك، ولا يرد عليه شبهة أن القرآن الذي تضمنه المصحف هو القرآن الذي جاء به محمد ﷺ، وهذا مما يعترف به الموافق والمخالف. [6]

 

والقول بخلاف ذلك قدح في الضروريات، لأنه من المعلوم بالتواتر الذي لا مرية فيه أن الصحابة تلقوه عن نبيهم وكتبوه في الصحف في حياته، وإن لم يكن إذ ذاك مجموعا في مصحف واحد. وأيضا فقد حفظه كله عن ظهر قلب جماعة من الصحابة تلقوه من فم محمد ﷺ من أوله إلى آخره، وتوفي رسول الله ﷺ وأصحابه متوافرون، فألهم الله خليفة رسوله أبا بكر الصديق أن يجمع القرآن في المصحف حداثة العهد بوفاة رسول الله ﷺ وأصحابه متوافرون، فجمعوه بحضور علمائهم، وسباقهم من المهاجرين والأنصار الذين عرفوا كل آية منه، وكل سورة متى نزلت وفي أي شيء نزلت، وتلقوه غضا طريا عن نبيهم ﷺ، وأتقنوه علما وعملا.

 

كما قال الأعمش: عن أبي وائل عن عبد الله بن مسعود قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يتجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن. وقال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا أنهم كانوا يستقرئون من رسول الله ﷺ، وكانوا إذا تعلموا عشر آيات لم يخلفوهن حتى يعملوا بما فيها من العلم قال: فتعلمنا القرآن والعمل جميعا. [7]

 

والمقصود أن القرآن نقل بالتواتر عن محمد ﷺ من أول الأمر حتى لا يتطرق الشك إلى حرف واحد منه أنه من القرآن.

 

ولم يقيض لمن قبلنا من حفظ الكتب وضبطها ما يقارب ذلك، فإنا قد دللنا على وقوع التحريف والتصحيف في كتب النصارى بما لا يمكنهم دفعه، فضلا عما اعترفوا به من الشك في بعضها من أصله.

 

وأما كتابنا فإن أحدا لو حاول أن يغير حرفا أو نقطة منه لقال له أهل الدنيا: هذا كذاب، حتى إن الشيخ المهيب لو اتفق له تغيير في حرف منه لقال الصبيان كلهم: أخطأت أيها الشيخ، وصوابه كذا.

 

ولم يتفق لشيء من الكتب مثل هذا الكتاب العزيز الذي صانه الله عن التحريف وحفظه عن التغيير والتصحيف، مع أن دواعي الملحدة واليهود والنصارى متوافرة على إفساده وإبطاله، وانقضى الآن ما ينيف على ألف ومائتين وأربعين سنة من أول نزوله وهو بحمد الله في زيادة من الحفظ.

 

 

الوجه الثامن: أن دعوى النصارى قتل المسيح وصلبه يناقض دعواهم ربوبيته، حتى صاروا ضحكة للسفهاء ومثلة عند العقلاء في جمعهم بين النقيضين. وقد قال أبو العلاء المعري:

 

عجبا للمسيح بين النصارى ** وإلى أي والد نسبوه!

 

أسلموه إلى اليهود وقالوا: ** إنهم بعد قتله صلبوه

 

فإن كان ما يقولون حقا ** فسلوهم في اين كان أبوه؟

 

فإن كان ساخطا بأذاهم ** فاعبدوهم لأنهم غلبوه!

 

هذا وقد زعموا أن كتابهم الذي بأيديهم تضمن هذين الأمرين الباطلين، واجتماعهما أفسد شيء ببديهة العقل، مع أن كلا منهما باطل وضلال. فبحيث زعموا أن كتابهم تضمن هذا المحال علمنا قطعا وقوع التغيير والتبديل فيه، وأيضا فدعوى إلهية المخلوق محال في العقل على انفرادها. وأما عدم قتله وصلبه فإنما علمناه بالسمع.

 

 

الوجه التاسع: أن القرآن جاء بموافقة التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الأنبياء في الخبر عن الله تعالى وعن اليوم الآخر، وزاد ذلك تفصيلا وبيانا، وبين الأدلة والبراهين على ذلك، وقرر نبوة الأنبياء كلهم ورسالة المرسلين، وقرر الشرائع الكلية التي بعثت بها الرسل كلهم، وجادل المكذبين بالكتب والرسل بأنواع الحجج والبراهين، وبين عقوبات الله لهم، ونصره لأهل الكتب المتبعين لها. وهذا معنى كون القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب كما قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} وقال تعالى: {الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ}. والآيات في هذا المعنى كثيرة، وذلك برهان عظيم على أنه من عند الله، وأن الرسول الذي جاء به صادق. فإنه لما جاء يطابق ما جاء به من قبله من الرسل مع تباعد الزمان وشهادة أعدائه، وإقرارهم بأنه لم يتلقه من بشر. ولهذا يمتحنونه بأشياء كانوا يعلمون أنه لا يخبر بها إلا نبي أو من قد أخذ عنه، وهم يعلمون أنه لم يأخذ عن أحد البتة، ولو كان ذلك لوجد أعداؤه السبيل إلى الطعن عليه ومعارضته بمثل ما جاء به، إذ من الممكن أن لو كان ما جاء به مأخوذا عن بشر أن يأخذوا هم عن ذلك البشر أو عن نظيره، فيعارضوا ما جاء به. وسيأتي مزيد لهذا المعنى فيما بعد إن شاء الله تعالى.

 

والمقصود أنه لما طابق الكتب المتقدمة وصدقها وشهد بصحة ما أنزل الله فيها من غير مواطأة ولا اقتباس منها، دل على أن الذي جاء به رسول صادق، كما أن الذي جاء به كذلك، وأن مخرجها من مشكاة واحدة. كما قال النجاشي -ملك الحبشة وأحد علماء النصارى- حين قرئ عليه القرآن: "هذا والذي جاء به موسى يخرج من مشكاة واحدة "، يعني فإذا كان موسى صادقا وكتابه حقا فهذا كذلك، حيث أخبر بما أخبر به من غير مواطأة ولا تساعد ولا تلقي عمن أخذ عنه، ويكون ذلك دليلا على صدق الرسول الأول أيضا.

 

ونظير هذا أن يشهد رجل بشهادة فيخبر فيها بما يقطع معه بأنه صادق في شهادته صدقا لا تتطرق إليه شبهة، فيجيء آخر من بلاد أخرى لم يجتمع بالأول ولم يتواطأ معه، فيخبر بمثل تلك الشهادة سواء، مع القطع بأنه لم يجتمع به ولا تلقاها من أحد اجتمع به. فهذا يكفي في صدقه إذا تجرد الإخبار، فكيف إذا اقترن بأدلة قطع بها بأنه صادق أعظم من الدلالة التي اقترنت بخبر الأول، فكيف إذا بشر به الأول، فكيف إذا اقترن بالثاني من البراهين الدالة على صدقه نظير ما اقترن بالأول وأقوى منها. وكثيرا ما يتكرر هذا المعنى في القرآن، إذ في ضمنه الاحتجاج على أهل الكتابين على صحة نبوة محمد ﷺ بهذا الطريق. وهو حجة أيضا على غيرهم بطريق اللزوم، لأنه لما جاء بمثل ما جاءوا به من غير أن يتعلم منهم حرفا واحدا دل على أنه من عند الله، وحتى لو أنكروا رسالة من تقدم لكان في مجيئه بمثل ما جاءوا به إثبات لرسالته ورسالة من تقدمه، ودليل على صحة الكتابين، وصدق الرسولين، لا سيما والكتاب الثاني جاء على يد أمي لم يقرأ كتابا، ولا خطه بيمينه، ولا عاشر أحدا من أهل الكتاب، بل نشأ بين قوم أميين يشاهدون حاله حضرا وسفرا وإقامة.

 

فهذا من أكبر الأدلة على أن ما جاء به ليس من عند البشر، ولا في قدرتهم فهو برهان أبين من الشمس، فقد تضمن ما جاء به تصديق من تقدمه، وتصديق من تقدمت البشارة به، فتطابقت حجج الله به وبيناته على أيد أنبيائه ورسله، وانقطعت المعذرة، وثبت الحق، وقامت الحجة، فلم يبق إلا العناد المحض، والإعراض والصد.

 

وأما مخالفة القرآن بعض ما تضمنته بعض تلك الكتب فهو غير قادح في الدليل، فإنه لما جاء القرآن بما فيها من أصول دين الأنبياء والشرائع الكلية، وغير ذلك من سائر ما تضمنته من حجج الله وبيناته كان ذلك دليلا على وقوع التغيير فيها والتبديل، وعلمنا قطعا أن ذلك واقع في الجزء الذي خالف ما جاء به القرآن، إما بزيادة ونقصان في الألفاظ، وإما بتحريف التأويل وإخراج اللفظ عن مدلوله: إما في أصل لفظ لغة ذلك الكتاب، أو في الترجمة باللغة التي نقل إليها. فالقرآن هو المهيمن على تلك الكتب الشاهد بصدقها وكذب ما حرف فيها.

 

 

الوجه العاشر: أن أهل الكتاب قد مزجوا أخبارهم بكتب أنبيائهم، كما هو مشاهد في الإنجيل الذي بيد النصارى، كقصة اليهود مع المسيح، وما زعمه النصارى من قتله وصلبه ودفنه، ثم قيامه من بين الأموات وغير ذلك من الأخبار التي إنما هي محكية عن تلاميذ عيسى وأتباعه، وقد خلطوها مع كتاب الله من غير تمييز بين ما هو عن الأنبياء عليهم السلام، وبين غيره. وأما كتابنا الذي تكفل الله بحفظه بقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}، فلم يقع فيه زيادة ولا نقص، ولم يختلط كتاب الله بغيره بما قيض الله له من أسباب الحفظ على أيدي نقلته العلماء الأبرار والأتقياء الأخيار؛ فقد كان من تمام اعتنائهم بحفظه أنهم تركوا تدوين أحاديث السنة وكتابتها حذر اختلاط شيء منها بالقرآن حتى انقرض العصر الأول وأمن هذا المحذور.

 

وإذا أردت أن تعلم سخافة علم النصارى وقلة معرفتهم، فانظر إلى ما أورده هذا النصراني من الانتصار لصحة كتبهم كقوله عند ذكر قتل المسيح وصلبه: "وحيث إنا نصدق المؤرخين فيما أخبروا به عن الأمور التي جرت في زمان طويل قبل ميلادهم معتمدين على اجتهادهم في البحث عنها؛ فبالحري أن يصدق هذا الذي يدعي أنه أخذ جميع ما قال من الذين شاهدوه عيانا". انتهى.

 

فانظر إلى سخافة هذا الانتصار لتصحيح الكتب التي جعلوها عمدة للدين أن جعلها أسوة كتب المؤرخين التي يكتب مؤلفوها ما سمعوه من صحيح وسقيم، فإن العلم الحاصل بذلك لا يفيد يقينا، وإنما يقبل من المؤرخين ما أخبروا به لكون ذلك لا يتعلق به حكم ديني، فتتلقى عنهم تلك الكتب للاطلاع على أحوال الزمان، لا لإثبات قواعد الدين وتصحيح عقائد الملة وأحكام الشريعة. وبمثل هذه الحجة الواهية احتج على قبول الكتب التي هي من أناجيلهم لم تنسب إلى شخص معين حين قال: "ولأجل هذا نقبل عدة من كتب التواريخ من حيث إننا ننظر أن مؤلفيها مع أنا نجهل أسماءهم، قد عاشوا في ذلك الزمان، وشاهدوا الأمور التي أتوا بذكرها في كتابهم، وكذلك إن الذين ألفوا الكتب التي نتكلم عنها ادعوا لأنفسهم أنهم عاشوا في الأزمنة الأولى، وأنهم منحوا من الله المواهب الرسولية، فيجب أن يقتنع بهذا" انتهى. وله في الاحتجاج على صحة كتبهم من هذا النمط من الحجج الواهية ما يكفي سماعه عن الاشتغال برده. وهو من أكبر الحجج عليهم في ضد ما قصدوه، وقد نبهنا على مقاصدها في هذا الفصل بما فيه مقنع لذوي الألباب.

 

والمقصود من هذا كله أن كتب اليهود والنصارى وما عندهم من العلم قد اختلط فيه الحق بالباطل، والصدق بالكذب فلا نقبل منه إلا ما وافق الحق الذي بأيدينا عمن شهدت بصدقه المعجزات، والأدلة القاطعات، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه فهو الباطل، وما أخبروا به مما لم يشهد له بصدق ولا كذب فهذا لا يقدم على تكذيبه؛ لأنه قد يكون حقا، ولا على تصديقه؛ فلعله يكون باطلا، ولكن يؤمن به إيمانا مجملا معلقا على شرط، وهو أن يكون منزلا لا مبدلا.

 

وقد أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: "«كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية، ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام فقال رسول الله ﷺ: لا تصدقوا أهل الكتاب، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالذي أنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون».

 

وفي حديث آخر عن النبي ﷺ: «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم، ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وكتبه ورسله، فإن كان حقا لم تكذبوهم، وإن كان باطلا لم تصدقوهم». أخرجه الإمام أحمد.

 

وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال: «لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء؛ فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق، أو تصدقوا بباطل».

 

وروى البخاري عن ابن عباس قال: "كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل على رسول الله ﷺ أحدث تقرؤونه محضا لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا. ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلا يسألكم عن الذي أنزل عليكم".

 

 

فصل

 

قال النصراني: "وأما المسلمون فإنهم يدعون أن في الفصل الرابع عشر من إنجيل يوحنا الذي فيه يوعد بإرسال فرقليط قد كان مسطورا ما وصف به نبيهم، وأن النصارى محوه وبدلوه. ويا ليت شعري، هذا التعبير وقع فيما بعد ظهور نبيهم أو قبل ظهوره. أما بعد ظهوره فما أمكن تغييره، إذ وجدت إذ ذاك عدة نسخ في جميع آفاق الأرض باللغات المختلفة، وهذه النسخ كلها يوافق بعضها بعضا في ذلك الفصل لا خلاف بينها فيه. وأما قبل ظهوره فلا كان لهم ما يدعوهم إلى التغيير والتبديل؛ إذ لم يمكنهم - بسابق علمهم - أن يعرفوا ما كان محمد مزمعا أن يأتي به".

 

الجواب وبالله نستعين:

 

اعلم أن في الفصل المذكور مما هو موجود بأيدي النصارى الآن من الدلالة على نبوة محمد ﷺ، والبشارة به ما هو من أوضح الأدلة. كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

 

وقبل ذلك فاعلم أن العلماء اختلفوا في معنى التحريف الذي ذكر الله عن أهل الكتاب، فقيل: إنهم كانوا يحرفون اللفظ بلفظ آخر بدليل قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}.

 

قال أبو العالية: عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد ﷺ فحرفوه عن مواضعه. وتقدم قريبا من كلام ابن عباس من رواية البخاري.

 

وروى ابن جرير عن كنانة العدوي عن عثمان بن عفان عن رسول الله ﷺ في قوله: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ} الآية قال: الويل جبل في النار وهو الذي أنزل في اليهود، وهم الذين حرفوا التوراة؛ زادوا فيها ما أحبوا، ومحوا منها ما يكرهون، ومحوا اسم محمد من التوراة. ولذلك غضب الله عليهم ورفع بعض التوراة، وقال: {فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ}. قال ابن كثير: "وهذا غريب جدا".

 

وقال السدي: كان أناس من اليهود كتبوا كتابا عندهم يبيعونه من العرب، ويحدثونهم أنه من عند الله فيأخذون به ثمنا قليلا. وكلام السدي هذا يدل على أن ذلك في قوم مخصوصين كما قال تعالى في موضع آخر: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

 

قال مجاهد والشعبي والحسن وقتادة والربيع بن أنس {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ} يحرفونه.

 

وقيل: إن التحريف الذي ذكر الله عنهم هو تحريف المعنى بإلقاء الشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة وجر اللفظ من معناه الحق إلى الباطل بوجوده من الحيل اللفظية، كما يفعله أهل الأهواء والبدع من هذه الأمة بالآيات المخالفة لمذاهبهم. وذلك أن النصوص التي فيها نعت النبي ﷺ ليست ظاهرة لكل أحد، بل هي مما يحتاج إلى التفسير والبيان من أهل العلم الذين هم أهل الخبرة بالكتاب ومعانيه.

 

قال وهب بن منبه: "إن التوراة والإنجيل كما أنزلهما الله لم يغير منهما حرف، ولكنهم يضلون بالتحريف والتأويل وكتب كانوا يكتبونها من عند أنفسهم، ويقولون: هو من عند الله وما هو من عند الله، وأما كتب الله فإنها محفوظة لا تحول". رواه ابن أبي حاتم. قال ابن كثير: "إن عنى وهب ما بأيديهم من ذلك، فلا شك أنه قد دخلها التبديل والتحريف والزيادة والنقص، وأما تعريب ذلك المشاهد بالعربية ففيه خطأ كبير وزيادات كثيرة ووهم فاحش، وفهم كثير منهم بل أكثرهم بل جميعهم فاسد؛ وأما إن عنى كتب الله التي هي كتبه عنده فتلك -كما قال- محفوظة لم يدخلها شيء". انتهى. [8]

 

قلت: لا يخفى أن كلام وهب لا ينفي وقوع الزيادة فيها، كما لا ينفي التفسير في التراجم باللغات التي نقلت إليها، وإنما يدل على عدم تغيير ألفاظها الأصلية التي بها نزلت. والله أعلم.

 

إذا عرفت ذلك فلا يلزم من وقوع التغيير في بعض ألفاظ نصوص الإنجيل قبل ظهور نبينا ﷺ أن يكون المغير قد علم ما يكون منه؛ إذ يمكن أن يقع ذلك جهلا ممن أبرز هذه الكتب إلى النصارى، فإنه كما علمنا يقينا أنهم زادوا فيها، فلا يستبعد أن يكونوا نقصوا منها وإن لم يكن ذلك منهم عن تعمد، حيث غلب عليهم الجهل والضلال وعدم التمييز بين الصحيح والكذب. وأما بعد مبعث نبينا ﷺ فالتغيير ممكن أيضا، حيث إن أمة الضلال قد بنوا دينهم على ما تهوى أنفسهم.

 

وكلهم متفقون على الكفر بخاتم الرسل - إلا من هدى الله منهم من خيارهم الذين أسلموا - فيمكن أن يكونوا غيروا نعت محمد ﷺ، لا سيما وكتابهم ليس انتشاره كانتشار القرآن حتى يستحيل الاتفاق على تغييره، فيحتمل أن يكون في تلك الأعصار عند جماعة محصورين؛ فيمكن اتفاقهم على الكذب والتبديل.

 

ثم إن فيما بأيديهم من نعوته ﷺ ونعوت أمته مما يذكر بعضه - إن شاء الله - ما يكفي حجة على المعاند، فإنها أدلة قاطعة لا محيد عنها.

 

وقد قال الله تعالى في كتابه الذي أنزله على هذا النبي الكريم: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.

 

ولا ريب أنه لو لم يكن مكتوبا عندهم لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبوله قوله؛ لأن الإصرار على الكذب والبهتان من أعظم المنفرات، والعاقل لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر الناس عن مقاله، فلما قال لهم عليه السلام هذا دل على أن ذلك النعت كان مذكورا في التوراة والإنجيل، وذلك من أعظم الدلائل على صحة نبوته.

 

ولكن أهل الكتاب كما قال الله تعالى: {لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} و {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} وإلا فهم - قاتلهم الله - قد عرفوا محمدا ﷺ كما يعرفون أبناءهم، ووجدوه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، لكنهم حرفوها وبدلوها، ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

 

قال شيخ الإسلام أبو العباس: وقد ناظرنا غير واحد من أهل الكتاب، وبينا لهم تلك الدلائل، فأسلم من علمائهم وخيارهم طوائف، وصاروا يناظرون أهل دينهم ويبينون لهم ما عندهم من الدلائل على نبوة محمد ﷺ وهذا من الحكمة في إبقاء أهل الكتاب بالجزية؛ إذ هم من الشواهد والدلائل على نبوة محمد ﷺ، وعندهم من الشواهد على ما أخبر به من الإيمان بالله واليوم الآخر ما يبين أن محمدا ﷺ جاء بالدين الذي بعث الله به الرسل قبله. [9]

 

 

وقد روى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن حمزة بن عبد الله بن سلام عن جده عبد الله بن سلام رضي الله عنه أنه لما سمع بمخرج النبي ﷺ من مكة خرج فلقيه، فقال له النبي ﷺ: أنت ابن سلام عالم يثرب؟ قال: نعم، قال: ناشدتك بالله الذي أنزل التوراة على موسى هل تجد صفتي في كتاب الله؟ قال: انسب ربك يا محمد. فارتج النبي ﷺ، فقال له جبرئيل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} قال له ابن سلام: أشهد أنك رسول الله، وأن الله مظهرك ومظهر دينك على الأديان، وإني لأجد صفتك في كتاب الله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}: أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة مثلها، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى تستقيم به الملة المعوجة، حتى يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا».

 

وأخرج البيهقي وأبو نعيم عن أم الدرداء امرأة أبي الدرداء رضي الله عنهما قالت: قلت لكعب: كيف تجدون صفة رسول الله ﷺ في التوراة؟ قال: كنا نجده موصوفا فيها، محمد رسول الله، اسمه المتوكل ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، وأعطي المفاتيح ليبصر الله به أعينا عورا ويسمع به آذانا صما ويقيم به ألسنة معوجة، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعين المظلوم ويمنعه من أن يستضعف».

 

وفي صحيح البخاري عن عطاء بن يسار، قال: "لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ، قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} وحرزا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا لا إله إلا الله، ويفتح به أعينا عميا وآذانا صما وقلوبا غلفا".

 

وفي أثر رواه ابن أبي حاتم عن وهب بن منبه اليماني: "أن الله أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له شعيا أن قم في قومك بني إسرائيل؛ فإني منطق لسانك بوحي أو نعت أميا من أميين أبعثه، ليس بفظ، ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، أبعثه مبشرا ونذيرا، لا يقول الخنا، أفتح به أعينا كمها، وآذانا صما، وقلوبا غلفا، أسدده لكل أمر جميل، وأهب له كل خلق كريم، وأجعل السكينة لباسه، والبر شعاره، والتقوى ضميره، والحكمة منطقه، والصدق طبيعته، والعفو والمعروف خلقه، والحق شريعته، والعدل سيرته، والهدى إمامه، والإسلام ملته، وأحمد اسمه، أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة، وأرفع به بعد الخمالة، وأعرف به بعد النكرة، وأكثر به بعد القلة، وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة، وأؤلف به بين أمم متفرقة، وقلوب مختلفة، وأهواء متشتتة، أستنقذ به فئاما من الناس عظيمة من المهلكة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس".

 

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قدم الجارود فأسلم، وقال: والذي بعثك بالحق، لقد وجدت وصفك في الإنجيل، ولقد بشر بك ابن البتول». أخرجه البيهقي.

 

 

ولنذكر من نصوص التوراة والإنجيل مما هو الآن موجود بأيدي اليهود والنصارى مما يدل على نبوة نبينا ﷺ، ونعوته وصفاته ما هو دليل على ما وراءه، ومصداق ما تقدم ذكرنا له.

 

فمن الدلائل في الإنجيل على ذلك ما ورد في الفصل الذي أشار إليه النصراني وهو الفصل الرابع عشر من إنجيل يوحنا الذي يرويه عن المسيح عليه السلام قال فيه: "إن كنتم تحبوني فحافظوا على كلامي، وأنا ألتمس الأب فيرسل إليكم فارقليط آخر؛ ليمكث معكم إلى أبد الآبدين".

 

فهذا من الأدلة على نبوة محمد ﷺ، فإنه يدل على أن الله سيبعث إليهم من يقوم مقامه، وينوب عنه في تبليغ رسالة ربه وسياسة خلقه منابه، وتكون شريعته باقية مخلدة أبدا. فهل هذا إلا محمد ﷺ؟!.

 

وقد اختلف النصارى في تفسير الفارقليط، فقيل: هو الحامد، وقيل: المخلص. فإن وافقناهم على أنه المخلص اقتضى أن المخلص رسول يأتي لخلاص العالم، وذلك من غرضنا؛ لأن كل نبي مخلص لأمته من الكفر، ويشهد له قول المسيح عليه السلام في الإنجيل: "إني جئت بخلاص العالم". فإذا ثبت أن المسيح هو الذي وصف نفسه بأنه مخلص العالم، وهو الذي سأل لهم فارقليط آخر، ففي مقتضى اللفظ ما يدل على أنه قد تقدم فارقليط أول حتى يأتي فارقليط آخر.

 

وإن وافقناهم على القول بأنه الحامد، فأي لفظ أقرب إلى أحمد ومحمد من هذا. وهو موافق لقوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.

 

قال أبو ظفر: وفي الإنجيل مما ترجموه ما يدل على أن الفارقليط الرسول، فإنه قال: "إن الكلام الذي تسمعونه ليس هو لي، بل الأب الذي أرسلني بهذا الكلام لكم، وأما الفارقليط روح القدس الذي يرسله أبي باسمي فهو يعلمكم كل شيء وهو يذكركم كل ما قلته لكم". [10]

 

فهل بعد هذا بيان؟ أليس هذا صريحا في أن الفارقليط رسول يرسله الله، وهو روح القدس، وهو يصدق بالمسيح، ويظهر اسمه أنه رسول حق من الله، وليس بإله، وهو يعلم الخلق كل شيء ويذكرهم كل ما قاله المسيح عليه السلام لهم وكل ما أمرهم به من توحيد الله.

 

وأما قوله: "أبي" فهذه اللفظة مبدلة محرفة، وليست منكرة الاستعمال عند أهل الكتابين إشارة إلى الرب -سبحانه وتعالى-؛ لأنها عندهم لفظة تعظيم يخاطب بها المتعلم معلمه الذي يستمد منه العلم. ومن المشهور مخاطبة النصارى عظماء دينهم بالآباء الروحانية، ولم يزل بنو إسرائيل وبنو عيصو يقولون: نحن أبناء الله؛ لسوء فهمهم عن الله تعالى.

 

وأما قوله: "يرسله أبي باسمي" فهو إشارة إلى شهادة المصطفى ﷺ له بالصدق والرسالة، وما تضمنه القرآن من مدحه وتبرئته مما افتري في أمره.

 

قال في المواهب: "وفي ترجمة أخرى للإنجيل في وصف الفارقليط: إذا جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بكل ما يسمع يكلمهم به، ويسوسهم بالحق، ويخبرهم بالحوادث". وهو عند ابن ظفر بلفظ: "فإذا جاء روح القدس ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، وهو يمجدني". [11]

 

فقوله: "ليس ينطق من عنده"، وفي الرواية الأخرى: "ولا يقول من تلقاء نفسه، بل يتكلم بكل ما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي"؛ أي: من الله الذي أرسله. وهذا كما قال الله تعالى في حقه ﷺ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.

 

وقوله: "وهو يمجدني" فلم يمجده حق تمجيده إلا محمد ﷺ؛ لأنه وصفه بأنه رسول الله، وبرأه، وبرأ أمه -عليهما السلام- مما نسب إليهما.

 

قال ابن ظفر: "ومن الذي وبخ العلماء على كتمان الحق، وتحريف الكلم عن مواضعه، وبيع الدين بالثمن البخس، ومن الذي أنذر بالحوادث، وأخبر بالغيوب إلا محمد ﷺ" انتهى. [12]

 

و"روح القدس" من أسمائه عليه الصلاة والسلام وبكل منهما جاء الإنجيل. وكذلك "روح الحق" كما ذكره صاحب المواهب.

 

وقد سمى الله سبحانه الكتاب الذي أنزله عليه روحا، فقال: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}

 

وقد قيل في تفسير (الفارقليط): معناه روح الحق.

 

وفي نهاية ابن الأثير في صفته عليه الصلاة والسلام: "أن اسمه في الكتب السالفة (فارقليط)؛ أي يفرق بين الحق والباطل" قال: "ومنه الحديث: «محمد فرق بين الناس» أي يفرق بين المؤمنين والكافرين بتصديقه وتكذيبه".

 

وللنصارى في تفسير روح القدس من الكلام الباطل ما هو مقتضى كفرهم بالله وشركهم به، تعالى الله عما يشركون.

 

فقد عرفت بما ذكرناه من النص الذي بأيديهم في ذكر (الفارقليط) أنه من أدلة نبوة محمد ﷺ لا يحتمل وجها آخر. وبذلك تعلم أن إحالة النصراني صفته ﷺ التي ادعاها المسلمون في الفصل الذي ذكره على ما قد محاه النصارى مغالطة وتعمية عن الدلالة التي قررناها، وهذا من تمويههم على ضعفاء العقول، كما هو دأبهم في كل نص في صفته ﷺ.

 

ومن الأدلة في الإنجيل ما ورد في الفصل الثالث من أخبار الرسل وهو أحد الأناجيل التي بأيدي النصارى مما يرونه عن المسيح عليه السلام، ولفظه: أن موسى قال: "إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيا من إخوتكم مثلي، له تسمعون في كل ما يكلمكم به، وتكون كل نفس لا تسمع ذلك النبي تستأصل من بين القوم". [13]

 

وهذا النص أيضا في سفر الاستثناء من التوراة، وهو صريح في الدلالة على نبوة محمد ﷺ. وقد حرفه اليهود والنصارى وتأولوه على غير تأويله، فزعمت اليهود أن المراد به يوشع بن نون، وزعمت النصارى أن المراد به المسيح.

 

ودعوى الكل واضحة البطلان؛ فإنه قال: "من إخوتكم" والخطاب لبني إسرائيل، ولو كان المراد يوشع أو عيسى لكان من أنفسهم؛ لأنهم من بني إسحاق، فدل على أن هذا النبي الموعود به ليس من أنفسهم، بل من إخوتهم، وهو من بني إسماعيل.

 

وأيضا فقد وصف هذا النبي بقوله: "مثلي" ولفظ هذا النص في التوراة مما ترجموه: "أن الله تعالى قال لموسى: "وسأقيم لهم نبيا" وأيضا فقد وصف هذا النبي بقوله: "مثلي" ولفظ هذا النص في التوراة مما ترجموه: "أن الله تعالى قال لموسى: "وسأقيم لهم نبيا مثلك من إخوتهم، وأجعل كلامي في فمه، فيقول لهم كل ما أمرت به"، فهو صريح في أن النبي الموعود به مثل موسى. وقد قال في التوراة: "لا يقوم في بني إسرائيل أحد مثل موسى أبدا". [14]

 

فتعين أن يكون المراد به محمدا ﷺ؛ لأنه كفء موسى - عليه السلام؛ فإنه ماثله في منصب الدعوة، والتحدي بالمعجزة، وشرع الأحكام، وإجراء النسخ على الشرائع السالفة.

 

وقوله تعالى: "وأجعل كلامي في فمه" صريح في أن المقصود به محمد ﷺ؛ لأن معناه أوحي إليه بكلامي، فينطق به على نحو ما سمعه، ولا أنزل عليه صحفا ولا ألواحا؛ لأنه لا يحسن أن يقرأ المكتوب.

 

ويدل على فساد تأويل اليهود أيضا أن (يوشع) ليس كفؤا لموسى عليهما السلام بل كان خادما له في حياته ومؤكدا لدعوته بعد وفاته، فكيف يصح أن يوصف بأنه مثل موسى؛ وعلى فساد تأويل النصارى قوله: "كل نفس لا تسمع ذلك النبي تستأصل من بين القوم"؛ فإن الذي عليه النصارى ألا يتعرض للنصراني إذا انتقل عن دينه إلى غيره سواء إلى الإسلام أو اليهودية أو غير ذلك. وكذلك المرأة إذا زنت لا يتعرضون لها، ويزعمون أن شريعة المسيح ليس فيها إقامة الحدود، والجهاد ليس مشروعا في ملتهم، بل هم به عصاة. وهذا كله مناقض لهذا النص، فدل على بطلان كون المراد به المسيح، بل هو مطابق لصفة محمد ﷺ وشريعته، فإن مخالفة بعض أوامره يوجب سفك الدم، وإزهاق النفوس؛ فتعين أنه هو المراد.

 

ومن ذلك ما ورد في رسالة يهوذا من الإنجيل، وهو في صحيفة زكريا من كتب العهد العتيق الذي عند اليهود، قال: "إن الرب قد جاء أو سيجيء بربوات مقدسة؛ ليقضي على جميع الناس، ويوبخ المنافقين لجميع أعمالهم التي نافقوا بها، وجميع الأقوال الصعبة التي تكلم بها عليه الخاطئون". يهوذا 1: 14

 

وهذا من الأدلة الواضحة على نبوة محمد ﷺ. وزعمت النصارى أن المراد به المسيح، وهو زعم باطل، فإنه لا دلالة فيه على المسيح بوجه؛ لأن هذا المنصوص عليه بالإتيان بالربوات المقدسة والقضاء على جميع الناس وتوبيخ المنافقين ينبغي أن يقوم بحد الحديد والبأس الشديد، ولا دلالة في شيء من هذه الصفات على المسيح عليه السلام؛ لأنه لم يأت إلا في زي يخالف هذا الوصف، ولم يشرع له الجهاد في ملته.

 

وأما دلالته على نبوة محمد ﷺ فواضحة لا تحتاج إلى مزيد تأمل، فإنه هو المتصف بهذه الصفات، كما في الحديث عن عبد الله بن عمر أن: رسول الله ﷺ قال: «بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم». أخرجه الإمام أحمد في المسند.

 

وهو الذي وثب بربوات العرب، وقضى على جميع الناس بعموم رسالته، ووبخ المنافقين - والله أعلم - يشمل توبيخه المنافقين من أتباعه، ويشمل أيضا توبيخه لليهود والنصارى؛ فإنهم يدعون أنهم يؤمنون بالكتب التي بأيديهم، ويتبعون أنبياءهم، وقد كذبوا في ذلك، بل نقضوا العهود والمواثيق، وكذبوا بالحق المصدق لما في أيديهم، فجاء القرآن بتوبيخهم وعيبهم بالغضب والضلال واللعن: {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

 

ومن ذلك ما ورد في الفصل الحادي والعشرين من إنجيل متى وهو أيضا في إنجيل مرقس قال: "ثم طفق يضرب لهم الأمثال ويقول: اغترس رجل كرما، وحوطه بحائط، وبحث فيه معصرة، وبني يرجا، وأجره للفلاحين، وسافر، ولما جاء الموسم أرسل إلى الفلاحين خادما؛ لينال من ثمرة الكرم، شيئا فأخذوه، وضربوه، وردوه خائبا، فأرسل إليهم خادما ثانيا، فرجموه، وشجوه، وردوه محقرا، ثم أرسل ثالثا فقتلوه، وكثيرين آخرين ضربوا بعضهم وقتلوا بعضا، وكان قد بقي له ابن وحيد هو محبوبه، فأرسله إليهم آخر الأمر. وقال: إنهم سيكرمون ابني، فقال الفلاحون فيما بينهم: إن هذا الوارث؛ فهلموا بنا نقتله، فيصير الميراث لنا، فأخذوه، وقتلوه، وأخرجوه خارج الكرم. فماذا يفعل رب الكرم؟ نعم، إنه سيأتي، ويهلك الفلاحين، ويسلم الكرم إلى آخرين. ألم تقرؤوا هذا المرقوم؟. قوله: إن الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية. هذا ما وقع عند الرب، وهو في نظركم عجيب".

 

فسياق هذا المثل من أظهر الأمثال المضروبة في الإنجيل لنبوة محمد ﷺ وهو أول الفصل في إنجيل مرقس.

 

وتقرير دلالته أن الغارس هو الباري تعالى، والمغرسة الدنيا، والكرم بنو آدم، والحائط الناموس الذي جاءت به الرسل، والمعصرة الأحكام الناموسية، والفلاحون الذين بلغتهم الدعوة. فالذي ضرب به المثل بالخادم الأول يناسب حال موسى عليه السلام، والثاني يناسب حال يوشع بن نون، والثالث يناسب حال بعض أكابر الأنبياء بعده، والمجهولون هم المتوسطون من موسى إلى زمان عيسى عليهم السلام، والابن الوحيد يناسب حال عيسى عليه السلام، لأنه آخر أنبياء بني إسرائيل، والآخرون الذين يسلم إليهم الكرم هم العرب الذين بعث فيهم محمد ﷺ.

 

وفي قوله: "ويسلم الكرم إلى آخرين" فضيلة عظيمة لهذه الأمة توافق قول الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}.

 

وكما في مسند الإمام أحمد وجامع الترمذي وسنن ابن ماجه ومستدرك الحاكم من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه، قال رسول الله ﷺ: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل».

 

وأخرج الترمذي من حديث معاذ وأبي سعيد نحوه، يوضح المعنى الذي قررناه ما ختم به المثل من قوله: "ألم تقرؤوا هذا المرقوم" إلى آخره، فإنه إشارة إلى ما ورد في الفصل الثامن والعشرين من صحيفة أشعيا عليه السلام. ولفظه كما في بعض التراجم: "أن تلك الحجرة التي رفض البناؤون صارت رأس الزاوية، هذا هو عمل الرب، وهو في أعيننا عجيب". [15]

 

وقد ذهب النصارى إلى تأويل هذا النص في شأن المسيح عليه السلام، وهي دعوى باطلة؛ فإن سياق الكلام يأباه والوصف يخالفه. فإن المسيح لم يكن في بني إسرائيل محتقرا ولا مرفوضا من حيث كونه من بني إسرائيل، وإنما يدل دلالة ظاهرة على محمد ﷺ الذي هو من بني إسماعيل، وهم كانوا مرفوضين عند بني إسرائيل مع كونهم إخوتهم، ولا يرونهم أهلا للفضائل.

 

وسياق الكلام يدل على أن تلك الحجرة كانت مرفوضة في زمان موسى والأنبياء بعده، والنصارى لا يدعون هذه الصفة في المسيح؛ فدل على ما قلناه.

 

وقيل: ما عبر عنه بالحجرة المرفوضة من أجل ما جرى لسارة مع إبراهيم عليهما السلام في شأن إسماعيل وأمه من أجل غيرة سارة؛ فنقلهما بأمر الله تعالى إلى مكة. فالله أعلم.

 

و"رأس الزاوية" هو ملتقى الخطين فيكون هو الخاتم؛ لأن الخطين يذهبان إلى حيثما يذهبان إليه، فيكون ملتقاهما هو منتهاهما. وهذا هو محمد ﷺ الذي ختم الله به رسله.

 

وفي معنى هذا المثل ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «مثلي ومثل الأنبياء قبلي كمثل رجل بنى بيتا فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة!، فأنا تلك اللبنة، وأنا خاتم النبيين». أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

 

وقوله: "هذا ما وقع عند الرب، وهو في نظركم عجيب"، وفي بعض التراجم "هذا هو عمل الرب" جواب سؤال مقدر تقديره: هل يمكن أن تستقر الحجرة المرفوضة في رأس الزاوية أو هل يجوز أن يقوم من أولاد الجارية هاجر نبي؟ فيكون الجواب: هذا هو عمل الرب.

 

ومما يزيد ذلك بيانا ما جاء في التوراة من بيان ما عهد الله به إلى إبراهيم عليه السلام في ابنه إسماعيل كما جاء في سفر التكوين، قال فيه: "وأما إسماعيل فإني قد سمعت دعاءك له، وها أنا ذا قد باركت فيه، وجعلته مثمرا، وسأكثره تكثيرا، وسيلد اثني عشر ملكا، وسأصيرهم أمة عظيمة". [16]

 

وقد ذهب اليهود والنصارى إلى أن المراد بالملوك الاثني عشر أولاد إسماعيل الاثني عشر وهو باطل؛ لأنهم لم يتملكوا ولم يدعوا الملكية.

 

ولكن هذا مطابق لما في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر بن سمرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش».

 

ولا ريب أن بني إسماعيل إنما صاروا أمة عظيمة بحيث ارتفع شأنهم بين الأمم، وظهرت فيهم الفضائل التي هي ثمرة البركة الموعودة من الله تعالى لإبراهيم، إنما حصل ذلك ببعثة محمد ﷺ.

 

وأيضا فلو كان كما يدعي اليهود والنصارى -لعنهم الله- من أن العرب تابعوا متقولا على الله كاذبا عليه، وحاربوا أولياء الله وأتباع رسله، وانتهكوا حرماتهم هذه القرون المتطاولة، لكان ذلك مناقضا لذلك الوعد الجميل من الله لإبراهيم عليه السلام فقد ظهر أن هذا النص من أوضح الأدلة على نبوة محمد ﷺ.

 

ومن الأدلة في الإنجيل أيضا ما جاء في رسالة بولس إلى أهل رومية، وهو أيضا في صحيفة أشعيا من العهد العتيق، قال: "سأدعو الذين ليسوا من شيعتي لي شيعة، والتي ليست بمحبوبتي لي محبوبة". [17]

 

وقد ادعى النصارى أن ذلك في شأن أتباع المسيح وادعوا أن رسالته عامة، وهو خلاف ما تواتر عليه نص الإنجيل، كما ورد في الفصل الخامس عشر من إنجيل متى، قال: "إني لم أرسل إلا لغنم بني إسرائيل الضالة" وفي الفصل العاشر منه أيضا أن المسيح لما أرسل الحواريين للدعوة قال: "سيروا إلى غنم بني إسرائيل الضالة". إلى غير ذلك مما دل على أن رسالته مختصة ببني إسرائيل، وهو موافق لما صح عن رسول الله ﷺ أنه قال: «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة».

 

إذ عرفت هذا فلا ريب أن ذلك الوصف إنما ينطبق على العرب، فإنهم كانوا قبل مبعث محمد ﷺ من أجهل الخلق بالله وبما جاءت به الرسل، لا يعرفون كتابا ولا يؤمنون بالرسل ولا يصدقون بالبعث. فمقتضى هذا النص أن هؤلاء الغافلين الجهال بالله، وما جاءت به رسله سيجعلهم الرب تعالى من شيعة الحق ويجعلهم له أهلا وينقلهم إلى القرب منه ويكونون له أحبابا.

 

ومما يوافق هذا النص ويوضح دلالته ما ورد في الفصل العاشر من رسالة بولس إلى أهل رومية، قال: "إني سأعيركم بأمة أخرى، وأغيظكم بأمة لا فهم لها". انتهى. [18]

 

وهذا النص أيضا في سفر الاستثناء من التوراة، وقد ساقه بولس في جملة ما وعظ به اليهود حتى يرتدعوا عما كانوا عليه، ويذكروا يوم يعيرهم الله بأمة أخرى، ويغيظهم بأمة لا فهم لها. وهذا الوصف لا ينطبق على غير العرب البتة، وإن حمله النصارى على من دخل في النصرانية من اليونان والروم فهو باطل. فإن عند أولئك علوما كثيرة وأفهاما قوية، بل هم أعلم من اليهود في جميع العلوم العقلية بكثير، وفيهم الحكماء الذين استنبطوا فنونا كثيرة ودونوها، وعرفت عنهم. وأما العرب فما كانوا قبل مبعث محمد ﷺ يتعاطون شيئا من العلوم العقلية أو النقلية، وغاية ما عندهم علم الشعر والبلاغة، وإن كانوا قد منحوا من صحة الأذهان وقوة العقول في أصل الجبلة ما فاقوا به غيرهم، لكن غلبت عليهم الغفلة فاستولى عليهم الجهل، فدل على أنهم المعنيون بهذا النص.

 

ومن هذا المعنى في صفة هذه الأمة ما جاء من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم ﷺ يقول: «إن الله تعالى قال لعيسى ابن مريم: إني باعث بعدك أمة إن أصابهم ما يحبون حمدوا وشكروا، وإن أصابهم ما يكرهون احتسبوا وصبروا، ولا حلم ولا علم. قال: يا رب كيف ولا حلم ولا علم؟ قال: أعطيهم من حلمي وعلمي». أخرجه البزار في مسنده وغيره.

 

وأيضا فلم يغظ اليهود أمة كما أغاظهم محمد ﷺ وأمته.

 

ومن ذلك ما ورد في الفصل العاشر من رسالة بولس إلى أهل رومية من كتب النصارى، وهو أيضا في صحيفة أشعياء من كتب اليهود: "إني وجدت عند من لم يطلبني، وظهرت عند من لم يسأل عني". [19]

 

وقد تأول النصارى هذا النص في اليونانيين الذين دخلوا في النصرانية زمن الفترة، وهو من جنس تحريفهم للنص قبله، وإلا فهو صريح في حق العرب كما أشرنا في الذي قبله.

 

وأيضا فاليونان لهم من الكلام في الإلهيات والبحث عنها ما هو مشهور، لكن بالطرق العقلية، لم يأخذوا ذلك من جهة الأنبياء. وأما العرب فكانوا في غفلة عن ذلك سوى ما بقي في فطرهم من الإقرار بالله، وأنه خالق كل شيء.

 

ومما يوضح دلالة هذا النص سياقه في صحيفة أشعياء، ولفظه: "إني أصبت عند من لم يسأل عني، ووجدت عند من لم يطلبني، وقلت لأمة لم تدع باسمي: انظري إلي، لأني قد أظهرت يدي طول النهار إلى فئة طاغية سالكة في سبيل سيئ ممتثلة لأهوائها. وفئة أي فئة تغيظني أمام وجهي، وتقرب قرابينها في البساتين، وتبخر في مباخر الشياطين التي تسكن المقابر، وتأكل لحم الخنازير، ومرق النجاسة في أوانيها". [20]

 

فمن قوله: "أصبت" إلى قوله: "انظري إلي" إشارة إلى صفة العرب وبعثه محمد ﷺ فيهم بالهدى ودين الحق. ومن قوله: "لأني" إلى قوله: "ممتثلة لأهوائها" إشارة إلى اليهود، وقد جاء القرآن من وصفهم بما يوافق هذا كوصفهم باتباع الأهواء، وتركهم الحق على علم، وغير ذلك من أخلاقهم الذميمة. ومن قوله: "وفئة" إلى قوله: "في أوانيها" إشارة ظاهرة في حق النصارى متضمنة وصفهم بالضلال والجهل بما هو طبق صفتهم في القرآن.

 

فقد تضمن هذا النص وصف الأمم الثلاث بمثل ما وصفهم القرآن، وجاء به محمد ﷺ، فكان دليلا من أدلة نبوته كما هو دليل على صدق من قبله حيث تطابق الوصفان من غير تواطؤ ولا اقتباس.

 

ومن ذلك ما ورد في الفصل الثالث عشر من إنجيل متى والثامن من إنجيل لوقا: "انظروا إلى زارع خرج للزرع، وبينما هو يزرع سقط بعض البذر في الطريق، فجاءت الطيور فلقطته، وسقط بعضه على الصخر حيث لم يكن التراب كثيرا، وفي ساعته نبت، لأنه لم يكن له في الأرض عمق، ولما طلعت الشمس احترق، ويبس، لأنه لم يكن له أصل، وسقط بعضه في الشوك، فنما الشوك وخنقه، وسقط بعضه في الأرض الطيبة، فأثمر مائة ضعف وبعضه ستين وبعضه ثلاثين، فمن كانت له أذن سامعة فليسمع".

 

وهذا المثل والله أعلم يتضمن وصف الأمم الثلاث بما يظهر للمتأمل.

 

والمقصود منه قوله: "وسقط بعضه في الأرض الطيبة" إلى آخره، فإنه موافق لما أخبر الله به في صفة أصحاب النبي ﷺ في قوله تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.

 

فذكر صفاتهم في التوراة والإنجيل فكان في هذا أعظم البراهين على صدق ما جاء بالتوراة والإنجيل والقرآن، وأن هؤلاء هم المذكورون في الكتب المتقدمة بهذه الصفات المشهورة فيهم، لا كما يقول الكفار عنهم إنهم متغلبون طالبو ملك ودنيا.

 

ولهذا لما رآهم نصارى الشام، وشاهدوا هديهم وسيرتهم وعدلهم، وعملهم ورحمتهم، وزهدهم في الدنيا، ورغبتهم في الآخرة قالوا: "ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء".

 

فكان هؤلاء النصارى أعرف بالصحابة وفضلهم من الرافضة أعدائهم، والرافضة تصفهم بضد ما وصفهم الله به في هذه الآية وغيرها.

 

فهذه عدة أدلة مما جاء به الإنجيل في البشارة بمحمد ﷺ وذكر صفته وصفة أمته. وقد ذكر العلماء كثيرا في هذا المعنى، اقتصرنا منها على ما قدمناه إيثارا للاختصار.

 

 

فصل

 

ومن الأدلة الواردة في التوراة

 

ما ذكره غير واحد من العلماء منهم ابن قتيبة في أعلام النبوة: "تجلى الله -وفي رواية: جاء الله- من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران". [21]

 

فسينا هو الجبل الذي كلم الله فيه موسى عليه السلام. وساعير هو الجبل الذي أرسل الله فيه عيسى عليه السلام، وظهرت فيه نبوته. وجبال فاران هو اسم عبراني، وليس ألفه الأولى همزة، وهي جبال بني هاشم التي كان رسول الله ﷺ يتحنث في أحدها، وفيه فاتحة الوحي.

 

قال ابن قتيبة: "وليس بعد هذا غموض، لأن مجيء الله من سينا إنزاله التوراة على موسى عليه السلام بطور سيناء، فيجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على المسيح عليه السلام، والمسيح يسكن من ساعير أرض الخليل بقرية تدعى ناصرة، وباسمها سمي من اتبعه نصارى. وكما وجب أن يكون إشراقه من ساعير إنزاله الإنجيل على عيسى عليه السلام، فكذلك يجب أن يكون استعلانه من فاران بإنزاله القرآن على محمد ﷺ، وهي جبال مكة. وليس بين المسلمين وأهل الكتاب اختلاف أن فاران هي مكة، وإن ادعى مدع أنها غير مكة قلنا: أليس في التوراة أن الله أسكن هاجر وإسماعيل فاران، وقلنا: دلونا على الموضع الذي استعلن الله منه، واسمه فاران، والنبي الذي أنزل عليه كتابا بعد المسيح عليه السلام".

 

قال شيخ الإسلام أبو العباس: وهذه الكتب نور الله، وهداه، ففي الأول جاء، والثاني أشرق والثالث استعلن، فمجيء التوراة كطلوع الفجر، والإنجيل مثل إشراق الشمس، والقرآن بمنزلة ظهور الشمس في السماء، فظهر به نور الله في المشارق والمغارب أعظم مما ظهر بالكتابين، ولهذا سماه الله تعالى سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا، والخلق محتاجون إلى الأول أعظم من الثاني. وهذه الثلاثة أقسم الله بها في قوله: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}. فالأول الأرض المقدسة التي ينبت فيها ذلك -ومنها بعث المسيح -، والثاني الجبل الذي كلم الله عليه موسى، والبلد الأمين مكة. ولما كان ما في التوراة خبرا عنها أخبر بها على الترتيب الزماني، وأما القرآن فأقسم بها تعظيما لشأنها، فأتى بها على وجه التدريج درجة بعد درجة، فهو من باب الترقي إلى الأعلى مما دونه. [22]

 

ومن ذلك ما جاء في زبور داود عليه السلام في مزمور أربعة وأربعين: "فاضت النعمة من شفتيك، من أجل هذا بارك الله لك إلى آخر الأبد. تقلد أيها الجبار بالسيف، فإن شريعتك وسنتك مقرونة بهيبة يمينك وسهامك مسنونة، وجميع الأمم يخرون تحتك". [23]

 

فهذا من أظهر الأدلة على نبوة محمد ﷺ، فالنعمة التي فاضت من شفتيه هو القول الذي يقوله، وهو الكتاب الذي أنزل عليه والسنة التي سنها، وليس يتقلد بالسيف من الأنبياء بعد داود إلا محمدا ﷺ، وقرنت شرائعه بالهيبة كقوله ﷺ: «نصرت بالرعب». وهو صريح أنه صاحب شريعة وسنة، وأنها تقوم بسيفه. وخاطبه بلفظ "الجبار" إشارة إلى قوته وقهره لأعداء الله، وأنه يجبر الخلق بالسيف على الحق، ويصرفهم عن الكفر جبرا - بخلاف المستضعف -، فهو نبي الرحمة، ونبي الملحمة، وأمته أشداء على الكفار رحماء بينهم. بخلاف من كان ذليلا للطائفتين من النصارى أو عزيزا على المؤمنين من اليهود، بل مستكبر.

 

وجاء في الزبور أيضا في صفاتهم: "يكبرون الله بأصوات مرتفعة، ويسبحونه على مضاجعهم، بأيديهم سيوف ذات شفرتين". [24]

 

قال شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية: وهذه الصفات إنما تنطبق على محمد ﷺ وأمته، فهم الذين يكبرون الله بأصوات مرتفعة، في أذانهم، وعلى الأماكن العالية، كما قال جابر: "كنا إذا علونا كبرنا، وإذا هبطنا سبحنا، فوضعت الصلاة على ذلك". وهم يكبرون بأصوات مرتفعة، في أعيادهم وفي أيام منى وعقيب الصلوات وعلى قرابينهم وعلى الصفا والمروة وغير ذلك. وليس هذا لغيرهم، فإن موسى يجمعهم بالبوق، والنصارى لهم ناقوس، والسيوف ذات الشفرتين هي العربية التي فتح بها الصحابة وأتباعهم البلاد. وقوله: "يسبحون على مضاجعهم: أي يذكرون الله حتى في هذه الحال، ويصلون في البيوت على المضاجع -بخلاف أهل الكتاب- والصلاة أعظم التسبيح. واليهود لا يكبرون بأصوات مرتفعة، ولا بأيديهم سيوف ذات شفرتين، بل هم مغلوبون مع الأمم، والنصارى تعيب من يقاتل الكفار، وفيهم من يجعله من معايب محمد وأمته. [25]

 

ومن ذلك ما جاء في كتاب أشعياء عليه السلام من البشارة به ﷺ: "يفتح العيون العور والآذان الصم ويحيي القلوب الغلف، وما أعطيه لا يعطى أحد، مشفح يحمد الله حمدا جديدا". [26]

 

فمشمح: محمد بغير شك، كما قال ابن القيم، قال: "واعتباره أنهم يقولون: شفحا لا ها، إذا أرادوا أن يقولوا: الحمد لله، وإذا كان الحمد شفحا، فمشفح محمد". [27]

 

والأدلة على نبوته ﷺ من الكتب التي بأيدي اليهود والنصارى أكثر مما ذكرناه، فلو أنهم تركوا الهوى واتبعوا الهدى وصدقوا كتب الله لعرفوا أن محمدا رسول الله وأن نعوته وصفاته وصفات أمته مسطرة في الكتب التي بأيديهم وأنه لا عذر لهم في إصرارهم على الكفر به ومخالفته، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا}.

 

على أنا لو لم نأت بهذه الأنباء والقصص من كتبهم، ألم يك فيما أودع الله عز وجل القرآن دليل على ذلك؟ وفي تركهم جحد ذلك وإنكاره وهو يقرعهم به دليل على اعترافهم له فإنه يقول: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} ويقول حكاية عن المسيح عليه السلام: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} ويقول: {يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ويقول: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}.

 

وكما قد كان ﷺ يدعوهم إلى اتباعه وتصديقه، فكيف يجوز أن يحتج بباطل من الحجج، ثم يحيل ذلك على ما عندهم وما في أيديهم، ويقول: من علامة نبوتي وصدقي أنكم تجدوني عندكم مكتوبا، وهم لا يجدونه كما ذكر؟ أوليس ذلك مما يزيدهم عنه بعدا، وقد كان غنيا عن أن يدعوهم بما ينفرهم، ويستميلهم بما يوحشهم؟ ولو أنهم وجدوا خلاف قوله لكان إظهاره أهون عليهم من إتلاف النفوس والأموال وتخريب الديار.

 

 

وكم أسلم من علمائهم، كعبد الله بن سلام وابني سعنة وابن يامين ومخيريق وكعب الأحبار، وأشباههم من علماء اليهود، وبحيرى ونسطور وصاحب بصرى، وأسقف الشام والجارود العبدي وسلمان الفارسي ونصارى الحبشة وأساقف نجران وغيرهم ممن أسلم من علماء النصارى، وكلهم قد وقفوا منه على مثل هذه الدعاوى. فلولا أنهم يعلمون صدقه فيما قال، ويجدون صفته في الكتب التي بأيديهم، وإلا لكان ذلك مما ينفرهم، ويبعدهم عنه.

 

وقد اعترف بنبوته هرقل وصاحب دومة، عالما النصارى ورئيساهم، والمقوقس صاحب مصر وابن صورى وابن أخطب وأخوه وكعب بن أسد والزبير بن باطيا، وغيرهم من علماء أهل الكتاب ممن حمله حب الرئاسة أو الحسد والنفاسة على البقاء على الشقاء. والأخبار في هذا كثيرة لا تنحصر.

 

وقد قال الحارث بن عوف لعيينة بن حصن -ورآه جادا في عداوة رسول الله ﷺ ولم يحصل على شيء-: "ألم أقل لك إنك توضع في غير شيء، والله ليظهرن محمد على ما بين المشرق والمغرب، يهود كانوا يخبروننا بهذا، أشهد لسمعت أبا رافع سلام بن أبي الحقيق يقول: إنا نحسد محمدا على النبوة، حيث خرجت من بني هارون، وهو نبي مرسل، ويهود لا تطاوعني على هذا، ولنا منه ذبحان واحد بيثرب وآخر بخيابر. قال الحارث قلت لسلام: يملك الأرض جميعا؟ قال: نعم والتوراةِ التي أنزلت على موسى، وما أحب أن تعلم بقولي فيه".

 

ومن هذا استفتاح اليهود على مخالفيهم عند القتال بمجيئه كما قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}.

 

قال محمد بن إسحاق عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري عن أشياخ منهم قالوا: "فينا والله وفيهم -يعني اليهود الذي كانوا جيرانهم- نزلت هذه القصة: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} إلى قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} قالوا: كنا قد علوناهم دهرا في الجاهلية، وكنا أهل شرك، وهم أهل الكتاب، فكانوا يقولون: إن نبيا سيبعث الآن نتبعه قد أظل زمانه، فنقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به، يقول الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ".

 

وقال ابن اسحاق: أخبرني محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد بن جبير عن ابن عباس: أن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ﷺ قبل مبعثه، فلما بعثه الله من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل وبشر بن البراء بن معرور وداود بن سلمة: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته، فقال بشر بن مشكم -أخو بني النضير-: ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكره، فأنزل الله في ذلك حين قولهم: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ} الآية.

 

إذا عرف ذلك فهو من أوضح الأدلة وأكبر الحجج على نبوة محمد ﷺ لأنهم ما كانوا يستفتحون به إلا لما يعلمون من نعته وصفاته وزمانه، فلما ظهر ﷺ كفروا به حسدا وبغيا وجحدوا نبوته.

 

ولا ريب أن استفتاحهم به وجحد نبوته لا يجتمعان، فإن كان استفتاحهم به لأنه نبي كان جحد نبوته محالا، وإن كان جحد نبوته كما يزعمون حقا كان استفتاحهم به باطلا.

 

وهذا مما لا جواب لأعداء الله عنه البتة سوى أن يقولوا إن هذا الموجود ليس بالذي كنا نستفتح به. وهذا من أعظم الجحد والعناد، فإن الصفات والعلامات التي فيه طابقت ما كان عندهم مطابقة المعلوم لعلمه، فإنكارهم أن يكون هو هذا جحد باللسان مع أن القلب يعرفه معرفة تامة.

 

ولهذا قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} ثم قال تعالى: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.

 

قال السدي: " {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} يقول: بئسما باعوه به أنفسهم، يقول: بئسما اعتاضوا لأنفسهم ورضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد من تصديقه ومؤازرته ونصرته. وإنما حملهم على ذلك البغي والحسد والكراهية أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، ولا حسد أعظم من هذا {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} ". [28]

 

قال ابن عباس: غضب بما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم. ثم قال: {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} لما كان كفرهم سببه البغي -ومنشأ ذلك الكبر- قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة. [29]

 

ثم قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}.

 

قال أبو عبد الله ابن القيم في هذه الآية:

 

هذه حكاية مناظرة بين الرسول وبين اليهود لما قال لهم: آمنوا بما أنزل الله، فأجابوه بأن قالوا نؤمن بما أنزل علينا، ومرادهم التخصيص، أي نؤمن بالمنزل علينا غيره، فظهرت عليهم الحجة بقولهم هذا من وجهين:

 

أحدهما: أنه إن كان إيمانكم به لأنه حق فقد وجب عليكم أن تؤمنوا بما أنزل على محمد، لأنه حق مصدق لما معكم، وحكم الحق الإيمان به أين كان، ومع من كان، فلزمكم الإيمان بالحقين جميعا أو الكفر الصريح، ففي ضمن هذا الشهادة عليهم بأنهم لم يؤمنوا بالحق الأول، ولا بالثاني. وهذا الحكم في كل من فرق الحق، فآمن ببعضه، وكفر ببعضه، كمن آمن ببعض الكتاب، وكفر ببعض، وكمن آمن ببعض الأنبياء، وكفر ببعض، لم ينفعه إيمانه حتى يؤمن بالجميع. ونظير هذا التفريق تفريق من يرد آيات الصفات وأخبارها، ويقبل آيات الأوامر والنواهي، فإن ذلك لا ينفعه، لأنه آمن ببعض الرسالة، وكفر ببعض، فإن كانت الشبهة التي عرضت لمن كفر ببعض الأنبياء غير نافعة، فالشبهة التي عرضت لمن رد بعض ما جاء به النبي ﷺ أولى ألا تكون نافعة، وإن كانت هذه عذرا فشبهة من كذب ببعض الأنبياء مثلها. وكما أنه لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع الأنبياء، ومن كفر بنبي من الأنبياء فهو كمن كفر بجميعهم، فكذلك لا يكون مؤمنا حتى يؤمن بجميع ما جاء به الرسول، فإذا آمن ببعضه ورد بعضه فهو كمن كفر به كله. فتأمل هذا الموضع، واعتبر به الناس على اختلاف طرائقهم يتبين لك أن أكثر من يدعي الإيمان بريء من الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

 

الوجه الثاني من النقض: قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}. ووجه النقض أنكم تزعمون أنكم تؤمنون بما أنزل إليكم وبالأنبياء الذين بعثوا فيكم، فلم قتلتموهم، وفيما أنزل إليكم الإيمان بهم وتصديقهم؟ فلا آمنتم بما أنزل إليكم، ولا ما أنزل على محمد. ثم كأنه توقع منهم الجواب بأنا لم نقتل من ثبتت نبوته، ولم نكذبه، فأجيبوا على تقدير هذا الجواب الباطل منهم بأن موسى قد جاءكم بالبينات وما لا ريب معه في صحة نبوته، ثم عبدتم العجل بعد غيبته عنكم وأشركتم بالله وكفرتم به، وقد علمتم نبوة موسى وقيام البراهين على صدقه، فقال: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} فهكذا تكون الحجج، والبراهين، ومناظرة الأنبياء لخصومهم". انتهى. [30]

 

قال محمد بن إسحاق: "حدثني صالح بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف عن محمود بن لبيد -أخي عبد الأشهل- عن سلمة بن سلامة بن وقش -وكان سلمة من أصحاب بدر-، قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يوما من بيته حتى وقف على بني عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنا، فذكر القيامة، والبعث والحساب، والميزان، والجنة، والنار، قال: فقال ذلك لقوم أهل شرك وأصحاب أوثان لا يرون أن بعثا كائن بعد الموت، فقالوا له: ويحك -يا فلان- أوتراها كائنة أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، ويجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم، والذي يحلف به، ولود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبقونه عليه بأن ينجو من تلك النار غدا. قالوا له: ويحك -يا فلان- فما آية ذلك؟ قال: نبي مبعوث من نحو هذه البلاد -وأشار بيده إلى مكة واليمن-. قالوا: ومتى نراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنا، فقال: إن يستنفد هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله، وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيا وحسدا. قال: فقلنا له: ويحك -يا فلان- ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى، ولكن ليس به".

 

وأخرج ابن إسحاق أيضا قصة ابن الهيبان، وهو رجل من أهل الشام من اليهود قدم المدينة على بني قريظة في الجاهلية، ووصف الراوي من فضله وأنهم كانوا يستسقون به المطر.

 

قال: ثم حضرته الوفاة عندنا، فلما عرف أنه ميت قال: يا معشر اليهود، ما ترونه أخرجني من أرض الخمر والخمير إلى أرض البؤس والجوع؟ قال: فقلنا: أنت أعلم. قال: فإني إنما قدمت هذه البلدة أتوكف خروج نبي قد أظل زمانه وهذه البلدة مهاجره، وكنت أرجو أن يبعث فأتبعه، وقد أظلكم زمانه فلا تسبقن إليه، يا معشر يهود، فإنه يبعث بسفك الدماء وبسبي الذراري ممن خالفه، فلا يمنعكم ذلك منه. فلما بعث رسول الله ﷺ وحاصر بني قريظة قال هؤلاء الفتية، وهم ثعلبة بن سعية وأسيد بن سعنة وأسد بن عبيد -وكانوا شبابا أحداثا-: يا بني قريظة، والله إنه للنبي الذي كان عهد إليكم ابن الهيبان. قالوا: ليس به. قالوا: بلى والله، إنه لهو بصفته، فنزلوا، فأسلموا، فأحرزوا دماءهم وأموالهم وأهليهم.

 

وأخرج الحاكم صاحب المستدرك والبيهقي في دلائل النبوة من طريقه بسند لا بأس به كما قال ابن كثير، عن أبي أمامة الباهلي عن هشام بن العاص الأموي قال: بعثت أنا ورجل آخر إلى هرقل -صاحب الروم-، ندعوه إلى الإسلام. فذكر الحديث. وأنه أرسل إليهما ليلا. قال: فدخلنا عليه، فدعا بشيء كهيئة الربعة العظيمة مذهبة، فيها بيوت صغار عليها أبواب، ففتح، واستخراج حريرة سوداء، فنشرها، فإذا صورة حمراء، وإذا رجل ضخم العينين عظيم الإليتين لم أر مثل طول عنقه، وإذا له ضفيرتان أحسن ما خلق الله. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا آدم عليه السلام. ثم فتح بابا آخر، فاستخرج منه حريرة سوداء فإذا فيها صورة بيضاء، وإذا رجل أحمر العينين ضخم الهامة حسن اللحية. فقال: أتعرفون هذا؟ قلنا: لا. قال: هذا نوح عليه السلام. قال: ثم فتح بابا آخر، وأخرج حريرة فيه صورة بيضاء وإذا فيها - والله - رسول الله ﷺ. قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، محمد رسول الله، وبكينا. قال: والله إنه قام قائما، ثم جلس، وقال: إنه لهو. قلنا: نعم، إنه لهو كأنك تنظر إليه. فأمسك ساعة ينظر إليها، ثم قال: أما والله إنه آخر البيوت، ولكني عجلته لأنظر ما عندكم -الحديث، وفيه ذكر صور الأنبياء إبراهيم وموسى وعيسى وسليمان، وغيرهم- قال: فقلنا له: من أين هذه الصور؟ قال: إن آدم سأل ربه أن يريه الأنبياء من ولده، فأنزل عليه صورهم. فكان في خزانة آدم عليه السلام عند مغرب الشمس، فاستخرجها ذو القرنين من مغرب الشمس، فدفعها إلى دانيال. ثم قال: أما والله إن نفسي طابت بالخروج من ملكي، وإني كنت عبدا لأشركم، ملكه حتى أموت. ثم أجازنا، فأحسن جوائزنا، فسرحنا. فلما أتينا أبا بكر الصديق فحدثنا بما رأينا وبما قال لنا وبما أجازنا، قال: فبكى أبو بكر، وقال: مسكين، لو أراد الله به خيرا لفعل. ثم قال: أخبرنا رسول الله ﷺ أنهم واليهود يجدون نعت محمد ﷺ عندهم.

 

وبالجملة، فالأخبار باعتراف كثير من اليهود والنصارى بنبوته والإقرار بصدقه ممن قدمنا ذكرهم وغيرهم كثيرة مشهورة في كتب الأحاديث والسير. تركنا إيرادها قصد الاختصار.

 

هامش 

تفسير ابن كثير/سورة النساء

الجواب الصحيح لابن تيمية ج5

شرف أصحاب الحديث ح70

شرف أصحاب الحديث ح76

البحث الصريح في أيما هو الدين الصحيح/الباب الخامس

قال ويليام موير في مقدمة كتابه حياة محمد ط1274هـ ص14-15: "لا يوجد في العالم على الأرجح كتاب آخر بقي اثني عشر قرنا بنص بمثل هذا النقاء الشديد".

مقدمة تفسير ابن كثير

تفسير ابن كثير/سورة آل عمران

الرد على اليهود والنصارى

يوحنا 14: 24-26

يوحنا 16: 8-14

خير البشر بخير البشر لابن ظفر الصقلي ق9

الأعمال 3: 22 التثنية 18: 15

التثنية 34: 10

متى 21: 42 أشعياء 28: 16

التكوين 17: 20

رومية 9: 25

رومية 10: 19 التثنية 32: 21

رومية 10: 20

أشعياء 65: 1-4

التثنية 33: 2

الجواب الصحيح ج5

مزمور 45: 2-5

مزمور 149: 4-5

الجواب الصحيح ج5

أشعياء 42: 7-10

هداية الحيارى

تفسير ابن كثير/سورة البقرة

تفسير ابن كثير، سورة البقرة

    بدائع الفوائد  .ج4

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...