يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الأربعاء، 29 مارس 2023

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ابن تيمية {من ج1 الي ج4..}

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الأول

المحتويات

المقدمة

مقدمة الكتاب

فصل: دين الأنبياء واحد هو الإسلام

من أسباب ظهور الإيمان

أولا: ظهور المعارضين للحق

ثانيا: معارضة أعداء الحق بدعاويهم الكاذبة

ثالثا: التحذير من اتباع بدع اليهود والنصارى

سبب تأليف الكتاب

مجمل ما جاء برسالة بولس من دعاوى

نهج المؤلف في رد دعاويهم الباطلة

ما كفرت به النصارى

تكفير اليهود للنصارى والنصارى لليهود

فصل: توضيح الدعوى والرد عليها

ما يثبت به الاحتجاج على المسلمين

صدق الرسول وعصمته من الكذب

الرد على أهل الكتاب في قولهم بالإرسال الكوني

تفرق أهل الكتاب في النبي صلى الله عليه وسلم

الرد على دعوى قصر الرسالة على العرب بالتفصيل

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم

قدوم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على عموم رسالته

الجمع بين مجادلة أهل الكتاب وقتالهم

فصل: من أدلة عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

إسلام النجاشي

فصل: إسلام من أسلم من نصارى العرب

إرساله الرسل إلى جميع الطوائف

فصل: قتاله صلى الله عليه وسلم النصارى

فصل: إرسال الكتب والرسل إلى ملوك الفرس

فصل: أدلة الكتاب والسنة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

فصل: ابتداع اليهود والنصارى في دينهم

اجتماع المسلمين بإجماعهم وتفرق النصارى بابتداعهم

فصل: شبهات النصارى على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وردها

الرد على النصارى في دعواهم أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم متناقض

فصل: معجزات محمد صلى الله عليه وسلم

فصل: رد احتجاجهم ببعض الآيات على خصوصية الرسالة

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الأول

مقدمة الكتاب

بسم الله الرحمن الرحيم

لا إله إلا الله محمد رسول الله، الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين.

الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.

الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل.

والله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا.

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو الرحيم الغفور.

الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلا أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم: له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم؛ الأحد، الصمد، الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الملك، القدوس، السلام المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، له الأسماء الحسنى، يسبح له ما في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا، أرسله بالحق بين يدي الساعة بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا، أرسله إلى جميع الثقلين الجن والإنس عربهم وعجمهم أميهم وكتابيهم، وأنزل عليه: أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد.

كتاب أنزله ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض.

هداهم به إلى صراط مستقيم، صراط الذي له ما في السماوات وما في الأرض، وهو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهو دين الله الذي بعث به الرسل قبله، كما قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.

وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون.

وقال في الآية الأخرى: وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.

أنزل عليه الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه، فصدق كتابه ما بين يديه من كتب السماء، وأمر بالإيمان بجميع الأنبياء، كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.

وهيمن على ما بين يديه من الكتاب، وذلك يعم الكتب كلها، شاهدا وحاكما ومؤتمنا، يشهد بمثل ما فيها من الأخبار الصادقة.

وقرر ما في الكتاب الأول من أصول الدين وشرائعه الجامعة التي اتفقت عليها الرسل، كالوصايا المذكورة في آخر الأنعام، وأول الأعراف، وسورة سبحان، ونحوها من السور المكية.

قال تعالى: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون.

وقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله ويحسبون أنهم مهتدون يابني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون.

وقال تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئا كبيرا ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا كل ذلك كان سيئه عند ربك مكروها ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا.

فدين الأنبياء والمرسلين دين واحد، وإن كان لكل من التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاج، ولهذا قال ﷺ في الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد، وإن أولى الناس بابن مريم لأنا، إنه ليس بيني وبينه نبي.

فدين المرسلين يخالف دين المشركين المبتدعين الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا.

قال تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.

وقد خص الله تبارك وتعالى محمدا ﷺ بخصائص ميزه بها على جميع الأنبياء والمرسلين، وجعل له شرعة ومنهاجا، أفضل شرعة وأكمل منهاج.

كما جعل أمته خير أمة أخرجت للناس، فهم يوفون سبعين أمة هم خيرها وأكرمها على الله من جميع الأجناس، هداهم الله بكتابه ورسوله لما اختلفوا فيه من الحق قبلهم، وجعلهم وسطا عدلا خيارا، فهم وسط في توحيد الله وأسمائه وصفاته، وفي الإيمان برسله، وكتبه، وشرائع دينه من الأمر، والنهي، والحلال، والحرام.

فأمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، لم يحرم عليهم شيئا من الطيبات كما حرم على اليهود، ولم يحل لهم شيئا من الخبائث كما استحلتها النصارى، ولم يضيق عليهم باب الطهارة، والنجاسة كما ضيق على اليهود، ولم يرفع عنهم طهارة الحدث، والخبث كما رفعته النصارى، فلا يوجبون الطهارة من الجنابة ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يعد كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات حتى يقال في فضائل الراهب: " له أربعون سنة ما مس الماء "، ولهذا تركوا الختان مع أنه شرع إبراهيم الخليل وأتباعه.

واليهود إذا حاضت عندهم المرأة، لا يؤاكلونها ولا يشاربونها، ولا يقعدون معها في بيت واحد؛ والنصارى لا يحرمون وطء الحائض.

وكان اليهود لا يرون إزالة النجاسة، بل إذا أصاب ثوب أحدهم قرضه بالمقراض، والنصارى ليس عندهم شيء نجس يحرم أكله أو تحرم الصلاة معه.

ولذلك المسلمون وسط في الشريعة؛ فلم يجحدوا شرعه الناسخ لأجل شرعه المنسوخ، كما فعلت اليهود، ولا غيروا شيئا من شرعه المحكم، ولا ابتدعوا شرعا لم يأذن به الله كما فعلت النصارى، ولا غلوا في الأنبياء والصالحين كغلو النصارى، ولا بخسوهم حقوقهم كفعل اليهود، ولا جعلوا الخالق سبحانه متصفا بخصائص المخلوق، ونقائضه، ومعايبه من الفقر، والبخل، والعجز، كفعل اليهود، ولا المخلوق متصفا بخصائص الخالق سبحانه التي ليس كمثله فيها شيء كفعل النصارى، ولم يستكبروا عن عبادته كفعل اليهود، ولا أشركوا بعبادته أحدا كفعل النصارى.

وأهل السنة والجماعة في الإسلام كأهل الإسلام في أهل الملل، فهم وسط في باب صفات الله عز وجل بين أهل الجحد والتعطيل، وبين أهل التشبيه والتمثيل، يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسله من غير تعطيل، ولا تمثيل إثباتا لصفات الكمال، وتنزيها له عن أن يكون له فيها أنداد، وأمثال، إثبات بلا تمثيل وتنزيه بلا تعطيل. كما قال تعالى: ليس كمثله شيء ردا على الممثلة، وهو السميع البصير ردا على المعطلة.

وقال تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

فالصمد: السيد المستوجب لصفات الكمال، والأحد: الذي ليس له كفو، ولا مثال، وهم وسط في باب أفعال الله عز وجل بين المعتزلة المكذبين للقدر، والجبرية النافين لحكمة الله ورحمته وعدله، والمعارضين بالقدر أمر الله، ونهيه، وثوابه، وعقابه.

وفي باب الوعد والوعيد، بين الوعيدية الذين يقولون بتخليد عصاة المسلمين في النار، وبين المرجئة الذين يجحدون بعض الوعيد، وما فضل الله به الأبرار على الفجار.

وهم وسط في أصحاب رسول الله ﷺ، بين الغالي في بعضهم الذي يقول بإلهية، أو نبوة، أو عصمة، والجافي فيهم الذي يكفر بعضهم، أو يفسقه، وهم خيار هذه الأمة.

والله سبحانه أرسل محمدا ﷺ للناس رحمة وأنعم به نعمة يا لها من نعمة.

قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.

وقال تعالى: ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا.

وهم الذين لم يؤمنوا بمحمد ﷺ؛ فإرساله أعظم نعمة أنعم الله بها على عباده، يجمع الله لأمته بخاتم المرسلين، وإمام المتقين وسيد ولد آدم أجمعين، ما فرقه في غيرهم من الفضائل، وزادهم من فضله أنواع الفواضل بل أتاهم كفلين من رحمته كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.

وفي الصحيحين عن ابن عمر وأبي موسى عن النبي ﷺ أنه قال: إنما أجلكم في أجل من خلا من الأمم، ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس، وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجل استعمل عمالا فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ فعملت اليهود إلى نصف النهار، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال من يعمل من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين يعملون من صلاة العصر إلى مغرب الشمس ألا لكم الأجر مرتين. فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا نحن أكثر عملا، وأقل عطاء، فقال الله تعالى: فهل ظلمتكم من حقكم شيئا، قالوا: لا، قال الله تعالى، فإنه فضلي أعطيه من شئت.

أما بعد: فإن الله تبارك وتعالى جعل محمدا ﷺ خاتم النبيين، وأكمل له ولأمته الدين، وبعثه على حين فترة من الرسل وظهور الكفر، وانطماس السبل، فأحيا به ما درس من معالم الإيمان، وقمع به أهل الشرك من عباد الأوثان، والنيران، والصلبان، وأذل به كفار أهل الكتاب أهل الشك والارتياب، وأقام به منار دينه الذي ارتضاه، وشاد به ذكر من اجتباه من عباده واصطفاه، وأظهر به ما كان مخفيا عند أهل الكتاب، وأبان به ما عدلوا فيه عن منهج الصواب، وحقق به صدق التوراة، والزبور، والإنجيل، وأماط به عنها ما ليس بحقها من باطل التحريف، والتبديل.

وكان من سنة الله تبارك وتعالى مواترة الرسل، وتعميم الخلق بهم، بحيث يبعث في كل أمة رسولا؛ ليقيم هداه، وحجته، كما قال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.

وقال تعالى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير.

وقال تعالى: ثم أرسلنا رسلنا تترى.

وقال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما.

ولما أهبط آدم إلى الأرض، قال تعالى: قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى.

وقال تعالى عن أهل النار: كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وقال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.

وقال تعالى: يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون.

فصل: دين الأنبياء واحد هو الإسلام

وكان دينه الذي ارتضاه الله لنفسه هو دين الإسلام: الذي بعث الله به الأولين والآخرين من الرسل، ولا يقبل من أحد دينا غيره لا من الأولين ولا من الآخرين.

وهو دين الأنبياء وأتباعهم، كما أخبر الله تعالى بذلك عن نوح ومن بعده إلى الحواريين.

قال تعالى: واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين.

وقال تعالى عن إبراهيم: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

وقال تعالى عن يوسف الصديق: رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين.

وقال تعالى عن موسى: ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين.

وأخبر تعالى عن السحرة، أنهم قالوا لفرعون: وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين.

وقال تعالى عن بلقيس ملكة اليمن: رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين.

وقال تعالى عن أنبياء بني إسرائيل: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا.

وقال تعالى عن المسيح: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون.

وقال تعالى: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون.

فهذا دين الأولين والآخرين من الأنبياء وأتباعهم هو دين الإسلام، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، وعبادته تعالى في كل زمان ومكان، بطاعة رسله عليهم السلام.

فلا يكون عابدا له من عبده بخلاف ما جاءت به رسله: كالذين قال فيهم: أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله.

فلا يكون مؤمنا به إلا من عبده بطاعة رسله، ولا يكون مؤمنا به، ولا عابدا له إلا من آمن بجميع رسله، وأطاع من أرسل إليه، فيطاع كل رسول إلى أن يأتي الذي بعده، فتكون الطاعة للرسول الثاني.

قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.

ومن فرق بين رسله فآمن ببعض وكفر ببعض كان كافرا، كما قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما.

فلما كان محمد ﷺ خاتم النبيين، ولم يكن بعده رسول، ولا من يجدد الدين لم يزل الله سبحانه وتعالى يقيم لتجديد الدين من الأسباب ما يكون مقتضيا لظهوره، كما وعد به في الكتاب، فيظهر به محاسن الإيمان ومحامده، ويعرف به مساوئ الكفر ومفاسده.

من أسباب ظهور الإيمان

أولا: ظهور المعارضين للحق

ومن أعظم أسباب ظهور الإيمان والدين، وبيان حقيقة أنباء المرسلين ظهور المعارضين لهم من أهل الإفك المبين.

كما قال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم.

وقال تعالى: ويوم يعض الظالم على يديه يقول ياليتني اتخذت مع الرسول سبيلا ياويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا لقد أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني وكان الشيطان للإنسان خذولا وقال الرسول يارب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا.

وذلك أن الحق إذا جحد وعورض بالشبهات أقام الله تعالى له مما يحق به الحق، ويبطل به الباطل من الآيات البينات بما يظهره من أدلة الحق وبراهينه الواضحة، وفساد ما عارضه من الحجج الداحضة.

فالقرآن لما كذب به المشركون، واجتهدوا على إبطاله بكل طريق مع أنه تحداهم بالإتيان بمثله، ثم بالإتيان بعشر سور، ثم بالإتيان بسورة واحدة، كان ذلك مما دل ذوي الألباب على عجزهم عن المعارضة، مع شدة الاجتهاد، وقوة الأسباب، ولو اتبعوه من غير معارضة وإصرار على التبطيل، لم يظهر عجزهم عن معارضته التي بها يتم الدليل.

وكذلك السحرة لما عارضوا موسى ، وأبطل الله ما جاءوا به، كان ذلك مما بين الله تبارك وتعالى به صدق ما جاء به موسى ، وهذا من الفروق بين آيات الأنبياء وبراهينهم التي تسمى بالمعجزات، وبين ما قد يشتبه بها من خوارق السحرة، وما للشيطان من التصرفات، فإن بين هذين فروقا متعددة، منها ما ذكره الله تعالى في قوله: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم.

ومنها ما بينه في آيات التحدي، من أن آيات الأنبياء عليهم السلام لا يمكن أن تعارض بالمثل فضلا عن الأقوى، ولا يمكن أحدا إبطالها بخلاف خوارق السحرة والشياطين؛ فإنه يمكن معارضتها بمثلها وأقوى منها ويمكن إبطالها.

ثانيا: معارضة أعداء الحق بدعاويهم الكاذبة

وكذلك سائر أعداء الأنبياء من المجرمين شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا إذا أظهروا من حججهم ما يحتجون به على دينهم المخالف لدين الرسول، ويموهون في ذلك بما يلفقونه من منقول ومعقول - كان ذلك من أسباب ظهور الإيمان الذي وعد بظهوره على الدين كله بالبيان والحجة والبرهان ثم بالسيف واليد والسنان.

قال الله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز.

وذلك بما يقيمه الله تبارك وتعالى من الآيات والدلائل التي يظهر بها الحق من الباطل، والخالي من العاطل، والهدى من الضلال، والصدق من المحال، والغي من الرشاد، والصلاح من الفساد، والخطأ من السداد، وهذا كالمحنة للرجال التي تميز بين الخبيث والطيب. قال تعالى: ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب.

وقال تعالى: الم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون.

والفتنة هي الامتحان والاختبار، كما قال موسى : إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء.

أي امتحانك واختبارك تضل بها من خالف الرسل وتهدي بها من اتبعهم.

والفتنة للإنسان كفتنة الذهب إذا أدخل كير الامتحان، فإنها تميز جيده من رديئه، فالحق كالذهب الخالص، كلما امتحن ازداد جودة، والباطل كالمغشوش المضيء، إذا امتحن ظهر فساده.

فالدين الحق كلما نظر فيه الناظر، وناظر عنه المناظر، ظهرت له البراهين، وقوي به اليقين، وازداد به إيمان المؤمنين، وأشرق نوره في صدور العالمين.

والدين الباطل إذا جادل عنه المجادل، ورام أن يقيم عوده المائل، أقام الله تبارك وتعالى من يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، وتبين أن صاحبه الأحمق كاذب مائق، وظهر فيه من القبح والفساد، والحلول، والاتحاد، والتناقض والإلحاد، والكفر، والضلال، والجهل والمحال، ما يظهر به لعموم الرجال أن أهله من أضل الضلال، حتى يظهر فيه من الفساد ما لم يكن يعرفه أكثر العباد، ويتنبه بذلك من سنة الرقاد من كان لا يميز الغي من الرشاد، ويحيا بالعلم والإيمان من كان ميت القلب لا يعرف معروف الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولا ينكر منكر المغضوب عليهم والضالين، فإن ما ذم الله به اليهود والنصارى في كتابه مثل تكذيب الحق المخالف للهوى، والاستكبار عن قبوله، وحسد أهله، والبغي عليهم، واتباع سبيل الغي، والبخل، والجبن، وقسوة القلوب، ووصف الله سبحانه وتعالى بمثل عيوب المخلوقين، ونقائصهم، وجحد ما وصف به نفسه من صفات الكمال المختصة به التي لا يماثله فيها مخلوق، وبمثل الغلو في الأنبياء والصالحين والإشراك في العبادة لرب العالمين، والقول بالحلول والاتحاد الذي يجعل العبد المخلوق هو رب العباد، والخروج في أعمال الدين عن شرائع الأنبياء والمرسلين، والعمل بمجرد هوى القلب وذوقه ووجده في الدين من غير اتباع العلم الذي أنزله الله في كتابه المبين، واتخاذ أكابر العلماء، والعباد أربابا يتبعون فيما يبتدعونه من الدين المخالف للأنبياء عليهم السلام كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول، بما يظن أنه من التنزلات الإلهية، والفتوحات القدسية، مع كونه من وساوس اللعين، حتى يكون صاحبها ممن قال الله فيه: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وقال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل.

إلى غير ذلك من أنواع البدع والضلالات، التي ذم الله بها أهل الكتابين، فإنها مما حذر الله منه هذه الأمة الأخيار، وجعل ما حل بها عبرة لأولي الأبصار.

ثالثا: التحذير من اتباع بدع اليهود والنصارى

وقد أخبر النبي ﷺ أنه لا بد من وقوعها في بعض هذه الأمة، وإن كان قد أخبر ﷺ أنه لا يزال في أمته أمة قائمة على الحق، لا يضرهم من خالفهم، ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة، وأن أمته لا تجتمع على ضلالة، ولا يغلبها من سواها من الأمم، بل لا تزال منصورة متبعة لنبيها المهدي المنصور.

لكن لا بد أن يكون فيها من يتتبع سنن اليهود والنصارى والروم والمجوس، كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا في جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟.

وفي الصحيحين أيضا، عن أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: لتأخذ أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر، وذراعا بذراع، قالوا: يا رسول الله، فارس والروم، قال: فمن الناس إلا أولئك.

وفي المظهرين للإسلام منافقون، والمنافقون في الدرك الأسفل من النار تحت اليهود والنصارى؛ فلهذا كان ما ذم الله به اليهود والنصارى قد يوجد في المنافقين المنتسبين للإسلام الذين يظهرون الإيمان بجميع ما جاء به الرسول، ويبطنون خلاف ذلك كالملاحدة الباطنية، فضلا عمن يظهر الإلحاد منهم.

ويوجد بعض ذلك في أهل البدع، ممن هو مقر بعموم رسالة النبي ﷺ، باطنا وظاهرا، لكن اشتبه عليه بعض ما اشتبه على هؤلاء، فاتبع المتشابه، وترك المحكم كالخوارج وغيرهم من أهل الأهواء.

وللنصارى في صفات الله سبحانه وتعالى، واتحاده بالمخلوقات ضلال شاركهم فيه كثير من هؤلاء، بل من الملاحدة من هو أعظم ضلالا من النصارى.

والحلول والاتحاد نوعان: عام، وخاص.

فالعام: كالذين يقولون إن الله بذاته حال في كل مكان، أو إن وجوده عين وجود المخلوقات.

والخاص: كالذين يقولون بالحلول والاتحاد في بعض أهل البيت، كعلي، وغيره، مثل النصيرية، وأمثالهم، أو بعض من ينتسب إلى أهل البيت كالحاكم، وغيره، مثل الدرزية وأمثالهم، أو بعض من يعتقد فيه المشيخة، كالحلاجية، وأمثالهم.

فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى حل، أو اتحد بأحد من الصحابة، أو القرابة، أو المشايخ، فهو من هذا الوجه أكفر من النصارى الذين قالوا بالاتحاد والحلول في المسيح، فإن المسيح أفضل من هؤلاء كلهم.

ومن قال بالحلول والاتحاد العام، فضلاله أعم من ضلال النصارى، وكذلك من قال بقدم أرواح بني آدم، أو أعمالهم، أو كلامهم، أو أصواتهم، أو مداد مصاحفهم، أو نحو ذلك، ففي قوله شعبة من قول النصارى.

فبمعرفة حقيقة دين النصارى وبطلانه يعرف به بطلان ما يشبه أقوالهم من أقوال أهل الإلحاد والبدع.

فإذا جاء نور الإيمان والقرآن أزهق الله به ما خالفه، كما قال تعالى: وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا.

وأبان الله سبحانه وتعالى من فضائل الحق ومحاسنه ما كان به محقوقا.

سبب تأليف الكتاب

وكان من أسباب نصر الدين وظهوره، أن كتابا ورد من قبرص فيه الاحتجاج لدين النصارى، بما يحتج به علماء دينهم وفضلاء ملتهم، قديما، وحديثا من الحجج السمعية، والعقلية، فاقتضى ذلك أن نذكر من الجواب ما يحصل به فصل الخطاب، وبيان الخطإ من الصواب؛ لينتفع بذلك أولو الألباب، ويظهر ما بعث الله به رسله من الميزان، والكتاب.

وأنا أذكر ما ذكروه بألفاظهم بأعيانها فصلا فصلا، وأتبع كل فصل بما يناسبه من الجواب فرعا وأصلا، وعقدا وحلا.

وما ذكروه في هذا الكتاب هو عمدتهم التي يعتمد عليها علماؤهم في مثل هذا الزمان، وقبل هذا الزمان، وإن كان قد يزيد بعضهم على بعض بحسب الأحوال؛ فإن هذه الرسالة وجدناهم يعتمدون عليها قبل ذلك، ويتناقلها علماؤهم بينهم، والنسخ بها موجودة قديمة، وهي مضافة إلى بولص الراهب أسقف صيدا الأنطاكي، كتبها إلى بعض أصدقائه، وله مصنفات في نصر النصرانية، وذكر أنه لما سافر إلى بلاد الروم والقسطنطينية وبلاد الملافطة وبعض أعمال الإفرنج ورومية، واجتمع بأجلاء أهل تلك الناحية، وفاوض أفاضلهم، وعلماءهم، وقد عظم هذه الرسالة، وسماها (الكتاب المنطيقي الدولة خاني المبرهن عن الاعتقاد الصحيح، والرأي المستقيم).

مجمل ما جاء برسالة بولس من دعاوى

ومضمون ذلك ستة فصول:

الفصل الأول: دعواهم أن محمدا ﷺ لم يبعث إليهم بل إلى أهل الجاهلية من العرب، ودعواهم أن في القرآن ما يدل على ذلك، والعقل يدل على ذلك.

الفصل الثاني: دعواهم أن محمدا ﷺ أثنى في القرآن على دينهم الذي هم عليه، ومدحه بما أوجب لهم أن يثبتوا عليه.

الفصل الثالث: دعواهم أن نبوات الأنبياء المتقدمين، كالتوراة والزبور والإنجيل، وغير ذلك من النبوات تشهد لدينهم الذي هم عليه من الأقانيم، والتثليث، والاتحاد، وغير ذلك، بأنه حق وصواب، فيجب التمسك به، ولا يجوز العدول عنه إذا لم يعارضه شرع يرفعه، ولا عقل يدفعه.

والفصل الرابع: فيه تقرير ذلك بالمعقول، وأن ما هم عليه من التثليث ثابت بالنظر المعقول، والشرع المنقول، موافق للأصول.

والفصل الخامس: دعواهم أنهم موحدون، والاعتذار عما يقولونه من ألفاظ يظهر منها تعدد الآلهة، كألفاظ الأقانيم؛ فإن ذلك من جنس ما عند المسلمين من النصوص التي يظهر منها التشبيه والتجسيم.

والفصل السادس: أن المسيح جاء بعد موسى بغاية الكمال، فلا حاجة بعد النهاية إلى شرع يزيد على الغاية، بل يكون ما بعد ذلك شرعا غير مقبول.

نهج المؤلف في رد دعاويهم الباطلة

ونحن ولله الحمد والمنة نبين أن كل ما احتجوا به من حجة سمعية من القرآن، أو من الكتب المتقدمة على القرآن، أو عقلية، فلا حجة لهم في شيء منها، بل الكتب كلها مع القرآن والعقل حجة عليهم، لا لهم، بل عامة ما يحتجون به من نصوص الأنبياء، ومن المعقول فهو نفسه حجة عليهم، ويظهر منه فساد قولهم مع ما يفسده من سائر النصوص النبوية، والموازين التي هي مقاييس عقلية.

وهكذا يوجد عامة ما يحتج به أهل البدع من كتب الله عز وجل ففي تلك النصوص ما يتبين أنه لا حجة لهم فيها، بل هي بعينها حجة عليهم، كما ذكر أمثال ذلك في الرد على أهل البدع والأهواء، وغيرهم من أهل القبلة.

وإنما عامة ما عند القوم ألفاظ متشابهة، تمسكوا بما ظنوها تدل عليه، وعدلوا عن الألفاظ المحكمة الصريحة المبينة، مع ما يقترن بذلك من الأهواء.

وهذه حال أهل الباطن، كما قال تعالى: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى.

فهم في جهل وظلم، كما قال تعالى: وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما.

فالمؤمنون الذين تاب الله عليهم من الجهل والظلم هم أتباع الأنبياء عليهم السلام، فإن الأنبياء بعثوا بالعلم والعدل، كما قال تعالى: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى.

فبين سبحانه وتعالى أنه ليس ضالا جاهلا، ولا غاويا متبعا هواه، ولا ينطق عن هواه، إنما نطقه وحي أوحاه الله سبحانه وتعالى.

وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.

فالهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح، ومبناه على العدل، كما قال تعالى: وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.

وأصل العدل العدل في حق الله تعالى، وهو عبادته وحده لا شريك له؛ فإن الشرك ظلم عظيم، كما قال لقمان لابنه: يابني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.

وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، لما نزلت الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم الآية، شق ذلك على أصحاب رسول الله ﷺ، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله ﷺ: ليس هو كما تظنون إنما هو الشرك، ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم؟.

ولما كان أتباع الأنبياء هم أهل العلم والعدل، كان كلام أهل الإسلام والسنة مع الكفار، وأهل البدع بالعلم والعدل لا بالظن، وما تهوى الأنفس؛ ولهذا قال النبي ﷺ: القضاة ثلاثة: قاضيان في النار، وقاض في الجنة، رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. رواه أبو داود وغيره.

فإذا كان من يقضي بين الناس في الأموال والدماء والأعراض، إذا لم يكن عالما عادلا، كان في النار، فكيف بمن يحكم في الملل، والأديان، وأصول الإيمان، والمعارف الإلهية، والمعالم الكلية بلا علم، ولا عدل؟ كحال أهل البدع، والأهواء، الذين يتمسكون بالمتشابه المشكوك، ويدعون المحكم الصريح من نصوص الأنبياء ويتمسكون بالقدر المشترك المتشابه في المقاييس والآراء، ويعرضون عما بينهما من الفروق المانعة من الإلحاق والاستواء، كحال الكفار، وسائر أهل البدع والأهواء الذين يمثلون المخلوق بالخالق، والخالق بالمخلوق، ويضربون لله المثل بالقول الهزء.

ما كفرت به النصارى

وذلك أن دين النصارى الباطل إنما هو دين مبتدع، ابتدعوه بعد المسيح ، وغيروا به دين المسيح، فضل منهم من عدل عن شريعة المسيح إلى ما ابتدعوه.

ثم لما بعث الله محمدا ﷺ كفروا به فصار كفرهم وضلالهم من هذين الوجهين: تبديل دين الرسول الأول، وتكذيب الرسول الثاني.

كما كان كفر اليهود بتبديلهم أحكام التوراة قبل مبعث المسيح، ثم تكذيبهم المسيح .

ونبين إن شاء الله أن ما عليه النصارى من التثليث والاتحاد، لم يدل عليه شيء من كتب الله: لا الإنجيل ولا غيره، بل دلت على نقيض ذلك، ولا دل على ذلك عقل بل العقل الصريح مع نصوص الأنبياء تدل على نقيض ذلك، بل وكذلك عامة شرائع دينهم محدثة مبتدعة، لم يشرعها المسيح .

ثم التكذيب لمحمد ﷺ هو كفرهم المعلوم لكل مسلم، مثل كفر اليهود بالمسيح وأبلغ.

وهم يبالغون في تكفير اليهود بأعظم مما يستحقه اليهود من التكفير، إذ كان اليهود يزعمون أن المسيح ساحر كذاب، بل يقولون: إنه ولد غية، كما أخبر الله عنهم بقوله:

وقولهم على مريم بهتانا عظيما.

والنصارى يدعون أن الله الذي خلق الأولين والآخرين، وأنه ديان يوم الدين، فكانت الأمتان فيه على غاية التناقض والتعادي والتقابل؛ ولهذا كل أمة تذم الأخرى بأكثر مما تستحقه، كما قال تعالى: وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون.

ذكر محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس، رضي الله عنهما أنه قال لما قدم وفد نجران من النصارى على رسول الله ﷺ أتتهم أحبار يهود، فتنازعوا عند رسول الله ﷺ، فقال رافع بن حريملة: ما أنتم على شيء، وكفر بعيسى والإنجيل جميعا، فقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود: ما أنتم على شيء، وجحد نبوة موسى، وكفر بالتوراة، فأنزل الله ذلك في قولهما وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب. قال: كل يتلو في كتابه تصديق ما كفر: أي تكفر اليهود بعيسى، وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل بإجابة عيسى بتصديق موسى، وبما جاء به من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يدي صاحبه.

قال قتادة وقالت اليهود ليست النصارى على شيء قال: بلى قد كان أوائل النصارى على شيء ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.

وقالت النصارى ليست اليهود على شيء قال: بلى قد كانت أوائل اليهود على شيء، ولكنهم ابتدعوا وتفرقوا.

تكفير اليهود للنصارى والنصارى لليهود

فاليهود كذبوا بدين النصارى، وقالوا ليسوا على شيء، والنصارى كذبوا بجميع ما تميز به اليهود عنهم، حتى في شرائع التوراة التي لم ينسخها المسيح، بل أمرهم بالعمل بها، وكذبوا بكثير من الذين تميزوا به عنهم، حتى كذبوا بما جاء به عيسى من الحق.

لكن النصارى - وإن بالغوا في تكفير اليهود ومعاداتهم على الحد الواجب عما ابتدعوه من الغلو والضلال - فلا ريب أن اليهود لما كذبوا المسيح صاروا كفارا، كما قال تعالى للمسيح: إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا.

وقال تعالى: قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

وكفر النصارى بتكذيب محمد ﷺ، وبمخالفة المسلمين أعظم من كفر اليهود بمجرد تكذيب المسيح، فإن المسيح لم ينسخ من شرع التوراة إلا قليلا، وسائر شرعه إحالة على التوراة، ولكن عامة دين النصارى أحدثوه بعد المسيح، فلم يكن في مجرد تكذيب اليهود له من مخالفة شرع الله الذي جاء بكتاب مستقل من عند الله لم يحل شيئا من شرعه على شرع غيره.

قال الله تعالى: أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون.

والقرآن أصل كالتوراة وإن كان أعظم منها؛ ولهذا علماء النصارى يقرنون بين موسى ومحمد ﷺ، كما قال النجاشي ملك النصارى لما سمع القرآن: إن هذا والذي جاء به

موسى ليخرج من مشكاة واحدة.

وكذلك قال ورقة بن نوفل، وهو من أحبار نصارى العرب، لما سمع كلام النبي ﷺ، فقال له: إنه يأتيك الناموس الذي يأتي موسى، يا ليتني فيها جذعا، حين يخرجك

قومك، فقال النبي ﷺ: أومخرجي هم؟ قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا.

ولهذا يقرن سبحانه بين التوراة والقرآن، في مثل قوله فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا ويعني التوراة والقرآن، وفي القراءة الأخرى (قالوا ساحران) أي محمد وموسى.

وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين.

فلم ينزل كتاب من عند الله أهدى من التوراة والقرآن.

ثم قال تعالى: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

وهؤلاء النصارى، ذكر كاتب كتابهم في كتابه: أنه لما سأله سائل أن يفحص له فحصا بينا عما يعتقده النصارى المسيحيون المختلفة ألسنتهم المتفرقة في أربع زوايا العالم، من المشرق إلى المغرب، ومن الجنوب الى الشمال، والقاطنون بجزائر البحر، والمقيمون بالبر المتصل إلى مغيب الشمس، وإن الأسقف دميان الملك الرومي اجتمع بمن اجتمع به من أجلائهم ورؤسائهم، وفاوض من فاوض من أفاضلهم، وعلمائهم، فيما علمه من رأي القوم الذين رآهم بجزائر البحر قبل دخوله إلى قبرص، وخاطبهم في دينهم وما يعتقدونه ويحتجون به عن أنفسهم، قال الكاتب على لسان الأسقف: إنهم يقولون إنا سمعنا أن قد ظهر إنسان من العرب اسمه محمد يقول إنه رسول الله، وأتى بكتاب، فذكر أنه منزل عليه من الله، فلم نزل إلى أن حصل الكتاب عندنا، قال فقلت لهم إذا كنتم قد سمعتم بهذا الكتاب، وهذا الإنسان واجتهدتم على تحصيل هذا الكتاب الذي أتى به عندكم، فلأي حال لم تتبعوه ولا سيما وفي الكتاب يقول: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

أجابوا قائلين: لأحوال شتى، قال: فقلت وما هي؟ قالوا: منها أن الكتاب عربي، وليس بلساننا حسب ما جاء فيه، يقول: إنا أنزلناه قرآنا عربيا.

وقال: بلسان عربي مبين. وقال في سورة الشعراء: ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين.

وقال في سورة البقرة: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون. وقال في سورة آل عمران: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته. وقال تعالى في سورة القصص: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون.

وقال في سورة السجدة: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون.

وقال في سورة يس: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون.

قالوا: فلما رأينا هذا علمنا أنه لم يأت إلينا، بل إلى جاهلية العرب، الذين قال إنه لم يأتهم رسول ولا نذير من قبله، وإنه لا يلزمنا اتباعه؛ لأننا نحن قد أتانا رسل من قبله، خاطبونا بألسنتنا، وأنذرونا بديننا الذي نحن متمسكون به يومنا هذا، وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلغاتنا، على ما يشهد لهم هذا الكتاب الذي أتى به هذا الرجل حيث يقول في سورة إبراهيم: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم.

وقال في سورة النحل: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا.

وقال في سورة الروم: ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم فجاءوهم بالبينات.

فقد صح في هذا الكتاب أنه لم يأت إلا في الجاهلية من العرب، وأما قوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

فيريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين أتاهم بلغتهم، لا غيرهم ممن لم يأتهم بما جاء فيه.

ونعلم أن الله عدل، وليس من عدله أن يطالب يوم القيامة أمة باتباع إنسان لم يأت إليهم، ولا وقفوا له على كتاب بلسانهم، ولا من جهة داع من قبله.

هذه ألفاظهم بأعيانها في الفصل الأول، وهذا الفصل لم يتعرضوا فيه لا لتصديقه ولا لتكذيبه، بل زعموا أن في نفس هذا الكتاب أنه لم يقل إنه مرسل إليهم، بل إلى جاهلية العرب، وإن العقل أيضا يمنع أن يرسل إليهم.

فنحن نبدأ بالجواب عن هذا، ونبين أنه ﷺ أخبر أنه مرسل إليهم، وإلى جميع الإنس والجن، وأنه لم يقل قط أنه لم يرسل إليهم، ولا في كتابه ما يدل على ذلك.

وأن ما احتجوا به من الآيات التي غلطوا في معرفة معناها، فتركوا النصوص الكثيرة الصريحة في كتابه، التي تبين أنه مرسل إليهم، من جنس ما فعلوه في التوراة والإنجيل والزبور وكلام الأنبياء، حيث تركوا النصوص الكثيرة الصريحة، وتمسكوا بقليل من المتشابه الذي لم يفهموا معناه.

ومعلوم أن الكلام في صدق مدعي الرسالة وكذبه متقدم على الكلام في عموم رسالته وخصوصها، وإن كان قد يعلم أحدهما قبل الآخر لكن هؤلاء القوم ادعوا خصوص رسالته، وذكروا أن القرآن يدل على ذلك. فنجيب عما ذكروه على حسب ترتيبهم فصلا فصلا فنقول وبالله التوفيق:

الكلام فيمن خاطب الخلق بأنه رسول الله إليهم، كما فعل محمد ﷺ وغيره ممن قال إنه رسول الله، كإبراهيم وموسى، ونحوهما من الرسل الصادقين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وآل كل من الصالحين، وكمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، ونحوهما من المتنبئين الكذابين، ينبني على أصلين:

أحدهما: أن نعرف ما يقوله في خبره وأمره فنعرف ما يخبر به ويأمر به، وهل قال إنه رسول الله إلى جميع الناس، أو قال إنه لم يرسل إلا إلى طائفة معينة لا إلى غيرها؟

والثاني: أن يعرف هل هو صادق أو كاذب؟

وبهذين الأصلين يتم الإيمان المفصل وهو معرفة صدق الرسول ومعرفة ما جاء به.

وأما الإيمان المجمل، فيحصل بالأول، وهو معرفة صدقه فيما جاء به، كإيماننا بالرسل المتقدمة، وقد نعلم صدقه أو كذبه

وهؤلاء بدءوا في كتابهم هذا بما ذكره الرسول، مما زعموا أنه حجة لهم على عدم وجوب اتباعه، وعلى مدح دينهم الذي هم اليوم عليه بعد النسخ، والتبديل، ثم ذكروا حججا مستقلة على صحة دينهم ثم ذكروا ما يقدح فيه وفي دينه؛ فلهذا قدمنا الجواب عما احتجوا به من القرآن، كما قدموه في كتابهم.

فصل

ودلائل صدق النبي الصادق، وكذب المتنبي الكذاب كثيرة جدا، فإن من ادعى النبوة وكان صادقا، فهو من أفضل خلق الله وأكملهم في العلم والدين؛ فإنه لا أحد أفضل من رسل الله وأنبيائه صلوات الله عليهم وسلامه، وإن كان بعضهم أفضل من بعض كما قال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض.

وقال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض.

وإن كان المدعي للنبوة كاذبا فهو من أكفر خلق الله، وشرهم، كما قال تعالى: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله.

وقال تعالى: فمن أظلم ممن كذب على الله وكذب بالصدق إذ جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون لهم ما يشاءون عند ربهم ذلك جزاء المحسنين.

وقال تعالى: ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة أليس في جهنم مثوى للمتكبرين.

فالكذب أصل للشر، وأعظمه الكذب على الله عز وجل، والصدق أصل للخير، وأعظمه الصدق على الله تبارك وتعالى.

وفي الصحيحين: عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، عن النبي ﷺ أنه قال: عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق، حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.

ولما كان هذا من أعلى الدرجات، وهذا من أسفل الدركات، كان بينهما من الفروق، والدلائل، والبراهين التي تدل على صدق أحدها وكذب الآخر ما يظهر لكل من عرف حالهما. ولهذا كانت دلائل الأنبياء وأعلامهم الدالة على صدقهم كثيرة متنوعة، كما أن دلائل كذب المتنبئين كثيرة متنوعة، كما قد بسط في موضع آخر.

فصل: توضيح الدعوى والرد عليها

إذا عرف هذا، فهؤلاء القوم في هذا المقام ادعوا أن محمدا ﷺ لم يرسل إليهم، بل إلى أهل الجاهلية من العرب فهذه الدعوى على وجهين:

إما أن يقولوا: إنه بنفسه لم يدع أنه أرسل إليهم، ولكن أمته ادعوا له ذلك.

وإما أن يقولوا: إنه ادعى أنه أرسل إليهم وهو كاذب في هذه الدعوى، وكلامهم في صدر هذا الكتاب يقتضي الوجه الأول.

وفي آخره قد يقال: إنهم أشاروا إلى الوجه الثاني، لكنهم في الحقيقة لم ينكروا رسالته إلى العرب، وإنما أنكروا رسالته إليهم.

وأما رسالته إلى العرب فلم يصرحوا بتصديقه فيها ولا بتكذيبه، وإن كان ظاهر لفظهم يقتضي الإقرار برسالته إلى العرب، بل صدقوا بما وافق قولهم وكذبوا بما خالف قولهم.

ونحن نبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء مما جاء به النبي ﷺ ثم نتكلم على الوجهين جميعا، ونبين أنه لا يصح احتجاجهم بشيء من القرآن على صحة دينهم، بوجه من

الوجوه، ونبين أن القرآن، لا حجة فيه لهم، ولا فيه تناقض.

وكذلك كتب الأنبياء المتقدمين، التي يحتجون بها هي حجة عليهم ليس في شيء منها حجة لهم، ولو لم يبعث محمد ﷺ، فكيف والكتاب الذي جاء به محمد ﷺ موافق لسائر كلام الأنبياء عليهم السلام في إبطال دينهم، وقولهم في التثليث، والاتحاد، وغير ذلك، مع العقل الصريح. فهم احتجوا في كتابهم هذا بالقرآن، وبما جاءت به الأنبياء قبل محمد ﷺ مع العقل.

ونحن نبين أنه لا حجة لهم فيما جاء به محمد ﷺ، ولا فيما جاءت به الأنبياء قبله، ولا في العقل بل ما جاء به محمد، وما جاءت به الأنبياء قبله مع صريح العقل كلها براهين قطعية على فساد دينهم، ولكن نذكر قبل ذلك أن احتجاجهم بما جاء عن النبي ﷺ لا يصح بوجه من الوجوه، وأنه لا يجوز أن يحتج بمجرد المنقول عن محمد ﷺ من يكذبه في كلمة واحدة مما جاء به.

وكذلك سائر الأنبياء عليهم السلام، بخلاف الاحتجاج بكلام غير الأنبياء، فإن ذلك يمكن موافقة بعضه دون بعض، وأما ما أخبرت به الأنبياء عليهم السلام، أو من قال إنه نبي،

فلا يمكن الاحتجاج ببعضه، دون بعض سواء قدر صدقهم، أو كذبهم.

فيقال لهم على كل تقدير، سواء أقروا بنبوته إلى العرب، أو غيرهم، أو كذبوه في قوله إنه رسول الله، أو سكتوا عن هذا وهذا، أو صدقوه في البعض دون البعض.

إن احتجاجكم على صحة ما تخالفون فيه المسلمين، مما جاء به محمد ﷺ، لا يصح بوجه من الوجوه؛ فاحتجاجكم على أنه لم يرسل إليكم، أو على صحة دينكم بشيء من القرآن حجة داحضة على كل تقدير.

مع أنا سنبين - إن شاء الله تعالى - أن الكتب الإلهية كلها مع المعقول، لا حجة لكم في شيء منها، بل كلها حجة عليكم.

وهذا بخلاف المسلمين، فإنه يصح احتجاجهم على أهل الكتاب اليهود والنصارى بما جاءت به الأنبياء قبل محمد ﷺ، وأهل الكتاب لا يصح احتجاجهم بما جاء به محمد ﷺ، وذلك أن المسلمين مقرون بنبوة موسى، وعيسى وداود، وسليمان، وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام، وعندهم يجب الإيمان بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله، وهذا أصل دين المسلمين، فمن كفر بنبي واحد، أو كتاب واحد، فهو عندهم كافر، بل من سب نبيا من الأنبياء، فهو عندهم كافر مباح الدم كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.

وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

وقال تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.

والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله، يتناول التوراة والإنجيل، كما يتناول القرآن، كقوله تعالى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم.

وقوله تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله.

وفي القراءة الأخرى (وكتابه)، كقوله تعالى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم.

وقوله تعالى: الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون.

فذكر أن هذا الكتاب الذي أنزل عليه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، والذين يؤمنون بما أنزل إليه، وما أنزل من قبله، وبالآخرة هم يوقنون، ثم أخبر أن هؤلاء هم المفلحون، فحصر الفلاح في هؤلاء، فلا يكون مفلحا إلا من كان من هؤلاء.

وقوله تعالى والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك. هو صفة للمذكورين ليس هؤلاء صنفا آخر، فإن عطف الشيء على الشيء قد يكون لتغاير الصفات، وإن كانت الذات واحدة هذا هو الصحيح هنا، وإن كان قد قيل إن الصنف الثاني مؤمنو أهل الكتاب،

والأول هم المسلمون، فهذا ضعيف، وأفسد منه قول هؤلاء النصارى: إن الكتاب المراد به الإنجيل، كما سيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى.

والعطف لتغاير الصفات، كقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى.

وهو سبحانه الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، والذي أخرج المرعى، فجعله غثاء أحوى.

وقوله تعالى: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون. إلى آخر الآيات

وكذلك قوله: والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك.

هم الذين يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون، وهم الذين على هدى من ربهم، وهم المفلحون.

ولكن فصل إيمانهم بعد أن أجمله؛ لئلا يظن ظان أن مجرد دعوى الإيمان بالغيب ينفع، وإن لم يؤمن بما أنزل إلى محمد ﷺ، وما أنزل إلى من قبله، فلو قال أحد من الناس: أنا أؤمن بالغيب، وهو مع ذلك لا يؤمن ببعض ما أنزل على محمد ﷺ، أو ببعض ما أنزل على من قبله، لم يكن مؤمنا، حتى يؤمن بجميع ما أنزل إليه، وما أنزل إلى من قبله، ولو كانوا صنفا آخر لكان المفلحون قسمين: قسما يؤمنون بالغيب، ولا يؤمنون بما أنزل إليه، وما أنزل إلى من قبله، وقسما يؤمنون بما أنزل إليه، وما أنزل إلى من قبله، ولا يؤمنون بالغيب، وهذا باطل عند جميع الأمم المؤمنين واليهود والنصارى، فإن الإيمان بما أنزل إليه وإلى من قبله يتضمن الإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب لا يتم إلا بالإيمان بجميع ما أنزله الله تبارك وتعالى.

ما يثبت به الاحتجاج على المسلمين

والمسلمون لا يستجيز أحد منهم التكذيب بشيء مما أنزل على من قبل محمد ﷺ، لكن الاحتجاج بذلك عليهم يحتاج إلى ثلاث مقدمات:

إحداها: ثبوت ذلك على الأنبياء عليهم السلام.

والثانية: صحة الترجمة إلى اللسان العربي، أو اللسان الذي يخاطب به كالرومي، والسرياني، فإن لسان موسى، وداود والمسيح، وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل، كانت عبرانية، ومن قال إن لسان المسيح كان سريانيا، أو روميا فقد غلط.

والثالثة: تفسير ذلك الكلام ومعرفة معناه.

فلهذا كان المسلمون لا يردون شيئا من الحجج بتكذيب أحد من الأنبياء في شيء قاله ولكن قد يكذبون الناقل عنهم، أو يفسرون المنقول عنهم بما أرادوه، أو بمعنى آخر على وجه الغلط.

وإن كان بعض المسلمين قد يغلط في تكذيب بعض النقل، أو تأويل بعض المنقول عنهم، فهو كما يغلط من يغلط منهم، ومن سائر أهل الملل في التكذيب على وجه الغلط ببعض ما ينقل عمن يقر بنبوته، أو في تأويل المنقول عنه.

وهذا بخلاف تكذيب نفس النبي، فإنه كفر صريح، بخلاف أهل الكتاب، فإنه لا يتم مرادهم إلا بتكذيبهم ببعض ما أنزل الله، ومتى كذب بكلمة واحدة مما أخبر به من قال إنه رسول الله بطل احتجاجه بسائر كلامه، فكانت حجتهم التي يحتجون بها داحضة، وذلك أن الذي يقول إنه رسول الله، إما أن يكون صادقا في قوله: إني رسول الله، وفي جميع ما يخبر به عن الله، وإما أن يكون كاذبا، ولو في كلمة واحدة عن الله.

فإن كان صادقا في ذلك امتنع أن يكذب على الله في شيء مما يبلغه عن الله، فإن من كذب على الله، ولو في كلمة واحدة كان ممن افترى على الله الكذب، ولم يكن رسولا من رسل الله، ومن افترى على الله الكذب تبين أنه من المتنبئين الكذابين.

ومثل هذا لا يجوز أن يحتج بخبره عن الله، فإنه قد علم أن الله لم يرسله، وإذا قال هو قولا، وكان صدقا، كان كما يقوله غيره يقبل، لا لأنه بلغه عن الله ولا لأنه رسول عن الله، بل كما يقبل من المشركين وسائر الكفار ما يقولونه من الحق، فإن عباد الأوثان إذا قالوا عن الله ما هو حق مثل إقرار مشركي العرب بأن الله خلق السماوات والأرض لم نكذبهم في ذلك، وإن كانوا كفارا، وكذلك إذا قال الكافر إن الله حي قادر خالق، لم نكذبه في هذا القول.

فمن كذب على الله في كلمة واحدة، قال إن الله أنزلها عليه، ولم يكن الله أنزلها عليه، فهو من الكذابين الذين لا يجوز أن يحتج بشيء من أقوالهم التي يقولون إنهم يبلغونها عن الله تبارك وتعالى، وما قالوه غير ذلك فهم فيه كسائر الناس، بل كأمثالهم من الكذابين إن عرف صحة ذلك القول من جهة غيرهم قبل لقيام الدليل على صحته، لا لكونهم قالوه، وإن لم يعرف صحته من جهة غيرهم، لم يكن في قولهم له مع ثبوت كذبهم على الله حجة.

وحينئذ، فهؤلاء إن أقروا برسالة محمد ﷺ، وأنه صادق فيما بلغه عن الله من الكتاب والحكمة، وجب عليهم الإيمان بكل ما ثبت عنه من الكتاب والحكمة، كما يجب الإيمان بكل ما جاءت به الرسل.

وإن كذبوه في كلمة واحدة، أو شكوا في صدقه فيها، امتنع مع ذلك أن يقروا بأنه رسول الله، وإذا لم يقروا بأنه رسول الله، كان احتجاجهم بما قاله كاحتجاجهم بسائر ما يقوله من ليس من الأنبياء، بل من الكذابين، أو من المشكوك في صدقهم.

ومعلوم أن من عرف كذبه على الله فيما يقول: إنه يبلغه عن الله أو شك في صدقه، لا يعلم أنه رسول الله، ولا أنه صادق في كل ما يقوله، ويبلغه عن الله، وإذا لم يعلم ذلك منه لم يعرف أن الله أنزل إليه شيئا، بل إذا عرف كذبه عرف أن الله لم ينزل إليه شيئا ولا أرسله، كما عرف كذب مسيلمة الكذاب، والأسود العنسي، وطليحة الأسدي، وكما عرف كذب ماني، وأمثاله، وغيرهم من المتنبئين الكذابين.

وإذا شك في صدقه في كلمة واحدة، بل جوز أن يكون كذبها عمدا، أو خطأ لم يجز تصديقه مع ذلك في سائر ما يبلغه عن الله؛ لأن تصديقه فيما يخبر به عن الله، إنما يكون إذا كان رسولا صادقا لا يكذب عمدا ولا خطأ، فإن كل من أرسله الله لا بد أن يكون صادقا في كل ما يبلغه عن الله، لا يكذب فيه عمدا ولا خطأ.

صدق الرسول وعصمته من الكذب

وهذا أمر اتفق عليه الناس كلهم المسلمون واليهود والنصارى وغيرهم، اتفقوا على أن الرسول لا بد أن يكون صادقا معصوما فيما يبلغه عن الله، لا يكذب على الله خطأ ولا عمدا، فإن مقصود الرسالة لا يحصل بدون ذلك، كما قال موسى لفرعون: يا فرعون إني رسول من رب العالمين حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق.

وفي القراءة المشهورة:[1] يخبر أنه جدير وحري وثابت ومستقر على أن لا يقول على الله إلا الحق، وعلى القراءة الأخرى أخبر أنه واجب عليه أن لا يقول على الله إلا الحق.

وقال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين.

وقال تعالى: أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته.

وقال تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

وقال تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي.

وهذا لبسطه موضع آخر.

وإنما المقصود هنا: أن احتجاجهم بكلمة واحدة مما جاء به محمد ﷺ، لا يصح بوجه من الوجوه، فإنه إن كان رسولا صادقا في كل ما يخبر به عن الله عز وجل، فقد علم كل واحد أنه جاء بما يخالف دين النصارى، فيلزم إذا كان رسولا صادقا أن يكون دين النصارى باطلا، وإن قالوا في كلمة واحدة مما جاء به أنها باطلة، لزم أن لا يكون عندهم رسولا صادقا مبلغا عن الله وحينئذ، فسواء قالوا: هو ملك عادل، أو هو عالم من العلماء، أو هو رجل صالح من الصالحين، أو جعلوه قديسا عظيما من أعظم القديسين، فمهما عظموه به ومدحوه به لما رأوه من محاسنه الباهرة وفضائله الظاهرة وشريعته الطاهرة، متى كذبوه في كلمة واحدة مما جاء به أو شكوا فيها كانوا مكذبين له في قوله: إنه رسول الله، وأنه بلغ هذا القرآن عن الله، ومن كان كاذبا في قوله: إنه رسول الله لم يكن من الأنبياء والمرسلين، ومن لم يكن منهم لم يكن قوله حجة ألبتة، لكن له أسوة أمثاله.

فإن عرف صحة ما يقوله بدليل منفصل، قبل القول؛ لأنه عرف صدقه من غير جهته، لا لأنه قاله، وإن لم يعرف صحة القول لم يقبل

فتبين أنه إن لم يقر المقر لمن ذكر أنه رسول الله بأنه صادق في كل ما يبلغه عن الله معصوم عن استقرار الكذب خطأ أو عمدا لم يصح احتجاجهم بقوله.

وهذا الأصل يبطل قول عقلاء أهل الكتاب، وهو لقول جهالهم أعظم إبطالا، فإن كثيرا من عقلاء أهل الكتاب، وأكثرهم يعظمون محمدا ﷺ، لما دعا إليه من توحيد الله تعالى، ولما نهى عنه من عبادة الأوثان، ولما صدق التوارة والإنجيل، والمرسلين قبله، ولما ظهر من عظمة القرآن الذي جاء به، ومحاسن الشريعة التي جاء بها، وفضائل أمته التي آمنت به، ولما ظهر عنه وعنهم من الآيات، والبراهين، والمعجزات، والكرامات، لكن يقولون مع ذلك: إنه بعث إلى غيرنا، وإنه ملك عادل، له سياسة عادلة، وإنه مع ذلك حصل علوما من علومأهل الكتاب وغيرهم، ووضع لهم ناموسا بعلمه ورتبه، كما وضع أكابرهم لهم القوانين، والنواميس التي بأيديهم

ومهما قالوه من هذا، فإنهم لا يصيرون به مؤمنين به، ولا يسوغ لهم بمجرد ذلك الاحتجاج بشيء مما قاله؛ لأنه قد عرف بالنقل المتواتر الذي يعلمه جميع الأمم من جميع الطوائف أنه قال: إنه رسول الله إلى جميع الناس، وأن الله أنزل عليه القرآن، فإن كان صادقا في ذلك، فمن كذبه في كلمة واحدة، فقد كذب رسول الله، ومن كذب رسول الله، فهو كافر، وإن لم يكن صادقا في ذلك، لم يكن رسولا لله، بل كان كاذبا، ومن كان كاذبا على الله، يقول: الله أرسلني بذلك، ولم يرسله به، لا يجوز أن يحتج بشيء من أقواله.

الرد على أهل الكتاب في قولهم بالإرسال الكوني

وأما من كان من جهلاء أهل الكتاب الذين يقولون: إنه كان ملكا مسلطا عليهم، وإنه رسول غضب، أرسله الله إرسالا كونيا؛ لينتقم به منهم كما أرسل بختنصر، وسنحاريب على بني إسرائيل، وكما أرسل جنكس خان، وغيره من الملوك الكافرين والظالمين مما ينتقم به ممن عصاه، فهؤلاء أعظم تكذيبا له، وكفرا به من أولئك، فإن هؤلاء الملوك لم يقل أحد منهم إن الله أنزل عليه كتابا، ولا أن هذا الكلام الذي أبلغه إليكم هو كلام الله، ولا أن الله أمركم أن تصدقوني فيما أخبرتكم به، وتطيعوني فيما أمرتكم به، ومن لم يصدقني باطنا وظاهرا، فإن الله يعذبه في الدنيا والآخرة، بل هؤلاء أرسلهم إرسالا كونيا قدره وقضاه، كما يرسل الريح بالعذاب، وكما يرسل الشياطين قال تعالى: أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا.

وقال تعالى: وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا.

وهذا بخلاف قوله: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه.

وقوله تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا.

وقوله تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

فإن هذا يعني به الإرسال الديني، الذي يحبه تعالى، ويرضاه الذي هدى به من اتبعهم، وأدخله في رحمته، وعاقب من عصاهم، وجعله من المستوجبين للعذاب، وهو الإرسال الذي أوجب الله به طاعة من أرسله، كما قال تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله.

وقال تعالى: من يطع الرسول فقد أطاع الله.

وهذه الرسالة التي أقام بها الحجة على الخلق، كما قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

وقال تعالى: الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس.

وهذا كما اصطفى روح القدس جبريل ، لنزوله بالقرآن على من اصطفاه من البشر، وهو محمد ﷺ.

قال تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمؤمنين.

وقال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.

وقال تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

فأخبر أنه نزل به جبريل، وسماه الروح الأمين، وسماه روح القدس، وقد ذكره أيضا في قوله: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين.

ثم قال: وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.

فهذا الرسول جبريل ، وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين.

فهذا الرسول محمد ﷺ.

وأما الإرسال الكوني الذي قدره وقضاه، مثل إرسال الرياح وإرسال الشياطين، فذلك نوع آخر. قال تعالى: أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا.

وقال تعالى: وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته.

والله تعالى له الخلق والأمر، فلفظ الإرسال، والبعث، والإرادة، والأمر، والإذن، والكتاب، والتحريم، والقضاء، والكلام ينقسم إلى: خلقي، وأمري، وكوني، وديني، وقد ذكرنا الإرسال.

وأما البعث، فقال تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

وقال في الكوني: فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد.

وقال تعالى: فبعث الله غرابا يبحث في الأرض.

وأما الإرادة، فقال تعالى في الكونية: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا.

وقال نوح : ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم.

وقال تعالى في الإرادة الدينية: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر.

وقال تعالى: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا.

وقال تعالى: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم.

وقال تعالى: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا.

وقال تعالى في الأمر الكوني: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وكذلك في أظهر القولين قوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول.

وأما الأمر الديني مثل قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها.

وأما الإذن الكوني مثل قوله في السحرة: وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله.

والديني مثل قوله: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

والكتاب الكوني مثل قوله: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي.

وقوله: قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.

والديني مثل قوله: كتب الله عليهم.

وقوله: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم.

وقوله: كتب عليكم القصاص.

والقضاء الكوني كقوله: فقضاهن سبع سماوات.

والديني: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا. أي: أمر.

والتحريم الكوني مثل قوله: وحرمنا عليه المراضع من قبل.

وقوله: فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض.

وقوله: وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون.

والديني مثل قوله: حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير.

وقوله: حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم.

والكلمات الكونية، مثل قول النبي، ﷺ: أعوذ بكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر، ولا فاجر. ومنه قوله تعالى: وصدقت بكلمات ربها وكتبه.

والدينية: مثل قول النبي ﷺ: اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله. ومنه قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.

وهذا مبسوط في موضع آخر.

تفرق أهل الكتاب في النبي صلى الله عليه وسلم

والمقصود هنا أنه تفرق أهل الكتاب في النبي ﷺ، كل يقول فيه قولا هو نظير تفرق سائر الكفار، فإن الكفار بالأنبياء من عاداتهم أن تقول كل طائفة فيه قولا يناقض قول الطائفة الأخرى، وكذلك قولهم في الكتاب الذي أنزل عليه، وأقوالهم كلها أقوال مختلفة باطلة، وهذا هو الاختلاف المذموم الذي ذكره الله تعالى في قوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك.

وفي قوله: إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك.

وقوله تعالى: وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد.

وقوله: ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

وقوله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

ومثال أقوال الكفار في الأنبياء ما ذكره تعالى في قوله تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا وقال الذين كفروا إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.

فبين سبحانه أن الكفار ضربوا له أمثالا كلها باطلة، ضلوا فيها عن الحق، فلا يستطيعون مع الضلال سبيلا إلى الحق، وضرب الأمثال له يتضمن تمثيله بأناس آخرين، وجعله في تلك الأنواع التي ليس هو منها، ولا مماثلا لأفرادها، مثل قولهم: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون.

مثلوه بالكاذب المستعين بمن يعينه على ما يفتريه، ومثلوه بمن يستكتب أساطير الأولين من غيره، فتقرأ عليه طرفي النهار، وهو يتعلم من أولئك ما يقوله، ومثلوه بالمسحور، وكذلك قوله تعالى: وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحوراانظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.

وقال تعالى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم ولا تحزن عليهم واخفض جناحك للمؤمنين وقل إني أنا النذير المبين كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزئين الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون.

قال كثيرا من السلف: الذين جعلوا القرآن عضين: هم الذين عضهوه، فقالوا سحر، وشعر وكهانة، ونحو ذلك، كما قال تعالى: فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون تنزيل من رب العالمين ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين وإنا لنعلم أن منكم مكذبين وإنه لحسرة على الكافرين وإنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم.

وقال: فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن ولا مجنون أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون قل تربصوا فإني معكم من المتربصين أم تأمرهم أحلامهم بهذا أم هم قوم طاغون أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

وقال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل ولو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين كذلك سلكناه في قلوب المجرمين لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم فيأتيهم بغتة وهم لا يشعرون فيقولوا هل نحن منظرون أفبعذابنا يستعجلون أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين.

ثم قال تعالى: وما تنزلت به الشياطين وما ينبغي لهم وما يستطيعون إنهم عن السمع لمعزولون فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم يلقون السمع وأكثرهم كاذبون والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.

وقال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون.

وقال تعالى: أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

وقال تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون.

وقال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين.

وقال تعالى: ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين.

وقد أخبر تعالى أن هذه سنة الكفار في الأنبياء قبله كما قال: كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون.

وقال تعالى: ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك.

وقال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون.

وقد أخبر سبحانه أن الكفار قالوا عن موسى أنه ساحر، وأنه مجنون، فقال فرعون: قال إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون.

وقوله: وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك.

وقال: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر.

وكذلك قالوا عن المسيح ابن مريم، كما قال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين.

وذكر تعالى عن اليهود أنهم قالوا على مريم بهتانا عظيما، فقول اليهود في المسيح من جنس أقوال الكفار في الأنبياء، وكذلك قول كفار أهل الكتاب في خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم تسليما.

الرد على دعوى قصر الرسالة على العرب بالتفصيل

فإذا علم هذا فنقول بعد ذلك لمن قال إنه رسول أرسل إلى العرب الجاهلية دون أهل الكتاب:

إنه من المعلوم بالضرورة لكل من علم أحواله بالنقل المتواتر الذي هو أعظم تواترا مما ينقل عن موسى وعيسى وغيرهما، وبالقرآن المتواتر عنه، وسنته المتواترة عنه، وسنة خلفائه الراشدين من بعده، أنه ﷺ ذكر أنه أرسل إلى أهل الكتاب اليهود والنصارى، كما ذكر أنه أرسل إلى الأميين، بل ذكر أنه أرسل إلى جميع بني آدم عربهم، وعجمهم من الروم، والفرس والترك، والهند، والبربر، والحبشة، وسائر الأمم، بل أنه أرسل إلى الثقلين الجن والإنس جميعا.

وهذا كله من الأمور الظاهرة المتواترة عنه، التي اتفق على نقلها عنه أصحابه مع كثرتهم، وتفرق ديارهم وأحوالهم، وقد صحبه عشرات ألوف، لا يحصي عددهم على الحقيقة إلا الله تعالى، ونقل ذلك عنهم التابعون، وهم أضعاف الصحابة عددا، ثم ذلك منقول قرنا بعد قرن إلى زمننا مع كثرة المسلمين، وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها، كما أخبر بذلك قبل أن يكون، فقال في الحديث الصحيح زويت لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها، وكان كما أخبر، فبلغ ملك أمته طرفي العمارة شرقا وغربا، وانتشرت دعوته في وسط الأرض، كالإقليم الثالث والرابع والخامس؛ لأنهم أكمل عقولا، وأخلاقا، وأعدل أمزجة، بخلاف طرفي الجنوب والشمال، فإن هؤلاء نقصت عقولهم وأخلاقهم، وانحرفت أمزجتهم.

أما طرف الجنوب، فإنه لقوة الحرارة احترقت أخلاطهم، فاسودت ألوانهم، وتجعدت شعورهم.

وأما أهل طرف الشمال فلقوة البرد لم تنضج أخلاطهم، بل صارت فجة، فأفرطوا في سبوطة الشعر والبياض البارد الذي لا يستحسن.

ولهذا لما ظهر الإسلام غلب أهله على وسط المعمورة، وهم أعدل بني آدم وأكملهم، والنصارى الذين تربوا تحت ذمة المسلمين أكمل من غيرهم من النصارى عقولا وأخلاقا، وأما النصارى المحاربون للمسلمين الخارجون عن ذمتهم من أهل الجنوب والشمال، فهم أنقص عقولا وأخلاقا، ولما فيهم من نقص العقول والأخلاق ظهرت فيهم النصرانية دون الإسلام.

دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أهل الكتاب وغيرهم

والمقصود أن محمدا ﷺ هو نفسه دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وبما جاء به، كما دعا من لا كتاب له من العرب وسائر الأمم.

وهو الذي أخبر عن الله تبارك وتعالى بكفر من لم يؤمن به من أهل الكتاب وغيرهم، وبأنهم يصلون جهنم، وساءت مصيرا، وهو الذي أمر بجهادهم، ودعاهم بنفسه ونوابه، وحينئذ فقولهم في الكتاب لم يأت إلينا بل إلى الجاهلية من العرب سواء أرادوا أن الله بعثه إلى العرب، ولم يبعثه إلينا، أو أرادوا أنه ادعى أنه أرسل إلى العرب لا إلينا؛ فإنه قد علم جميع الطوائف أن محمدا دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وذكر أن الله أرسله إليهم وأمره بجهاد من لم يؤمن به منهم فإذا قيل مع هذا أنه قال: لم أبعث إلا إلى العرب، كان كاذبا كذبا ظاهرا عليه سواء صدقه الإنسان أو كذبه، فإن المقصود هنا أنه نفسه دعا جميع أهل الأرض إلى الإيمان به، فدعا أهل الكتاب كما دعا الأميين.

أما اليهود: فإنهم كانوا جيرانه في الحجاز بالمدينة، وما حولها، وخيبر، فإن المهاجرين والأنصار كلهم آمنوا به من غير سيف ولا قتال، بل لما ظهر لهم من براهين نبوته، ودلائل صدقه آمنوا به، وقد حصل من الأذى في الله لمن آمن بالله ما هو معروف في السيرة، وقد آمن به في حياته كثير من اليهود والنصارى بعضهم بمكة وبعضهم بالمدينة وكثير منهم كانوا بغير مكة والمدينة، فلما قدم المدينة عاهد من لم يؤمن به من اليهود، ثم نقضوا العهد، فأجلى بعضهم، وقتل بعضهم؛ لمحاربتهم لله ورسوله.

وقد قاتلهم مرة بعد مرة قاتل بني النضير، وأنزل الله تعالى فيهم سورة الحشر، وقاتل قريظة عام الأحزاب، وذكرهم الله في سورة الأحزاب، وقاتل قبلهم بني قينقاع، وبعد هؤلاء غزا خيبر هو وأهل بيعة الرضوان، الذين بايعوه تحت الشجرة، وكانوا ألفا وأربعمائة، ففتح الله عليهم خيبر، وأقر اليهود فيها فلاحين، وأنزل الله تعالى سورة الفتح يذكر فيها ذلك فكيف يقال: إنه لم يذكر أنه أرسل إلا إلى مشركي العرب وهذه حال اليهود معه؟

قدوم الوفود على رسول الله صلى الله عليه وسلم دليل على عموم رسالته

وأما النصارى فإن أهل نجران التي باليمن كانوا نصارى، فقدم عليه وفدهم ستون راكبا وناظرهم في مسجده، وأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران، ولما ظهرت حجته عليهم، وتبين لهم أنه رسول الله إليهم، أمره الله إن لم يجيبوه أن يدعوهم إلى المباهلة فقال تعالى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.

فلما دعاهم إلى المباهلة طالبوا أن يمهلهم حتى يشتوروا

فاشتوروا، فقال بعضهم لبعض: تعلمون أنه نبي، وأنه ما باهل قوم نبيا إلا نزل بهم العذاب.

فاستعفوا من المباهلة، فصالحوه، وأقروا له بالجزية عن يد وهم صاغرون، لما خافوا من دعائه عليهم، لعلمهم أنه نبي، فدخلوا تحت حكمه، كما يدخل أهل الذمة الذين في بلاد المسلمين تحت حكم الله ورسوله، وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون، وهم أول من أدى الجزية من النصارى.

واستعمل عليهم وعلى من أسلم منهم عمرو بن حزم الأنصاري، وكتب له كتابا مشهورا، يذكر فيه شرائع الدين، فكانوا في ذمة المسلمين تحت حكم الله ورسوله ونائب رسوله عمرو بن حزم الأنصاري، رضي الله عنه، وقصتهم مشهورة متواترة، نقلها أهل السير، وأهل الحديث، وأهل الفقه، وأصل حديثهم معروف في الصحاح، والسنن، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.

ووفد نجران لما قدموا أنزل الله تبارك وتعالى بسبب ما جرى صدر سورة آل عمران، وذكر تعالى فرض الحج بقوله: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا.

وهذا نزل إما سنة تسع وإما سنة عشر، كما ذكر ذلك غير واحد من العلماء، منهم: القاضي أبو يعلى، وغيره.

قالوا وجوب الحج ثبت بقوله ولله على الناس حج البيت.

وروي أنه نزل في سنة عشر، وروي أنه نزل في سنة تسع، وهذا قول جمهور العلماء.

قالوا إن فرض الحج، إنما ثبت بهذه الآية، وقال بعضهم بل ثبت ذلك بقوله تعالى: وأتموا الحج والعمرة لله.

وهذه الآية نزلت سنة ست عام الحديبية، لما صد المشركون رسول الله ﷺ عن البيت، وصالحهم ذلك العام، وبايع المسلمين تحت الشجرة، وأنزل الله فيها سورة الفتح، ثم رجع إلى المدينة، وفتح الله عليهم خيبر سنة سبع، وفيها قدم عليه جعفر بن أبي طالب مع وفد الحبشة، ثم أرسل جعفرا وزيدا وعبد الله بن رواحة لغزو النصارى لمؤتة، ثم فتح مكة سنة ثمان في رمضان، ثم في أثناء سنة تسع غزا النصارى إلى تبوك، وفيها حج أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وأمر أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

وأردفه بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لنبذ العهود، وأنزل الله آية السيف المطلقة بجهاد المشركين وجهاد أهل الكتاب، فقال تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم.

وهذه الأشهر عند جمهور العلماء هي المذكورة في قوله تعالى: فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين.

فإن المشركين كانوا على نوعين: نوعا لهم عهد مطلق غير مؤقت، وهو عقد جائز غير لازم، ونوعا لهم عهد مؤقت، فأمر الله رسوله أن ينبذ إلى المشركين أهل العهد المطلق؛ لأن هذا العهد جائز غير لازم، وأمره أن يسيرهم أربعة أشهر، ومن كان له عهد مؤقت فهو عهد لازم، فأمره الله أن يوفي له إذا كان مؤقتا، وقد ذهب بعض الفقهاء إلى أن الهدنة لا تجوز إلا مؤقتة، وذهب بعضهم إلى أنه يجوز للإمام أن يفسخ الهدنة مع قيامهم بالواجب، والصواب هو القول الثالث، وهو أنها تجوز مطلقة ومؤقتة.

فأما المطلقة فجائزة غير لازمة، يخير بين إمضائها وبين نقضها. والمؤقتة لازمة.

قال تعالى: براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله وبشر الذين كفروا بعذاب أليم إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمونكيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين كيف وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا فصدوا عن سبيله إنهم ساء ما كانوا يعملون لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة وأولئك هم المعتدون فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول وهم بدءوكم أول مرة أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين.

والمقصود هنا ذكر قدوم وفد نجران النصارى: السيد والعاقب ومن معهما.

قال أبو الفرج بن الجوزي: ثم دخلت سنة عشر من الهجرة

فمن الحوادث فيها أن رسول الله ﷺ بعث خالد بن الوليد إلى بني الحارث بن كعب فروى ابن إسحاق قال: بعث رسول الله ﷺ خالدا في ربيع الآخر أو جمادى الأول في سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران، وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم، وذكر القصة، ثم قال: وفيها قدم وفد الأزد وفيها قدم وفد غسان وفيها قدم وفد زبيد، وفيها قدم وفد عبد القيس، قال ابن إسحاق: قدم على رسول الله ﷺ الجارود بن عمرو في وفد عبد القيس، وكان نصرانيا فأسلموا، وفيها قدم وفد كندة فأسلموا، وفيها قدم وفد بني حنيفة، وفيها قدم وفد بجيلة، قال: وفيها قدم العاقب والسيد من نجران، فكتب لهم رسول الله ﷺ كتاب صلح.

وذكر محمد بن سعد في الطبقات قدومهم في الوفود فقال: ذكر بعث النبي ﷺ خالد بن الوليد في شهر ربيع الأول سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب ذكره بإسناده، أنبأنا محمد بن عمر، حدثني إبراهيم بن موسى المخزومي، عن عبد الله بن عكرمة بن عبد الرحمن بن الحارث، عن أبيه، ثم ذكر قدوم نصارى نجران من طريق علي بن محمد، فقال: أنا علي بن محمد وهو المدائني، عن أبي معشر، عن يزيد بن رومان، ومحمد بن كعب قال: وأنا علي بن مجاهد، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، وعكرمة بن خالد، وعاصم بن عمر بن قتادة، أنا يزيد بن عايض بن جعدبة، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، وعن غيرهم من أهل العلم يزيد بعضهم على بعض قالوا: ووفد فلان وفلان في رجال من خثعم إلى رسول الله ﷺ بعدما هدم جرير بن عبد الله رضي الله عنه ذا الخلصة، وقتل من قتل من خثعم، فقالوا: آمنا بالله ورسوله فاكتب لنا كتابا. وذكروا القصة، وقدوم وفود متعددة.

قالوا: وقدم وفد نجران وكتب رسول الله ﷺ إلى أهل نجران، فخرج إليه أربعة عشر من أشرافهم نصارى وفيهم ثلاثة نفر يتولون أمورهم: العاقب، واسمه عبد المسيح رجل من كندة وهو أميرهم وصاحب مشورتهم والذي يصدرون عن رأيه، وأبو الحارث أسقفهم وإمامهم، وصاحب مدراسهم، والسيد وهو صاحب رحلتهم فدخلوا المسجد وعليهم ثياب الحبرة، وأردية مكفوفة بالحرير، فقاموا يصلون في المسجد نحو المشرق، فقال رسول الله ﷺ: دعوهم، ثم أتوا النبي ﷺ فأعرض عنهم فلم يكلمهم، فقال لهم عثمان: ذلك من أجل زيكم هذا فانصرفوا يومهم ذلك، ثم غدوا عليه بزي الرهبان فسلموا عليه فرد عليهم ودعاهم إلى الإسلام فأبوا وكثر الكلام، والحجاج بينهم وتلا عليهم القرآن، وقال رسول الله ﷺ، إن أنكرتم ما أقول فهلم أباهلكم. فانصرفوا على ذلك، فغدا عبد المسيح ورجلان من ذوي رأيهم على رسول الله ﷺ، فقالوا: قد بدا لنا أن لا نباهلك، فاحكم علينا بما أحببت نعطك ونصالحك. فصالحهم على ألفي حلة في رجب، وألف في صفر، أو قيمة كل حلة من الأواقي، وعلى عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمحا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد. ولنجران وحاشيتهم جوار الله وذمة محمد رسول الله ﷺ على أنفسهم، وملتهم، وأرضهم، وأموالهم، وغائبهم، وشاهدهم، وبيعهم، لا يغير أسقف من سقيفاه، ولا راهب من رهبانيته، ولا واقف من وقفانيته، وأشهد على ذلك شهودا منهم أبو سفيان بن حرب، والأقرع بن حابس، والمغيرة بن شعبة، فرجعوا إلى بلادهم، فلم يلبث السيد والعاقب إلا يسيرا حتى رجعا إلى النبي ﷺ فأسلما وأنزلهما دار أبي أيوب الأنصاري، وأقام أهل نجران على ما كتب لهم به النبي ﷺ، حتى قبضه الله صلوات الله عليه ورحمته ورضوانه.

ثم ولي أبو بكر الصديق رضي الله عنه فكتب بالوصاة بهم عند وفاته، ثم أصابوا ربا فأخرجهم عمر بن الخطاب من أرضهم، وكتب لهم هذا ما كتب عمر أمير المؤمنين لنجران، أنه من سار منهم أنه آمن بأمان الله، لا يضرهم أحد من المسلمين، ووفى لهم بما كتب لهم رسول الله ﷺ وأبو بكر: أما بعد، فمن وقعوا به من أمراء الشام وأمراء العراق فليوسعهم من جريب الأرض فما اعتملوا من ذلك فهو لهم صدقة، وعقبة لهم فكان أرضهم لا سبيل عليهم فيه لأحد ولا مغرم.

أما بعد فمن حضرهم من رجل مسلم فلينصرهم على من ظلمهم؛ فإنهم أقوام لهم الذمة، وجزيتهم عنهم متروكة أربعة وعشرين شهرا بعد أن يقدموا، ولا يكلفوا إلا من ضيعتهم التي اعتملوا غير مظلومين ولا معنوف عليهم. شهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعيقيب بن أبي فاطمة، فوقع ناس منهم العراق، فنزلوا النجرانية التي بناحية الكوفة.

وما ذكره ابن سعد، عن علي بن محمد المدائني، عن أشياخه في حديث وفد نجران، فهو يوافق ما ذكره ابن إسحاق، فإن قوله أربعة عشر من أشرافهم يوافق قول ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال:

قدم على رسول الله ﷺ وفد نجران ستون راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم في الأربعة عشر ثلاثة نفر، إليهم يئول أمرهم العاقب أمير القوم، وذو رأيهم، وصاحب مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه واسمه عبد المسيح والسيد ثمالهم، وصاحب رحلهم ونجعتهم، واسمه الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بني بكر بن وائل أسقفهم، وحبرهم، وإمامهم وصاحب مدراسهم، وكان أبو حارثة قد شرف فيهم ودرس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه، ومولوه، وأخدموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا له الكرامات لما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما وجهوا إلى رسول الله ﷺ من نجران جلس أبو حارثة على بغلة له موجها وإلى جنبه أخ له يقال له كرز بن علقمة، فعثرت بغلة أبي حارثة، فقال كرز: تعس الأبعد، يريد رسول الله ﷺ، فقال له أبو حارثة: بل أنت تعست، فقال، لم يا أخي؟ قال والله إنه للنبي الذي كنا ننتظره، فقال له كرز: فما منعك منه وأنت تعلم هذا؟ قال: ما صنع بنا هؤلاء القوم شرفونا، ومولونا، وأكرمونا، وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى فأضمر عليها منه أخوه كرز بن علقمة حتى أسلم بعد ذلك وهو كان يحدث عنه هذا الحديث فيما بلغني.

قال ابن هشام: وبلغني أن رؤساء نجران كانوا يتوارثون كتابا عندهم فكلما مات رئيس منهم فأفضت الرياسة إلى غيره، ختم على تلك الكتب خاتما مع الخواتم التي قبله ولم يكسرها، فخرج الرئيس الذي كان على عهد رسول الله ﷺ يمشي، فعثر فقال ابنه: تعس الأبعد، يريد رسول الله ﷺ، فقال له أبوه: لا تفعل؛ فإنه نبي واسمه في الوضائع، يعني الكتب.

فلما مات لم تكن لابنه همة إلا أن شد فكسر الخواتم، فوجد فيها ذكر النبي ﷺ، فأسلم فحسن إسلامه، وحج وهو يقول:

إليك تغدو قلقا وضينها معترضا في بطنها جنينها

مخالفا لدين النصارى دينها

قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير، قال: قدموا على رسول الله ﷺ المدينة، فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر عليهم ثياب الحبرات جبب، وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب، قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب النبي ﷺ يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدا مثلهم، وقد حانت صلاتهم، فقاموا في مسجد رسول الله ﷺ فقال: دعوهم، فصلوا إلى المشرق. قال ابن إسحاق: وكان تسمية الأربعة عشر الذين يئول إليهم أمرهم: العاقب وهو عبد المسيح، والسيد وهو الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، ونبيه، وخويلد، وعمر، وخالد، وعبد الله، ويحنس في ستين راكبا، فكلم رسول الله ﷺ منهم أبو حارثة بن علقمة، والعاقب عبد المسيح، والأيهم السيد، وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلافهم من أمرهم يقولون هو الله، ويقولون هو ولد الله، ويقولون هو ثالث ثلاثة، وكذلك قول النصرانية.

فهم يحتجون في قولهم: هو الله، بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرا، وذلك كله بأمر الله وليجعله آية الناس.

ويحتجون في قولهم: إنه ولد الله، فإنهم يقولون لم يكن له أب يعلم، وقد تكلم في المهد، وهذا شيء لم يصنعه أحد من ولد آدم.

ويحتجون في قولهم: ثالث ثلاثة، بقول الله: فعلمنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا، فيقولون: لو كان واحدا ما قال إلا فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت، ولكنه هو عيسى ومريم ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن فلما كلمه الحبران، قال لهما رسول الله ﷺ: أسلما، قالا: قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما فأسلما، قالا: بلى، قد أسلمنا قبلك. قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعواكما لله ولدا، وعبادتكما للصليب، وأكلكما للخنزير، قالا: فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله ﷺ عنهما، فلم يجبهما فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلافهم في أمرهم كله صدرا من سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية.

وذكر نزول الآيات بسببهم غير واحد مثلما ذكره محمد بن جرير الطبري في تفسيره، قال: حدثنا المثنى، حدثنا إسحاق، حدثنا ابن أبي جعفر - يعني - عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع في قوله تعالى: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم. قال: إن النصارى أتوا رسول الله ﷺ، فخاصموه في عيسى ابن مريم، وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان - لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، فقال لهم النبي ﷺ: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟، قالوا: نعم. قال: ألستم تعلمون أن ربنا حي لا يموت وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟، قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن ربنا قيم على كل شيء يكلؤه ويحفظه ويرزقه؟، قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟، قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئا إلا ما علم؟، قالوا: لا. قال: فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يحدث الحدث؟، قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غذي كما يتغذى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب ويحدث الحدث؟، قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟. قال: فعرفوا ثم أبوا إلا الجحود فأنزل الله الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم.

وقد ثبت في الصحاح حديث وفد نجران ففي البخاري ومسلم عن حذيفة، وأخرجه مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال: لما نزلت هذه الآية: فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم؛ دعا رسول الله ﷺ عليا وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال: اللهم هؤلاء أهلي.

وفي البخاري عن حذيفة بن اليمان: قال جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل فوالله لئن كان نبيا فلاعننا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنما نعطيك ما سألتنا، وابعث معنا رجلا أمينا، ولا تبعث معنا إلا أمينا، قال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين.

قال فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ فقال: قم يا أبا عبيدة ابن الجراح، فلما قام قال رسول الله ﷺ: هذا أمين هذه الأمة.

وفي سنن أبي داود وغيره، قال أبو داود: أخبرنا مصرف بن عمرو اليامي، حدثنا يونس يعني ابن بكير، حدثنا أسباط بن نصر الهمداني عن إسماعيل بن عبد الرحمن القرشي عن ابن عباس، قال صالح رسول الله ﷺ أهل نجران على ألفي حلة،

النصف في صفر، والنصف في رجب، يؤدونها إلى المسلمين؛ وعارية ثلاثين درعا، وثلاثين فرسا، وثلاثين بعيرا، وثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، والمسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمين كيد ذات غدر، على أن لا يهدم لهم بيعة، ولا يخرج لهم قس، ولا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا، أو يأكلوا الربا.

قال إسماعيل: فقد أكلوا الربا. قال أبو داود: إذا نقضوا بعض ما شرط عليهم فقد أحدثوا.

وما ذكره أبو داود وأهل السير من مصالحته لأهل نجران على الجزية المذكورة معروف عند أهل العلم، وقد ذكر ذلك أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال ذكره من طريقين:

قال أبو عبيد رحمه الله: حدثنا أبو أيوب الدمشقي، قال: حدثني سعدان بن يحيى، عن عبد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح الهذلي: أن رسول الله ﷺ صالح أهل نجران، فكتب لهم كتابا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي ﷺ لأهل نجران، إذ كان له حكمه عليهم أن في كل سوداء وبيضاء وصفراء وحمراء أو ثمرة ورقيق وأفضل عليهم وترك ذلك لهم ألفي حلة، في كل صفر ألف حلة، وفي كل رجب ألف حلة، كل حلة أوقية ما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي فليحسب، وما قضوا من ركاب أو خيل أو دروع أخذ منهم بالحساب، وعلى أهل نجران مقرى رسلي عشرين ليلة فما دونها وعليهم عارية ثلاثين فرسا وثلاثين بعيرا وثلاثين درعا إذا كان كيد باليمن ذو مغدرة، وما هلك مما أعاروا رسلي فهو ضامن على رسلي حتى يؤدوه إليهم ولنجران وحاشيتها ذمة الله وذمة رسوله على دمائهم وأموالهم وملتهم وبيعهم ورهبانهم وأساقفهم وشاهدهم وغائبهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، وعلى أن لا يغيروا أسقفا من سقيفاه، ولا واقها من وقيهاه، ولا راهبا من رهابنه، وعلى أن لا يخسروا، ولا يعشروا، ولا يطأ أرضهم جيش، ومن ملك منهم حقا فالنصف بينهم بنجران، على أن لا يأكلوا الربا، فمن أكل الربا من ذي قبل فذمتي منهم بريئة وعليهم الجهد والنصح فيما استقبلوا غير مظلومين ولا معنوف عليهم، شهد عثمان بن عفان ومعيقيب.

قال أبو عبيد: الواقة ولي العهد في لغة بلحارث بن كعب يقول: إذا مات هذا الأسقف قام الآخر مكانه.

قال أبو عبيد: قال أبو أيوب وحدثني عيسى بن يونس، عن عبد الله بن أبي حميد، عن أبي المليح، عن النبي ﷺ مثل ذلك، وزاد في حديثه قال: فلما توفي رسول الله ﷺ أتوا أبا بكر، فوفى لهم بذلك، وكتب لهم كتابا نحوا من كتاب رسول الله ﷺ، فلما ولي عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصابوا الربا في زمانه، فأجلاهم عمر، وكتب لهم: أما بعد فمن وقعوا به من أمراء الشام أو العراق فليوسعهم من جريب الأرض، وما اعتملوا من شيء فهو لهم لوجه الله وعقبى من أرضهم، قال فأتوا العراق فاتخذوا النجرانية. قال أبو عبيد: وهي قرية بالكوفة.

وكتب عثمان إلى الوليد بن عقبة: أما بعد، فإن العاقب والأسقف وسراة أهل نجران أتوني بكتاب رسول الله ﷺ وأروني شرط عمر رضي الله عنه، وقد سألت عثمان بن حنيف فأنبأني أنه قد كان بحث على ذلك، فوجده صار للدهاقين ليردعهم عن أرضهم، وإني قد وضعت عنهم من جزيتهم مائتي حلة لوجه الله وعقبى لهم من أرضهم، وإني أوصيك بهم فإنهم قوم لهم ذمة.

قال أبو عبيد: وحدثنا عثمان بن صالح، عن عبد الله بن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة بن الزبير، أن رسول الله ﷺ كتب لأهل نجران: من محمد النبي رسول الله ﷺ، ثم ذكر نحو هذه النسخة، وليس في حديثه قصة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وفي آخره شهد أبو سفيان بن حرب وغيلان بن عمرو ومالك بن عوف من بني نضر، والأقرع بن حابس الحنظلي، والمغيرة بن شعبة.

قال أبو عبيد: حدثني سعيد بن عفير، عن يحيى بن أيوب، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن شهاب، قال: أول من أعطى الجزية أهل نجران وكانوا نصارى.

فإن قيل: قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا.

وقد ثبت في الصحيحين، أن النبي ﷺ قد كتب إلى هرقل مع دحية الكلبي مدة هدنته للمشركين، وكان أبو سفيان إذ ذاك لم يسلم، وقد حضر عند هرقل، وسأله هرقل عن النبي ﷺ، وأبو سفيان أسلم عام الفتح، فدل ذلك على أن هذا الكتاب كان قبل الفتح، ونزول آية الجزية كان بعد الفتح سنة تسع، فدل ذلك على أن هذه الآية نزلت قبل آية الجزية، وقبل آية المباهلة، وآية المباهلة قد علم يقينا أنها نزلت في قصة قدوم وفد نجران والمفسرون وأهل السير ذكروا أن آل عمران نزلت بسبب مناظرة أهل نجران، وقد ذكرناه من نقل أهل الحديث بالإسناد المتصل.

ونقل أهل المغازي والسير أن وفد نجران صالحهم على الجزية وهم أول من أداها، فعلم أن قدومهم كان بعد نزول آية الجزية، وآية الجزية نزلت بعد فتح مكة، فعلم أن قدوم وفد نجران كان بعد آية السيف التي هي آية الجزية.

قال الزهري: أهل نجران أول من أدى الجزية.

وقوله تعالى: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم. بعدها آيات نزلت قبل ذلك كقوله: يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون.

فيكون هذا مما تقدم نزوله وتلك مما تأخر نزوله، وجمع بينهما للمناسبة كما في نظائره، فإن الآيات كانت إذا نزلت يأمر النبي ﷺ أن يضعها في مواضع تناسبها، وإن كان ذلك مما تقدم، ومما يبين ذلك أن هذه الآية وهي قوله تعالى قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم لفظها يعم اليهود والنصارى. وكذلك ذكر أهل العلم أنها دعاء لطائفتين، وأن النبي ﷺ دعا بها اليهود، فدل ذلك على أن نزولها متقدم، فإن دعاءه لليهود كان قبل نزول آية الجزية، ولهذا لم يضرب الجزية على أهل خيبر وغيرهم من يهود الحجاز، ولكن لما بعث معاذا إلى اليمن وكان كثيرا من أهلها يهود أمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافرا، وهذا كان متأخرا بعد غزوة تبوك، وتوفي النبي ﷺ ومعاذ باليمن، قال ابن أبي حاتم في تفسيره: حدثنا أبي حدثنا هشام بن عمار، حدثنا الوليد، حدثنا الضحاك بن عبد الرحمن بن أبي حوشب وغيره، أن عمر بن عبد العزيز

كتب إلى أليون طاغية الروم، قال: فيما أنزل الله على محمد ﷺ: قل يا أهل الكتاب يعني اليهود والنصارى تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.

وروي بإسناده عن ابن جريج في قوله تعالى: تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم.

قال: بلغني أن النبي ﷺ دعا يهود أهل الكتاب فأبوا عليه فجاهدهم، وكذلك سائر الآيات التي فيها خطاب للطائفتين كقوله تعالى: يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين.

ومما ينبغي أن يعلم، أن أهل نجران كان منهم نصارى أهل ذمة وكان منهم مسلمون - وهم الأكثرون - والنبي ﷺ بعث أبا عبيدة لهؤلاء وهؤلاء، واستعمل عمرو بن حزم على هؤلاء وهؤلاء، كما أخرجا في الصحيحين عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: إن لكل أمة أمينا، وإن أميننا أيتها الأمة أبو عبيدة بن الجراح.

وعن أنس أيضا: أن أهل اليمن قدموا على رسول الله ﷺ، فقالوا ابعث معنا رجلا أمينا، يعلمنا السنة والإسلام، فأخذ بيد أبي عبيدة بن الجراح، فقال: هذا أمين هذه الأمة.

وفي الصحيحين: عن حذيفة بن اليمان، قال: جاء أهل نجران إلى رسول الله ﷺ، فقالوا: يا رسول الله ابعث إلينا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن إليكم رجلا أمينا حق أمين حق أمين.

قال: فاستشرف لها الناس، قال: فبعث أبا عبيدة بن الجراح.

وللبخاري عن حذيفة قال: جاء السيد والعاقب صاحبا نجران إلى رسول الله ﷺ يريدان أن يلاعناه، قال: فقال أحدهما لصاحبه: لا تفعل، فوالله لئن كان نبيا فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا، قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلا أمينا، فقال: لأبعثن معكم رجلا أمينا حق أمين، فاستشرف لها أصحاب رسول الله ﷺ، فقال: قم يا أبا عبيدة بن الجراح، فلما قام قال رسول الله ﷺ: هذا أمين هذه الأمة.

وكذلك استعمل النبي ﷺ عليهم عمرو بن حزم، وكتب له الكتاب المشهور الذي فيه الفرائض والسنن، وقد رواه النسائي بطوله، وروى الناس بعضه مفرقا.

ومحمد بن سعد لم يذكر بعد وفد نجران إلا وفد جيشان، فدل على أن قدومهم كان متأخرا، ومحمد بن إسحاق ذكر قدومهم في أوائل السيرة مع قصة اليهود؛ ليجمع بين خبر اليهود والنصارى، وذكر في سنة عشر فتح نجران، وإرسال النبي ﷺ خالد بن الوليد، وإرسال خالد ذكروا أنه كان متأخرا قبل وفاته ﷺ بأربعة أشهر، وأنه قدم وفد منهم بالإسلام، وهذا إنما كان بعد قدوم وفد النصارى؛ فإنه قد ذكر ابن سعد أن العاقب والسيد أسلما بعد ذلك، والعهد بالجزية إنما كان مع النصارى، وآية الجزية هي قوله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وهذه آية السيف مع أهل الكتاب، وقد ذكر فيها قتالهم إذا لم يؤمنوا حتى يعطوا الجزية، والنبي ﷺ لم يأخذ من أحد الجزية إلا بعد هذه الآية، بل وقالوا: إن أهل نجران أول من أخذت منهم الجزية، كما ذكر ذلك أهل العلم كالزهري وغيره، فإنه باتفاق أهل العلم لم يضرب النبي ﷺ على أحد قبل نزول هذه الآية جزية لا من الأميين ولا من أهل الكتاب، ولهذا لم يضربها على يهود قينقاع والنضير وقريظة ولا ضربها على أهل خيبر؛ فإنها فتحت سنة سبع قبل نزول آية الجزية، وأقرهم فلاحين، وهادنهم هدنة مطلقة قال فيها: نقركم ما أقركم الله.

فإذا كان أول ما أخذها من وفد نجران علم أن قدومهم عليه ومناظرته لهم ومحاجته إياهم، وطلبه المباهلة معهم كانت بعد آية السيف التي فيها قتالهم.

وعلم بذلك أن ما ذكره الله تعالى من مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا، محكم لم ينسخه شيء، وكذلك ما ذكره تعالى من مجادلة الخلق مطلقا بقوله: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.

فإن من الناس من يقول: آيات المجادلة والمحاجة للكفار منسوخات بآية السيف؛ لاعتقاده أن الأمر بالقتال المشروع ينافي المجادلة المشروعة وهذا غلط، فإن النسخ إنما يكون إذا كان الحكم الناسخ مناقضا للحكم المنسوخ، كمناقضة الأمر باستقبال المسجد الحرام في الصلاة للأمر باستقبال بيت المقدس بالشام، ومناقضة الأمر بصيام رمضان للمقيم للتخيير بين الصيام وبين إطعام كل يوم مسكينا، ومناقضة نهيه عن تعدي الحدود التي فرضها للورثة للأمر بالوصية للوالدين والأقربين، ومناقضة قوله لهم كفوا أيديكم عن القتال لقوله: قاتلوهم كما قال تعالى: ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية.

فأمره لهم بالقتال ناسخ لأمره لهم بكف أيديهم عنهم، فأما قوله تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.

وقوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.

فهذا لا يناقضه الأمر بجهاد من أمر بجهاده منهم، ولكن الأمر بالقتال يناقض النهي عنه والاقتصار على المجادلة.

الجمع بين مجادلة أهل الكتاب وقتالهم

فأما مع إمكان الجمع بين الجدال المأمور به والقتال المأمور به، فلا منافاة بينهما، وإذا لم يتنافيا بل أمكن الجمع لم يجز الحكم بالنسخ، ومعلوم أن كلا منهما ينفع حيث لا ينفع الآخر، وأن استعمالهما جميعا أبلغ في إظهار الهدى ودين الحق، ومما يبين ذلك وجوه:

أحدها: أن من كان من أهل الذمة والعهد والمستأمن منهم لا يجاهد بالقتال، فهو داخل فيمن أمر الله بدعوته ومجادلته بالتي هي أحسن، وليس هو داخلا فيمن أمر الله بقتاله.

الثاني: أنه قال: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا.

فالظالم لم يؤمر بجداله بالتي هي أحسن، فمن كان ظالما مستحقا للقتال غير طالب للعلم والدين فهو من هؤلاء الظالمين الذين لا يجادلون بالتي هي أحسن، بخلاف من طلب العلم والدين، ولم يظهر منه ظلم، سواء كان قصده الاسترشاد، أو كان يظن أنه على حق يقصد نصر ما يظنه حقا، ومن كان قصده العناد يعلم أنه على باطل ويجادل عليه فهذا لم يؤمر بمجادلته بالتي هي أحسن، لكن قد نجادله بطرق أخرى نبين فيها عناده وظلمه وجهله جزاء له بموجب عمله.

الثالث: أنه سبحانه قال: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه.

فهذا مستجير مستأمن وهو من أهل الحرب أمر الله بإجارته حتى تقوم حجة الله عليه، ثم يبلغه مأمنه، وهذا في سورة (براءة) التي فيها نقض العهود، وفيها آية السيف، وذكر هذه الآية في ضمن الأمر بنقض العهود؛ ليبين سبحانه أنه مثل هذا يجب أمانه؛ حتى تقوم عليه الحجة، لا تجوز محاربته كمحاربة من لم يطلب أن يبلغ حجة الله عليه.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ثم أبلغه مأمنه إن لم يوافقه ما نقص عليه ونخبر به فأبلغه مأمنه، قال: وليس هذا بمنسوخ.

وقال مجاهد: من جاءك واستمع ما أنزل إليك فهو آمن حتى يأتيك.

وقال عطاء في الرجل من أهل الشرك يأتي المسلمين بغير عهد، قال: تخيره إما أن تقره، وإما أن تبلغه مأمنه.

وقوله تعالى: فأجره حتى يسمع كلام الله.

قد علم أن المراد أنه يسمعه سمعا يتمكن معه من فهم معناه، إذ المقصود لا يقوم بمجرد سمع لفظ لا يتمكن معه من فهم المعنى، فلو كان غير عربي وجب أن يترجم له ما يقوم به عليه الحجة - ولو كان عربيا - وفي القرآن ألفاظ غريبة ليست لغته، وجب أن يبين له معناها، ولو سمع اللفظ كما يسمعه كثير من الناس، ولم يفقه المعنى وطلب منا أن نفسره له ونبين له معناه، فعلينا ذلك.

وإن سألنا عن سؤال يقدح في القرآن أجبناه عنه، كما كان النبي ﷺ إذا أورد عليه بعض المشركين أو أهل الكتاب أو المسلمين سؤالا يوردونه على القرآن، فإنه كان يجيبه عنه كما أجاب ابن الزبعري لما قاس المسيح على آلهة المشركين، وظن أن العلة في الأصل بمجرد كونهم معبودين، وأن ذلك يقتضي كل معبود غير الله، فإنه يعذب في الآخرة، فجعل المسيح مثلا لآلهة المشركين قاسهم عليه قياس الفرع على الأصل.

قال تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون.

فبين سبحانه الفرق المانع من الإلحاق بقوله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون.

وبين أن هؤلاء القائسين ما قاسوه إلا جدلا محضا لا يوجب علما؛ لأن الفرق حاصل بين الفرع والأصل، فإن الأصنام إذا جعلوا حصبا لجهنم كان ذلك إهانة وخزيا لعابديها من غير تعذيب من لا يستحق التعذيب، بخلاف ما إذا عذب عباد الله الصالحون بذنب غيرهم، فإن هذا لا يفعله الله تعالى، لا سيما عند جماهير المسلمين وسائر أهل الملل سلفهم وخلفهم الذين يقولون إن الله لا يخلق ويأمر إلا لحكمة، ولا يظلم أحدا فينقصه شيئا من حسناته، ولا يحمل عليه سيئات غيره، بل ولا يعذب أحدا إلا بعد إرسال رسول إليه، كما قال تعالى:

ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما.

وقال تعالى: فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا.

وقال تعالى: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون.

وقال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.

ومن قال من المسلمين وغيرهم من أهل الملل: إنه يجوز منه تعالى فعل كل شيء، وأن الظلم هو الممتنع الذي لا يدخل تحت القدرة، فهؤلاء يقولون: إنما يعلم ما يفعله وما لا يفعله بدلالة خبر الصادق أو بالعادة، وإن كان الجمهور يستدلون بخبر الصادق وبغيره على ما يمتنع من الله.

وقد أخبر الله تعالى أن عباده الصالحين في الجنة، لا يعذبهم في النار، بل يتقبل عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة، فضلا أن يعاقبهم بذنب غيرهم مع كراهية لفعلهم، ونهيهم عن ذلك، ومن زعم أن لفظ (ما) كانت تتناول المسيح وأخر بيان العام أو أجاب بأن لفظ (ما) لا يتناول إلا ما لا يعقل، فالقولان ضعيفان كما قد بسط في موضعه.

وإنما المشركون عارضوا النص الصحيح بقياس فاسد، فبين الله تعالى فساد القياس وذكر الفرق بين الأصل والفرع.

وكذلك لما أورد بعض النصارى على قوله تعالى: يا أخت هارون ظنا منه أن هارون هذا هو هارون أخو موسى بن عمران، وأن عمران هذا هو عمران أبو مريم أم المسيح، فسئل النبي ﷺ عن ذلك، أجاب بأن هارون هذا ليس هو ذاك، ولكنهم كانوا يسمون بأسماء الأنبياء والصالحين.

وبعض جهال النصارى يقدح في القرآن بمثل هذا ولا يعلم هذا المفرط في جهله أن آحاد الناس يعلمون أن بين موسى وعيسى مدة طويلة جدا يمتنع معها أن يكون موسى وهارون خالي المسيح، وأن هذا مما لا يخفى على أقل أتباع محمد ﷺ، فضلا عن أن يخفى على محمد ﷺ.

وهذا السؤال مما أورده أهل نجران، كما ثبت عن المغيرة بن شعبة، قال: بعثني رسول الله ﷺ إلى أهل نجران فقالوا: ألستم تقرءون ياأخت هارون، وقد علمتم ما بين موسى وعيسى، فلم أدر ما أجيبهم، فرجعت إلى رسول الله ﷺ، فأخبرته، فقال: ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم والصالحين قبلهم؟.

وهذا السؤال الذي هو سؤال الطاعن في القرآن لما أورده أهل نجران الكفار على رسول الله ﷺ ولم يجبهم عنه أجاب عنه النبي ﷺ، ولم يقل لهم: ليس لكم عندي إلا السيف، ولا قال: قد نقضتم العهد إن كانوا قد عاهدوه، وقد عرف أن أهل نجران لم يرسل إليهم رسولا إلا والجهاد مأمور به.

وكان المسلمون يوردون الأسئلة عليه، كما أورد عليه عمر عام الحديبية، لما صالح المشركين ولم يدخل مكة فقال له: ألم تكن تحدثنا أنا نأتي البيت ونطوف به، قال: بلى، أقلت لك أنك تأتيه في هذا العام؟، قال: لا، قال: فإنك آتيه ومطوف به.

وكذلك أجابه أبو بكر ولم يكن سمع جواب النبي ﷺ له، معلوم أنه ليس في ظاهر اللفظ توقيت ذلك بعام، ولكن السائل ظن ما لا يدل اللفظ عليه.

وكذلك لما قال: من نوقش الحساب عذب، قالت له عائشة: ألم يقل الله: فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا. فقال: ذلك العرض، ومن نوقش الحساب عذب.

ومعلوم أن الحساب اليسير لا يتناول من نوقش، وقد زادها بيانا، فأخبر أنه العرض لا المقابلة المتضمنة للمناقشة.

وكذلك لما قال: إنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، قالت له حفصة: ألم يقل الله: وإن منكم إلا واردها. فأجابها بأنه قال: ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا.

فبين ﷺ أن هؤلاء هم الذين يدخلون جهنم، وهذا الدخول هو الذي نفاه عن أهل الحديبية، وأما الورود فهو مرور الناس على الصراط، كما فسره في الحديث الصحيح: حديث جابر بن عبد الله، وهذا المرور لا يطلق عليه اسم الدخول الذي يجزي به العصاة، وينفي عن المتقين، ومثل هذا كثير.

وأما ما في القرآن من ذكر أقوال الكفار وحججهم وجوابها، فهذا كثير جدا، فإنه يجادلهم تارة في التوحيد، وتارة في النبوات، وتارة في المعاد، وتارة في الشرائع بأحسن الحجج وأكملها، كما قال تعالى: وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا.

وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن أولي العزم من الرسل بمجادلة الكفار فقال تعالى: قالوا يانوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا.

وقال عن الخليل: وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هداني. إلى قوله: وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء.

وأمر الله تعالى محمدا ﷺ بالمجادلة بالتي هي أحسن، وذم سبحانه من جادل بغير علم، أو في الحق بعدما تبين، ومن جادل بالباطل: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون.

وقال تعالى: يجادلونك في الحق بعدما تبين.

وقال تعالى: وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.

وهذا هو الجدال المذكور في قوله: ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا.

وإذا كان النبي ﷺ يحاج الكفار بعد نزول الأمر بالقتال، وقد أمره الله تعالى أن يجير المستجير حتى يسمع كلام الله ثم يبلغه مأمنه، والمراد بذلك: تبليغ رسالات الله، وإقامة الحجة عليه، وذلك قد لا يتم إلا بتفسيره له الذي تقوم به الحجة، ويجاب به عن المعارضة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.

علم بطلان قول من ظن أن الأمر بالجهاد ناسخ الأمر بالمجادلة مطلقا.

الوجه الرابع: إن القائل إذا قال: إن آية مجادلة الكفار - أو غيرها مما يدعي نسخه - منسوخة بآية السيف قيل له: ما تعني بآية السيف؟ أتعني آية بعينها، أم تعني كل آية فيها الأمر بالجهاد؟

فإن أراد الأول، كان جوابه من وجهين:

أحدهما: أن الآيات التي فيها ذكر الجهاد متعددة، فلا يجوز تخصيص بعضها.

وإن قال: أريد قوله تعالى: فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم.

قيل له: هذه في قتال المشركين وقد قال بعدها في قتال أهل الكتاب:

قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

فلو لم تكن آية السيف إلا واحدة لم تكن هذه أولى من هذه، وإن قال: كل آية فيها ذكر الجهاد.

قيل له الجهاد شرع على مراتب، فأول ما أنزل الله تعالى فيه الإذن بقوله: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير.

فقد ذكر غير واحد من العلماء أن هذه أول آية نزلت في الجهاد، ثم بعد ذلك نزل وجوبه بقوله: كتب عليكم القتال.

ولم يؤمروا بقتال من طلب مسالمتهم، بل قال: فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا.

وكذلك من هادنهم لم يكونوا مأمورين بقتاله، وإن كانت الهدنة عقدا جائزا غير لازم.

ثم أنزل في (براءة) الأمر بنبذ العهود، وأمرهم بقتال المشركين كافة، وأمرهم بقتال أهل الكتاب إذا لم يسلموا حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ولم يبح لهم ترك قتالهم وإن سالموهم وهادنوهم هدنة مطلقة مع إمكان جهادهم.

فإن قال: آية السيف التي نسخت المجادلة هي آية الإذن. قيل: فآية الإذن نزلت في أول مقدمه المدينة قبل أن يبعث شيئا من السرايا، وقد جادل بعد هذا الكفار.

وكذلك إن قيل: آيات فرض القتال. قيل: فقوله كتب عليكم القتال. نزلت في أول الأمر قبل بدر، ولا ريب أن الجهاد كان واجبا يوم أحد والخندق وفتح خيبر ومكة، وقد ذكر الله آيات فرض الجهاد في هؤلاء المغازي كما ذكر ذلك في سورة آل عمران والأحزاب. وإن قيل: بل الجدال إنما نسخ لما أمر بجهاد من سالم ومن لم يسالم، قيل: هذا باطل، فإن الجدال إن كان منافيا للجهاد، فهو مناف لإباحته ولإيجابه ولو للمسالم، وإن لم يناف الجهاد لم يناف إيجاب الجهاد للمسالمين، كما لم يناف إيجاب جهاد غيرهم. فإن المسالم قد لا يجادل ولا يجالد، وقد يجادل ولا يجالد، كما أن غيره قد يجالد ويجادل وقد يفعل أحدهما.

فإن كان إيجابه لجهاد المحارب المبتدئ بالقتال لا ينافي مجادلته، فلأن يكون جهاد من لا يبدأ القتال لا ينافي مجادلته أولى وأحرى، فإن من كان أبعد عن القتال كانت مجادلته أقل منافاة للقتال ممن يكون أعظم قتالا. يبين هذا:

الوجه الخامس: وهو أن يقال: المنسوخ هو الاقتصار على الجدال، فكان النبي ﷺ في أول الأمر مأمورا أن يجاهد الكفار بلسانه لا بيده، فيدعوهم ويعظهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ويجاهدهم بالقرآن جهادا كبيرا، قال تعالى في سورة الفرقان وهي مكية: ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيرا فلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا.

وكان مأمورا بالكف عن قتالهم لعجزه وعجز المسلمين عن ذلك، ثم لما هاجر إلى المدينة وصار له بها أعوان أذن له في الجهاد، ثم لما قووا كتب عليهم القتال ولم يكتب عليهم قتال من سالمهم؛ لأنهم لم يكونوا يطيقون قتال جميع الكفار.

فلما فتح الله مكة وانقطع قتال قريش ملوك العرب، ووفدت إليه وفود العرب بالإسلام أمره الله تعالى بقتال الكفار كلهم إلا من كان له عهد مؤقت، وأمره بنبذ العهود المطلقة، فكان الذي رفعه ونسخه ترك القتال.

وأما مجاهدة الكفار باللسان، فما زال مشروعا من أول الأمر إلى آخره،

فإنه إذا شرع جهادهم باليد، فباللسان أولى، وقد قال النبي ﷺ: جاهدوا المشركين بأيديكم وألسنتكم وأموالكم.

وكان ينصب لحسان منبرا في مسجده يجاهد فيه المشركين بلسانه جهاد هجو، وهذا كان بعد نزول آيات القتال، وأين منفعة الهجو من منفعة إقامة الدلائل والبراهين على صحة الإسلام، وإبطال حجج الكفار من المشركين وأهل الكتاب؟

الوجه السادس: أنه من المعلوم أن القتال إنما شرع للضرورة، ولو أن الناس آمنوا بالبرهان والآيات لما احتيج إلى القتال، فبيان آيات الإسلام وبراهينه واجب مطلقا وجوبا أصليا.

وأما الجهاد: فمشروع للضرورة، فكيف يكون هذا مانعا من ذلك؟

فإن قيل: الإسلام قد ظهرت أعلامه وآياته فلم يبق حاجة إلى إظهار آياته، وإنما يحتاج إلى السيف. قيل: معلوم أن الله وعد بإظهاره على الدين كله ظهور علم وبيان وظهور سيف وسنان، فقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وقد فسر العلماء ظهوره بهذا وهذا، ولفظ الظهور يتناولهما، فإن ظهور الهدى بالعلم والبيان، وظهور الدين باليد والعمل، والله تعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله.

ومعلوم أن ظهور الإسلام بالعلم والبيان قبل ظهوره باليد والقتال؛ فإن النبي ﷺ مكث بمكة ثلاث عشرة سنة يظهر الإسلام بالعلم والبيان والآيات والبراهين، فآمنت به المهاجرون والأنصار طوعا واختيارا بغير سيف لما بان لهم من الآيات البينات والبراهين والمعجزات، ثم أظهره بالسيف، فإذا وجب علينا جهاد الكفار بالسيف ابتداء ودفعا، فلأن يجب علينا بيان الإسلام وإعلامه ابتداء ودفعا لمن يطعن فيه بطريق الأولى والأحرى.

فإن وجوب هذا قبل وجوب ذاك ومنفعته قبل منفعته، ومعلوم أنه يحتاج كل وقت إلى السيف، فكذلك هو محتاج إلى العلم والبيان، وإظهاره بالعلم والبيان من جنس إظهاره بالسيف وهو ظهور مجمل علا به على كل دين مع أن كثيرا من الكفار لم يقهره سيفه فكذلك كثير من الناس لم يظهر لهم آياته وبراهينه، بل قد يقدحون فيه ويقيمون الحجج على بطلانه، لا سيما والمقهور بالسيف فيهم منافقون كثيرون، فهؤلاء جهادهم بالعلم والبيان دون السيف والسنان، يؤكد هذا:

الوجه السابع: وهو أن القتال لا يكون إلا لظالم، فإن من قاتل المسلمين لم يكن إلا ظالما معتديا، ومن قامت عليه الحجة فشاق الرسول من بعد ما تبين له الهدى، واتبع غير سبيل المؤمنين لم يكن إلا ظالما.

وأما المجادلة فقد تكون لظالم: إما طاعن في الدين بالظلم، وإما من قامت عليه الحجة الظاهرة فامتنع من قبولها، وقد تكون لمسترشد طالب حق لم يبلغه.

وإما من بلغه بعض أعلام نبوة محمد ﷺ ودلائل نبوته، ولكن عورض ذلك عنده بشبهات تنافي ذلك، فاحتاج إلى جواب تلك المعارضات.

وإما طالب لمعرفة دلائل النبوة على الوجه الذي يعلم به ذلك.

فإذا كان القتال الذي لا يكون إلا لدفع ظلم المقاتل مشروعا.

فالمجادلة التي تكون لدفع ظلمه ولانتفاعه وانتفاع غيره مشروعة بطريق الأولى.

قال مجاهد: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. قال: الذين ظلموا من قاتلك ولم يعطك الجزية. وفي لفظ آخر عنه قال: الذين ظلموا: منهم أهل الحرب من لا عهد لهم؛ المجادلة لهم بالسيف. وفي رواية عنه قال: لا تقاتل إلا من قاتلك ولم يعطك الجزية. وفي رواية عنه قال: من أدى منهم الجزية فلا تقولوا له إلا خيرا. وعن مجاهد: إلا بالتي هي أحسن، فإن قالوا شرا فقولوا خيرا، فهذا مجاهد لا يجعلها منسوخة وهي قول أكثر المفسرين.

قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، قال: ليست منسوخة، ولكن عن قتادة قال: نسختها فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، ولا مجادلة أشد من السيف.

والأول أصح؛ لأن هؤلاء من الذين ظلموا فلا نسخ.

ومما يعجب منه أن بعض المنكرين لمجادلة الكفار بناء على ظهور دلائل النبوة نجده هو ومن يعظمه من شيوخه الذين يعتمد في أصول الدين على نظرهم ومناظرتهم ويزعمون أنهم قرروا دلائل النبوة قد أوردوا من الشبهات والشكوك والمطاعن على دلائل النبوة ما يبلغ نحو ثمانين سؤالا وأجابوا عنه بأجوبة لا تصلح أن تكون جوابا في المسائل الظنية، بل هي إلى تقرير شبه الطاعنين أقرب منها إلى تقرير أصول الدين.

وهم كما مثلهم الغزالي وغيره بمن يضرب شجرة ضربا يزلزلها به، وهو يزعم أنه يريد أن يثبتها، وكثير من أئمة هؤلاء مضطرب في الإيمان بالنبوة اضطرابا ليس هذا موضع بسطه، وهم مع ذلك يدعون أنه قد ظهر عند أهل الكتاب ما لم يظهر عند شيوخ هؤلاء النظار وينهون عن إظهار آيات الله وبراهينه التي هي غاية مطالب مشايخهم وهم لم يعطوها حقها إما عجزا وإما تفريطا.

الوجه الثامن: أن كثيرا من أهل الكتاب يزعم أن محمدا ﷺ وأمته إنما أقاموا دينهم بالسيف لا بالهدى والعلم والآيات، فإذا طلبوا العلم والمناظرة، فقيل: لهم ليس لكم جواب إلا السيف، كان هذا مما يقرر ظنهم الكاذب، وكان هذا من أعظم ما يحتجون به عند أنفسهم على فساد الإسلام، وأنه ليس دين رسول من عند الله، وإنما هو دين ملك أقامه بالسيف.

الوجه التاسع: أنه من المعلوم أن السيف لا سيما سيف المسلمين وأهل الكتاب هو تابع للعلم والحجة، بل وسيف المشركين هو تابع لآرائهم واعتقادهم، والسيف من جنس العمل، والعمل - أبدا - تابع للعلم والرأي.

وحينئذ فبيان دين الإسلام بالعلم وبيان أن ما خالفه ضلال وجهل هو تثبيت لأصل دين الإسلام، واجتناب لأصل غيره من الأديان التي يقاتل عليها أهلها، ومتى ظهر صحته وفساد غيره كان الناس أحد رجلين: إما رجل تبين له الحق فاتبعه، فهذا هو المقصود الأعظم من إرسال الرسل، وإما رجل لم يتبعه، فهذا قامت عليه الحجة، إما لكونه لم ينظر في أعلام الإسلام، أو نظر وعلم فاتبع هواه أو قصر.

وإذا قامت عليه الحجة كان أرضى لله ولرسوله وأنصر لسيف الإسلام وأذل لسيف الكفار، وإذا قدر أن فيهم من يعجز عن فهم الحجة، فهذا إذا لم يكن معذورا مع عدم قيامها، فهو مع قيامها أولى أن لا يعذر، وإن كان معذورا مع قيامها فهو مع عدمها أعذر، فعلى التقديرين قيام الحجة أنصر وأعذر، وقد قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا.

وقال تعالى: لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

وقال تعالى: فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا وقال النبي ﷺ: ما أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك أرسل الرسل مبشرين ومنذرين.

فصل: من أدلة عموم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

إسلام النجاشي

وكان قبل قصة نجران قد آمن به كثير من اليهود والنصارى رؤساؤهم وغير رؤسائهم لما تبين لهم أنه رسول الله إليهم، كما آمن به النجاشي ملك الحبشة، وكان نصرانيا هو وقومه، وكان إيمانه به في أول أمر النبي ﷺ لما كان أصحابه مستضعفين بمكة، وكان الكفار يظلمونهم ويؤذونهم ويعاقبونهم على الإيمان بالله ورسوله، فهاجر منهم طائفة مثل عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام وعبد الله بن مسعود وجعفر بن أبي طالب، وغيرهم من الرجال والنساء إليه، وكان ملكا عادلا، فأرسل الكفار خلفهم رسلا بهدايا ليردهم إليهم، فامتنع من عدله أن يسلمهم إليهم حتى يسمع كلامهم، فلما سمع كلامهم وما أخبروه به من أمر النبي ﷺ آمن بالنبي ﷺ وآواهم.

ولما سمع القرآن قال: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، ولما سألهم عن قولهم في المسيح قالوا: نشهد أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول التي لم يمسها رجل، فقال النجاشي لجعفر بن أبي طالب: والله ما زاد عيسى ابن مريم على ما قلت هذا العود، فنخرت أصحابه، فقال: وإن نخرتم، وإن نخرتم، وبعث ابنه وطائفة من أصحابه إلى النبي ﷺ مع جعفر بن أبي طالب، وقدم جعفر على النبي ﷺ عام خيبر، وقد ذكر قصتهم جماعة من العلماء والحفاظ كأحمد بن حنبل في المسند وابن سعد في الطبقات وأبي نعيم في الحلية وغيرهم، وذكرها أهل التفسير والحديث والفقه وهي متواترة عند العلماء.

قال أحمد: حدثني يعقوب بن إبراهيم بن سعيد، عن أبيه، قال: حدثنا محمد بن إسحاق، حدثني محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي، عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي ﷺ ورضي الله عنها، قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار (النجاشي) أمنا على ديننا، وعبدنا الله، لا نؤذى، ولا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجمعوا له أدما كثيرا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقا إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم، وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم اسألوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا، فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: إنه قد صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فتشيروا عليه أن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم، فقالوا لهما: نعم، ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي، فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلا بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه.

قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامنا.

فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك، قومهم أعلا بهم عينا، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي، ثم قال لا ها الله أيم الله إذا لا أسلمهم إليهما، ولا أكاد قوما جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما وأحسنت جوارهم ما جاوروني.

قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله ﷺ فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا ﷺ، كائن في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوه زاد أبو نعيم وقد دعى النجاشي أساقفته ومعهم مصاحفهم حوله، فلما جاءوه فسألهم، فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين أحد من هذه الأمم؟

قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال: أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، نخلع ما كنا نحن نعبد وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام، قال: فصدقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئا وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان عن عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.

قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟

قالت: فقال له جعفر: نعم. فقال له النجاشي: فاقرأه علي. فقرأ عليه صدرا من سورة مريم:

كهيعص ذكر رحمة ربك عبده زكريا إذ نادى ربه نداء خفيا قال رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا ولم أكن بدعائك رب شقيا وإني خفت الموالي من ورائي وكانت امرأتي عاقرا فهب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب واجعله رب رضيا يا زكريا إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميا قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقرا وقد بلغت من الكبر عتيا قال كذلك قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال سويا فخرج على قومه من المحراب فأوحى إليهم أن سبحوا بكرة وعشيا يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وأنذرهم يوم الحسرة إذ قضي الأمر وهم في غفلة وهم لا يؤمنون إنا نحن نرث الأرض ومن عليها وإلينا يرجعون

قالت أم سلمة رضي الله عنها: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلي عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، ثم قال لعبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص: انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكما أبدا ولا أكاد.

قالت أم سلمة: فلما خرج من عنده قال: عمرو بن العاص والله لآتينه غدا أعيبهم عنده، ثم أستأصل به خضراءهم.

قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة - وكان أتقى الرجلين فينا - لا تفعل؛ فإن لهم أرحاما، وإن كانوا قد خالفونا، قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد.

قالت: ثم غدا عليه الغد، فقال له: أيها الملك، إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولا عظيما، فأرسل إليهم فاسألهم عما يقولون فيه.

قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه.

قالت: ولم ينزل بنا مثلها، فاجتمع القوم، فقال بعضهم لبعض: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله فيه ما قاله الله، وما جاء به نبينا كائنا في ذلك ما هو كائن، فلما دخلوا عليه قال لهم: ما تقولون في عيسى ابن مريم، فقال له جعفر بن أبي طالب: نقول فيه الذي جاء به نبينا: هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول.

قالت: فضرب النجاشي يده إلى الأرض فأخذ منها عودا، ثم قال: ما عدى عيسى ابن مريم ما قلت هذا العود، فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي - والسيوم: الآمنون - من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، ثم من سبكم غرم، فما أحب أن لي دبرا ذهبا وأني آذيت رجلا منكم - والدبر بلسان الحبشة: الجبل - ردوا عليهما هداياهما، فلا حاجة لنا بها، فوالله ما أخذ الله مني الرشوة حين رد علي ملكي فآخذ الرشوة فيه، وما أطاع الناس في فأطيعهم فيه.

قالت: فخرجا من عنده مقبوحين، مردود عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار.

قالت: فوالله إنا على ذلك إذ نزل به. يعني: من ينازعه في ملكه.

قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزناه عند ذلك تخوفنا أن يظهر ذلك على النجاشي فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه.

وروى عبد الله بن عامر بن الزبير، عن أبيه، قال: لما نزل بالنجاشي عدوه من أرضه جاء المهاجرون، فقالوا: إنا نحن نخرج إليهم، فنقاتل معك، وترى جزاءنا، ونجزيك بما صنعت بنا، فقال: ذو ينصره الله خير من الذي ينصره الناس، يقول: الذي ينصره الله خير من الذي ينصره الناس، فأبى ذلك عليهم.

رجعنا إلى حديث أم سلمة قالت: وسار النجاشي وبينهما عرض النيل قالت: فقال أصحاب رسول الله ﷺ: من رجل يخرج حتى يحضر وقعة القوم ثم يأتينا بالخبر؟

قالت: فقال الزبير بن العوام: أنا.

قالت: وكان من أحدث القوم سنا، قالت: فنفخنا له قربة فجعلها في صدره ثم سبح عليها حتى خرج إلى ناحية النيل التي بها ملتقى القوم ثم انطلق حتى حضرهم.

قالت: ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده.

قالت: فوالله إنا لعلى ذلك متوقعين لما هو كائن إذ طلع الزبير يسعى ويلوح بثوبه ويقول: ألا أبشروا، قد ظهر النجاشي، وقد أهلك الله عدوه.

فوالله ما علمت فرحنا فرحة مثلها قط.

قالت: فرجع النجاشي، وقد أهلك الله عدوه، ومكن له في بلاده، واستوثق عليه أمر الحبشة، فكنا عنده في خير منزل حتى قدمنا على رسول الله ﷺ.

وقد روى جمل هذه القصة أبو داود في سننه من حديث أبي موسى.

وفي الصحيحين من حديث أبي موسى، قال: بلغنا مخرج رسول الله ﷺ ونحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا وأخوان لي أنا أصغرهما في اثنين وخمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، فوافقنا جعفر بن أبي طالب وأصحابه عنده، قال جعفر: إن رسول الله ﷺ بعثنا وأمرنا - يعني بالإقامة - فأقيموا معنا. قال: فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا. قال: فوافقنا رسول الله ﷺ حين فتح خيبر فأسهم لنا منها، وما قسم لأحد غائب عن فتح خيبر غيرنا إلا لمن شهد معنا أصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه قسم لهم معهم.

قال: فلما رأى ناس من الناس يقولون لنا - يعني أهل السفينة - سبقناكم لهجرة، قال: ودخلت أسماء بنت عميس - وهي ممن قدم معنا - على حفصة زائرة، وقد كانت هاجرت إلى النجاشي فيمن هاجر إليه، فدخل عمر على حفصة وأسماء عندها، فقال عمر حين رأى أسماء: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس، فقال عمر: الحبشية هذه؟ البحرية هذه؟ قالت أسماء: نعم، فقال عمر: سبقناكم بالهجرة، نحن أحق برسول الله ﷺ، فغضبت وقالت: يا عمر كلا والله كنتم مع رسول الله ﷺ يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله تبارك وتعالى وفي رسول الله ﷺ، وأيم الله لا أطعم طعاما ولا أشرب شرابا حتى أذكر ما قلت لرسول الله ﷺ، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك لرسول الله ﷺ وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد على ذلك.

فلما جاء النبي ﷺ، قالت: يا رسول الله إن عمر قال كذا وكذا، قال رسول الله ﷺ: فماذا قلت له؟ قالت: قلت كذا وكذا، قال: ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان.

قالت: فلقد رأيت أبا موسى وأصحاب السفينة يأتونني أرسالا يسألوني عن هذا الحديث، ما من الدنيا شيء هم به أفرح ولا أعظم في أنفسهم مما قال رسول الله ﷺ.

قال أبو بردة: قالت أسماء: فلقد رأيت أبا موسى وإنه ليستعيد هذا الحديث مني أخرجاه في الصحيحين البخاري ومسلم.

وأخرجا في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي ﷺ نعى لهم النجاشي صاحب الحبشة في اليوم الذي مات فيه،

قال: استغفروا لأخيكم.

وعنه رضي الله عنه، قال: نعى النبي ﷺ النجاشي يوم توفي، وقال: استغفروا لأخيكم، ثم خرج بالناس إلى المصلى، فصفوا وراءه، وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات. أخرجاه.

وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: إن رسول الله ﷺ صلى على أصحمة النجاشي فكبر عليه أربعا. أخرجاه في الصحيحين.

فصل: إسلام من أسلم من نصارى العرب

وكان أول ما أنزل الله تعالى عليه ﷺ الوحي، عرضت خديجة امرأته أمره على عالم كبير من علماء النصارى يقال له ورقة بن نوفل، وكان من العرب المتنصرة، فقال: هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى بن عمران، يا ليتني أكون فيها جذعا حين يخرجك قومك. يعني: ليتني أكون شابا فإنه كان شيخا كبيرا، قد كف بصره، فقال له النبي ﷺ: أومخرجي هم قال: نعم، لم يأت أحد بمثل ما أتيت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا. رواه أصحاب الصحيح.

وقدم إليه بمكة طائفة من أهل الكتاب من النصارى، فآمنوا به، فآذاهم المشركون، فصبروا واحتملوا أذاهم، فأنزل الله فيهم:

الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.

وروى البيهقي في كتاب دلائل النبوة وأعلام الرسالة، فقال: أنبأنا أبو عبد الله الحافظ أنبأنا، أبو العباس محمد بن يعقوب أنبأنا أحمد بن عبد الجبار أنبأنا يونس عن ابن إسحاق، قال: ثم قدم على رسول الله ﷺ عشرون رجلا - وهو بمكة أو قريب من ذلك - من النصارى حين ظهر خبره في الحبشة فوجدوه في المجلس فكلموه وسألوه، ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مساءلتهم رسول الله ﷺ إلى الله، وتلا عليهم القرآن، فلما سمعوا فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا له، وآمنوا به وصدقوه، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره، فلما قاموا من عنده اعترضهم أبو جهل في نفر من قريش، فقالوا: خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم فتأتونهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بما قال لكم، ما نعلم ركبا أحمق منكم. أو كما قال لهم، فقالوا: سلام عليكم لا نجاهلكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، لا نألوا لأنفسنا إلا خيرا، ويقال - والله أعلم - إن فيهم نزلت هؤلاء الآيات: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله: لا نبتغي الجاهلين.

إرساله الرسل إلى جميع الطوائف

ولما كان بعد عام الحديبية ومهادنة قريش أرسل ﷺ رسله إلى جميع الطوائف، فأرسل إلى النصارى: نصارى الشام ومصر، فأرسل إلى هرقل ملك الروم، وقد قيل إن هرقل هذا هو الذي زادت النصارى له في صومهم عشرة أيام لما اقتتلت الروم والفرس، وقتل اليهود بعد أن كان قد أمنهم، فطلبت منه النصارى قتلهم وضمنوا له أن يكفروا خطيئته بما زادوه في الصوم، وكانت الفرس مجوسا، والروم نصارى، وكانت المجوس الفرس غلبت النصارى أولا وكان هذا في أوائل مبعث النبي ﷺ وهو بمكة وأتباعه قليل، ففرح المشركون بانتصار الفرس؛ لأنهم أقرب إليهم، فدخل أبو بكر الصديق رضي الله عنه على رسول الله ﷺ، وأخبره بانتصار الفرس على الروم، فأنزل الله تعالى: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

وكان هذا مما أخبر به النبي ﷺ قبل أن يكون، فكان كما أخبر، ولما ذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه كذبوه فراهنهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه كما ذكر هذا المفسرون والمحدثون

قال سنيد في تفسيره - وهو شيخ البخاري - حدثنا حجاج عن ابن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم الأسلمي، أنه قال: لما أنزل الله على رسوله ﷺ الم غلبت الروم - إلى قوله - وهو العزيز الرحيم خرج أبو بكر وهو يقرؤها بمكة رافعا بها صوته: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين.

فقال له رءوس أهل مكة: ما هذا يا ابن أبي قحافة لعله مما يأتي به صاحبك، قال: لا والله، ولكنه كلام الله وقوله تبارك وتعالى، قالوا: فذلك بيننا وبينك إن ظهرت الروم على فارس في بضع سنين، فراهنهم أبو بكر، ففتح الله للروم على فارس دون التسع فأسلم عند ذلك خلق كثير من المشركين.

قال ابن مكرم: وإنما كانت قريش تستفتح يومئذ بالفرس؛ لأنهم وإياهم أهل تكذيب بالبعث وأهل أصنام، وإنما كان المؤمنون يستفتحون يومئذ بالروم؛ لأنهم وإياهم أهل نبوة وتصديق بالبعث فأنزل الله تعالى:

ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.

وهذا الحديث رواه الترمذي في جامعه فقال: حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا إسماعيل بن أويس، قال: حدثني ابن أبي الزناد، عن أبي الزناد، عن عروة بن الزبير، عن نيار بن مكرم الأسلمي، قال: لما نزلت: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين. فكانت فارس يوم نزلت هذه الآية قاهرين للروم، وكان المسلمون يحبون ظهور الروم عليهم لأنهم وإياهم أهل كتاب.

وذلك قوله تعالى: ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم.

وكانت قريش تحب ظهور فارس؛ لأنهم وإياهم ليسوا بأهل كتاب ولا إيمان ببعث، فلما أنزل الله هذه الآية خرج أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصيح في نواحي مكة: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد.

قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا وبينكم زعم صاحبكم أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟ فارتهن أبو بكر والمشركون، فظهرت الروم على فارس في بضع سنين، وأسلم عند ذلك ناس كثير من المشركين.

قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الرحمن بن أبي الزناد - يعني غريبا من هذا الوجه - وإلا فهو مشهور متواتر عن أهل التفسير والمغازي والحديث والفقه، والقصة متواترة عند الناس.

وقال أبو جعفر بن جرير في تفسيره: عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: كان المسلمون يحبون أن تغلب الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب وكان المشركون يحبون أن تغلب أهل فارس؛ لأنهم أهل أوثان، قال فذكروا ذلك لأبي بكر فذكره أبو بكر للنبي ﷺ فأنزل الله: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون.

فذكره أبو بكر للمشركين، فقالوا: اجعل بيننا وبينك أجلا، فإن غلبوا كان لك كذا وكذا، وإن غلبوا كان لنا كذا وكذا، فجعلوا بينهم أجلا خمس سنين، فذكر ذلك أبو بكر للنبي ﷺ فقال له: هلا احتطت، أفلا جعلته دون العشرة؟ قال سعيد بن جبير: والبضع: ما دون العشر. قال فغلبت الروم، ثم غلبت فذلك قوله الم غلبت الروم.

وهذا أيضا أخرجه الترمذي: حدثنا الحسين بن حريث، حدثنا معاوية بن عمرو عن أبي إسحاق الفزاري عن سفيان عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب، إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي عمرة.

ورواه أيضا من حديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، وقال هذا حديث غريب من هذا الوجه.

ورواه أيضا من حديث الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد، وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه.

وذهبت طائفة من العلماء إلى أن الخبر جاء بظهور الروم على فارس يوم بدر، وذهب آخرون أنه يوم الحديبية، وهذا هو الصحيح، وهرقل كان قد مشى شكرا لله من حمص إلى بيت المقدس لما نصره على الفرس، فوافاه كتاب النبي ﷺ يدعوه إلى الإسلام عقب نصر الله للروم على فارس، ففرح النبي ﷺ ومن معه من المؤمنين.

قال علماء السير: فلما انتصرت الروم، وخرج هرقل ملك الروم من منزله من حمص ماشيا على قدميه إلى بيت المقدس متشكرا لله عز وجل حين رد عليه ما رد ليصلي فيه، فلما انتهى إلى بيت المقدس وصلى فيه قدم عليه حينئذ كتاب رسول الله ﷺ مع دحية الكلبي يدعوه إلى الإسلام.

قال ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس، قال: حدثني أبو سفيان، قال: كنا قوما تجارا، وكانت الحرب بيننا وبين رسول الله ﷺ قد حصرتنا حتى هلكت أموالنا، فلما كانت الهدنة بيننا وبين رسول الله ﷺ - يعني التي عقدت يوم الحديبية - فلما عقدت الهدنة أمنا، فخرجت في نفر من قريش تاجرا إلى الشام، وكان وجه متجرنا فقدمتها حين ظهر هرقل على من كان عارضه من فارس، فأخرجهم منها، وانتزع له صليبه الأعظم، وقد كانوا سلبوه إياه، فلما بلغه ذلك منهم وبلغه أن صليبه قد استنقذ له، وكانت حمص منزله فخرج منها على قدميه متشكرا لله عز وجل حين رد عليه ما رد؛ ليصلي في بيت المقدس، وبسط له الطريق بالبسط ويلقى عليها الرياحين، فلما انتهى إلى إيلياء وقضى فيها صلاته ومعه بطارقته وأساقفته، قال: وقدم عليه كتاب رسول الله ﷺ مع دحية بن خليفة الكلبي فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، السلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فأسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين يعني الأكارين.

قال ابن إسحاق، وقال ابن شهاب: حدثني أسقف النصارى في زمان عبد الملك بن مروان، زعم لي أنه أدرك ذلك من أمر رسول الله ﷺ، وأمر هرقل وعقله، قال: لما قدم عليه كتاب رسول الله ﷺ مع دحية أخذه فجعله على خاصرته، ثم كتب إلى رجل برومية كان يقرأ من العبرانية ما يقرأ يذكر له أمره ويصف له شأنه ويخبره ما جاء منه، قال: فكتب إليه صاحب رومية أنه النبي الذي ننتظره لا شك فيه فاتبعه وصدقه، فأمر هرقل ببطارقة الروم، فجمعوا له في دسكرة ملكه، وأمر بها فأشرجت عليهم أبوابها، ثم اطلع عليهم من علية، وخافهم على نفسه، وقال: يا معشر الروم إني قد جمعتكم لخير، إنه قد أتاني كتاب هذا الرجل يدعوني إلى دينه، وإنه - والله - للرجل الذي كنا ننتظره ونجده في كتبنا، فهلم فلنتبعه، لنصدقه فتسلم لنا دنيانا وآخرتنا، فنخروا نخرة رجل واحد ثم ابتدروا أبواب الدسكرة ليخرجوا منها، فوجدوها قد أغلقت دونهم فقال: كروهم علي، وخافهم على نفسه، فكروا عليه، وقال: يا معشر الروم، إنما قلت لكم هذه المقالة التي قلت لكم؛ لأنظر كيف صلابتكم على دينكم لهذا الأمر الذي حدث، فقد رأيت منكم الذي أسر به، فوقعوا سجودا، وأمر بأبواب الدسكرة ففتحت لهم فانطلقوا.

وهذا حديث مشهور، من حديث محمد بن إسحاق، وهو ذو علم وبصيرة بهذا الشأن، حفظ ما لا يحفظه غيره، قال ابن إسحاق: وأخذ هرقل كتاب رسول الله ﷺ، فجعله في قصبة من ذهب، وأمسكها عنده تعظيما له. وهذه القصة مشهورة ذكرها أصحاب الصحاح.

ففي البخاري ومسلم والسياق للبخاري، عن الزهري، قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن عبد الله بن عباس أخبره أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله ﷺ هادن فيها أبا سفيان بن حرب وكفار قريش، فأتوه وهو بإيليا، فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم بالترجمان، فقال: أيكم أقرب نسبا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي، فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: إني سائل هذا الرجل عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه، قال أبو سفيان: فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي الكذب لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟ قلت: لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. فقال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد منهم أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم يمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت. نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: بماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه، فذكرت أنه فيكم ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في أنساب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله فذكرت أن لا. فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يتأسى بقول قيل قبله. وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت لو كان في آبائه من ملك قلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك: أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك: هل يزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين يخالط بشاشته القلوب، لا يسخطه أحد. وسألتك: هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك: بم يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه.

ثم دعى بكتاب رسول الله ﷺ الذي بعث به مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله، ولا نشرك به شيئا، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال، وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة إنه ليخافه ملك بني الأصفر، فما زلت موقنا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

وكان ابن الناطور صاحب إيلياء أسقفا على نصارى أهل الشام يحدث أن هرقل حين قدم إيليا أصبح يوما خبيث النفس، فقال له بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك. قال ابن الناطور: وكان هرقل حزاء ينظر في النجوم، فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم أن ملك الختان قد ظهر، فمن يختتن من هذه الأمة؟، قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم، واكتب إلى مدائن ملكك فليقتلوا من فيهم من اليهود، فبينا هم على أمرهم، أتي هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن رسول الله ﷺ، فلما استخبره هرقل قال: اذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، وسأله عن العرب قال: هم مختتنون، فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر، ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية وكان هرقل نظيره في العلم، وسار هرقل إلى حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي ﷺ وأنه نبي، فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمر بأبوابها فغلقت، ثم اطلع عليهم فقال: يا معشر الروم، هل لكم في الفلاح والرشد وأن يثبت ملككم فتتابعوا هذا النبي، فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم ويئس من الإيمان منهم قال: ردوهم علي، وقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عليه، فكان هذا آخر شأن هرقل.

قلت: وكان هرقل من أجل ملوك النصارى في ذلك الوقت، وقد أخبر غير واحد أن هذا الكتاب إلى الآن باق عند ذرية هرقل في أرفع صوان وأعز مكان يتوارثونه كابرا عن كابر، وأخبر غير واحد أن هذا الكتاب باق إلى الآن عند الفنش صاحب قشتالة، وبلاد الأندلس يفتخرون به، وهذا أمر مشهور معروف.

وقد روى سنيد وهو شيخ البخاري في تفسيره، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا حصين عن عبد الله بن شداد بن الهاد، قال: لما كتب رسول الله ﷺ إلى هرقل، فقرأ كتابه، وجمع الروم فأبوا عليه، قال: فلما كان يوم الأحد لم يحضر أسقفهم الكبير وتمارض، فأرسل إليه فأبى، ثم أرسل إليه فأبى ثلاث مرات، فركب إليه فقال له: أليس قد عرفت أنه رسول الله ﷺ؟ قال: بلى، قال: أليس قد رأيت ما ركبوا مني فأنت أطوع فيهم مني فتعال فادعهم، قال: وتأذن لي في ذلك، قال: نعم، قال: اذهب هو ذا أجيء، قال: فجاء بسواده إلى كنيستهم العظمى، فلما رأوه خروا له سجدا الملك وغيره، فقام في المذبح فقال: يا أبناء الموتى، هذا النبي الذي بشر به عيسى، وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فنخروا ووثبوا إليه فعضوه بأفواههم حتى قتلوه، قال: وجعلوا يخرجون أضلاعه بالكلبتين حتى مات.

فصل

وأرسل النبي ﷺ رسولا أيضا إلى ملك مصر المقوقس ملك النصارى في ذلك الوقت بالإسكندرية، وكان رسوله إليه حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، قال حاطب: قدمت على المقوقس - واسمه جريح بن مينا - بكتاب رسول الله ﷺ، فقلت له: إنه كان قبلك رجل يزعم أنه الرب الأعلى فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا يعتبر بك. قال: هات. قلت: إن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي بعد ما سواه، إن هذا النبي دعا الناس إلى الله فكان أشدهم عليه قريش وأعداهم له اليهود وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، وكل من أدرك نبيا فهو من أمته، فالحق عليهم أن يطيعوه فأنت ممن أدركت هذا النبي، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكنا نأمرك به. ثم ناوله كتاب رسول الله ﷺ، فلما قرأه قال: خيرا، قد نظرت في هذا فوجدته لا يأمر بمزهود فيه ولا ينهى عن مرغوب فيه، ولم أجده بالساحر الضال ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آلة النبوة. ثم جعل الكتاب في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه، وكتب جوابه إلى رسول الله ﷺ: فقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد أكرمت رسولك. وأهدى للنبي ﷺ جاريتين وبغلة تسمى الدلدل، فقبل النبي ﷺ هديته واصطفى الجارية الواحدة واسمها مارية القبطية لنفسه، فولدت منه إبراهيم وأعطى الأخرى لحسان بن ثابت، فولدت منه عبد الرحمن، وعاشت البغلة إلى زمن معاوية، فقال النبي ﷺ: ضن الخبيث بملكه ولا بقاء لملكه.

قال محمد بن سعد: حدثنا محمد بن عمر، قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، قال: لما رجع رسول الله ﷺ من الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة بعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس القبطي صاحب الإسكندرية وكتب إليه معه كتابا يدعوه فيه إلى الإسلام، فلما قرأ الكتاب قال له: خيرا، وأخذ الكتاب، وكان مختوما فجعله في حق من عاج وختم عليه ودفعه إلى خازنه، وكتب إلى النبي ﷺ جواب كتابه، ولم يسلم، وأهدى إلى النبي ﷺ ما تقدم ذكره.

فكل من الملكين عظم أمر رسول الله ﷺ، وتواضع له ولكتابه، واعترف بأنه الرسول المنتظر الذي بشرت به الأنبياء عليهم السلام.

وقد كان المقوقس يعرف أنه حق بما يسمع من صفاته من أهل الكتاب، ولكن ضن بملكه ولم يؤمن، وكان قد خرج إليه المغيرة قبل إسلام المغيرة فحدثه بذلك.

قال محمد بن عمر الواقدي: حدثني محمد بن سعد الثقفي، وعبد الرحمن بن عبد العزيز، وعبد الملك بن عيسى، وعبد الله بن عبد الرحمن ومحمد بن يعقوب بن عتبة، عن أبيه وغيرهم، كل قد حدثني من هذا الحديث بطائفة منه، قال: قال المغيرة بن شعبة في خروجه إلى المقوقس مع بني مالك، وأنهم لما دخلوا على المقوقس، قال: كيف خلصتم إلي من طائفتكم ومحمد وأصحابه بيني وبينكم؟ قالوا: لصقنا بالبحر وقد خفناه على ذلك. قال: فكيف صنعتم فيما دعاكم إليه؟ قالوا: ما تبعه منا رجل واحد. قال: ولم ذاك؟ قالوا: جاءنا بدين مجدد لا تدين به الآباء ولا يدين به الملك، ونحن على ما كان عليه آباؤنا. قال: فكيف صنع قومه؟ قالوا: تبعه أحداثهم، وقد لاقاه من خلفه من قومه وغيرهم من العرب في مواطن مرة تكون عليهم الدائرة ومرة تكون له. قال: ألا تخبروني إلى ماذا يدعو إليه؟ قالوا: يدعونا إلى أن نعبد الله وحده لا شريك له، ونخلع ما كان يعبد الآباء، ويدعو إلى الصلاة والزكاة. قال: وما الصلاة والزكاة ألها وقت يعرف وعدد تنتهي إليه؟ قالوا: يصلون في اليوم والليلة خمس صلوات كلها لمواقيت وعدد قد سموه له ويؤدون من كل مال بلغ عشرين مثقالا نصف مثقال، وأخبروه بصدقة الأموال كلها. قال: أفرأيتم إذا أخذها أين يضعها؟ قالوا: يردها على فقرائهم، ويأمر بصلة الرحم ووفاء العهد، وتحريم الزنا والخمر، ولا يأكل مما ذبح لغير الله، فقال المقوقس: هذا نبي مرسل إلى الناس، ولو أصاب القبط والروم اتبعوه، وقد أمرهم بذلك عيسى ابن مريم، وهذا الذي تصفون منه بعث به الأنبياء من قبله، وستكون له العاقبة حتى لا ينازعه أحد ويظهر دينه إلى منتهى الخف والحافر ومنقطع البحور، ويوشك قومه أن يدافعوه بالراح، قالوا: فلو دخل الناس كلهم معه ما دخلنا. قال المغيرة: فأنغض المقوقس رأسه، وقال: أنتم في اللعب، ثم قال: كيف نسبه في قومه؟ قلنا: هو أوسطهم نسبا. قال: كذلك والمسيح الأنبياء تبعث في نسب قومها. ثم قال: فكيف حديثه؟ قال: قلنا: ما يسمى إلا الأمين من صدقه. قال: انظروا في أمركم أترونه يصدق فيما بينكم وبينه ويكذب على الله؟ قال: فمن تبعه؟ قلنا: الأحداث. قال: هم والمسيح أتباع الأنبياء قبله. قال فما فعلت يهود يثرب فهم أهل التوراة؟ قلنا: خالفوه، فأوقع بهم فقتلهم وسباهم وتفرقوا في كل وجه. قال: هم قوم حسدة حسدوه، أما إنهم يعرفون من أمره مثل ما نعرف؟ قال المغيرة: فقمنا من عنده، وقد سمعنا كلاما ذللنا لمحمد ﷺ وخضعنا له، وقلنا: ملوك العجم يصدقونه ويخافونه في بعد أرحامهم منه، ونحن أقرباؤه وجيرانه ولم ندخل معه وقد جاءنا داعيا إلى منازلنا، قال المغيرة: فرجعت إلى منزلنا فأقمت بالإسكندرية لا أدع كنيسة إلا دخلتها، وسألت أساقفتها من قبطها ورومها عما يجدون من صفة محمد ﷺ وكان أسقف من القبط هو رأس كنيسة يوحنا كانوا يأتونه بمرضاهم فيدعو لهم لم أر قط أشد اجتهادا منه، فأتيته فقلت: هل بقي أحد من الأنبياء؟ قال: نعم، هو آخر الأنبياء ليس بينه وبين عيسى ابن مريم أحد، وهو نبي مرسل وقد أمرنا عيسى باتباعه، وهو النبي الأمي العربي اسمه أحمد، ليس بالطويل ولا بالقصير، في عينيه حمرة، وليس بالأبيض ولا بالآدم، يعفي شعره ويلبس ما غلظ من الثياب ويجتزي بما لقي من الطعام، سيفه على عاتقه ولا يبالي من لاقى، يباشر القتال بنفسه ومعه أصحابه يفدونه بأنفسهم، هم له أشد حبا من أولادهم وآبائهم، يخرج من أرض حرم، ويأتي إلى حرم، يهاجر إلى أرض سباخ ونخل، يدين بدين إبراهيم . قال المغيرة: فقلت له: زدني في صفته، قال: يأتزر على وسطه، ويغسل أطرافه، ويخص بما لا تخص به الأنبياء قبله؛ كان النبي يبعث إلى قومه ويبعث هو إلى الناس كافة، وجعلت له الأرض مسجدا وطهورا، أينما أدركته الصلاة تيمم وصلى، ومن كان قبله مشددا عليهم لا يصلون إلا في الكنائس والبيع. قال المغيرة بن شعبة: فوعيت ذلك كله من قوله وقول غيره وما سمعت من ذلك.

فذكر الواقدي حديثا طويلا في رجوعه وإسلامه، وما أخبر به من صفات النبي ﷺ، وكان ذلك يعجب النبي ﷺ ويحب أن يسمعه أصحابه. قال المغيرة: فكنت أحدثهم بذلك وهذا أمر معروف عند علماء أهل الكتاب وعظمائهم.

وقد أخرج أبو حاتم في صحيحه، عن عمرو بن العاص، أنه قال: خرج جيش من المسلمين - أنا أميرهم - حتى نزلنا الإسكندرية، فقال عظيم من عظمائهم: أخرجوا إلي رجلا يكلمني وأكلمه، فقلت: لا يخرج إليه غيري، قال: فخرجت إليه ومعي ترجماني ومعه ترجمانه، فقال: ما أنتم؟ فقلت: نحن العرب، ونحن أهل الشوك، ونحن أهل بيت الله الحرام، كنا أضيق الناس أرضا، وأجهدهم عيشا، نأكل الميتة والدم، ويغير بعضنا على بعض، حتى خرج فينا رجل ليس بأعظمنا يومئذ، ولا بأكثرنا مالا، فقال أنا رسول الله إليكم، فأمرنا بما لا نعرف، ونهانا عما كنا عليه، وكان عليه آباؤنا، فكذبناه ورددنا عليه مقالته، حتى خرج إليه قوم غيرنا فقاتلنا وظهر علينا وغلبنا، وتناول من يليه من العرب فقاتلهم حتى ظهر عليهم، ولو يعلم من ورائي من العرب ما أنتم فيه من العيش لم يبق أحد إلا جاءكم حتى يشرككم فيما أنتم فيه من العيش. فضحك، ثم قال: إن رسولكم قد صدق، قد جاءتنا رسلنا بمثل الذي جاء به رسولكم، فإن أنتم أخذتم بأمر نبيكم لم يقاتلكم أحد إلا غلبتموه، ولن يشارككم أحد إلا ظهرتم عليه، وإن فعلتم مثل الذي فعلنا وتركتم أمر نبيكم لم تكونوا أكثر عددا منا ولا أشد منا قوة.

فصل: قتاله صلى الله عليه وسلم النصارى

ثم بعد الإرسال إلى الملوك، أخذ ﷺ في غزو النصارى، فأرسل أولا زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة في جيش، فقاتلوا النصارى بمؤتة من أرض الكرك، وقال لأصحابه: أميركم زيد، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة، فقتل الثلاثة، وأخبر النبي ﷺ بقتل الثلاثة في اليوم الذي قتلوا فيه، وأخبر أنه أخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله على يديه، ثم إنه بعد هذا غزا النصارى بنفسه، وأمر جميع المسلمين أن يخرجوا معه في الغزاة، ولم يأذن في التخلف عنه لأحد، وغزا في عشرات ألوف غزوة تبوك، فقدم تبوك وأقام بها عشرين ليلة؛ ليغزو النصارى عربهم ورومهم وغيرهم، وأقام ينتظرهم ليقاتلهم، فسمعوا به وأحجموا عن قتاله ولم يقدموا عليه.

وأنزل الله تعالى في ذلك أكثر سورة (براءة)، وذم تعالى الذين تخلفوا عن جهاد النصارى ذما عظيما.

والذين لم يروا جهادهم طاعة جعلهم منافقين كافرين، لا يغفر الله لهم إذا لم يتوبوا، وقال لنبيه ﷺ: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم.

وقال تعالى: ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره.

فإذا كان هذاحكم الله ورسوله فيمن تخلف عن جهادهم إذ لم يره طاعة ولا رآه واجبا، فكيف حكمه فيهم أنفسهم؟ حتى قال تعالى: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره.

ثم عند موته ﷺ أمرنا بإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب.

ففي صحيح مسلم: أن عمر بن الخطاب، قال: سمعت النبي ﷺ يقول: لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لاأدع إلا مسلما.

وروى الإمام أحمد، وأبو عبيد، عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، قال: آخر ما تكلم به رسول الله ﷺ، قال: أخرجوا يهود أهل الحجاز ونصارى أهل نجران من جزيرة العرب.

وقام خلفاؤه رضي الله عنهم بعده بدينه ﷺ، فأرسل أبو بكر الصديق الجيوش؛ لغزو النصارى بالشام، وجرت بين المسلمين وبينهم عدة غزوات، ومات أبو بكر وهم محاصرو دمشق ثم ولي عمر بن الخطاب ففتح عامة الشام ومصر والعراق وبعض خراسان في خلافته، وقدم إلى الشام في خلافته وسلم إليه النصارى بيت المقدس لما رأوه من صفته عندهم.

قال أبو عبد الله محمد بن عائذ في كتاب الفتوح، قال: قال عطاء الخراساني: لما نزل المسلمون بيت المقدس، قال لهم رؤساؤهم: إنا قد أجمعنا لمصالحتكم، وقد عرفتم منزل بيت المقدس وإنه المسجد الذي أسري بنبيكم إليه، ونحن نحب أن يفتحها ملككم - وكان الخليفة عمر بن الخطاب - فبعث المسلمون وفدا، وبعث الروم أيضا وفدا مع المسلمين حتى أتوا المدينة، فجعلوا يسألون عن أمير المؤمنين، فقال الروم لترجمانهم: من يسألون؟ قالوا: عن أمير المؤمنين، فاشتد عجبهم، وقالوا: هذا الذي غلب فارس والروم، وأخذ كنوز كسرى وقيصر، وليس له مكان يعرف به! بهذا غلب الأمم، فوجدوه قد ألقى نفسه حين أصابه الحر نائما، فازدادوا تعجبا، فلما قرأ كتاب أبي عبيدة أقبل حتى نزل بيت المقدس وفيها اثنا عشر ألفا من الروم وخمسون ألفا من أهل الأرض، فصالحهم، وكان من جملة المصالحة أن لا يدخل عليهم من اليهود أحد، ثم دخل المسجد فوجد زبالة عظيمة على الصخرة، فأمر بكنس الزبالة، وتنظيف المسجد وأمر ببنائه وجعل مصلاه في مقدمه، ثم رجع إلى المدينة، وقصته مشهورة في كتاب الفتوحات، ثم قدم مرة ثانية إلى أرض الشام لما تم فتحه فشارط بوضع الخراج وفرض الأموال، وشارط أهل الذمة على شروط المسلمين فأتم بها المسلمون بعده.

وقد ذكرها أهل السير وغيرهم، فروى سفيان الثوري، عن مسروق، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى الشام، وشرط عليهم فيه أن لا يحدثوا في مدينتهم ولا حولها ديرا ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب، ولا يجددوا ما خرب، ولا يمنعوا كنائسهم أن ينزلها أحد من المسلمين ثلاث ليال يطعمونهم، ولا يئووا جاسوسا، ولا يكتموا غشا للمسلمين، ولا يعلموا أولادهم القرآن ولا يظهروا شركا، ولا يمنعوا ذوي قرابتهم من الإسلام إن أرادوه، وأن يوقروا المسلمين، وأن يقوموا لهم إذا أرادوا الجلوس، ولا يتشبهوا بالمسلمين بشيء من لباسهم في قلنسوة ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر، ولا يتسموا بأسماء المسلمين، ولا يكتنوا بكناهم، ولا يركبوا سرجا، ولا يتقلدوا سيفا، ولا يتخذوا شيئا من سلاح، ولا ينقشوا خواتيمهم بالعربية، ولا يبيعوا الخمور، وأن يجذوا مقادم رءوسهم، وأن يلزموا زيهم حيث ما كانوا، وأن يشدوا الزنانير، ولا يجاوروا المسلمين بموتاهم، ولا يضربوا بالناقوس إلا ضربا خفيفا، ولا يرفعوا أصواتهم بالقراءة في كنائسهم في شيء من حضرة المسلمين، ولا يخرجوا شعانين، ولا يرفعوا مع موتاهم أصواتهم، ولا يظهروا النيران معهم، ولا يشتروا من الرقيق ما جرت عليه سهام المسلمين، فإن خالفوا في شيء مما شرطوه، فلا ذمة لهم وقد حل للمسلمين منهم ما يحل من أهل المعاندة والشقاق. أخرجه أبو داود في سننه.

وقال أبو عبيد في كتاب الأموال: حدثنا النضر بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن خليفة بن قيس، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يأمر فأكتب إلى أهل الأمصار في أهل الكتاب: أن يجزوا نواصيهم، وأن يربطوا الكستيجات في أوساطهم؛ ليعرف زيهم من زي أهل الكتاب.

وحدثنا أبو المنذر، ومصعب بن المقدام كلاهما عن سفيان عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم، قال: كتب عمر إلى أمراء الأجناد أن يختموا رقاب أهل الذمة.

قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن، عن عبد الله بن عمر، عن نافع، عن أسلم: أن عمر أمر في أهل الذمة أن يجزوا نواصيهم، وأن يركبوا على الأكف، وأن يركبوا عرضا لا يركبوا كما يركب المسلمون، وأن يوثقوا المناطق.

قال أبو عبيد: يعني الزنانير.

وكما كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه على أهل الذمة هذه الشروط والتزموها، أوصى بهم نوابه ومن يأتي بعده من الخلفاء وغيرهم، وهذا هو العدل الذي أمر الله به ورسوله.

ففي صحيح البخاري، عن عمر بن الخطاب، أنه قال في خطبته عند وفاته: وأوصي الخليفة من بعدي بذمة الله وذمة رسوله ﷺ أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من وراءهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم.

وهذا امتثال لقول النبي ﷺ: ألا من ظلم معاهدا، أو انتقصه من حقه، أو كلفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة. رواه أبو داود.

فكان هذا في النصارى الذين أدوا إليه الجزية.

وعمر بن الخطاب لما فتح الشام وأدوا إليه الجزية عن يد وهم صاغرون، أسلم منهم خلق كثير لا يحصي عددهم إلا الله تبارك وتعالى، فإن العامة والفلاحين وغيرهم كان عامتهم نصارى، ولم يكن في المسلمين من يعمل فلاحة، ولم يكن للمسلمين في دمشق مسجد يصلون فيه إلا مسجد واحد لقلتهم، ثم صار أكثر أهل الشام وغيرهم مسلمين طوعا لا كرها، فإن إكراه أهل الذمة على الإسلام غير جائز، كما قال تعالى: لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.

قال أبو عبيد في كتاب الأموال، عن ابن الزبير، قال: كتب النبي ﷺ إلى أهل اليمن: أنه من أسلم من يهودي أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم وعليه ما عليهم، ومن كان على يهودية أو نصرانية فإنه لا يفتن عنها وعليه الجزية.

فصل: إرسال الكتب والرسل إلى ملوك الفرس

وقاتل عمر بن الخطاب الفرس المجوس، وفتح أرضهم، وظهر تصديق خبر رسول الله ﷺ حيث قال: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله عز وجل. أخرجاه في الصحيحين.

وهذا بعد أن بعث رسول الله ﷺ رسوله إلى المجوس، وكتب كتابا إلى كسرى ملك الفرس، كما كتب إلى ملوك النصارى، كما تقدم عن قيصر والمقوقس، ولكن ملوك النصارى تأدبوا معه وخضعوا له، فبقي ملكهم. وأما ملك الفرس فمزق كتابه، فدعا عليهم فقال: اللهم مزق ملكهم كل ممزق، فلم يبق لهم ملك.

قال ابن عباس: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن حذافة بكتابه إلى كسرى، فدفعه إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه يعني كسرى مزقه، فدعا عليهم رسول الله ﷺ أن يمزقوا كل ممزق.

وقال ابن إسحاق كتب رسول الله ﷺ إلى كسرى وقيصر، فأما كسرى فلما قرأ الكتاب مزقه، وأما قيصر لما قرأ الكتاب طواه ووضعه عنده، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال: أما هؤلاء يعني كسرى فيمزقون، وأما هؤلاء فستكون لهم بقية.

قال ابن إسحاق: بعث رسول الله ﷺ عبد الله بن حذافة بن قيس السهمي إلى كسرى بن هرمز ملك الفرس، وكتب: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، فإني أدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة؛ لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين، فأسلم تسلم، وإن أبيت فإن إثم المجوس عليك.

فلما قرأ كتاب رسول الله ﷺ شققه، وقال: يكتب إلي بهذا الكتاب وهو عبدي؟

قلت: وسبب قول كسرى هذا استعلائه: أن الحبشة كانوا قد ملكوا اليمن، وملكهم سار إلى مكة بالفيل؛ ليخرب البيت، وكانوا نصارى، فأرسل الله عليهم من ناحية البحر طيرا أبابيل، وهي جماعات في تفرقة تحمل حجارة من طين، فألقتها على الحبشة النصارى فأهلكتهم، وكان هذا آية عظيمة خضعت بها الأمم للبيت وجيران البيت.

وعلم العقلاء أن هذا لم يكن نصرا من الله لمشركي العرب؛ فإن دين النصارى خير من دينهم، وإنما كان نصرا للبيت وللأمة المسلمة التي تعظمه، وللنبي المبعوث من البيت، وكان ذلك عام مولد النبي ﷺ، فأنزل الله في ذلك: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليل وأرسل عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل فجعلهم كعصف مأكول.

ثم إن سيف بن ذي يزن ذهب إلى كسرى، وطلب منه جيشا يغزو به الحبشة، فأرسل معه عسكرا من الفرس والمجوس، فأخرجوا الحبشة من اليمن، وصارت اليمن بيد العرب، وبها نائب كسرى، وسيف بن ذي يزن هذا ممن بشر بالنبي ﷺ قبل ظهوره، وأخبر بذلك جده عبد المطلب لما وفد عليه.

فلما كانت اليمن مطيعة لكسرى، لهذا أرسل إلى نائبه على اليمن أن يأتيه بالنبي ﷺ؛ لأن عسكر اليمن في العادة يقهر أهل مكة والمدينة.

قال ابن إسحاق: فبلغني أن رسول الله ﷺ قال: مزق الله ملكه حين بلغه أنه شقق كتابه.

ثم كتب كسرى إلى باذان - وهو على اليمن - أن ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز من عندك رجلين جلدين فليأتياني به، قال: فبعث باذان قهرمانه، وهو بابويه، وقال غيره: فيروز الديلمي، وكان حاسبا كاتبا، وبعث معه برجل من الفرس، وكتب معهما إلى رسول الله ﷺ يأمره أن ينصرف معهما إلى كسرى، وقال لبابويه: ويلك، انظر ما الرجل وكلمه وائتني بخبره.

قال: فخرجا حتى قدما إلى الطائف فسألا عن النبي ﷺ، فقالوا: هو بالمدينة واستبشروا يعني الكفار، وقالوا: قد نصب له كسرى كفيتم الرجل، فخرجا حتى قدما المدينة على رسول الله ﷺ فكلمه بابويه، وقال: إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى كتب إلى الملك باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك فانطلق معي، فإن فعلت كتب معك إلى ملك الملوك بكتاب ينفعك ويكف عنك به، وإن أبيت فهو من قد علمت وهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك.

وكانا قد دخلا على رسول الله ﷺ وقد حلقا لحاهما، وأبقيا شواربهما فكره النظر إليهما رسول الله ﷺ، وقال لهما: ويلكما من أمركما بهذا؟، قالا: أمرنا بهذا ربنا - يعنيان كسرى - فقال لهما رسول الله ﷺ لكن ربي عز وجل أمرني بإعفاء لحيتي وبقص شاربي ثم قال لهما ارجعا حتى تأتياني الغد.

قال: وجاء الخبر من السماء: أن الله عز وجل سلط على كسرى ابنه شيرويه، فقتله في شهر كذا، في ليلة كذا، في ساعة كذا، فلما أتيا رسول الله ﷺ، قال لهما: إن ربي قتل ربكما ليلة كذا، في شهر كذا، بعدما مضى من الليل كذا، سلط عليه ابنه شيرويه فقتله، فقالا له: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا منك ما هو أيسر من هذا فنكتب بهذا عنك ونخبر الملك به؟ قال:نعم أخبراه ذلك عني، وقولا له إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ ملك كسرى، وينتهي إلى منتهى الخف والحافر، وقولا له: إنك إن أسلمت أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك من الأبناء. وأعطى رفيقه منطقة من ذهب وفضة كان أهداها له بعض الملوك، فخرجا من عنده حتى قدما على باذان وأخبراه الخبر.

فقال: والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبيا كما يقول، ولننظرن ما قد قال، فلئن كان ما قد قال حقا ما بقي فيه كلام إنه لنبي مرسل، وإن لم يكن فسنرى فيه رأينا، فلم يلبث باذان أن قدم عليه كتاب شيرويه: أما بعد، فإنني قد قتلت كسرى ولم أقتله إلا غضبا لفارس لما كان قد استحل قتل أشرافهم وتجهيزهم في بعوثهم، فإذا جاءك كتابي هذا فخذ لي الطاعة ممن قبلك، وانظر الرجل الذي كان كسرى كتب إليك فيه فلا تهجه حتى يأتيك أمري فيه.

فلما انتهى كتاب شيرويه إلى باذان قال: إن هذا الرجل لرسول الله، وأسلم لله، وأسلمت أبناء فارس من كان منهم باليمن.

وقال أبو معشر: حدثني المقبري قال: جاء فيروز الديلمي إلى رسول الله ﷺ، فقال: إن كسرى كتب إلى باذان: بلغني أن في أرضك رجلا تنبأ فاربطه وابعث به إلي، فقال له

رسول الله ﷺ: إن ربي غضب على ربك فقتله، فدمه بنحره سخن الساعة فخرج من عنده فسمع الخبر فأسلم وحسن إسلامه، وكان رجلا صالحا له في الإسلام آثار جميلة منها قتل الأسود العنسي الكذاب الذي ادعى النبوة في عهد النبي ﷺ، وكان الأسود جبارا استدعى بأبي مسلم الخولاني، فقال له: أتشهد أني رسول الله؟ فقال أبو مسلم: ما أسمع. فقال له: أتشهد أن محمدا رسول الله؟ قال: نعم. فردد ذلك عليه مرارا، فأمر بنار عظيمة فأضرمت، ثم أمر بإلقاء أبي مسلم فيها فلم تضره، فأخمدها الله تعالى حين ألقي فيها، فقيل له: أخرج هذا عنك من أرضك؛ لئلا يفسد عليك أتباعك فأخرجه.

فقدم أبو مسلم المدينة، وقد توفي رسول الله ﷺ، واستخلف أبو بكر، فأناخ راحلته بباب المسجد، ثم دخل المسجد فقام يصلي إلى سارية، فبصر به عمر، فقام إليه فقال: ممن الرجل؟ قال: من أهل اليمن. قال: ما فعل الذي حرقه الكذاب؟ قال: ذلك عبد الله بن ثوب. قال: نشدتك بالله أنت هو؟ قال: اللهم نعم. فاعتنقه، ثم بكى، ثم ذهب به حتى أجلسه بينه وبين أبي بكر، فقال: الحمد لله الذي لم يمتني حتى أراني في أمة محمد ﷺ من فعل به كما فعل بإبراهيم خليل الرحمن.

ثم خرج فيروز الديلمي على الأسود العنسي فقتله، وجاء الخبر إلى رسول الله ﷺ بقتله وهو في مرض موته، فخرج فأخبر أصحابه. وقال: قتل الأسود العنسي الليلة رجل صالح من قوم صالحين. وقصته مشهورة، وكذلك قصة مسيلمة الكذاب ونحوهما من المتنبئين الكذابين.

ولما فتح خلفاء النبي ﷺ عمر وعثمان العراق وخراسان ضربوا الجزية على المجوس، كما ضربوها على النصارى بعد أن دعوهم إلى الإسلام، كما دعاهم رسول الله ﷺ، وكما ضرب النبي ﷺ الجزية على اليهود والنصارى والمجوس بعد أن دعاهم إلى الله عز وجل، فإنه ﷺ بعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى العبدي صاحب هجر - وهي قرية بالبحرين - بكتابه ﷺ يدعوه إلى الإسلام، قال العلاء: فلما دخلت عليه قلت: يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا، فلا تصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين، ليس فيها تكرم العرب، ولا علم أهل الكتاب، ينكحون ما يستحى من نكاحه، ويأكلون ما يتكرم عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارا تأكلهم يوم القيامة، ولست بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب أن تصدقه، ولمن لا يخون أن تأمنه، ولمن لا يخلف أن تتثق به، فإن كان هذا هكذا فهذا هو النبي ﷺ الأمي الذي - والله - لا يستطيع ذو عقل أن يقول ليت ما أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد في عفوه أو نقص من عقابه، إن ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل البصر.

فقال المنذر: قد نظرت في هذا الذي في يدي فوجدته للدنيا دون الآخرة، ونظرت في دينكم فوجدته للآخرة والدنيا، فما يمنعني من قبول دين فيه أمنية الحياة وراحة الممات، ولقد عجبت أمس ممن يقبله، وعجبت اليوم ممن يرده، وإن من إعظام من جاء به أن يعظم رسوله، وسأنظر، ثم أسلم المنذر، وكتب إلى النبي ﷺ بالإسلام والتصديق.

وقال عمرو بن عوف: بعث رسول الله ﷺ أبا عبيدة إلى البحرين، فأتى بجزيتها، وكان رسول الله ﷺ هو صالح أهل البحرين، وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافوا صلاة الصبح مع النبي ﷺ، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له فتبسم رسول الله ﷺ حين رآهم، وقال: أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء قالوا: أجل يا رسول الله. قال: أبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم. أخرجاه في الصحيحين.

وأخرج البخاري، عن بجالة بن عبدة، أنه قال: أتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: فرقوا بين كل ذي محرم من المجوس. ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس، حتى شهد عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله ﷺ أخذها من مجوس هجر.

وقال ابن شهاب: أخذ رسول الله ﷺ الجزية من مجوس هجر، وأخذ عمر بن الخطاب الجزية من مجوس فارس، وأخذها عثمان بن عفان من البربر.

قال ابن شهاب: أول من أعطى الجزية من أهل الكتاب أهل نجران فيما بلغنا وكانوا نصارى، وقبل رسول الله ﷺ الجزية من أهل البحرين وكانوا مجوسا، ثم أدى أهل أيلة وأهل أذرح إلى رسول الله ﷺ الجزية في غزوة تبوك، وبعث خالد بن الوليد إلى أهل دومة الجندل، فأسروا رئيسهم أكيدر، فبايعوه على الجزية.

قال أبو عبيد: الجزية مأخوذة من أهل الكتاب بالتنزيل، ومن المجوس والبربر وغيرهم بالسنة.

فصل: أدلة الكتاب والسنة على عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

وأخرج مسلم عن أنس: أن النبي ﷺ كتب إلى كسرى وقيصر والنجاشي وإلى كل جبار يدعوهم إلى الله عز وجل - وليس بالنجاشي الذي نعاه لأصحابه في اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى، فصف وصلى عليه - بل النجاشي آخر تملك بعده.

وأخرج مسلم عن أبي هريرة: أن رسول الله ﷺ قال: فضلت على الأنبياء بست: أعطيت جوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وأحلت لي الغنائم، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأرسلت إلى الناس كافة، وختم بي النبيون.

وقال ﷺ: كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة.

وقال تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض.

وقال تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا.

وفي القرآن من دعوة أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومن دعوة المشركين وعباد الأوثان، وجميع الإنس والجن ما لا يحصى إلا بكلفة،

وهذا كله معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، فكيف يقال: إنه لم يذكر أنه بعث إلا إلى العرب خاصة، وهذه دعوته ورسله وجهاده لليهود والنصارى والمجوس بعد المشركين، وهذه سيرته ﷺ فيهم؟

وأيضا فالكتاب المتواتر عنه وهو القرآن يذكر فيه دعاءه لأهل الكتاب إلى الإيمان به في مواضع كثيرة جدا، بل يذكر الله تبارك وتعالى فيه كفر من كفر من اليهود والنصارى، ويأمر فيه بقتالهم كقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير.

وقوله في هذه السورة أيضا: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وقال تعالى في سورة النساء: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

فصل: ابتداع اليهود والنصارى في دينهم

فهذه الدلائل وأضعافها مما تبين أنه نفسه ﷺ أخبر أنه رسول الله إلى النصارى وغيرهم من أهل الكتاب، وأنه دعاهم وجاهدهم وأمر بدعوتهم وجهادهم، وليس هذا مما فعلته أمته بعده بدعة ابتدعوها، كما فعلت النصارى بعد المسيح ، فإن المسلمين لا يجوزون لأحد بعد محمد ﷺ أن يغيروا شيئا من شريعته، فلا يحلل ما حرم ولا يحرم ما حلل، ولا يوجب ما أسقط ولا يسقط ما أوجب، بل الحلال عندهم ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرم الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، بخلاف النصارى الذين ابتدعوا بعد المسيح بدعا لم يشرعها المسيح ، ولا نطق بها شيء من الأناجيل ولا كتب الأنبياء المتقدمة وزعموا أن ما شرعه أكابرهم من الدين فإن المسيح يمضيه لهم، وهذا موضع تنازع فيه الملل الثلاث المسلمون واليهود والنصارى، كما تنازعوا في المسيح وغير ذلك.

فاليهود: لا يجوزون لله سبحانه وتعالى أن ينسخ شيئا شرعه.

والنصارى: يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله بآرائهم.

وأما المسلمون: فعندهم أن الله له الخلق والأمر، لا شرع إلا ما شرع الله على ألسنة رسله، وله أن ينسخ ما شاء كما نسخ المسيح ما كان شرعه للأنبياء قبله.

فالنصارى تضع لهم عقائدهم وشرائعهم أكابرهم بعد المسيح، كما وضع لهم الثلاثمائة وثمانية عشر الذين كانوا في زمن قسطنطين الملك الأمانة التي اتفقوا عليها، ولعنوا من خالفها من الأريوسية وغيرهم، وفيها أمور لم ينزل الله بها كتابا، بل تخالف ما أنزله الله من الكتب مع مخالفتها للعقل الصريح فقالوا فيها: نؤمن بإله واحد، أب ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق مساوي الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب على عهد بيلاطس البنطي وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث كما في الكتب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضا فسيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب مع الأب والابن مسجود له وبمجد الناطق في الأنبياء، وبكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية، واعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، ونترجى قيامة الموتى، وحياة الدهر الآتي آمين.

ووضعوا لهم من القوانين والناموس ما لم يوجد في كتب الأنبياء ولا تدل عليه، بل يوجد بعضه في كتب الأنبياء وزاد أكابرهم أشياء من عندهم لا توجد في كتب الأنبياء، وغيروا كثيرا مما شرعه الأنبياء، فما عند النصارى من القوانين والنواميس التي هي شرائع دينهم وبعضه عن الحواريين، وكثير منه من ابتداع أكابرهم مع مخالفته لشرع الأنبياء، فدينهم من جنس دين اليهود، قد لبسوا الحق بالباطل.

وكان المسيح بعث بدين الله الذي بعث به الأنبياء قبله، وهو عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن عبادة كل ما سواه، وأحل لهم بعض ما حرم الله في التوراة، فنسخ بعض شرع التوراة.

وكان الروم واليونان وغيرهم مشركين يعبدون الهياكل العلوية والأصنام الأرضية فبعث المسيح رسله يدعونهم إلى دين الله تعالى، فذهب بعضهم في حياته في الأرض، وبعضهم بعد رفعه إلى السماء، فدعوهم إلى دين الله تعالى، فدخل من دخل في دين الله، وأقاموا على ذلك مدة ثم زين الشيطان لمن زين له أن يغير دين المسيح فابتدعوا دينا مركبا من دين الله ورسله: دين المسيح ، ومن دين المشركين.

وكان المشركون يعبدون الأصنام المجسدة التي لها ظل، وهذا كان دين الروم واليونان، وهو دين الفلاسفة أهل مقدونية وأثينة، كأرسطو وأمثاله من الفلاسفة المشائين وغيرهم، وكان أرسطو قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، وهو وزير الإسكندر بن فيلبس اليوناني المقدوني التي تؤرخ له التاريخ الرومي من اليهود والنصارى، وهذا كان مشركا يعبد هو وقومه الأصنام، ولم يكن يسمى ذا القرنين، ولا هو ذا القرنين المذكور في القرآن، ولا وصل هذا المقدوني إلى أرض الترك ولا بنى السد، وإنما وصل إلى بلاد الفرس.

ومن ظن أن أرسطو كان وزير ذي القرنين المذكور في القرآن فقد غلط غلطا تبين أنه ليس بعارف بأديان هؤلاء القوم ولا بأزمانهم.

فلما ظهر دين المسيح بعد أرسطو بنحو ثلاثمائة سنة في بلاد الروم واليونان، كانوا على التوحيد إلى أن ظهرت فيهم البدع، فصوروا الصور المرقومة في الحيطان، جعلوا هذه الصور عوضا عن تلك الصور.

وكان أولئك يسجدون للشمس والقمر والكواكب، فصار هؤلاء يسجدون إليها إلى جهة الشرق التي تظهر منها الشمس والقمر والكواكب، وجعلوا السجود إليها بدلا عن السجود لها؛ ولهذا جاء خاتم الرسل صلوات الله عليه وسلامه الذي ختم الله به الرسالة وأظهر به من كمال التوحيد ما لم يظهر بمن قبله، فأمر ﷺ أن لا يتحرى أحد بصلاته طلوع الشمس ولا غروبها؛ لأن المشركين يسجدون لها تلك الساعة، فإذا صلى الموحدون لله عز وجل في تلك الساعة، صار في ذلك نوع مشابهة لهم فيتخذ ذريعة إلى السجود لها، وكان من أعظم أسباب عبادة الأصنام تصوير الصور وتعظيم القبور.

ففي صحيح مسلم وغيره: عن أبي الهياج الأسدي: قال: قال لي علي بن أبي طالب: ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ﷺ، فأمرني أن لا أدع قبرا مشرفا إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته.

وفي الصحيحين: أنه ﷺ قال في مرض موته: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، يحذر ما فعلوا.

وفي الصحيحين: أنه قال قبل موته بخمس ليال: إن من كان قبلكم كانوا يتخذون القبور مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد، وإني أنهاكم عن ذلك.

ولما ذكروا الكنيسة بأرض الحبشة وذكروا من حسنها وتصاوير فيها فقال: إن أولئك كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

ونهى أن يستقبل الرجل القبر في الصلاة؛ حتى لا يتشبه بالمشركين الذين يسجدون للقبور، ففي الصحيح أنه قال: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلوا إليها. إلى أمثال ذلك مما فيه تجريد التوحيد لله رب العالمين الذي أنزل الله به كتبه وأرسل به رسله

فأين هذا ممن يصور صور المخلوقين في الكنائس ويعظمها ويستشفع بمن صورت على صورته؟ وهل كان أصل عبادة الأصنام في بني آدم من عهد نوح إلا هذا؟ والصلاة إلى الشمس والقمر والكواكب والسجود إليها ذريعة إلى السجود لها، ولم يأمر أحد من الأنبياء باتخاذ الصور والاستشفاع بأصحابها، ولا بالسجود إلى الشمس والقمر والكواكب، وإن كان يذكر عن بعض الأنبياء تصوير صورة لمصلحة، فإن هذا من الأمور التي قد تتنوع فيها الشرائع، بخلاف السجود لها والاستشفاع بأصحابها، فإن هذا لم يشرعه نبي من الأنبياء، ولا أمر قط أحد من الأنبياء أن يدعى غير الله عز وجل لا عند قبره، ولا في مغيبه، ولا يشفع به في مغيبه بعد موته، بخلاف الاستشفاع بالنبي ﷺ في حياته ويوم القيامة، وبالتوسل به بدعائه، والإيمان به، فهذا من شرع الأنبياء عليهم السلام، ولهذا قال تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة.

وقال تعالى: ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون.

وقال تعالى: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار.

وذلك أن المشركين من جميع الأمم لم يكن أحد منهم يقول إن للمخلوقات خالقين منفصلين متماثلين في الصفات، فإن هذا لم يقله طائفة معروفة من بني آدم، ولكن الثنوية من المجوس ونحوهم يقولون: إن العالم صادر عن أصلين: النور والظلمة، والنور عندهم هو إله الخير المحمود، والظلمة هي الإله الشرير المذموم.

وبعضهم يقول: إن الظلمة هي الشيطان، وهذا ليجعلوا ما في العالم من الشر صادرا عن الظلمة.

ومنهم من قال: إن الظلمة قديمة أزلية مع أنها مذمومة عندهم ليست مماثلة للنور.

ومنهم من قال: بل هي حادثة، وأن النور فكر فكرة رديئة، فحدثت الظلمة عن تلك الفكرة الرديئة.

فقال لهم أهل التوحيد: أنتم بزعمكم كرهتم أن تضيفوا إلى الرب سبحانه وتعالى خلق ما في العالم من الشر وجعلتموه خالقا لأصل الشر، وهؤلاء مع إثباتهم اثنين وتسمية الناس لهم بالثنوية فهم لا يقولون: إن الشرير مماثل للخير.

وكذلك الدهرية دهرية الفلاسفة وغيرهم، منهم من ينكر الصانع للعالم، كالقول الذي أظهره فرعون لعنه الله، ومنهم من يقر بعلة يتحرك الفلك للتشبه بها كأرسطو وأتباعه، ومنهم من يقول بالموجب بالذات المستلزم للفلك كابن سينا.

والسهروردي المقتول بحلب وأمثالهما من متفلسفة الملل.

وأما مشركو العرب وأمثالهم فكانوا مقرين بالصانع، وبأنه خلق السماوات والأرض، فكانت عقيدة مشركي العرب خيرا من عقيدة هؤلاء الفلاسفة الدهرية إذ كانوا مقرين بأن هذه السماوات مخلوقة لله حادثة بعد أن لم تكن، وهذا مذهب جماهير أهل الأرض ومن أهل الملل الثلاثة: المسلمون، واليهود، والنصارى، ومن المجوس، والمشركين، وهؤلاء الدهرية من الفلاسفة وغيرهم يزعمون أن السماوات أزلية قديمة لم تزل، وكان مشركو العرب يقرون بأن الله قادر يفعل بمشيئته ويجيب دعاء الداعي إذا دعاه، وهؤلاء المتفلسفة الدهرية عندهم أن الله لا يفعل شيئا بمشيئته ولا يجيب دعاء الداعي، بل ولا يعلم الجزئيات ولا يعرف هذا الداعي من هذا الداعي ولا يعرف إبراهيم من موسى من محمد وغيرهم بأعيانهم من رسله، بل منهم من ينكر علمه مطلقا كأرسطو وأتباعه، ومنهم من يقول: إنما يعلم الكليات كابن سينا وأمثاله.

ومعلوم أن كل موجود في الخارج فهو جزء معين، فإن لم يعلم إلا الكليات لم يعلم شيئا من الموجودات المعينة لا الأفلاك ولا الأملاك ولا غير ذلك من الموجودات بأعيانها، والدعاء عندهم: هو تصوف النفس القوية في هيولي العالم كما ذكر ذلك ابن سينا وأمثاله، وزعموا أن اللوح المحفوظ هو النفس الفلكية، وأن حوادث الأرض كلها إنما تحدث عن حركة الفلك، كما قد بسط الرد عليهم في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن المشركين لم يكونوا يثبتون مع الله إلها آخر مساويا له في الصفات والأفعال، بل ولا كانوا يقولون: إن الكواكب والشمس والقمر خلقت العالم، ولا أن الأصنام تخلق شيئا من العالم، ومن ظن أن قوم إبراهيم الخليل كانوا يعتقدون أن النجم أو الشمس أو القمر رب العالمين، أو أن الخليل لما قال هذا ربي أراد به رب العالمين فقد غلط غلطا بينا، بل قوم إبراهيم كانوا مقرين بالصانع، وكانوا يشركون بعبادته كأمثالهم من المشركين.

قال تعالى عن الخليل: واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وأزلفت الجنة للمتقين وبرزت الجحيم للغاوين وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون فكبكبوا فيها هم والغاوون وجنود إبليس أجمعون قالوا وهم فيها يختصمون تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين وما أضلنا إلا المجرمون.

فأخبر تعالى عن الخليل أنه عدو لكل ما يعبدونه إلا لرب العالمين، وأخبر أنهم يقولون يوم القيامة: تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين.

كما قال تعالى في الموضع الآخر: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين.

وقال: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين.

ولم يقل: من المعطلين، فإن قومه كانوا يشركون، ولم يكونوا معطلين كفرعون اللعين، فلم يكونوا جاحدين للصانع، بل عدلوا به، وجعلوا له أندادا في العبادة والمحبة والدعاء، وهذا كما قال تعالى: الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون.

وقال تعالى: ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله.

وقال تعالى: والذين لا يدعون مع الله إلها آخر.

وقال تعالى: فلا تدع مع الله إلها آخر فتكون من المعذبين.

وقال: لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا.

وقال تعالى فيما حكاه عن قوم نوح: وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا.

قال ابن عباس وغيره من العلماء: هؤلاء كانوا قوما صالحين في قوم نوح، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم ثم عبدوها.

وهكذا عند النصارى عن المسيح في كتاب سر بطرس الذي يسمى بشمعون، وسمعان، والصفا، وبطرس، والأربعة لمسمى واحد، عندهم عنه كتاب عن المسيح فيه أسرار العلوم، وهذا فيه عندهم عن المسيح،

فالذي تفعله النصارى أصل عبادة الأوثان، وهكذا قال عالمهم الكبير - الذي يسمونه فم الذهب وهو من أكبر علمائهم - لما ذكر تولد الذنوب الكبار عن الصغار. قال: وهكذا هجمت عبادة الأصنام فيما سلف لما أكرم الناس أشخاصا يعظم بعضهم بعضا فوق المقدار الذي ينبغي، الأحياء منهم والأموات.

وقد قال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا.

قال طائفة من العلماء: كان أقوام يدعون الملائكة والأنبياء كالعزير والمسيح وغيرهما، فبين الله تبارك وتعالى أن هؤلاء عباده كما أنتم عباده، يرجون رحمته كما ترجون رحمته، ويخافون عذابه كما تخافون عذابه، ويتقربون إليه كما تتقربون إليه، وقال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

فبين تعالى أن من يتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر مع اعتقاده أنهم مخلوقون، فإنه لم يقل أحد قط: أن جميع الملائكة والنبيين مشاركون لله سبحانه في خلق العالم، وقد قال تعالى: وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون.

قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: تسألهم من خلق السماوات والأرض؟ يقولون: الله، وهم يعبدون غيره، وقد قال تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله.

في غير موضع، فأخبر تعالى عن المشركين أنهم كانوا يقرون بأن خالق العالم واحد مع اتخاذهم آلهة يعبدونهم من دونه سبحانه يتخذونهم شفعاء إليه ويتقربون بهم إليه.

فصل

وكذلك تعظيمهم للصليب، واستحلالهم لحم الخنزير، وتعبدهم بالرهبانية، وامتناعهم من الختان، وتركهم طهارة الحدث والخبث، فلا يوجبون غسل جنابة ولا وضوءا، ولا يوجبون اجتناب شيء من الخبائث في صلاتهم لا عذرة ولا بولا ولا غير ذلك من الخبائث إلى غير ذلك.

كلها شرائع أحدثوها وابتدعوها بعد المسيح ، ودان بها أئمتهم وجمهورهم، ولعنوا من خالفهم فيها، حتى صار المتمسك فيهم بدين المسيح المحض مغلوبا مقموعا قبل أن يبعث الله محمدا ﷺ، وأكثر ما هم عليه من الشرائع والدين لا يوجد منصوصا عن المسيح .

اجتماع المسلمين بإجماعهم وتفرق النصارى بابتداعهم

وأما المسلمون: فكل ما أجمعوا عليه إجماعا ظاهرا يعرفه العامة والخاصة فهو منقول عن نبيهم ﷺ، لم يحدث ذلك أحد لا باجتهاده ولا بغير اجتهاده، بل ما قطعنا بإجماع أمة محمد ﷺ فإنه يوجد مأخوذا عن نبيهم.

وأما ما يظن فيه إجماعهم ولا يقطع به:

فمنه ما يكون ذلك الظن خطأ، ويكون بينهم فيه نزاع، ثم قد يكون نص الرسول ﷺ مع هذا القول، وقد يكون مع هذا القول.

ومنه ما يكون ظن الإجماع عليه صوابا، ويكون فيه عن النبي ﷺ أثر خفيت دلالته أو معرفته على بعض الناس.

وذلك أن الله تبارك وتعالى أكمل الدين بمحمد ﷺ خاتم النبيين، وبينه، وبلغه البلاغ المبين، فلا تحتاج أمته إلى أحد بعده يغير شيئا من دينه، وإنما تحتاج إلى معرفة دينه الذي بعث به فقط، وأمته لا تجتمع على ضلالة، بل لا يزال في أمته طائفة قائمة بالحق، حتى تقوم الساعة، فإن الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، فأظهره بالحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان، ولا يزال في أمته أمة ظاهرة بهذا وهذا حتى تقوم الساعة.

والمقصود هنا: أن ما اجتمعت عليه الأمة إجماعا ظاهرا تعرفه العامة والخاصة، فهو منقول عن نبيهم ﷺ، ونحن لا نشهد بالعصمة إلا لمجموع الأمة، وأما كثير من طوائف الأمة ففيهم بدع مخالفة للرسول، وبعضها من جنس بدع اليهود والنصارى، وفيهم فجور ومعاصي، لكن رسول الله ﷺ بريء من ذلك، كما قال تعالى له: فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون.

وقال تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء.

وقال ﷺ: من رغب عن سنتي فليس مني وذلك مثل إجماعهم على أن محمدا ﷺ أرسل إلى جميع الأمم أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، فإن هذا تلقوه عن نبيهم ﷺ، وهو منقول عندهم نقلا متواترا يعلمونه بالضرورة.

وكذلك إجماعهم على استقبال الكعبة البيت الحرام في صلاتهم، فإن هذا الإجماع منهم على ذلك مستند إلى النقل المتواتر عن نبيهم وهو مذكور في كتابهم.

وكذلك الإجماع على وجوب الصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق الذي بناه إبراهيم خليل الرحمن، ودعا الناس إلى حجه وحجته الأنبياء، حتى حجه موسى بن عمران ويونس بن متى وغيرهما، وإجماعهم على وجوب الاغتسال من الجنابة وتحريم الخبائث وإيجاب الطهارة للصلاة، فإن هذا كله مما تلقوه عن نبيهم، وهو منقول عنه ﷺ نقلا متواترا وهو مذكور في القرآن.

وأما النصارى، فليست الصلوات التي يصلونها منقولة عن المسيح ولا الصوم الذي يصومونه منقولا عن المسيح، بل جعل أولهم الصوم أربعين يوما، ثم زادوا فيه عشرة أيام، ونقلوه إلى الربيع، وليس هذا منقولا عندهم عن المسيح .

وكذلك حجهم للقمامة، وبيت لحم، وكنيسة صيدنايا ليس شيء من ذلك منقولا عن المسيح ، بل وكذلك عامة أعيادهم مثل عيد القلندس، وعيد الميلاد، وعيد الغطاس - وهو القداس - وعيد الخميس وعيد الصليب الذي جعلوه في وقت ظهور الصليب، لما أظهرته هيلانة الحرانية الفندقانية أم قسطنطين بعد المسيح بمائتين من السنين، وعيد الخميس والجمعة والسبت التي في آخر صومهم، وغير ذلك من أعيادهم التي رتبوها على أحوال المسيح والأعياد التي ابتدعوها لكبرائهم، فإن ذلك كله من بدعهم التي ابتدعوها بلا كتاب نزل من الله تعالى، بل هم يبنون الكنائس على اسم بعض من يعظمونه، كما في السنن عن النبي ﷺ: أنهم إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة وهذا بخلاف المساجد التي تبنى لله عز وجل كما قال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.

وقال: في بيوت أذن الله أن ترفع.

وقال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين.

وقال تعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين.

والنصارى كأشباههم من المشركين يخشون غير الله، ويدعون غير الله.

فصل

والمقصود هنا: أن الذي يدين به المسلمون من أن محمدا ﷺ رسول إلى الثقلين: الإنس والجن، أهل الكتاب وغيرهم، وأن من لم يؤمن به فهو كافر مستحق لعذاب الله مستحق للجهاد، وهو مما أجمع أهل الإيمان بالله ورسوله عليه؛ لأن الرسول ﷺ هو الذي جاء بذلك، وذكره الله في كتابه، وبينه الرسول أيضا في الحكمة المنزلة عليه من غير الكتاب، فإنه تعالى أنزل عليه الكتاب والحكمة، ولم يبتدع المسلمون شيئا من ذلك من تلقاء أنفسهم، كما ابتدعت النصارى كثيرا من دينهم بل أكثر دينهم.

وبدلوا دين المسيح وغيروه؛ ولهذا كان كفر النصارى لما بعث محمد ﷺ مثل كفر اليهود لما بعث المسيح ، فإن اليهود كانوا قد بدلوا شرع التوراة قبل مجيء المسيح، فكفروا بذلك، ولما بعث المسيح إليهم كذبوه فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وبتكذيب الكتاب الثاني.

وكذلك النصارى كانوا بدلوا دين المسيح قبل أن يبعث محمد ﷺ، فابتدعوا من التثليث والاتحاد وتغيير شرائع الإنجيل أشياء لم يبعث بها المسيح ، بل تخالف ما بعث به، وافترقوا في ذلك فرقا متعددة، وكفر فيها بعضهم بعضا، فلما بعث محمد ﷺ كذبوه، فصاروا كفارا بتبديل معاني الكتاب الأول وأحكامه، وتكذيب الكتاب الثاني، كما يقول علماء المسلمين: إن دينهم مبدل منسوخ، وإن كان قليل من النصارى كانوا عند مبعث محمد ﷺ متمسكين بدين المسيح، كما كان الذين لم يبدلوا دين المسيح كله على الحق، فهذا كما أن من كان متبعا شرع التوراة عند مبعث المسيح كان متمسكا بالحق كسائر من اتبع موسى، فلما بعث المسيح صار كل من لم يؤمن به كافرا، وكذلك لما بعث محمد ﷺ صار كل من لم يؤمن به كافرا.

والمقصود في هذا المقام: بيان ما بعث به محمد ﷺ من عموم رسالته، وأنه نفسه الذي أخبر أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم، وأنه نفسه ﷺ دعا أهل الكتاب، وجاهدهم وأمر بجهادهم، فمن قال بعد هذا من أهل الكتاب اليهود والنصارى: أنه لم يبعث إلينا، بمعنى أنه لم يقل إنه مبعوث إلينا، كان مكابرا جاحدا للضرورة مفتريا على الرسول فرية ظاهرة تعرفها الخاصة والعامة.

وكان جحده لهذا كما لو جحد أنه جاء بالقرآن، أو شرع الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وحج البيت الحرام؛ وجحد محمد ﷺ، وما تواتر عنه أعظم من جحد أتباع الحواريين المسيح ، وإرساله لهم إلى الأمم، ومجيئه بالإنجيل، وجحد مجيء موسى بالتوراة، وجحد أنه كان يسبت؛ فإن النقل عن محمد ﷺ مدته قريبة، والناقلون عنه أضعاف أضعاف من نقل دين المسيح عنه، وأضعاف أضعاف أضعاف من اتصل به نقل دين موسى ، فإن أمة محمد ﷺ ما زالوا كثيرين منتشرين في مشارق الأرض ومغاربها، وما زال فيهم من هو ظاهر بالدين منصور على الأعداء، بخلاف بني إسرائيل، فإنهم زال ملكهم في أثناء الأمر لما خرب بيت المقدس الخراب الأول بعد داود ونقص عدد من نقل دينهم حتى قد قيل إنه لم يبق من يحفظ التوراة إلا واحد.

والمسيح لم ينقل دينه عنه إلا عدد قليل لكن النصارى يزعمون أنهم رسل الله معصمون مثل: إبراهيم وموسى، وسيأتي الكلام على هذا إن شاء الله تعالى إذا وصلنا إليه، إذ المقصود هنا بيان من زعم أن محمدا ﷺ كان يقول: إنه لم يبعث إلا إلى مشركي العرب، فإنه في غاية الجهل والضلال أو غاية المكابرة والمعاندة، فإن هذا أعظم جهلا وعنادا ممن ينكر أنه كان يأمر بالطهارة والغسل من الجنابة، ويحرم الخمر والخنزير، وأعظم جهلا وعنادا ممن ينكر ما تواتر من أمر المسيح، وموسى عليهما السلام، وقد ظهر بهذا بطلان قولهم: علمنا أنه لم يأت إلينا بل إلى جاهلية العرب.

فصل: شبهات النصارى على رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وردها

فإذا عرف هذا فاحتجاج هؤلاء بالآيات التي ظنوا دلالتها على أن نبوته خاصة بالعرب، تدل على أنهم ليسوا ممن يجوز لهم الاستدلال بكلام أحد على مقصوده ومراده، وأنهم ممن قيل فيه فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.

فليسوا أهلا أن يحتجوا بالتوراة والإنجيل والزبور على مراد الأنبياء وسائر الكلام المنقول عن الأنبياء على مراد الأنبياء عليهم السلام - بل ولا يحتجون بكلام الأطباء والفلاسفة والنحاة وعلم أهل الحساب والهيئة على مقاصدهم.

فإن الناس كلهم متفقون على أن لغة العرب من أفصح لغات الآدميين وأوضحها، ومتفقون على أن القرآن في أعلى درجات البيان والبلاغة والفصاحة، وفي القرآن من الدلالات الكثيرة على مقصود الرسول ﷺ التي يذكر فيها: أن الله تعالى أرسله إلى أهل الكتاب وغيرهم ما لا يحصى إلا بكلفة، ثم مع ذلك من النقول المتواترة عن سيرته ﷺ في دعائه لأهل الكتاب، وأمره لهم بالإيمان به، وجهاده لهم إذا كفروا به ما لا يخفى على من له أدنى خبرة بسيرته ﷺ، وهذا أمر قد امتلأ العالم به، وسمعه القاصي والداني، فإذا كان الناس المؤمن به وغير المؤمن به يعلمون أنه كان يقول: إنه رسول الله إلى أهل الكتاب، وغيرهم، وأن ظهور مقصوده بذلك مما يعلمه بالاضطرار الخاصة والعامة، ثم شرعوا يظنون أنه كان يقول: إني لم أبعث إلا إلى العرب، واستمر على ذلك حتى مات دل على فساد نظرتهم وعقلهم، أو على عنادهم ومكابرتهم، وكان الواجب إذ لم يكن له معرفة معاني هذه الآيات التي استدلوا بها على خصوص رسالته أن يعتقدوا أحد أمرين:

إما أن لها معاني توافق ما كان يقوله، أو أنها من المنسوخ فقد علمت الخاصة والعامة: أن محمدا ﷺ كان يصلي بعد هجرته إلى بيت المقدس نحو سنة ونصف، ثم أمر بالصلاة إلى الكعبة البيت الحرام، والنصارى يوافقون على أن شرائع الأنبياء فيها ناسخ ومنسوخ، مع أن ما ذكروه من الآيات ليس منسوخا، ولكن المقصود: أن المعلوم من حال الرسول ﷺ علما ضروريا يقينيا متواترا لا يجوز دفعه، فإن العلم بأنه كان يقول: إنه رسول الله ﷺ إلى جميع الخلق معلوم لكل من عرف أخباره ﷺ سواء صدقه أو كذبه، والعلم بأنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الناس ممكن قبل أن يعلم أنه نبي أو ليس بنبي، كما أن العلم بنبوته وصدقه ممكن قبل أن يعلم عموم رسالته، فليس العلم بأحدهما موقوفا على الآخر، ولهذا كان كثير ممن يكذبه يعلم أنه كان يقول إنه رسول الله إلى جميع الخلق، وطائفة ممن تقر بنبوته وصدقه لا تقر بأنه رسول إلى جميع الخلق.

والمقصود هنا: الكلام مع هؤلاء بأن العلم بعموم دعوته لجميع الخلق أهل الكتاب وغيرهم هو متواتر معلوم بالاضطرار كالعلم بنفس مبعثه ودعائه الخلق إلى الإيمان به وطاعته وكالعلم بهجرته من مكة إلى المدينة، ومجيئه بهذا القرآن، والصلوات الخمس، وصوم شهر رمضان، وحج البيت العتيق، وإيجاب الصدق والعدل، وتحريم الظلم والفواحش، وغير ذلك مما جاء به محمد ﷺ.

وإن قيل: بل في القرآن ما يقتضي أن رسالته خاصة، وفيه ما يقتضي أن رسالته عامة وهذا تناقض.

قيل: هذا باطل، ويعلم بطلانه قبل العلم بنبوته؛ فإنه من المعلوم لكل أحد آمن به، أو كذبه أنه كان من أعظم الناس عقلا وسياسة وخبرة، وكان مقصوده دعوة الخلق إلى طاعته واتباعه، وكان يقرأ القرآن على جميع الناس، ويأمر بتبليغه إلى جميع الأمم، وكان من طلب منه أن يؤمنه حتى يقرأ عليه القرآن من الكفار وجب عليه أن يجيبه ولو كان مشركا، فكيف إذا كان كتابيا؟ كما قال تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون.

وكان قد أظهر أنه مبعوث إلى أهل الكتاب وسائر الخلق، وأنه رسول إلى الثقلين: الجن والإنس، فيمتنع مع هذا أن يظهر ما يدل على أنه لم يبعث إليهم، فإن هذا لا يفعله من له أدنى عقل لمناقضته لمراده، فكيف يفعله من اتفقت عقلاء الأمم على أنه أعقل الخلق وأحسنهم سياسة وشريعة؟

وأيضا فكان أصحابه والمقاتلون معه بعد ذلك ينفرون عنه، وقد كان عادتهم أن يستشكلوا ما هو دون هذا، وهذا لم يستشكله أحد، ثم بعد هذا فلو قدر أن في القرآن ما يدل على أنه لم يبعث إلا إلى العرب، وفيه ما يدل على أنه بعث إلى سائر الخلق، كان هذا دليلا على أنه أرسل إلى غيرهم بعد أن لم يرسل إلا إليهم، وأن الله عم بدعوته بعد أن كانت خاصة، فلا مناقضة بين هذا وهذا، فكيف وليس في القرآن آية واحدة تدل على اختصاص رسالته بالعرب؟ وإنما فيه إثبات رسالته إليهم، كما أن فيه إثبات رسالته إلى قريش، وليس هذا مناقضا لهذا، وفيه إثبات رسالته إلى أهل الكتاب كقوله تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا.

كما فيه إثبات رسالته إلى بني إسرائيل كقوله: يا بني إسرائيل.

وليس هذا التخصص لليهود منافيا لذلك التعميم، وفي رسالته خطاب لليهود تارة وللنصارى تارة، وليس خطابه لإحدى الطائفتين ودعوته لها مناقضا لخطابه للأخرى ودعوته لها، وفي كتابه خطاب للذين آمنوا من أمته في دعوته لهم إلى شرائع دينه، وليس في ذلك مناقضة بأن يخاطب أهل الكتاب ويدعوهم، وفي كتابه أمر بقتال أهل الكتاب النصارى، حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

ثم لم يكن هذا مانعا أن يأمر بقتال غيرهم من اليهود والمجوس؛ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، بل هذا الحكم ثابت في المجوس بسنته واتفاق أمته.

وإن قيل: إنهم ليسوا من أهل الكتاب، فهذا كله مما يعلم بالاضطرار من دينه قبل العلم بنبوته، فكيف ونحن نتكلم على تقدير نبوته، والنبي لا يتناقض قوله؟ وإذا كان العلم بعموم دعوته ورسالته معلوما بالاضطرار قبل العلم بنبوته، وبعد العلم بنبوته، فالعلم الضروري اليقيني لا يعارضه شيء، ولكن هذا شأن الذين في قلوبهم زيغ من أهل البدع: النصارى وغيرهم يتبعون المتشابه ويدعون المحكم، وبسبب مناظرة النصارى للنبي ﷺ بالمتشابه، وعدولهم عن المحكم أنزل الله تبارك وتعالى فيهم: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.

فالتأويل: يراد به تفسير القرآن، ومعرفة معانيه، وهذا يعلمه الراسخون، ويراد به ما استأثر الرب سبحانه وتعالى بعلمه من معرفة كنهه وكنه ما وعد به ووقت الساعة، ونحو ذلك مما لا يعلمه إلا الله.

والضلال يذكرون آيات تشتبه عليهم معرفة معانيها، فيتبعون تأويلها ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويلها، وليسوا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويلها مع أن هؤلاء الآيات من أوضح الآيات.

وهذا الذي سلكوه في القرآن هو نظير ما سلكوه في الكتب المتقدمة وكلام الأنبياء من التوراة والإنجيل والزبور وغيرها، فإن فيها من النصوص الكثيرة الصريحة بتوحيد الله وعبودية المسيح ما لا يحصى إلا بكلفة، وفيها كلمات قليلة فيها اشتباه، فتمسكوا بالقليل المتشابه الخفي المشكل من الكتب المتقدمة وتركوا الكثير المحكم المبين الواضح، فهم سلكوا في القرآن ما سلكوه في الكتب المتقدمة، لكن تلك الكتب يقرون بنبوة أصحابها ومحمد ﷺ هم فيه مضطربون متناقضون، فأي قول قالوه فيه ظهر فساده وكذبهم فيه إذا لم يؤمنوا بجميع ما أنزل إليه.

الرد على النصارى في دعواهم أن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم متناقض

وإن قالوا: كلامه متناقض ونحن نحتج بما يوافق قولنا، إذ مقصودنا بيان تناقضه.

قيل لهم عن هذا أجوبة:

أحدها: أنه في الكتب المتقدمة مما يظن أنه متعارض أضعاف ما في القرآن وأقرب إلى التناقض، فإذا كانت تلك الكتب متفقة لا تناقض فيها، وإنما يظن تناقضها من يجهل معانيها ومراد الرسل فيكون كما قيل:

وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم

فكيف القرآن الذي هو أفضل الكتب؟

الثاني: أنهم متمسكون بالمتشابه في تلك الكتب، ومخالفون المحكم منها كما فعلوه بالقرآن وأبلغ.

الثالث: أنه إذا كان ما جاء به متناقضا لم يكن رسول الله، فإن ما جاء به من عند الله لا يكون مختلفا متناقضا، وإنما يتناقض ما جاء من عند غير الله، قال تعالى: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

فكل كتاب ليس من عند الله لا بد أن يكون فيه تناقض، وما كان من عند الله لا يتناقض، وحينئذ فإن كان متناقضا لم يجز لهم الاحتجاج بشيء منه؛ فإنه ليس من عند الله، وإن لم يكن متناقضا ثبت أن ما فيه من عموم رسالته، وأنه رسول إليهم، فليس فيه شيء يناقضه، فإن ما جاء من عند الله لا يتناقض.

الرابع: أنا نبين أن ما فيه من عموم رسالته لا ينافي ما فيه من أنه أرسل إلى العرب، كما أن ما فيه من إنذار عشيرته الأقربين، وأمر قريش لا ينافي ما فيه من دعوة سائر العرب؛ فإن تخصيص بعض العام بالذكر إذا كان له سبب يقتضي التخصيص لم يدل على أن ما سوى المذكور مخالفة، وهذا الذي يسمى مفهوم المخالفة ودليل الخطاب.

والناس كلهم متفقون على أن التخصيص بالذكر متى كان له سبب يوجب الذكر غير الاختصاص بالحكم لم يكن للاسم اللقب مفهوم، بل ولا للصفة كقوله تعالى: ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق.

فإنه نهاهم عن ذلك؛ لأنه هو الذي كانوا يفعلونه، وقد حرم في موضع آخر قتل النفس بغير الحق، سواء كان ولدا، أو غيره، ولم يكن ذلك مناقضا لتخصيص الولد بالذكر.

الخامس: أنه في ذلك أسوة بالمسيح فإن المسيح خص أولا بالدعوة، ثم عم، كما قيل في الإنجيل: ما بعثت وأرسلت إلا لبني إسرائيل. وقال أيضا في الإنجيل: ما بعثت إلا لهذا الشعب الخبيث. ثم عم، فقال لتلامذته حين أرسلهم كما في الإنجيل: كما بعثني أبي أبعث بكم، فمن قبلكم فقد قبلني. وقال: أرسلني أبي، وأنا أرسلكم. وقال: كما أفعل أنا بكم، كذلك افعلوا أنتم بعباد الله فسيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس، ولا يكون لأحدكم ثوبان، ولا يحمل معه فضة ولا ذهبا ولا عصا ولا حرابة ونحو ذلك مما هو في الأناجيل التي بين أيديهم من تخصيص الدعوة ثم تعميمها، وهو صادق في ذلك كله، فكيف يسوغ لهم إنكار ما في الإنجيل عن المسيح نظيره؟ ثم يقال في بيان الحال: إن الله تعالى بعث محمدا ﷺ، كما بعث المسيح وغيره، وإن كانت رسالته أكمل وأشمل كما نذكر في موضعه، فأمره بتبليغ رسالته بحسب الإمكان إلى طائفة بعد طائفة، وأمر بتبليغ الأقرب منه مكانا ونسبا، ثم بتبليغ طائفة بعد طائفة؛ حتى تبلغ النذارة إلى جميع أهل الأرض، كما قال تعالى: وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ.

أي من بلغه القرآن فكل من بلغه القرآن فقد أنذره محمد ﷺ.

ونبين هنا أن النذارة ليست مختصة بمن شافههم بالخطاب، بل ينذرهم به وينذر من بلغهم القرآن، فأمره الله تبارك وتعالى أولا بإنذار عشيرته الأقربين وهو قريش، فقال تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين.

ولما أنزل الله عليه هذه الآية انطلق ﷺ إلى مكان عال فعلا عليه، ثم جعل ينادي: يا بني عبد مناف إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل رأى العدو فانطلق يريد أهله فخشي أن يسبقوه، فجعل يهتف يا صباحاه يا صباحاه.

وهذه القصة رواها ابن عباس وأبو هريرة وعائشة وغيرهم في الصحيحين وغيرهما من كتب السنن والمسانيد والتفسير.

قال ابن عباس: لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين. ورهطك منهم المخلصين، خرج رسول الله ﷺ حتى صعد الصفا، فجعل ينادي: يا بني فهر، يا بني عدي لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو؟ فاجتمعوا إليه فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقا، ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد.

وقال أبو هريرة: لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين. دعا رسول الله ﷺ قريشا، فاجتمعوا، فعم وخص، فقال: يا بني كعب بن لؤي أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مرة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد شمس أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من الله شيئا غير أن لكم رحما سأبلها ببلالها.

وقالت عائشة رضي الله عنها لما نزلت هذه الآية: وأنذر عشيرتك الأقربين. قام رسول الله ﷺ على الصفا، فقال: يا فاطمة بنت محمد، يا صفية عمة رسول الله، يا عباس عم رسول الله لا أملك لكم من الله شيئا.

وقال ابن إسحاق: لما نزلت هذه الآية جعل النبي ﷺ ينادي: يا بني عبد المطلب، يا بني عبد مناف، يا بني زهرة حتى عدد الأفخاذ من قريش، ثم قال: إن الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وإني لا أملك لكم من الله شيئا إلا أن تقولوا لا إله إلا الله، فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبا لك سائر اليوم، فأنزل الله: تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى نارا ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد.

ودعا قريشا إلى الله، وأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له، وأنزل تعالى: لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف.

وقد أنزل الله عليه في غير موضع أمر جميع الخلق بعبادته، كقوله تعالى: يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون.

وقوله: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون.

وقريش هم قومه الذين كذبه جمهورهم أولا، كما قال تعالى: وكذب به قومك وهو الحق.

كما أن جمهور بني إسرائيل وهم قوم المسيح كذبوه أولا.

ثم أمره الله تعالى أن يدعو سائر العرب، فكان يخرج بنفسه ومعه أبو بكر صديقه إلى قبائل العرب قبيلة قبيلة، وكانت العرب لم تزل تحج البيت من عهد إبراهيم الخليل ، فكان ﷺ يأتيهم في منازلهم بمنى، وعكاظ، ومجنة، وذي المجاز، فلا يجد أحدا إلا دعاه إلى الله، ويقول: يا أيها الناس، إني رسول الله آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما يعبد من دونه من هذه الأنداد، وأن تؤمنوا بي وتصدقوني وتمنعوني؛ حتى أبين عن الله ما بعثني به، يا أيها الناس إن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي فمن يمنعني أن أبلغ كلام ربي إلا رجل يحملني إلى قومه، فإن قريشا منعوني أن أبلغ كلام ربي، يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، وتملكوا بها العرب، وتذل لكم بها العجم فيقولون: يا محمد أتريد أن تجعل الآلهة إلها واحدا؟ إن أمرك هذا لعجب.

وما زال رسول الله ﷺ يعلن دعوته، ويظهر رسالته، ويدعو الخلق إليها، وهم يؤذونه ويجادلونه ويكلمونه، ويردون عليه بأقبح الرد، وهو صابر على أذاهم، ويقول: اللهم لك الحمد لو شئت لم يكونوا هكذا.

فلما اشتد عليه أمر قريش خرج إلى الطائف وهي مدينة معروفة شرقي مكة بينهما نحو ليلتين ومعه زيد بن حارثة، ومكث بها عشرة أيام لا يدع أحدا من أشرافهم إلا جاءه في منزله وكلمه ودعاه إلى التوحيد، فلم يجبه أحد منهم، وخافوه على أحداثهم، وأغروا به سفهاءهم فجعلوا يرمونه بالحجارة إذا مشى حتى أن رجليه لتدميان، وزيد مولاه يقيه بنفسه حتى ألجئوا إلى ظل كرمة في حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة فرجع عنه ما كان تبعه من سفهائهم، فدعا، فقال: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني، إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.

فلما رأى ابنا ربيعة ما صنع به رثيا له، وقالا لغلام لهما يقال له عداس - وكان نصرانيا -: خذ قطفا من عنب، ثم اجعله في طبق، ثم اذهب إلى ذلك الرجل يأكله، ففعل عداس وأقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله ﷺ، فلما وضع رسول الله ﷺ يده، قال: بسم الله، ثم أكل فنظر عداس إلى وجهه، ثم قال له: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة، فقال له رسول الله ﷺ: من أي البلاد أنت؟ وما دينك؟ فقال عداس: أنا نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى، فقال له رسول الله ﷺ: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟ والله لقد خرجت من نينوى، وما فيها عشرة يعرفون متى، من أين عرفت أنت متى وأنت أمي وفي أمة أمية؟ فقال رسول الله ﷺ: هو أخي كان نبيا وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله ﷺ يقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رجع عداس فقالا: ويلك يا عداس، مالك تقبل رأس هذا الرجل ويديه ورجليه، فقال: يا سيدي، ما في الأرض خير من هذا الرجل، لقد خبرني بأمر لا يعلمه إلا نبي.

ثم انصرف رسول الله ﷺ من الطائف راجعا إلى مكة وهو محزون، إذ لم يستجب له رجل واحد ولا امرأة، فقال له زيد بن حارثة: كيف تدخل عليهم يا رسول الله وقد فعلوا وفعلوا، فقال: يا زيد، إن الله عز وجل جاعل لما ترى فرجا ومخرجا، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.

ثم ذكر ابن إسحاق دخوله إلى مكة، وكان رسول الله ﷺ لما لقي من أهل مكة والطائف ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال - كما في صحيح البخاري - أن عائشة رضي الله عنها قالت للنبي ﷺ: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت، فإذا فيها جبريل فناداني: إن الله قد سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم. قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي، ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال قد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي ﷺ: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا شريك له.

وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة: أنه قيل للنبي ﷺ: ادع الله على المشركين، فقال: إني لم أبعث لعانا، وإنما بعثت رحمة.

وفي الصحيحين: عن خباب بن الأرت، أنه قال: لما اشتد البلاء علينا من المشركين أتينا النبي ﷺ فقلنا: ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقال: لقد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه حتى يجعل فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب، ما يصرفه عن دينه، وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله ولكنكم تستعجلون.

وذكر ما لقي النبي ﷺ من قومه من الأذى والاستهزاء والإغراء وهو صابر محتسب، مظهر لأمر الله بتبليغ رسالته، لا تأخذه في الله لومة لائم، مواجه لقومه بما يكرهون من عيب دينهم وآلهتهم، وتضليل آبائهم، وتسفيه أحلامهم، وإظهار عداوته، وقتاله إياهم ما بلغ مبلغ القطع.

قال عكرمة، عن ابن عباس: ولما رجع النبي ﷺ إلى مكة فلما حضر الموسم حج نفر من الأنصار، فانتهى النبي ﷺ إلى فريق منهم، فقرأ عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، وأخبرهم بالذي آتاه الله فأيقنوا واطمأنت قلوبهم إلى دعوته، وعرفوا ما كانوا يسمعون من أهل الكتاب من ذكرهم إياه بصفته، وما يدعوهم إليه فصدقوه وآمنوا به، وكان من أسباب الخير الذي ساق الله للأنصار إلى ما كانوا يسمعون من الأخبار في صفته، فلما رجعوا إلى قومهم جعلوا يدعونهم سرا، ويخبرونهم بأقوال رسول الله ﷺ، والذي بعثه الله به من النور والهدى والقرآن، فأسلموا حتى قل أن يوجد دار من دورهم إلا أسلم فيها ناس لا محالة.

وقد ذكر الله ذلك في القرآن، وأخبر أن أهل الكتاب كانوا يخبرون العرب به ويستفتحون به عليهم، فكان أهل الكتاب مقرين بنبوته مخبرين بها مبشرين بها قبل أن يبعث، فقال تعالى فيما يخاطب به أهل الكتاب:

ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين.

فقد أخبر تعالى أن أهل الكتاب كانوا يستفتحون على العرب بمحمد ﷺ قبل أن يبعث - أي يستنصرون به - وكانوا هم والعرب يقتتلون فيغلبهم العرب، فيقولون: سوف يبعث النبي الأمي من ولد إسماعيل فنتبعه ونقتلكم معه شر قتلة، وكانوا ينعتونه بنعوته.

وأخبارهم بذلك كثيرة متواترة، وكما قال تعالى: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين.

وأخبر بما كانت عليه اليهود من أنه كلما جاءهم رسول الله بما لا تهوى أنفسهم كذبوا بعضهم وقتلوا بعضهم، وأخبر أنهم باءوا بغضب على غضب؛ فإنهم ما زالوا يفعلون ما يغضب الله عليهم، فإما أن يراد بالتثنية تأكيد غضب الله عليهم، وإما أن يراد به مرتان، والغضب الأول: تكذيبهم المسيح والإنجيل، والغصب الثاني: لمحمد والقرآن.

فصل: معجزات محمد صلى الله عليه وسلم

وكان يأتيهم بالآيات الدالة على نبوته ﷺ، ومعجزاته تزيد على ألف معجزة، مثل انشقاق القمر وغيره من الآيات، ومثل القرآن المعجز، ومثل أخبار أهل الكتاب قبله وبشارة

الأنبياء به، ومثل أخبار الكهان والهواتف به، ومثل قصة الفيل التي جعلها الله آية عام مولده، وما جرى عام مولده من العجائب الدالة على نبوته، ومثل امتلاء السماء ورميها بالشهب التي ترجم بها الشياطين بخلاف ما كانت العادة عليه قبل مبعثه وبعد مبعثه، ومثل إخباره بالغيوب التي لا يعلمها أحد إلا بتعليم الله عز وجل من غير أن يعلمه إياها بشر. فأخبرهم بالماضي مثل قصة آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح وهود وشعيب وصالح وغيرهم، وبالمستقبلات.

وكان قومه يعلمون أنه لم يتعلم من أهل الكتاب، ولا غيرهم، ولم يكن بمكة أحد من علماء أهل الكتاب ممن يتعلم هو منه، بل ولا كان يجتمع بأحد منهم يعرف اللسان العربي، ولا كان هو يحسن لسانا غير العربي، ولا كان يكتب كتابا، ولا يقرأ كتابا مكتوبا.

ولا سافر قبل نبوته إلا سفرتين: سفرة وهو صغير مع عمه أبي طالب لم يفارقه، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب ولا غيرهم، وسفرة أخرى وهو كبير مع ركب من قريش لم يفارقهم، ولا اجتمع بأحد من أهل الكتاب.

وأخبر من كان معه بأخبار أهل الكتاب بنبوته مثل إخبار بحيرى الراهب بنبوته، وما ظهر منه مما دلهم على نبوته، ولهذا تزوجت به خديجة قبل نبوته لما أخبرت به من أحواله.

وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر، ولكن المقصود هنا: التنبيه بأن محمدا ﷺ له معجزات كثيرة، مثل نبع الماء من بين أصابعه غير مرة، ومثل تكثير الطعام القليل حتى أكل منه الخلق العظيم، وتكثير الماء القليل حتى شرب منه الخلق الكثير.

وهذا ما جرى غير مرة له ولأمته من الآيات ما يطول وصفه، فكان بعض أتباعه يحيي الله له الموتى من الناس والدواب، وبعض أتباعه يمشي بالعسكر الكثير على البحر حتى يعبروا إلى الناحية الأخرى، ومنهم من ألقي في النار، فصارت عليه بردا وسلاما، وأمثال ذلك كثير.

ولكن المقصود هنا ذكر بعض ما في القرآن من أنه كان يخبرهم بالأمور الماضية خبرا مفصلا لا يعلمه أحد إلا أن يكون نبيا، أو من أخبره نبي وقومه يعلمون أنه لم يخبره بذلك أحد من البشر، وهذا مما قامت به الحجة عليهم، وهم مع قوة عداوتهم له وحصرهم على ما يطعنون به عليه لم يمكنهم أن يطعنوا طعنا يقبل منهم، وكان علم سائر الأمم بأن قومه المعادين له المجتهدين في الطعن عليه لم يمكنهم أن يقولوا: إن هذه الغيوب علمها إياه بشر، فوجب على جميع الخلق أن هذا لم يعلمه إياها بشر؛ ولهذا قال تعالى: تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا.

فأخبر أنه لم يكن يعلم ذلك هو ولا قومه، وقومه تقر بذلك، ولم يتعلم من أحد غير قومه؛ ولهذا زعم بعضهم أنه تعلم من بشر ظهر كذبه لكل أحد، كما قال تعالى: فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين.

فكان بمكة رجل أعجمي مملوك لبعض قريش، فادعى بعض الناس أن محمدا كان يتعلم من ذلك الأعجمي، فبين الله أن هذا كذب ظاهر، فإن ذلك رجل أعجمي لا يمكنه أن يتكلم بكلمة من هذا القرآن العربي، ومحمد ﷺ عربي لا يعرف شيئا من ألسنة العجم، فمن كلمه بغير العربية لا يفقه كلامه، فلا ذلك الرجل يحسن التكلم بالعربية، ولا محمد ﷺ يفهم كلاما بغير العربية، فلهذا قال تعالى: لسان الذي يلحدون إليه. أي: يميلون إليه ويضيفون إليه أنه علم محمدا ﷺ: أعجمي وهذا لسان عربي مبين.

وكذلك قال بعض الناس عن القرآن: إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون.

قال تعالى: فقد جاءوا ظلما وزورا وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما.

فبين سبحانه أن قول هذا من الكذب الظاهر المعلوم لأعدائه فضلا عن أوليائه، فإنهم يعلمون أنه ليس عنده أحد يعينه على ذلك، وليس في قومه، ولا في بلده من يحسن ذلك ليعينه عليه؛ فلهذا قال تعالى: فقد جاءوا ظلما وزورا.

فإن جميع أهل بلده وقومه المعادين له يعلمون أن هذا ظلم له وزور، ولهذا لم يقل هذا أحد من عقلائهم المعروفين، وكذلك قولهم: أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا، فإن قومه المكذبين له يعلمون أنه ليس عنده من يملي عليه كتابا، وقد بين ما يظهر كذبهم بقوله قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض.

فإن في القرآن من الأسرار ما لا يعلمه بشر إلا بإعلام الله إياه، فإن الله يعلم السر في السماوات والأرض، ثم لما تبين بطلان قولهم هذا، ذكر ما قدحوا به في نبوته فقال تعالى: وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا.

فهذا كلام المعارضين له الذين أنكروا أكله ومشيه في الأسواق التي يباع فيها ما يؤكل وما يلبس، وقالوا: هلا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا، أو يستغني عن ذلك بكنز ينفق منه أو جنة يأكل منها؟ وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا.

قال تعالى: انظر كيف ضربوا لك الأمثال فضلوا فلا يستطيعون سبيلا.

يقول مثلوك بالكاذب والمسحور والناقل عن غيره، وكل من هذه الأقوال يظهر كذبه لكل من عرفك؛ ولهذا قال تعالى: فضلوا فلا يستطيعون سبيلا والضال: الجاهل العادل عن الطريق، فلا يستطيع الطريق الموصلة إلى المقصود، بل ظهر عجزهم وانقطاعهم في المناظرة.

وقال تعالى: وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى.

فإنه أتاهم بجلية ما في الصحف الأولى، كالتوراة والإنجيل مع علمهم بأنه لم يأخذ عن أهل الكتاب شيئا، فإذا أخبرهم بالغيوب التي لا يعلمها إلا نبي أو من أخبره نبي، وهم يعلمون أنه لم يعلم ذلك بخبر أحد من الأنبياء تبين لهم أنه نبي، وتبين ذلك لسائر الأمم؛ فإنه إذا كان قومه المعادون وغير المعادين له مقرين بأنه لم يجتمع بأحد يعلمه ذلك، صار هذا منقولا بالتواتر، وكان مما أقر به مخالفوه مع حرصهم على الطعن لو أمكن.

فهذه الأخبار بالغيوب المتقدمة قامت بها الحجة على قومه وعلى جميع من بلغه خبر ذلك، وقد أخبر بالغيوب المستقبلة وهذه تقوم بها الحجة على من عرف تصديق ذلك الخبر كما قال تعالى: غلبت الروم في أدنى الأرض.

ثم قال: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء.

وقال تعالى: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا.

فأخبر أنهم لن يفعلوا ذلك في المستقبل، وكان كما أخبر.

وقال تعالى: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

فأخبر أنه لا يقدر الإنس والجن إلى يوم القيامة أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وهذا الخبر قد مضى له أكثر من سبعمائة سنة، ولم يقدر أحد من الإنس والجن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقال عن الكفار وهو بمكة: سيهزم الجمع ويولون الدبر.

وظهر تصديق ذلك يوم بدر وغيره، وبعد ذلك بسنين كثيرة.

وقال تعالى: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا.

وكان الأمر كما وعده وظهر تصديق ذلك بعد سنين كثيرة، وكذلك قوله: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.

فأظهر الله ما بعثه به بالآيات والبرهان واليد والسنان.

وقال تعالى: قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد.

فكان كما أخبرهم غلبوا في الدنيا كما شاهده الناس، وهذا يصدق الخبر الأخير وهو أنهم يحشرون إلى جهنم وبئس المهاد.

وقد أيده تأييدا لا يؤيد به إلا الأنبياء، بل لم يؤيد أحد من الأنبياء كما أيد به، كما أنه بعث بأفضل الكتب إلى أفضل الأمم بأفضل الشرائع، وجعله سيد ولد آدم ﷺ فلا يعرف قط أحد ادعى النبوة وهو كاذب إلا قطع الله دابره وأذله وأظهر كذبه وفجوره.

وكل من أيده الله من المدعين للنبوة لم يكن إلا صادقا كما أيد نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى وداود وسليمان، بل وأيد شعيبا وهودا وصالحا، فإن سنة الله أن ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، وهذا هو الواقع، فمن كان لا يعلم ما يفعله الله إلا بالعادة فهذه عادة الله وسنته يعرف بها ما يصنع، ومن كان يعلم ذلك بمقتضى حكمته فإنه يعلم أنه لا يؤيد من ادعى النبوة وكذب عليه تأييدا لا يمكن أحدا معارضته، وهكذا أخبرت الأنبياء قبله أن الكذاب لا يتم الله أمره ولا ينصره ولا يؤيده فصار هذا معلوما من هذه الجهات؛ ولهذا أمر سبحانه أن نعتبر بما فعله في الأمم الماضية من جعل العاقبة للأنبياء وأتباعهم، وانتقامه ممن كذبهم وعصاهم.

قال تعالى: إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد.

وقال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون.

وقال تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.

وقال تعالى: ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وقوم لوط وأصحاب مدين وكذب موسى فأمليت للكافرين ثم أخذتهم فكيف كان نكير فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة فهي خاوية على عروشها وبئر معطلة وقصر مشيد أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

وقال تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ثم كان عاقبة الذين أساءوا السوءى أن كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.

وقال تعالى: ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا فلا يغررك تقلبهم في البلاد كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب.

وقال تعالى: أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا هم أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق ذلك بأنهم كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فكفروا فأخذهم الله إنه قوي شديد العقاب.

وقال تعالى: أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون.

وقال تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح وعاد وفرعون ذو الأوتاد وثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة أولئك الأحزاب إن كل إلا كذب الرسل فحق عقاب.

وقال تعالى: وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث إلا كانوا عنه معرضين فقد كذبوا فسيأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون.

فأخبر بأن المكذبين له سيأتيهم في المستقبل أخبار القرآن الذي استهزءوا به، وبين أن ما أخبرهم به حق بوقوع الخبر مطابقا للخبر، وكان الأمر كذلك ومثله قوله: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.

أخبر أنه سيريهم في أنفسهم وفي الآفاق ما يبين أن القرآن حق بأن يروا ما أخبر به كما أخبر به، ثم قال: أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد.

فإنه قد يشهد للقرآن بأنه حق بالآيات البينات والبراهين الدالة على صدقه التي تتبين بشهادة الرب تعالى بأنه حق، فلا يحتاج مع الشهادة الحاضرة إلى انتظار الآيات المستقبلة.

وقال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر.

أخبر باقتراب الساعة وانشقاق القمر، وانشقاق القمر قد عاينوه وشاهدوه وتواترت به الأخبار، وكان النبي ﷺ يقرأ هذه السورة في المجامع الكبار مثل الجمع والأعياد؛ ليسمع الناس ما فيها من آيات النبوة ودلائلها والاعتبار، وكل الناس يقر ذلك ولا ينكره، فعلم أن انشقاق القمر كان معلوما عند الناس عامة. ثم ذكر حال الأنبياء ومكذبيهم، فقال: كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر فدعا ربه أني مغلوب فانتصر ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر ولقد تركناها آية فهل من مدكر.

فأخبر أنه أبقى السفن آية على قدرة الرب وعلى ما جرى لنوح مع قومه، ثم قال: فكيف كان عذابي لمن كذب ونذري؟ وكذلك ذكر قصة عاد وثمود ولوط وغيرهم، يقول في عقب كل قصة: فكيف كان عذابي ونذر؟ ونذره وإنذاره وهو ما بلغته عنه الرسل من الإنذار، وكيف كانت عقوبته للمنذرين.

والإنذار: هو الإعلام بالمخوف، فتبين بذلك صدق ما أخبرت به الرسل من الإنذار وشدة عذابه لمن كذب رسله، وذكر قصة فرعون فقال: ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر.

وذكر في قصة محمد ﷺ مع الناس أنواعا من ذلك فقال: قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

وقال تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.

ومثل هذا كثير في القرآن من ذكر دلائل النبوة وأعلام الرسالة ليس هذا موضع بسطه، وإنما المقصود هنا التنبيه على جنس ذلك. وما يذكره بعض أهل الكتاب أو غيرهم من أنه نصر فرعون ونمرود وسنحاريب وجنكسان وغيرهم من الملوك الكافرين جوابه ظاهر، فإن هؤلاء لم يدع أحد منهم النبوة، وأن الله أمره أن يدعو إلى عبادة الله وطاعته، ومن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، بخلاف من ادعى أن الله أرسله بذلك؛ فإنه لا يكون إلا رسولا صادقا ينصره الله ويؤيده وينصر أتباعه، ويجعل العاقبة لهم، أو يكون كذابا فينتقم الله منه، ويقطع دابره، ويتبين أن ما جاءه به ليست من الآيات والبراهين التي لا تقبل المعارضة، بل هي من جنس مخارق السحرة والكهان والكذابين التي تقبل المعارضة، فإن معجزات الأنبياء من خواصها أنه لا يقدر أحد أن يعارضها ويأتي بمثلها، بخلاف غيرها فإن معارضتها ممكنة فيبطل دلالتها.

والمسيح الدجال يدعي الإلهية، ويأتي بخوارق، ولكن نفس دعواه الإلهية دعوى ممتنعة في نفسها، ويرسل الله عليه المسيح ابن مريم فيقتله ويظهر كذبه، ومعه ما يدل على كذبه من وجوه:

منها: أنه مكتوب بين عينيه كافر.

ومنها: أنه أعور، والله ليس بأعور.

ومنها: أن أحدا لن يرى ربه حتى يموت، ويريد أن يقتل الذي قتله أولا فيعجز عن قتله.

فمعه من الدلائل الدالة على كذبه ما يبين أن ما معه ليس آية على صدقه، بخلاف معجزات الأنبياء، فإنه لا يمكن أحد من الإنس والجن أن يأتي بنظيرها ولا يبطلها مثل قلب العصا حية لموسى، وإخراج ناقة لصالح من الأرض، وإحياء الموتى للمسيح، وانشقاق القمر وإنزال القرآن وغير ذلك لمحمد ﷺ، فإن المشركين لما سألوا النبي ﷺ آية واقترحوا عليه انشقاق القمر فأراهم ذلك.

وقد أخبر الله تعالى بذلك في القرآن، فقال تعالى: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر حكمة بالغة فما تغن النذر فتول عنهم يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر.

ثم ذكر تعالى ما جرى قبله للمكذبين فذكر قصة قوم نوح وهود وصالح ولوط ثم فرعون، وهذه السورة كان النبي ﷺ يقرأ بها في أعظم اجتماعات الناس عنده وهي الأعياد، والناس كلهم يسمعون ما يذكره من انشقاق القمر، وقول المكذبين أنه سحر والناس كلهم المؤمن به والمنافق والكافر يقرون على هذا لم يقل أحد منهم أن القمر لم ينشق ولا أنكره أحد.

وفي صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سأل أبا واقد الليثي ما يقرأ به رسول الله ﷺ في الأضحى والفطر، فقال: كان يقرأ فيهما بـ ق والقرآن المجيد و اقتربت الساعة وانشق القمر.

ومعلوم بالضرورة في مطرد العادة أنه لو لم يكن انشق لأسرع الناس المؤمنون به إلى تكذيب ذلك فضلا عن أعدائه من الكفار والمنافقين، لا سيما وهو يقرأ عليهم ذلك في أعظم مجامعهم.

وأيضا فمعلوم أن محمدا ﷺ كان من أحرص الخلق على تصديق الناس له واتباعهم إياه، مع أنه كان أخبر الناس بسياسة الخلق، فلو لم يكن القمر انشق لما كان يخبر بهذا، ويقرأه على جميع الخلق ويستدل به، ويجعله آية له، فإن من يكون من أقل الناس خبرة بالسياسة لا يتعمد إلى ما يعلم جميع الناس أنه كاذب به فيجعله من أعظم آياته الدالة على صدقه، ويقرأه على الناس في أعظم المجاميع.

وقال: اقتربت الساعة وانشق القمر بصيغة الفعل الماضي، ولم يقل قامت الساعة، ولا ستقوم، بل قال: اقتربت أي دنت وقربت، و وانشق القمر الذي هو دليل على نبوة محمد وعلى إمكان انحراق الفلك الذي هو قيام القيامة، وهو سبحانه قرن بين خبره باقتراب الساعة وخبره بانشقاق القمر، فإن مبعث محمد ﷺ هو من أشراط الساعة وهو دليل على قربها، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: بعثت أنا والساعة كهاتين، وجمع بين أصبعيه السبابة والوسطى. وقد قال تعالى: فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها.

وعلم الساعة أخفاها الله عن جميع خلقه، كما يذكر ذلك عن المسيح في الإنجيل، أنه لما سئل عنها فقال: إنها لا يعلمها أحد من الناس ولا الملائكة ولا الابن، وإنما يعلمها الأب وحده. وهذا مما يدل على أنه ليس هو رب العالم، وكذلك محمد ﷺ أخبر بذلك لما سئل عنها. قال تعالى: يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض.

أي: خفيت على أهل السماوات والأرض: لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وفي الصحيح، عن النبي ﷺ، أنه قال: تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، فانشقاق القمر كان آية على شيئين: على صدق الرسول، وعلى مجيء الساعة وإمكان انشقاق الفلك؛ فإن المنكرين لقيام القيامة الكبرى قيام الناس من قبورهم لرب العالمين، وانشقاق السماوات وانفطارها سواء أقروا بالقيامة الصغرى، وأن الأرواح بعد الموت تنعم أو تعذب، كما هو قول الفلاسفة اللاإلهيين، أو أنكروا المعاد مطلقا، كما أنكر ذلك من أنكره من مشركي العرب والفلاسفة الطبيعيين، وغيرهم ينكرون انشقاق السماوات ويزعم هؤلاء الدهرية أن الأفلاك لا يجوز عليها الانشقاق، كما ذكر ذلك أرسطو وأتباعه وزعموا أن الانشقاق يقتضي حركة مستقيمة وهي ممتنعة بزعمهم في الفلك المحدد إذ لا خلاء وراءه عندهم، وهذا لو دل فإنما يدل على ذلك في الفلك الأطلس لا فيما دونه، فكيف وهو باطل؟ فإن الحركة المستقيمة هناك بمنزلة جعل الأفلاك ابتداء في هذه الأحياز التي هي فيها - سواء سمي خلاء أو لم يسم - كما هو مذكور في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أنه تعالى أخبر بانشقاق القمر مع اقتراب الساعة؛ لأنه دليل على إمكان انشقاق الأفلاك، وانفطارها الذي هو قيام الساعة الكبرى، وهو آية على نبوة محمد ﷺ الذي هو من أشراط الساعة، والله تعالى في كتابه يجمع بين ذكر القيامة الكبرى والصغرى، كما في سورة الواقعة ذكر في أولها القيامة الكبرى، وفي آخرها القيامة الصغرى، وذلك كثير في سور القرآن مثل سورة ق، وسورة القيامة، وسورة التكاثر، وسورة الفجر، وغير ذلك.

وقد استفاضت الأحاديث بانشقاق القمر، ففي الصحيحين، عن ابن مسعود أنه قال: انشق القمر على عهد رسول الله ﷺ فرقتين: فرقة فوق الجبل، وفرقة دونه، فقال رسول الله ﷺ: اشهدوا، وفي لفظ ونحن معه بمنى، فقال كفار قريش سحركم ابن أبي كبشة، فقال رجل منهم: إن محمدا إن كان سحر القمر فإنه لا يبلغ من سحره أن يسحر الأرض كلها، فاسألوا من يأتيكم من بلد آخر، هل رأوا هذا؟ فأتوا فسألوهم فأخبروهم أنهم رأوا مثل ذلك.

وعن أنس بن مالك أنه قال: سأل أهل مكة النبي ﷺ أن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر فرقتين حتى رأوا حراء بينهما فنزلت: اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر.

وهذا حديث صحيح مستفيض، رواه ابن مسعود وأنس بن مالك وابن عباس، وهو أيضا معروف عن حذيفة، قال أبو الفرج بن الجوزي والروايات في الصحيح بانشقاق القمر عن ابن عمر وابن مسعود وابن عباس وأنس رضي الله عنهم.

ولما زعموا أن هذا القرآن هو ألفه، قال الله تعالى: أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين.

ثم تحداهم بعشر سور فقال تعالى: أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون.

ثم تحداهم بسورة واحدة فقال: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا.

وقال تعالى أيضا: أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله.

فعجز جميع الخلق أن يعارضوا ما جاء به ثم سجل على جميع الخلق العجز إلى يوم القيامة بقوله:

قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

فأخبر من ذلك الزمان أن الإنس والجن إذا اجتمعوا لا يقدرون على معارضة القرآن بمثله، فعجز لفظه ومعناه ومعارفه وعلومه أكمل معجزة وأعظم شأنا، والأمر كذلك فإنه لم يقدر أحد من العرب وغيرهم مع قوة عداوتهم وحرصهم على إبطال أمره بكل طريق وقدرتهم على أنواع الكلام أن يأتوا بمثله، وأنزل الله إذ ذاك آيات بين فيها أنه رسول إليهم، ولم يذكر فيها أنه لم يرسل إلى غيرهم. فقال تعالى في سورة القصص: ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين ولكنا أنشأنا قرونا فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاويا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين.

وقال في سورة السجدة: أم يقولون افتراه بل هو الحق من ربك لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون.

وقال في سورة يس: يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون.

ذكر تعالى في هذه الآيات الثلاث نعمته على هؤلاء، وحجته عليهم بإرساله، وذكر بعض حكمته في إرساله وذلك لا يقتضي أنه لم يرسل إلا لهذا، بل مثل هذا كثير معروف في لسان العرب وغيرهم.

قال تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون.

ومعلوم أن في هذه الدواب منافع غير الركوب، وقال تعالى: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق يوم هم بارزون.

فقد أخبر أنه ينزل الملائكة بالوحي على الأنبياء؛ لينذروا يوم القيامة، وذلك لا يمنع أن يكونوا نزلوا بالبشارة للمؤمنين والأمر والنهي بالشرائع.

وقال تعالى: الله الذي خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما.

فأخبر تعالى أنه خلق العالم العلوي والسفلي؛ ليعلم العباد قدرته وعلمه، ومع هذا ففي خلق ذلك له من الحكمة أمور أخرى غير علم العباد، ومثل ذلك قوله تعالى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم.

ومعلوم أن في جعل الكعبة قياما للناس والهدي والقلائد حكما ومنافع أخرى.

وقال تعالى: ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى.

ومعلوم أن في ملك الله حكما أخرى غير جزاء المحسن والمسيء، وكذلك قوله: وخلق الله السماوات والأرض بالحق ولتجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.

وقال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح. إلى قوله: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

ومعلوم أن في إرسال الرسل سعادة من آمن بهم، وغيرها حكم أخرى غير دفع حجة الخلق على الله، وكذلك قوله تعالى: كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم.

ومعلوم أن في تسخيرها حكما ومنافع غير التكبير. وقوله: ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم.

وقال تعالى: وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار.

ومعلوم أن لله حكما في خلق الشمس والقمر، والليل والنهار، غير انتفاع بني آدم، وكذلك قوله: هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه.

وقوله: وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا.

وفيها حكم أخرى.

وقال: وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وفي إنزال الكتاب من هدى من اهتدى به واتعاظه وغير ذلك مقاصد غير الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.

وقال تعالى: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى وعدا عليه حقا ولكن أكثر الناس لا يعلمون ليبين لهم الذي يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين.

ومعلوم أن في مبعث الخلق يوم القيامة مقاصد غير بيان المختلف في علم هؤلاء، ومما يبين ذلك أنه قال في الآية التي احتجوا بها: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم.

ومعلوم أنه لم يبعث لمجرد الإنذار، بل وليبشر من آمن به، ولأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتحليل الطيبات، وتحريم الخبائث، وغير ذلك من مقاصد الرسل، كما قال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين.

وقوله: وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين. لا ينافي كونه لم يصفهم في موضع آخر إلا بالإنذار، وقد قال: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا ماكثين فيه أبدا وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

وكان المسلمون مرة صلوا صلاة العيد بحضرة حصار النصارى فقام خطيبهم فخطب بهذه الآية، ولما قرأ قوله: ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أشار إلى جند الإيمان.

ولما قرأ قوله: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا أشار إلى جند الصلبان.

وقال تعالى: وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.

وفي إنزال الكتاب والميزان حكم أخرى من البشارة والإنذار وغير ذلك، وكذلك قوله: ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا.

وفي بعثهم حكم أخرى بدليل قوله: وكذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق وأن الساعة لا ريب فيها.

وقال تعالى: فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم.

ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من هداية الخلق، وقيام الحجة على من بلغهم وغير ذلك، وقوله: كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب.

وفيه حكم أخرى من قيام الحجة على الخلق وضلال من ضل به، ومثله قوله: هذا بلاغ للناس ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولو الألباب.

ومعلوم أن في ذلك مقاصد أخرى من البشارة والأمر والنهي وغير ذلك، وكذلك قوله: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله.

ومعلوم أن في جزاء المؤمنين مقاصد أخرى غير علم أهل الكتاب وما معه، وقال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها.

ومعلوم أن فيه حكما أخرى مثل تبشير من آمن به، والأمر والنهي، وإنذار غير هؤلاء من العرب.

وقال تعالى: إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين.

ومعلوم أن فيه حكمة أخرى غير الإنذار.

وقال تعالى: ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لينذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين.

ومعلوم أن فيه حكمة أخرى من إنذار الخلق كلهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، وتبشير المؤمنين، فقال تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظاليسأل الصادقين عن صدقهم.

ومعلوم أن في أخذ الميثاق حكما أخرى.

وقال تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما.

وقوله: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى.

وقوله: لنريه من آياتنا.

وكذلك قوله: وجعلنا الليل والنهار آيتين إلى قوله: لتبتغوا فضلا من ربكم ولتعلموا عدد السنين والحساب.

وكذلك قوله: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب.

وفي ذلك كله حكم أخرى، وكذلك قوله: فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا.

وإن كانت هذه لام العاقبة، فليست العاقبة منحصرة في ذلك، بل في ذلك من الإحسان إلى موسى وتربيته وغير ذلك حكم أخرى، ومثل قوله: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم.

وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.

وفي إرساله حكم أخرى، وكذلك قوله: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله.

وفي إنزاله تبشير وإنذار وأمر ونهي ووعد ووعيد وكذلك قوله في عيسى ابن مريم: هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا.

وكذلك قوله: الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره ولتبتغوا من فضله.

وفيه حكم أخرى كما قال في الآية الأخرى: وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها.

وقال: وما يستوي البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحما طريا وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون.

وقال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك إلى قوله: ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون.

وكذلك قوله: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

وفي كونهم وسطا حكم أخرى.

وقوله: الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.

وفيهما حكم أخرى، وكذلك قوله: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.

وفي ذلك حكم أخرى من البشارة والأمر والنهي.

وقال تعالى: وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء.

وفي ذلك حكم أخرى، ومثل ذلك كثير في كلام الله عز وجل وغير كلام الله إذا ذكر حكمة للفعل لم يلزم أن لا تكون له حكمة أخرى، لكن لا بد لتخصيص تلك الحكمة بالذكر في ذلك الموضع من مناسبته، وهذا كالمناسبة في قوله: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم.

فإن هؤلاء كانوا أول المنذرين، وأحقهم بالإنذار، فكان في تخصيصهم بالذكر فائدة لا أنه خصهم لانتفاء إنذار من سواهم.

وقال تعالى: نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين.

ومعلوم أنه نزل به ليكون بشيرا، وليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويحل الطيبات، ويحرم الخبائث، ويضع الآصار والأغلال ﷺ.

فصل: رد احتجاجهم ببعض الآيات على خصوصية الرسالة

وأما احتجاجهم بقوله تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا.

وقوله تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته.

فهذا كقوله تعالى: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم.

وهذا في عمومه نزاع، فإنه إما أن يكون خطابا لجميع الناس، ويكون المراد إنا بعثنا إليكم رسولا من البشر، إذ كنتم لا تطيقون أن تأخذوا عن ملك من الملائكة، فمن الله عليكم بأن أرسل إليكم رسولا بشريا.

قال تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون.

وإما أن يكون الخطاب للعرب، وعلى التقديرين فإن ما تضمن ذكر إنعامه على المخاطبين بإرساله رسولا من جنسهم، وليس في هذا ما يمنع أن يكون مرسلا إلى غيرهم، فإنه إن كان خطابا للإنس كلهم، فهو أيضا مرسل إلى الجن، وليس من جنسهم، فكيف يمتنع إذا كان خطابا للعرب بما امتن به عليهم؟ أن يكون قد امتن على غيرهم بذلك، فالعجم أقرب إلى العرب من الجن إلى الإنس، وقد أخبر في الكتاب العزيز أن الجن لما سمعوا القرآن آمنوا به.

قال تعالى: وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض.

وقال: قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا وأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا وأنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه ومن يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا قل إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا وأقل عددا قل إن أدري أقريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا.

ونظير هذا قوله: وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون.

وقومه قريش، ولا يمنع أنه ذكر لسائر العرب بل لسائر الناس، كما قال تعالى: وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر ويقولون إنه لمجنون وما هو إلا ذكر للعالمين.

وقال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا.

وقال تعالى: قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين إن هو إلا ذكر للعالمين ولتعلمن نبأه بعد حين وقال تعالى: إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بضنين وما هو بقول شيطان رجيم فأين تذهبون إن هو إلا ذكر للعالمين لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين.

وقال تعالى: وأرسلناك للناس رسولا وكفى بالله شهيدا.

وهذا على أصح القولين، وأن المراد بقوله وإنه لذكر لك ولقومك أنه ذكر لهم يذكرونه فيهتدون به.

وقيل: أن المراد أنه شرف لهم وليس بشيء، فإن القرآن هو شرف لمن آمن به من قومه وغيرهم وليس شرفا لجميع قومه، بل من كذب به منهم كان أحق بالذم، كما قال تعالى: تبت يدا أبي لهب.

وقال تعالى: وكذب به قومك وهو الحق.

بخلاف كونه تذكرة وذكرى؛ فإنه تذكرة لهم ولغيرهم، كما قال تعالى: قل لا أسألكم عليه أجرا إن هو إلا ذكرى للعالمين.

فعم العالمين جميعهم، فقال: وما تسألهم عليه من أجر إن هو إلا ذكر للعالمين.

فصل

هذا الكلام على الوجه الأول، وهو قول من يقول أنه لم يقل أنه أرسل إلا إلى العرب.

وأما الوجه الثاني: وهو أن نقول: هو ذكر أنه رسول إلى الناس كافة، كما نطق به القرآن في غير موضع، كقوله تعالى: وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا.

وقوله: يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض.

وقد صرح فيه بدعوة أهل الكتاب وبدعوة الجن في غير موضع، فإذا سلموا أنه ذكر ذلك ولكن كذبوه في ذلك، فإما أن يقروا برسالته إلى العرب، أو لا يقروا.

فإن أقروا بأنه رسول أرسله الله، لم يمكن مع ذلك تكذيبه كما تقدم، بل يجب الإقرار برسالته إلى جميع الخلق كما أخبر بذلك، كما تقدم أن من ذكر أنه رسول الله لا يكون إلا من أفضل الخلق وأصدقهم، أو من شر الخلق وأكذبهم، فإنه إن كان صادقا فهو من أفضلهم وإن كان كاذبا فهو من شرهم، وإذا كان الله قد أرسله - ولو إلى قرية كما أرسل يونس بن متى إلى أهل نينوى - كان من أفضل الخلق، وكان صادقا لا يكذب على الله، ولا يقول عليه إلا الحق، ولو كذب على الله ولو في كلمة واحدة لكان من الكاذبين، لم يكن من رسل الله الصادقين، فإن الكاذب لا يكذب في كل شيء، بل في البعض، فمن كذب على الله في كلمة واحدة، فقد افترى على الله الكذب، وكان من القسم الكاذبين في دعوى الرسالة لا من الصادقين.

وأيضا فإن مقصود الرسالة تبليغ رسالات الله على وجهها، فإذا خلط الكذب بالصدق لم يحصل مقصود الرسالة.

وأيضا فإذا علم أنه كذب في بعضها لم يتميز ما صدق فيه مما كذب فيه إلا بدليل آخر غير رسالته، فلا يحصل المقصود برسالته.

ولهذا أجمع أهل الملل قاطبة على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله تبارك وتعالى لم يقل أحد قط أن من أرسله الله يكذب عليه، وقد قال تعالى ما يبين أنه لا يقر كاذبا عليه، قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين.

وقال تعالى: أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك.

ثم قال تعالى: ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته.

فقوله تعالى: ويمح الله الباطل ويحق الحق كلام مستأنف، ليس داخلا في جواب الشرط، فإنه لو كان معطوفا على جواب الشرط، لقال ويحق الحق بالكسر لالتقاء الساكنين، كما في قوله قم الليل.

فلما قال ويحق الحق بالضم دل على أنه جملة مستأنفة أخبر فيها أنه تعالى يمحو الباطل كباطل الكاذبين عليه، ويحق الحق كحق الصادقين عليه، فمحو الباطل نظير إحقاق الحق، ليس مما علق بالمشيئة، بل لا بد منه، بخلاف الختم على قلبه، فإنه معلق بالمشيئة، ولا يجوز أن يعلق بالمشيئة محو الباطل كتعليق الختم، بل يقذف بالحق على الباطل فيدمغه.

وقال تعالى في صيانته وإحكامه لما تبلغه رسله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم.

وأيضا فإذا لم يكن أرسل إلا إلى العرب، وقد دعا اليهود والنصارى إلى الإيمان به، وكفرهم إذا لم يؤمنوا به، وجاهدهم، وقتل مقاتلهم، وسبى ذرياتهم، كان ذلك ظلما لا يفعله إلا من هو من أظلم الناس، ومن كان نبيا قد أرسله الله فهو منزه عن هذا وهذا.

فالإقرار برسالته إلى العرب دون غيرهم - مع ما ظهر من عموم دعوته للخلق كلهم - قول متناقض ظاهر الفساد، وكل ما دل عليه أنه رسول، فإنه يستلزم رسالته إلى جميع الخلق، وكل من اعترف بأنه رسول لزمه الاعتراف بأنه رسول إلى جميع الخلق، وإلا لزم أن يكون الله أرسل رسولا يفتري عليه الكذب، ويقول للناس: إن الله أمركم باتباعي، وأمرني بجهادكم إذا لم تفعلوا، وهو كاذب في ذلك، ومعلوم أن كل ما دل على أن الله أرسله فإنه يدل على أنه صادق في الرسالة وإلا فلا، فالرسول الكاذب لا يحصل به مقصود الرسالة، بل يكون من جملة المفترين على الله الكذب، وأولئك ليسوا من رسل الله، ولا يجوز تصديقهم في قولهم: إن الله أرسلهم.

هامش

قراءة الجمهور عدا نافع بألف في "على"، وعند نافع: "علي" بتشديد الياء.

===============

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الثاني

المحتويات

المقدمة

فصل: تابع عموم الرسالة

فصل: الرد على النصارى في زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبشر به

فصل: إبطال استدلال النصارى على صحة دينهم بما جاء عن الأنبياء السابقين

إبطال دعوى النصارى إلهية المسيح عليه السلام

فصل: رد دعوى النصارى خصوصية الإسلام لكون كتابه باللسان العربي

فصل: دفع ما يوهم الخصوصية لكون القرآن عربيا

فصل: رد زعم النصارى عصمة الحواريين المترجمين للإنجيل

فصل: الرد على زعمهم الاستغناء بالأنبياء قبله عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

فصل: رد زعمهم بأن عدل الله يقتضي أن لا يطالبوا باتباع من لم يأت إليهم

فصل: رد دعواهم أن من في قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا تقتضي العرب وحدهم

فصل: توسط المسلمين بين تقصي اليهود وغلو النصارى

فصل: الفرق بين ما يضاف إلى الله من صفاته وما يضاف إليه من مخلوقاته

فصل: إبطال دعواهم اتحاد كلمة الله بجسد المسيح

فصل: رد دعواهم الفضل لهم على المسلمين بقوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة

فصل: بيان معنى الروح القدس ودفع اعتقاد النصارى ألوهيته

فصل: رد دعوى النصارى مدح الرهبانية في سورة الحديد

فصل: رد دعوى النصارى أن الله مدحهم في آية من أهل الكتاب أمة قائمة

فصل: رد دعواهم تعظيم الإسلام لمعابدهم

فصل: رفض دعواهم وجوب التمسك بدينهم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم

فصل: رد دعوى النصارى أن الإسلام عظم الحواريين

فصل: رد زعمهم أن الإسلام عظم إنجيلهم الذي بين أيديهم

فصل: قيام الحجة على من بلغته دعوة الرسل

فصل: أسباب ضلال النصارى وأشباههم

فصل: الخوارق التي يضل بها الشياطين أبناء آدم

فصل: عند أهل الكتاب ما يثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم

فصل: نقض دعواهم أن القرآن صدق كتبهم التي بن أيديهم

فصل: رد دعواهم تناقض خبر الأنبياء السابقين مع ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم

فصل: وقوع التبديل في ألفاظ التوراة والإنجيل وانقطاع سندهما

فصل: رد دعوى النصارى أن المسلمين يقولون إن التحريف وقع بعد بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم

دعوة أهل الكتاب إلى الحكم بما في كتبهم من الألفاظ الصحيحة

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الثاني

الصفحة

نقاش

اقرأ

عدّل

تاريخ

أدوات

< الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

الجزء الأول الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

الجزء الثاني

ابن تيمية الجزء الثالث

توجد نسخة مشكولة

فصل: تابع عموم الرسالة

وإما أن لا يقروا برسالته إلى العرب ولا غيرهم بل قالوا فيه ما كان يقوله مشركو العرب من أنه شاعر أو ساحر أو مفتر كاذب ونحو ذلك فيقال: لهم على هذا التقدير فدليلكم أيضا باطل ولا يجوز أن تحتجوا بتقدير تكذيبكم لمحمد ﷺ بشيء من كلام الأنبياء قبله سواء صدقتم محمدا ﷺ في جميع ما يقوله: أو في بعضه أو كذبتموه فدليلكم باطل فيلزم بطلان دينكم على كل تقدير وما ثبت بطلانه على كل تقدير فهو باطل في نفس الأمر فيثبت أنه باطل في نفس الأمر وذلك أنكم إذا كذبتم محمدا لم يبق لكم طريق تعلمون به صدق غيره من الأنبياء فيمتنع مع تكذيبه القول بصدق غيره بل من اعتقد كذبه وصدق غيره لم يكن عالما بصدق غيره بل يكون مصدقا لهم بغير علم وإذا لم يكن عالما بصدقهم لم يجز احتجاجه قط بأقوالهم بل ذلك قول منه بلا علم ومحاجة فيما لا علم له بها، فإن الدلائل الدالة على صدق محمد ﷺ أعظم وأكثر من الدلائل الدالة على صدق موسى وعيسى ومعجزاته أعظم من معجزات غيره والكتاب الذي أرسل به أشرف من الكتاب الذي بعث به غيره والشريعة التي جاء بها أكمل من شريعة موسى وعيسى عليهما السلام وأمته أكمل في جميع الفضائل من أمة هذا وهذا ولا يوجد في التوراة والإنجيل علم نافع وعمل صالح إلا وهو في القرآن أو مثله أو منه وفي القرآن من العلم النافع والعمل الصالح ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل فما من مطعن من مطاعن أعداء الأنبياء يطعن به على محمد ﷺ إلا ويمكن توجيه ذلك الطعن وأعظم منه على موسى وعيسى.

وهذه جملة مبسوطة في موضع آخر لم نبسطها هنا؛ لأن جواب كلامهم لا يحتاج إلى ذلك فيمتنع الإقرار بنبوة موسى وعيسى عليهما السلام مع التكذيب بنبوة محمد ﷺ ولا يفعل ذلك إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم أو من أعظمهم عنادا واتباعا لهواه وذلك أن هؤلاء القوم احتجوا بما نقلوه عن الأنبياء ولم يذكروا الأدلة الدالة على صدقهم بل أخذوا ذلك مسلما وطلبوا أن يحتجوا بما نقلوه عن الأنبياء قبله وبما نقلوه عنه على صحة دينهم وهذه حجة داحضة سواء صدقوه أو كذبوه، فإن صدقوه بطل دينهم وإن كذبوه بطل دينهم، فإنهم إن صدقوه فقد علم أنه دعاهم وجميع أهل الأرض إلى الإيمان به وطاعته كما دعا المسيح وموسى وغيرهما من الرسل وأنه أبطل ما هم عليه من الاتحاد وغيره وكفرهم في غير موضع ولهذا كان مجرد التصديق بأن محمدا رسول الله ولو إلى العرب يوجب بطلان دين النصارى واليهود وكل دين يخالف دينه، فإن من كان رسولا لله، فإنه لا يكذب على الله ومحمد ﷺ قد علم منه أنه دعا النصارى واليهود إلى الإيمان به وطاعته كما دعا غيرهم وأنه كفر من لم يؤمن به ووعده النار وهذا متواتر عنه تواترا تعلمه العامة والخاصة وفي القرآن من ذلك ما يكثر ذكره كما قال تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة * رسول من الله يتلو صحفا مطهرة * فيها كتب قيمة * وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة * إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية * جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه

وقال تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب * فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد.

وقد ذكر كفر اليهود والنصارى في غير موضع كقوله تعالى: عن النصارى لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا.

وقال تعالى: أيضا لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون * قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم * قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وقال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا * يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا * فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به فسيدخلهم في رحمة منه وفضل ويهديهم إليه صراطا مستقيما

وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

وقال تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب * ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد.

فقد قال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم في الموضعين.

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وقال تعالى: ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم.

وقال تعالى: وقالت النصارى المسيح ابن الله.

والنصارى قالت الأقوال الثلاثة فذكر الله عنهم هذه الأقوال لكن من الناس من يظن أن هذا قول طائفة منهم وهذا قول طائفة منهم.

كما ذكره طائفة من المفسرين كابن جرير الطبري والثعلبي وغيرهما ثم تارة يحكون عن اليعقوبية أن عيسى هو الله وعن النسطورية أنه ابن الله وعن المريوسية أنه ثالث ثلاثة وتارة يحكون عن النسطورية أنه ثالث ثلاثة وعن الملكية أنه الله ويفسرون قولهم: ثالث ثلاثة بالآب والابن وروح القدس.

والصواب أن هذه الأقوال جميعها قول طوائف النصارى المشهورة الملكية واليعقوبية والنسطورية، فإن هذه الطوائف كلها تقول بالأقانيم الثلاثة الأب والابن وروح القدس، فتقول إن الله ثالث ثلاثة وتقول عن المسيح أنه الله وتقول أنه ابن الله وهم متفقون على اتحاد اللاهوت والناسوت وأن المتحد هو الكلمة وهم متفقون على عقيدة إيمانهم التي تتضمن ذلك وهو قولهم: نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل خالق السماوات والأرض كل ما يرى وما لا يرى وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الآب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق مولود غير مخلوق.

وأما قوله تعالى: ولا تقولوا ثلاثة وقوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة.

فقد فسروه بالتثليث المشهور عنهم المذكور في أمانتهم ومن الناس من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم قول اليعقوبية وقولهم ثالث ثلاثة هو قول النصارى الذين يقولون بالآب والابن والروح القدس وهم قد جعلوا الله فيها ثالث ثلاثة وسموا كل واحد من الثلاثة بالإله والرب وقد فسره طائفة بجعلهم عيسى وأمه إلهين يعبدان من دون الله.

قال السدي في قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة.

قال: قالت النصارى إن الله هو المسيح وأمه فذلك قوله: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله وقد قيل قول ثالث أغرب من ذلك عن أبي صخر قال لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة قال: هو قول اليهود عزير ابن الله وقول النصارى المسيح ابن الله فجعلوا الله ثالث ثلاثة وهذا ضعيف وقد ذكر سعيد بن البطريق في أخبار النصارى أن منهم طائفة يقال لهم المريميون يقولون إن مريم إله وإن عيسى إله.

وأما الأول فمتوجه، فإن النصارى المتفقين على الأمانة كلهم يقولون إن الله ثالث ثلاثة والله تعالى قد نهاهم عن أن يقولوا ذلك فقال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم فذكر سبحانه في هذه الآية التثليث والاتحاد ونهاهم عنهما وبين أن المسيح إنما هو رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

وقال: فآمنوا بالله ورسله ثم قال ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم؛ لم يذكر هنا أمه. وقوله تعالى: وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه قال: معمر عن قتادة وكلمته ألقاها إلى مريم هو قوله: كن فكان.

وكذلك قال: قتادة ليس الكلمة صار عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى.

وكذلك قال: الإمام أحمد في مصنفه الذي صنفه في كتابه في الرد على الجهمية وذكره عنه الخلال والقاضي أبو يعلى قال: أحمد: ثم إن الجهم ادعى أمرا فقال: إنا وجدنا في كتاب الله آية تدل على أن القرآن مخلوق قلنا: أي آية قال: قول الله إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته فقلنا: إن الله منعكم الفهم في القرآن عيسى تجري عليه ألفاظ لا تجري على القرآن؛ لأن عيسى يجري عليه نسمة ومولود وطفل وصبي وغلام يأكل ويشرب وهو يخاطب بالأمر والنهي يجري عليه الوعد والوعيد هو من ذرية نوح ومن ذرية إبراهيم ولا يحل لنا أن نقول في القرآن ما نقول في عيسى هل سمعتم الله يقول في القرآن ما قال عيسى؟ ولكن المعنى في قوله - جل ثناؤه - إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فالكلمة التي ألقاها إلى مريم حين قال: له كن فكان عيسى بـ كن وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان فالكن من الله قوله: وليس الكن مخلوقا وكذبت النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى وذلك أن الجهمية قالوا: عيسى روح الله وكلمته؛ لأن الكلمة مخلوقة.

وقالت النصارى روح الله من ذات الله وكلمة الله من ذات الله كما يقال هذه الخرقة من هذا الثوب وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان وليس عيسى هو الكلمة.

قال أحمد وأما قوله - جل ثناؤه - وروح منه يقول من أمره كان الروح فيه كقوله: وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه يقول من أمره، وتفسير روح الله إنما معناها أنها روح بكلمة الله خلقهم الله كما يقال: عبد الله وسماء الله، وفي نسخة روح يملكها الله خلقها الله.

وقال: الشعبي في قوله تعالى: وكلمته ألقاها إلى مريم الكلمة حين قال: له كن فكان عيسى بـ " كن " وليس عيسى هو الكن، ولكن بالكن كان.

وقال: ليث عن مجاهد روح منه قال: رسول منه يريد مجاهد قوله: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك

والمعنى أن عيسى خلق من الروح وهو جبريل روح القدس سمي روحا كما سمي كلمة؛ لأنه خلق بالكلمة والنصارى يقولون في أمانتهم تجسد من مريم ومن روح القدس؛ لأنه كذلك في الكتب المتقدمة لكن ظنوا أن روح القدس هو صفة لله وجعلوها حياته وقدرته وهو رب، وهذا غلط منهم، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء حياة الله ولا قدرته ولا شيئا من صفاته روح القدس، بل روح القدس في غير موضع من كلام الأنبياء عليهم السلام يراد بها ما ينزله الله على قلوب الأنبياء كالوحي والهدى والتأييد ويراد بها الملك وهكذا في تفسير ابن السائب عن أبي صالح عن ابن عباس أن عيسى ابن مريم استقبل رهطا من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه فلما سمع عيسى ذلك قال اللهم أنت ربي وأنا من روحك خرجت وبكلمتك خلقتني ولم آتهم من تلقاء نفسي وذكر تمام الحديث.

وقد قال تعالى: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين وقال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا فهذا يوافق قوله تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك.

والمقصود هنا أنهم سواء صدقوا محمدا أو كذبوه، فإنه يلزم بطلان دينهم على التقديرين، فإنه إن كان نبيا صادقا فقد بلغ عن الله في هذا الكتاب كفر النصارى في غير موضع ودعاهم إلى الإيمان به وأمر بجهادهم فمن علم أنه نبي ولو إلى طائفة معينة يجب تصديقه في كل ما أخبر به وقد أخبر بكفر النصارى وضلالهم وإذا ثبت هذا لم يغن عنهم الاحتجاج بشيء من الكتب والمعقول، بل يعلم من حيث الجملة أن كل ما يحتجون به على صحة دينهم فهو باطل وإن لم يبين فساد حججهم على التفصيل؛ لأن الأنبياء لا يقولون إلا حقا كما أن المسيح لما حكم بكفر من كذبه من اليهود كان كل ما يحتج به اليهود على خلاف ذلك باطلا فكل ما عارض قول النبي ﷺ المعصوم فهو باطل وإن كذبوا محمدا تكذيبا عاما مطلقا وقالوا ليس هو نبي أصلا ولا أرسل إلى أحد لا إلى العرب ولا إلى غيرهم بل كان كذابا امتنع مع هذا أن يصدقوا بنبوة غيره، فإن الطريق الذي يعلم به نبوة موسى وعيسى يعلم به نبوة محمد ﷺ بطريق الأولى فإذا قالوا: علمت نبوة موسى والمسيح بالمعجزات وعرفت المعجزات بالنقل المتواتر إلينا قيل لهم معجزات محمد ﷺ أعظم وتواترها أبلغ والكتاب الذي جاء به محمد ﷺ أكمل وأمته أفضل وشرائع دينه أحسن وموسى جاء بالعدل وعيسى جاء بتكميلها بالفضل وهو ﷺ قد جمع في شريعته بين العدل والفضل.

فإن ساغ لقائل أن يقول هو مع هذا كاذب مفتر كان على هذا التقدير الباطل غيره أولى أن يقال فيه ذلك. فيبطل بتكذيبهم محمدا ﷺ جميع ما معهم من النبوات إذ حكم أحد الشيئين حكم مثله فكيف بما هو أولى منه؟ فلو قال قائل إن هارون ويوشع وداود وسليمان كانوا أنبياء وموسى لم يكن نبيا أو أن داود وسليمان ويوشع كانوا أنبياء والمسيح لم يكن نبيا. أو قال ما تقوله السامرة: أن يوشع كان نبيا ومن بعده كداود وسليمان والمسيح لم يكونوا أنبياء. أو قال ما يقوله اليهود: إن داود وسليمان وأشعيا وحبقوق ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء والمسيح بن مريم لم يكن نبيا كان هذا قولا متناقضا معلوم البطلان، فإن الذين نفى هؤلاء عنهم النبوة أحق بالنبوة وأكمل نبوة ممن أثبتوها له ودلائل نبوة الأكمل أفضل فكيف يجوز إثبات النبوة للنبي المفضول دون الفاضل وصار هذا كما لو قال قائل أن زفر وابن القاسم والمزني والأثرم كانوا فقهاء وأبا حنيفة ومالكا والشافعي وأحمد لم يكونوا فقهاء أو قال: إن الأخفش وابن الأنباري والمبرد كانوا نحاة والخليل وسيبويه والفراء لم يكونوا نحاة أو قال: إن صاحب الملكي والمسبحي ونحوهما من كتب الطب كانوا أطباء وبقراط وجالينوس ونحوهما لم يكونوا أطباء أو قال: إن كوشيار والخرقي ونحوهما كانوا يعرفون علم الهيئة وبطليموس ونحوه لم يكن لهم علم بالهيئة.

ومن قال: إن داود وسليمان ومليخا وعاموص ودانيال كانوا أنبياء ومحمد بن عبد الله لم يكن نبيا فتناقضه أظهر وفساد قوله أبين من هذا جميعه بل وكذلك من قال: إن موسى وعيسى رسولان والتوراة والإنجيل كتابان منزلان من عند الله ومحمد ليس برسول والقرآن لم ينزل من الله فبطلان قوله في غاية الظهور والبيان لمن تدبر ما جاء به محمد ﷺ وما جاء به من قبله، وتدبر كتابه والكتب التي قبله وآيات نبوته وآيات نبوة هؤلاء وشرائع دينه وشرائع دين هؤلاء وهذه الجملة مفصلة مشروحة في غير هذا الموضع لكن المقصود هنا التنبيه على مجامع جوابهم وهؤلاء القوم لم يأتوا بدليل واحد يدل على صدق من احتجوا به من الأنبياء فلو ناظرهم من يكذب بهؤلاء الأنبياء كلهم من المشركين والملاحدة لم يكن فيما ذكروه حجة لهم ولا حجة لهم أيضا على المسلمين الذين يقرون بنبوة هؤلاء، فإن جمهور المسلمين إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بإخبار محمد أنهم أنبياء فيمتنع أن يصدقوا بالفرع مع القدح في الأصل الذي به علموا صدقهم.

وأيضا فالطريق الذي به علمت نبوة هؤلاء بما ثبت من معجزاتهم وأخبارهم، فكذلك تعلم نبوة محمد بما ثبت من معجزاته وأخباره بطريق الأولى فيمتنع أن يصدق أحد من المسلمين بنبوة واحد من هؤلاء مع تكذيبه لمحمد في كلمة مما جاء به.

فصل: الرد على النصارى في زعمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبشر به

ومما ينبغي أن يعلم أن كثيرا من النصارى إنما يعتمدون في النبوات على بشارة الأنبياء بمن يأتي بعدهم فيقولون: المسيح بشرت به الأنبياء قبله بخلاف محمد ﷺ، فإنه لم يبشر به نبي وجواب هؤلاء من وجهين.

أحدهما أن يقال: بل البشارة بمحمد ﷺ في الكتب المتقدمة أعظم من البشارة بالمسيح وكما أن اليهود يتأولون البشارة بالمسيح على أنه ليس هو عيسى بن مريم بل هو آخر ينتظرونه وهم في الحقيقة إنما ينتظرون المسيح الدجال، فإنه الذي يتبعه اليهود ويخرج معه سبعون ألف مطيلس من يهود أصبهان ويقتلهم المسلمون معه حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، كما ثبت ذلك في الصحيح عن النبي ﷺ وثبت أيضا في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم من السماء على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويقتل مسيح الهدى عيسى ابن مريم مسيح الضلالة الأعور الدجال على بضع عشرة خطوة من باب لد ليتبين للناس أن البشر لا يكون إلها، فيقتل من ادعى فيه أنه الله وهو بريء مما ادعى فيه لمن ادعى في نفسه أنه الله وهو دجال كذاب، فهكذا البشارات بمحمد ﷺ في الكتب المتقدمة، وقد يتأولها بعض أهل الكتاب على غير تأويلها، كما قد بسط في موضع آخر، فإن بسط الكلام في ذكر محمد ﷺ في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب له موضع آخر.

الجواب الثاني: أن يقال ليس من شرط النبي أن يبشر به من تقدمه كما أن موسى كان رسولا إلى فرعون، ولم يتقدم لفرعون به بشارة وكذلك الخليل أرسل إلى نمرود ولم يتقدم به بشارة نبي إليه وكذلك نوح وهود وصالح وشعيب ولوط لم يتقدم هؤلاء بشارة إلى قومهم بهم مع كونهم أنبياء صادقين، فإن دلائل نبوة النبي لا تنحصر في أخبار من تقدمه بل دلائل النبوة منها المعجزات ومنها غير المعجزات كما قد بسط في موضع آخر وهؤلاء النصارى إنما مستند دينهم في التثليث والاتحاد وغير ذلك هو السمع وهو دعواهم أن الكتب الإلهية جاءت بذلك ليس مستندهم فيه العقل فإذا تبين أنهم مع تكذيبهم بمحمد ﷺ يمتنع أن تثبت نبوة غيره امتنع استدلالهم بالسمعيات وأما العقليات، فإن تشبثوا ببعضها فهم معترفون بأن حجتهم فيها ضعيفة وأنها على نقيض مذهبهم أدل منها على مذهبهم وسنبين إن شاء الله تعالى أن لا حجة لهم في سمع ولا عقل بل ذلك كله حجة عليهم.

وأما تمثيلهم الكتاب بالوثيقة التي كتب الوفاء في ظهرها فتمثيل باطل غير مطابق؛ لأن الإقرار بالوفاء إقرار بسقوط الدين ولا مناقضة بين ثبوت الدين أولا وسقوطه آخرا بالوفاء بل أمكن مع هذا دعواه وأما من يذكر أنه رسول الله فلا يمكن أن يقر بأنه رسول الله في بعض ما أنبأ به عن الله دون بعض، ولا يمكن اتباع بعض كتابه الذي ذكر أنه منزل من عند الله دون بعض، فإنه إن كان صادقا في قوله: إنه رسول الله، كان معصوما في ما يخبر به عن الله، لا يجوز أن يكذب في شيء منه لا عمدا ولا خطأ، ووجب اتباع الكتاب الذي جاء به من عند الله ولم يمكن رد شيء مما ذكر أنه جاء به من الله، وإن كان كاذبا في كلمة واحدة مما أخبر به عن الله، فهو من الكاذبين المفترين فلا يجوز أن يحتج بشيء من دينهم ولا دين غيرهم بمجرد إخباره عن الله، بل ولا بمجرد خبره وقوله وإن لم يذكر أنه خبر عن الله، كما لا يجوز مثل ذلك في سائر من عرف أنه كاذب في قوله: إني رسول الله كمسيلمة الحنفي والأسود العنسي وطليحة الأسدي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وأمثالهم من الكذابين.

والواحد من المسلمين وإن كان الله لا يؤاخذه بالنسيان والخطأ بل والرسول أيضا وإن لم يكن يؤاخذ بالنسيان والخطأ في غير ما يبلغه عن الله عند السلف والأئمة وجمهور المسلمين، لكن ما يبلغه عن الله لا يجوز أن يستقر فيه خطأ، فإنه لو جاز أن يبلغ عن الله ما لم يقله ويستقر ذلك ويأخذه الناس عنه معتقدين أن الله قاله - ولم يقله الله - كان هذا مناقضا لمقصود الرسالة ولم يكن رسولا لله في ذلك بل كان كاذبا في ذلك وإن لم يتعمده وإذا بلغ عن الله ما لم يقله وصدق في ذلك كان قد صدق من قال على الله غير الحق، ومن تقول عليه ما لم يقله، وإن لم يكن متعمدا، ويمتنع في مثل هذا أن يصدقه الله في كل ما يخبر به عنه أو أن يقيم له من الآيات والبراهين ما يدل على صدقه في كل ما يخبر به عنه مع أن الأمر ليس كذلك ومن قامت البراهين والآيات على صدقه فيما يبلغه عن الله كان صادقا في كل ما يخبر به عن الله لا يجوز أن يكون في خبره عن الله شيء من الكذب لا عمدا ولا خطأ، وهذا مما اتفق عليه جميع الناس من المسلمين واليهود والنصارى وغيرهم لم يتنازعوا أنه لا يجوز أن يستقر في خبره عن الله خطأ وإنما تنازعوا هل يجوز أن يقع من الغلط ما يستدركه ويبينه فلا ينافي مقصود الرسالة كما نقل من ذكر " تلك الغرانيق العلى، وأن شفاعتها لترتجى " هذا فيه قولان للناس: منهم من يمنع ذلك أيضا وطعن في وقوع ذلك، ومن هؤلاء من قال: إنهم سمعوا ما لم يقله فكان الخطأ في سمعهم والشيطان ألقى في سمعهم.

ومن جوز ذلك قال: إذا حصل البيان ونسخ ما ألقى الشيطان لم يكن في ذلك محذور، وكان ذلك دليلا على صدقه وأمانته وديانته، وأنه غير متبع هواه ولا مصر على غير الحق، كفعل طالب الرياسة المصر على خطئه.

وإذا كان نسخ ما جزم بأن الله أنزله لا محذور فيه، فنسخ مثل هذا أولى أن لا يكون فيه محذور، واستدل على ذلك بقوله: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهاد الذين آمنوا إلى صراط مستقيم

وعلى كل قول فالناس متفقون على أن من أرسله الله وأقام الآيات على صدقه فيما يبلغه عن الله: لم يكن ما يبلغه عنه إلا حقا وإلا كانت الآيات الدالة على صدقه دلت على صدق من ليس بصادق، وبطلان مدلول الأدلة اليقينية ممتنع.

والصدق الذي هو مدلول آيات الأنبياء وبراهينهم هو أن يكون خبره عن الله مطابقا لمخبره لا يخالفه عمدا ولا خطأ ولو قال قائل: أنا لا أسمي الخطأ كذبا أو قال: إن المخطئ لا إثم عليه في خطئه.

قيل له: هذا لا ينفع هنا، فإن الآيات دلت على أن الله أرسله ليبلغ عنه رسالاته، والله لا يرسل من يعلم أنه يخبر عنه بخلاف ما قال له، كما لا يجوز إرسال من يتعمد عليه الكذب بل الواحد من الناس لا يرسل من يعلم أنه يبلغ خلاف ما أرسله به ولو علم أنه يقول عليه ما لم يقل وأرسله مع ذلك، لكان جاهلا سفيها ليس بعليم حكيم، فكيف يجوز ذلك على أعلم العالمين وأحكم الحاكمين؟.

وأيضا: فإن الآيات والبراهين دلت على صدقه في كل ما يبلغه عن الله، وأن الله مصدقه في كل ما يبلغه عنه، فيمتنع أن لا يكون صادقا في شيء من ذلك، ويمتنع أن يصدق الله في كل ذلك من لا يصدق في كل ذلك، فإن تصديق من لا يصدق كذب والكذب ممتنع على الله.

وإذا تبين أن من ذكر أنه رسول الله إما أن يكون رسولا صادقا في جميع ما يبلغه فيمتنع مع هذا تناقض أخباره؛ لأنها كلها صادقة، وإما أن يكون غير صادق ولو في كلمة فلا يكون رسولا لله، فلا يحتج بشيء مما يخبر به عن الله كان تمثيل من ذكر أنه رسول الله بالمقر باستيفاء وثيقته تمثيلا باطلا، فإن صاحب الوثيقة الذي أقر بوفائها بعد، كانت له حجة ثم استوفاها.

ومن ذكر أنه رسول الله إما صادق وإما كاذب، وعلى التقديرين لا يجوز أن يحتج ببعض كلامه دون بعض، وإذا قال القائل: مقصودي أبين أنه متناقض، وأن نفس كلامه يبين أنه لم يرسل إلينا، وأن ديننا حق، كما أن نفس كلام الذي كان له الحق هو المقر بالوفاء، قيل: إن كان كلامه متناقضا فليس برسول، وحينئذ فلا يجوز لك أن تحتج بشيء مما بلغه عن الله بخلاف المقر بالوفاء، فإن إقراره مقبول على نفسه، فإنه شاهد على نفسه بالوفاء، وإقرار المقر على نفسه وشهادته على نفسه مقبولة ولو كان كافرا وفاسقا، بخلاف شهادته وخبره عن الله.

فمن شبه إقرار المقر على نفسه بقول الذي يقول: إنه رسول الله، دل ذلك على غاية جهله بالقياس والاعتبار والتمثيل. فإن إقرار المقر على نفسه حجة عليه ولو كان فاسقا معروفا بالكذب، ليس هو مثل شهادة الإنسان على غيره، فإن شهادته على غيره لا تقبل إذا كان معروفا بالكذب، فكيف بمن شهد على الله بأن الله أرسله؟ فالمقر على نفسه يمكن قبول إقراره على نفسه ولا يقبل دعواه على غيره، وكذلك الشاهد قد تقبل شهادته فيما ليس هو خصما فيه ولا تقبل شهادته بما ادعاه.

وأما من يقول: إنه رسول الله، فلا يمكن أن يصدق في بعض ما يخبر به عن الله ويكذب في بعض، بل إن كان كاذبا في كلمة واحدة فليس هو رسولا لله، فلا يحتج بكلامه، وإن قدر أن الكلام في نفسه صدق لكن نسبته إلى الله أن الله أرسله به وأوحاه لا يكون صادقا فيه إذا كذب في كلمة واحدة؛ لأن الله لا يرسل كاذبا.

وإن لم يكن كاذبا في كلمة واحدة وجب تصديقه في كل ما يخبر به فلا يمكن تصديقه في بعض ما يخبر به عن الله دون بعض بخلاف المقر والشاهد.

وإن كان المقصود بيان تناقضه، كان هذا احتجاجا على أنه ليس برسول فلا ينفعهم ذلك مع أنه تبين أنه ليس بمتناقض.

وإن كان المقصود إلزام المسلمين به، فقد بينا أنه لا يلزمهم من وجوه متعددة، فهذا بيان أنهم لا يجوز لهم الاحتجاج بشيء من كلام محمد ﷺ سواء صدقوه أو كذبوه.

ثم يقال لهم ثانيا: في الجواب عن التمثيل بالوثيقة: إن الإقرار بالاستيفاء يناقض استيفاء الحق، وأما القرآن الذي جاء به محمد ﷺ فليس في إخباره بأنه أرسل إلى قريش ثم إلى العرب ما يناقض إخباره بأنه أرسل إلى جميع الناس: أهل الكتاب وغيرهم.

كما أنه ليس في إخباره أنه أرسل إلى بني إسرائيل ومخاطبة الله لهم بقوله: يابني إسرائيل ما يمنعه أن يكون مرسلا إلى اليهود من غير بني إسرائيل وإلى النصارى والمشركين وهو لم يقل قط: إني لم أرسل إلا إلى العرب ولا قال ما يدل على هذا بل ثبت عنه بالنقل المتواتر أنه قال: إنه مرسل إلى جميع الجن والإنس إلى أهل الكتاب وغيرهم، ولو قدر أنه قال: أنه لم يرسل إلا إلى العرب ثم قال: إني أرسلت إلى أهل الكتاب لكان قد أرسل إلى أهل الكتاب بعد إرساله إلى العرب كما قال: قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير

وقال أيضا: إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير ثم إنه بعد هذا حرم الله أشياء فلم يكن بين نفي تحريمها في الزمن الأول وإثبات تحريمها في الزمن الثاني منافاة.

ولكن يظهر الدين إذا أوجب شيئا ثم نسخ إيجابه كما نسخ إيجاب الصدقة بين يدي النجوى ففي مثل هذا يتمسك بالنص الناسخ دون المنسوخ كما يتمسك بالإقرار بالوفاء الناسخ للإقرار بالدين.

فصل: إبطال استدلال النصارى على صحة دينهم بما جاء عن الأنبياء السابقين

وقد ذكرنا أنه لا يجوز أن يحتجوا بشيء من القرآن وما نقل عن محمد ﷺ إلا مع التصديق برسالته وأنه مع التكذيب برسالته لا يمكن الإقرار بنبوة غيره ولا الاحتجاج بشيء من كلام الأنبياء فتكذيبهم يستلزم تكذيبهم بغيره فإذا ثبتت نبوة غيره ثبتت نبوته وذلك يستلزم بطلان دينهم فكان صحة دليلهم يستلزم بطلان المدلول وفساد المدلول يستلزم فساد الدليل، فإن الدليل ملزوم للمدلول عليه وإذا تحقق الملزوم تحقق اللازم وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم فإذا ثبت الدليل ثبت المدلول عليه وإذا فسد المدلول عليه لزم فساد الدليل، فإن الباطل لا يقوم عليه دليل صحيح.

فإن كان محمد رسول الله ﷺ لزم بطلان دينهم وإذا بطل دينهم لم يجز أن يقوم دليل صحيح على صحته وإن لم يكن رسول الله لم يجز الاستدلال بقوله فثبت أن استدلالهم بقوله باطل على التقديرين.

ونحن نذكر هنا أنه لا يجوز استدلالهم بقول أحد من الأنبياء أو الرسل على صحة دينهم وأيضا، فإن الذين احتجوا بقولهم مثل موسى وداود والمسيح وغيرهم إما أن يكونوا عرفوا أنهم أنبياء بدليل على نبوتهم كالاستدلال بآياتهم وبراهينهم التي تسمى بالمعجزات وإما أن يكونوا قد اعتقدوا ذلك بلا علم ولا دليل وإما أن يكونوا احتجوا بذلك على المسلمين لأنهم يسلمون نبوة هؤلاء وعلى كل تقدير لا يصح استدلالهم بقولهم.

أما على الأول فلأنه أي طريق ثبتت بها نبوة واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم السلام، فإنه تثبت نبوة محمد ﷺ بمثلها وأعظم منها وحينئذ، فإن لم يقروا بنبوة محمد ﷺ مع أن كل دليل يدل على نبوة موسى وداود وعيسى وغيرهم يدل على نبوة محمد ﷺ لزم أن يكونوا قد نقضوا دليلهم فجعلوه قائما مع انتفاء مدلوله وإذا انتقض الدليل بطلت دلالته، فإنه إنما يدل إذا كان مستلزما للمدلول.

فإذا كان تارة يوجد مع المدلول وتارة لا يوجد لم يكن مستلزما له فلا يكون دليلا؛ فإن من جعل المعجزات دليلا على نبوة نبي وقال: المعجزة هي الفعل الخارق للعادة المقرون بالتحدي السالم من المعارضة، ونحو ذلك مما يذكر في هذا المقام وجعلوا ذلك دليلا على نبوة موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء.

قيل له: إن كان هذا دليلا فهو دليل على نبوة محمد ﷺ وإن لم يكن دليلا لم يكن دليلا على نبوة موسى وعيسى، فإنه قد ثبت عن محمد من المعجزات ما لم يثبت مثله عن غيره ونقل معجزاته متواتر أعظم من نقل معجزات عيسى وغيره فيمتنع التصديق بآياته مع التكذيب بآيات محمد ﷺ.

وإن قالوا: معجزات محمد ﷺ لم تتواتر عندنا قيل: ليس من شرط التواتر أن يتواتر عند طائفة معينة بل هذا كما يقول المشركون والمجوس وغيرهم لم يتواتر عندنا معجزات موسى والمسيح عليهما السلام وإنما تتواتر أخبار كل إنسان عند من رأى المشاهدين له أو رأى من رآهم وهلم جرا.

ومعلوم أن أصحاب محمد ﷺ الذين رأوه ونقلوا معجزاته أضعاف أصحاب المسيح والتابعون الذين نقلوا ذلك عن الصحابة كذلك فيلزم من التصديق بمعجزات المسيح التصديق بمعجزات محمد ﷺ ومن التكذيب بمعجزات محمد التكذيب بمعجزات المسيح.

وإن قالوا: عرفت نبوة المسيح ببشارات الأنبياء قبله قيل: وفي الكتب المتقدمة من البشارات بمحمد ﷺ مثل ما فيها من البشارات بالمسيح وأكثر كما سيأتي بعضها إن شاء الله تعالى.

وإن تأولوا تلك البشارات بمحمد ﷺ بما يمنع دلالتها قيل لهم واليهود يتأولون بشارات المسيح بما يمنع دلالتها على المسيح.

فإذا قالوا: تلك التأويلات باطلة من وجوه معروفة، بين لهم أن هذه باطلة أيضا بمثل تلك الوجوه وأقوى فما من جنس من الأدلة يدل على نبوة موسى والمسيح إلا ودلالته على نبوة محمد ﷺ أقوى وأكثر فيلزم من ثبوت نبوة موسى والمسيح ثبوت نبوة محمد ﷺ ومن الطعن في نبوة محمد ﷺ الطعن في نبوة موسى والمسيح.

وإن قالوا: إن المسيح إله قيل لهم: ثبوت كونه إلها لو كان ممكنا أبعد من ثبوت كونه رسولا فكيف إذا كان ممتنعا؟.

وذلك أنه ليس معهم ما يدل على إلهيته إلا ما ينقلونه من أقوال الأنبياء أو الخوارق والخوارق لا تدل على الإلهية، فإن الأنبياء ما زالوا يأتون بالآيات الخارقة للعادة ولم تدل على إلهية أحد منهم.

وأما أقوال الأنبياء عليهم السلام فلا ريب أن دلالتها على رسالته ورسالة محمد ﷺ أظهر من دلالتها على إلهية المسيح فيمتنع الاحتجاج بها على إلهية المسيح دون رسالة محمد ﷺ ورسالة المسيح ومتى ثبت أن محمدا رسول الله ﷺ بطلت إلهية المسيح، فإنه كفر من قال: إنه الله أو ابن الله بل وكذلك متى ثبت أن المسيح رسول الله بطل كونه إلها، فإن كونه هو الله مع كونه رسول الله متناقض.

إبطال دعوى النصارى إلهية المسيح عليه السلام

وقولهم إنه إله بلاهوته ورسول بناسوته كلام باطل من وجوه.

منها أن الذي كان يكلم الناس إما أن يكون هو الله أو هو رسول الله، فإن كان هو الله بطل كونه رسول الله وإن كان رسول الله بطل كونه هو الله.

ولهذا لما كان الذي كلم موسى من الشجرة هو الله لم تنطق الكتب بأنه رسول الله، وهذا وارد بأي وجه فسروا الاتحاد، فإنه من المعلوم أن الناس كانوا يسمعون من المسيح كلاما بصوته المعروف وصوته لم يختلف ولا حاله عند الكلام تغيرت كما يختلف الإنسان وحاله عند الكلام إذا حل فيه الجني وإذا فارقه الجني، فإن الجني إذا تكلم على لسان المصروع ظهر الفرق بين ذلك المصروع وبين غيره من الناس بل اختلف حال المصروع وحال كلامه وسمع منه من الكلام ما يعلم يقينا أنه لا يعرفه وغاب عقله بحيث

يظهر ذلك للحاضرين واختلف صوته ونغمته فكيف بمن يكون رب العالمين هو الحال فيه المتحد به المتكلم بكلامه.

فإنه لا بد أن يكون بين كلامه وصوته وكلام سائر البشر وصوتهم من الفرق أعظم من الفرق الذي بين المصروع وغير المصروع بما لا نسبة بينهما.

يبين هذا أن موسى لما سمع كلامه سمع صوتا خارقا للعادة مخالفا لما يعهد من الأصوات ورأى من الآيات الخارقة والعجائب ما يبين أن ذلك الذي سمعه لا يقدر على التكلم به إلا الله وأما المسيح فلم يكن بين كلامه وصوته مع طول عمره وكلام سائر الناس فرق يدل على أنه نبي فضلا عن أن يدل على أنه إله وإنما علم أنه نبي بأدلة منفصلة ولم يكن حاله يختلف مع أنهم يقولون: أن الاتحاد ملازم له من حين خلق ناسوته في بطن أمه مريم وإلى الأبد لا يفارق اللاهوت لذلك الناسوت أبدا وحينئذ فمن المعلوم أن خطابه للناس إن كان خطاب رب العالمين لم يكن هو رسوله وإن كان خطاب رسوله لم يكن ذلك صوت رب العالمين.

الوجه الثاني: أن خطابه خطاب رسول ونبي كما ثبت ذلك عنه في عامة المواضع.

الثالث: أن مصير الشيئين شيئا واحدا مع بقائهما على حالهما بدون الاستحالة، والاختلاط ممتنع في صريح العقل وإنما المعقول مع الاتحاد أن يستحيلا ويختلطا كالماء مع الخمر واللبن، فإنهما إذا صار شيئا واحدا استحالا واختلطا.

الرابع: أنه مع الاتحاد يصير الشيئان شيئا واحدا فيكون الإله هو الرسول، والرسول هو الإله؛ إذ هذا هو هذا، وإن كان الإله غير الرسول فهما شيئان ومهما مثلوا به قولهم كتشبيههم ذلك بالنار في الحديد والروح في البدن، فإنه يدل على فساد قولهم:، فإن الحديد متى طرق أو وضع في الماء كان ذلك مصيبا للنار وكذلك البدن إذا جاع أو صلب وتألم كان ذلك الألم مصيبا للروح فيلزم أن يكون رب العالمين قد أصابه ألم الجوع والعطش وكذلك الضرب والصلب على قولهم وهذا شر من قول اليهود: أنه فقير وأنه بخيل وأنه مسه اللغوب.

فصل

وإن كان مقصودهم الاحتجاج بذلك على المسلمين قيل لهم: أولا هذه حجة جدلية فما مستندكم فيما بينكم وبين الله في تصديق شخص وتكذيب آخر مع أن دلالة الصدق فيهما واحدة بل هي في الذي كذبتموه أظهر، فإن كانت حقا لزم تصديق من كذبتموه وفسد دينكم وإن كانت باطلة بطل استدلالكم بها على دينكم فثبت أنهم مع تكذيب محمد ﷺ لا يستقيم لهم الاستدلال بكلام أحد من الأنبياء عليهم السلام.

وقيل لهم ثانيا: المسلمون إنما عرفوا صدق هؤلاء الأنبياء بما دلهم على صدق محمد ﷺ فإن لم يكن محمد صادقا لم يعرفوا صدق هؤلاء فيبطل دليلكم وإن كان صادقا بطل دين النصارى فيبطل دليل صحته فثبت بطلان دليلهم على كل تقدير.

وقيل لهم ثالثا: المسلمون لم يصدقوا نبوة أحد من هؤلاء إلا مع نبوة محمد ﷺ وإن قيل أنهم عرفوا ذلك بطريق آخر، فإن الدليل الذي يدل على صدق واحد منهم يدل على صدق محمد ﷺ بطريق الأولى فلا يمكنهم تصديق نبي مع تكذيب محمد ﷺ.

وقيل لهم رابعا: هم إنما يصدقون موسى وعيسى اللذين بشرا بمحمد ﷺ فإن كانا قد بشرا به فثبتت نبوته وإن لم يكونا بشرا به فهم لا يؤمنون إلا بالمبشرين به وبالتوراة والإنجيل اللذين هو مكتوب فيهما.

فإن قدر عدم ذلك فهم لا يسلمون وجود موسى وعيسى وتوراة وإنجيل منزلين من الله ليس فيهما ذكره ﷺ.

وإن قالوا: نحن صدقنا هؤلاء الأنبياء بلا علم لنا بصدقهم وطريق يدل على صدقهم؛ لأن هذا دين آبائنا وجدناهم يعظمون هؤلاء ويقولون هم أنبياء فاتبعنا آباءنا في ذلك من غير علم وهذا هو الواقع من أكثرهم قيل فإذا كان هذا قولكم في الأنبياء وفيما شهدوا به إن كانوا شهدوا فيلزم أن لا يكونوا عالمين به بل متبعين فيه لآبائهم بغير علم بطريق الأولى وبهذا يحصل المقصود وهو أن ما أنتم عليه من اعتقاد دين النصرانية لا علم لكم ولا دليل لكم على صحته بل أنتم فيه متبعون لآبائكم كاتباع اليهود والمشركين لآبائهم.

ولا ريب أن هذا حال النصارى ولهذا سماهم الله ضلالا في قوله: ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

وقال تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم وقال تعالى: وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم وقال تعالى: وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.

ولهذا كان النصارى معروفين بالجهل والضلال كما أن اليهود معروفون بالظلم والقسوة والعناد فتبين بما ذكرناه أنه لا يمكنهم مع تكذيب محمد ﷺ في كلمة واحدة الاحتجاج بقول واحد من الأنبياء على شيء من دينهم ولا دين غيرهم.

فصل: رد دعوى النصارى خصوصية الإسلام لكون كتابه باللسان العربي

وأما كون القرآن أنزل باللسان العربي وحده فعنه أجوبة: أحدها: أن يقال والتوراة إنما أنزلت باللسان العبري وحده وموسى لم يكن يتكلم إلا بالعبرية وكذلك المسيح لم يكن يتكلم بالتوراة والإنجيل وغيرهما إلا بالعبرية وكذلك سائر الكتب لا ينزلها الله إلا بلسان واحد بلسان الذي أنزلت عليه ولسان قومه الذين يخاطبهم أولا، ثم بعد ذلك تبلغ الكتب وكلام الأنبياء لسائر الأمم إما بأن يترجم لمن لا يعرف لسان ذلك الكتاب وإما بأن يتعلم الناس لسان ذلك الكتاب فيعرفون معانيه وإما بأن يبين للمرسل إليه معاني ما أرسل به الرسول ﷺ إليه بلسانه وإن لم يعرف سائر ما أرسل به.

وقد أخبر الله في القرآن ما قالته الرسل لقومهم وما قالوا: لهم - وأكثرهم لم يكونوا عربا - وأنزله الله باللسان العربي وحينئذ، فإن شرط التكليف تمكن العباد من فهم ما أرسل به الرسول إليهم وذلك يحصل بأن يرسل بلسان يعرف به مراده ثم جميع الناس متمكنون من معرفة مراده بأن يعرفوا ذلك اللسان أو يعرفوا معنى الكتاب بترجمة من يترجم معناه وهذا مقدور للعباد ومن لم يمكنه فهم كلام الرسول إلا بتعلم اللغة التي أرسل بها وجب عليه ذلك، فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب بخلاف ما لا يتم الوجوب إلا به، فإنه ليس بواجب ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها لا في الأصل ولا في التمام فلا نحتاج أن نقول ما لا يتم الواجب إلا به - وكان مقدورا للمكلف - فهو واجب، فإن ما ليس مقدورا عليه لا يكلف به العباد بل وقد يكون مقدورا عليه ولا يكلفون به.

فلما كانت الاستطاعة شرطا في وجوب الحج لم يجب تحصيل الاستطاعة بخلاف قطع المسافات، فإنه ليس شرطا في الوجوب فلهذا يجب الحج على الإنسان من المسافة البعيدة والقريبة إذا كان مستطيعا.

وجمهور الناس لا يعرفون معاني الكتب الإلهية: التوراة والإنجيل والقرآن إلا بمن يبينها ويفسرها لهم وإن كانوا يعرفون اللغة فهؤلاء يجب عليهم طلب علم ما يعرفون به ما أمرهم الله به ونهاهم عنه وهذا هو طلب العلم المفروض على الخلق وكذلك ما بينه الرسول ﷺ من معاني الكتاب الذي أنزله الله عليه يجب على الخلق طلب علم ذلك ممن يعرفه إذا كان معرفة ذلك لا تحصل بمجرد اللسان.

كما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: تفسير القرآن على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها وتفسير لا يعذر أحد بجهالته وتفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعلمه إلا الله - تبارك وتعالى - فمن ادعى علمه فهو كاذب.

والله تعالى قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم لم يقل: وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه لكن لم يرسله إلا بلسان قومه الذين خاطبهم أولا، ليبين لقومه فإذا بين لقومه ما أراده حصل بذلك المقصود لهم ولغيرهم، فإن قومه الذين بلغ إليهم أولا يمكنهم أن يبلغوا عنه اللفظ ويمكنهم أن ينقلوا عنه المعنى لمن لا يعرف اللغة ويمكن لغيرهم أن يتعلم منهم لسانه فيعرف مراده فالحجة تقوم على الخلق ويحصل لهم الهدى بمن ينقل عن الرسول: تارة المعنى وتارة اللفظ؛ ولهذا يجوز نقل حديثه بالمعنى، والقرآن يجوز ترجمة معانيه لمن لا يعرف العربية باتفاق العلماء.

وجوز بعضهم أن يقرأ بغير العربية عند العجز عن قراءته بالعربية وبعضهم جوزه مطلقا وجمهور العلماء منعوا أن يقرأ بغير العربية وإن جاز أن يترجم للتفهم بغير العربية كما يجوز تفسيره وبيان معانيه وإن كان التفسير ليس قرآنا متلوا وكذلك الترجمة وقد قال: النبي ﷺ نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

وقال أيضا في الحديث الصحيح ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أمسكت الماء فنفع الله به الناس فزرعوا وسقوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل من تفقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به.

فدعا النبي ﷺ لمن يبلغ حديثه وإن لم يتفقه فيه وقال: رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

وقد كان العارفون باللغة العربية حين بعث الله محمدا ﷺ إنما يوجدون في جزيرة العرب وما والاها كأرض الحجاز واليمن وبعض الشام والعراق ثم انتشر فصار أكثر الساكنين في وسط المعمورة العربية، حتى اليهود والنصارى الموجودون في وسط الأرض يتكلمون بالعربية كما يتكلم بها أكثر المسلمين بل كثير من اليهود والنصارى يتكلمون بالعربية أجود مما يتكلم بها كثير من المسلمين.

وقد انتشرت هذه اللغة أكثر مما انتشرت سائر اللغات حتى أن الكتب القديمة من كتب أهل الكتاب ومن كتب الفرس والهند واليونان والقبط وغيرهم عربت بهذه اللغة.

ومعرفة الكتب المصنفة بالعربية والكلام العربي أيسر على جمهور الناس من معرفة الكتب المصنفة بغير العربية، فإن اللسان العبري والسرياني والرومي والقبطي وغيرها وإن عرفه طائفة من الناس فالذين يعرفون اللسان العربي أكثر ممن يعرف لسانا من هذه الألسنة.

وأيضا فمعرفة ما أمر الله عباده أمرا عاما هو مما نقله الأمة عن نبيها ﷺ نقلا متواترا وأجمعت عليه مثل الأمر بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأنه أرسل إلى جميع الناس أميهم وغير أميهم، وإقام الصلوات الخمس وإيتاء الزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت العتيق من استطاع إليه سبيلا وإيجاب الصدق وتحريم الفواحش والظلم والأمر بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت هو ما يعرفه المسلمون معرفة عامة ولا يحتاج الإنسان في معرفة ذلك إلى أن يحفظ القرآن بل يمكن الإنسان معرفة ما أمر الله به على لسان رسوله وإن لم يعرف اللغة العربية ويكفيه أن يقرأ فاتحة الكتاب وسورا معها يصلي بهن وكثير من الفرس والروم والترك والهند والحبشة والبربر وغيرهم لا يعرفون أن يتكلموا بالعربية الكلام المعتاد وقد أسلموا وصاروا من أولياء الله المتقين ومنهم من يحفظ القرآن كله وإذا كلم الناس لا يستطيع أن يكلمهم إلا بلسانه لا بالعربية وإذا خوطب بالعربية لم يفقه ما قيل له.

الوجه الثاني: أن المسيح كان لسانه عبريا وكذلك ألسنة الحواريين الذين اتبعوه أولا ثم أنه أرسلهم إلى الأمم يخاطبونهم ويترجمون لهم ما قاله المسيح فإن قالوا: إن رسل المسيح حولت ألسنتهم إلى ألسنة من أرسل إليهم.

قيل هذا منقول في رسل المسيح وفي رسل محمد ﷺ الذين أرسلهم إلى الأمم ولا ريب أن رسل رسل الله كرسل محمد ﷺ والمسيح إلى الأمم لا بد أن يعرفوا لسان من أرسلهم الرسول ﷺ إليهم أو أن يكون عند أولئك من يفهم لسانهم ولسان الرسول ﷺ ليترجم لهم فإذا لم يكن عند من أرسل المسيح إليهم من يعرف بالعربية فلا بد أن يكون رسوله ينطق بلسانهم.

وكذلك رسل النبي ﷺ الذين أرسلهم إلى الأمم، فإن النبي ﷺ لما رجع من الحديبية أرسل رسله إلى أهل الأرض فبعث إلى ملوك العرب باليمن والحجاز والشام والعراق وأرسل إلى ملوك النصارى بالشام ومصر قبطهم ورومهم وعربهم وغيرهم، وأرسل إلى الفرس المجوس ملوك العراق وخراسان.

قال محمد بن سعد في الطبقات ذكر بعثة رسول الله ﷺ الرسل بكتبه إلى الملوك وغيرهم يدعوهم وذكر ما كتب به رسول الله ﷺ لناس من العرب وغيرهم ثم قال: أخبرنا محمد بن عمر الأسلمي قال: حدثني معمر بن راشد ومحمد بن عبد الله عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: وعن الواقدي حدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن المسور بن رفاعة وحدثنا عبد الحميد بن جعفر عن أبيه عن جدته الشفاء وحدثنا أبو بكر بن عبد الله بن أبي سبرة عن محمد بن يوسف عن السائب بن يزيد عن العلاء بن الحضرمي وحدثنا ابن محمد الأنصاري عن جعفر بن عمرو (بن جعفر بن عمرو) بن أمية الضمري عن أهله عن عمرو بن أمية الضمري دخل حديث بعضهم في حديث بعض قالوا إن رسول الله ﷺ لما رجع من الحديبية في ذي الحجة سنة ست أرسل إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام وكتب إليهم كتبا فقيل يا رسول الله إن الملوك لا يقرءون كتابا إلا مختوما فاتخذ رسول الله ﷺ يومئذ خاتما من فضة فصه منه نقشه ثلاثة أسطر محمد رسول الله وختم به الكتب فخرج ستة نفر منهم في يوم واحد وذلك في المحرم سنة سبع وأصبح كل واحد منهم يتكلم بلسان القوم الذين بعثه إليهم.

أرسل النبي ﷺ إلى هرقل دحية بن خليفة الكلبي وإلى المقوقس صاحب مصر والإسكندرية حاطب بن أبي بلتعة وإلى كسرى عبد الله بن حذافة السهمي وأرسل إلى الحارث بن أبي شمر الغساني وكان نصرانيا بظاهر دمشق فبعث إليه شجاع بن وهب الأسدي وأرسل إلى غير هؤلاء.

وقال أيضا: أخبرنا الهيثم بن عدي قال: أخبرنا دلهم بن صالح وأبو بكر الهذلي عن عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي قال: وحدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان والزهري وحدثنا الحسن بن عمارة عن فراس عن الشعبي دخل حديث بعضهم في حديث بعض: أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه: " ائتوني بأجمعكم بالغداة وكان رسول الله ﷺ إذا صلى الفجر يجلس في مصلاه قليلا يسبح ويدعو ثم التفت إليهم فبعث عدة إلى عدة وقال ﷺ: انصحوا لله في أمر عباده، فإن من أخبر عن شيء من أمور المسلمين ثم لم ينصح حرم الله عليه الجنة انطلقوا ولا تصنعوا كما صنعت رسل عيسى بن مريم، فإنهم أتوا القريب وتركوا البعيد فأصبحوا يعني الرسل وكل منهم يعرف بلسان القوم الذين أرسل إليهم وذكر ذلك النبي ﷺ فقال: هذا أعظم ما كان من حق الله - عز وجل - عليهم في أمر عباده.

الوجه الثالث: أن النصارى فيهم عرب كثير من زمن النبي ﷺ وكل من يفهم اللسان العربي، فإنه يمكن فهمه للقرآن وإن كان أصل لسانه فارسيا أو روميا أو تركيا أو هنديا أو قبطيا وهؤلاء الذين أرسلوا هذا الكتاب من علماء النصارى قد قرءوا المصحف وفهموا منه ما فهموا وهم يفهمونه بالعربية واحتجوا بآيات من القرآن فكيف يسوغ لهم مع هذا أن يقولوا كيف تقوم الحجة علينا بكتاب لم نفهمه؟.

الوجه الرابع: أن حكم أهل الكتاب في ذلك حكم المشركين ومعلوم أن المشركين فيهم عرب وفيهم عجم - ترك وهند وغيرهما - فكما أن جميع المشركين كمشركي العرب وكذلك جميع أهل الكتاب كأهل الكتاب من العرب وفي اليهود والنصارى ممن يعرف بلسان العرب من لا يحصيه إلا الله - عز وجل.

الوجه الخامس: أنه ليس فهم كل آية من القرآن فرضا على كل مسلم وإنما يجب على المسلم أن يعلم ما أمره الله به وما نهاه عنه بأي عبارة كانت وهذا ممكن لجميع الأمم ولهذا دخل في الإسلام جميع أصناف العجم من الفرس والترك والهند والصقالبة والبربر ومن هؤلاء من يعلم اللسان العربي ومنهم من يعلم ما فرض الله عليه الترجمة وقد قدمنا أنه يجوز ترجمة القرآن في غير الصلاة والتعبير كما يجوز تفسيره باتفاق المسلمين وإنما تنازعوا هل يقرأ بغير العربية تلاوة كما يقرأ في الصلاة فجمهور العلماء منعوا من ذلك وحينئذ فإذا قرأ الأعجمي فاتحة الكتاب وسورتين معها بالعربية أجزأه وكذلك التشهد وغيره من الذكر المأمور به وهذا أمر يسير أيسر من أكثر الواجبات فكيف يمتنع أن يأمر الله - تبارك وتعالى - عباده بذلك.

وأما جمل ما أمر به الرسول ﷺ من الصلاة والزكاة والصوم والحج وصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وما حرمه الله من الشرك والفواحش والظلم وغير ذلك فهذا مما يمكن أن يعرفه كل واحد بتعريف من يعرفه إما باللسان العربي وإما بلسان آخر لا يتوقف تعريف ذلك على لسان العرب.

فصل: دفع ما يوهم الخصوصية لكون القرآن عربيا

وأما قوله تعالى: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وقوله: ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي وقوله: إنا جعلناه قرآنا عربيا فهذا يتضمن إنعام الله على عباده؛ لأن اللسان العربي أكمل الألسنة وأحسنها بيانا للمعاني فنزول الكتاب به أعظم نعمة على الخلق من نزوله بغيره وهو إنما خوطب به أولا العرب ليفهموه ثم من يعلم لغتهم يفهمه كما فهموه ثم من لم يعلم لغتهم ترجمه له من عرف لغتهم وكان إقامة الحجة به على العرب أولا والإنعام به عليهم أولا لمعرفتهم بمعانيه قبل أن يعرفه غيرهم.

قال تعالى: فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون

وقال: فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا واللد جمع الألد وهو الأعوج في المناظرة الذي يروغ عن الحق كما قال: النبي ﷺ إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وأما قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فهو كما قال تعالى وقوم محمد ﷺ هم قريش وبلسانهم أرسل وهو سبحانه لم يقل: وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه بل الرسول يبعثه الله إلى قومه وغير قومه كما تقول النصارى: أنه بعث المسيح والحواريين إلى غير بني إسرائيل وليسوا من قومه، فكذلك بعث محمدا ﷺ إلى قومه وغير قومه، ولكن إنما يبعث بلسان قومه ليبين لهم ثم يحصل البيان لغيرهم بتوسط البيان لهم إما بلغتهم ولسانهم وإما بالترجمة لهم ولو لم يتبين لقومه أولا لم يحصل مقصود الرسالة لا لهم ولا لغيرهم وإذا تبين لقومه أولا حصل البيان لهم ولغيرهم بتوسطهم وقومه إليهم بعث أولا ولهم دعا أولا وأنذر أولا وليس في هذا أنه لم يرسل إلى غيرهم لكن إذا تبين لقومه لكونه بلسانهم أمكن بعد هذا أن يعرفه غير قومه إما بتعلمه بلسانهم وإما بتعريف بلسان يفهم به والرجل يكتب كتاب علم في طب أو نحو أو حساب بلسان قومه ثم يترجم ذلك الكتاب وينقل إلى لغات أخر وينتفع به أقوام آخرون كما ترجمت كتب الطب والحساب التي صنفت بغير العربي وانتفع بها العرب وعرفوا مراد أصحابها وإن كان المصنف لها أولا إنما صنفها بلسان قومه وإذا كان هذا في بيان الأمور التي لا يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من عذاب الله فكيف يمتنع في العلوم التي يتعلق بها سعادة الآخرة والنجاة من العذاب أن ينقل من لسان إلى لسان حتى يفهم أهل اللسان الثاني بها ما أراده بها المتكلم بها أولا باللسان الأول.

وأبناء فارس المسلمون لما كان لهم من عناية بهذا ترجموا مصاحف كثيرة فيكتبونها بالعربي ويكتبون الترجمة بالفارسية وكانوا قبل الإسلام أبعد عن المسلمين من الروم والنصارى فإذا كان الفرس المجوس قد وصل إليهم معاني القرآن بالعربي وترجمته فكيف لا يصل إلى أهل الكتاب وهم أقرب إلى المسلمين منهم وعامة الأصول التي يذكرها القرآن عندهم شواهدها ونظائرها في التوراة والإنجيل والزبور وغير ذلك من النبوات بل كل من تدبر نبوات الأنبياء وتدبر القرآن جزم يقينا بأن محمدا رسول الله حقا وأن موسى رسول الله صدقا لما يرى من تصادق الكتابين التوراة والقرآن مع العلم بأن موسى لم يأخذ عن محمد ﷺ وأن محمدا ﷺ لم يأخذ عن موسى، فإن محمدا ﷺ باتفاق أهل المعرفة بحاله كان أميا من قوم أميين مقيما بمكة ولم يكن عندهم من يحفظ التوراة والإنجيل ولا الزبور ومحمد لم يخرج من بين ظهرانيهم ولم يسافر قط إلا سفرتين إلى الشام خرج مرة مع عمه أبي طالب قبل الاحتلام ولم يكن يفارقه ومرة أخرى مع ميسرة في تجارته وكان ابن بضع وعشرين سنة مع رفقة كانوا يعرفون جميع أحواله ولم يجتمع قط بعالم أخذ عنه شيئا لا من علماء اليهود ولا النصارى ولا من غيرهم لا بحيرى ولا غيره، ولكن كان بحيرى الراهب لما رآه عرفه لما كان عنده من ذكره ونعته فأخبر أهله بذلك وأمرهم بحفظه من اليهود ولم يتعلم لا من بحيرى ولا من غيره كلمة واحدة وسنبين - إن شاء الله - الدلائل الكثيرة على أنه لم يأخذ عن أحد من أهل الكتاب كلمة واحدة وقصة بحيرى مذكورة ذكرها أرباب السير وأصحاب المسانيد والسنن.

قال الحافظ أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة الترمذي في جامعه حدثنا الفضل أبو العباس البغدادي قال: حدثنا عبد الرحمن بن غزوان أبو نوح أنا يونس بن أبي إسحاق عن أبي بكر بن أبي موسى الأشعري عن أبيه قال: خرج أبو طالب إلى الشام وخرج معه النبي ﷺ في أشياخ من قريش فلما أشرفوا على الراهب هبطوا فحلوا رحالهم فخرج إليهم الراهب وكانوا قبل ذلك يمرون به فلا يخرج إليهم ولا يلتفت قال: فهم يحلون رحالهم فجعل يتخللهم الراهب حتى جاء فأخذ بيد رسول الله ﷺ فقال: هذا سيد العالمين هذا رسول رب العالمين يبعثه الله رحمة للعالمين فقال: له أشياخ من قريش ما علمك فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجر ولا حجر إلا خر ساجدا ولا يسجدن إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غرضوف كتفه مثل التفاحة ثم رجع فصنع لهم طعاما فلما أتاهم به - وكان هو في رعية الإبل - فقال: أرسلوا إليه فأقبل وعليه غمامة تظله فلما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه إلى فيء الشجرة فلما جلس مال فيء الشجرة عليه فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه قال: فبينما هو قائم عليهم يناشدهم أن لا يذهبوا به إلى الروم، فإن الروم إن رأوه عرفوه بالصفة فيقتلونه فالتفت فإذا بسبعة قد أقبلوا من الروم فاستقبلهم الراهب فقال: ما جاء بكم قالوا: جئنا؛ لأن هذا النبي خارج في هذا الشهر فلم يبق طريق إلا بعث إليه بأناس وإنا قد أخبرنا خبره بطريقك هذا.

فقال أفرأيتم أمرا أراد الله أن يقضيه هل يستطيع أحد من الناس رده؟ قالوا: لا. قال: فتابعوه وأقاموا معه. قال: أنشدكم الله يا معشر العرب أيكم وليه فقال: أبو طالب أنا فلم يزل يناشده حتى رده أبو طالب وزوده الراهب من الكعك والزيت.

قال الترمذي هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ورواه البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث العباس بن محمد عن قراد بن نوح وقال: العباس لم يحدث به يعني بهذا الإسناد غير قراد وسمعه يحيى وأحمد من قراد.

قال البيهقي أراد أنه لم يحدث بهذا الإسناد سوى هؤلاء فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة.

وقال ابن سعد في الطبقات: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثني محمد بن صالح وعبد الله بن جعفر وإبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة عن داود بن الحصين قال: لما بلغ رسول الله ﷺ اثني عشرة سنة خرج به أبو طالب إلى الشام في العير التي خرج فيها للتجارة فنزلوا بالراهب بحيرى فقال: بحيرى لأبي طالب في النبي ﷺ ما قال، وأمره أن يحتفظ به فرده أبو طالب معه إلى مكة وشب رسول الله ﷺ مع أبي طالب يكلؤه الله ويحفظه ويحوطه من أمور الجاهلية ومعايبها لما يريده به من كرامته حتى بلغ أن كان رجلا أفضل قومه مروءة وأحسنهم خلقا وأكرمهم مخالطة وأعظمهم حلما وأمانة وأصدقهم حديثا وأبعدهم من الفحش والأذى فما رئي ملاحيا ولا مماريا أحدا حتى سماه قومه الأمين لما جمع فيه من الأمور الصالحة.

وقال: ابن الجوزي خرج أبو طالب إلى الشام ومعه رسول الله ﷺ وهو ابن اثنتي عشرة سنة وشهرين وعشرة أيام فنزل الركب ببصرى وبها راهب - يقال له بحيرى - في صومعة له وكان ذا علم بالنصرانية ولم يزل في تلك الصومعة راهب تنتهي إليه علم النصرانية صاغرا عن كابر وفيها كتب يدرسونها وكان كثيرا ما يمر الركب فلا يكلمهم حتى إذا كان في ذلك العام نزلوا منزلا قريبا من الصومعة فصنع لهم الراهب طعاما ودعاهم وإنما حمله على ذلك لشيء رآه فلما رأى بحيرى ذلك نزل من صومعته وأمر بذلك الطعام فحضر وأرسل إلى القوم فقال: يا معشر قريش أحب أن تحضروا طعامي ولا يتخلف منكم أحد فقال: وهذا شيء تكرموني فلما حضروا عنده جعل يلاحظ النبي ﷺ لحظا شديدا وينظر إلى جسده وجعل أبو طالب يخاف عليه من الراهب ثم قال الراهب لأبي طالب ارجع بابن أخيك، فإنه كائن له شأن عظيم، فإنا نجد صفته في كتبنا ويروونه عن آبائنا فلما فرغوا من التجارة رجع أبو طالب سريعا إلى مكة فما خرج بعدها به أبو طالب خوفا عليه.

هذا مع أن في القرآن من الرد على أهل الكتاب في بعض ما حرفوه مثل دعواهم أن المسيح صلب وقول بعضهم: أنه إله وقول بعضهم: أنه ساحر. وطعنهم على سليمان وقولهم أنه كان ساحرا. وأمثال ذلك ما يبين أنه لم يأخذ عنهم.

وفي القرآن من قصص الأنبياء عليهم السلام ما لا يوجد في التوراة والإنجيل مثل قصة هود وصالح وشعيب وغير ذلك.

وفي القرآن من ذكر المعاد وتفصيله وصفة الجنة والنار والنعيم والعذاب ما لا يوجد مثله في التوراة والإنجيل بل التوراة ليس فيها تصريح بذكر المعاد وعامة ما فيها من الوعد والوعيد فهو في الدنيا كالوعد بالرزق والنصر والعاقبة والوعيد بالقحط والأمراض والأعداء. وإن كان ذكر المعاد موجودا في غير التوراة من النبوات ولهذا كان أهل الكتاب يقرون بالمعاد وقيام القيامة الكبرى وقد قيل إن ذلك مذكور في التوراة أيضا لكن لم يبسط كما بسط في غير التوراة.

فصل: رد زعم النصارى عصمة الحواريين المترجمين للإنجيل

فإن قالوا إن الكتب التي عندنا من التوراة والإنجيل وغيرهما ترجمها لنا الحواريون وهم عندنا رسل معصومون وترجموها لجميع الأمم بخلاف القرآن، فإنه إنما يترجمه من ليس بمعصوم فعن هذا أجوبة.

أحدها: أن هذا كذب بين، فإن من العرب من النصارى من لا يحصي عدده إلا الله تعالى وكان فيهم نصارى كثيرون تنصروا قبل مبعث محمد ﷺ وكان فيهم قوم على دين المسيح الذي لم يبدل وهم مؤمنون من أهل الجنة كسائر من كان على دين المسيح فإن كل من كان على دين المسيح الذي لم يبدل قبل مبعث محمد، فإنه مؤمن مسلم من أهل الجنة.

ومع هذا فليس على وجه الأرض توراة ولا إنجيل معرب من عهد الحواريين بل التوراة العبرية تنقل من اللسان العبري أو غيره إلى العربية وكذلك الإنجيل ينقل من اللسان الرومي أو السرياني أو اليوناني أو غيرها إلى اللغة العربية فلو كان عند كل أمة من الأمم توراة وإنجيل ونبوات بلسانهم لكان نصارى العرب أحق بهذا من نصارى الحبشة والصقالبة والهند، فإنهم جيران البيت المقدس وهم بنو إسماعيل والأناجيل عندهم أربعة وهم يدعون أن كل واحد كتبها بلسان كتبت بلسان العبري والرومي واليوناني مع أن في بعض الأناجيل ما ليس في بعض مثل قولهم: " عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس " الذي جعلوه أصل دينهم وهذا إنما هو قوله: في إنجيل متى، وإذا كان كل واحد من الأربعة كتب إنجيلا بلسانه لم يكن هناك إنجيل واحد أصلي ترجع إليه الأناجيل كلها ثم هم مع هذا يدعون أنها ترجمت باثنين وسبعين لسانا وهذا فيه من الكذب والتناقض أمور سننبه - إن شاء الله - على بعضها لكن غاية ما يدعون أنه ترجم باثنين وسبعين لسانا ومعلوم أن الألسنة الموجودة في بني آدم في جميع المعمورة في زماننا وقبل زماننا أكثر من هذا كما يعرفه من عرف أحوال العالم، بل اللسان الواحد كالعربي والفارسي والتركي جنس تحته أنواع مختلفة لا يفهم بعضهم لسان بعض إلا أن يتعلمه منهم والعرب أقرب الأمم إلى بني إسحاق: بني إسرائيل والعيص، فإنهم بنو إسماعيل وجيرانهم، فإن أهل الحجاز جيران الشام، ومكة لم تزل تحج إليها العرب ولم يكن قط عند العرب توراة ولا إنجيل عربيان من عهد المسيح بل ولا كان بمكة لا توراة ولا إنجيل لا معرب ولا غير معرب ولهذا قال تعالى: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك فكيف يدعى أن التوراة والإنجيل ترجمها الحواريون لكل قوم من جميع بني آدم شرقا وغربا وجنوبا وشمالا بلسان يفهمونه به وهل يقول هذا إلا من هو من أكذب الناس وأجهلهم.

الوجه الثاني: أن يقال ترجمة الكلام من لغة إلى لغة لا تحتاج إلى معصوم بل هذا أمر تعلمه الأمم فكل من عرف اللسانين أمكنه الترجمة ويحصل العلم بذلك إذا كان المترجمون كثيرين متفرقين لا يتواطئون على الكذب وبقرائن تقترن بخبر أحدهم وبغير ذلك وهذا موجود معلوم بل إذا ترجمه اثنان كل منهما لا يعرف ما يقوله: الآخر ولم يتواطئوا حصل بذلك المقصود في الغالب وهم يذكرون أن التوراة ترجمها اثنان وسبعون حبرا من اليهود ولم يكونوا معصومين وأن الملك فرقهم لئلا يتواطئوا على الكذب واتفقوا على ترجمة واحدة وهذا كان بعد الخراب الأول فهكذا يمكن ترجمة غير التوراة.

وهذه التوراة في زماننا والإنجيل والزبور يترجم باللغة العربية ويعرف المقصود به بلا ريب فكيف بالقرآن الذي يفهم أهله معناه ويفسرونه ويترجمونه أكمل وأحسن مما يترجم أهل التوراة والإنجيل التوراة والإنجيل؟.

الوجه الثالث: أن دعوى العصمة في كل واحد من الحواريين وأنهم رسل الله بمنزلة إبراهيم وموسى عليهما السلام دعوى ممنوعة وهي باطلة وإنما هم رسل المسيح بمنزلة رسل موسى ورسل إبراهيم ورسل محمد وأكثر النصارى أو كثير منهم أو كلهم يقولون هم رسل الله وليسوا بأنبياء وكل من ليس بنبي فليس برسول الله وليس بمعصوم وإن كانت له خوارق عادات كأولياء الله من المسلمين وغيرهم، فإنه وإن كانت لهم كرامات من الخوارق فليسوا معصومين من الخطأ والخوارق التي تجري على يدي غير الأنبياء لا تدل على أن أصحابها أولياء الله عند أكثر العلماء فضلا عن كونهم معصومين، فإن ولي الله من يموت على الإيمان ومجرد الخارق لا يدل على أنه يموت على الإيمان بل قد يتغير عن ذلك الحال وإذا قطعنا بأن الرجل ولي الله كمن أخبر النبي بأنه من أهل الجنة فلا يجب الإيمان بكل ما يقوله: إن لم يوافق ما قالته الأنبياء بخلاف الأنبياء عليهم السلام فإنهم معصومون لا يجوز أن يستقر فيما يبلغونه خطأ ولهذا أوجب الله الإيمان بهم ومن كفر بواحد منهم فهو كافر ومن يسب واحدا منهم وجب قتله في شرع الإسلام كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير.

وهذا مبسوط في موضع آخر.

فصل: الرد على زعمهم الاستغناء بالأنبياء قبله عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

وأما قولهم: لا يلزمنا اتباعه لأننا نحن قد أتانا رسل من قبله خاطبونا بألسنتنا وأنذرونا بديننا الذي نحن متمسكون به يومنا هذا وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلغتنا على ما يشهد لهما الكتاب الذي أتى به هذا الرجل حيث يقول في سورة إبراهيم وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وقال: في سورة النحل ولقد بعثنا في كل أمة رسولا فالجواب عنه من وجوه:

أحدها: أن إثبات رسول من قبله إليكم لا يمنع إتيان رسول ثان، فإن بني إسرائيل قد بعث الله إليهم موسى وكانوا على شريعة التوراة ثم بعث الله - تبارك وتعالى - إليهم المسيح ووجب عليهم الإيمان به ومن لم يؤمن به كان كافرا وإن قال إني متمسك بالكتاب الذي أنزل إلي.

فكذلك إذا أرسل الله رسولا بعد المسيح وجب الإيمان به ومن لم يؤمن به كان كافرا كما أن من لم يؤمن بالمسيح من بني إسرائيل كان كافرا.

وبنو إسرائيل أكثر اختصاصا بموسى والتوراة من الروم وغيرهم فالمسيح والإنجيل، فإنهم كانوا عبرانيين والتوراة عبرانية.

الوجه الثاني: دعواهم أنهم متمسكون في هذا الوقت بالدين الذي نقله الحواريون عن المسيح كذب ظاهر بل هم عامة ما هم عليه من الدين عقائده وشرائعه كالأمانة والصلاة إلى المشرق واتخاذ الصور والتماثيل في الكنائس واتخاذها وسائط والاستشفاع بأصحابها وجعل الأعياد بأسمائهم وبناء الكنائس على أسمائهم واستحلال الخنزير وترك الختان، والرهبانية، وجعل الصيام في الربيع وجعله خمسين يوما والصلوات والقرابين والناموس لم ينقله الحواريون عن المسيح ولا هو موجود لا في التوراة ولا في الإنجيل وإنما هم متمسكون بقليل مما جاءت به الأنبياء وأما كفرياتهم وبدعهم فكثيرة جدا لم ينقل أحد عن المسيح والحواريين أنهم أمروهم أن يقولوا ما يقولونه في صلاتهم السحرية " تعالوا بنا نسجد للمسيح إلهنا وفي الصلاة الثانية والثالثة: " يا والدة الإله مريم العذراء افتحي لنا أبواب الرحمة ".

الوجه الثالث: قولهم أنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل بلغاتهم إنما يستقيم إن كان صحيحا في بعضالنصارى لا في جميعهم، فإن العرب من النصارى وغير العرب لم يسلم أحد إليهم توراة ولا إنجيلا بلسانهم وهذا أمر معروف ولا توجد قط توراة ولا إنجيل معرب من زمن الحواريين وإنما عربت في الأزمان المتأخرة فإذا كانت النصارى من العرب تقوم عليهم الحجة قبل محمد ﷺ بكتاب نزل بغير لسانهم ثم عرب لهم فكيف لا تقوم على الروم وغيرهم الحجة بكتاب نزل بغير لسانهم ثم ترجم بلسانهم؟.

الوجه الرابع: أن يقال الأمة إذا غيرت دين رسولها الذي أرسل إليها وبدلته أرسل الله إليها من يدعوها إلى الدين الذي يحبه الله ويرضاه كما أن بني إسرائيل لما غيروا دين موسى وبدلوه بعث الله إليهم وإلى غيرهم المسيح بالدين الذي يحبه ويرضاه وكذلك النصارى لما بدلوا دين المسيح وغيروه بعث الله إليهم وإلى غيرهم محمدا ﷺ بالدين الذي يحبه ويرضاه.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.

وأولئك البقايا الذين كانوا متمسكين بدين المسيح قبل مبعث محمد ﷺ كانوا على دين الله - عز وجل - وأما من حين بعث محمد ﷺ فمن لم يؤمن به فهو من أهل النار كما قال: في الحديث الصحيح والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار.

الوجه الخامس: أن يقال دعواهم أن الرسل سلموا إليهم التوراة والإنجيل وسائر النبوات باثنين وسبعين لسانا وأنها باقية إلى اليوم على لفظ واحد دعوى يعلم أن قائلها يتكلم بلا علم بل مفتر كذاب وذلك أن هذا يقتضي أنه الآن في الأرض هذه الكتب باثنين وسبعين لسانا كلها منقولة عن الحواريين وكلها متفقة غير مختلفة البتة فهذا أربع دعاوى أنها موجودة باثنين وسبعين لسانا وأنها متفقة وأنها كلها منقولة عن الحواريين الرابعة أنهم معصومون.

فيقال: من الذي منكم لو قدر أن هذه الكتب التي باثنين وسبعين لسانا هي عن الحواريين وهي موجودة اليوم فمن الذي يمكنه أن يشهد بموافقة بعضها بعضا وذلك لا يمكن إلا لمن يعلم الاثنين وسبعين لسانا ويكون ما عنده من الكتب يعلم أنها مأخوذة عن الحواريين ويعلم أن كل نسخة في العالم بهذا اللسان توافق النسخة التي عنده وإلا فلو جمع اثنين وسبعين نسخة باثنين وسبعين لسانا لم يعلم أن كل نسخة من هذه هي المأخوذة عن الحواريين إن قدر أنه أخذ عنهم اثنان وسبعون لسانا ولا يعلم أن كل نسخة في العالم توافق تلك النسخة، فإنه من المعلوم أنه في زماننا وقبل زماننا لم تزل هذه الكتب تنقل من لسان إلى لسان كما يترجم من العبرانية إلى العربية ومن السريانية والرومية واليونانية إلى العربية وغيرها.

وحينئذ فإذا وجدت نسخة بالعربية لم يعلم أنها مما عربت بعد الحواريين أو هي من المأخوذ عن الحواريين إذا قدر أنه أخذ عنهم نسخة بالعربية ولا يمكن لأحد أن يجمع جميع النسخ المعربة ويقابل بينها بل وقد وجدنا النسخ المعربة يخالف بعضها بعضا في الترجمة مخالفة شديدة تمنع الثقة ببعضها وقد رأيت أنا بالزبور عدة نسخ معربة بينها من الاختلاف ما لا يكاد ينضبط وما يشهد بأنها مبدلة مغيرة لا يوثق بها ورأيت من التوراة المعربة من النسخ ما يكذب بكثير من ترجمتها طائفة من أهل الكتاب فكيف يمكنه أن يجمع جميع النسخ التي بالاثنين وسبعين لسانا ويقابل بين نسخ كل لسان حتى يكون فيها النسخة القديمة المأخوذة عن الحواريين ثم يقابل بين نسخ جميع الألسنة ولا يمكن ذلك إلا لمن يكون عارفا بالاثنين وسبعين لسانا معرفة تامة وليس في بني آدم من يقدر على ذلك ولو قدر وجود ذلك فلم يعرف أن القادر على ذلك فعل ذلك وأخبرنا باتفاقها.

ولو وجد ذلك لكان هذا خبر واحد أو أن يترجم كل لسان من يعلم صحة ترجمته حتى تنتهي الترجمة إلى لسان واحد كالعربي مثلا ويعلم حينئذ اتفاقها وإلا فإذا ترجم هذا الكتاب بلسان أو لسانين أو أكثر وترجم الآخر كذلك لم يعلم اتفاقها إن لم يعلم أن المعنى بهذا اللسان هو المعنى بهذا اللسان وهذا لا يكون إلا ممن يعرف اللسانين أو من يترجم له اللسانان باللسان الذي يعرفه.

ومعلوم أن أحدا لم يترجم له الاثنان وسبعون لسانا بلسان واحد أو ألسنة يعرفها ولا يعرف أحد باثنين وسبعين لسانا.

وحينئذ فالجزم باتفاق جميع الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا أو الجزم بأن نسخ كل لسان متفقة جزم بما لا يعلم صحته لو لم يكن في الأرض اليوم الاثنان وسبعون لسانا منقولة عن الحواريين لم تختلط بالمترجم بعد ذلك فكيف وأكثر ما بأيدي الناس هو مما ترجم بعد ذلك بالعربي وغيره.

هذا إذا ثبت أن الحواريين سلموها باثنين وسبعين لسانا وأنها باقية إلى اليوم وهذا أمر لا يمكن أحدا معرفته فليس اليوم توراة وإنجيل ونبوات يشهد لها أحد أنها مترجمة باللسان العربي من عهد الحواريين بل ولا بأكثر الألسنة وإلا فإذا قدر أن الحواريين سلموها باثنين وسبعين لسانا مع حصول الترجمة بعد ذلك وكثرة المترجمات أمكن وقوع التغيير في بعض المترجمات وحينئذ فالعلم بأن تلك النسخ القديمة لا تتغير فيها لا يمنع وقوع التغيير في بعض ما ترجم بعدها أو في بعض ما نسخ منها ولا سبيل إلى العلم باتفاقها مع كونها باثنين وسبعين لسانا بخلاف القرآن الذي هو بلسان العرب وخط العرب، فإن العلم باتفاق ما يوجد من نسخة ممكن وهو محفوظ في الصدور ولا يحتاج إلى حفظ في الكتب فهو منقول بالتواتر لفظا وخطا.

الوجه السادس: قولهم وسلموا إلينا التوراة والإنجيل بلساننا على ما يشهد لهما الكتاب الذي أتى به هذا الرجل فيقال لهم: ليس في القرآن ما يشهد لكم بأن التوراة والإنجيل سلمت إليكم بلسانكم فاستشهادكم بالقرآن على هذه الدعوى من جنس استشهادكم به على أن دينكم حق.

ومن جنس استشهادكم بالنبوات على ما أحدثتموه وغيرتم به دين المسيح من التثليث والاتحاد وغير ذلك وقولهم حيث يقول الله وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا فيقال: لا ريب أن قوم موسى هم بنو إسرائيل وبلسانهم نزلت التوراة وكذلك بنو إسرائيل هم قوم المسيح وبلسانهم كان المسيح يتكلم فلم يخاطب أحد من الرسولين أحدا إلا باللسان العبراني، لم يتكلم أحد منهما لا برومية ولا سريانية ولا يونانية ولا قبطية.

وقوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا كلام مطلق عام كقوله: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير ليس في هذا تعرض لكون التوراة والإنجيل سلمت إليهم بألسنتهم.

الوجه السابع: أن يقال عمدتهم في هذه الحجة أنهم يقولون الحواريون هم عندنا رسل الله كإبراهيم وموسى والمسيح عندنا هو الله وهو أرسل إلينا هؤلاء فيجب أن يكونوا أرسلوا إلينا بلساننا وأن يكونوا سلموا إلينا التوراة والإنجيل بلساننا.

فيقال: لهم هب أنكم تدعون هذا وتعتقدونه ونحن سنبين - إن شاء الله تعالى - أن هذه دعاوى باطلة لكن أنتم في هذا المقام تذكرون أن هذا الكتاب الذي هو القرآن الذي جاء به محمد ﷺ يشهد لكم بذلك وهذا كذب ظاهر على محمد ﷺ وعلى كتابه وأنتم صدرتم كتابكم بأن كتابه يشهد لكم ونحن نبين كذبكم وافتراءكم عليه سواء أقررتم بنبوته أو لم تقروا بها، فإنه من المعلوم يقينا عنه أنه لم يشهد للمسيح بأنه الله بل كفر من قال ذلك ولا يشهد للحواريين بأنهم رسل أرسلهم الله بل إنما شهد للحواريين بأنهم قالوا إنا مؤمنون مسلمون وأنهم قالوا: نحن أنصار الله كما شهد لمن آمن به بأنهم مؤمنون مسلمون ينصرون الله ورسوله بل وأنهم أفضل من الحواريين لكون أمته خير الأمم كما قال تعالى: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون

وقال تعالى: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين وسيأتي الكلام على هذا مبسوطا ونبين أن الرسل المذكورين في سورة " يس " ليس هم الحواريين ولا كانوا رسلا للمسيح بل كان هذا الإرسال قبل المسيح وأهل القرية كذبوا أولئك الرسل فأهلكهم الله كما قال تعالى: وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين * إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون والرسل المذكورون في سورة " يس " هم ثلاثة وكان في القرية رجل آمن بهم وهذه وإن كانت أنطاكية فكان هذا الإرسال قبل المسيح والمسيح ذهب إلى أنطاكية اثنان من أصحابه بعد رفعه إلى السماء ولم يعززوا بثالث ولا كان حبيب النجار موجودا إذ ذاك وآمن أهل أنطاكية بالمسيح وهي أول مدينة آمنت به كما قد بسط في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا أن محمدا ﷺ لم يشهد للمسيح بالإلهية ولا للحواريين بأنهم رسل الله ولا أنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل بلسانهم ولا بأنهم معصومون وما ذكروه من قوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه إنما يتناول رسل الله لا رسل رسل الله بل رسل رسل الله يجوز أن يبلغوا رسالات الرسل بلسان الرسل إذا كان هناك من يترجم لهم ذلك اللسان وإن لم يكن هناك من يترجم ذلك اللسان كانت رسل الرسل تخاطبهم بلسانهم لكن لا يلزم من هذا أن يكونوا قد كتبوا الكتب الإلهية بلسانهم بل يكفي أن يقرءوها بلسان الأنبياء عليهم السلام ثم يترجموها بلسان أولئك وهو سبحانه قال وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ولم يقل وما أرسلنا من رسول إلا إلى قومه بل محمد أرسل بلسان قومه وهم قريش وأرسل إلى قومه وغير قومه كما يذكرون ذلك عن المسيح

فصل

وأما قوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا فحق وتمام الآية ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين وهذا كقوله تعالى: في الآية الأخرى إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وقوله: إنما أنت منذر ولكل قوم هاد في أصح الأقوال أي ولكل قوم داع يدعوهم إلى توحيد الله وعبادته كما أنت هاد أي داع لمن أرسلت إليه والهادي بمعنى الداعي المعلم المبلغ لا بمعنى الذي يجعل الهدى في القلوب كقوله: وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وقوله: وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى ومعلوم أن بني إسرائيل كانوا أكثر الأمم أنبياء بعث إليهم موسى وبعث إليهم بعده أنبياء كثيرون حتى قيل أنهم ألف نبي وكلهم يأمرون بشريعة التوراة ولا يغيرون منها شيئا ثم جاء المسيح بعد ذلك بشريعة أخرى غير فيها بعض شرع التوراة بأمر الله - عز وجل.

فإذا كان إرسال موسى والأنبياء بعده إليهم لم يمنع إرسال المسيح إليهم فكيف يمتنع إرسال محمد ﷺ إلى أهل الكتاب من اليهود والنصارى ولهم من حين المسيح لم يأتهم رسول من الله كما قال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير. وهذه الفترة التي كانت بين المسيح ومحمد - صلوات الله عليهما وسلامه - وهي فيما ذكره غير واحد من العلماء كسلمان الفارسي وغيره كانت ستمائة سنة وقد قيل ستمائة سنة شمسية وهي ستمائة وعشرون أو ثمانية عشر هلالية وذلك أن كل مائة سنة شمسية تكون مائة وثلاث سنين هلالية كما قال تعالى: ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعا وهذه التسع وبعض العاشرة والتاريخ قد تحسب فيه التامة وتحسب فيه الناقصة فمن قال عشرين حسب الناقصة ومن قال ثمانية عشر حسب التامة فقط.

فصل: رد زعمهم بأن عدل الله يقتضي أن لا يطالبوا باتباع من لم يأت إليهم

وأما قولهم: نعلم أن الله عدل وليس من عدله أن يطالب أمة يوم القيامة باتباع إنسان لم يأت إليهم ولا وقفوا له على كتاب بلسانهم ولا من جهة داع من قبله فيقال: الجواب من وجوه.

أحدها: أن هذا الكلام لا يجوز أن يقوله من كتب هذا الكتاب ولا أحد يفهم بالعربية، فإن هؤلاء يفهمون هذا الكتاب بالعربية وقد قرءوه وناظروا بما فيه وإذا كانوا مع ذلك يفهمون بغير العربية كان ذلك أبلغ في قيام الحجة عليهم، فإنهم يمكنهم فهم ما قال بالعربية وتفهيم ذلك لقومهم باللسان الآخر.

الثاني: كما أنهم يفهمون ما في كتبهم الرومية والسريانية والقبطية وغيرها ويترجمونها للعرب من النصارى بالعربية فإذا قامت الحجة على عرب النصارى باللسان الرومي فلأن تقوم على الروم باللسان العربي أولى، فإن اللسان العربي أكثر انتشارا في العالم من اللسان الرومي والناطقون به بعد ظهور الإسلام أكثر من الناطقين بغيره وهو أكمل بيانا وأتم تفهما.

وحينئذ فيكون وصول المعاني به إلى غير أهل لسانه أيسر لكمال معناه ولكثرة العارفين به وهؤلاء علماء النصارى يقرءون كتب الطب والحساب والفلسفة وغير ذلك باللسان العربي مع أن مصنفيها كانوا عجما من رومي ويوناني وغير ذلك فما المانع أن يقرأ القرآن العربي وتفسيره وحديث النبي ﷺ باللسان العبري مع أنه أخذ عن الرسول بالعربي فهو أولى بأن يعرف به مراد المتكلم به.

الوجه الثالث: أن يقال الناس لهم في عدل الله ثلاثة أقوال قيل كل ما يكون مقدورا فهو عدل وقيل: العدل منه نظير العدل من عباده وهما قولان ضعيفان وقيل: من عدله أن يجزي المحسن بحسناته لا ينقصه شيئا منها ولا يعاقبه بلا ذنب.

ومعلوم أنه إذا أمر العبد بما يقدر عليه كان جائزا باتفاق طوائف أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى وإن كان الفعل مكروها للإنسان، فإن الجنة حفت بالمكاره وحفت النار بالشهوات وقد كلفت بنو إسرائيل والنصارى من الأعمال ما هو مكروه لهم وشاق عليهم فكيف يمتنع أن يأمرهم وينهاهم بلغة يبين بعض المسلمين معناها لهم والعرب الذي نزل القرآن بلسانهم طبقوا الأرض ومنهم نصارى لا يحصون فكل من عرف بالعربية من النصارى أمكنه فهم ما يقال بالعربي ومن كان منهم روميا كان له أسوة من أسلم من سائر طوائف الأعاجم كالفرس والترك والهند والبربر والحبشة وغيرهم وهو متمكن من معرفة ما أمره الله والعمل به كما يمكن هؤلاء كلهم بل الروم أقدر على ذلك من غيرهم فلأي وجه يمتنع أن يأمرهم الله بذلك وما لا يتم الواجب إلا به إذا كان مقدورا للعبد فعليه أن يفعله باتفاق أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى.

وإنما تنازع الناس فيه هل يسمى واجبا فقيل يسمى واجبا وقيل لا يسمى واجبا، فإن الآمر لم يقصده بالأمر وقد لا يخطر بباله إذا كان الأمر مخلوقا.

قال هؤلاء: ولأن الواجب ما يذم تاركه شرعا أو يعاقب تاركه شرعا أو ما يستحق تاركه الذم أو ما يكون تركه سببا للذم أو العقاب وقالوا وما لا يتم الواجب إلا به لا يستحق تاركه الذم والعقاب، فإن الحج إذا وجب على شخصين أحدهما بعيد والآخر قريب ولم يفعلاه لم تكن عقوبة البعيد على الترك أعظم من عقوبة القريب مع أن المسافة التي لا بد لهما من قطعها أكثر.

وكذلك من وجب عليه قضاء دينه من غير احتياج إلى بيع شيء من ماله ليست عقوبته على الترك بأقل من عقوبة من يحتاج إلى بيع مال له ليقضي به دينه.

وفصل الخطاب أن ما لا يتم الواجب إلا به هو من لوازم وجود الواجب ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع فالمأمور به لا يمكن فعله إلا بلوازمه والمنهي عنه لا يمكن تركه إلا بترك ملزوماته لكن هذا الملزوم لزوم عقلي أو عادي فوجوبه وجوب عقلي عادي لا أن الآمر

نفسه قصد إيجابه والذم والعقاب على تركه.

وتنازع الناس هل يقال ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب سواء كان وجوبه شرعيا أو عقليا أو يحتاج أن يقال ما لا يتم الواجب إلا به وكان مقدورا للمكلف فهو واجب؟.

فالجمهور أطلقوا العبارة الأولى وبعض المتأخرين قيدوها بالقدرة ولا حاجة إلى ذلك، فإن ما لم يكن مقدورا ينتفي الوجوب مع انتفائه فيكون شرطا في الوجوب لا في فعل الواجب والجمهور قالوا: ما لا يتم الواجب إلا به، فإنه يجب.

والمقصود هنا أن الله إذا أوجب على العباد شيئا واحتاج أداء الواجب إلى تعلم شيء من العلم كان تعلمه واجبا فإذا كان معرفة العبد لما أمره الله به تتوقف على أن يعرف معنى كلام تكلم به بغير لغته وهو قادر على تعلم معنى تلك الألفاظ التي ليست بلغته أو على معرفة ترجمتها بلغته وجب عليه تعلم ذلك.

ولو جاءت رسالة من ملك إلى ملك بغير لسانه لطلب من يترجم مقصود الملك المرسل ولم يجز أن يقول أنت لم تبعث إلي من يخاطبني بلغتي مع قدرته على أن يفهم مراده بالترجمة، فكيف يجوز أن يقال ذلك لرب العالمين؟ ولو أمر به بعض الملوك بعض رعاياه وجنوده بلغته وهم قادرون على معرفة ما أمرهم به إما بتعلم لغته وإما بمن يترجم لهم ما قاله لم يكن ذلك ظلما فكيف يكون ظلما من رب العالمين مع أنه ليس بظلم من المخلوقين؟.

ولو وجب لبعض الرعية حق على بعض أو ظلم بعضهم بعضا لوجب على الملك أن ينصف المظلوم ويرسل إلى الظالم من يأمره بالعدل والإنصاف ويعاقبه إذا لم ينصف إذا كان الظالم متمكنا من معرفة أمر الملك بالترجمة أو غيرها وهذا هو العدل ليس العدل أن يترك الناس ظالمين في حق الله وحق عباده والله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط كما قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط فليس لأحد ممن أرسل إليه رسول وهو قادر على معرفة ما أرسل به إليه بالترجمة أو غير الترجمة أن يمتنع من شرع الله الذي أنزله وهو القسط الذي بعث به رسوله لكون الرسول ليس لغته لغته مع قدرته على أن يعرف مراده بطرق متعددة.

والناس في مصالح دنياهم يتوسل أحدهم إلى معرفة مراد الآخر بالترجمة وغيرها فيتبايعون وبينهم ترجمان يبلغ بعضهم عن بعض ويتراسلون في عمارة بلادهم وأغراض نفوسهم بالتراجم الذين يترجمون لهم وأمر الدين أعظم من أمر الدنيا فكيف لا يتوسلون إلى معرفة مراد بعضهم من بعض وكيف يكون أمر الدنيا أهم من أمر الدين إلا عند من أغفل الله قلبه عن ذكر ربه واتبع هواه وأعرض عن ذكر ربه ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم.

قال تعالى: فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا وقال تعالى: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا.

الوجه الرابع: أنه من العجب أن تعد النصارى مثل هذا ظلما خارجا عن العدل وهم قد نسبوا إلى الله من الظلم العظيم على هذا الأصل ما لم ينسبه إليه أحد من الأمم كما سبوه وشتموه مسبة ما سبه إياها أحد من الأمم فهم من أبعد الأمم عن توحيده وتمجيده وحمده والثناء عليه وذلك أنهم يزعمون أن آدم لما أكل من الشجرة غضب الرب عليه وعاقبه وأن تلك العقوبة بقيت في ذريته إلى أن جاء المسيح وصلب وأنه كانت الذرية في حبس إبليس فمن مات منهم ذهبت روحه إلى جهنم في حبس إبليس حتى قالوا: ذلك في الأنبياء نوح وإبراهيم وموسى وداود وسليمان وغيرهم.

ومعلوم أن إبراهيم كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنب أبيه فكيف يؤاخذه بذنب آدم وهو أبوه الأبعد، هذا لو قدر أن آدم لم يتب فكيف وقد أخبر الله عنه بالتوبة؟ ثم يزعمون أن الصلب الذي هو من أعظم الذنوب والخطايا به خلص الله آدم وذريته من عذاب الجحيم وبه عاقب إبليس مع أن إبليس ما زال عاصيا لله مستحقا للعقاب من حين امتنع من السجود لآدم ووسوس لآدم إلى حين مبعث المسيح والرب قادر على عقوبته وبنو آدم لا عقوبة عليهم في ذنب أبيهم فمن كان قولهم مثل هذه الخرافات التي هي مضاحك العقلاء والتي لا تصلح أن تضاف إلى أجهل الملوك وأظلمهم فكيف يدعون مع هذا أنهم يصفون الله بالعدل ويجعلون من عدله أنه لا يأمر الإنسان بتعلم ما يقدر على تعلمه وفيه صلاح معاشه ومعاده ويجعلون مثل هذا موجبا لتكذيب كتابه ورسله والإصرار على تبديل الكتاب الأول وتكذيب الكتاب الآخر وعلى أنه يتضمن مخالفة موسى وعيسى وسائر الأنبياء والرسل؟.

والنصارى يقولون: إن المسيح الذي هو عندهم اللاهوت والناسوت جميعا إنما مكن الكفار من صلبه ليحتال بذلك على عقوبة إبليس قالوا: فأخفى نفسه عن إبليس لئلا يعلم ومكن أعداءه من أخذه وضربه والبصاق في وجهه ووضع الشوك على رأسه وصلبه وأظهر الجزع من الموت وصار يقول يا إلهي لم سلطت أعدائي علي ليختفي بذلك عن إبليس فلا يعرف إبليس أنه الله أو ابن الله ويريد إبليس أن يأخذ روحه إلى الجحيم كما أخذ أرواح نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم من الأنبياء والمؤمنين فيحتج عليه الرب حينئذ ويقول بماذا استحللت يا إبليس أن تأخذ روحي؟ فيقول له إبليس: بخطيئتك فيقول: ناسوتي لا خطيئة له كنواسيت الأنبياء، فإنه كان لهم خطايا استحقوا بها أن تؤخذ أرواحهم إلى جهنم وأنا لا خطيئة لي.

وقالوا فلما أقام الله الحجة على إبليس جاز للرب حينئذ أن يأخذ إبليس ويعاقبه ويخلص ذرية آدم من إذهابهم إلى الجحيم وهذا الكلام فيه من الباطل ونسبة الظلم إلى الله ما يطول وصفه فمن هذا قوله: فقد قدح في علم الرب وحكمته وعدله قدحا ما قدحه فيه أحد وذلك من وجوه.

أحدها: أن يقال إبليس إن كان أخذ الذرية بذنب أبيهم فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره وإن كان بخطاياهم فلم يأخذهم بذنب أبيهم وهم قالوا إنما أخذهم بذنب آدم.

الثاني: أن يقال من خلق بعد المسيح من الذرية كمن خلق قبله فكيف جاز أن يمكن إبليس من الذرية المتقدمين دون المتأخرين وكلهم بالنسبة إلى آدم سواء وهم أيضا يخطئون أعظم من خطايا الأنبياء المتقدمين فكيف جاز تمكين إبليس من عقوبة الأنبياء المتقدمين ولم يمكن من عقوبة الكفار والجبابرة الذين كانوا بعد المسيح؟.

الوجه الثالث: أن يقال أخذ إبليس لذرية آدم وإدخالهم جهنم إما أن يكون ظلما من إبليس وإما أن يكون عدلا، فإن كان عدلا فلا لوم على إبليس ولا يجوز أن يحتال عليه ليمتنع من العدل الذي يستحقه بل يجب تمكينه من المتأخرين والمتقدمين.

وإن كان ظلما فلم لا يمنعه الرب منه قبل المسيح؟.

فإن قيل لم يقدر فقد نسبوه إلى العجز وإن قيل قدر على دفع ظلم إبليس ولم يفعله فلا فرق بين دفعه في زمان دون زمان إن جاز ذلك جاز في كل زمان وإن امتنع امتنع في كل زمان.

الوجه الرابع: أن إبليس إن كان معذورا قبل المسيح فلا حاجة إلى عقوبته ولا ملام عليه وإن لم يكن معذورا استحق العقوبة ولا حاجة إلى أن يحتال عليه بحيلة تقام بها الحجة عليه.

الوجه الخامس: إنه بتقدير أنه لم يقم عليه الحجة قبل الصلب فلم يقم عليه حجة بالصلب، فإنه يمكنه أن يقول أنا ما علمت أن هذا الناسوت هو ناسوت الرب وأنت يا رب قد أذنت لي أن آخذ جميع ذرية آدم فأوديهم إلى الجحيم فهذا واحد منهم وما علمت أنك أو ابنك اتحد به ولو علمت ذلك لعظمته، فأنا معذور في ذلك فلا يجوز أن تظلمني.

الوجه السادس: أن نقول: أن إبليس يقول حينئذ يا رب فهذا الناسوت الواحد أخطأت في أخذ روحه لكن سائر بني آدم الذين بعده لي أن أحبس أرواحهم في جهنم كما حبست أرواح الذين كانوا قبل المسيح إما بذنب أبيهم وإما بخطاياهم أنفسهم وحينئذ، فإن كان ما يقوله النصارى حقا فلا حجة لله على إبليس.

الوجه السابع: أن يقال هب أن آدم أذنب وبنوه أذنبوا بتزيين الشيطان فعقوبة بني آدم على ذنوبهم هي إلى الله أو إلى إبليس؟ فهل يقول عاقل أن إبليس له أن يغوي بني آدم بتزيينه لهم ثم له أن يعاقبهم جميعا بغير إذن من الله في ذلك وهل هذا القول إلا من قول المجوس الثنوية الذين يقولون إن كل ما في العالم من الشر من الذنوب والعقاب وغير ذلك هو من فعل إبليس لم يفعل الله شيئا من ذلك ولا عاقب الله أحدا على ذنب.

ولا ريب أن هذا القول سرى إلى النصارى من المجوس لهذا لا ينقلون هذا القول في كتاب منزل ولا عن أحد من الحواريين ولهذا كان المانوية دينهم مركبا من دين النصارى والمجوس وكان رأسهم ماني نصرانيا مجوسيا فالنسب بين النصارى والمجوس بل وسائر المشركين نسب معروف.

الوجه الثامن: أن يقال إبليس عاقب بني آدم وأدخلهم جهنم بإذن الله أو بغير إذنه.

إن قالوا: بإذنه فلا ذنب له ولا يستحق أن يحتال عليه ليعاقب ويمتنع وإن كان بغير إذنه فهل جاز في عدل الله أن يمكنه من ذلك أم لم يجز، فإن جاز ذلك في زمان جاز في جميع الأزمنة وإن لم يجز في زمان لم يجز في جميع الأزمنة فلا فرق بين ما قبل المسيح وما بعده.

الوجه التاسع: أن يقال هل كان الله قادرا على منع إبليس وعقوبته بدون هذه الحيلة وكان ذلك عدلا منه لو فعله أم لا، فإن كان ذلك مقدورا له وهو عدل منه لم يحتج أن يحتال على إبليس ولا يصلب نفسه أو ابنه ثم إن كان هذا العدل واجبا عليه وجب منع إبليس وإن لم يكن واجبا جاز تمكينه في كل زمان فلا فرق بين زمان وزمان.

وإن قيل لم يكن قادرا على منع إبليس فهو تعجيز للرب عن منع إبليس وهذا من أعظم الكفر باتفاق أهل الملل من جنس قول الثنوية الذين يقولون لم يكن يقدر النور أن يمنع الظلمة من الشر ومن جنس قول ديمقراطيس والحنانين الذين يقولون لم يمكن واجب الوجود أن يمنع النفس من ملابسة الهيولي بل تعلقت النفس بها بغير اختياره.

الوجه العاشر: أن ما فعله به الكفار اليهود الذين صلبوه طاعة لله أو معصية، فإن كان طاعة لله استحق اليهود الذين صلبوه أن يثيبهم ويكرمهم على طاعته كما يثيب سائر المطيعين له والنصارى متفقون على أن أولئك من أعظم الناس إثما وهم من شر الخلق وهم يستحلون من دمهم ولعنتهم ما لا يستحلونه من غيرهم بل يبالغون في طلب اليهود وعقوبتهم في آخر صومهم الأيام التي تشبه أيام الصليب وإن كان أولئك اليهود عصاة لله فهل كان قادرا على منعهم من هذه المعصية أم لا، فإن لم يكن قادرا لم يكن قادرا على منع إبليس من ظلم الذرية في الزمن المستقبل وإن كان قادرا على منعهم من المعاصي ولم يمنعهم كان قادرا على منع إبليس بدون هذه الحيلة وإذا كان حسنا منه تمكينهم من هذه المعصية كان حسنا منه تمكين إبليس من ظلم الذرية في الماضي والمستقبل فلا حاجة إلى الحيلة عليه.

واعلم أن الوجوه الدالة على فساد دين النصارى كثيرة جدا وكلما تصور العاقل مذهبهم وتصور لوازمه تبين له فساده لكن المقصود هنا بيان تناقضهم في أنهم يقيمون عذر أنفسهم في ترك الإيمان بكتابه ورسوله ودينه لكونه سبحانه عدلا لا يأمر الناس بما يعجزون عنه وهو سبحانه لم يأمرهم إلا بما يقدرون عليه وقد نسبوا إليه من الظلم ما لم ينسبه إليه أحد من بني آدم يوضح هذا.

الوجه الحادي عشر: وهو أنه إما أن يقال في الظلم بقول الجهمية المجبرة الذين يقولون يفعل ما يشاء بلا حكمة ولا سبب ولا مراعاة عدل وإما أن يقال بقول القدرية أنه يجب عليه العدل الذي يجب على المخلوقين وإما أن يقال هو عادل منزه عن الظلم، ولكن ليس عدله كعدل المخلوق فهذه أقوال الناس الثلاثة.

فإن قيل بالأول جاز أن يسلط إبليس على جميع الذرية بلا ذنب وأن يعاقبهم جميعا بلا ذنب ولا حاجة حينئذ إلى الحيلة على إبليس.

وإن قيل بالثاني: فمعلوم أن الواحد من الناس لو علم أن بعض مماليكه أمر غيره بذنب يكرهه السيد ففعله كان العدل منه أن يعاقب الآمر والمأمور جميعا.

وأما تسليطه للآمر على عقوبة المأمور فليس من العدل وكذلك تسليط الآمر الظالم على جميع ذرية المأمور الذين لم يذنبوا ذنب أبيهم ليس من العدل.

وإن قيل: بل هو استحق أن يستعبدهم لكون أبيهم أطاعه قيل: فحينئذ يستحق أن يأسر الأولين والآخرين فلا يجوز أن يمنع من حقه بالاحتيال عليه.

وإن قيل: إنما يستحق أخذهم خطاياهم قيل فله أن يأخذ الأولين والآخرين.

وإن قيل: هو لما طلب أخذ روح ناسوت المسيح منع بهذا الذنب قيل: هذا إن كان ذنبا فهو أخف ذنوبه، فإنه لم يعلم أنه ناسوت الإله وإذا استحق الرجل أن يسترق أولاد غيره فطلب رجلا ليسترقه لظنه أنه منهم ولم يكن منهم لم يكن هذا ذنبا يمنع استرقاق الباقين.

وإن قيل إن عدل الرب ليس كعدل المخلوقين بل من عدله أن لا ينقص أحدا من حسناته ولا يعاقبه إلا بذنبه لم يجز حينئذ أن يعاقب ذرية آدم بذنب أبيهم ولم يجز أن يعاقب الأنبياء الذين ليس لهم ذنب إلا ذنب تابوا منه بذنب غيرهم، فإن الأنبياء معصومون أن يقروا على ذنب فكل من مات منهم مات وليس له ذنب يستحق عليه العقوبة فكيف يعاقبون بعد الموت بذنب أبيهم إن قدر أنه مات مصرا على الذنب مع أن هذا تقدير باطل ولو قدر أن الأنبياء لهم خطايا يستحقون بها العقوبة بعد الموت وتسليط إبليس على عقوبتهم مع أن هذا تقدير باطل فمن بعد المسيح من غير الأنبياء أولى بذلك فكيف يجوز في العدل الذي يوجب التسوية بين المتماثلين عقوبة الأنبياء ومنع عقوبة من هو دونهم بل من هو من الكفار.

الوجه الثاني عشر: أن الرب إذا قصد بهذا دفع ظلم إبليس فهلا اتحد بناسوت بعض أولاد آدم ليحتال على إبليس فيمنعه من ظلم من تقدم، فإن المنع من الشر الكثير أولى من المنع من الشر القليل أتراه ما كان يعلم أن إبليس يعمل هذا الشر كله فهذا تجهيل له أو كان يعرف وعجز عن دفعه فهذا تعجيز له ثم ما الفرق بين زمان وزمان أم كان ترك منعه عدلا منه فهو عدل في كل زمان.

فصل: رد دعواهم أن من في قوله تعالى ومن يبتغ غير الإسلام دينا تقتضي العرب وحدهم

وأما تفسيرهم لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين بأن مراده قومه كما قالوا.

وأما قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين يريد بحسب مقتضى العدل قومه الذين أتاهم بلغتهم لا غيرهم ممن لم يأتهم بما جاء فيه.

فيقال لهم من فسر مراد متكلم: أي متكلم كان بما يعلم الناس أنه خلاف مراده فهو كاذب مفتر عليه وإن كان المتكلم من آحاد العامة ولو كان المتكلم من المتنبئين الكذابين، فإن من عرف كذبه إذا تكلم بكلام وعرف مراده به لم يجز أن يكذب عليه فيقال: أراد كذا وكذا، فإن الكذب حرام قبيح على كل أحد سواء كان صادقا أو كاذبا فكيف بمن يفسر مراد الله ورسوله بما يعلم كل من خبر حاله علما ضروريا أنه لم يرد ذلك بل يعلم علما ضروريا أنه أراد العموم.

فإن قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا صيغة عامة، وصيغة " من " الشرطية من أبلغ صيغ العموم كقوله تعالى فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ثم إن سياق الكلام يدل على أنه أراد أهل الكتاب وغيرهم، فإن هذا في سورة آل عمران في أثناء مخاطبته لأهل الكتاب ومناظرته للنصارى، فإنها نزلت لما قدم على النبي ﷺ وفد نجران النصارى وروى أنهم كانوا ستين راكبا وفيهم السيد والأيهم والعاقب وقصتهم مشهورة معروفة كما تقدم ذكرها.

وقد قال قبل هذا الكلام بذم دين النصارى الذي ابتدعوه وغيروا به دين المسيح ولبسوا الحق الذي بعث به المسيح بالباطل الذي ابتدعوه حتى صار دينهم مركبا من حق وباطل واختلط أحدهما بالآخر فلا يكاد يوجد معه من يعرف ما نسخه المسيح من شريعة التوراة مما أقره والمسيح قرر أكثر شرع التوراة وغير المعنى وعامة النصارى لا يميزون ما قرره مما غيره فلا يعرف دين المسيح.

قال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون فقد بين أن من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فهو كافر فمن اتخذ من دونهم أربابا كان أولى بالكفر وقد ذكر أن النصارى اتخذوا من هو دونهم أربابا بقوله تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ثم قال تعالى: في سورة آل عمران وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين

قال ابن عباس وغيره من السلف: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث محمد وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه والآية تدل على ما قالوا، فإن قوله تعالى: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين يتناول جميع النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه وهذه اللام الأولى تسمى اللام الموطئة للقسم واللام الثانية: تسمى لام جواب القسم، والكلام إذا اجتمع فيه شرط وقسم وقدم القسم سد جواب القسم مسد جواب الشرط، والقسم كقوله تعالى: لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون ومنه قوله تعالى: ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين

وقوله: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها وقوله: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن أمرتهم ليخرجن قل لا تقسموا وقوله: وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم ومنه قوله: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله (وقوله): ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب (وقوله): لئن لم يرحمنا ربنا ويغفر لنا لنكونن من الخاسرين وقوله: لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم

وقوله: ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك وقوله: وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم وقوله: ولئن لم يفعل ما آمره ليسجنن وليكونن من الصاغرين وقوله: ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا إن أنتم إلا مبطلون وقوله: ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم وقوله: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة ليقولن ما يحبسه ومثل هذا كثير وحيث لم يذكر القسم فهو محذوف مراد تقدير الكلام - والله - لئن أخرجوا لا يخرجون معهم - والله - ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ومن محاسن لغة العرب أنها تحذف من الكلام ما يدل المذكور عليه اختصارا وإيجازا لا سيما فيما يكثر استعماله كالقسم (وقوله): لما آتيتكم من كتاب وحكمة هي ما الشرطية، والتقدير: أي شيء أعطيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه، ولا تكتفوا بما عندكم عما جاء به ولا يحملنكم ما آتيتكم من كتاب وحكمة على أن تتركوا متابعته بل عليكم أن تؤمنوا به وتنصروه، وإن كان معكم من قبله من كتاب وحكمة فلا يغنيكم ما آتيتكم عما جاء به، فإن ذلك لا ينجيكم من عذاب الله.

فدل ذلك على أنه من أدرك محمدا من الأنبياء وأتباعهم وإن كان معه كتاب وحكمة فعليه أن يؤمن بمحمد وينصره كما قال لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه

وقد أقر الأنبياء بهذا الميثاق وشهد الله عليهم به كما قال تعالى: أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين ثم قال تعالى: فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ثم قال تعالى: أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون ثم قال تعالى: قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ثم قال تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

قالت طائفة من السلف: لما أنزل الله هذه الآية قال من قال من اليهود والنصارى نحن مسلمون. فقال تعالى: ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا فقالوا: لا نحج فقال تعالى: ومن كفر فإن الله غني عن العالمين فكل من لم ير حج البيت واجبا عليه مع الاستطاعة فهو كافر باتفاق المسلمين كما دل عليه القرآن.

واليهود والنصارى لا يرونه واجبا عليهم فهم من الكفار حتى أنه روي في حديث مرفوع إلى النبي ﷺ " من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا وإن شاء نصرانيا ".

وهو محفوظ من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد اتفق المسلمون على أن من جحد وجوب مباني الإسلام الخمس الشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصيام شهر رمضان وحج البيت، فإنه كافر.

وأيضا فقد قال تعالى: في أول السورة شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب * فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد

فقد أمره تعالى بعد قوله: إن الدين عند الله الإسلام أن يقول أسلمت وجهي لله ومن اتبعن، وأن يقول للذين أوتوا الكتاب وهم اليهود والنصارى والأميين وهم الذين لا كتاب لهم من العرب وغيرهم: أأسلمتم، فالعرب الأميون يدخلون في لفظ الأميين باتفاق الناس.

وأما من سواهم: فإما أن يشمله هذا اللفظ أو يدخل في معناه بغيره من الألفاظ المبينة أنه أرسل إلى جميع الناس.

قال تعالى: فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد فقد أمر أهل الكتاب بالإسلام كما أمر به الأميين وجعلهم إذا أسلموا مهتدين وإن لم يسلموا فقد قال: (إنما عليك البلاغ) أي تبلغهم رسالات ربك إليهم والله هو الذي يحاسبهم فدل هذا كله على أنه عليه أن يبلغ أهل الكتاب ما أمرهم به من الإسلام كما يبلغ الأميين، وأن الله يحاسبهم على ترك الإسلام كما يحاسب الأميين.

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ في الكتاب الذي كتبه إلى هرقل ملك النصارى " من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين ".

و: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون وأبلغ من ذلك أن الله تعالى أخبر في كتابه أن الإسلام دين الأنبياء كنوح وإبراهيم ويعقوب وأتباعهم إلى الحواريين وهذا تحقيق لقوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وإن الدين عند الله الإسلام في كل زمان ومكان.

قال تعالى: عن نوح أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه ياقوم إن كان كبر عليكم مقامي وتذكيري بآيات الله فعلى الله توكلت فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون * فإن توليتم فما سألتكم من أجر إن أجري إلا على الله وأمرت أن أكون من المسلمين فهذا نوح الذي غرق أهل الأرض بدعوته وجعل جميع الآدميين من ذريته يذكر أنه أمر أن يكون من المسلمين.

وأما الخليل فقال تعالى: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم قال تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون فقد أخبر تعالى أنه أمر الخليل بالإسلام وأنه قال: أسلمت لرب العالمين وأن إبراهيم وصى بنيه ويعقوب وصى بنيه أن لا يموتن إلا وهم مسلمون.

وقال تعالى: ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين وقال تعالى: عن يوسف الصديق ابن يعقوب أنه قال رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين وقال تعالى: عن موسى وقال موسى ياقوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين وقال عن السحرة الذين آمنوا بموسى: قالوا لا ضير إنا إلى ربنا منقلبون * إنا نطمع أن يغفر لنا ربنا خطايانا أن كنا أول المؤمنين وقالوا أيضا وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين وقال تعالى: في قصة سليمان إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم * ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين وقال قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين وقال: وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين

وقال عن بلقيس التي آمنت بسليمان رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين وقال: عن أنبياء بني إسرائيل إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال تعالى عن الحواريين: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون وقال تعالى ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.

فهؤلاء الأنبياء وأتباعهم كلهم يذكر تعالى أنهم كانوا مسلمين وهذا مما يبين أن قوله تعالى: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وقوله: إن الدين عند الله الإسلام لا يختص بمن بعث إليه محمد بل هو حكم عام في الأولين والآخرين ولهذا قال تعالى: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا وقال تعالى: وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فصل: توسط المسلمين بين تقصي اليهود وغلو النصارى

قولهم ثم وجدنا في هذا الكتاب من تعظيم السيد المسيح وأمه حيث يقول في سورة الأنبياء والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين وقال في سورة آل عمران وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين مع الشهادات للسيد المسيح بالمعجزات وأنه حبلت به أمه من غير مباضعة رجل لبشارة ملائكة الله لأمه وأنه تكلم في المهد وأحيا الميت وأبرأ الأكمه ونقى الأبرص وأنه خلق من الطين كهيئة الطير فنفخ فيه فكان طائرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت ووجدنا أيضا في الكتاب أن الله رفعه إليه.

وقال في سورة النساء:

وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وفي سورة آل عمران إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وقال: في سورة البقرة وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس وقال: في سورة الحديد وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وقال في سورة آل عمران من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ثم وجدناه يعظم إنجيلنا.

الجواب: أما تعظيم المسيح وأمه فهو حق وكذلك مدح من كان على دينه الذي لم يبدل قبل أن يبعث أو بقي على ذلك إلى أن بعث محمد فآمن به، فإن هؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون وكذلك من كان على دين موسى الذي لم يبدل إلى أن بعث المسيح فآمن به فهؤلاء مؤمنون مسلمون مهتدون وقد قدمنا أن المسلمين هم عدل متوسطون لا ينحرفون إلى غلو ولا إلى تقصير.

وأما اليهود والنصارى فهم على طرفي نقيض هؤلاء ينحرفون إلى جهة وهؤلاء إلى الجهة التي تقابلها كما ذكرنا تقابلهم في النسخ وكذلك تقابلهم في التحريم والتحليل والطهارة والنجاسة، فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وهم يبالغون في اجتناب النجاسات حتى أن الحائض لا يؤاكلونها ولا يساكنونها ولا يجامعونها وكانوا لا يرون إزالة النجاسة من الثوب بل يقرض موضعها ويستخرجون الدم من العروق إلى غير ذلك من الآصار والأغلال التي كانت عليهم.

وأما النصارى ففي مقابلتهم تجد عامتهم لا يرون شيئا حراما ولا نجسا إلا ما كرهه الإنسان بطبعه ويصلون مع الجنابة والحدث وحمل النجاسات ويأكلون الخبائث كالدم والميتة ولحم الخنزير إلا من كره منهم شيئا فتركه. والمسلمون وسط كما قال تعالى فيهم وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا أي عدلا خيارا قال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون * الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون

ولهذا كان من انحرف من المسلمين إلى شبه اليهود والنصارى مأمورا بترك ذلك الانحراف واتباع الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا غير المغضوب عليهم كاليهود وغير الضالين كالنصارى.

وذلك مثل من يبالغ في اجتناب النجاسات فينجس ما لم ينجسه الله ورسوله ويحرم ما لم يحرمه الله ورسوله ويأخذه الوسواس في اجتناب النجاسات ويحرم طيبات أحلها الله للمسلمين مثل من يرى أن القياس أن النجاسة لا تزول لا بماء ولا بغيره أو يرى أنها وإن زالت فلم يبق لها أثر فالمحل نجس إذا لم تزل بما يشترطه هو من الماء أو غيره أو يرى أن الطيبات التيأحلها الله حرام خبيثة لأنها مستحيلة عن المحرم مع أن الخل حلال وإن كان قد كان خمرا باتفاق المسلمين إذا بدا إلى حالته أو يرى أن الماء الطيب والمائعات الطيبة التي ليس فيها أثر من الخبيث حرام لكون الخبيث لاقاها أو استهلك فيها مع أنها من الطيبات لا من الخبائث أو يرى تحريم ما سوى موضع الدم الذي هو أذى إلى غير ذلك من أقوال قالها بعض العلماء، ولكن غيرهم نازعهم في ذلك واتبع ما دل عليه الكتاب والسنة.

وأعظم من ذلك من يكفر من خالفه من المسلمين ويرى نجاسة الكفار كما عليه كثير من أهل البدع من الرافضة والخوارج وغيرهم فإذا أكل غيرهم من وعائهم نجسه عندهم وأما ما يفعله كثير من الناس من غير أن يقوله عالم مثل من يغسل يديه وثيابه وحصر بيته بتوهم نجاستها أو يأمر الحائض إذا طهرت أن تبدل ثيابها الأول أو تغسلها أو يمنع الجنب أن يأكل أو يشرب حتى يغتسل فهذا كثير فيمن يشبه اليهود بل يشبه سامرة اليهود.

وأما من يشبه النصارى فمثل من يحسن الظن بمن لا يتطهر ولا يصلي من المنسوبين إلى الفقر والزهد والعبادة مثل من يكون في مواضع الشياطين والنجاسات كالحمام والأتاتين والمزابل وهو متلوث بالبول والعذرة ويعاشر الكلاب ولا يتوضأ ولا يغتسل من الجنابة بل ولا يصلي أو يصلي بلا وضوء وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الصلوات الخمس فرض على كل أحد وأن الوضوء من الحدث والاغتسال من الجنابة فرض لا يصلي إلا به مع القدرة ولا يتيمم مع القدرة فمن أنكر وجوب ذلك فهو كافر باتفاق المسلمين.

ومن جعل الزاهد العابد الذي له نوع من الخوارق مثل نوع من الكشف والتصرف الذي يكون من الشياطين والجهال يظنون أنه من كرامات أولياء الله إذا لم يكن يصلي الصلوات الخمس ويتوضأ ويغتسل من الجنابة من المؤمنين أو من أولياء الله فهو كافر باتفاق المسلمين ومن لم يحرم الخبائث التي حرمها الله ورسوله كالبول والعذرة والدم والميتة ولحم الخنزير والخمر فهو كافر باتفاق المسلمين ومن جعل مستحل ذلك مع العلم بمخالفته لدين الرسول وليا لله فهو كافر باتفاق المسلمين وكذلك فيمن ينتحل الإسلام ويذم أهل الكتاب من يكون منافقا في الدرك الأسفل من النار ويكون كثير من اليهود والنصارى أخف عذابا في الآخرة منه قال الله تعالى إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا * إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما وكذلك المسلمون وأهل السنة في المسلمين وكذلك في التوحيد، فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فيما يختص بالمخلوق وهو صفات النقص الذي يجب تنزيه الرب عنها والنصارى شبهوا المخلوق بالخالق فيما يختص بالخالق وهو صفات الكمال التي لا يستحقها إلا الله تبارك وتعالى فقال من قال من اليهود إن الله فقير ونحن أغنياء وقالوا يد الله مغلولة وهو بخيل وقالوا أنه خلق العالم فتعب فاستراح.

وحكي عن بعضهم أنه قال: بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة وأنه ناح على بعض من أهلكه من عباده كما ينوح المصاب على ميته وأمثال ذلك مما يتعالى الله عنه ويتقدس - سبحانه وتعالى.

وأيضا فهم يستكبرون عن عبادة الله وطاعة رسله ويعصون أمره ويتعدون حدوده ولا يجوزون له أن ينسخ ما شرعه بل يحجرون عليه.

والنصارى يصفون المخلوق بما يتصف به الخالق فيجعلونه رب العالمين خالق كل شيء ومليكه الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون واتخذوا الملائكة والنبيين أربابا وصوروا تماثيل المخلوقات واتخذوهم شفعاء يشفعون لهم عند الله كما فعل عباد الأوثان كما قال: الله تعالى ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في السماوات ولا في الأرض ولهذا قال تعالى: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون وقال تعالى: الله الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ما لكم من دونه من ولي ولا شفيع والمسلمون وسط يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل يصفونه بصفات الكمال وينزهونه عن النقائص التي تمتنع على الخالق ولا يتصف بها إلا المخلوق فيصفونه بالحياة والعلم والقدرة والرحمة والعدل والإحسان وينزهونه عن الموت والنوم والجهل والعجز والظلم والفناء ويعلمون مع ذلك أنه لا مثيل له في شيء من صفات الكمال فلا أحد يعلم كعلمه ولا يقدر كقدرته ولا يرحم كرحمته ولا يسمع كسمعه ولا يبصر كبصره ولا يخلق كخلقه ولا يستوي كاستوائه ولا يأتي كإتيانه ولا ينزل كنزوله كما قال تعالى: قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ولا يصفون أحدا من المخلوقين بخصائص الخالق جل جلاله بل كل ما سواه من الملائكة والأنبياء وسائر الخلق فقير إليه عبد له وهو الصمد الذي يحتاج إليه كل شيء ويسأله كل أحد وهو غني بنفسه لا يحتاج إلى أحد في شيء من الأشياء كما قال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا

وقال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا وكذلك هم في المسيح فالنصارى يقولون هو الله ويقولون أيضا هو ابن الله وهو إله تام وإنسان تام واليهود يقولون هو ولد زنا وهو ابن يوسف النجار ويقولون عن مريم إنها بغي بعيسى كما قال تعالى: وقولهم على مريم بهتانا عظيما ويقولون هو ساحر كذاب.

وأما المسلمون فيقولون هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول وروح منه وهو وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويصفونه بما وصفه الله به في كتابه لا يغلون فيه غلو النصارى ولا يقصرون في حقه تقصير اليهود وكذلك قولهم في سائر الأنبياء والمرسلين وفي أولياء الله فاليهود قتلوا النبيين والذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ومع هذا فقد شارك النصارى اليهود في نقص حق كثير من الأنبياء فيقولون أن سليمان لم يكن نبيا ويقولون إن الحواريين مثل موسى وإبراهيم ويقولون إن من عمل بوصايا الله من غير الأنبياء صار مثل الأنبياء وكان له أن يشرع شريعة وبعض اليهود غلوا في العزير حتى قالوا إنه ابن الله.

ولهذا قال نبينا في الحديث الصحيح لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله.

والله تعالى ذكر في القرآن في سورة (كهيعص) قصة ابني الخالة يحيى وعيسى ويحيى يسمونه النصارى يوحنا وهو يوحنا المعمداني عندهم فقال تعالى بعد أن ذكر قصة يحيى واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا * فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا * فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا * فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا * وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا * فكلي واشربي وقري عينا فإما ترين من البشر أحدا فقولي إني نذرت للرحمن صوما فلن أكلم اليوم إنسيا * فأتت به قومها تحمله قالوا يامريم لقد جئت شيئا فريا * ياأخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا * فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا * قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا * وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا * وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا * والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.

ثم قال: الله تعالى ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين فذكر سبحانه قصة مريم والمسيح في هذه السورة المكية التي أنزلها في أول الأمر بمكة في السور التي ذكر فيها أصول الدين المدنية التي يخاطب فيها من اتبع الأنبياء من أهل الكتاب والمؤمنين لما قدم عليه نصارى نجران فكان فيها الخطاب لأهل الكتاب فقال تعالى: إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين * ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم * إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم * فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم.

وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من الشيطان إلا مريم وابنها ثم يقول أبو هريرة اقرءوا إن شئتم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم قال تعالى: فتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا قال يامريم أنى لك هذا قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب

ثم ذكر قصة زكريا ويحيى ثم قال:

هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء * فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب أن الله يبشرك بيحيى مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين * قال رب أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك الله يفعل ما يشاء * قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي والإبكار * وإذ قالت الملائكة يامريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين يامريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين * ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون * إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل * ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين * ومصدقا لما بين يدي من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم وجئتكم بآية من ربكم فاتقوا الله وأطيعون * إن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون * ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين * إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين * ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم * إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون * الحق من ربك فلا تكن من الممترين * فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين * إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين * قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون * ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وأنتم لا تعلمون * ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين * إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين.

فهو سبحانه قد ذكر قصة مريم والمسيح في هاتين السورتين إحداهما مكية نزلت في أول الأمر مع السور الممهدة لأصول الدين وهي سورة (كهيعص) والثانية: مدنية نزلت بعد أن أمر بالهجرة والجهاد ولهذا تضمنت مناظرة أهل الكتاب ومباهلتهم كما نزلت في براءة مجاهدتهم فأخبر في السورة المكية أنها لما انفردت للعبادة أرسل الله إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا فقالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا.

قال أبو وائل علمت أن المتقي ذو نهية أي تقواه ينهاه عن الفاحشة وأنها خافت منه أن يكون قصده الفاحشة فقالت أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا أي تتقي الله وما يقول بعض الجهال من أنه كان فيهم رجل فاجر اسمه تقي فهو من نوع الهذيان وهو من الكذب الظاهر الذي لا يقوله إلا جاهل ثم قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا وفي القراءة الأخرى لأهب لك غلاما زكيا فأخبر هذا الروح الذي تمثل لها بشرا سويا أنه رسول ربها فدل الكلام على أن هذا الروح عين قائمة بنفسها ليست صفة لغيرها وأنه رسول من الله ليس صفة من صفات الله ولهذا قال جماهير العلماء أنه جبريل فإن الله سماه الروح الأمين وسماه روح القدس وسماه جبريل وهكذا عند أهل الكتاب أنه تجسد من مريم ومن روح القدس لكن ضلالهم حيث يظنون أن روح القدس حياة الله وأنه إله يخلق ويرزق ويعبد وليس في شيء من الكتب الإلهية ولا في كلام الأنبياء أن الله سمى صفته القائمة به روح القدس ولا سمى كلامه ولا شيئا من صفاته ابنا وهذا أحد ما يثبت به ضلال النصارى وأنهم حرفوا كلام الأنبياء وتأولوه على غير ما أرادت الأنبياء، فإن أصل تثليثهم مبني على ما في أحد الأناجيل من أن المسيح قال لهم: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس فيقال لهم: هذا إذا كان قد قاله المسيح وليس في لغة المسيح ولا لغة أحد من الأنبياء أنهم يسمون صفة الله القائمة به ولا كلمته ولا حياته لا ابنا ولا روح قدس ولا يسمون كلمته ابنا ولا يسمونه نفسه ابنا ولا روح قدس، ولكن يوجد فيما ينقلونه عنهم أنهم يصفون المصطفى المكرم ابنا وهذا موجود في حق المسيح وغيره كما يذكرون أنه قال تعالى: لإسرائيل أنت ابني بكري أي بني إسرائيل.[1]

وروح القدس يراد به الروح التي تنزل على الأنبياء كما نزلت على داود وغيره، فإن في كتبهم أن روح القدس كانت في داود وغيره وأن المسيح قال لهم: أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم.[2] فسماه أبا للجميع لم يكن المسيح مخصوصا عندهم باسم الابن ولا يوجد عندهم لفظ الابن إلا اسما للمصطفى المكرم لا اسما لشيء من صفات الله ولا في كتب الأنبياء أن صفة الله تولدت منه.

وإذا كان كذلك كان في هذا ما يبين أنه ليس المراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية التي يقولون أنها تولدت من الله عندهم مع كونها أزلية ولا بروح القدس حياة الله بل المراد بالابن ناسوت المسيح وبروح القدس ما أنزل عليه من الوحي والملك الذي نزل به، فيكون قد أمرهم بالإيمان بالله وبرسوله وبما أنزله على رسوله والملك الذي نزل به وبهذا أمرت الأنبياء كلهم وليس للمسيح خاصة استحق بها أن يكون فيه شيء من اللاهوت لكن ظهر فيه نور الله وكلام الله وروح الله كما ظهر في غيره من الأنبياء والرسل، فإن غيره أيضا فيما ينقلونه عن الأنبياء يسمى ابنا وروح القدس حلت فيه وهذا مبسوط في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا التنبيه على أن كلام الأنبياء عليهم السلام يصدق بعضه بعضا وأنه ليس مع النصارى لا حجة سمعية ولا عقلية توافق ما ابتدعوه، ولكن فسروا كلام الأنبياء بما لا يدل عليه وعندهم في الإنجيل أنه قال: إن الساعة لا يعلمها الملائكة ولا الابن وإنما يعلمها الأب وحده فبين أن الابن لا يعلم الساعة فعلم أن الابن ليس هو القديم الأزلي وإنما هو المحدث الزماني.

فصل: الفرق بين ما يضاف إلى الله من صفاته وما يضاف إليه من مخلوقاته

والمضاف إلى الله نوعان، فإن المضاف إما أن يكون صفة لا تقوم بنفسها كالعلم والقدرة والكلام والحياة وإما أن يكون عينا قائمة بنفسها.

فالأول إضافة صفة كقوله: ولا يحيطون بشيء من علمه وقوله: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين وقوله: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة.

وقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح حديث الاستخارة إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك.

وقوله تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا وقوله: ذلكم حكم الله يحكم بينكم وقوله: ذلك أمر الله أنزله إليكم والثاني: إضافة عين كقوله تعالى: وطهر بيتي للطائفين وقوله: ناقة الله وسقياها وقوله: عينا يشرب بها عباد الله فالمضاف في الأول صفة لله قائمة به ليست مخلوقة له بائنة عنه والمضاف في الثاني: مملوك لله مخلوق له بائن عنه لكنه مفضل مشرف لما خصه الله به من الصفات التي اقتضت إضافته إلى الله - تبارك وتعالى - كما خص ناقة صالح من بين النوق وكما خص بيته بمكة من البيوت وكما خص عباده الصالحين من بين الخلق ومن هذا الباب قوله تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فإنه وصف هذا الروح بأنه تمثل لها بشرا سويا وأنها استعاذت بالله منه إن كان تقيا وأنه قال: إنما أنا رسول ربك وهذا كله يدل على أنها عين قائمة بنفسها وهي التي تسمى في اصطلاح النظار جوهرا وقد تسمى جسما إذا كانت مشارا إليها مع اختلاف الناس في الجسم هل هو مركب من الجواهر المفردة أم من المادة والصورة أم ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا وإذا كان الله قد بين أن المضاف هنا ليس من الصفات القائمة بغيرها بل من الأعيان القائمة بنفسها علم أن المضاف مملوك لله مخلوق له لكن إضافته إلى الله تدل على تخصيص الله له من الاصطفاء والإكرام بما أوجب التخصيص بالإضافة وقد ذكرت فيما كنت كتبته قبل هذا من الرد علىالنصارى الكلام في ذلك وغيره وبينت أن المضافات إلى الله نوعان: أعيان وصفات.

فالصفات إذا أضيفت إليه كالعلم والقدرة والكلام والحياة والرضا والغضب ونحو ذلك دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له قائم به ليست مخلوقة؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها فلا بد لها من موصوف تقوم به فإذا أضيفت إليه علم أنها صفة له لكن قد يعبر باسم الصفة عن المفعول بها فيسمى المقدور قدرة والمخلوق بالكلمة كلاما والمعلوم علما والمرحوم به رحمة كقول النبي ﷺ إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة.

وقوله تعالى فيما يروي عنه نبيه أنه قال: للجنة (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء).

ويقال للمطر والسحاب هذه قدرة قادر وهذه قدرة عظيمة ويقال في الدعاء غفر الله لك علمه فيك أي معلومه.

وأما الأعيان إذا أضيفت إلى الله تعالى فإما أن تضاف بالجهة العامة التي يشترك فيها المخلوق مثل كونها مخلوقة ومملوكة له ومقدورة ونحو ذلك فهذه إضافة عامة مشتركة كقوله: هذا خلق الله وقد يضاف لمعنى يختص بها يميز به المضاف عن غيره مثل: بيت الله وناقة الله وعبد الله وروح الله فمن المعلوم اختصاص ناقة صالح بما تميزت به عن سائر النياق وكذلك اختصاص الكعبة واختصاص العبد الصالح الذي عبد الله وأطاع أمره وكذلك الروح المقدسة التي امتازت بما فارقت به غيرها من الأرواح، فإن المخلوقات اشتركت في كونها مخلوقة مملوكة مربوبة لله يجري عليها حكمه وقضاؤه وقدره وهذه الإضافة لا اختصاص فيها ولا فضيلة للمضاف على غيره.

وامتاز بعضها بأن الله يحبه ويرضاه ويصطفيه ويقربه إليه ويأمر به أو يعظمه ويحبه فهذه الإضافة يختص بها بعض المخلوقات كإضافة البيت والناقة والروح وعباد الله من هذا الباب.

وقد قال تعالى: في سورة الأنبياء والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين

وقال في سورة التحريم وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين * ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.

فذكر امرأة فرعون التي ربت موسى بن عمران وجمعت بينه وبين أمه حتى أرضعته أمه عندها وذكر مريم أم المسيح التي ولدته وربته فهاتان المرأتان ربتا هذين الرسولين الكريمين فلما قال هنا فنفخنا فيها أي في المرأة وفيه أي في فرجها من روحنا وقال هنا فأرسلنا إليها روحنا إلى قوله: (إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا) دل على أن قوله روحنا ليس المراد به أنه صفة لله لا الحياة ولا غيرها ولا هو رب خالق فلا هو الرب الخالق ولا صفة الرب الخالق بل هو روح من الأرواح التي اصطفاها الله وأكرمها كما تقدم في قوله: فأرسلنا إليها روحنا وأن الأكثرين على أنه جبريل.

وهذا الأصل الذي ذكرناه من الفرق فيما يضاف إلى الله بين صفاته وبين مملوكاته أصل عظيم ضل فيه كثير من أهل الأرض من أهل الملل كلهم، فإن كتب الأنبياء التوراة والإنجيل والقرآن وغيرها أضافت إلى الله أشياء على هذا الوجه وأشياء على هذا الوجه فاختلف الناس في هذه الإضافة فقالت المعطلة نفاة الصفات من أهل الملل: إن الجميع إضافة ملك وليس لله حياة قائمة به ولا علم قائم به ولا قدرة قائمة به ولا كلام قائم به ولا حب ولا بغض ولا غضب ولا رضى بل جميع ذلك مخلوق من مخلوقاته.

وهذا أول ما ابتدعته في الإسلام الجهمية وإنما ابتدعوه بعد انقراض عصر الصحابة وأكابر التابعين لهم بإحسان وكان مقدمهم رجل يقال له الجهم بن صفوان فنسبت الجهمية إليه ونفوا الأسماء والصفات واتبعهم المعتزلة وغيرهم فنفوا الصفات دون الأسماء ووافقهم طائفة من الفلاسفة أتباع أرسطو.

وقالت الحلولية بل ما يضاف إلى الله قد يكون هو صفة له وإن كان بائنا عنه بل قالوا: هو قديم أزلي فقالوا: روح الله قديمة أزلية صفة لله حتى قال كثير منهم إن أرواح بني آدم قديمة أزلية وصفة لله وقالوا إن ما يسمعه الناس من أصوات القراء ومداد المصاحف قديم أزلي وهو صفة لله.

وقال حذاق هؤلاء بل غضبه ورضاه وحبه وبغضه وإرادته لما يخلقه قديم أزلي وهو صفة الله وكلامه الذي سمعه موسى قديم أزلي وأنه لم يزل راضيا محبا لمن علم أنه يطيعه قبل أن يخلق ولم يزل غضبانا ساخطا على من علم أنه يكفر قبل أن يخلق ولم يزل ولا يزال قائلا يا آدم يا نوح يا إبراهيم قبل أن يوجدوا وبعد موتهم ولم يزل ولا يزال يقول يا معشر الجن والإنس قبل أن يخلقوا وبعد ما يدخلون الجنة والنار.

وأما سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، وأئمة المسلمين المشهورون بالإمامة فيهم كالأربعة وغيرهم وأهل العلم بالكتاب والسنة فيفرقون بين مملوكاته وبين صفاته فيعلمون أن العباد مخلوقون وصفات العباد مخلوقة وأجسادهم وأرواحهم وكلامهم وأصواتهم بالكتب الإلهية وغيرها ومدادهم وأوراقهم والملائكة والأنبياء وغيرها ويعلمون أن صفات الله القائمة به ليست مخلوقة كعلمه وقدرته وكلامه وإرادته وحياته وسمعه وبصره ورضاه وغضبه وحبه وبغضه بل هو موصوف بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصفه به رسله ولا يحرفون الكلم عن مواضعه ولا يتأولون كلام الله بغير ما أراده ولا يمثلون صفات الخالق بصفات المخلوق بل يعلمون أن الله - سبحانه - ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله بل هو موصوف بصفات الكمال منزه عن النقائص وليس له مثل في شيء من صفاته ويقولون إنه لم يزل ولا يزال موصوفا بصفات الكمال لم يزل متكلما إذا شاء بمشيئته وقدرته ولم يزل عالما ولم يزل قادرا ولم يزل حيا سميعا بصيرا ولم يزل مريدا فكل كمال لا نقص فيه يمكن اتصافه به فهو موصوف به لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال منعوتا بنعوت الجلال والإكرام - سبحانه وتعالى.

والنصارى من أعظم الناس اضطرابا في هذا الأصل فتارة يجعلون كلامه الذي تكلم به كالتوراة والإنجيل مخلوقا منفصلا عنه وينفون عنه الصفات وتارة يجعلون كلمته قديمة أزلية متولدة عنه لم تزل ولا تزال ثم يقولون هذه الكلمة هي ابنه ويجعلون هذه الكلمة علمه أو حكمته ويقولون إن هذه الكلمة هي إله خالق وهو الذي خلق السماوات والأرض وأن هذه الكلمة هي المسيح والمسيح إله خالق العالم.

ويقولون: مع هذا أن هذه الكلمة ليست هي الأب الذي خلق السماوات والأرض فيجعلون كلمته صفة قديمة أزلية ويجعلونها ابنا له ويجعلون الصفة إلها خالقا ويجعلون المسيح هو الإله الخالق ويقولون مع هذا هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه.

ولهم في كلام الله وصفاته من التناقض والاضطراب ومخالفة كلام الأنبياء وتفسيره بغير ما أرادوه ومخالفة صريح المعقول وصحيح المنقول ما سنذكر - إن شاء الله - منه ما ييسره الله - سبحانه وتعالى - إذ بيان فساد أقوال النصارى بالاستقصاء لا يتسع له هذا الكتاب ولما قص تعالى قصة المسيح قال ذلك عيسى ابن مريم قول الحق أي يشكون ويتمارون كتماري اليهود والنصارى.

ثم قال تعالى: فاختلف الأحزاب من بينهم فاختلف اليهود والنصارى فيه ثم اختلفت النصارى فيه وصاروا أحزابا كثيرة جدا كالنسطورية واليعقوبية والملكية والباروبية والمريمانية والسمياطية وأمثال هذه الطوائف كما سنذكر - إن شاء الله - كثيرا من طوائفهم واختلافهم في مجامعهم كما حكى ذلك عنهم أحد أكابرهم سعيد بن البطريق وغيره، فإنه ليس في الأمم أكثر اختلافا في رب العالمين منهم فويل للذين كفروا من هذه الطوائف كلها من مشهد يوم عظيم، أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا يقول تعالى ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم كالنصارى الذين ظلموا بإفكهم وشركهم في ضلال مبين ضلوا عن الحق في المسيح وقد وصف الله النصارى بالضلال في مثل قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل وقال تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا؛ لأن الغالب عليهم الجهل بالدين وأنهم يتكلمون بكلام لا يعقلون معناه ليس منقولا عن الأنبياء حتى يسلم لقائله بل هم ابتدعوه وإذا سألتهم عن معناه قالوا: هذا لا يعرف بالعقول فيبتدعون كلاما يعرفون بأنهم لا يعقلونه وهو كلام متناقض ينقض أوله آخره ولهذا لا تجدهم يتفقون على قول واحد في معبودهم حتى قال بعض الناس لو اجتمع عشرة نصارى افترقوا على أحد عشر قولا.

وقال الربعي: النصارى أشد الناس اختلافا في مذاهبهم وأقلهم تحصيلا لها لا يمكن أن يعرف لهم مذهب ولو سألت قسا من أقسائهم عن مذهبهم في المسيح وسألت أباه وأمه لاختلفوا عليك الثلاثة ولقال كل واحد منهم قولا لا يشبه قول الآخر.

وقال بعض النظار: وما من قول يقوله طائفة من العقلاء إلا إذا تأملته تصورت منه معنى معقولا وإن كان باطلا إلا قول النصارى، فإنك كلما تأملته لم تتصور له حقيقة تعقل لكن غاياتهم أن يحفظوا الأمانة أو غيرها وإذا طولبوا بتفسير ذلك فسره كل منهم بتفسير يكفر به الآخر كما يكفر اليعقوبية والملكانية والنسطورية بعضهم بعضا لاختلافهم في أصل التوحيد والرسالة إذ كان قولهم في التوحيد والرسالة من أفسد الأقوال وأعظمها تناقضا كما بين في موضع آخر.

فصل: إبطال دعواهم اتحاد كلمة الله بجسد المسيح

وأما قولهم: فكان طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت فهذا إذا قالوه على أنه مذهبهم من غير أن يقولوا أن محمدا أراده تكلمنا معهم في ذلك وبينا فساد ذلك عقلا ونقلا.

وأما قولهم: أن محمدا ﷺ كان يقول: أن المراد إذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت فهذا من البهتان الظاهر على محمد ﷺ وهو من جنس قولهم أن قوله: اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم أراد به النصارى ومن جنس قولهم أن قوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا أراد به العرب ومن جنس قولهم لقد أرسلنا رسلنا بالبينات أراد بهم الحواريين ومن جنس قولهم الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين أراد به الإنجيل فهذه المواضع التي فسروا بها القرآن وزعموا أن محمدا ﷺ الذي بين للناس ما أنزل إليهم كان يريد بما يتلوه من القرآن هذه المعاني التي ذكروها هي من الكذب الظاهر الذي يدل على غاية جهل قائلها أو غاية معاندته، ولكن مثل هذا التأويل غير مستنكر من النصارى، فإنهم قد فسروا مواضع كثيرة من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات بنحو هذه التفاسير التي حرفوا فيها الكلام الذي جاءت به الأنبياء عن مواضعه تحريفا ظاهرا فبدلوا بذلك كتب الله ودين الله وضاهوا بذلك اليهود الذين حرفوا وبدلوا وإن اختلفت جهة التحريف والتبديل فتحريفهم للقرآن من جنس تحريفهم للتوراة والإنجيل وهم من الذين يدعون المحكم ويتبعون ما نشأ به منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله لكن في هذه المواضع حرفوا المحكم الذي معناه ظاهر لا يحتمل إلا معنى واحد فكانوا من الجهل والمعاندة أبعد عن الصواب ممن حرف معنى المتشابه وذلك أنه قد علم بالاضطرار من دين محمد ﷺ أنه كان يقول أن المسيح عبد الله مخلوق كسائر المرسلين وأنه يكفر النصارى الذين يقولون هو الله أو ابن الله.

قال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار * لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم * قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

فقد ذكر كفر النصارى في قولهم: هو الله مرتين وذكر أنه ليس المسيح إلا رسول قد خلت من قبله الرسل فغايته الرسالة كما قال: في محمد ﷺ وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل

وغاية أمه أن تكون صديقة ودل بهذا أنها ليست بنبية ثم قال: كانا يأكلان الطعام وهذا من أظهر الصفات النافية للإلهية لحاجة الأكل إلى ما يدخل في جوفه ولما يخرج منه مع ذلك من الفضلات.

والرب تعالى أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

والنصارى يقولون أنه يلد وأنه يولد وأن له كفوا كما قد بين في موضع آخر وقد أخبر بعبودية المسيح في غير موضع كقوله تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون * وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون * إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل وأخبر تعالى أن أول شيء نطق به المسيح قوله: إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وقال تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق الآيات إلى قوله: شهيد وقال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم الآيات كلها.

فإذا كان قد علم بالاضطرار من دين محمد ﷺ وبالنقل المتواتر عنه وبإجماع أمته إجماعا يستندون فيه إلى النقل عنه وبكتابه المنزل عليه وسنته المعروفة عنه أنه كان يقول أن المسيح عبد الله ورسوله ليس هو إلا رسول وأنه يكفر النصارى الذين يقولون هو الله وهو ابن الله والذين يقولون ثالث ثلاثة وأمثال ذلك كان بعد هذا تفسيرهم لقول الله الذي بلغه نبيه محمد ﷺ فيكون طيرا بإذن الله أي بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة بالناسوت كذبا ظاهرا على محمد ﷺ.

وهذا مما يعرف كذبهم فيه على محمد ﷺ جميع أهل الأرض العالم بحال محمد ﷺ سواء أقروا بنبوته أو أنكروها.

فالمقصود في هذا المقام أن هؤلاء كذبوا على محمد ﷺ كذبا ظاهرا معلوما للخلق المؤمنين به والمكذبين له ليس هو كذبا خفيا.

وإن قدر أن ما قالوه يكون معقولا فكيف إذا كان ممتنعا في صرائح العقول بل هو قول غير معقول أي غير معقول ثبوته في الخارج وإن كان يعقل ما يختلفون ويعلم به فساد عقولهم لمن قال سائر الأقوال المتناقضة الفاسدة التي يمتنع ثبوتها في الخارج وذلك كما قد بسط في موضع آخر، فإن قولهم: بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت باطل من وجوه.

منها أن تلك الكلمة إما أن تكون هي الله أو صفة لذاته أو لا هي ذاته ولا صفة له أو الذات والصفة جميعا.

فإن لم تكن هي ذات الله ولا صفته ولا الذات والصفة كانت بائنة عنه مخلوقة له ولم يكن لاهوتا بل ولا خالقه وحينئذ فلم يتحد بالمسيح لاهوت بل إن لم يتحد به إنه كان اتحد به إلا مخلوق.

وإن كانت الكلمة هي الذات أو الذات والصفة فهي رب العالمين وهي الأب عندهم وهم متفقون على أن المسيح ليس هو الأب ولم يتحد به الأب بل الابن.

وإن كانت الكلمة صفة لله - عز وجل - فصفة الله ليست هي الإله الخالق والمسيح عندهم هو الإله الخالق وأيضا فصفة الله قائمة بذاته لا تفارق ذاته وتحل بغيره وتتحد به وكلمة الله عندهم اتحدت بالمسيح.

وإن قالوا: قولنا هذا كما تقول طائفة من المسلمين إن القرآن أو التوراة أو الإنجيل حل في القراء أو اتحد بهم وأن القديم حل في المخلوق أو اتحد به ونحو ذلك.

قيل لو كان قول هؤلاء صوابا لم يكن لهم فيه حجة، فإنه على هذا التقدير لا فرق بين المسيح وبين سائر من يقرأ التوراة والإنجيل والزبور والقرآن وأنتم تدعون أن المسيح هو الله أو ابن الله مخصوصا بذلك دون غيره وأيضا فهؤلاء وجميع الأمم متفقون على أن قراء القرآن وسائر الكتب الإلهية ليس واحد منهم هو الله ولا هو ابن الله ولا أنه خالق للعالم فإذا جعلتم قولكم مثل قول هؤلاء لزمكم أن لا يكون المسيح هو الله ولا ابن الله ولا ربا للعالم وأيضا فلم نعلم أحدا من هؤلاء قال: أن اللاهوت اتحد بالناسوت ولا أن القديم اتحد بالمحدث ولا أن كلام الله صار هو والمخلوق شيئا واحدا فالاتحاد باطل باتفاق هؤلاء وغيرهم.

ولكن طائفة منهم أطلقت لفظ الحلول وطائفة أنكرت لفظ الحلول وقالوا إنما نقول ظهر القديم في المحدث لا حل فيه لكن قالوا ما يستلزم الحلول.

وسلف المسلمين وجمهورهم يخطئون هؤلاء ويبينون خطأهم عقلا ونقلا وقولهم ليس هو قول أحد من أئمة المسلمين ولا قول طائفة مشهورة من طوائف المسلمين كالمالكية والشافعية والحنفية والحنبلية والثورية والداودية والإسحاقية وغيرهم ولا قول طائفة من طوائف المتكلمين من المسلمين لا المنتسبين إلى السنة كالأشعرية والكرامية ولا غيرهم كالمعتزلة والشيعة وأمثالهم وإنما قال ذلك طائفة قليلة انتسبت إلى بعض علماء المسلمين مثل قليل من المالكية والشافعية والحنبلية وهؤلاء غايتهم أن يقولوا بحلول صفة من صفات الله وكذلك من قال بحلول الرب واتحاده في العبد من طوائف الغلاة المنتسبين إلى التشيع والتصوف أو غيرهم فهم ضلال كالنصارى مع أنه لا حجة للنصارى على هؤلاء إذ كان ما يقولونه لا يختص به المسيح بل هو مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء والصالحين.

والنصارى تدعي اختصاص المسيح بالاتحاد مع أن المتحد بالناسوت صار هو والناسوت شيئا واحدا ومع الاتحاد فيمتنع أن يكون لأحدهما فعل أو صفة خارج عن الآخر والنصارى يدعون الاتحاد ثم يتناقضون فمنهم من يقول جوهر واحد ومنهم من يقول جوهران ومنهم من يقول مشيئة واحدة ومنهم من يقول مشيئتان كما سيأتي الكلام - إن شاء الله - تعالى على ذلك.

فصل: رد دعواهم الفضل لهم على المسلمين بقوله تعالى وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة

وأما قوله تعالى: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة فهذا حق كما أخبر الله به فمن اتبع المسيح جعله الله فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة وكان الذين اتبعوه على دينه الذي لم يبدل قد جعلهم الله فوق اليهود وأيضا فالنصارى فوق اليهود الذين كفروا به إلى يوم القيامة.

وأما المسلمون فهم مؤمنون به ليسوا كافرين به بل لما بدل النصارى دينه وبعث الله محمدا ﷺ بدين الله الذي بعث به المسيح وغيره من الأنبياء جعل الله محمدا وأمته فوق النصارى إلى يوم القيامة كما في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وإن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي.

وقال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه

وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون فكل من كان أتم إيمانا بالله ورسله كان أحق بنصر الله تعالى، فإن الله يقول في كتابه إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد وقال: في كتابه ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون واليهود كذبوا المسيح ومحمدا ﷺ كما قال الله فيهم بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب فالغضب الأول بتكذيبهم المسيح والثاني: بتكذيبهم لمحمد ﷺ والنصارى لم يكذبوا المسيح فكانوا منصورين على اليهود والمسلمون منصورون على اليهود والنصارى، فإنهم آمنوا بجميع كتب الله ورسله ولم يكذبوا بشيء من كتبه ولا كذبوا أحدا من رسله بل اتبعوا ما قال الله لهم حيث قال قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ولما كان المسلمون هم المتبعون لرسل الله كلهم المسيح وغيره وكان الله قد وعد أن ينصر الرسل وأتباعهم قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة ".

وقال أيضا: سألت ربي أن لا يسلط على أمتي عدوا من غيرهم فيجتاحهم فأعطانيها الحديث.

فكان ما احتجوا به حجة عليهم لا لهم.

فصل: بيان معنى الروح القدس ودفع اعتقاد النصارى ألوهيته

وأما قوله تعالى: وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس فهو حق كما أخبر الله به وقد ذكر تعالى تأييد عيسى ابن مريم بروح القدس في عدة مواضع فقال تعالى في سورة البقرة ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس وقال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد وقال تعالى: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني

وقال تعالى: في القرآن وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق وقال تعالى: نزل به الروح الأمين * على قلبك لتكون من المنذرين وقال تعالى: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقا فروح القدس الذي نزل بالقرآن من الله هو الروح الأمين وهو جبريل.

وثبت في الصحيح عن أبي هريرة أنه سمع النبي ﷺ يقول لحسان بن ثابت: " أجب عني، اللهم أيده بروح القدس ".

وفي صحيح مسلم وغيره عن عائشة - رضي الله عنها - قالت سمعت النبي ﷺ يقول لحسان بن ثابت: " إن روح القدس لا يزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله ".

وفي الصحيحين عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول لحسان بن ثابت: " اهجهم أو هاجهم وجبريل معك ".

فهذا حسان بن ثابت واحد من المؤمنين لما نافح عن الله ورسوله وهجا المشركين الذين يكذبون الرسول أيده الله بروح القدس وهو جبريل وأهل الأرض يعلمون أن محمدا ﷺ لم يكن يجعل اللاهوت متحدا بناسوت حسان بن ثابت فعلم أن إخباره بأن الله أيده بروح القدس لا يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت فعلم أن التأييد بروح القدس ليس من خصائص المسيح وأهل الكتاب يقرون بذلك وأن غيره من الأنبياء كان مؤيدا بروح القدس كداود وغيره بل يقولون إن الحواريين كانت فيهم روح القدس وقد ثبت باتفاق المسلمين واليهود والنصارى أن روح القدس يكون في غير المسيح بل في غير الأنبياء كما سيأتي - إن شاء الله.

وإنما المقصود في هذا المقام بيان كذبهم على محمد ﷺ وهذا التأييد نظير قوله تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه فهذا التأييد بروح منه عام لكل من لم يحب أعداء الرسل وإن كانوا أقاربه بل يحب من يؤمن بالرسل وإن كانوا أجانب ويبغض من لم يؤمن بالرسل وإن كانوا أقارب وهذه ملة إبراهيم.

وقال تعالى: قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده وقال تعالى: وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين * وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون وقال: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه وهذا التأييد بروح القدس لمن ينصر الرسل عام في كل من نصرهم على من خالفهم من المشركين وأهل الكتاب كما تقدم وليس في القرآن ولا في الإنجيل ولا غير ذلك من كتب الأنبياء أن روح القدس الذي أيد به المسيح هو صفة الله القائمة به وهي حياته ولا أن روح القدس رب يخلق ويرزق فليس روح القدس هي الله ولا صفة من صفات الله بل ليس في شيء من كلام الأنبياء أن صفة الله القائمة به تسمى ابنا ولا روح القدس.

فإذا تأول النصارى قول المسيح عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس على أن الابن صفته التي هي العلم وروح القدس صفته التي هي الحياة كان هذا كذبا بينا على المسيح فلا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء تسمية الله ولا شيئا من صفاته ابنا ولا حياته روح القدس.

وأيضا فهم يذكرون في الأمانة أن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس وهذا يوافق ما أخبر الله به من أنه أرسل روحه الذي هو جبريل وهو روح القدس فنفخ في مريم فحملت بالمسيح فكان المسيح متجسدا مخلوقا من أمه ومن ذلك الروح وهذا الروح ليس صفة لله لا حياته ولا غيرها بل روح القدس قد جاء ذكرها كثيرا في كلام الأنبياء ويراد بها إما الملك وإما ما يجعله الله في قلوب أنبيائه وأوليائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك كما قال تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا

وقال تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون وقال تعالى: ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق فسمى الملك روحا وسمى ما ينزل به الملك روحا وهما متلازمان والمسيح مؤيد بهذا وهذا.

ولهذا قال كثير من المفسرين إنه جبريل وقال: بعضهم إنه الوحي وهذا كلفظ الناموس يراد به صاحب سر الخير كما يراد بالجاسوس صاحب سر الشر فيكون الناموس جبريل ويراد به الكتاب الذي نزل به وما فيه من الأمر والنهي والشرع ولما قال ورقة بن نوفل للنبي: " هذا هو الناموس الذي كان يأتي موسى " فسر الناموس بهذا وهذا وهما متلازمان ".

فصل: رد دعوى النصارى مدح الرهبانية في سورة الحديد

وأما قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز * ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون فهو حق كما قال تعالى، وليس في ذلك مدح للرهبانية ولا لمن بدل دين المسيح وإنما فيه مدح لمن اتبعه بما جعل الله في قلوبهم من الرحمة والرأفة حيث يقول وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ثم قال: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم أي وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم وهذه الرهبانية لم يشرعها الله ولم يجعلها مشروعة لهم بل نفى جعله عنها كما نفى ذلك عما ابتدعه المشركون بقوله: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام.

وهذا الجعل المنفي عن البدع هو الجعل الذي أثبته للمشروع بقوله تعالى: لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقوله: لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فالرهبانية ابتدعوها لم يشرعها الله وللناس في قوله: " ورهبانية " قولان.

أحدهما: أنها منصوبة يعني ابتدعوها إما بفعل مضمر يفسره ما بعده أو يقال هذا الفعل عمل في المضمر والمظهر كما هو قول الكوفيين حكاه عنهم ابن جرير وثعلب وغيرهما ونظيره قوله: يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما وقوله: فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة وعلى هذا القول فلا تكون الرهبانية معطوفة على الرأفة والرحمة.

والقول الثاني: أنها معطوفة عليها فيكون الله قد جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية المبتدعة ويكون هذا جعلا خلقيا كونيا والجعل الكوني يتناول الخير والشر كقوله تعالى: وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار وعلى هذا القول فلا مدح للرهبانية بجعلها في القلوب فثبت على التقديرين أنه ليس في القرآن مدح للرهبانية.

ثم قال: إلا ابتغاء رضوان الله أي لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وابتغاء رضوان الله بفعل ما أمر به لا بما يبتدع وهذا يسمى استثناء منقطعا.

كما في قوله: اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه وقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ولا وقوله تعالى: لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى وقوله تعالى: فما لهم لا يؤمنون * وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون * بل الذين كفروا يكذبون * والله أعلم بما يوعون * فبشرهم بعذاب أليم * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون وقوله تعالى: لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما وقوله: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا إلا خطأ وهذا أصح الأقوال في هذه الآية كما هو مبسوط في موضع آخر.

ولا يجوز أن يكون المعنى أن الله كتبها عليهم ابتغاء رضوان الله، فإن الله لا يفعل شيئا ابتغاء رضوان نفسه ولا أن المعنى أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوانه كما يظن هذا وهذا بعض الغالطين كما قد بسط في موضع آخر.

وذكر أنهم ابتدعوا الرهبانية وما رعوها حق رعايتها وليس في ذلك مدح لهم بل هو ذم ثم قال تعالى: فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وهم الذين آمنوا بمحمد ﷺ وكثير منهم فاسقون ولو أريد الذين آمنوا بالمسيح أيضا فالمراد من اتبعه على دينه الذي لم يبدل وإلا فكلهم يقولون أنهم مؤمنون بالمسيح وبكل حال فلم يمدح سبحانه إلا من اتبع المسيح على دينه الذي لم يبدل ومن آمن بمحمد ﷺ لم يمدح النصارى الذين بدلوا دين المسيح ولا الذين لم يؤمنوا بمحمد ﷺ.

فإن قيل قد قال بعض الناس إن قوله تعالى: " ورهبانية ابتدعوها " عطف على " رأفة " " ورحمة " وإن المعنى أن الله جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية أيضا ابتدعوها وجعلوا الجعل شرعيا ممدوحا، قيل هذا غلط لوجوه.

منها: أن الرهبانية لم تكن في كل من اتبعه بل الذين صحبوه كالحواريين لم يكن فيهم راهب وإنما ابتدعت الرهبانية بعد ذلك بخلاف الرأفة والرحمة، فإنها جعلت في قلب كل من اتبعه.

ومنها أنه أخبر أنهم ابتدعوا الرهبانية بخلاف الرأفة والرحمة، فإنهم لم يبتدعوها وإذا كانوا ابتدعوها لم يكن قد شرعها لهم، فإن كان المراد هو الجعل الشرعي الديني لا الجعل الكوني القدري فلم تدخل الرهبانية في ذلك وإن كان المراد الجعل الخلقي الكوني فلا مدح للرهبانية في ذلك.

ومنها أن الرأفة والرحمة جعلها في القلوب والرهبانية لا تختص بالقلوب بل الرهبانية ترك المباحات من النكاح واللحم وغير ذلك وقد كان طائفة من الصحابة - رضوان الله عليهم - هموا بالرهبانية، فأنزل الله تعالى نهيهم عن ذلك بقوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وثبت في الصحيحين أن نفرا من أصحاب النبي ﷺ قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر وقال آخر: أما أنا فأقوم لا أنام وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم.

فقام النبي ﷺ خطيبا فقال: ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا لكني أصوم وأفطر وأقوم وأنام وأتزوج النساء وآكل اللحم فمن رغب عن سنتي فليس مني.

وفي صحيح البخاري أن النبي ﷺ رأى رجلا قائما في الشمس فقال: ما هذا؟ قالوا: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال: مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه.

وثبت في صحيح مسلم عن النبي ﷺ أنه كان يقول في خطبته: خير الكلام كلام الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.

وفي السنن عن العرباض بن سارية أن النبي ﷺ قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة. قال الترمذي حديث حسن صحيح.

وقد بينت النصوص الصحيحة أن الرهبانية بدعة وضلالة وما كان بدعة وضلالة لم يكن هدى ولم يكن الله جعلها بمعنى أنه شرعها كما لم يجعل الله ما شرعه المشركون من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.

فإن قيل قد قال: طائفة معناها ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله.

وقالت طائفة ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله.

قيل كلا القولين خطأ والأول أظهر خطأ، فإن الرهبانية لم يكتبها الله عليهم بل لم يشرعها لا إيجابا ولا استحبابا، ولكن ذهبت طائفة إلى أنهم لما ابتدعوها كتب عليهم إتمامها وليس في الآية ما يدل على ذلك، فإنه قال: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فلم يذكر أنه كتب عليهم نفس الرهبانية ولا إتمامها ولا رعايتها بل أخبر أنهم ابتدعوا بدعة وأن تلك البدعة لم يرعوها حق رعايتها.

فإن قيل قوله تعالى: فما رعوها حق رعايتها يدل على أنهم لو رعوها حق رعايتها لكانوا ممدوحين.

قيل ليس في الكلام ما يدل على ذلك بل يدل على أنهم مع عدم الرعاية يستحقون من الذم ما لا يستحقونه بدون ذلك فيكون ذم من ابتدع البدعة ولم يرعها حق رعايتها أعظم من ذم من رعاها وإن لم يكن واحد منهما محمودا بل مذموما مثل نصارى بني تغلب ونحوهم ممن دخل في النصرانية ولم يقوموا بواجباتها بل أخذوا منها ما وافق أهواءهم فكان كفرهم وذمهم أغلظ ممن هو أقل شرا منهم والنار دركات كما أن الجنة درجات.

وأيضا فالله تعالى إذا كتب شيئا على عباده لم يكتب ابتغاء رضوانه بل العباد يفعلون ما يفعلون ابتغاء رضوان الله.

وأيضا فتخصيص الرهبانية بأنه كتبها ابتغاء رضوان الله دون غيرها تخصيص بغير موجب، فإن ما كتبه ابتداء لم يذكر أنه كتبه ابتغاء رضوانه فكيف بالرهبانية؟.

وأما قول من قال: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله فهذا المعنى لو دل عليه الكلام لم يكن في ذلك مدح للرهبانية، فإن من فعل ما لم يأمر الله به بل نهاه عنه مع حسن مقصده، غايته أن يثاب على قصده لا يثاب على ما نهي عنه ولا على ما ليس بواجب ولا مستحب فكيف والكلام لا يدل عليه، فإن الله قال ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله ولم يقل ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله ولا قال: ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله ولو كان المراد ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله لكان منصوبا على المفعولية ولم يتقدم لفظ الفعل ليعمل فيه ولا نفى الابتداع بل أثبته لهم وإنما تقدم لفظ الكتابة فعلم أن القول الذي ذكرناه هو الصواب وأنه استثناء منقطع فتقديره وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، فإن إرضاء الله واجب مكتوب على الخلق وذلك يكون بفعل المأمور وبترك المحظور لا بفعل ما لم يأمر بفعله وبترك ما لم ينه عن تركه والرهبانية فيها فعل ما لم يؤمر به وترك ما لم ينه عنه.

فصل: رد دعوى النصارى أن الله مدحهم في آية من أهل الكتاب أمة قائمة

وأما قوله تعالى: من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فهذه الآية لا اختصاص فيها للنصارى بل هي مذكورة بعد قوله تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون * لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون * ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة

ومعلوم أن الصفة المذكورة في قوله: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق صفة اليهود وكذلك قوله: وضربت عليهم المسكنة فقوله عقب ذلك من أهل الكتاب أمة قائمة لا بد أن يكون متناولا لليهود ثم قد اتفق المسلمون والنصارى على أن اليهود مع كفرهم بالمسيح ومحمد ﷺ ليس فيهم مؤمن وهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد ﷺ والآية إذا تناولت النصارى كان حكمهم في ذلك حكم اليهود والله تعالى إنما أثنى على من آمن من أهل الكتاب كما قال تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب وقد ذكر أكثر العلماء أن هذه الآية الأخرى في آل عمران نزلت في النجاشي ونحوه ممن آمن بالنبي ﷺ لكنه لم تمكنه الهجرة إلى النبي ﷺ ولا العمل بشرائع الإسلام لكون أهل بلده نصارى لا يوافقونه على إظهار شرائع الإسلام وقد قيل أن النبي ﷺ إنما صلى عليه لما مات لأجل هذا، فإنه لم يكن هناك من يظهر الصلاة عليه في جماعة كثيرة ظاهرة كما يصلي المسلمون على جنائزهم.

ولهذا جعل من أهل الكتاب مع كونه آمن بالنبي ﷺ بمنزلة من يؤمن بالنبي ﷺ في بلاد الحرب ولا يتمكن من الهجرة إلى دار الإسلام ولا يمكنه العمل بشرائع الإسلام الظاهرة بل يعمل ما يمكنه ويسقط عنه ما يعجز عنه كما قال تعالى: فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة فقد يكون الرجل في الظاهر من الكفار وهو في الباطن مؤمن كما كان مؤمن آل فرعون.

قال تعالى:

وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب * ياقوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد * وقال الذي آمن ياقوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد * يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ومن يضلل الله فما له من هاد * ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات فما زلتم في شك مما جاءكم به حتى إذا هلك قلتم لن يبعث الله من بعده رسولا كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب * الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار * وقال فرعون ياهامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب * أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبا وكذلك زين لفرعون سوء عمله وصد عن السبيل وما كيد فرعون إلا في تباب * وقال الذي آمن ياقوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد * ياقوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار * من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب * ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار * تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار * لا جرم أنما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار * فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله سيئات ما مكروا وحاق بآل فرعون سوء العذاب * النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب.

فقد أخبر سبحانه أنه حاق بآل فرعون سوء العذاب وأخبر أنه كان من آل فرعون رجل مؤمن يكتم إيمانه وأنه خاطبهم بالخطاب الذي ذكره فهو من آل فرعون باعتبار النسب والجنس والظاهر وليس هو من آل فرعون الذين يدخلون أشد العذاب وكذلك امرأة فرعون ليست من آل فرعون هؤلاء قال الله تعالى وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين وامرأة الرجل من آله بدليل قوله: إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين * إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين وهكذا أهل الكتاب فيهم من هو في الظاهر منهم وهو في الباطن يؤمن بالله ورسوله محمد ﷺ يعمل بما يقدر عليه ويسقط عنه ما يعجز عنه علما وعملا: و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها وهو عاجز عن الهجرة إلى دار الإسلام كعجز النجاشي.

وكما أن الذين يظهرون الإسلام فيهم من هم في الظاهر مسلمون وفيهم من هو منافق كافر في الباطن إما يهودي وإما نصراني وإما مشرك وإما معطل.

كذلك في أهل الكتاب والمشركين من هو في الظاهر منهم ومن هو في الباطن من أهل الإيمان بمحمد ﷺ يفعل ما يقدر على علمه وعمله ويسقط ما يعجز عنه في ذلك.

وفي حديث حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس قال: لما مات النجاشي قال: النبي ﷺ استغفروا لأخيكم فقال بعض القوم: تأمرنا أن نستغفر لهذا العلج يموت بأرض الحبشة فنزلت وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم.

ذكره ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم وذكره حماد بن سلمة عن ثابت عن الحسن البصري أن رسول الله ﷺ قال: استغفروا لأخيكم النجاشي فذكر مثله.

وكذلك ذكر طائفة من المفسرين عن جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة أنهم قالوا: نزلت هذه الآية في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية وذلك أنه لما مات نعاه جبريل للنبي ﷺ في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول الله ﷺ لأصحابه اخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم قالوا: من هو؟ قال: النجاشي فخرج رسول الله ﷺ إلى البقيع وزاد بعضهم: وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي وصلى عليه وكبر أربع تكبيرات واستغفر له وقال لأصحابه: استغفروا له فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين لله لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا أولئك لهم أجرهم عند ربهم إن الله سريع الحساب وقد ذهبت طائفة من العلماء إلى أنها نزلت فيمن كان على دين المسيح إلى أن بعث محمد ﷺ فآمن به كما نقل ذلك عن عطاء.

وذهبت طائفة إلى أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم.

والقول الأول أجود، فإن من آمن بمحمد ﷺ وأظهر الإيمان به وهو من أهل دار الإسلام يعمل ما يعمله المسلمون ظاهرا وباطنا فهذا من المؤمنين وإن كان قبل ذلك مشركا يعبد الأوثان فكيف إذا كان كتابيا؟ وهذا مثل عبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وغيرهما وهؤلاء لا يقال أنهم من أهل الكتاب كما لا يقال في المهاجرين والأنصار أنهم من المشركين وعباد الأوثان ولا يمكن أحد من المنافقين ولا من غيرهم من أن يصلي على واحد منهم بخلاف من هو في الظاهر منهم وفي الباطن من المؤمنين.

وفي بلاد النصارى من هذا النوع خلق كثير يكتمون إيمانهم إما مطلقا وإما يكتمونه عن العامة ويظهرونه لخاصتهم وهؤلاء قد يتناولهم قوله تعالى: وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله الآية.

فهؤلاء لا يدعون الإيمان بكتاب الله ورسوله لأجل مال يأخذونه كما يفعل كثير من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ويصدونهم عن سبيل الله فيمنعونهم الإيمان بمحمد ﷺ.

وأما قوله تعالى: من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فهذه الآية تتناول اليهود أقوى مما تتناول النصارى ونظيرها قوله تعالى: ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وهذا مدح مطلق لمن تمسك بالتوراة ليس في ذلك مدح لمن كذب المسيح ولا فيها مدح لمن كذب محمدا ﷺ.

وهذا الكلام يفسره سياق الكلام، فإنه قال تعالى: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله

ثم قال تعالى: ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون فقد جعلهم نوعين نوعا مؤمنين ونوعا فاسقين وهم أكثرهم وقوله تعالى: منهم المؤمنون يتناول من كان منهم مؤمنا قبل مبعث محمد ﷺ كما يتناولهم قوله تعالى: وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة إلى قوله: وكثير منهم فاسقون وكذلك قوله تعالى: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون وقوله عن إبراهيم الخليل وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين ثم لما قال: وأكثرهم الفاسقون قال لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون * ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون

وضرب الذلة عليهم أينما ثقفوا ومباؤهم بغضب الله وما ذكر معه من قتل الأنبياء بغير حق وعصيانهم واعتداؤهم كان اليهود متصفين به قبل مبعث محمد ﷺ كما قال تعالى في سورة البقرة وإذ قلتم يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصرا فإن لكم ما سألتم وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ثم قال بعد ذلك إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون فتناولت هذه الآية من كان من أهل هذه الملل الأربع متمسكا بها قبل النسخ بغير تبديل كذلك آية آل عمران لما وصف أهل الكتاب بما كانوا متصفا به أكثرهم قبل محمد ﷺ من الكفر قال ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين. وهذا يتناول من كان متصفا منهم بهذا قبل النسخ، فإنهم كانوا على الدين الحق الذي لم يبدل ولم ينسخ كما قال في الأعراف ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون وقوله: وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون * فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون * والذين يمسكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين.

وقد قال تعالى: وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون فهذا خبر من الله عمن كان متصفا بهذا الوصف قبل مبعث محمد ﷺ ومن أدرك من هؤلاء محمدا ﷺ فآمن به كان له أجره مرتين.

فصل: رد دعواهم تعظيم الإسلام لمعابدهم

قالوا ثم وجدناه يعظم إنجيلنا ويقدم صوامعنا ويشرف مساجدنا ويشهد بأن اسم الله يذكر فيها كثيرا وذلك مثل قوله تعالى: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا والجواب أن فيها ذكر الصوامع والبيع وأما قوله: يذكر فيها اسم الله كثيرا، فإنما ذكره عقب ذكره المساجد والمساجد للمسلمين وليس المراد بها كنائس النصارى، فإنها هي البيع ثم قوله تعالى: يذكر فيها اسم الله كثيرا إما أن يكون مختصا بالمساجد فلا يكون في ذلك إخبار بأن اسم الله يذكر كثيرا في البيع والصوامع وإما أن يكون ذكر اسم الله في الجميع فلا ريب أن الصوامع والبيع قبل أن يبعث الله محمدا ﷺ كان فيها من يتبع دين المسيح الذي لم يبدل ويذكر فيها اسم الله كثيرا وقد قيل أنها بعد النسخ والتبديل يذكر فيها اسم الله كثيرا وإن الله يحب أن يذكر اسمه.

قال الضحاك إن الله يحب أن يذكر اسمه وإن كان يشرك به يعني أن المشرك به خير من المعطل الجاحد الذي لا يذكر اسم الله بحال.

وأهل الكتاب خير من المشركين وقد ذكرنا أنه لما اقتتل فارس والروم وانتصرت الفرس ساء ذلك أصحاب رسول الله ﷺ وكرهوا انتصار الفرس على النصارى؛ لأن النصارى أقرب إلى دين الله من المجوس والرسل بعثوا بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها وتقديم خير الخيرين على أدناهما حسب الإمكان ودفع شر الشرين بخيرهما فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد إذا هدمها المجوس والمشركون وأما إذا هدمها المسلمون وجعلوا أماكنها مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا فهذا خير وصلاح.

وهذه الآية ذكرت في سياق الإذن للمسلمين بالجهاد بقوله تعالى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير وهذه الآية أول آية نزلت في الجهاد ولهذا قال الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ثم قال: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض فيدفع بالمؤمنين الكفار ويدفع شر الطائفتين بخيرهما كما دفع المجوس بالروم النصارى ثم دفع النصارى بالمؤمنين أمة محمد ﷺ وهذا كما قال تعالى: في سورة البقرة وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين وأما التقديم في اللفظ، فإنه يكون للانتقال من الأدنى إلى الأعلى كقوله تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

وقوله: يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه وقوله: والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا ونظائره متعددة.

وكذلك في قوله تعالى: لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا فبين سبحانه أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت مواضع العبادات وهدمها فساد إذا هدمها من لا يبدلها بخير منها وأدناها هي الصوامع، فإن الصومعة تكون لواحد أو لطائفة قليلة فبدأ بأدنى المعابد وختم بأشرفها وهي المساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرا ففي الجملة حكم هذه المعابد حكم أهلها وأهلها قبل النسخ والتبديل مؤمنون مسلمون وهدم معابد المؤمنين المسلمين فساد وبعد النسخ والتبديل إذا غلب أهل الكتاب من هو شر منهم كالمجوس والمشركين وهدموا معابدهم كان ذلك فسادا وإذا هدمها من هو خير منهم كأمة محمد ﷺ وأبدلوها مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولا يشرك به ويذكر فيها الإيمان بجميع كتبه ورسله كان ذلك صلاحا لا فسادا.

ولهذا أمر النبي ﷺ أن يتخذ المساجد مواضع معابد الكفار كما كان لثقيف أهل الطائف معبد يعبدون فيه اللات التي قال الله فيها: أفرأيتم اللات والعزى فأمر النبي ﷺ أن يهدم ذلك المعبد ويتخذ مكانه المسجد الذي يعبد الله وحده فيه، فإن المساجد هي بيوت الله في الأرض قال تعالى: قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون وقال تعالى: وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا وقال تعالى: ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم الآية إلى قوله: المهتدين وقال تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره الآية إلى قوله: بغير حساب ثم لما ذكر المؤمنين ذكر الكفار من أهل الكتاب والمشركين فذكر أهل الجهل المركب والبسيط فقال تعالى:

والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور فقد تبين أنه ليس لهم حجة في شيء مما جاء به محمد ﷺ بل ما جاء به حجة عليهم من وجوه متعددة.

فصل: رفض دعواهم وجوب التمسك بدينهم بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم

قالوا وهذا وغيره أوجب لنا التمسك بديننا وأن لا نهمل ما معنا ولا نرفض مذهبنا ولا نتبع غير السيد المسيح كلمة الله وروحه وحوارييه الذين أرسلهم إلينا.

والجواب أنهم احتجوا بحجتين باطلتين:

إحداهما: أن محمدا ﷺ لم يرسل إليهم بل إلى العرب وقد تبين أن الاحتجاج بها من أعظم الكذب والافتراء على محمد ﷺ فإنه لم يقل قط إني لم أرسل إلى أهل الكتاب ولا قال قط إني لم أرسل إلا إلى العرب بل نصوصه المتواترة عنه وأفعاله تبين أنه مرسل إلى جميع أهل الأرض أميهم وكتابيهم.

والحجة الثانية: قولهم: أن محمدا ﷺ أثنى على دين النصارى بعد التبديل والنسخ وهي أيضا أعظم كذبا عليه من التي قبلها كيف يثني عليهم وهو يكفرهم في غير موضع من كتابه ويأمر بجهادهم وقتالهم ويذم المتخلفين عن جهادهم غاية الذم ويصف من لم ير طاعته في قتالهم بالنفاق والكفر ويذكر أنه يدخل جهنم وهذا كله يخبر به عن الله ويذكره تبليغا لرسالة ربه وإنما يضاف إليه؛ لأنه بلغه وأداه لا لأنه أنشأه وابتدأه.

كما قال تعالى: إنه لقول رسول كريم * وما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون * ولا بقول كاهن قليلا ما تذكرون * تنزيل من رب العالمين * ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين * وإنه لتذكرة للمتقين * وإنا لنعلم أن منكم مكذبين * وإنه لحسرة على الكافرين * وإنه لحق اليقين * فسبح باسم ربك العظيم وأما ثناء الله ورسوله على المسيح وأمه وعلى من اتبعه وكان على دينه الذي لم يبدل فهذا حق وهو لا ينافي وجوب اتباع محمد ﷺ على من بعث إليه فلو قدر أن شريعة المسيح لم تبدل وأن محمدا ﷺ أثنى على كل من اتبعها وقال مع ذلك إن الله أرسلني إليكم لم يكن ذلك متناقضا وإذا كفر من لم يؤمن به لم يناقض ذلك ثناؤه عليهم قبل أن يكذبوه.

فكيف وهو إنما مدح من اتبع دينا لم يبدل؟ وأما الذين بدلوا دين المسيح فلم يمدحهم بل ذمهم كما قال ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون وقد قدمنا أن النصارى كفروا كما كفرت اليهود: كفروا بتبديلهم ما في الكتاب الأول وكفروا بتكذيبهم بالكتاب الثاني.

وأما من لم يبدل الكتاب أو أدرك محمدا ﷺ فآمن به فهؤلاء مؤمنون ومما يبين ذلك أن تعظيم المسيح للتوراة واتباعه لها وعمله بشرائعها أعظم من تعظيم محمد ﷺ للإنجيل ومع هذا فلم يكن ذلك مسقطا عن اليهود وجوب اتباعهم للمسيح فكيف يكون تعظيم محمد ﷺ للإنجيل مسقطا عن النصارى وجوب اتباعه.

فصل: رد دعوى النصارى أن الإسلام عظم الحواريين

وأما قولهم: وحوارييه الذين أرسلهم إلينا أنذرونا بلغتنا وسلموا لنا ديننا الذين قد عظموا في هذا الكتاب بقوله في سورة الحديد: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وقال في سورة البقرة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه فأعني بقوله: أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الواحد الذي هو الإنجيل الطاهر؛ لأنه لو عني عن إبراهيم وداود وموسى ومحمد لكان قال: معهم الكتب؛ لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد؛ لأنه ما أتى جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر وجاء أيضا في الكتاب وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين يعني الحواريين لم يقل رسول إنما قال: المرسلين والجواب من وجوه:

أحدها: أنه ليس فيما ذكر ولا في غيره ما يوجب تكذيب الرسول الذي أرسل إليكم وإلى غيركم وتمسككم بدين مبدل منسوخ كما أنه ليس فيما يعظم به موسى والتوراة ومن اتبع موسى ما يوجب لليهود تكذيب الرسول الذي أرسل إليهم وتمسكهم بدين مبدل منسوخ.

الثاني: أن قولهم: ولا نتبع غير المسيح وحوارييه قول باطل، فإنهم ليسوا متبعين لا للمسيح ولا لحوارييه لوجهين:

أحدهما: أن دينهم مبدل ليس كله عن المسيح والحواريين بل أكثر شرائعهم أو كثير منها ليست عن المسيح والحواريين.

الثاني: أن المسيح بشر بأحمد كما قال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد.

فإذا لم يتبعوا أحمد كانوا مكذبين للمسيح وعندهم من البشارات عن المسيح وغيره من الأنبياء بأحمد ما هو مبسوط في موضع آخر كما سيأتي - إن شاء الله.

وإنما المقصود هنا منع احتجاجهم بشيء مما جاء به محمد ﷺ وبيان أنه حجة عليهم لا لهم إذ زعموا أن في بعضه حجة لهم.

الثالث: أن قولهم عن الحواريين: أنهم الرسل الذين عظموا في هذا الكتاب قول باطل فسروا به القرآن تفسيرا باطلا من جنس تفسيرهم الذين أنعمت عليهم بالنصارى. وتفسيرهم بإذني أي ينفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللاهوت الذي هو كلمة الله المتحدة في الناسوت. وتفسيرهم: الم ذلك الكتاب بالإنجيل، وتفسيرهم: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون هم النصارى.

وتفسيرهم قوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن هم النصارى، إلا الذين ظلموا هم اليهود. وأمثال ذلك من تفسيرهم القرآن، مثل ما يفسرون به التوراة والإنجيل والزبور من التفاسير التي هي من تحريف الكلم عن مواضعه والإلحاد في آيات الله والكذب على أنبيائه بما يظهر أنه كذب على الأنبياء لكل من تدبر ذلك. وبطلان ذلك يظهر من وجوه.

أحدها: أن الله قال: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز. وقوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا اسم جمع مضاف يعم جميع من أرسله الله تعالى.

الثاني: أن أحق الرسل بهذا الحكم الذين سماهم في القرآن؛ كما قال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما

وقال في سورة الشعراء كذبت قوم نوح المرسلين إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين فاتقوا الله وأطيعون. وقوله: كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. وقوله: كذبت ثمود المرسلين إذ قال لهم أخوهم صالح ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين وقوله:

كذبت قوم لوط المرسلين إذ قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. وقوله: كذب أصحاب الأيكة المرسلين إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول أمين فاتقوا الله وأطيعون وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين. وقال تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا. وقال تعالى: كذبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق فأخذتهم فكيف كان عقاب. وقال تعالى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون.

وذكر قصته ثم قال: بعد ذلك: ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين فأرسلنا فيهم رسولا منهم أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون. ثم لما قضى قصته قال تعالى: ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون ثم أرسلنا رسلنا تترى كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين فذكر إرسال رسله تترى أي متواترة ثم ذكر إرسال موسى وهارون وإرسال موسى وهارون قبل المسيح بمدة طويلة.

وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين فهذا إخبار منه - سبحانه وتعالى - بأنه بعث في كل أمة رسولا يدعوهم إلى عبادة الله وحده وقال تعالى في المسيح - صلوات الله عليه - ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة... فأخبر أن المسيح رسول من هؤلاء الرسل قد خلت من قبله الرسل وقبله قد بعث في كل أمة رسولا.

وقد روي في حديث أبي ذر عن النبي ﷺ أن الأنبياء مائة ألف نبي وأن الرسل منهم ثلاثمائة وثلاثة عشر وبعض الناس يصحح هذا الحديث وبعضهم يضعفه، فإن كان صحيحا فالرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر وإن لم تعرف صحته أمكن أن يكونوا بقدر ذلك وأن يكونوا أكثر؛ كما يمكن أن يكونوا أقل، فإن الله تعالى أخبر أنه بعث في كل أمة رسولا.

وقال تعالى: إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير وروي أن النبي ﷺ قال: أنتم توفون سبعين أمة أنتم أكرمها وأفضلها على الله وهو حديث جيد.

وقد قال تعالى: في سورة الزمر وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين.

وقال تعالى في سورة تبارك: وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم وبئس المصير إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور تكاد تميز من الغيظ كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير فهذا إخبار منه بأن كل فوج يلقى في النار وقد جاءهم نذير؛ كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقد قال تعالى: ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى: يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين.

فقد أرسل الله قبل المسيح رسلا كثيرين إلى جميع الأمم فكيف يجوز أن يدعي أن المراد بقوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات هم الحواريون - فقط - الذين أرسلهم المسيح مع أن الحواريين رسل المسيح بمنزلة رسل موسى وإبراهيم ورسل محمد ﷺ.

ومن أرسله رسول الله ﷺ وجبت طاعته على الناس فيما يبلغه عن رسول الله؛ كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: من أطاعني فقد أطاع الله ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصاني فقد عصى الله ومن عصى أميري فقد عصاني.

فبين أن أميره إنما تجب طاعته في المعروف الذي أمر الله به ورسوله لا في كل ما يأمر به ففي الصحيحين عن علي أن رسول الله ﷺ بعث جيشا وأمر عليهم رجلا وأمرهم أن يسمعوا ويطيعوا فأغضبوه فقال: اجمعوا لي حطبا فجمعوا له ثم قال: أوقدوا نارا فأوقدوا نارا ثم قال: ألم يأمركم رسول الله أن تسمعوا لي وتطيعوا قالوا: بلى قال: فادخلوها فنظر بعضهم إلى بعض وقالوا إنما فررنا إلى رسول الله من النار فكانوا كذلك حتى سكن غضبه فلما رجعوا ذكروا ذلك لرسول الله ﷺ وقال: لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا وقال: لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر عن النبي ﷺ أنه قال: على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أحب وكره إلا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة.

وفي مسلم عن أم الحصين سمعت رسول الله ﷺ في حجة الوداع يقول ولو استعمل عليكم عبد أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا.

وفي الصحيحين عنه أنه قال: ليبلغ الشاهد الغائب فرب مبلغ أوعى له من سامع.

وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبي ﷺ أنه قال: بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار.

وفي السنن عنه أنه قال: نضر الله امرأ سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه.

فالحواريون في تبليغهم عن المسيح كسائر أصحاب الأنبياء في تبليغهم عنهم وقال الله تعالى في كتابه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا وأولوا الأمر هم العلماء والأمراء فإذا أمروا بما أمر الله به ورسوله وجبت طاعتهم وإن تنازع الناس في شيء وجب رده إلى الله والرسول ﷺ لا يرد إلى أحد دون الرسل الذين أرسلهم الله؛ كما قال: في الآية الأخرى كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

والكتاب اسم جنس لكل كتاب أنزله الله ليس المراد به كتابا معينا؛ كما قال تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ولم يرد بهذا أن يؤمن بكتاب معين واحد بل وهذا يتضمن الإيمان بالتوراة والإنجيل والقرآن وكل ما أنزله الله من كتاب؛ كما قال: في سورة الشورى فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكمفأمره الله تعالى أن يؤمن بكل ما أنزله الله من كتاب وأن يعدل بين من بلغتهم رسالته؛ كما قال لأنذركم به ومن بلغ فكل من بلغه القرآن فهو مخاطب به يتناوله خطاب القرآن وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: بلغوا عني ولو آية.

وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وفي القراءة الأخرى وكتابه ورسله وكلا القراءتين موافقة للأخرى وقوله تعالى: كان الناس أمة واحدة أي فاختلفوا بعد ذلك؛ كما قال: في السورة الأخرى وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا فلما اختلف بنو آدم بعث النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب.

وذلك يتناول كل كتاب أنزله الله ليحكم الله ويحكم كتابه بين الناس بالحق فالحاكم بين الناس هو الله تعالى وحكمه في كتبه المنزلة فلهذا أمر الله المؤمنين إذا تنازعوا في شيء أن يردوه إلى الله والرسول.

والرد إلى الله هو الرد إلى كتابه فأمرهم بالرد إلى كتابه ورسوله وقد ذم تعالى من لم يتحاكم إلى كتابه ورسوله فقال تعالى:

ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فقد تبين أن الرسل الذين ذكرهم الله في قوله: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات يتناول الرسل الذين أرسلهم الله تعالى كلهم ومن أحقهم بذلك الرسل الذين أخبر في القرآن أنه أرسلهم إلى عباده فظهر بطلان قولهم: أنهم الحواريون.

الوجه الثالث: أنه قال: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز فذكر أنه أنزل الحديد أيضا ليتبين من يجاهد في سبيل الله بالحديد.

والنصارى يزعمون أن الحواريين والنصارى لم يؤمروا بقتال أحد بالحديد.

الوجه الرابع: أنه قال: بعد ذلك: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة وإخباره بإرسال نوح وإبراهيم بعد قوله: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات من باب ذكر الخاص بعد العام وبيان ما اختص به الخاص من الأحكام التي امتاز بها عن غيره مما دخل في العام؛ كما يأمر السلطان العسكر بالجهاد ويأمر فلانا وفلانا بأن يفعلوا كذا وكذا ومثل أن يقال أرسل رسله إلى فلان وأرسل إليهم فلانا وأمره بكذا وكذا قال تعالى: ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فنوح هو أبو الآدميين الذين حدثوا بعد الطوفان، فإن الله أغرق ولد آدم إلا أهل السفينة وقال: في نوح وجعلنا ذريته هم الباقين.

وإبراهيم جعل الأنبياء بعده من ذريته؛ كما قال تعالى: في إبراهيم ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ثم قال: بعد أن ذكر إرسال نوح وإبراهيم وأنه جعل في ذريتهما النبوة والكتاب ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل فأخبر أنه قفى على آثارهم برسله وقفى بعيسى ابن مريم وآتاه الإنجيل وهؤلاء رسل قبل المسيح وآخرهم المسيح ولم يذكر أنه أرسل أحدا من أتباع المسيح بل أخبر أنه جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة فكيف يجوز أن يقال أن مراده بالرسل الذين أرسلهم بالبينات وأنزل معهم الكتاب والميزان هم الحواريون دون الرسل الذين ذكرهم وأرسلهم قبل المسيح.

الوجه الخامس: أنه ليس في القرآن آية تنطق بأن الحواريين رسل الله بل ولا صرح في القرآن بأنه أرسلهم لكن قال: في سورة يس واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون وما علينا إلا البلاغ المبين قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون أأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون إني إذا لفي ضلال مبين إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال ياليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون.

فهذا كلام الله ليس فيه ذكر أن هؤلاء المرسلين كانوا من الحواريين ولا أن الذين أرسلوا إليهم آمنوا بهم وفيه أن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم هؤلاء الثلاثة أنزل الله عليهم صيحة واحدة فإذا هم خامدون.

وقد ذكر طائفة من المفسرين أن هؤلاء كانوا من الحواريين وأن القرية أنطاكية وأن هذا الرجل اسمه حبيب النجار ثم إن بعضهم يقول إن المسيح أرسلهم في حياته لكن المعروف عند النصارى أن أهل أنطاكية آمنوا بالحواريين واتبعوهم لم يهلك الله أهل أنطاكية.

والقرآن يدل على أن الله أهلك قوم هذا الرجل الذي آمن بالرسل.

وأيضا فالنصارى يقولون: إنما جاءوا إلى أهل أنطاكية بعد رفع المسيح وأن الذين جاءوا كانوا اثنين لم يكن لهما ثالث قيل أحدهما شمعون الصفا والآخر بولص ويقولون إن أهل أنطاكية آمنوا بهم ولا يذكرون حبيب النجار ولا مجيء رجل من أقصى المدينة بل يقولون إن شمعون وبولص دعوا الله حتى أحيا ابن الملك فالأمر المنقول عند النصارى أن هؤلاء المذكورين في القرآن ليسوا من الحواريين وهذا أصح القولين عند علماء المسلمين وأئمة المفسرين وذكروا أن المذكورين في القرآن في سورة يس ليسوا من الحواريين بل كانوا قبل المسيح وسموهم بأسماء غير الحواريين؛ كما ذكر محمد بن إسحاق قال: سلمة بن الفضل كان من حديث صاحب يس فيما حدثني محمد بن إسحاق عن ابن عباس وعن كعب وعن وهب بن منبه أنه كان رجلا من أهل أنطاكية وكان اسمه حبيبا وكان يعمل الحرير وكان رجلا سقيما قد أسرع فيه الجذام وكان منزله عند باب من أبواب المدينة، يتاجر وكان مؤمنا ذا صدقة يجمع كسبه إذا أمسى فيما يذكرون فيقسمه نصفين فيطعم نصفه عياله ويتصدق بنصفه وكان بالمدينة التي هو بها مدينة أنطاكية فرعون من الفراعنة يقال له إنطخس بن أنطنخس يعبد الأصنام صاحب شرك فبعث الله إليه المرسلين وهم ثلاثة صادق وصدوق وشلوم فقدم الله إليه وإلى أهل المدينة منهم اثنين فكذبوهما ثم عزز الله بالثالث.

وروى الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى: واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث لكي تكون الحجة عليهم أشد فأتوا أهل القرية فدعوهم إلى الله وحده وعبادته لا شريك له فكذبوهم فأتوا على رجل في ناحية القرية في زرع له فسألهم الرجل ما أنتم قالوا: نحن رسل رب العالمين، أرسلنا إلى أهل هذه القرية ندعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له قال لهم: أتسألون على ذلك أجرا؟ قالوا: لا، قال: فألقى ما في يده ثم أتى أهل المدينة قال ياقوم اتبعوا المرسلين اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون وهذا القول هو الصواب وأن هؤلاء المرسلين كانوا رسلا لله قبل المسيح وأنهم كانوا قد أرسلوا إلى أنطاكية وآمن بهم حبيب النجار فهم كانوا قبل المسيح ولم تؤمن أهل المدينة بالرسل بل أهلكهم الله تعالى؛ كما أخبر في القرآن ثم بعد هذا عمرت أنطاكية وكان أهلها مشركين حتى جاءهم من جاءهم من الحواريين فآمنوا بالمسيح على أيديهم ودخلوا دين المسيح.

ويقال إن أنطاكية أول المدائن الكبار الذين آمنوا بالمسيح وذلك بعد رفعه إلى السماء.، ولكن ظن من ظن من المفسرين أن المذكورين في القرآن هم رسل المسيح وهم من الحواريين وهذا غلط لوجوه:

منها: أن الله قد ذكر في كتابه أنه أهلك الذين جاءتهم الرسل وأهل أنطاكية لما جاءهم من دعاهم إلى دين المسيح آمنوا ولم يهلكوا.

ومنها: أن الرسل في القرآن ثلاثة وجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى والذين جاءوا من أتباع المسيح كانوا اثنين ولم يأتهم رجل يسعى لا حبيب ولا غيره.

ومنها: أن هؤلاء جاءوا بعد المسيح فلم يكن الله أرسلهم وهذا؛ كما أن الله ذكر في القرآن أنه أهلك أهل مدين بالظلة لما جاءهم شعيب وذكر في القرآن أن موسى أتاها وتزوج ببنت واحد منها فظن بعض الناس أنه شعيب النبي ﷺ وهذا غلط عند علماء المسلمين مثل ابن عباس والحسن البصري وابن جريج وغيرهم، كلهم ذكروا أن الذي صاهره موسى ليس هو شعيبا النبي ﷺ وحكي أنه شعيب عمن لا يعرف من العلماء ولم يثبت عن أحد من الصحابة والتابعين؛ كما بسطناه في موضعه.

وأهل الكتاب يقرون بأن الذي صاهره موسى ليس هو شعيبا بل رجل من أهل مدين ومنهم من يقول: أنها غير مدين التي أهلك الله أهلها، والله أعلم.

وكذلك ذكر المفسرون في المرسلين هل أرسلهم الله أو أرسلهم المسيح قولين.

أحدهما: أن الله هو الذي أرسلهم.

قال أبو الفرج ابن الجوزي وهذا ظاهر القرآن وهو مروي عن ابن عباس وكعب ووهب بن منبه قال: وقال: المفسرون في قوله: إن كانت إلا صيحة واحدة أخذ جبريل بعضادتي باب المدينة وصاح بهم صيحة واحدة فإذا هم ميتون لا يسمع لهم حس كالنار إذا أطفئت وذلك قوله: فإذا هم خامدون أي ساكنون كهيئة الرماد الخامد.

ومعلوم عند الناس أن أهل أنطاكية لم يصبهم ذلك بعد مبعث المسيح بل آمنوا قبل أن يبدل دينه وكانوا مسلمين مؤمنين به على دينه إلى أن تبدل دينه بعد ذلك ومما يبين ذلك أن المعروف عند أهل العلم أنه بعد نزول التوراة لم يهلك الله مكذبي الأمم بعذاب من السماء يعمهم؛ كما أهلك قوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط وفرعون وغيرهم بل أمر المؤمنين بجهاد الكفار؛ كما أمر بني إسرائيل على لسان موسى بقتال الجبابرة، وهذه القرية أهلك الله أهلها بعذاب من السماء فدل ذلك على أن هؤلاء الرسل المذكورين في يس كانوا قبل موسى وأيضا، فإن الله لم يذكر في القرآن رسولا أرسله غيره وإنما ذكر الرسل الذين أرسلهم هو، وأيضا فإنه قال: إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فأخبر أنه أرسلهم؛ كما أخبر أنه أرسل نوحا وموسى وغيرهما، وفي الآية: قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء

ومثل هذا هو خطاب المشركين لمن قال: إن الله أرسله وأنزل عليه الوحي لا لمن جاء رسولا من عند رسول، وقد قال بعد هذا: (ياحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون).

وهذا إنما هو في الرسل الذين جاءوهم من عند الله لا من عند رسله. وأيضا فإن الله ضرب هذا مثلا لمن أرسل إليه محمدا ﷺ يحذرهم أن ينتقم الله منهم؛ كما انتقم من هؤلاء ومحمد إنما يضرب له المثل برسول نظيره لا بمن أصحابه أفضل منهم، فإن أبا بكر وعمر وعثمان وعليا أفضل من الحواريين باتفاق علماء المسلمين ولم يبعث الله بعد المسيح رسولا بل جعل ذلك الزمان زمان فترة كقوله: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل وأيضا، فإنه قال تعالى: إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا.

ولو كانوا رسل رسول لكان التكذيب لمن أرسلهم ولم يكن في قولهم: إن أنتم إلا بشر مثلنا شبهة، فإن أحدا لا ينكر أن يكون رسل رسل الله بشرا وإنما أنكروا أن يكون رسول الله بشرا، وأيضا فلو كان التكذيب لهما وهما رسل الرسول لأمكنهما أن يقولا: فأرسلوا إلى من أرسلنا أو إلى أصحابه، فإنهم يعلمون صدقنا في البلاغ عنه بخلاف ما إذا كانا رسل الله وأيضا فقوله: (إذ أرسلنا إليهم اثنين) صريح في أن الله هو المرسل ومن أرسلهم غيره إنما أرسلهم ذلك لم يرسلهم الله؛ كما لا يقال لمن أرسله محمد بن عبد الله أنهم رسل الله فلا يقال لدحية بن خليفة الكلبي أن الله أرسله ولا يقال ذلك للمغيرة بن شعبة وعبد الله بن حذافة وأمثالهما ممن أرسلهم الرسول وذلك أن النبي ﷺ أرسل رسله إلى ملوك الأرض؛ كما أرسل دحية بن خليفة إلى قيصر وأرسل عبد الله بن حذافة إلى كسرى وأرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس؛ كما تقدم ذكر ذلك.

ومعلوم أنه لا يقال في هؤلاء: إن الله أرسلهم ولا يسمون عند المسلمين رسل الله ولا يجوز باتفاق المسلمين أن يقال هؤلاء داخلون في قوله: (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات).

فإذا كانت رسل محمد ﷺ لم يتناولهم اسم رسل الله في الكتاب الذي جاء به فكيف يجوز أن يقال: إن هذا الاسم يتناول رسل رسول غيره، والمقصود هنا بيان معاني القرآن وما أراده الله - تبارك وتعالى - بقوله: إذ جاءها المرسلون إذ أرسلنا إليهم اثنين

هل مراد الله ورسوله محمد ﷺ من أرسلهم الله أو من أرسلهم رسوله، وقد علم يقينا أن محمدا لم يدخل في مثل هذا فمن قال: إن محمدا ﷺ أراد بذلك من أرسله رسولا فقد كذب على محمد ﷺ عمدا أو خطأ.

فصل

وقد تبين بما ذكرناه فساد قولهم: في تفسير آية البقرة، فإنهم قالوا: وقال: في سورة البقرة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه قالوا: فأعني بقوله: أنبياءه المبشرين ورسله ينحو بذلك عن الحواريين الذين داروا في سبعة أقاليم العالم وبشروا بالكتاب الذي هو الإنجيل الطاهر؛ لأنه لو كان أعني عن إبراهيم وموسى وداود ومحمد لكان قال: ومعهم الكتب؛ لأن كل واحد منهم جاء بكتاب دون غيره ولم يقل إلا الكتاب الواحد؛ لأنه ما أتي جماعة مبشرين بكتاب واحد غير الحواريين الذين أتوا بالإنجيل الطاهر.

فيقال: لهم: قد تقدم بعض ما يدل على فساد هذا التفسير.

وأيضا، فإنه قال تعالى: كان الناس أمة واحدة أي فاختلفوا. فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

والحواريون ليسوا من النبيين وإن كان المسيح أرسلهم ولا يلزم من إرساله لهم أن يكونوا أنبياء كمن أرسلهم موسى ومحمد وغيرهما ولهذا تسميهم عامة النصارى رسلا ولا يسمونهم أنبياء.

وأيضا فإنه قال: وأنزل معهم الكتاب.

والحواريون لم ينزل معهم الكتاب إنما أنزل الكتاب مع المسيح، ولكن الأنبياء أنزل معهم جنس الكتاب، فإن الكتاب اسم جنس فيدخل فيه الكتب المنزلة كلها؛ كما في قوله: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وفي قوله: كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وفي القراءة الأخرى (وكتابه ورسله) وكذلك قوله عن مريم: وصدقت بكلمات ربها وكتبه وفي القراءة الأخرى (وكتابه) وأيضا قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.

وقال تعالى: في سورة يونس وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا وهذا يدل أنه لما اختلفت بنو آدم بعث الله النبيين، واختلافهم كان قبل المسيح بل قبل موسى بل قبل الخليل بل قبل نوح؛ كما قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام، ثم حدث فيهم الشرك والاختلاف على وجهين تارة يختلفون فيؤمن بعضهم ويكفر بعضهم؛ كما قال تعالى: ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر وقال تعالى: هذان خصمان اختصموا في ربهم يعني أهل الإيمان والكفر وقد يكون المختلفون كلهم على باطل كقوله:

وإن الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد وقوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك وأيضا: فالإنجيل ليس فيه حكم بين الناس فيما اختلفوا فيه بل عامته مواعظ ووصايا وأخبار المسيح بخلاف التوراة والقرآن، فإن فيهما من الحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ما ليس في الإنجيل.

وأيضا فإنه قال: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.

وذلك يقتضي أن الله هدى الذين آمنوا بعد اختلاف الذين أوتوا الكتاب بغيا بينهم لما اختلفوا فيه من الحق وهذا ذم لمن أوتوا الكتاب فاختلفوا.

والنصارى داخلون في هذا الذم ولو كان المراد الإنجيل لكانوا هم المذمومين دون غيرهم وليس كذلك بل اليهود وغيرهم من المختلفين مذمومون أيضا، وإنما الممدوح هم المؤمنون الذين هداهم الله لما اختلف أولئك فيه من الحق بإذنه.

وهذا يتناول أمة محمد ﷺ قطعا وقد يتناول كل من آمن من الأمم المتقدمة كالذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم الخليل؛ كما قال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأما أمة محمد ﷺ، فإن الله هداهم لما اختلف فيه الأمم قبلهم من الحق بإذنه وهذا بين، فإنهم على الحق والعدل الوسط بين طرفي الباطل وهذا ظاهر في اتباعهم الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى في التوحيد والأنبياء والأخبار والتشريع والنسخ والحلال والحرام والتصديق والتكذيب وغير ذلك.

أما التوحيد فإن اليهود شبهوا الخالق بالمخلوق فوصفوا الرب سبحانه بصفات النقص الذي يختص بها المخلوق فقالوا إن الله فقير وبخيل وأنه يتعب وغير ذلك.

والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق صفات الكمال الذي يختص بها الخالق فقالوا: عن المسيح أنه خالق السماوات والأرض القديم الأزلي علام الغيوب القادر على كل شيء و: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، الآية.

والمسلمون هداهم الله لما اختلفوا فيه من الحق فلم يشبهوا الخالق بالمخلوق ولا المخلوق بالخالق بل أثبتوا لله ما يستحقه من صفات الكمال ونزهوه عن النقائص وأقروا بأنه أحد ليس كمثله شيء وليس له كفوا أحد في شيء من صفات الكمال فنزهوه عن النقائص خلافا لليهود وعن مماثلة المخلوق له خلافا للنصارى.

وأما الأنبياء عليهم السلام فإن اليهود قتلوا بعضا وكذبوا بعضا؛ كما قال تعالى: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون.

والنصارى أشركوا بهم وبمن هو دونهم فعبدوا المسيح بل اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وجعلوا الحواريين رسلا لله وزعموا أن الإنسان يصير بطاعته بمنزلة الأنبياء وصوروا تماثيل الأنبياء والصالحين وصاروا يدعونهم ويستشفعون بهم بعد موتهم وإذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تماثيلهم.

وفي الصحيحين أن النبي ﷺ ذكر له كنيسة بأرض الحبشة وذكر من حسنها وتصاوير فيها فقال: أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك التصاوير أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة.

وأما المسلمون فهداهم الله لما اختلف فيه من الحق بإذنه فآمنوا بأنبياء الله كلهم ولم يفرقوا بين أحد منهم ولم يغلوا فيهم غلو النصارى ولا قصروا في حقهم تقصير اليهود وكذلك قتل اليهود الذين يأمرون بالقسط من الناس والنصارى يطيعون من يأمر بالشرك وإن الشرك لظلم عظيم ويطيعون من يحرم الحلال ويحلل الحرام والمسلمون يطيعون من يأمر بطاعة الله ولا يطيعون من يأمر بمعصية الله. والنصارى فيهم الشرك بالله واليهود فيهم الاستكبار عن عبادة الله؛ كما قال تعالى: في النصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وقال: في اليهود أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والإسلام هو أن يستسلم العبد لله وحده فيعبده وحده بما أمره به فمن استسلم له ولغيره كان مشركا، والله لا يغفر أن يشرك به. ومن لم يستسلم له بل استكبر عن عبادته كان ممن قيل فيه ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين فلهذا كان جميع الأنبياء وأممهم مسلمين لله يعبدونه وحده بما أمرهم به وإن تنوعت شرائعهم فالمسيح لم يزل مسلما لما كان متبعا لشرع التوراة ولما نسخ الله له نسخة منها.

ومحمد لم يزل مسلما لما كان يصلي إلى بيت المقدس، ثم لما صلى إلى الكعبة ولما بعثه الله إلى الخلق كانوا كلهم مأمورين بطاعته وكانت عبادة الله طاعته، فمن لم يطعه لم يكن عابدا لله فلم يكن مسلما.

وأما التشريع فإن اليهود زعموا أن ما أمر الله به يمتنع منه أن ينسخه.

والنصارى زعموا أن ما أمر الله به يسوغ لأكابرهم أن ينسخوه فهدى الله المؤمنين لما اختلفوا فيه من الحق فقالوا إن الله سبحانه له أن ينسخ ما شرعه خلافا لليهود وليس للمخلوق أن يغير شيئا من شرع الخالق خلافا للنصارى.

وأما الحلال والحرام والطهارة والنجاسة فإن اليهود حرمت عليهم الطيبات وشددت عليهم من أمر النجاسات، حتى منعوا من مؤاكلة الحائض والجلوس معها في بيت ومن إزالة النجاسة وحرم عليهم شحم الثرب والكليتين وكل ذي ظفر وغير ذلك.

والمسيح أحل لهم بعض الذي حرم عليهم فقابلهم النصارى فقالوا: ليس شيء محرم لا الخنزير ولا غيره بل ولا شيء نجس، لا البول ولا غيره وزعموا أن بعض أكابرهم رأى ملاءة صور له فيها صور الحيوان وقيل له كل ما طابت نفسك ودع ما تكره وأنه أبيح لهم جميع الحيوان ونسخوا شرع التوراة بمجرد ذلك، فالحلال عندهم ما اشتهته أنفسهم والحرام عندهم ما كرهته أنفسهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق فأحل لهم الله الطيبات وحرم عليهم الخبائث وأزال عنهم الآصار والأغلال التي كانت على بني إسرائيل خلافا لليهود وأمرهم بالطهارة طهارة الحدث والخبث خلافا للنصارى. والمسيح جعلته اليهود ولد زنا كذابا ساحرا، وجعلته النصارى هو الله خالق السماوات والأرض فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه

فشهدوا أنه عبد الله مخلوق خلافا للنصارى وأنه رسول وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين خلافا لليهود وأما التصديق والتكذيب، فإن اليهود من شأنهم التكذيب بالحق والنصارى من شأنهم التصديق بالباطل، فإن اليهود كذبوا من كذبوه من الأنبياء وقد جاءوا بالحق؛ كما قال تعالى: أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون والنصارى يصدقون بمحالات العقول والشرائع؛ كما صدقوا بالتثليث والاتحاد ونحوهما من الممتنعات.

فصل

ثم قالوا عن القرآن أنه يشهد لهم أنهم أنصار الله حيث يقول: كما قال: عيسى ابن مريم: من أنصاري إلى الله؟ قال: الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين فيقال: هذا حق والحواريون مؤمنون مسلمون وهم أنصار الله لكن ليس في هذا أنهم رسل الله ولا في هذا أن كل ما أنتم عليه من الدين مأخوذ عنهم ولا في هذا أن الواحد من الحواريين معصوم من الغلط بل أمر الله المؤمنين من أمة محمد ﷺ أن يكونوا أنصار الله؛ كما طلب المسيح ذلك بقوله: (من أنصاري إلى الله).

وقد وصف الله المؤمنين أصحاب النبي ﷺ من أهل المدينة النبوية بأنهم أنصار الله بقوله تعالى:

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه والمهاجرون أفضل من الأنصار وهم أيضا من أنصار الله نصروه؛ كما نصره الأنصار لكن لما كان لهم اسم يخصهم وهو المهاجرون وهو أفضل الاسمين، خص الأنصار بهذا الاسم. والمهاجرون والأنصار أفضل ممن آمن بموسى ومن آمن بعيسى عند المسلمين.

ومع هذا فليس فيهم عندهم نبي ولا رسول لله، ولكن فيهم رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليما.

فصل: رد زعمهم أن الإسلام عظم إنجيلهم الذي بين أيديهم

قالوا: وأما تعظيمه لإنجيلنا وكتبنا التي بأيدينا فيقول: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وقال: في سورة آل عمران: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس. وقال: في سورة البقرة الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون. فأعني بالكتاب الإنجيل والذين يؤمنون بالغيب نحن النصارى الذين آمنا بالمسيح وما رأيناه، ثم اتبع بالقول والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك فأعني بهم المسلمين الذين آمنوا بما آتى به وما أتى من قبله وقال: في سورة المائدة وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وقال في سورة آل عمران: فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس.

وقال أيضا: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين.

فثبت بهذا ما معنا ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.

والجواب: بعد أن تعرف أن لفظ الآية الأولى من سورة المائدة وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه. أن يقال: أما تصديق خاتم الرسل محمد رسول الله ﷺ لما أنزل الله قبله من الكتب ولمن جاء قبله من الأنبياء فهذا معلوم بالاضطرار من دينه متواترا تواترا ظاهرا كتواتر إرساله إلى الخلق كلهم وهذا من أصول الإيمان.

قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وقال تعالى: قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

وقال: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون

وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين وتصديقه للتوراة والإنجيل مذكور في مواضع من القرآن وقد قال وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.

وقال تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني وقال: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن فبين أنه أنزل هذا القرآن مهيمنا على ما بين يديه من الكتب والمهيمن الشاهد المؤتمن الحاكم يشهد بما فيها من الحق وينفي ما حرف فيها ويحكم بإقرار ما أقره الله من أحكامها وينسخ ما نسخه الله منها وهو مؤتمن في ذلك عليها وأخبر أنه أحسن الحديث وأحسن القصص وهذا يتضمن أنه كل من كان متمسكا بالتوراة قبل النسخ من غير تبديل شيء من أحكامها، فإنه من أهل الإيمان والهدى وكذلك من كان متمسكا بالإنجيل من غير تبديل شيء من أحكامه قبل النسخ فهو من أهل الإيمان والهدى وليس في ذلك مدح لمن تمسك بشرع مبدل فضلا عمن تمسك بشرع منسوخ ولم يؤمن بما أرسل الله إليه من الرسل وما أنزل إليه من الكتب بل قد بين كفر اليهود والنصارى بتبديل الكتاب الأول وبترك الإيمان بمحمد ﷺ في غير موضع.

وأما تأويلهم قوله: ذلك الكتاب أنه الإنجيل و الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون: عنى بهم النصارى، فهو من تحريف الكلم عن مواضعه وتبديل كلام الله؛ كما فعلوه في قوله: ومن يبتغ غير الإسلام دينا وفي قوله: بإذني أي باللاهوت وفي قوله: اهدنا الصراط المستقيم.

وفي غير ذلك مما ذكروه وتأولوه من القرآن على غير المعنى الذي أراد الله به وهذا مما يؤيد أنهم فعلوا كذلك بالتوراة والإنجيل، فإنه إذا كان القرآن الذي قد عرف تفسيره والمراد به العام والخاص ونقل ذلك عن الرسول نقلا متواترا حتى عرف معناه علما يقينا اضطراريا فيبدلون معناه ويحرفون الكلم عن مواضعه فماذا يصنعون بالتوراة والإنجيل ولم ينقل لفظ ذلك ومعناه؛ كما نقل القرآن وليس في أهل تلك الكتب من يذب عن لفظها ومعناها؛ كما يذب المسلمون عن لفظ القرآن ومعناه؟.

وهؤلاء غرهم قوله: ذلك الكتاب فظنوا أن لفظ ذلك لما كان يشار بها إلى الغائب أشير بها إلى الإنجيل.

فيقال: لهم هذا كقوله: ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم وأشار بذلك إلى ما تلاه قبل هذه الآية، وقوله: واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ذلكم حكم الله يحكم بينكم

وقوله: فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومثله قوله تعالى: بعد أن ذكر خبر يوسف الصديق ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وقال أيضا: لما ذكر خبر مريم: ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم؛ كما قال: لما ذكر آيات يخبر فيها عن نوح تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك وقال: الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وتلك في المؤنث مثل ذلك في المذكر ومع هذا فأشار إلى القرآن ومنه قوله: الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين وقوله: طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين ومنه قوله: طسم تلك آيات الكتاب المبين ومنه قوله: حم عسق كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم وقوله: وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا وقوله: المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق الآية.

ومثل هذا كثير وذلك أنه لما أنزل قوله: ذلك الكتاب تلك آيات الكتاب ونحو ذلك لم يكن الكتاب المشار إليه قد أنزل تلك الساعة وإنما كان قد أنزل قبل ذلك فصار كالغائب الذي يشار إليه؛ كما يشار إلى الغائب وهو باعتبار حضوره عند النبي ﷺ يشار إليه؛ كما يشار إلى الحاضر؛ كما قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنزلناه

ولهذا قال: غير واحد من السلف ذلك الكتاب أي هذا الكتاب يقولون المراد هذا الكتاب وإن كانت الإشارة تكون تارة إشارة غائب وتارة إشارة حاضر وقد قال هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب وقد وصف النصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنهم كافرون ظالمون فكيف يجعلهم المتقين الذين يؤمنون بالغيب.

قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وأول التقوى تقوى الشرك وقد وصف النصارى بالشرك في قوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون وقال تعالى: لما ذكر المسيح فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة ونهى عن موالاتهم فقال يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم وقد أخبر أن الله ولي المتقين فقال ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض والله ولي المتقين

فلو كانوا من المتقين فضلا عن أن يكونوا هم المتقين لكان الله وليهم ولكانت موالاتهم واجبة على المؤمنين وهو قد نهى عن موالاتهم وجعل من يتولاهم ظالما وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم أولياء بعض ولهذا لما قطع الله الموالاة بين المؤمنين وبين الكافرين.

قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.

واتفق المسلمون على أن اليهودي والنصراني لا يرث مسلما ولو كان ابنه وأباه؛ لأن الله قطع الموالاة بينهما وقد قال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه وأيضا فإنه قال تعالى: الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة

وهي الصلاة التي أمر بها في قوله: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا وقد قال: لا يقبل الله صلاة بغير طهور والنصارى يصلون بغير طهور.

وقال ﷺ: لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وهم لا يقرؤونها. والصلاة التي فرضها وأثنى عليها مشتملة على استقبال الكعبة وعلى ركوع وسجدتين في كل ركعة وغير ذلك مما لا يفعله النصارى فكيف يمدحهم بإقامة الصلاة وهم لا يقيمون الصلاة التي أمر بإقامتها.

ثم لو قال اليهودي المراد بقوله: ذلك الكتاب التوراة وبالمتقين اليهود لكان هذا مع بطلانه أقرب من قول القائل أن المراد بالكتاب الإنجيل؛ لأن التوراة أحق بذلك من الإنجيل، فإنها الأصل والله تعالى يقرن بينها وبين القرآن في غير موضع كقوله: أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة وقوله تعالى: قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين.

وقد قالت الجن لما سمعت القرآن قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم وقال: النجاشي لما سمع القرآن إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة وكذلك ورقة بن نوفل قال: هذا هو الناموس الذي كان ينزل على موسى بن عمران.

وقال تعالى: قالوا: لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا أي: التوراة والقرآن. وقالوا ساحران تظاهرا أي موسى ومحمد وقالوا إنا بكل كافرون.

قال الله: قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين فقد بين أنه لم يأت من عند الله كتاب أهدى من التوراة والقرآن.

وقال تعالى: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون.

وأما قوله تعالى: والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك فهي صفة ثانية للذين يؤمنون بالغيب مجملا، ثم وصفهم بإيمان مفصل بما أنزل إليك وما أنزل من قبله. والعطف بالواو يكون لتغاير الذوات ويكون لتغاير الصفات كقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى والذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى وهو الذي أخرج المرعى وكذلك قوله تعالى: ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا كذلك تخرجون والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون ومثله قوله: قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون والذين هم للزكاة فاعلون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم على صلواتهم يحافظون أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون.

فهم صنف واحد وصفهم بهذه الصفات بحرف الواو وكذلك في قوله: إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم والذين يصدقون بيوم الدين والذين هم من عذاب ربهم مشفقون إن عذاب ربهم غير مأمون والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون أولئك في جنات مكرمون.

وقد فسر قبل قوله: يؤمنون بالغيب صفة المؤمنين من غير أهل الكتاب كمشركي العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك صفة من آمن به من أهل الكتاب.

وعلى هذا القول: هؤلاء غير هؤلاء، لكن هذا ضعيف، فإنه لا بد في المؤمنين من غير أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله ولا بد في مؤمن أهل الكتاب أن يؤمن بالغيب. فكل من الإيمانين واجب على كل واحد ولا يكون أحد على هدى من ربه مفلحا إلا بهذا وهذا.

وأما قول النصارى نحن الذين آمنا بالسيد المسيح وما رأيناه فهكذا اليهود آمنوا بموسى وما رأوه والمسلمون آمنوا بمحمد ﷺ وما رأوه بل المسلمون آمنوا بموسى وعيسى وسائر النبيين وما رأوهم بخلاف اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض. ثم الغيب ليس المراد به صورة النبي ، فإن صورة النبي ليست من الغيب، فإن الناس يرونها وليس في رؤيتها ما يوجب إيمانا ولا كفرا، ولكن الغيب ما غاب عن مشاهدة الخلق وهو ما أخبرت به الأنبياء من الغيب فيدخل فيه الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله وهو الإيمان بأنهم رسل الله، وسواء رؤيت أبدانهم أو لم تر فقد يراهم من لم يؤمن برسالتهم وقد يؤمن برسالتهم من لم يرهم.

والمقصود الإيمان برسالتهم لا بنفس صورهم حتى يقول القائل آمنا بنبي ولم نره وقد يعلم من دلائل نبوته وأعلام رسالته من لم يره أكثر مما يعلمها من رآه.

فصل

وأما قوله: في سورة المائدة وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون فهذا ثناء منه على المسيح والإنجيل وأمر للنصارى بالحكم بما أنزل فيه؛ كما أثنى على موسى والتوراة بأعظم مما عظم به المسيح والإنجيل فقال تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي: قائلون للكذب مصدقون مستجيبون مطيعون لقوم آخرين لم يأتوك فهم مصدقون للكذب مطيعون لمن يخالفك وأنت رسول الله.

فكل من تصديق الكذب والطاعة لمن خالف رسول الله ﷺ من أعظم الذنوب.

ولفظ السميع يراد به الإحساس بالصوت ويراد به فهم المعنى ويراد به قبوله فيقال: فلان سمع ما يقول فلان أي يصدقه أو يطيعه ويقبل منه.

فقوله: سماعون للكذب أي مصدقون به وإلا مجرد سماع صوت الكاذب وفهم كلامه ليس مذموما على الإطلاق.

وكذلك سماعون لقوم آخرين لم يأتوك أي مستجيبون لهم مطيعون؛ كما قال: في حق المنافقين وفيكم سماعون لهم أي مستجيبون مطيعون لهم ومن قال: إن المراد به الجاسوس فهو غالط كغلط من قال: سماعون لهم هم الجواسيس، فإن الجاسوس إنما ينقل خبر القوم إلى من لا يعرفه، ومعلوم أن النبي ﷺ كان ما يذكره ويأمر به ويفعله يراه ويسمعه كل من بالمدينة مؤمنهم ومنافقهم ولم يكن يقصد أن يكتم يهود المدينة ما يقوله ويفعله خلاف من كان يأتيه من اليهود وهم يصدقون الكذب ويطيعون لليهود الآخرين الذين لم يأتوه والله نهى نبيه أن يحزنه المسارعون في الكفر من هاتين الطائفتين المنافقتين الذين أظهروا الإيمان به ولم تؤمن قلوبهم ومن أهل الكتاب الذين يطلبون أن يحكم بينهم وليس مقصودهم أن يطيعوه ويتبعوا حكمه بل إن حكم بما يهوونه قبلوه وإن حكم بخلاف ذلك لم يقبلوه لكونهم مطيعين لقوم آخرين لم يأتوه.

قال تعالى: سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين أي لم يأتك أولئك القوم الآخرون يقولون أي يقول السماعون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم والحكم يفتقر إلى الصدق والعدل فلا بد أن يكون الشاهد صادقا والحاكم عادلا وهؤلاء يصدقون الكاذبين من الشهود ويتبعون حكم المخالفين للرسل الذين يحكمون بغير ما أنزل الله وإذا لم يكن قصدهم اتباع الصدق والعدل فليس عليك أن تحكم بينهم بل إن شئت فاحكم بينهم وإن شئت فلا تحكم.

ولكن إذا حكمت فلا تحكم إلا بما أنزل الله إليك إذ هو العدل.

قال تعالى: سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين، ثم قال وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون فهذا ثناؤه على التوراة وإخباره أن فيها حكم الله وأنه أنزل التوراة وفيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال عقب ذكرها: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وهذا أعظم مما ذكره في الإنجيل، فإنه قال: في الإنجيل وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور وقال فيه: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون وقال: في التوراة يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وقال: عقب ذكرها ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون فهو سبحانه مع إخباره بإنزال الكتابين يصف التوراة بأعظم مما يصف به الإنجيل.

كما قال تعالى: إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا وإذا كان ما ذكره من مدح موسى والتوراة لم يوجب ذلك مدح اليهود الذين كذبوا المسيح ومحمدا ﷺ وليس فيه ثناء على دين اليهود المبدل المنسوخ باتفاق المسلمين والنصارى، فكذلك أيضا ما ذكره من مدح المسيح والإنجيل ليس فيه مدح النصارى الذين كذبوا محمدا وبدلوا أحكام التوراة والإنجيل واتبعوا المبدل المنسوخ، واليهود توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح للنصارى، والنصارى توافق المسلمين على أنه ليس فيما ذكر مدح لليهود بعد النسخ والتبديل. فعلم اتفاق أهل الملل كلها: المسلمون واليهود والنصارى على أنه ليس فيما ذكر في القرآن من ذكر التوراة والإنجيل وموسى وعيسى مدح لأهل الكتاب الذين كذبوا محمدا ﷺ ولا مدح لدينهم المبدل قبل مبعثه فليس في ذلك مدح لمن تمسك بدين مبدل ولا بدين منسوخ، فكيف بمن تمسك بدين مبدل منسوخ.

فصل: قيام الحجة على من بلغته دعوة الرسل

وهنا أصل لا بد من بيانه وهو أنه قد دلت النصوص على أن الله لا يعذب إلا من أرسل إليه رسولا تقوم به الحجة عليه.

قال تعالى: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال تعالى: رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وقال تعالى: عن أهل النار كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء وقال:

وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقال تعالى: يامعشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين وقال تعالى: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقال تعالى: ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا إلى قوله: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون.

وقال تعالى: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب وقوله: يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على كل شيء قدير وإذا كان كذلك فمعلوم أن الحجة إنما تقوم بالقرآن على من بلغه كقوله: لأنذركم به ومن بلغ فمن بلغه بعض القرآن دون بعض قامت عليه الحجة بما بلغه دون ما لم يبلغه فإذا اشتبه معنى بعض الآيات وتنازع الناس في تأويل الآية وجب رد ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله فإذا اجتهد الناس في فهم ما أراده الرسول ﷺ فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر فلا يمنع أن يقال ذلك في أهل الكتاب قبلنا فمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب قبلنا لم تقم عليه الحجة إلا بما بلغه وما خفي عليهم معناه منه فاجتهد في معرفته، فإن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر وخطأه محطوط عنه فأما من تعمد تحريف الكتاب لفظه أو معناه وعرف ما جاء به الرسول فعانده فهذا مستحق للعقاب وكذلك من فرط في طلب الحق واتباعه متبعا لهواه مشتغلا عن ذلك بدنياه.

وعلى هذا فإذا كان بعض أهل الكتاب قد حرفوا بعض الكتاب وفيهم آخرون لم يعلموا ذلك فهم مجتهدون في اتباع ما جاء به الرسول لم يجب أن يجعل هؤلاء من المستوجبين للوعيد وإذا جاز أن يكون في أهل الكتاب من لم يعرف جميع ما جاء به المسيح بل خفي عليه بعض ما جاء به أو بعض معانيه فاجتهد لم يعاقب على ما لم يبلغه وقد تحمل أخبار اليهود الذين كانوا مع تبع والذين كانوا ينتظرون الإيمان بمحمد ﷺ من أهل المدينة كابن التيهان وغيره على هذا وأنهم لم يكونوا مكذبين للمسيح تكذيب غيرهم من اليهود.

وقد تنازع الناس هل يمكن مع الاجتهاد واستفراغ الوسع أن لا يبين للناظر المستدل صدق الرسول أم لا. وإذا لم يبين له ذلك هل يستحق العقوبة في الآخرة أم لا؟.

وتنازع بعض الناس في المقلد منهم أيضا والكلام في مقامين: المقام الأول: في بيان خطأ المخالف للحق وضلاله وهذا مما يعلم بطرق متعددة عقلية وسمعية وقد يعرف الخطأ في أقوال كثيرة من أهل القبلة المخالفين للحق وغير أهل القبلة بأنواع متعددة من الدلائل.

والمقام الثاني: الكلام في كفرهم واستحقاقهم الوعيد في الآخرة.

فهذا فيه ثلاثة أقوال للناس من أصحاب الأئمة المشهورين مالك والشافعي وأحمد لهم الأقوال الثلاثة.

قيل: أنه يعذب في النار من لم يؤمن وإن لم يرسل إليه رسول لقيام الحجة عليه بالعقل وهذا قول كثير ممن يقول بالحكم العقلي من أهل الكلام والفقه من أصحاب أبي حنيفة وغيرهم وهو اختيار أبي الخطاب.

وقيل: لا حجة عليه بالعقل بل لا يجوز أن يعذب من لم يقم عليه حجة لا بالشرع ولا بالعقل وهذا قول من يجوز تعذيب أطفال الكفار ومجانينهم وهذا قول كثير من أهل الكلام كالجهم وأبي الحسن الأشعري وأصحابه والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم.

والقول الثالث: وعليه السلف والأئمة إنه لا يعذب إلا من بلغته الرسالة ولا يعذب إلا من خالف الرسل؛ كما دل عليه الكتاب والسنة.

قال تعالى: لإبليس لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين وإذا كان كذلك فنحن فيما نناظر فيه أهل الكتاب: متقدميهم ومتأخريهم تارة نتكلم في المقام الأول وهو بيان مخالفتهم للحق وجهلهم وضلالهم فهذا تنبيه لجميع الأدلة الشرعية والعقلية وتارة نبين كفرهم الذي يستحقون به العذاب في الدنيا والآخرة فهذا أمره إلى الله ورسوله لا يتكلم فيه إلا بما أخبرت به الرسل؛ كما أنا أيضا لا نشهد بالإيمان والجنة إلا لمن شهدت له الرسل ومن لم تقم عليه الحجة في الدنيا بالرسالة كالأطفال والمجانين وأهل الفترات فهؤلاء فيهم أقوال أظهرها ما جاءت به الآثار أنهم يمتحنون يوم القيامة فيبعث الله إليهم من يأمرهم بطاعته، فإن أطاعوه استحقوا الثواب وإن عصوه استحقوا العقاب.

وإذا كان كذلك فنحن نشهد لمن كان مؤمنا بموسى متبعا له أنه مؤمن مسلم مستحق للثواب.

وكذلك من كان مؤمنا بالمسيح متبعا له ونشهد لمن قامت عليه الحجة بموسى فلم يتبعه كآل فرعون أنهم من أهل النار.

وكذلك من قامت عليه الحجة بالمسيح الذين قال الله فيهم: قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين والذين قال فيهم: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين وأما من بعد عهده بالمسيح وبلغته بعض أخباره دون بعض أو بموسى وبلغه أخباره دون بعض، فهؤلاء قامت عليهم الحجة بما بلغهم من أخبارهم دون ما لم يبلغهم من أخبارهم وإذا اختلفوا في تأويل بعض التوراة والإنجيل فمن قصد الحق واجتهد في طلبه لم يجب أن يعذب وإن كان مخطئا للحق جاهلا به ضالا عنه كالمجتهد في طلب الحق من أمة محمد ﷺ.

وعلى هذا فإذا قيل: أن الحواريين أو بعضهم أو كثيرا من أهل الكتاب أو أكثرهم كانوا يعتقدون أن المسيح نفسه صلب كانوا مخطئين في ذلك ولم يكن هذا الخطأ مما يقدح في إيمانهم بالمسيح إذا آمنوا بما جاء به ولا يوجب لهم النار، فإن الأناجيل التي بأيدي أهل الكتاب فيها ذكر صلب المسيح وعندهم أنها مأخوذة عن الأربعة مرقس ولوقا ويوحنا ومتى ولم يكن في الأربعة من شهد صلب المسيح ولا من الحواريين بل ولا في أتباعه من شهد صلبه وإنما الذين شهدوا الصلب طائفة من اليهود فمن الناس من يقول أنهم: علموا أن المصلوب غيره وتعمدوا الكذب في أنهم صلبوه وشبه صلبه على من أخبروهم وهذا قول طائفة من أهل الكلام المعتزلة وغيرهم وهو قول ابن حزم وغيره ومنهم من يقول بل اشتبه على الذين صلبوه وهذا قول أكثر الناس، والأولون يقولون إن قوله: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم أي شبه للناس الذين أخبرهم أولئك بصلبه. الجمهور يقولون: بل شبه للذين يقولون صلبوه كما قد ذكرت القصة في غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن الناس في هذا المقام على طرفين ووسط.

أما الطرف الواحد: فهم الغلاة من النصارى الذين يدعون أن الحواريين كانوا معصومين فيما يقولونه ويروونه ويرونه، وكذلك يقولون بتصويب علماء النصارى فيما يقولونه من تأويل الإنجيل.

والطرف الآخر يقول: بل كل من غلط وأخطأ في شيء من ذلك فإنه مستحق للوعيد بل كافر.

والثالث: الوسط: أنهم لا يعصمون ولا يؤثمون بل قد يكونون مخطئين خطأ مغفورا لهم إذا كانوا مجتهدين في معرفة الحق واتباعه بحسب وسعهم وطاقتهم وعلى هذا تدل الأدلة الصحيحة وكتب الله تدل على ذم الضال والجاحد ومقته مع أنه لا يعاقب إلا بعد إنذاره.

وقد ثبت في الصحيح عن عياض بن حمار عن النبي ﷺ أنه قال: إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب.

فأخبر أنه مقتهم إلا هؤلاء البقايا، والمقت هو البغض بل أشد البغض ومع هذا فقد أخبر في القرآن أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا فقال: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا وقال: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى فدل ذلك على أن المقتضي لعذابهم قائم، ولكن شرط العذاب هو بلوغ الرسالة ولهذا قال لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: ما أحد أحب إليه العذر من الله؛ من أجل ذلك أرسل الرسل وأنزل الكتب.

وفي رواية من أجل ذلك بعث الرسل مبشرين ومنذرين وما أحد أحب إليه المدح من الله؛ من أجل ذلك مدح نفسه، وما أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

وقد تنازع الناس في حسن الأفعال وقبحها كحسن العدل والتوحيد والصدق وقبح الظلم والشرك والكذب هل يعلم بالعقل أم لا يعلم إلا بالسمع وإذا قيل أنه يعلم بالعقل فهل يعاقب من فعل ذلك قبل أن يأتيه رسول؟ على ثلاثة أقوال معروفة في أصحاب الأئمة وغيرهم، وهي ثلاثة أقوال لأصحاب الإمام أحمد وغيرهم فقالت طائفة لا يعرف ذلك إلا بالشرع لا بالعقل، وهذا قول نظار المجبرة كالجهم بن صفوان وأمثاله، وهو قول أبي الحسن الأشعري وأتباعه من أصحاب الأئمة الأربعة كالقاضي أبي بكر بن الطيب وأبي عبد الله بن حامد والقاضي أبي يعلى وأبي المعالي وأبي الوفاء بن عقيل وغيرهم وقيل بل قد يعلم حسن الأفعال وقبحها بالعقل.

قال أبو الخطاب محفوظ بن أحمد وهذا قول أكثر الفقهاء والمتكلمين.

وهذا هو المنقول عن أبي حنيفة نفسه وعليه عامة أصحابه وكثير من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وأهل الحديث كأبي الحسن التميمي وأبي الخطاب وأبي بكر القفال وأبي نصر

السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني وهو قول الكرامية وغيرهم من نظار المثبتة للقدر وهو قول المعتزلة وغيرهم من نظار القدرية، ثم هؤلاء على قولين: منهم من يقول: يستحقون عذاب الآخرة بمجرد مخالفتهم للعقل كقول المعتزلة والحنفية وأبي الخطاب، وقول هؤلاء مخالف للكتاب والسنة.

ومنهم من يقول بل لا يعذبون حتى يبعث إليهم رسول؛ كما دل عليه الكتاب والسنة. لكن أفعالهم تكون مذمومة ممقوتة يذمها الله ويبغضها ويوصفون بالكفر الذي يذمه الله ويبغضه وإن كان لا يعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا؛ كما قال: النبي ﷺ في الحديث الصحيح؛ كما تقدم إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب وإن ربي قال: لي قم في قريش، فأنذرهم قلت إذا يثلغوا رأسي حتى يدعوه خبزة.

قال: " إني مبتليك ومبتل بك ومنزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظان فابعث جندا أبعث مثليهم، وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأنفق أنفق عليك.

وقال: إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا.

وقال: النبي ﷺ في الحديث الصحيح كل مولود يولد على الفطرة - وفي رواية على هذه الملة - فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه؛ كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء، ثم يقول أبو هريرة رضي الله عنه اقرءوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها قيل يا رسول الله أرأيت من يموت من أطفال المشركين وهو صغير قال: الله أعلم بما كانوا عاملين. ومع مقت الله لهم فقد أخبر أنه لم يكن ليعذبهم حتى يبعث إليهم رسولا وهذا يدل على إبطال قول من قال: أنهم لم يكونوا مسيئين ولا مرتكبين لقبيح حتى جاء السمع. وقول من قال: أنهم كانوا معذبين بدون السمع إما لقيام الحجة بالعقل؛ كما يقوله من يقوله من القدرية وإما لمحض المشيئة؛ كما يقوله المجبرة.

قال تعالى: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون وقال تعالى: ولولا أن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيديهم فيقولوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونكون من المؤمنين

وقال تعالى: ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى فهذا يبين أنه لم يكن ليعذب الكفار حتى يبعث إليهم رسولا، وبين أنهم قبل الرسول كانوا قد اكتسبوا الأعمال التي توجب المقت والذم وهي سبب للعذاب، لكن شرط العذاب قيام الحجة عليهم بالرسالة.

فصل: أسباب ضلال النصارى وأشباههم

ومما ينبغي أن يعلم أن سبب ضلال النصارى وأمثالهم من الغالية كغالية العباد والشيعة وغيرهم ثلاثة أشياء:

أحدها: ألفاظ متشابهة مجملة مشكلة منقولة عن الأنبياء وعدلوا عن الألفاظ الصريحة المحكمة وتمسكوا بها وهم كلما سمعوا لفظا لهم فيه شبهة تمسكوا به وحملوه على مذهبهم وإن لم يكن دليلا على ذلك، والألفاظ الصريحة المخالفة لذلك إما أن يفوضوها، وإما أن يتأولوها كما يصنع أهل الضلال، يتبعون المتشابه من الأدلة العقلية والسمعية ويعدلون عن المحكم الصريح من القسمين.

والثاني: خوارق ظنوها آيات وهي من أحوال الشياطين وهذا مما ضل به كثير من الضلال المشركين وغيرهم، مثل دخول الشياطين في الأصنام وتكليمها للناس، ومثل إخبار الشياطين للكهان بأمور غائبة ولا بد لهم مع ذلك من كذب ومثل تصرفات تقع من الشياطين.

والثالث: أخبار منقولة إليهم ظنوها صدقا وهي كذب وإلا فليس مع النصارى ولا غيرهم من أهل الضلال على باطلهم لا معقول صريح ولا منقول صحيح، ولا آية من آيات الأنبياء بل إن تكلموا بمعقول تكلموا بألفاظ متشابهة مجملة. فإذا استفسروا عن معاني تلك الكلمات، وفرق بين حقها وباطلها تبين ما فيها من التلبيس والاشتباه.

وإن تكلموا بمنقول: فإما أن يكون صحيحا لكن لا يدل على باطلهم.

وإما أن يكون غير صحيح ثابت بل مكذوب.

وكذلك ما يذكرونه من خوارق العادات: إما أن يكون صحيحا قد ظهر على يد نبي كمعجزات المسيح ومن قبله كإلياس واليسع وغيرهما من الأنبياء وكمعجزات موسى فهذه حق.

وإما أن تكون قد ظهرت على يد بعض الصالحين كالحواريين وذلك لا يستلزم أن يكونوا معصومين كالأنبياء، فإن الأنبياء معصومون فيما يبلغونه لا يتصور أن يقولوا على الله إلا الحق ولا يستقر في كلامهم باطل لا عمدا ولا خطأ.

وأما الصالحون فقد يغلط أحدهم ويخطئ مع ظهور الخوارق على يديه وذلك لا يخرجه عن كونه رجلا صالحا ولا يوجب أن يكون معصوما إذا كان هو لم يدع العصمة ولم يأت بالآيات دالة على ذلك.

ولو ادعى العصمة وليس بنبي لكان كاذبا لا بد أن يظهر كذبه وتقترن به الشياطين فتضله ويدخل في قوله تعالى: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم والنصارى عندهم منقول في الأناجيل أن الذي صلب ودفن في القبر رآه بعض الحواريين وغيرهم بعد أن دفن قام من قبره رأوه مرتين أو ثلاثا وأراهم موضع المسامير وقال: لا تظنوا أني شيطان.

وهذا إذا كان صحيحا فذاك شيطان ادعى أنه المسيح والتبس على أولئك، ومثل هذا قد جرى لخلق عظيم في زماننا وقبل زماننا كناس كانوا بـ " تدمر " فرأوا شخصا عظيما طائرا في الهواء وظهر لهم مرات بأنواع من اللباس وقال: لهم أنا المسيح ابن مريم وأمرهم بأمور يمتنع أن يأمر بها المسيح وحضروا إلى عند الناس وبينوا لهم أن ذلك هو شيطان أراد أن يضلهم.

وآخرون يأتي أحدهم إلى قبر من يعظمه ويحسن به الظن من الصالحين وغيرهم فتارة يرى القبر قد انشق وخرج منه إنسان على صورة ذلك الرجل وتارة يرى ذلك الإنسان قد دخل في القبر وتارة يراه إما راكبا وإما ماشيا داخلا إلى مكان ذلك الميت كالقبة المبنية على القبر وتارة يراه خارجا من ذلك المكان ويظن أن ذلك هو ذلك الرجل الصالح وقد يظن أن قوما استغاثوا به فذهب إليهم ويكون ذلك شيطانا تصور بصورته وهذا جرى لغير واحد ممن أعرفهم وتارة يستغيث أقوام بشخص يحسنون به الظن إما ميت وإما غائب فيرونه بعيونهم قد جاء وقد يكلمهم وقد يقضي بعض حاجاتهم فيظنونه ذلك الشخص الميت وإنما هو شيطان زعم أنه هو وليس هو إياه وكثيرا ما يأتي الشخص بعد الموت في صورة الميت فيحدثهم ويقضي ديونا ويرد ودائع ويخبرهم عن الموتى ويظنون أنه هو الميت نفسه قد جاء إليهم وإنما هو شيطان تصور بصورته.

وهذا كثير جدا لا سيما في بلاد الشرك كبلاد الهند ونحوها ومن هؤلاء من تراه أنت تحت سريره آخذ بيد ابنه في الجنازة ومنهم من يقول إذا مت فلا تدعوا أحدا يغسلني، فأنا آتي من هذه الناحية أغسل نفسي فيأتي بعد الموت شخص في الهواء على صورته يغسله هو والذي أوصاه ويظن ذلك أنه جاء وإنما هو شيطان تصور بصورته وتارة يرى أحدهم شخصا إما طائرا في الهواء وإما عظيم الخلقة وإما أن يخبره بأشياء غائبة ونحو ذلك ويقول له أنا الخضر ويكون ذلك شيطانا كذب على ذلك الشخص وقد يكون الرائي من أهل الدين والزهد والعبادة وقد جرى هذا لغير واحد وتارة يرى عند قبر نبي أو غيره أن الميت قد خرج إما من حجرته وإما من قبره وعانق ذلك الزائر وسلم عليه ويكون شيطانا تصور بصورته وتارة يجيء من يجيء إلى عند قبر ذلك الشخص فيستأذنه في أشياء ويسأله عن أمور فيخاطبه شخص يراه أو يسمع صوتا ولا يرى شخصا ويكون ذلك شيطانا أضله.

وقد يرى أشخاصا في اليقظة إما ركبانا وإما غير ركبان ويقولون هذا فلان النبي إما إبراهيم وإما المسيح وإما محمد وهذا فلان الصديق إما أبو بكر وإما عمر وإما بعض الحواريين وهذا فلان لبعض من يعتقد فيه الصلاح إما جرجس أو غيره ممن تعظمه النصارى وإما بعض شيوخ المسلمين ويكون ذلك شيطانا ادعى أنه ذلك النبي أو ذلك الشيخ أو الصديق أو القديس.

ومثل هذا يجري كثيرا لكثير من المشركين والنصارى وكثير من المسلمين ويرى أحدهم شيخا يحسن به الظن ويقول أنا الشيخ فلان ويكون شيطانا وأعرف من هذا شيئا كثيرا وأعرف غير واحد ممن يستغيث ببعض الشيوخ الغائبين والموتى يراه قد أتاه في اليقظة وأعانه.

وقد جرى مثل هذا لي ولغيري ممن أعرفه ذكر غير واحد أنه استغاث بي من بلاد بعيدة وأنه رآني قد جئته ومنهم من قال: رأيتك راكبا بلباسك وصورتك ومنهم من قال: رأيتك على جبل ومنهم من قال: غير ذلك فأخبرتهم أني لم أغثهم وإنما ذلك شيطان تصور بصورتي ليضلهم لما أشركوا بالله ودعوا غير الله.

وكذلك غير واحد ممن أعرفه من أصحابنا استغاث به بعض من يحسن به الظن فرآه قد جاءه وقضى حاجته قال صاحبي: وأنا لا أعلم بذلك ومن هؤلاء الشيوخ من يقول أنه يسمع صوت ذلك الشخص المستغيث به ويجيبه وتكون الشياطين أسمعته صوتا يشبه صوت الشيخ المستغيث له فأجابه الشيخ بصوته فأسمعت المستغيث صوتا يشبه صوت الشيخ فيظن أنه صوت الشيخ.

وهذا جرى لمن أعرفه وأخبر بذلك عن نفسه وقال: بقي الجني الذي يحدثني يبلغني مثل صوت المستغيثين بي ويبلغهم مثل صوتي ويريني في شيء أبيض نظير ما أسأل عنه فأخبر به الناس أني رأيته وأنه سيأتي ولا أكون قد رأيته وإنما رأيت شبيهه.

وهكذا تفعل الجن بمن يعزم عليهم ويقسم عليهم.

وكذلك ما رآه قسطنطين من الصليب الذي رآه من نجوم، والصليب الذي رآه مرة أخرى هو مما مثله الشياطين وأراهم ذلك ليضلهم به؛ كما فعلت الشياطين ما هو أعظم من ذلك بعباد الأوثان.

وكذلك من ذكر أن المسيح جاءه في اليقظة وخاطبه بأمور؛ كما يذكر عن بولس، فإنه إذا كان صادقا كان ذلك الذي رآه في اليقظة وقال: أنه المسيح، شيطانا من الشياطين؛ كما جرى مثل ذلك لغير واحد.

والشيطان إنما يضل الناس ويغويهم بما يظن أنهم يطيعونه فيه فيخاطب النصارى بما يوافق دينهم ويخاطب من يخاطب من ضلال المسلمين بما يوافق اعتقاده وينقله إلى ما يستجيب لهم فيه بحسب اعتقادهم.

ولهذا يتمثل لمن يستغيث من النصارى بجرجس في صورة جرجس أو بصورة من يستغيث به النصارى من أكابر دينهم، إما بعض البطاركة، وإما بعض المطارنة، وإما بعض الرهبان، ويتمثل لمن يستغيث به من ضلال المسلمين بشيخ من الشيوخ في صورة ذلك الشيخ؛ كما تمثل لجماعة ممن أعرفهم في صورتي وفي صورة جماعة من الشيوخ الذين ذكروا في ذلك ويتمثل كثيرا في صورة بعض الموتى تارة يقول أنا الشيخ عبد القادر وتارة يقول أنا الشيخ أبو الحجاج الأقصري وتارة يقول أنا الشيخ عدي وتارة يقول أنا أحمد بن الرفاعي وتارة يقول أنا أبو مدين

المغربي وإذا كان يقول أنا المسيح أو إبراهيم أو محمد فغيرهم بطريق الأولى. والنبي ﷺ قال: من رآني في المنام فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي وفي رواية في صورة الأنبياء.

فرؤيا الأنبياء في المنام حق وأما رؤية الميت في اليقظة فهذا جني تمثل في صورته.

وبعض الناس يسمي هذا روحانية الشيخ، وبعضهم يقول هي رفيقه وكثير من هؤلاء يرى يقوم من مكانه ويدع في مكانه صورة مثل صورته، وكثير من هؤلاء ومن هؤلاء من يقول يرى في مكانين ويرى واقفا بعرفات وهو في بلده لم يذهب فيبقى الناس الذين لا يعرفون حائرين.

فإن العقل الصريح يعلم أن الجسم الواحد لا يكون في الوقت الواحد في مكانين.

والصادقون قد رأوا ذلك عيانا لا يشكون فيه ولهذا يقع النزاع كثيرا بين هؤلاء وهؤلاء؛ كما قد جرى ذلك غير مرة.

وهذا صادق فيما رأى وشاهد وهذا صادق فيما دل عليه العقل الصريح.

لكن ذلك المرئي كان جنيا تمثل بصورة الإنسان.

والحسيات إن لم يكن معها عقليات تكشف حقائقها وإلا وقع فيها غلط كبير.

وهذا القسم المشهود في الخارج غير ما يتخيله الإنسان في نفسه، فإن هذا يعرفه جميع الناس ويصوبه جميع العقلاء يتخيلون أشياء في أنفسهم؛ كما يتخيله النائم في منامه وتكون تلك الصورة موجودة في الخيال لا في الخارج.

والفلاسفة وسائر العقلاء يعترفون بهذا، لكن كثيرا من الفلاسفة يظن أن ما رأته الأنبياء من الملائكة وما سمعته من الكلام كان من هذا النوع ويظنون أن ما يرى من الجن هو من هذا النوع وهؤلاء جهال غالطون في هذا، كما جهلوا وغلطوا في ظنهم أن خوارق العادات سببها قوى نفسانية أو طبيعية أو قوى فلكية وأن الفرق بين النبي ﷺ والساحر إنما هو حسن قصد هذا، وفساد قصد الآخر وإلا فكلاهما خوارق سببها قوى نفسانية أو فلكية، وهذا النفي باطل؛ كما قد بسطنا الكلام عليه وبينا جهل هؤلاء وضلالهم في غير هذا الموضع.

والذين شاهدوا ذلك في الخارج وثبت عندهم بالأخبار الصادقة المتواترة وجود ذلك في الخارج يعلمون أن هؤلاء جاهلون ضالون ويعلمون أن الملائكة تظهر في صورة البشر؛ كما ظهرت لإبراهيم ولوط ومريم في صورة البشر وكما كان جبريل يظهر للنبي ﷺ تارة في صورة دحية الكلبي وتارة في صورة أعرابي ويراه كثير من الناس عيانا وما في خيال الإنسان لا يراه غيره، وكذلك كما ظهر إبليس للمشركين في صورة الشيخ النجدي وظهر لهم يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فلما رأى الملائكة هرب.

قال تعالى: وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب وروي عن ابن عباس وغيره قال: تبدى إبليس في جند من الشياطين ومعه راية في صورة رجال من مدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم فقال: لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم وأقبل جبريل على إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده وولى مدبرا هو وشيعته فقال: الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جار فقال: إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب.

قال ابن عباس وذلك لما رأى الملائكة قال الضحاك: سار الشيطان معهم برايته وجنوده وألقى في قلوب المشركين أن أحدا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دينكم ودين آبائكم.

وكثير من الناس تحمله الجن إلى مكان بعيد فتحمل كثيرا من الناس إلى عرفات وغير عرفات وإذا رئي واحد من هؤلاء في غير بلده يكون تارة محمولا قد حملته الجن وتارة تصورت على صورته، ولا يكون هذا من أولياء الله المتقين الذين لهم كرامات بل قد يكون من الكافرين أو الفاسقين وأعرف من ذلك قضايا كثيرة ليس هذا موضع تفصيلها.

وعند المشركين والنصارى من ذلك شيء كثير يظنونه من جنس الآيات التي للأنبياء.

إنما هي من جنس ما للسحرة والكهان ومن لم يفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ويفرق بين معجزات الأنبياء وكرامات الصالحين وبين خوارق السحرة والكهان ومن تقترن بهم الشياطين وإلا التبس عليه الحق بالباطل فإما أن يكذب بالحق الذي جاء به الأنبياء الصادقون وإما أن يصدق بالباطل الذي يقوله: الكاذبون والغالطون.

وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر، والمقصود هنا التنبيه على هذا الأصل، وعلماء النصارى يسلمون هذا وعندهم من ذلك أخبار كثيرة من حكايات أولياء الشيطان الذين عارضهم أولياء الرحمن، وأبطلوا أحوالهم كما أبطل موسى - صلوات الله عليه - ما عارضته به السحرة من الخوارق، كما ذكر ذلك في التوراة وكما يذكرونه عن فلان وفلان، مثل حكاية سيمون الساحر مع الحواريين وغير ذلك وإذا كان هذا معلوما كان ما يذكرونه من هذا الجنس، إذا كان مخالفا لما ثبت عن الأنبياء من الشيطان فلا يجوز أن يحتج به على ما يخالف شرائع الأنبياء الثابتة عنهم بل هؤلاء من جنس الدجال الكبير الذي أنذرت به الأنبياء كلهم حتى نوح أنذر قومه وقال: خاتم الرسل ما من نبي إلا قد أنذر أمته حتى نوح أنذر قومه وسأقول لكم فيه قولا لم يقله نبي لأمته أنه أعور وإن ربكم ليس بأعور مكتوب بين عينيه كافر (ك ف ر) يقرؤه كل مؤمن قارئ وغير قارئ وقال: واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت.

وقد أخبر أن المسيح عيسى ابن مريم مسيح الهدى ينزل إلى الأرض على المنارة البيضاء شرقي دمشق فيقتل مسيح الضلالة وهذا هو الذي تنتظره اليهود ويجحدون المسيح عيسى ابن مريم ويقولون هذا هو الذي بشرت به الأنبياء ويتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفا مطيلسين ويقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم شر قتلة حتى يقول الشجر والحجر يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال اقتله. وكل هذا ثابت في الصحيح عن النبي ﷺ ولهذا أمر أمته أن يستعيذوا بالله من فتنته فقال: إذا قعد أحدكم في التشهد في الصلاة فليتعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال.

والأنبياء كلهم أنذروا بالكذابين الذين يتشبهون بالأنبياء لكن من الناس من يتعمد الكذب، وكثير منهم لا يتعمد بل يلتبس عليه فيغلط فيخبر بما يظنه حقا ولا يكون كذلك ويرى في اليقظة ما يظنه فلانا الولي أو النبي ﷺ أو الخضر ولا يكون كذلك.

والغلط جائز على كل أحد إلا الأنبياء عليهم السلام، فإنهم معصومون، لا يقرون على خطأ، فمن لم يزن علومه وأعماله وأقواله وأفعاله بالمعلوم عن الأنبياء وإلا كان ضالا فنسأل الله العظيم أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على إثبات مسيحين: مسيح هدى من ولد داود ومسيح ضلال. يقول أهل الكتاب أنه من ولد يوسف ومتفقون على أن مسيح الهدى سوف يأتي كما يأتي مسيح الضلالة. لكن المسلمون والنصارى يقولون: مسيح الهدى هو عيسى ابن مريم وإن الله أرسله، ثم يأتي مرة ثانية لكن المسلمون يقولون أنه ينزل قبل يوم القيامة فيقتل مسيح الضلالة ويكسر الصليب ويقتل الخنزير ولا يبقى دين إلا دين الإسلام ويؤمن به أهل الكتاب اليهود والنصارى.

كما قال تعالى: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته والقول الصحيح الذي عليه الجمهور قبل موت المسيح وقال تعالى: وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها وأما النصارى فتظن أنه الله وأنه يأتي يوم القيامة لحساب الخلائق وجزائهم وهذا مما ضلوا فيه واليهود تعترف بمجيء مسيح هدى يأتي لكن يزعمون أن عيسى لم يكن مسيح هدى لظنهم أنه جاء بدين النصارى المبدل ومن جاء به فهو كاذب وهم ينتظرون المسيحين.

فصل: الخوارق التي يضل بها الشياطين أبناء آدم

والخوارق التي تضل بها الشياطين لبني آدم مثل تصور الشيطان بصورة شخص غائب أو ميت ونحو ذلك، ضل بها خلق كثير من الناس من المنتسبين إلى المسلمين أو إلى أهل الكتاب وغيرهم وهم بنو ذلك على مقدمتين.

إحداهما: أن من ظهرت هذه على يديه فهو ولي لله وبلغة النصارى هو قديس عظيم.

الثانية: أن من يكون كذلك فهو معصوم فكل ما يخبر به فهو حق وكل ما يأمر به فهو عدل وقد لا يكون ظهرت على يديه خوارق لا رحمانية ولا شيطانية، ولكن صنع حيلة من حيل أهل الكذب والفجور، وحيل أهل الكذب والفجور كثيرة جدا فيظن أن ذلك من العجائب الخارقة للعادة ولا يكون كذلك مثل الحيل المذكورة عن الرهبان.

وقد صنف بعض الناس مصنفا في حيل الرهبان مثل الحيلة المحكية عن أحدهم في جعل الماء زيتا بأن يكون الزيت في جوف منارة فإذا نقص صب فيها ماء فيطفو الزيت على الماء فيظن الحاضرون أن نفس الماء انقلب زيتا.

ومثل الحيلة المحكية عنهم في ارتفاع النخلة وهو أن بعضهم مر بدير راهب وأسفل منه نخلة فأراه النخلة صعدت شيئا شيئا حتى حاذت الدير فأخذ من رطبها، ثم نزلت حتى عادت كما كانت، فكشف الرجل الحيلة فوجد النخلة في سفينة في مكان منخفض إذا أرسل عليه الماء امتلأ حتى تصعد السفينة وإذا صرف الماء إلى موضع آخر هبطت السفينة.

ومثل الحيلة المحكية عنهم في التكحل بدموع السيدة يضعون كحلا في ماء متحرك حركة لطيفة فيسيل حتى ينزل من تلك الصورة فيخرج من عينها فيظن أنه دموع.

ومثل الحيلة التي صنعوها بالصورة التي يسمونها القونة بصيدنايا وهي أعظم مزاراتهم بعد القمامة وبيت لحم حيث ولد المسيح وحيث قبر، فإن هذه صورة السيدة مريم، وأصلها خشبة نخلة سقيت بالأدهان حتى تنعمت وصار الدهن يخرج منها دهنا مصنوعا يظن أنه من بركة الصورة.

ومن حيلهم الكثيرة النار التي يظن عوامهم أنها تنزل من السماء في عيدهم في قمامة وهي حيلة قد شهدها غير واحد من المسلمين والنصارى ورأوها بعيونهم أنها نار مصنوعة يضلون بها عوامهم يظنون أنها نزلت من السماء ويتبركون بها وإنما هي صنعة صاحب محال وتلبيس.

ومثل ذلك كثير من حيل النصارى فجميع ما عند النصارى المبدلين لدين المسيح من الخوارق إما حال شيطاني وإما محال بهتاني ليس فيه شيء من كرامات الصالحين.

وكذلك أهل الإلحاد المبدلين لدين محمد ﷺ الذين يتخذون دينا لم يشرعه الله ورسوله ويجعلونه طريقا إلى الله وقد يختارونه على الطريق التي شرعها الله ورسوله، مثل أن يختاروا سماع الدفوف والشبابات على سماع كتاب الله تعالى فقد يحصل لأحدهم من الوجد والغرام الشيطاني ما يلبسه معه الشيطان حتى يتكلم على لسان أحدهم بكلام لا يعرفه ذلك الشخص إذا أفاق؛ كما يتكلم الجني على لسان المصروع وقد يخبر بعض الحاضرين بما في نفسه ويكون ذلك من الشيطان فإذا فارق الشيطان ذلك الشخص لم يدر ما قال: ومنهم من يحمله الشيطان ويصعد به قدام الناس في الهواء.

ومنهم من يشير إلى بعض الحاضرين فيموت أو يمرض أو يصير مثل الخشبة.

ومنهم من يشير إلى بعض الحاضرين فيلبسه الشيطان ويزول عقله حتى يبقى دائرا زمانا طويلا بغير اختياره.

ومنهم من يدخل النار ويأكلها ويبقى لهبها في بدنه وشعره.

ومنهم من تحضر له الشياطين طعاما أو شيئا من لادن أو سكر أو زعفران أو ماء ورد ومنهم من تأتيه بدراهم تسرقها الشياطين من بعض المواضع.

ثم من هؤلاء من إذا فرق الدراهم على الحاضرين أخذت منهم فلا يمكنون من التصرف فيها إلى أمور يطول وصفها وآخرون ليس لهم من يعينهم على ذلك من الشياطين فيصنعون حيلا ومخاريق.

فالملحدون المبدلون لدين الرسل، دين المسيح أو دين محمد - صلى الله عليهما وسلم - هم كأمثالهم من أهل الإلحاد والضلال الكفار المرتدين والمشركين ونحوهم كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي والحارث الدمشقي وبابا الرومي وغيرهم ممن لهم خوارق شيطانية.

وأما أهل الحيل فيكثرون وهؤلاء ليسوا أولياء الله بل خوارقهم إذا كانت شيطانية من جنس خوارق الكهنة والسحرة لم يكن لهم حال شيطاني بل محال بهتاني فهم متعمدون للكذب والتلبيس بخلاف من تقترن به الشياطين، فإن فيهم من يلتبس عليه فيظن أن هذا من جنس كرامات الصالحين؛ كما أن فيهم من يعرف أن ذلك من الشياطين ويفعله لتحصيل أغراضه، فالمقصود أنه كثير من الخوارق ما يكون من الشياطين أو يكون حيلا ومخاريق ويظن أنها من كرامات الصالحين، فإن ما يكون شبيه الشرك أو الفجور إنما يكون من الشيطان، مثل أن يشرك الرجل بالله فيدعو الكواكب أو يدعو مخلوقا من البشر ميتا أو غائبا أو يعزم ويقسم بأسماء مجهولة لا يعرف معناها أو يعرف أنها أسماء الشياطين أو يستعين بالفواحش والظلم، فإن ما كان هذا سببه من الخوارق فهو من الشيطان؛ كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.

والصالحون لهم كرامات مثل كرامات صالحي هذه الأمة ومثل كرامات الحواريين وغيرهم ممن كان على دين المسيح لكن وجود الكرامات على أيدي الصالحين لا توجب أن يكونوا معصومين كالأنبياء، لكن يكون الرجل صالحا وليا لله وله كرامات ومع هذا فقد يغلط ويخطئ فيما يظنه أو فيما يسمعه ويرويه أو فيما يراه أو فيما يفهمه من الكتب ولهذا كان كل من سوى الأنبياء يؤخذ من قولهم: ويترك بخلاف الأنبياء - صلوات الله عليهم - أجمعين، فإنه يجب تصديقهم في كل ما أخبروا به من الغيب، وطاعتهم في كل ما أمروا به ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتوه ولم يوجب الإيمان بجميع ما يأتي به غيرهم.

قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون وقال تعالى: ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ولهذا اتفق المسلمون على أن من كذب نبيا معلوم النبوة فهو كافر مرتد ومن سب نبيا وجب قتله بل يجب الإيمان بجميع ما أوتيه النبيون كلهم وأن لا نفرق بين أحد منهم، فنؤمن ببعض ونكفر ببعض قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا وليس هذا لأحد غير الأنبياء ولو كان من رسل الأنبياء وكانوا من أعظم الصديقين المقدمين.

فضلال الضلال من هؤلاء مبني على مقدمتين.

إحداهما: أن هذا له كرامة فيكون وليا لله.

والثانية: أن ولي الله لا يجوز أن يخطئ بل يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليس لأحد من البشر أن يصدق في كل ما أخبر به ويطاع في كل أمر إلا أن يكون نبيا.

والمقدمتان المذكورتان قد تكون إحداهما باطلة وقد يكون كلاهما باطلا، فالرجل المعين قد لا يكون من أولياء الله تكون خوارقه من الشياطين وقد يكون من أولياء الله، ولكن ليس بمعصوم بل يجوز عليه الخطأ وقد لا يكون من أولياء الله ولا يكون له خوارق، ولكن له محالات وأكاذيب.

فصل

قالوا: وقال في سورة آل عمران: فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير فأعني أيضا بالكتاب المنير الذي هو الإنجيل المقدس.

فيقال: قد تقدم أن الرسل تتناول قطعا الرسل الذين ذكرهم الله في القرآن لا سيما أولو العزم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم، فإن هؤلاء مع محمد ﷺ خاتم النبيين - صلوات الله عليهم وسلامه - خصهم الله وفضلهم بقوله تعالى: وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ليسأل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما

وفي قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه فالدين دين رسل الله دين واحد؛ كما بينه الله في كتابه وكما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد وأن أولى الناس بابن مريم لأنا إنه ليس بيني وبينه نبي.

ويتناول أيضا اسم الرسل من لم يسمهم بأعيانهم في القرآن قال تعالى: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما

وقال تعالى: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وأما الحواريون، فإن الله تعالى ذكرهم في القرآن ووصفهم بالإسلام واتباع الرسول وبالإيمان بالله؛ كما أنزل في قوله تعالى: فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين وقال تعالى: وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي قالوا آمنا واشهد بأننا مسلمون وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

ولم يذكر الله تعالى في القرآن أنه أرسلهم البتة بل ذكر أنه ألهمهم الإيمان به وبرسوله وأنهم أمروا باتباع رسوله وقوله: وإذ أوحيت إلى الحواريين لا يدل على النبوة، فإنه قال تعالى: وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه

وأم موسى لم تكن نبية بل ليس في النساء نبية؛ كما تقوله عامة النصارى والمسلمين.

وقد ذكر إجماعهم على ذلك غير واحد مثل القاضيين أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى بن أبي الفراء والأستاذ أبي المعالي الجويني وغيرهم ويدل على ذلك قوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وقوله تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة فجعل غاية مريم الصديقية؛ كما جعل غاية المسيح الرسالة.

وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا مريم بنت عمران وآسية بنت مزاحم يعني من نساء الأمم قبلنا، وهذا يدل على أن أم موسى ليست ممن كمل من النساء فكيف تكون نبية، وقوله تعالى: جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير والكتاب اسم جنس كما تقدم يتناول كل كتاب أنزله الله تعالى، وقال تعالى: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وقوله: ولا كتاب منير نكرة في سياق المعنى فيعم كل كتاب منير، ولو لم يكن إلا الإنجيل لقيل ولا الكتاب المنير، وأيضا فالتوراة أعظم من الإنجيل، وقد بين الله أنه لم ينزل كتابا أهدى من التوراة والقرآن، فقال تعالى: قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران وقرئ ساحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين وهذا تعجيز لهم أن يأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما كقوله: أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وهذا يبين أنه ليس الإنجيل ولا الزبور أهدى من التوراة والقرآن فكيف يجعل الكتاب المنير هو الإنجيل دون التوراة والزبور.

وأيضا فإن الله تعالى إنما يخص بالذكر من الكتب المتقدمة التوراة دون غيرها فهي التي يقرنها بالقرآن، كقوله تعالى: وما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها والذين يؤمنون بالآخرة يؤمنون به وهم على صلاتهم يحافظون

وقد وصف التوراة بأن فيها نورا وهدى للناس فكيف يجعل النور في الإنجيل دونها وقال تعالى: ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء وهدى ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين فقد ذكر التوراة والقرآن، وقولهم أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا فبين أن الكتاب اسم جنس يتناول هنا التوراة والإنجيل، كقوله تعالى: يا أهل الكتاب وقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم فذكر الكتاب بلفظ المنفرد، ومعلوم أنه أراد بالذين أوتوا الكتاب من قبلنا اليهود والنصارى لا يختص ذلك بالنصارى؛ كما قال: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا.

وقد تبين بطلان قول هؤلاء الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ويفسرون كلام الله ورسوله بما يعلم كل من عرف حاله من مؤمن وكافر أنه لم يرده.

وبين أن الله لم يرد بالكتاب الإنجيل وحده؛ كما لم يرد بالرسل الحواريين بل أراد بالكتاب المنير ما أنزله الله من الكتب كالتوراة والإنجيل؛ كما أراد بالرسل من أرسله الله مطلقا كنوح وإبراهيم وموسى والمسيح ابن مريم - صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين -.

فصل: عند أهل الكتاب ما يثبت صدق محمد صلى الله عليه وسلم

قالوا: وقال أيضا: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين فيقال: لهم من المعلوم بالاضطرار أنه ليس المراد بهذا النصارى فقط؛ كما تقدم، بل اليهود يقرءون الكتاب من قبلنا والنصارى يقرءون الكتاب من قبلنا، والكتاب اسم جنس؛ كما تقدم نظائره في قوله: أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وقوله: وطعام الذين أوتوا الكتاب وقوله: يا أهل الكتاب في غير موضع، وقوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين وقوله تعالى: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد

وقد قال تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وكان أمر الله مفعولا. وتناول لفظ أهل الكتاب هنا لليهود أظهر من تناوله للنصارى لذكره لعنة أصحاب السبت، وكذلك قوله تعالى: وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون فهذا خبر عن طائفة من اليهود قالوا: ذلك وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين

وسبب نزولها أنه أراد طائفة من اليهود إلقاء الفتنة بين المسلمين. فهم داخلون قطعا، وإن كان الخطاب مطلقا يتناول الطائفتين.

وأمره تعالى بسؤال الذين يقرءون الكتاب من قبله على تقدير الشك لا يقتضي أن يكون الرسول شك ولا سأل، إن قيل الخطاب له، وإن قيل لغيره فهو أولى وأحرى؛ فإن تعليق الحكم بالشرط لا يدل على تحقيق الشرط بل قد يعلق بشرط ممتنع لبيان حكمه.

قال تعالى: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين فأخبر أنهم لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون مع انتفاء الشرك عنهم، بل مع امتناعه لأنهم قد ماتوا؛ لأن الأنبياء معصومون من الشرك به.

وقال تعالى: قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين فهذا خطاب للجميع. وذكر هنا لفظ إن لأنه خطاب لموجود. وهناك خبر عن ميت وكذلك قوله: فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل لا يدل على وقوع الشك، ولا السؤال، بل النبي ﷺ لم يكن شاكا ولا سأل أحدا منهم بل روي عنه أنه قال: والله لا أشك ولا أسأل.

ولكن المقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون.

كما قال تعالى: في الآية الأخرى قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب وقال تعالى: قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم إن الله لا يهدي القوم الظالمين وقال تعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وقال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين وقال: إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا.

وقال تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وقال تعالى: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وقال تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فالمقصود بيان أن أهل الكتاب عندهم ما يصدقك فيما كذبك فيه الكافرون وذلك من وجوه.

أحدها: أن الكتب المتقدمة تنطق بأن موسى وغيره دعوا إلى عبادة الله وحده ونهوا عن الشرك فكان في هذا حجة على من ظن أن الشرك دين.

ومثل هذا قوله تعالى:

واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.

وقوله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون وقوله تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين.

الوجه الثاني: أن أهل الكتاب يعلمون أن الله إنما أرسل إلى الناس بشرا مثلهم لم يرسل إليهم ملكا، فإن من الكفار من كان يزعم أن الله لا يرسل إلا ملكا أو بشرا معه ملك ويتعجبون من إرسال بشر ليس معه ملك ظاهر؛ كما قال تعالى: وما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا وقال تعالى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال ياقوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما هذا إلا بشر مثلكم يريد أن يتفضل عليكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين إن هو إلا رجل به جنة فتربصوا به حتى حين

وقال تعالى: كذبت ثمود بالنذر فقالوا أبشرا منا واحدا نتبعه إنا إذا لفي ضلال وسعر وكذلك قال الذين من بعدهم ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون ولئن أطعتم بشرا مثلكم إنكم إذا لخاسرون. وكذلك قال قوم فرعون لموسى وهارون: أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون. وقال فرعون: أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب أو جاء معه الملائكة مقترنين. وكذلك قالوا لمحمد. وقال تعالى: الر تلك آيات الكتاب الحكيم أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم قال الكافرون إن هذا لساحر مبين وقال تعالى: وقالوا لولا أنزل عليه ملك ولو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون.

فبين سبحانه أنكم لا تطيقون التلقي عن الملك فلو أنزلناه ملكا لجعلناه في صورة بشر وحينئذ كنتم تظنونه بشرا فيحصل اللبس عليكم فأمر الله تعالى بسؤال أهل الكتاب عمن أرسل إليهم أكان بشرا أم كان ملكا ليقيم الحجة بذلك على من أنكر إرسال بشر؛ كما قال تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين وأهل الذكر هم أهل الذكر الذي أنزله الله تعالى.

الوجه الثالث: أنهم يسألون أهل الكتاب عما جرى للرسل مع أممهم وكيف كان عاقبة المؤمنين بهم، وعاقبة المكذبين لهم.

الوجه الرابع: يسألون أهل الكتاب عن الدين الذي بعث الله به رسله وهو دين الإسلام الذي اتفقت عليه الرسل كالأمر بالتوحيد والصدق والعدل وبر الوالدين وصلة الأرحام والنهي عن الشرك والظلم والفواحش.

الوجه الخامس: يسألونهم عما وصفت به الرسل ربهم هل هو موافق لما وصفه به محمد أم لا؟ وهذه الأمور المسؤول عنها متواترة عند أهل الكتاب معلومة لهم ليست مما يشكون فيه وليس إذا كان مثل هذا معلوما لهم بالتواتر فيسألون عنه يجب أن يكون كل ما يقولونه معلوما لهم بالتواتر.

وأيضا، فإنهم يسألون أيضا عما عندهم من الشهادات والبشارات بنبوة محمد ﷺ.

وقد أخبر الله بذلك في القرآن فقال تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.

وقال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين

فقد أخبر عن عيسى أنه صدق بالرسول والكتاب الذي قبله وهو التوراة وبشر بالرسول الذي يأتي بعده وهو أحمد. قال تعالى: فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون إلى قوله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون وقال تعالى: وإنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وإنه لفي زبر الأولين أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل وقال تعالى: عن من أثنى عليه من النصارى وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا

وقال تعالى: وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا قل آمنوا به أو لا تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للأذقان سجدا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا وقال تعالى: أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وقال تعالى: ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون وإذا يتلى عليهم قالوا آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرءون بالحسنة السيئة ومما رزقناهم ينفقون وقال تعالى: في سورة الأنعام الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون

وقال تعالى: ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين والأخبار بمعرفة أهل الكتاب بصفة محمد ﷺ عندهم في الكتب المتقدمة متواترة عنهم.

وكان قبل أن يبعث النبي ﷺ تجري حروب وقتال بين العرب وبين أهل الكتاب فتقول أهل الكتاب قد قرب مبعث هذا النبي ﷺ الأمي الذي يبعث بدين إبراهيم فإذا ظهر اتبعناه وقتلناهم معه شر قتلة فلما بعث النبي ﷺ كان منهم من آمن به ومنهم من كفر به فقال تعالى: وكانوا من قبل يستفتحون أي يستنصرون بمحمد ﷺ على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين ولهذا كان النبي ﷺ في خطابه لأهل الكتاب يقول لهم والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أني رسول الله وكذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام كان يقول لغيره من أهل الكتاب والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتعلمون أنه رسول الله ﷺ وهذا أمر معروف في الأحاديث الصحاح المخرجة في الصحيحين وغيرهما فظهر بما ذكرناه تحريف هؤلاء لكلام الله وأنه لا حجة لهم فيما أنزل على محمد ﷺ؛ كما تقدم نظائر ذلك.

فصل: نقض دعواهم أن القرآن صدق كتبهم التي بن أيديهم

قالوا فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفى عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.

فيقال: كلامكم الذي تحتجون به في هذا الموضع وغيره إما أن يكون باطلا محضا وإما أن يكون مما لبستم فيه الحق بالباطل، فإن قولكم بتصديقه إياها إن أردتم أنه صدق التوراة والإنجيل والزبور التي أنزلها الله على أنبيائه فهذا لا ريب فيه، فإن هذا مذكور في القرآن في غير موضع وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بكل كتاب أنزله وكل نبي من الأنبياء مع إخباره أنه أنزل هذه الكتب قبل القرآن وأنزل القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.

وقال تعالى: الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان وقال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه

وقال تعالى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت وقال: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وقال: والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقا لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير وقال: ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون وقال تعالى: آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم وقد أوجب على عباده أن يؤمنوا بجميع كتبه ورسله وحكم بكفر من آمن ببعض وكفر ببعض، فقال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم وقال تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما فذم المفرق بينهم بأن يؤمن ببعض دون بعض وبين أنه فضل بعضهم على بعض فقال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض، فبين أنه فضل بعضهم على بعض وقال تعالى: ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وقد اتفق المسلمون على ما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام وهو أنه يجب الإيمان بجميع الأنبياء والمرسلين وبجميع ما أنزله الله من الكتب فمن كفر بنبي واحد تعلم نبوته مثل إبراهيم ولوط وموسى وداود وسليمان ويونس وعيسى فهو كافر عند جميع المسلمين حكمه حكم الكفار وإن كان مرتدا استتيب، فإن تاب وإلا قتل.

ومن سب نبيا واحدا من الأنبياء قتل أيضا باتفاق المسلمين وما علم المسلمون أن نبيا من الأنبياء أخبر به فعليهم التصديق به؛ كما يصدقون بما أخبر به محمد ﷺ وهم يعلمون أن أخبار الأنبياء لا تتناقض ولا تختلف وما لم يعلموا أن النبي أخبر به فهو كما لم يعلموا أن محمدا أخبر به صلى الله عليهم أجمعين، ولكن لا يكذبون إلا بما علموا أنه كذب؛ كما لا يجوز أن يصدقوا إلا بما علموا أنه صدق وما لم يعلموا أنه كذب ولا صدق لم يصدقوا به ولم يكذبوا به؛ كما أمرهم نبيهم محمد ﷺ وبهذا أمرهم المسيح فقال: الأمور ثلاثة أمر تبين رشده فاتبعوه وأمر تبين غيه فاجتنبوه وأمر اشتبه عليكم فكلوه إلى عالمه.

فصل

وإن أرادوا بتصديقه كتبهم أنه صدق ما هم عليه من العقائد والشرائع التي ابتدعوها بغير إذن من الله وخالفوا بها ما تقدمه من شرائع المسلمين أو خالفوا بها الشرع الذي بعث به مثل القول بالتثليث والأقانيم والقول بالحلول والاتحاد بين اللاهوت والناسوت وقولهم: أن المسيح هو الله وابن الله وما هم عليه من إنكار ما يجب الإيمان به من الإيمان بالله واليوم الآخر ومن تحليل ما حرمه الله ورسله كالخنزير وغيره وبين أنهم لا يدينون بدين الحق الذي أنزل به كتابه وأرسل به رسوله بل بدين مبتدع ابتدعه لهم أكابرهم؛ كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم.

وقد بين النبي ﷺ ذلك لعدي بن حاتم وكان نصرانيا لما جاءه ليؤمن به وقد آمن به عدي وكان من خيار الصحابة فسمعه يقرأ هذه الآية اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون قال: عدي قلت يا رسول الله ما عبدوهم.

قال أنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم فكانت تلك عبادتهم إياهم.

فإن أرادوا بتصديقهم في هذه الأمور أو أن محمدا ﷺ صدق ما عندهم مما لم يأت به الأنبياء عن الله فقد كذبوا على محمد ﷺ كذبا ظاهرا معلوما بالاضطرار من دينه وإنما صدق ما جاءت به الأنبياء قبله.

وأما ما أحدثوه وابتدعوه فلم يصدقوه؛ كما أنه لم يشرع لهم أن يستمروا على ما هم عليه من الشرع الأول ولو لم يكن مبدلا بل دعاهم وجميع الإنس والجن إلى الإيمان به وبما جاء به واتباع ما بعث به من الكتاب والحكمة وحكم بكفر كل من لم يتبع كتابه المنزل عليه وأوجب مع خلودهم في عذاب الآخرة جهادهم في الدنيا حتى يكون الدين كله لله وحتى تكون كلمة الله هي العليا.

وقد دعا أهل الكتاب من اليهود والنصارى عموما، ثم كلا من الطائفتين خصوصا في غير موضع مع دعائه الناس كلهم أهل الكتاب وغيرهم كقوله تعالى:

ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون وقال تعالى: يخاطب النصارى يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون أخبر سبحانه أن النصارى تركوا حظا مما ذكرهم به وبسبب ذلك أغرى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة فعلم أنه سبحانه بين أنهم تركوا بعض ما جاء به المسيح ومن قبله من الأنبياء واستحقوا لذلك أن يغري بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل فنهاهم عن الغلو في دينهم وعن اتباع أهواء الذين ابتدعوا بدعا غيروا بها شرع المسيح فضلوا من قبل هؤلاء الأتباع وأضلوا كثيرا من هؤلاء الأتباع وغيرهم وضلوا عن سواء السبيل وهو وسط السبيل بين الضلال وقيده بعد أن أطلقه وأجمله.

وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون وقد خرج النبي ﷺ لقتالهم بنفسه عام تبوك واستنفر لقتالهم جميع المؤمنين ولم يأذن لأحد من القادرين على الغزو في التخلف ومن تخلف لأنه لم ير قتالهم واجبا كان كافرا وإن أظهر الإسلام كان منافقا ملعونا بين الله أنه لا يغفر لهم ونهى نبيه عن الصلاة عليهم وأنزل في ذلك جمهور سورة براءة بالنقل المتواتر حتى بين كفر الذين استأذنوه في ترك الخروج معه لقتال النصارى.

قال تعالى:

يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيء قدير إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم والله عليم بالمتقين إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون.

فصل

فتبين أن قولهم: فثبت بهذا ما معنا نعم، ونفي عن إنجيلنا وكتبنا التي في أيدينا التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.

إن أرادوا به أنه ثبت ما جاءت الأنبياء قبله عن الله فهذا حق.

وإن أرادوا به أنه ثبت ما هم عليه بعد مبعثه من الشرع الذي خالف شرعه أو ما ابتدعوه مما لم يأت به الأنبياء عليهم السلام قبله فهذا باطل.

وإن أرادوا بذلك أنه صدق ألفاظ الكتب التي بأيدينا أي التوراة والإنجيل فهذا مما يسلمه لهم بعض المسلمين وينازعهم فيه أكثر المسلمين وإن كان أكثر ذلك مما يسلمه أكثر المسلمين.

فأما تحريف معاني الكتب بالتفسير والتأويل وتبديل أحكامها فجميع المسلمين واليهود والنصارى يشهدون عليهم بتحريفها وتبديلها؛ كما يشهدون هم والمسلمون على اليهود بتحريف كثير من معاني التوراة وتبديل أحكامها وإن كانوا هم واليهود يقولون إن التوراة لم تحرف ألفاظها.

وحينئذ فلا ينفعهم بقاء حروف الكتب عندهم مع تحريف معانيها إلا؛ كما ينفع اليهود بقاء حروف التوراة والنبوات عندهم مع تحريف معانيها بل جميع النبوات التي يقرون بها هي عند اليهود، وهم مع اليهود ينفون عنها التهم والتبديل لألفاظها مع أن اليهود عندهم من أعظم الخلق كفرا واستحقاقا لعذاب الله في الدنيا والآخرة وهم عند النصارى الذين يكفرون المسلمين أكثر من هؤلاء وشر منهم، فإن النصارى متفقون على أن المسلمين خير من اليهود وكذلك اليهود متفقون على أن المسلمين خير من النصارى بل جميع الأمم المخالفين للمسلمين يشهدون أن المسلمين خير من سائر الأمم والطوائف إلا أنفسهم وشهادتهم لأنفسهم لا تقبل فصار هذا اتفاق أهل الأرض على تفضيل دين الإسلام.

فعلم أن بقاء حروف الكتاب مع الإعراض عن اتباع معانيها وتحريفها لا يوجب إيمان أصحابها ولا يمنع كفرهم.

وحينئذ فليس شهادة محمد ﷺ وأمته للمسيح ولما أنزل عليه من الإنجيل في تثبيت ما عند النصارى بأعظم من شهادة المسيح والحواريين وسائر من اتبعه لموسى ولما أنزل عليه من التوراة في تثبيت ما عند اليهود، فإن المسيح أمر أتباعه باتباع التوراة إلا القدر اليسير الذي نسخه منها.

وأما محمد ﷺ فبعث بكتاب مستقل وشرع مستقل كامل تام لم يحتج معه إلى شرع سابق تتعلمه أمته من غيره ولا إلى شرع لاحق يكمل شرعه ولهذا قال: النبي ﷺ في الحديث الصحيح أنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر.

فجزم أن من كان قبله كان فيهم محدثون وعلق الأمر في أمته وإن كان هذا المعلق قد تحقق؛ لأن أمته لا تحتاج بعده إلى نبي آخر، فلأن لا تحتاج معه إلى محدث ملهم أولى وأحرى.

وأما من كان قبله فكانوا يحتاجون إلى نبي بعد نبي فأمكن حاجتهم إلى المحدثين الملهمين ولهذا إذا نزل المسيح ابن مريم في أمته لم يحكم فيهم إلا بشرع محمد ﷺ وإذا كان مع هذا فشهادة المسيح والحواريين وكل من آمن بالمسيح للتوراة بأنها حق ولموسى بأنه رسول لا يمنع كفر اليهود لكونهم بدلوا شرع التوراة وكذبوا بالمسيح والإنجيل.

فكيف تكون شهادة محمد وأمته للإنجيل بأنه منزل من عند الله وللمسيح بأنه رسول الله ﷺ مانعة من كفر النصارى مع تبديلهم شرع الإنجيل وتكذيبهم بمحمد ﷺ وشرع القرآن؟.

وأما إيمان من يؤمن منهم بأن محمدا رسول الله ﷺ إلى العرب أو بكثير مما جاء به القرآن فلا يمنع كفرهم إذا كفروا ببعض ما جاء به، بل من كذب بشيء مما جاءت به الرسل عن الله فهو كافر وإن آمن بأكثر ما جاءت به الرسل؛ كما قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا. وقال تعالى: أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون. وقد صرح بكفر النصارى في غير موضع وأمر بجهادهم وقتالهم وحكم بكفر من لا يوجب جهادهم وقتالهم أو لا يرى ذلك عبادة لله وطاعة له؛ كما تقدم التنبيه على ذلك فإذا كان من لا يرى جهادهم عبادة لله كافرا عند محمد ﷺ فكيف حالهم عنده ﷺ.

فصل: رد دعواهم تناقض خبر الأنبياء السابقين مع ما أخبر به محمد صلى الله عليه وسلم

وإذا تبين للخاصة والعامة ممن آمن بمحمد ﷺ ومن كفر به أنه كان مصدقا لما بين يديه من الكتب والأنبياء مصدقا للتوراة والإنجيل شاهدا بأن موسى ومن كان متبعا له على الحق وأن المسيح ومن اتبعه على الحق وإن كان يكفر جميع اليهود والنصارى وغيرهم ممن بلغته رسالته ولم يؤمن به وشهد عليهم بأنهم حرفوا كثيرا من معاني التوراة والإنجيل قبل نبوته وأن أهل الكتاب كلهم مع المسلمين يشهدون أيضا بأن كثيرا من معاني التوراة والإنجيل حرفها كثير من أهل الكتاب لم يجز لأحد من أهل الكتاب أن يحتج بقول محمد ﷺ على صحة دينهم الذي شهد محمد ﷺ بأنه باطل مبدل منسوخ وأهله من أهل النار كما تقدم بسطه.

وإذا قالوا: نحن نذكر ذلك لنبين تناقضه حيث صدقها وهي تناقض بعض ما أخبر به أو لنبين أن ما أخبرت به الأنبياء قبله يناقض خبره فيكون ذلك قدحا فيما جاء به.

أجاب المسلمون عن هذا بعدة طرق.

أحدها: أن يقولوا أما مناقضة بعض خبره لبعض؛ كما يزعمه هؤلاء من أن كتابه يمدح أهل الكتاب مرة ويذمهم أخرى وأنه يصدق الكتب المنزلة تارة ويذمها أخرى فهذا قد ظهر بطلانه، فإنه إنما مدح من اتبع موسى والمسيح على الدين الذي لم يبدل ولم ينسخ.

وأما من اتبع الدين المبدل المنسوخ فقد كفره.

فأما دعواهم مناقضة خبره لخبر غيره فيقال: هو مصدق للأنبياء فما أخبروا به.

وأما ما بدل من ألفاظهم أو غيرها بالترجمة أو فسر بغير مرادهم فلم يصدقه ويقال أيضا إن نبوة محمد ﷺ تثبت بمثل ما تثبت به نبوات الأنبياء قبله وبأعظم من ذلك كما قد بسط في موضع آخر وبين أن التكذيب بنبوة محمد ﷺ مع التصديق بنبوة غيره في غاية التناقض والفساد وأنه ما من طريق يعلم بها نبوة غيره إلا ونبوته تعلم بمثل تلك الطريق وبأعظم منها فلو لم تكن نبوته وطريق ثبوتها إلا مثل نبوة غيره وطريق ثبوتها لوجب التصديق بنبوته؛ كما وجب التصديق بنبوة غيره ولكان تكذيبه كتكذيب إبراهيم وموسى وغيرهما من الرسل فكيف إذا كان ذلك أعظم من وجوه متعددة.

وحينئذ فالأنبياء كلهم صادقون مصدقون معصومون فيما يخبرون به عن الله لا يجوز أن يثبت في خبرهم عن الله خبر باطل لا عمدا ولا خطأ فلا يجوز أن يخبر أحدهم بخلاف ما أخبر به غيره بل ولا يفترقون في الدين الجامع؛ كما قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون وإنما يقع النسخ في بعض الشرائع؛ كما يقع النسخ في شريعة الرسول الواحد وحينئذ فيعلم أن كل ما ينقل عن الأنبياء المتقدمين مما يناقض ما علم من إخبار محمد ﷺ فهو باطل سواء كان اللفظ نفسه باطلا لم يقله ذلك النبي أو قد قال لفظا وغلط المترجمون له من لغة إلى لغة أو كان اللفظ وترجمته صحيحين لكن وقع الغلط في معرفة مراد ذلك النبي بذلك الكلام.

فإن كل ما يحتج به من الألفاظ المنقولة عن الأنبياء أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ممن أرسل بغير اللغة العربية لا بد في الاحتجاج بألفاظه من هذه المقدمات أن يعلم اللفظ الذي قاله ويعلم ترجمته ويعلم مراده بذلك اللفظ.

والمسلمون وأهل الكتاب متفقون على وقوع الغلط في تفسير بعض الألفاظ وبيان مراد الأنبياء بها وفي ترجمة بعضها، فإنك تجد بالتوراة عدة نسخ مترجمة وبينها فروق يختلف بها المعنى المفهوم وكذلك في الإنجيل وغيره فهذا الطريق في الجواب طريق عام لكل من آمن بمحمد ﷺ وشهد أنه رسول الله باطنا وظاهرا يخاطب به كل يهودي ونصراني على وجه الأرض وإن لم يكن عارفا بما عند أهل الكتاب، فإنه لا يقدر أحد من أهل الأرض يقيم دليلا صحيحا على نبوة موسى وعيسى وبطلان نبوة محمد ﷺ، فإن هذا ممتنع لذاته بل ولا يمكنه أن يقيم دليلا صحيحا على نبوة أحدهما إلا وإقامة مثل ذلك الدليل أو أعظم منه على نبوة محمد ﷺ أولى وحينئذ فلا يمكن أحدا من أهل

الكتاب أن يحتج بشيء من المنقولات عن الأنبياء المخالفة لما ثبت عن محمد ﷺ سواء أقر بنبوته أو أنكرها بل إن احتج بشيء مما نقل عن محمد ﷺ بين له بطلان احتجاجه به وأنه حجة عليه لا له.

وإن احتج بشيء من المنقول عن غيره من الأنبياء عليهم السلام طولب بتقدير نبوة ذلك النبي مع تكذيب محمد ﷺ وإلا فبتقدير أن ينقل عن اثنين ادعيا النبوة وأتيا بالآيات التي تثبت بها النبوات خبران مناقضان لا يجوز تصديق هذا وتكذيب ذاك إن لم يتبين ما يدل على صدق هذا وكذب هذا وكذلك إذا عورض أحدهما بجنس ما يعارض الآخر.

وهذا لا يرد على المسلمين إذا ردوا ما يحتج به أهل الكتاب مما ينقلونه عن الأنبياء مخالفا لخبر محمد ﷺ، فإن المسلمين لا يطعنون في نبوة أحد من الأنبياء المعروفين وإنما يطعنون في أنهم أخبروا بما يخالف خبر محمد ﷺ، فإن ذلك لا يثبت أي لم يثبت اللفظ والترجمة وتفسير اللفظ وهذه المقدمات يمتنع أن تقوم على شيء يخالف خبر محمد لا جملة ولا تفصيلا.

فأهل الكتاب يطالبون فيما يعارضون به بثلاث مقدمات.

أحدها: تقدير أن أولئك صادقون ومحمد ﷺ كاذب.

والثاني: ثبوت ما أتوا به لفظا.

والثالث: معرفة المراد باللفظ ترجمة وتفسيرا وإن قال الكتابي للمسلم: أنت توافقني على نبوة هؤلاء المتقدمين، إجابة المسلم بوجوه.

منها أن يقول إني لم أوافقك على نبوة واحد منهم مع التكذيب بمحمد ﷺ بل دين المسلمين كلهم أنه من آمن ببعض الأنبياء وكفر ببعض فهو كافر فكيف بمن كفر بمن هو عند المسلمين أفضل الأنبياء وخاتمهم بل قد يقول له أكثر المسلمين نحن لم نعلم نبوة أولئك إلا بإخبار محمد أنهم أنبياء فلو قدحنا في الأصل الذي قد علمنا به نبوتهم لزم القدح في نبوتهم والفرع إذا قدح في أصله دل على فساده في نفسه سواء قدر أصله صحيحا أو فاسدا، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو، فإنه إن كان أصله فاسدا فسد هو وإن كان أصله صحيحا وهو يناقضه بطل هو فهو إذا ناقض أصله باطل على كل تقدير.

وكذلك إذا قال: له الكتابي قد اتفقنا على تصديق موسى والتوراة والمسيح والإنجيل.

قال له المسلم إنما وافقتك على تصديق موسى وعيسى الذين بشرا بمحمد ﷺ؛ كما أخبرنا به محمد عن الله حيث قال الله تعالى: ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر الآية.

وقال تعالى: وإذ قال عيسى ابن مريم يابني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد إلى أمثال ذلك.

فأما الإيمان بموسى الذي ذكر أن شريعته مؤيدة لا ينسخ منها شيء أو بمسيح ادعى أنه الله أو أن الله اتحد به أو حل فيه ونحو ذلك مما يدعيه أهل الكتاب في الرسولين والكتابين ويخالفهم فيه المسلمون فهذا من موارد النزاع لا من مواقع الإجماع فليس لأحد من أهل الكتاب أن يحتج على أحد من المسلمين بموافقته له على ذلك.

ومن تمام ذلك أن يقول المسلم نعم أنا أقر بنبوة موسى والمسيح وإن التوراة والإنجيل كلام الله لكن يمتنع عقلا الإقرار بنبوة واحد من هؤلاء دون نبوة محمد ﷺ، فإن البراهين والآيات والأدلة الدالة على صدق موسى والمسيح تدل على نبوة محمد ﷺ بطريق الأولى فلو انتقضت تلك الأدلة لزم فسادها وأن لا أصدق بأحد من الأنبياء وإن كانت حقا لزم تصديقهم كلهم فلزم إما أن نصدقهم كلهم وإما أن نكذبهم كلهم ولهذا كان من آمن ببعض وكذب ببعض كافرا.

ومن الأجوبة للمسلمين أن يقولوا نحن نصدق الأنبياء المتقدمين في كل ما أخبروا به لكن من نقل عنهم أنهم أخبروا بما يناقض خبر محمد فلا بد له من مقدمتين، ثبوت ذلك اللفظ عن الأنبياء والعلم بمعناه الذي يعلم أنه مناقض للمعنى الذي علم أن محمدا عناه، ثم العلم باللفظ يحتاج مع الخطاب بغير ألسن الأنبياء العربية سواء كانت عربية أو رومية أو سريانية أو قبطية إلى أن يعرف أن هذا اللفظ الذي ترجم به لفظه مطابق للفظه ويمتنع ثبوت المقدمتين؛ لأن في ثبوتهما تناقض الأدلة العلمية، والأدلة العلمية لا تتناقض.

الطريق الثاني: أن يقول المسلمون: ما تذكرونه من المنقول عن الأنبياء مناقضة لما أخبر به محمد أمور لم تعلم صحتها فلا يجوز اعتقاد ثبوتها والجزم بها ولو لم يعلم أن محمدا ﷺ أخبر بخلافها فكيف إذا علم أنه أخبر بخلافها وذلك أن العلم بثبوتها مبني على مقدمات.

أحدها: العلم بنبوتهم وهذا ممتنع مع تكذيب محمد ﷺ.

والثانية: أنهم قالوا: هذه الألفاظ وهذا يحتاج إلى إثبات تواتر هذه الألفاظ عن الأنبياء ولم يثبت أنها تواترت عنهم.

والثالثة: أن معناها هو المعنى المناقض لخبر محمد ﷺ ولم يعلم ذلك.

وكل واحدة من هذه المقدمات تمنع العلم بثبوت هذه المعاني المناقضة لخبر محمد ﷺ فكيف إذا اجتمعت.

وهي تمنع العلم بصحتها ولو لم تناقض خبر محمد فكيف إذا ناقضته.

الطريق الثالث: طريق من يبين أن ألفاظ هذه الكتب لم تتواتر ويثبتون ذلك بانقطاع تواتر التوراة لما خرب بيت المقدس وانقطاع تواتر الإنجيل في أول الأمر.

الطريق الرابع: طريق من يبين أن بعض ألفاظ الكتب حرفت، ويقيم الأدلة الشرعية والعقلية على تبديل بعض ألفاظها.

الطريق الخامس: أن يبين أن الألفاظ التي بأيديهم لا تناقض ما أخبر به محمد بل تدل على صدق محمد ﷺ ويتكلم على تفسير تلك الألفاظ بأعيانها.

وهذه الطريق يسلكها من لا ينازع في ثبوت الألفاظ من المسلمين.

وأما الجمهور الذين يقولون بتبديل هذه الألفاظ فيسلكون هذه الطريق ويسلكون أيضا بيان عدم تواتر الألفاظ بل بيان التبديل في ألفاظها.

فصل: وقوع التبديل في ألفاظ التوراة والإنجيل وانقطاع سندهما

ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل، ويقولون أنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون أنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا: التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى عليهما السلام أما التوراة، فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا، وأجلى منه بنو إسرائيل، ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي.

ومن الناس من يقول أنه لم يكن نبيا وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة.

وقد قيل أنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها؛ كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة.

وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى ويوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر، ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله.

ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب، ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى ابن مريم وموسى عليهما السلام وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا.

ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض، وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله، فإنهم رسل المسيح وهذا الأصل باطل، ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل، فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع. والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل.

بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء، ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية، فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة.

ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا.

فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته، وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا.

قد يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته، فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء عليهم السلام.

ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان بكل ما يقوله كل ولي لله.

قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم وقال تعالى: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم.

ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي، فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم.

والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما، وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: قد كان قبلكم في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر والمحدث الملهم المخاطب.

وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان؛ كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله: إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده.

وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح مثل أبي بكر وعمر - رضوان الله عليهما - فإذا قالوا عن الحواريين: أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين، كما أنهم إذا قالوا: عن المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم - عليهما أفضل الصلاة والسلام -.

وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية من الإسماعيلية كبني عبيد القداح كالحاكم وغيره ويدعي الإلهية في علي بن أبي طالب أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين.

وكذلك من يدعي الإلهية في بعض المشايخ كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة بني عبيد أو عصمة الاثني عشر أو عصمة بعض المشايخ.

فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الاثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الاثني عشر.

وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح - عليه الصلاة والسلام -.

وهؤلاء يقولون عن أولئك أنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهذا مبسوط في موضع آخر.

والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها أصل دينهم وأساس اعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة.

وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم: إن محمدا ﷺ ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.

وقد تبين أن محمدا ﷺ لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ، ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاءوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء. وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود، فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا ﷺ صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم.

فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل؛ كما قد بدل كثير من معانيها، ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى.

وعلى القولين فلا حجة لهم في تصديق محمد ﷺ لما هم عليه من الدين الباطل، فإن الكتب الإلهية التي بأيديهم لا تدل على صحة ما كفرهم به محمد ﷺ وأمته مثل التثليث والاتحاد والحلول وتغيير شريعة المسيح وتكذيب محمد ﷺ فليس في الكتب التي بأيديهم ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على الأمانة التي هي أصل دينهم وما في ذلك من التثليث والاتحاد والحلول ولا فيها ما يدل على أكثر شرائعهم كالصلاة إلى الشرق واستحلال المحرمات من الخنزير والميتة ونحو ذلك، كما قد بسط في موضع آخر.

ويقال لهم: أين ما معكم عن محمد ﷺ مما يدل على أن ألفاظ الكتب التي بأيديكم لم يغير فيها شيء ومعلوم أن المسلمين وغيرهم إذا اختلفوا لم يكن قول فريق حجة على الفريق الآخر.

فإذا كان المسلمون قد اختلفوا في تبديل بعض ألفاظ الكتب المتقدمة لم يكن قول فريق حجة على الأخرى ولا يجوز لأحد من المسلمين ولا منكم أن يضيف إلى الرسول قولا إلا بدليل.

فأين في القرآن والسنة الثابتة عن محمد ﷺ أن جميع ما بأيدي أهل الكتاب من التوراة والإنجيل والزبور ونبوات الأنبياء لم تبدل بشيء من ألفاظها حتى يقولوا: إن محمدا نفى عن كتبهم ذلك؟.

وهؤلاء بنوا كلامهم على أن ألفاظ كتبهم تدل على صحة دينهم الذي هم عليه بعد مبعث محمد ﷺ وبعد تكذيبهم لمحمد ﷺ وأنه لم يبدل شيء من ألفاظها.

وقد تبين فساد ذلك من وجوه متعددة.

ثم زعموا أن المسلمين يدعون أن ألفاظ هذه الكتب حرفت كلها بجميع لغاتها بعد مبعث محمد ﷺ وهذا القول لم يقله أحد من المسلمين فيما أعلم وظنوا أنهم بالجواب عن هذا يكونون قد أجابوا المسلمين.

فصل: رد دعوى النصارى أن المسلمين يقولون إن التحريف وقع بعد بعث النبي محمد صلى الله عليه وسلم

فقال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إن قال قائل: إن التبديل والتغيير يجوز أن يكون بعد هذا القول، فقالوا: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول وذلك أنا أيضا إذا احتججنا عليهم بمثل هذا القول وقلنا: إن الكتاب الذي في أيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟ قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: هذا مما لا يجوز ولا يمكن أحدا أن يقوله، ولا يمكن أن يتغير منه إلى آخر الفصل وسيأتي بألفاظ بعد هذا.

والجواب أن هذا السائل النصراني الذي ذكر عن المسلمين سؤالا لا يقولونه وعن علماء النصارى جوابه هو وهم بنوا كلامهم على أصلين فاسدين.

أحدهما: أن الرسول ثبت ما معهم ونفى عن كتبهم التي بين أيديهم التهم والتبديل والتغيير لها ومقصودهم بذلك لا يتم إلا إذا نفى التبديل عن لفظها ومعناها وهذا مما يعلم كل عاقل أن الرسول لم ينفه عنها بل النقل المتواتر عنه بنقيض ذلك وهم أيضا وكل عاقل يعلم أن الكتب التي بأيديهم في تفسيرها من الاختلاف والاضطراب بين فرق النصارى وبين النصارى واليهود ما يوجب القطع بأن كثيرا من ذلك مبدل محرف وكذلك وقع في تغيير شرائع هذه الكتب، فإن الكتب تضمنت أصلين: الإخبار والأمر. والإيمان بها لا يتم إلا بتصديقها فيما أخبرت وإيجاب طاعتها فيما أوجبته.

وأهل الكتاب يكذبون بكثير مما أخبرت ولا يوجبون طاعتها في كثير مما أوجبته وأمرت به وكل فرقة منهم تشهد على الفرقة الأخرى بمثل ذلك.

والنصارى لهم سبع مجامع مشهورة عندهم وهم في كل مجمع يلعنون طائفة منهم كبيرة ويكفرونهم ويقولون عنهم إنهم كذبوا ببعض ما في تلك الكتب ولم يوجبوا طاعة بعض أمرها وتلك الطائفة تشهد على الأخرى بأنها كذبت ببعض ما فيها، ثم فرقهم الثلاثة المشهورة النسطورية والملكية واليعقوبية كل طائفة تكفر الأخرى وتلعنها وتشهد عليها أنها مكذبة ببعض ما في النبوات غير موجبة لطاعة بعض ما فيها بل اختلافهم في نفس التوحيد والرسالة فزعم كل فريق منهم أن المسيح جاء بما هم عليه والمسيح وجميع الرسل بريئون من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا وبريئون ممن يقول على الله غير الحق أو يقول على الله ما لا يعلم وبريئون من كل قول باطل يقال على الله - عز وجل - وإن كان قائله مخطئا لم يتعمد الكذب.

وفي مقالات النصارى من هذه الأنواع ما يطول وصفه وقد بسط في غير هذا الموضع.

وإذا عرفت أن جميع الطوائف من المسلمين واليهود والنصارى يشهدون أنه قد وقع في هذه الكتب تحريف وتبديل في معانيها وتفاسيرها وشرائعها فهذا القدر كاف وهم من حين بعث محمد ﷺ صار كل من لم يؤمن به كافرا بخلاف حال النصارى قبل مبعث محمد ﷺ، فإنه كان فيهم من هو متبع لدين المسيح والمسلمون وإن كان فيهم من حرف الدين وبدله فجمهورهم خالفوا هؤلاء فلا يزال فيهم طائفة ظاهرة على الحق لا يضرهم من خالفهم وخذلهم حتى تقوم الساعة بخلاف النصارى، فإنهم كفروا جميعهم؛ كما كفرت اليهود بتكذيب المسيح.

والمسلمون يثبتون بالدلائل الكثيرة أنهم بدلوا معاني التوراة والإنجيل والزبور وغيرهم من نبوات الأنبياء وابتدعوا شرعا لم يأت به المسيح ولا غيره ولا يقول عاقل مثل زعمهم أن جميع بني آدم من الأنبياء والرسل وغيرهم كانوا في الجحيم في حبس الشيطان لأجل أن أباهم آدم أكل من الشجرة وأنهم إنما تخلصوا من ذلك لما صلب المسيح.

فإن هذا الكلام لو نقله ناقل عن بعض الأنبياء لقطعنا بكذبه عليهم فكيف وهذا الكلام ليس منقولا عندهم عن أحد من الأنبياء وإنما ينقلونه عمن ليس قوله حجة لازمة، فإن كثيرا من دينهم مأخوذ عن رؤوسهم الذين ليسوا بأنبياء.

فإذا قطعنا بكذب من ينقله عن الأنبياء فكيف إذا لم ينقله عنهم وذلك أن الأنبياء عليهم السلام يخبرون الناس بما تقصر عقولهم عن معرفته لا بما يعرفون أنه باطل ممتنع فيخبرونهم بمحيرات العقول لا محالات العقول وآدم وإن كان أكل من الشجرة فقد تاب الله عليه واجتباه وهداه.

قال تعالى: وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وقال تعالى: فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم وليس عند أهل الكتاب في كتبهم ما ينفي توبته وإنما قد يقول قائلهم إنا لا نعلم أنه تاب أو ليس عندنا توبته وعدم العلم بشيء ليس علما بعدمه وعدم وجود الشيء في كتاب من كتب الله لا ينفي أن يكون في كتاب آخر ففي التوراة ما ليس في الإنجيل وفيهما ما ليس في الزبور وفي الإنجيل والزبور ما ليس في التوراة وفي سائر النبوات ما لا يوجد في هذه الكتب والقرآن لو كان دون التوراة والإنجيل والزبور والنبوات أو كان مثلها لأمكن أن يكون فيه ما ليس فيها فكيف إذا كان أفضل وأشرف وفيه من العلم أعظم مما في التوراة والإنجيل وقد بين الله تعالى فضله عليهما في غير موضع كقوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه. وقال تعالى: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وقال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه وسواء تاب آدم أو لم يتب فكيف يجوز أن يكون رسل الله الذين هم أفضل منه محبوسين في حبس الشيطان في جهنم بذنبه؟ وإبراهيم خليل الرحمن كان أبوه كافرا ولم يؤاخذه الله بذنبه فكيف يجعله في جهنم في حبس الشيطان بسبب ذنب أبيه الأقصى آدم؟ مع أنه كان نبيا ونوح قد مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله وحده وأغرق الله أهل الأرض بدعوته وجعل ذريته هم الباقين فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان لأجل ذنب آدم؟.

وموسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما وأظهر على يديه من البراهين والآيات ما لم يظهر مثله على يدي المسيح وقتل نفسا لم يؤمر بقتلها فغفر الله له ذلك وله من المنزلة عند الله والكرامة ما لا يقدر قدره فكيف يكون في جهنم في حبس الشيطان.

ثم أي مناسبة بين الصلب الذي هو من أعظم الذنوب سواء صلبوا المسيح أو المشبه به وبين تخليص هؤلاء من الشيطان، فإن الشيطان إن فعل ذلك بالذرية كان ظالما معتديا والله - عز وجل - قادر على منعه من ظلمهم بل وعلى عقوبته إذا لم ينته عن ظلمهم.

فلماذا أخر منعه من ظلمهم إلى زمن المسيح؟ وهو سبحانه ولي المؤمنين وناصرهم ومؤيدهم وهم رسله الذين نصرهم على من عاداهم بل أهلك أعداءهم الذين هم جند الشيطان فكيف لا يمنع الشيطان بعد موتهم أن يظلمهم ويجعل أرواحهم في جهنم هذا إن قدر أن الشيطان كان قادرا على ذلك وكيف يجوز أن يجعل الشيطان بعد موت أنبيائه وأوليائه وسقوط التكليف عنهم واستحقاقهم كرامته وإحسانه وجنته بحكم وعده ومقتضى حكمته فجعله مسلطا على حبسهم في جهنم؟

وإن قالوا: الرب - عز وجل - ما كان يقدر على تخليصهم من الشيطان مع علمه بأنه ظالم معتد عليهم بعد الموت إلا بأن يحتال عليه بإخفاء نفسه ليتمكن الشيطان منه؛ كما يزعمون فهذا مع ما فيه من الكفر العظيم وجعل الرب سبحانه عاجزا؛ كما جعلوه أولا ظالما فيه من التناقض ما يقتضي عظيم جهلهم الذي جعلوا به الرب جاهلا، فإنهم يقولون أنه احتال على الشيطان ليأخذه بعدل؛ كما احتال الشيطان على آدم بالحية فاختفى منه لئلا يعلم أنه ناسوت الإله وناسوت الإله لم يعمل خطيئة قط بخلاف غيره.

فلما أراد الشيطان أخذ روحه ليحبسه في جهنم كسائر من مضى وهو لم يعمل خطيئة استحق الشيطان أن يأخذه الرب ويخلص الذرية من حبسه.

وهذا تجهيل منهم للرب - سبحانه وتعالى - عما يقولون مع تعجيزه وتظليمه، فإنه إن كان هو سلط الشيطان على بني آدم كما يقولون. فلا فرق بين ناسوت المسيح وغيره إذ الجميع بني آدم، وأيضا فإذا قدر أن الناسوت يدفع الشيطان عن نفسه بحق، فإنهم يقولون أنه دخل الجحيم وأخرج منه ذرية آدم.

فيقال: إن كان تسلط الشيطان على حبسهم في الجحيم بحق لأجل ذنوبهم مع ذنب أبيهم لم يجز إخراجهم لأجل سلامة ناسوت المسيح من الذنب وإن كانوا مظلومين مع الشيطان وجب تخليصهم قبل صلب الناسوت ولم يجز تأخير ذلك فليس في مجرد سلامة المسيح من الذنوب ما يوجب سلامة غيره وإن قالوا إنه كان بدون تسلطه على صلبه عاجزا عن دفعه فهو مع تسلطه على صلبه أعجز وأعجز.

الأصل الثاني: الفاسد الذي بنوا عليه سؤالهم الذي جعلوه من جهة المسلمين وجوابهم ظنهم أن المسلمين يقولون: إن هذه الكتب حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة منها بعد مبعث محمد ﷺ.

وهذا مما لا يقوله المسلمون، ولكن قد يقول بعضهم: أنه حرف بعد مبعث محمد ﷺ ألفاظ بعض النسخ، فإن الجمهور الذين يقولون إن بعض ألفاظها حرفت منهم من يقول كان هذا قبل المبعث.

ومنهم من يقول كان بعده ومنهم من يثبت الأمرين أو يجوزهما، ولكن لا يقول: إنه حرفت ألفاظ جميع النسخ الموجودة في مشارق الأرض ومغاربها، كما حكاه هذا الحاكي عنهم، ولكن علماء المسلمين وعلماء أهل الكتاب متفقون على وقوع التحريف في المعاني والتفسير.

وإن كانت كل طائفة تزعم أن الأخرى هي التي حرفت المعاني.

وأما ألفاظ الكتب فقد ذهبت طائفة من علماء المسلمين إلى أن ألفاظها لم تبدل؛ كما يقول ذلك من يقوله من أهل الكتاب.

وذهب كثير من علماء المسلمين وأهل الكتاب إلى أنه بدل بعض ألفاظها.

وهذا مشهور عند كثير من علماء المسلمين وقاله أيضا كثير من علماء أهل الكتاب.

حتى في صلب المسيح ذهبت طائفة من النصارى إلى أنه إنما صلب الذي شبه بالمسيح؛ كما أخبر به القرآن وإن الذين أخبروا بصلبه كانوا قد أخبروا بظاهر الأمر، فإنه لما ألقي شبهه على المصلوب ظنوا أنه هو المسيح أو تعمدوا الكذب، ثم هؤلاء منهم الذين يقولون: إن في ألفاظ الكتب ما هو مبدل.

وفيهم من يجعل المبدل من التوراة والإنجيل كثيرا منهما وربما جعل بعضهم المبدل أكثرهما لا سيما الإنجيل، فإن الطعن فيه أكثر وأظهر منه في التوراة.

ومن هؤلاء من يسرف حتى يقول: أنه لا حرمة لشيء منهما بل يجوز الاستنجاء بهما.

ومنهم من يقول الذي بدلت ألفاظه قليل منهما وهذا أظهر.

والتبديل في الإنجيل أظهر، بل كثير من الناس يقول هذه الأناجيل ليس فيها من كلام الله إلا القليل.

والإنجيل الذي هو كلام الله ليس هو هذه الأناجيل.

دعوة أهل الكتاب إلى الحكم بما في كتبهم من الألفاظ الصحيحة

والصحيح أن هذه التوراة الذي بأيدي أهل الكتاب فيها ما هو حكم الله وإن كان قد بدل وغير بعض ألفاظهما كقوله تعالى: يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم - إلى قوله - وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله فعلم أن التوراة التي كانت موجودة بعد خراب بيت المقدس وبعد مجيء بختنصر وبعد مبعث المسيح وبعد مبعث محمد ﷺ فيها حكم الله.

والتوراة التي كانت عند يهود المدينة على عهد رسول الله ﷺ وإن قيل: أنه غير بعض ألفاظها بعد مبعثه فلا نشهد على كل نسخة في العالم بمثل ذلك، فإن هذا غير معلوم لنا وهو أيضا متعذر بل يمكن تغيير كثير من النسخ وإشاعة ذلك عند الأتباع حتى لا يوجد عند كثير من الناس إلا ما غير بعد ذلك ومع هذا فكثير من نسخ التوراة والإنجيل متفقة في الغالب إنما تختلف في اليسير من ألفاظها فتبديل ألفاظ اليسير من النسخ بعد مبعث الرسول ﷺ ممكن لا يمكن أحد أن يجزم بنفيه ولا يقدر أحد من اليهود والنصارى أن يشهد بأن كل نسخة في العالم بالكتابين متفقة الألفاظ إذ هذا لا سبيل لأحد إلى علمه، والاختلاف اليسير في ألفاظ هذه الكتب موجود في الكثير من النسخ، كما قد تختلف نسخ بعض كتب الحديث أو تبدل بعض ألفاظ بعض النسخ، وهذا خلاف القرآن المجيد الذي حفظت ألفاظه في الصدور بالنقل المتواتر لا يحتاج أن يحفظ في كتاب؛ كما قال تعالى:إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون وذلك أن اليهود قبل النبي ﷺ وعلى عهده وبعده منتشرون في مشارق الأرض ومغاربها وعندهم نسخ كثيرة من التوراة.

وكذلك النصارى عندهم نسخ كثيرة من التوراة ولم يتمكن أحد من جمع هذه النسخ وتبديلها ولو كان ذلك ممكنا لكان هذا من الوقائع العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقلها وكذلك في الإنجيل قال تعالى: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه فعلم أن في هذا الإنجيل حكما أنزله الله تعالى لكن الحكم هو من باب الأمر والنهي وذلك لا يمنع أن يكون التغيير في باب الأخبار وهو الذي وقع فيه التبديل لفظا وأما الأحكام التي في التوراة فما يكاد أحد يدعي التبديل في ألفاظها.

وقد ذكر طائفة من العلماء أن قوله تعالى: في الإنجيل وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه هو خطاب لمن كان على دين المسيح قبل النسخ والتبديل لا الموجودين بعد مبعث محمد ﷺ.

وهذا القول يناسب مناسبة ظاهرة لقراءة من قرأ " وليحكم أهل الإنجيل " بكسر اللام كقراءة حمزة فإن هذه لام كي، فإنه تعالى قال وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور ومصدقا لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون

فإذا قرئ " وليحكم " كان المعنى وآتيناه الإنجيل لكذا وكذا وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذا يوجب الحكم بما أنزل الله في الإنجيل الحق لا يدل على أن الإنجيل الموجود في زمن الرسول ﷺ هو ذلك الإنجيل.

وأما قراءة الجمهور وليحكم أهل الإنجيل فهو أمر بذلك، فمن العلماء من قال: هو أمر لمن كان الإنجيل الحق موجودا عندهم أن يحكموا بما أنزل الله فيه وعلى هذا يكون قوله تعالى: " وليحكم " أمر لهم قبل مبعث محمد ﷺ وقال: آخرون لا حاجة إلى هذا التكلف، فإن القول في الإنجيل كالقول في التوراة وقد قال تعالى:

يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم سماعون للكذب أكالون للسحت فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون وقفينا على آثارهم بعيسى ابن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة وآتيناه الإنجيل

فهذا قد صرح بأن أولئك الذين تحاكموا إلى النبي ﷺ من اليهود عندهم التوراة فيها حكم الله، ثم تولوا عن حكم الله وقال: بعد ذلك وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه وهذه لام الأمر وهو أمر من الله أنزله على لسان محمد وأمر من مات قبل هذا الخطاب ممتنع وإنما يكون الأمر أمرا لمن آمن به من بعد خطاب الله لعباده بالأمر فعلم أنه أمر لمن كان موجودا حينئذ أن يحكموا بما أنزل الله في الإنجيل، والله أنزل في الإنجيل الأمر باتباع محمد ﷺ؛ كما أمر به في التوراة فليحكموا بما أنزل الله في الإنجيل مما لم ينسخه محمد ﷺ؛ كما أمر أهل التوراة أن يحكموا بما أنزله مما لم ينسخه المسيح وما نسخه فقد أمروا فيها باتباع المسيح وقد أمروا في الإنجيل باتباع محمد ﷺ فمن حكم من أهل الكتاب بعد مبعث محمد ﷺ بما أنزل الله في التوراة والإنجيل لم يحكم بما يخالف حكم محمد ﷺ إذ كانوا مأمورين في التوراة والإنجيل باتباع محمد ﷺ؛ كما قال تعالى: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق.

فجعل القرآن مهيمنا. والمهيمن الشاهد الحاكم المؤتمن فهو يحكم بما فيها مما لم ينسخه الله ويشهد بتصديق ما فيها مما لم يبدل ولهذا قال لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا وقد ثبت في الصحاح والسنن والمساند هذا. ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله ﷺ فذكروا له أن امرأة منهم ورجلا زنيا فقال: لهم رسول الله ﷺ ما تجدون في التوراة في شأن الرجم قالوا: نفضحهم ويجلدون فقال: عبد الله بن سلام كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فأمر بهما النبي ﷺ فرجما.

وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أنه قال: أتي رسول الله ﷺ بيهودي ويهودية قد زنيا، فانطلق حتى جاء يهود فقال: ما تجدون في التوراة على من زنى قالوا: نسود وجوههما ويطاف بهما قال: فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين قال: فجاءوا بها فقرأوها حتى إذا مروا بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم وقرأ ما بين يديها وما وراءها فقال عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله ﷺ مره فليرفع يده فرفعها فإذا تحتها آية الرجم قالوا: صدق فيها آية الرجم، ولكننا نتكاتمه بيننا وأن أحبارنا أحدثوا التحميم والتجبية فأمر رسول الله ﷺ برجمهما فرجما.

وأخرج مسلم عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: مر على رسول الله ﷺ بيهودي محمم مجلود فدعاهم فقال: هكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قالوا: نعم فدعى رجلا من علمائهم فقال: أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ قال: لا ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجد الرجم، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فقلنا تعالوا فلنجتمع على شيء نقيمه على الشريف والوضيع فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال: رسول الله ﷺ اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه فأمر به فرجم، فأنزل الله تعالى يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا آمنا بأفواههم إلى قوله: فأولئك هم الكافرون إلى الظالمون إلى الفاسقون قال: هي في الكفار كلها.

وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: رجم النبي ﷺ رجلا من أسلم ورجلا من اليهود.

وأما السنن ففي سنن أبي داود عن زيد بن أسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: أتى نفر من اليهود فدعوا رسول الله ﷺ إلى القف فأتاهم في بيت المدراس فقالوا: يا أبا القاسم إن رجلا منا زنى بامرأة فاحكم بينهم فوضعوا لرسول الله ﷺ وسادة فجلس عليها، ثم قال: ائتوني التوراة فأتي بها فنزع الوسادة من تحته ووضع التوراة عليها وقال: آمنت بك وبمن أنزلك، ثم قال: ائتوني بأعلمكم فأتي بشاب، ثم ذكر قصة الرجم.

وأخرج أيضا أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: زنى رجل من اليهود بامرأة فقال: بعضهم لبعض اذهبوا بنا إلى هذا النبي، فإنه نبي بعث بالتخفيف، فإن أفتانا بفتيا دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله فقلنا: نبي من أنبيائك قالوا: فأتوا النبي ﷺ وهو جالس في المسجد في أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدراسهم فقام على الباب فقال: أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟.

قالوا نحممه ونجبيه ونجلده والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار ويقابل أقفيتهما، ويطاف بهما قال: وسكت شاب منهم فلما رآه النبي ﷺ ساكتا أنشده فقال: اللهم إذ نشدتنا، فإنا نجد في التوراة الرجم فقال: النبي ﷺ فما أول ما ارتخصتم أمر الله قال: زنى ذو قرابة ملك من ملوكنا فأخر عنه الرجم، ثم زنى رجل في أسرة من الناس

فأراد رجمه فحال قومه دونه وقالوا لا يرجم صاحبنا حتى تجيء بصاحبك فترجمه فاصطلحوا هذه العقوبة بينهم قال: النبي ﷺ، فإني أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما.

قال الزهري فبلغنا أن هذه الآية نزلت فيهم إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا فكان النبي ﷺ منهم.

وأيضا فقد تحاكموا إليه في القود الذي كان بين بني قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل بعض إحدى القبيلتين قتيلا من الأخرى فيقتلونه ولم يضعفوا الدية وإذا قتل من القبيلة الشريفة قتلوا به وأضعفوا الدية.

قال أبو داود سليمان بن الأشعث في سننه حدثنا محمد بن العلاء حدثنا عبيد الله بن موسى عن علي بن صالح عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان قريظة والنضير وكان النضير أشرف من قريظة فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة ودي مائة وسق من تمر.

فلما بعث النبي ﷺ قتل رجل من النضير رجلا من قريظة فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله فقالوا: بيننا وبينكم محمد فأتوه فنزلت وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط والقسط النفس بالنفس، ثم نزلت أفحكم الجاهلية يبغون قال: أبو داود قريظة والنضير من ولد هارون.

وبسط هذا له موضع آخر وعلى كل قول، فقد أخبر الله - عز وجل - أن في التوراة الموجودة بعد المسيح حكم الله وأن أهل الكتاب اليهود تركوا حكم الله الذي في التوراة مع كفرهم بالمسيح وهذا ذم من الله لهم على ما تركوه من حكمه الذي جاء به الكتاب الأول ولم ينسخه الرسول الثاني.

وهذا من التبديل الثاني: الذي ذموا عليه ودل ذلك على أن في التوراة الموجودة بعد مبعث المسيح حكما أنزله الله أمروا أن يحكموا به وهكذا يمكن أن يقال في الإنجيل.

ومعلوم أن الحكم الذي أمروا أن يحكموا به من أحكام التوراة ولم ينسخه الإنجيل ولا القرآن، فكذلك ما أمروا أن يحكموا به من أحكام الإنجيل هو مما لم ينسخه القرآن وذلك أن الدين الجامع أن يعبد الله وحده ويأمر بما أمر الله به ويحكم بما أنزله الله في أي كتاب أنزله ولم ينسخه، فإنه يحكم به.

ولهذا كان مذهب جماهير السلف والأئمة أن شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يرد شرعنا بخلافه ومن حكم بالشرع المنسوخ فلم يحكم بما أنزل الله، كما أن الله أمر أمة محمد ﷺ أن يحكموا بما أنزل الله في القرآن وفيه الناسخ والمنسوخ فهكذا القول في جنس الكتب المنزلة.

قال تعالى: وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفونوأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون.

فقد أمر نبيه محمدا ﷺ أن يحكم بما أنزل الله إليه وحذره اتباع أهوائهم وبين أن المخالف لحكمه هو حكم الجاهلية حيث قال تعالى: أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون وأخبره تعالى أنه جعل لكل من أهل التوراة والإنجيل والقرآن شرعة ومنهاجا، وأمره تعالى بالحكم بما أنزل الله أمر عام لأهل التوراة والإنجيل والقرآن ليس لأحد في وقت من الأوقات أن يحكم بغير ما أنزل الله والذي أنزله الله هو دين واحد اتفقت عليه الكتب والرسل وهم متفقون في أصول الدين وقواعد الشريعة وإن تنوعوا في الشرعة والمنهاج بين ناسخ ومنسوخ فهو شبيه بتنوع حال الكتاب الواحد، فإن المسلمين كانوا أولا مأمورين بالصلاة لبيت المقدس، ثم أمروا أن يصلوا إلى المسجد الحرام وفي كلا الأمرين إنما اتبعوا ما أنزل الله - عز وجل -.

وكذلك موسى كان مأمورا بالسبت محرما عليه ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزله الله - عز وجل - والمسيح أحل بعض ما حرمه الله في التوراة وهو متبع ما أنزل الله - عز وجل - فليس في أمر الله لأهل التوراة والإنجيل أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ؛ كما أنه ليس في أمر أهل القرآن أن يحكموا بما أنزل الله أمر بما نسخ، بل إذا كان ناسخ ومنسوخ فالذي أنزل الله هو الحكم بالناسخ دون المنسوخ فمن حكم بالمنسوخ فقد حكم بغير ما أنزل الله - عز وجل - ومما يوضح هذا قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تأس على القوم الكافرين فإن هذا يبين أن هذا أمر لمحمد ﷺ أن يقول لأهل الكتاب الذي بعث إليهم أنهم ليسوا على شيء حتى يقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم فدل ذلك على أنهم عندهم ما يعلم أنه منزل من الله وأنهم مأمورون بإقامته إذ كان ذلك مما قرره محمد ﷺ ولم ينسخه ومعلوم أن كل ما أمر الله به على لسان نبي ولم ينسخه النبي ﷺ الثاني بل أقره كان الله آمرا به على لسان نبي بعد نبي ولم يكن في بعثة الثاني ما يسقط وجوب اتباع ما أمر به النبي الأول وقرره النبي الثاني.

ولا يجوز أن يقال إن الله ينسخ بالكتاب الثاني جميع ما شرعه بالكتاب الأول وإنما المنسوخ قليل بالنسبة إلى ما اتفقت عليه الكتب والشرائع.

وأيضا ففي التوراة والإنجيل ما دل على نبوة محمد ﷺ فإذا حكم أهل التوراة والإنجيل بما أنزل الله فيهما حكموا بما أوجب عليهم اتباع محمد ﷺ.

وهذا يدل على أن في التوراة والإنجيل ما يعلمون أن الله أنزله إذ لا يؤمرون أن يحكموا بما أنزل الله ولا يعلمون ما أنزل الله، والحكم إنما يكون في الأمر والنهي والعلم ببعض معاني الكتب لا ينافي عدم العلم ببعضها وهذا متفق عليه في المعاني، فإن المسلمين واليهود والنصارى متفقون على أن في الكتب الإلهية الأمر بعبادة الله وحده لا شريك له وأنه أرسل إلى الخلق رسلا من البشر وأنه أوجب العدل وحرم الظلم والفواحش والشرك وأمثال ذلك من الشرائع الكلية وأن فيها الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب بل هم متفقون على الإيمان باليوم الآخر وقد تنازعوا في بعض معانيها واختلفوا في تفسير ذلك؛ كما اختلفت اليهود والنصارى في المسيح المبشر به النبوات، هل هو المسيح ابن مريم أو مسيح آخر ينتظر، والمسلمون يعلمون أن الصواب في هذا مع النصارى لكن لا يوافقونهم على ما أحدثوا فيه من الإفك والشرك.

وكذلك يقال إذا بدل قليل من ألفاظها الخبرية لم يمنع ذلك أن يكون أكثر ألفاظها لم يبدل لا سيما إذا كان في نفس الكتاب ما يدل على المبدل وقد يقال أن ما بدل من ألفاظ التوراة والإنجيل ففي نفس التوراة والإنجيل ما يدل على تبديله فبهذا يحصل الجواب عن شبهة من يقول أنه لم يبدل شيء من ألفاظها، فإنهم يقولون إذا كان التبديل قد وقع في ألفاظ التوراة والإنجيل قبل مبعث محمد ﷺ لم يعلم الحق من الباطل، فسقط الاحتجاج بهما ووجوب العمل بهما على أهل الكتاب فلا يذمون حينئذ على ترك اتباعهما.

والقرآن قد ذمهم على ترك الحكم بما فيهما واستشهد بهما في مواضع.

وجواب ذلك أن ما وقع من التبديل قليل والأكثر لم يبدل والذي لم يبدل فيه ألفاظ صريحة تبين بها المقصود من غلط ما خالفها ولها شواهد ونظائر متعددة يصدق بعضها بعضا بخلاف المبدل، فإنه ألفاظ قليلة، وسائر نصوص الكتب يناقضها، وصار هذا بمنزلة كتب الحديث المنقولة عن النبي ﷺ، فإنه إذا وقع في سنن أبي داود والترمذي أو غيرهما أحاديث قليلة ضعيفة كان في الأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي ﷺ ما يبين ضعف تلك.

بل وكذلك صحيح مسلم فيه ألفاظ قليلة غلط، وفي نفس الأحاديث الصحيحة مع القرآن ما يبين غلطها، مثل ما روي أن الله خلق التربة يوم السبت وجعل خلق المخلوقات في الأيام السبعة، فإن هذا الحديث قد بين أئمة الحديث كيحيى بن معين وعبد الرحمن بن مهدي والبخاري وغيرهم أنه غلط، وأنه ليس في كلام النبي ﷺ بل صرح البخاري في تاريخه الكبير أنه من كلام كعب الأحبار؛ كما قد بسط في موضعه، والقرآن يدل على غلط هذا، ويبين أن الخلق في ستة أيام، وثبت في الصحيح أن آخر الخلق كان يوم الجمعة فيكون أول الخلق يوم الأحد.

وكذلك ما روي أنه ﷺ، صلى الكسوف بركوعين أو ثلاثة.

فإن الثابت المتواتر عن النبي ﷺ في الصحيحين وغيرهما من حديث عائشة وابن عباس وعبد الله بن عمرو وغيرهم أنه صلى كل ركعة بركوعين ولهذا لم يخرج البخاري إلا ذلك، وضعف الشافعي والبخاري وأحمد في أحد الروايتين عنه وغيرهم حديث الثلاث والأربع، فإن النبي ﷺ إنما صلى الكسوف مرة واحدة وفي حديث الثلاث والأربع أنه صلاها يوم مات إبراهيم ابنه، وأحاديث الركوعين كانت ذلك اليوم فمثل هذا الغلط إذا وقع كان في نفس الأحاديث الصحيحة ما يبين أنه غلط، والبخاري إذا روى الحديث بطرق في بعضها غلط في بعض الألفاظ ذكر معه الطرق التي تبين ذلك الغلط؛ كما قد بسطنا الكلام على ذلك في موضعه.

فكذلك إذا قيل أنه وقع تبديل في بعض ألفاظ الكتب المتقدمة كان في الكتب ما يبين لك الغلط وقد قدمنا أن المسلمين لا يدعون أن كل نسخة في العالم من زمن محمد ﷺ بكل لسان من التوراة والإنجيل والزبور بدلت ألفاظها، فإن هذا لا أعرف أحدا من السلف قاله وإن كان من المتأخرين من قد يقول ذلك، كما في بعض المتأخرين من يجوز الاستنجاء بكل ما في العالم من نسخ التوراة والإنجيل. فليست هذه الأقوال ونحوها من أقوال سلف الأمة وأئمتها وعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى بيد كعب الأحبار نسخة من التوراة قال: يا كعب إن كنت تعلم أن هذه هي التوراة التي أنزلها الله على موسى بن عمران فاقرأها فعلق الأمر على ما يمتنع العلم به ولم يجزم عمر رضي الله عنه بأن ألفاظ تلك مبدلة لما لم يتأمل كل ما فيها.

والقرآن والسنة المتواترة يدلان على أن التوراة والإنجيل الموجودين في زمن النبي ﷺ فيهما ما أنزله الله - عز وجل - والجزم بتبديل ذلك في جميع النسخ التي في العالم متعذر ولا حاجة بنا إلى ذكره ولا علم لنا بذلك ولا يمكن أحدا من أهل الكتاب أن يدعي أن كل نسخة في العالم بجميع الألسنة من الكتب متفقة على لفظ واحد، فإن هذا مما لا يمكن أحدا من البشر أن يعرفه باختباره وامتحانه وإنما يعلم مثل هذا بالوحي وإلا فلا يمكن أحدا من البشر أن يقابل كل نسخة موجودة في العالم بكل نسخة من جميع الألسنة بالكتب الأربعة والعشرين وقد رأيناها مختلفة في الألفاظ اختلافا بينا، والتوراة هي أصح الكتب وأشهرها عند اليهود والنصارى ومع هذا فنسخة السامرة مخالفة لنسخة اليهود والنصارى حتى في نفس الكلمات العشر ذكر في نسخة السامرة منها من أمر استقبال الطور ما ليس في نسخة اليهود والنصارى وهذا مما يبين أن التبديل وقع في كثير من نسخ هذه الكتب، فإن عند السامرة نسخا متعددة.

وكذلك رأينا في الزبور نسخا متعددة تخالف بعضها بعضا مخالفة كثيرة في كثير من الألفاظ والمعاني يقطع من رآها أن كثيرا منها كذب على زبور داود وأما الأناجيل فالاضطراب فيها أعظم منه في التوراة.

فإن قيل فإذا كانت الكتب المتقدمة منسوخة فلماذا ذم أهل الكتاب على ترك الحكم بما أنزل الله منها؟ قيل: النسخ لم يقع إلا في قليل من الشرائع وإلا فالإخبار عن الله وعن اليوم الآخر وغير ذلك لا نسخ فيه.

وكذلك الدين الجامع والشرائع الكلية لا نسخ فيها وهو سبحانه ذمهم على ترك اتباع الكتاب الأول؛ لأن أهل الكتاب كفروا من وجهين من جهة تبديلهم الكتاب الأول، وترك الإيمان والعمل ببعضه، ومن جهة تكذيبهم بالكتاب الثاني: وهو القرآن، كما قال تعالى: وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين فبين أنهم كفروا قبل مبعثه بما أنزل عليهم وقتلوا الأنبياء كما كفروا حين مبعثه بما أنزل عليه وقال تعالى: الذين قالوا إن الله عهد إلينا ألا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين وقال تعالى: فإن كذبوك فقد كذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير وقال تعالى: فلما جاءهم الحق من عندنا قالوا لولا أوتي مثل ما أوتي موسى أولم يكفروا بما أوتي موسى من قبل قالوا سحران تظاهرا وقالوا إنا بكل كافرون قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقين وإذا كان الأمر كذلك فهو سبحانه يذمهم على ترك اتباع ما أنزله في التوراة والإنجيل وعلى ترك اتباع ما أنزله في القرآن ويبين كفرهم بالكتاب الأول وبالكتاب الثاني: وليس في شيء من ذلك أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ من الكتاب الأول؛ كما ليس فيه أمرهم أن يحكموا بالمنسوخ في الكتاب الثاني.

هامش

يوحنا 20: 17

الخروج 4: 22

=================

ج3. الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الثالث

المحتويات

المقدمة

فصل: قياس النصارى كتبهم على القرآن قياس باطل

فصل: ثبوت الإختلاف والتغيير في نسخ أهل الكتاب

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن أقرهم على ما هم عليه

فصل: إلزام اليهود والنصارى بدين الإسلام

فصل: وجوب محاججة الظالمين من مشركين وأهل كتاب

فصل: الإسلام دين الأنبياء جميعا

فصل: أمر المؤمنين بقول الحق لتقوم به الحجة على المخالف

فصل: نقض دعواهم أن الظلم اتصف به اليهود دون النصارى

فصل: المسلمون يوافقون النصارى فيما كفروا به اليهود

فصل: غلو النصارى في عيسى عبد الله ورسوله

فصل: تطرف اليهود والنصارى وتوسط المسلمين

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن نفى عنهم الشرك

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن سوى بين جميع الأنبياء

فصل: رد دعواهم أنه لا يليق بهم أن يتركوا كلمة الله عندهم التي عظمها القرآن

فصل: تكريم الإسلام للمسيح عبد الله ورسوله

فصل: نسخ شرع التوراة وأن ما جاء به المسيح حق

فصل: تنازع اليهود والنصارى في تفسير كتبهم

فصل: رد دعوى النصارى أن محمدا لم يرسل إليهم وشكه فيما جاء به

فصل: الرسول بشر لا يعلم الغيب ولا يقول إني ملك

فصل: بيان أن تفسيرهم للتثليث تفسير باطل

فصل: دلائل حياة الله

فصل: طرق معرفة صفات الله

فصل: بيان أسماء الله تعالى

فصل: رد دعواهم أن الله سمى نفسه أبا وابنا وروح قدس

فصل: بيان المعنى الصحيح لروح الله

فصل: إبطال استدلالهم بالتغطيس على الأقانيم

فصل: رد وجود حجة على الأقانيم في القرآن

فصل: بيان معنى تأييد المسيح بروح القدس

فصل: نقاش دعواهم أن الأقانيم صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء

فصل: إبطال تمثيلهم الصفات بشعاع الشمس

فصل: بيان تناقض قول النصارى في عقيدة إيمانهم

فصل: نقض قولهم إن اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف ولهذا تجسمت كلمة الله الخالقة بعيسى

فصل: تفنيد مراد النصارى بظهور الله في عيسى

فصل: نقاش ما نقلوه عن الأنبياء عن مجيء المسيح عليه السلام وبيان وجه الدلالة

فصل: في كلام أشعيا بشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم

فصل: رأي النصارى في كفر اليهود بالمسيح رغم ما عندهم من النبوات عنه وبيان مشابهة النصارى لهم بكفرهم بمحمد

فصل: رد استدلالهم على الأقانيم بما ورد في التوراة عن خلق آدم

فصل: رد استدلالهم على ربوبية عيسى بما ورد عن إهلاك قوم لوط

فصل: رد استدلالهم بما ورد عن داود على ربوبية المسيح

فصل: رد استدلالهم بذكر التوراة إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب على تعدد ألوهيته سبحانه

فصل: رد استدلالهم بشهادة أشعيا على التثليث

فصل: رد دعوى إقرار اليهود بالثالوث وكفرهم بمعناه

فصل: رد نسبتهم التثليث إلى كلام الأنبياء

فصل: رد إنكارهم أنهم يعبدون ثلاثة آلهة

فصل: إسقاط احتجاجهم بشيء من القرآن على باطلهم وأن القرآن يؤخذ كله

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الثالث

فصل: قياس النصارى كتبهم على القرآن قياس باطل

فحينئذ فقولهم: إنا نعجب من هؤلاء القوم على علمهم وذكائهم ومعرفتهم كيف يحتجون علينا بمثل هذا القول؟

وذلك أنا أيضا إذا قلنا واحتججنا عليهم بمثل هذا القول إن الكتاب الذي بأيديهم يومنا هذا قد غيروه وبدلوه وكتبوا فيه ما أرادوا واشتهوا هل كانوا يجوزون كلامنا؟

قال الحاكي عنهم: فقلت لهم هذا ما لا يجوز ولا يمكن لأحد أن يقوله ولا يمكن تغييره ولا تبديل حرف واحد منه. فقالوا سبحان الله العظيم! إذا كان الكتاب الذي لهم، الذي هو باللسان الواحد لا يمكن تبديله، ولا تغيير حرف واحد منه فكيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف نسخة وجاز عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة، وصارت في أيدي الناس يقرءونها باختلاف ألسنتهم على تشاسع بلدانهم. فمن الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا؟ ومن هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وغالبها حتى حكم على جميعها في أقطار الأرض وجمعها في أربع زوايا العالم حتى يغيرها؟ وإن كان غير بعضها، وترك بعضها فهذا لا يمكن أن يكون لأن كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن، فهذا ما لا يجوز لقائل أن يقوله أبدا

والجواب أن يقال:

أولا: هذا الكلام منهم يدل على غاية جهلهم بما يقوله المسلمون في كتبهم، وتبين أنهم - لفرط جهلهم - يظنون أن المسلمين يقولون مقالة لا يخفى فسادها على من له أدنى عقل ومعرفة والمسلمون لا يشك أحد من الأمم أنهم أعظم الأمم عقولا وأفهاما وأتمهم معرفة وبيانا وأحسن قصدا وديانة وتحريا للصدق والعدل، وأنهم لم يحصل في النوع الإنساني أمة أكمل منهم ولا ناموس أكمل من الناموس الذي جاء به نبيهم محمد ﷺ وحذاق الفلاسفة معترفون لهم بذلك وأنه لم يقرع العالم ناموس أكمل من هذا الناموس.

وقد جمع الله للمسلمين جميع طرق المعارف الإنسانية، وأنواعها فإن الناس نوعان:

أهل كتاب وغير أهل كتاب، كالفلاسفة والهنود.

والعلم ينال بالحس والعقل، وما يحصل بهما وبوحي الله إلى أنبيائه الذي هو خارج عما يشترك فيه الناس من الحس والعقل.

ولهذا قيل: الطرق العلمية البصر، والنظر، والخبر: الحس، والعقل والوحي: الحس والقياس، والنبوة.

فأهل الكتاب امتازوا عن غيرهم بما جاءهم من النبوة مع مشاركتهم لغيرهم فيما يشترك فيه الناس من العلوم الحسية، والعقلية.

والمسلمون حصل لهم من العلوم النبوية والعقلية ما كان للأمم قبلهم، وامتازوا عنهم بما لا تعرفه الأمم وما اتصل إليهم من عقليات الأمم هذبوه لفظا ومعنى حتى صار أحسن مما كان عندهم ونفوا عنه من الباطل وضموا إليه من الحق ما امتازوا به على من سواهم.

وكذلك العلوم النبوية أعطاهم الله ما لم يعطه أمة قبلهم، وهذا ظاهر لمن تدبر القرآن مع تدبر التوراة والإنجيل، فإنه يجد من فضل علم القرآن ما لا يخفى إلا على العميان.

فكيف يظن مع هذا بالمسلمين أن يخفى عليهم فساد هذا الكلام الذي ظنه بهم هؤلاء الجهال:

ويقال: ثانيا الجواب من وجوه:

أحدها: أن المسلمين لم يدعوا أن هذه الكتب حرفت بعد انتشارها، وكثرة النسخ بها، ولكن جميعهم متفقون على وقوع التبديل والتغيير في كثير من معانيها، وكثير من أحكامها.

وهذا مما تسلمه النصارى جميعهم في التوراة والنبوات المتقدمة، فإنهم يسلمون أن اليهود بدلوا كثيرا من معانيها وأحكامها.

ومما تسلمه النصارى في فرقهم، أن كل فرقة تخالف الأخرى فيما تفسر به الكتب المتقدمة، ومما تسلمه اليهود أنهم متفقون على أن النصارى تفسر التوراة والنبوات المتقدمة على الإنجيل بما يخالف معانيها وأنها بدلت أحكام التوراة فصار تبديل كثير من معاني الكتب المتقدمة متفقا عليه بين المسلمين، واليهود، والنصارى.

وأما تغيير بعض ألفاظها ففيه نزاع بين المسلمين.

والصواب الذي عليه الجمهور أنه بدل بعض ألفاظها، كما ذكر ذلك في مواضعه.

الوجه الثاني: أن قياسهم كتبهم على القرآن وأنه كما لا تسمع دعوى التبديل فيه، فكذلك في كتبهم - قياس باطل في معناه ولفظه.

أما معناه: فكل ما أجمع المسلمون عليه من دينهم إجماعا ظاهرا معروفا عندهم فهو منقول عن الرسول نقلا متواترا، بل معلوما بالاضطرار من دينه، فإن الصلوات الخمس، والزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت العتيق، ووجوب العدل والصدق، وتحريم الشرك والفواحش والظلم، بل وتحريم الخمر والميسر والربا، وغير ذلك منقول عن النبي ﷺ (نقلا متواترا كنقل ألفاظ القرآن الدالة على ذلك.

ومن هذا الباب عموم رسالته ﷺ ) وأنه مبعوث إلى جميع الناس أهل الكتاب وغير أهل الكتاب، بل إلى الثقلين الإنس والجن وأنه كان يكفر اليهود والنصارى الذين لم يتبعوا ما أنزل الله عليه كما كان يكفر غيرهم ممن لم يؤمن بذلك وأنه جاهدهم وأمر بجهادهم.

فالمسلمون - عندهم منقولا عن نبيهم نقلا متواترا - ثلاثة أمور: لفظ القرآن ومعانيه التي أجمع المسلمون عليها والسنة المتواترة وهي الحكمة التي أنزلها الله عليه غير القرآن.

كما قال تعالى: كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة.

وبذلك دعا الخليل حيث قال لما بنى هو وإسماعيل الكعبة

بأرض فاران المذكورة في الكتاب الأول قال تعالى:

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم * ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم.

وقال ﷺ: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).

فالمسلمون عندهم نقل متواتر عن نبيهم بألفاظ القرآن ومعانيه المتفق عليها وبالسنة المتواترة عنه مثل: كون الظهر والعصر والعشاء أربعا، وكون المغرب ثلاث ركعات، وكون الصبح ركعتين ومثل الجهر في العشائين والفجر والمخافتة في الظهر والعصر، ومثل كون الركعة فيها سجدتين، وكون الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة سبعا، ورمي الجمرات كل واحدة سبع حصيات وأمثال ذلك.

وأيضا فالمسلمون يحفظون القرآن في صدورهم حفظا يستغنون به عن المصاحف كما ثبت في الصحيح الذي رواه مسلم عن النبي ﷺ أنه قال إن ربي قال لي إني منزل عليك كتابا لا يغسله الماء تقرأه نائما ويقظانا.

يقول: ولو غسل بالماء من المصاحف لم يغسل من القلوب كالكتب المتقدمة، فإنه لو عدمت نسخها لم يوجد من ينقلها نقلا متواترا محفوظة في الصدور.

والقرآن ما زال محفوظا في الصدور نقلا متواترا حتى لو أراد مريد أن يغير شيئا من المصاحف، وعرض ذلك على صبيان المسلمين لعرفوا أنه قد غير المصحف، لحفظهم للقرآن من غير أن يقابلوه بمصحف، وأنكروا ذلك.

وأهل الكتاب يقدر الإنسان منهم أن يكتب نسخا كثيرا من التوراة والإنجيل، ويغير بعضها، ويعرضها على كثير من علمائهم، ولا يعرفون ما غير منها إن لم يعرضوه على النسخ التي عندهم.

ولهذا لما غير من نسخ التوراة راج ذلك على طوائف منهم ولم يعلموا التغيير.

وأيضا فالمسلمون لهم الأسانيد المتصلة بنقل العدول الثقات لدقيق الدين كما نقل العامة جليله، وليس هذا لأهل الكتاب.

وأيضا فما ذكروه من أن كتبهم مكتوبة باثنين وسبعين لسانا هو أقرب إلى التغيير من الكتاب الواحد باللغة الواحدة؛ فإن هذا مما يحفظه الخلق الكثير فلا يقدر أحد أن يغيره.

وأما الكتب المكتوبة باثنين وسبعين لسانا فإذا قدر أن بعض النسخ الموجودة ببعض الألسنة غير بعض ما فيها لم يعلم ذلك سائر أهل الألسن الباقية، بل ولم يعلم بذلك سائر أهل النسخ الأخرى فالتغيير فيها ممكن كما يمكن في نظائر ذلك.

وما ادعوه من تعذر جمع جميع النسخ هو حجة عليهم فإن ذلك إذا كان متعذرا لم يمكن الجزم باتفاق جميع النسخ لواحد، حتى يشهد بأنها كلها متفقة لفظا ومعنى، بل إمكان التغيير فيها أيسر من إمكان الشهادة باتفاقها.

ولهذا لا يمكن أحدا تغيير القرآن، مع كونه محفوظا في القلوب منقولا بالتواتر، مع أنا لا نشهد لجميع المصاحف بالاتفاق، بل قد يقع في بعض نسخ المصاحف ما هو غلط يعلمه حفاظ القرآن، ولا يحتاجون إلى اعتبار ذلك بمصحف آخر.

وتلك الكتب لا يحفظ كلا منها قوم من أهل التواتر حتى تعتبر النسخ بها، ولكن لما كان الأنبياء عليهم السلام فيهم موجودين، كانوا هم المرجع للناس فيما يعتمدون عليه إذا غير بعض الناس شيئا من الكتب، فلما انقطعت النبوة فيهم أسرع فيهم التغيير.

فلهذا بدل كثير من النصارى كثيرا من دين المسيح بعد رفعه بقليل من الزمان، وصاروا يبدلون شيئا بعد شيء، وتبقى فيهم طائفة متمسكة بدين الحق إلى أن بعث الله محمدا ﷺ.

وقد بقي من أولئك الذين على الدين الحق طائفة قليلة كما في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه، عن عياض بن حمار المجاشعي عن النبي أنه قال: إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ماتوا قبيل مبعثه.

وقد أدرك سلمان الفارسي - وكان قد تنصر بعد أن كان مجوسيا - طائفة ممن كانوا متبعين لدين المسيح واحدا بالموصل وآخر بنصيبين وآخر بعمورية.

وكل منهم يخبره بأنه لم يبق على دين المسيح إلا قليل إلى أن قال له آخرهم: لم يبق عليه أحد، وأخبره أنه يبعث نبي بدين إبراهيم من جهة الحجاز فكان ذلك سبب هجرة سلمان إليه وإيمانه به.

فالدين الذي اجتمع عليه ﷺ المسلمون اجتماعا ظاهرا معلوما هو منقول عن نبيهم نقلا متواترا نقلوا القرآن ونقلوا سنته، وسنته مفسرة للقرآن مبينة له كما قال تعالى له:

وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.

فبين ما أنزل الله لفظه ومعناه فصار معاني القرآن التي اتفق عليها المسلمون اتفاقا ظاهرا مما توارثته الأمة عن نبيها كما توارثت عنه ألفاظ القرآن فلم يكن - ولله الحمد - فيما اتفقت عليه الأمة شيء محرف مبدل من المعاني فكيف بألفاظ تلك المعاني.

فإن نقلها والاتفاق عليها أظهر منه في الألفاظ فكان الدين الظاهر للمسلمين الذي اتفقوا عليه مما نقلوه عن نبيهم لفظه ومعناه فلم يكن فيه تحريف ولا تبديل لا للفظ ولا للمعنى بخلاف التوراة والإنجيل فإن من ألفاظها ما بدل معانيه وأحكامه اليهود والنصارى أو مجموعهما تبديلا ظاهرا مشهورا في عامتهم كما بدلت اليهود ما في الكتب المتقدمة من البشارة بالمسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وما في التوراة من الشرائع وأمره في بعض الأخبار.

وكما بدلت النصارى كثيرا مما في التوراة والنبوات من الأخبار ومن الشرائع التي لم يغيرها المسيح، فإن ما نسخه الله على لسان المسيح من التوراة يجب اتباع المسيح فيه.

وأما ما بدل بعد المسيح مثل استحلال لحم الخنزير وغيره مما حرمه الله ولم يبحه المسيح ومثل إسقاط الختان ومثل الصلاة إلى المشرق (وزيادة الصوم ونقله من زمان إلى زمان) واتخاذ الصور في الكنائس وتعظيم الصليب واتباع الرهبانية، فإن هذه كلها شرائع لم يشرعها نبي من الأنبياء لا المسيح، ولا غيره خالفوا بها شرع الله الذي بعث به الأنبياء من غير أن يشرعها الله على لسان نبي.

الوجه الثالث أن القرآن قد ثبت بالنقل المتواتر المعلوم بالضرورة - للموافق والمخالف - أن محمدا ﷺ كان يقول إنه كلام الله لا كلامه وأنه مبلغ له عن الله وكان يفرق بين القرآن وبين ما يتكلم به من السنة وإن كان ذلك مما يجب اتباعه فيه تصديقا وعملا.

فإن الله أنزل عليه الكتاب والحكمة وعلم أمته الكتاب والحكمة كما قال تعالى: لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة.

وقال تعالى: واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به.

وقال تعالى: وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم.

وقال تعالى: واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة.

وقال تعالى عن الخليل وابنه إسماعيل: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم * ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.

وقال النبي ﷺ: ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه فكان يعلم أمته الكتاب وهو القرآن العزيز الذي أخبرهم أنه كلام الله لا كلامه وهو الذي قال عنه: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.

وهو الذي شرع لأمته أن تقرأه في صلاتهم فلا تصح صلاة إلا به وعلمهم مع ذلك الحكمة التي أنزلها الله عليه وفرق بينها وبين القرآن من وجوه.

منها: أن القرآن معجز.

ومنها: أن القرآن هو الذي يقرأ في الصلاة دونها.

ومنها: أن ألفاظ القرآن العربية منزلة على ترتيب الآيات فليس لأحد أن يغيرها باللسان العربي باتفاق المسلمين ولكن يجوز تفسيرها باللسان العربي وترجمتها بغير العرب.

وأما تلاوتها بالعربي بغير لفظها، فلا يجوز باتفاق المسلمين، بخلاف ما علمهم من الحكمة فإنه ليس حكم ألفاظها حكم ألفاظ القرآن

ومنها: أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، ولا يقرأه الجنب كما دلت عليه سنته عند جماهير أمته، بخلاف ما ليس بقرآن.

والقرآن تلقته الأمة منه حفظا في حياته، وحفظ القرآن جميعه في حياته غير واحد من أصحابه وما من الصحابة إلا من حفظ بعضه وكان يحفظ بعضهم ما لا يحفظه الآخر فهو جميعه منقول سماعا منه بالنقل المتواتر وهو يقول إنه مبلغ له عن الله وهو كلام الله لا كلامه.

وفي القرآن - ما يبين أنه كلام الله - نصوص كثيرة وكان الذين رأوا محمدا ﷺ ونقلوا ما عاينوه من معجزاته وأفعاله وشريعته وما سمعوه من القرآن وحديثه ألوفا مؤلفة أكثر من مائة ألف رأوه وآمنوا به.

وأما الأناجيل التي بأيدي النصارى: فهي أربعة أناجيل إنجيل متى ويوحنا ولوقا ومرقس، وهم متفقون على أن لوقا ومرقس لم يريا المسيح، وإنما رآه متى ويوحنا، وأن هذه المقالات الأربعة التي يسمونها الإنجيل، وقد يسمون كل واحد منهم إنجيلا، إنما كتبها هؤلاء بعد أن رفع المسيح، فلم يذكروا فيها أنها كلام الله، ولا أن المسيح، بلغها عن الله، بل نقلوا فيها أشياء من كلام المسيح، وأشياء من أفعاله ومعجزاته.

وذكروا أنهم لم ينقلوا كل ما سمعوه منه ورأوه فكانت من جنس ما يرويه أهل الحديث والسير والمغازي عن النبي ﷺ من أقواله وأفعاله التي ليست قرآنا.

فالأناجيل التي بأيديهم شبه كتاب السيرة وكتب الحديث أو مثل هذه الكتب وإن كان غالبها صحيحا.

وما قاله فهو مبلغ له عن الله يجب فيه تصديق خبره وطاعة أمره كما قاله الرسول من السنة فهو يشبه ما قاله الرسول من السنة فإن منها ما يذكر الرسول أنه قول الله كقوله: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنت بالحرب ونحو ذلك

ومنها ما يقوله هو ولكن هو أيضا مما أوحاه الله إليه، فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، فهكذا ما ينقل في الإنجيل وهو من هذا النوع فإنه كان أمرا من المسيح فأمر المسيح أمر الله ومن أطاع المسيح فقد أطاع الله.

وما أخبر به المسيح عن الغيب فالله أخبره به فإنه معصوم أن يكذب فيما يخبر به.

وإذا كان الإنجيل يشبه السنة المنزلة فإنه يقع في بعض ألفاظها غلط كما يقع في كتب السيرة، وسنن أبي داود والترمذي وابن ماجه، ثم هذه الكتب قد اشتهرت واستفاضت بين

المسلمين (فلا يمكن أحدا - بعد اشتهارها وكثرة النسخ بها - أن يبدلها كلها.

لكن في بعض ألفاظها غلط وقع فيها قبل أن تشتهر، فإن المحدث - وإن كان عدلا - فقد يغلط) لكن ما تلقاه المسلمون بالقبول والتصديق والعمل من الأخبار فهو مما يجزم جمهور المسلمين بصدقه عن نبيهم.

هذا مذهب السلف وعامة الطوائف كجمهور الطوائف الأربعة وجمهور أهل الكلام من الكلابية والكرامية والأشعرية وغيرهم، لكن ظن بعض أهل الكلام أنه لا يجزم بصدقها لكون الواحد قد يغلط أو يكذب، وهذا الظن إنما يتوجه في الواحد الذي لم يعرف صدقه وضبطه

أما إذا عرف صدقه وضبطه، إما بالمعجزات كالأنبياء وإما بتصديق النبي له فيما يقول وإما باتفاق الأمة المعصومة على صدقه واتفاقهم على العمل بخبره، أو اتفاقهم على قبول خبره وإقراره، وذكره من غير نكير، أو ظهور دلائل وشواهد وقرائن احتفت بخبره ونحو ذلك من الدلائل على صدق المخبر، فهذه يجب معها الحكم بصدقه وأنه لم يكذب ولم يغلط، وإن كان خبره لو تجرد عن تلك الدلائل أمكن كذبه أو غلطه كما أن الخبر المجرد لا يجزم بكذبه إلا بدليل يدل على ذلك إما قيام دليل عقلي قاطع أو سمعي قاطع على أنه بخلاف مخبره فيجزم ببطلان خبره وحينئذ فالمخبر إما كاذبا أو غالطا، وقد يعلم أحدهما بدليل.

فالمسلمون عندهم من الأخبار عن نبيهم ما هو متواتر وما اتفقت الأمة المعصومة على تصديقه، وما قامت دلائل صدقه من غير هذه الجهة مثل: أن يخبر واحد أو اثنان أو ثلاثة بحضرة جمع كثير لا يجوز أن يتواطئوا على الكذب بخبر يقولون إن أولئك عاينوه وشاهدوه فيقرونهم على هذا ولا يكذب به منهم أحد فيعلم بالعادة المطردة أنه لو كان كاذبا لامتنع اتفاق أهل التواتر على السكوت عن تكذيبه كما يمتنع اتفاقهم على تعمد الكذب.

وإذا نقل الواحد والاثنان ما توجب العادة اشتهاره وظهوره ولم يظهر، ونقلوه مستخفين بنقله لم ينقلوه على رءوس الجمهور، علم أنهم كذبوا فيه.

ودلائل صدق المخبر وكذبه كثيرة متنوعة ليس هذا موضع بسطها، ولكن المقصود هنا أن المسلمين تواتر عندهم عن نبيهم ألفاظ القرآن ومعانيه المجمع عليها والسنة المتواترة وعندهم عن نبيهم أخبار كثيرة معلومة الصدق بطرق متنوعة كتصديق الأمة المعصومة ودلالة العادات وغير ذلك وهم يحفظون القرآن في صدورهم لا يحتاجون في حفظه إلى كتاب مسطور، فلو عدمت المصاحف من الأرض لم يقدح ذلك فيما حفظوه.

بخلاف أهل الكتاب فإنه لو عدمت نسخ الكتب لم يكن عندهم به نقل متواتر بألفاظها إذ لا يحفظها - إن حفظها - إلا قليل لا يوثق بحفظهم فلهذا كان أهل الكتاب بعد انقطاع النبوة عنهم يقع فيهم من تبديل الكتب إما تبديل بعض أحكامها ومعانيها، وإما تبديل بعض ألفاظها ما لم يقوموا بتقويمه.

ولهذا لا يوجد فيهم الإسناد الذي للمسلمين، ولا لهم كلام في نقلة العلم وتعديلهم وجرحهم ومعرفة أحوال نقلة العلم ما للمسلمين ولا قام دليل سمعي ولا عقلي على أنهم لا يجتمعون على خطأ، بل قد علم أنهم اجتمعوا على الخطأ لما كذبوا المسيح.

ثم كذبوا محمدا ﷺ فإذا كانت الكتب المنقولة عن الأنبياء من جنس الكتب المنقولة عن محمد ولم تكن متواترة عنهم ولم يكن تصديق غير المعصوم حجة لم يكن عندهم من العلم بالتمييز بين الصدق والكذب ما عند المسلمين.

فهذه الأناجيل التي بأيدي النصارى من هذا الجنس فيها شيء كثير من أقوال المسيح وأفعاله ومعجزاته وفيها ما هو غلط عليه، بلا شك، والذي كتبها في الأول إذا لم يكن ممن يتهم بتعمد الكذب فإن الواحد والاثنين والثلاثة والأربعة لا يمتنع وقوع الغلط والنسيان منهم لا سيما ما سمعه الإنسان ورآه ثم حدث به بعد سنين كثيرة، فإن الغلط في مثل هذا كثير ولم يكن هناك أمة معصومة يكون تلقيها لها بالقبول والتصديق موجبا للعلم بها لئلا تجتمع الأمة المعصومة على الخطأ والحواريون كلهم اثنا عشر رجلا.

وقصة الصلب مما وقع فيها الاشتباه وقد قام الدليل على أن المصلوب لم يكن هو المسيح ، بل شبهه وهم ظنوا أنه المسيح والحواريون لم ير أحد منهم المسيح مصلوبا، بل أخبرهم بصلبه بعض من شهد ذلك من اليهود.

فبعض الناس يقولون: إن أولئك تعمدوا الكذب وأكثر الناس يقول اشتبه عليهم ولهذا كان جمهور المسلمين يقولون في قوله: ولكن شبه لهم عن أولئك، ومن قال بالأول جعل الضمير في (شبه لهم) عن السامعين لخبر أولئك فإذا جاز أن يغلطوا في هذا، ولم يكونوا معصومين في نقله جاز أن يغلطوا في بعض ما ينقلونه عنه وليس هذا مما يقدح في رسالة المسيح، ولا فيما تواتر نقله عنه بأنه رسول الله الذي يجب اتباعه، سواء صلب أو لم يصلب، وما تواتر عنه فإنه يجب الإيمان به، سواء صلب أو لم يصلب.

والحواريون مصدقون فيما ينقلونه عنه لا يتهمون بتعمد الكذب عليه لكن إذا غلط بعضهم في بعض ما ينقله لم يمنع ذلك أن يكون غيره معلوما لا سيما إذا كان الذي غلط فيه مما تبين غلطه فيه في مواضع أخر.

وقد اختلف النصارى في عامة ما وقع فيه الغلط حتى في الصلب فمنهم من يقول المصلوب لم يكن المسيح، بل الشبه كما يقوله المسلمون ومنهم من يقر بعبوديته لله وينكر الحلول والاتحاد كالأريوسية ومنهم من ينكر الاتحاد وإن أقر بالحلول كالنسطورية.

وأما الشرائع التي هم عليها فعلماؤهم يعلمون أن أكثرها ليس عن المسيح فالمسيح لم يشرع لهم الصلاة إلى المشرق، ولا الصيام الخمسين ولا جعله في زمن الربيع، ولا عيد الميلاد والغطاس، وعيد الصليب، وغير ذلك من أعيادهم، بل أكثر ذلك مما ابتدعوه بعد الحواريين، مثل عيد الصليب فإنه مما ابتدعته هيلانة الحرانية أم قسطنطين وفي زمن قسطنطين غيروا كثيرا من دين المسيح والعقائد والشرائع فابتدعوا الأمانة التي هي عقيدة إيمانهم وهي عقيدة لم ينطق بها شيء من كتب الأنبياء التي هي عندهم، ولا هي منقولة عن أحد الأنبياء ولا عن أحد من الحواريين الذين صحبوا المسيح، بل ابتدعها لهم طائفة من أكابرهم قالوا كانوا ثلاث مائة وثمانية عشر.

واستندوا في ذلك إلى ألفاظ متشابهة في الكتب وفي الكتب ألفاظ محكمة تناقض ما ذكروه كما قد بسط في موضع آخر وكذلك عامة شرائعهم التي وضعوها في كتاب " القانون " بعضها منقول عن الأنبياء وبعضها منقول عن الحواريين وكثير منها مما ابتدعوه ليست منقولة عن أحد من الأنبياء ولا عن الحواريين وهم يجوزون لأكابر أهل العلم والدين أن يغيروا ما رأوه من الشرائع ويضعوا شرعا جديدا فلهذا كان أكثر شرعهم مبتدعا لم ينزل به كتاب ولا شرعه نبي.

فصل

وأما قولهم كيف يمكن تغيير كتبنا التي هي مكتوبة باثنين وسبعين لسانا وفي كل لسان منها كذا وكذا ألف مصحف ومضى عليها إلى مجيء محمد أكثر من ستمائة سنة؟

فيقال: أما بعد انتشارها هذا الانتشار فلم يقل المسلمون، بل ولا طائفة معروفة منهم إن ألفاظ جميع كل نسخة في العالم غيرت لكن جمهور المسلمين الذين يقولون إن في ألفاظها ما غير إنما يدعون تغيير بعض ألفاظها قبل المبعث، أو تغيير بعض النسخ بعد المبعث لا تغيير جميع النسخ فبعض الناس يقول إن ذلك التغيير وقع في أول الأمر ويقول بعضهم إن منها ما غير بعد مبعث محمد ﷺ ولا يقولون إنه غير كل نسخة في العالم، بل يقولون غير بعض النسخ دون البعض وظهر عند كثير من الناس النسخ المبدلة دون التي لم تبدل.

والنسخ التي لم تبدل هي موجودة عند بعض الناس.

ومعلوم أن هذا لا يمكن نفيه فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم أن كل نسخة في العالم بكل لسان مطابق لفظها سائر النسخ بسائر الألسنة إلا من أحاط علما بذلك وهم قد سلموا أن أحدا لا يمكنه ذلك.

وأما من ذكر أن التغيير وقع في أول الأمر فهم يقولون إنما أخذت الأناجيل عن أربعة، اثنان منهم لم يريا المسيح، بل إنما رآه اثنان من نقلة الإنجيل متى ويوحنا.

ومعلوم إمكان التغير في ذلك.

وأما قولهم إنها مكتوبة باثنين وسبعين لسانا فمعلوم باتفاق النصارى أن المسيح لم يكن يتكلم إلا بالعبرية كسائر أنبياء بني إسرائيل، وأنه كان مختونا ختن بعد السابع كما يختن بنو إسرائيل وأنه كان يصلي إلى قبلتهم لم يكن يصلي إلى الشرق ولا أمر بالصلاة إلى الشرق.

ومن قال إن لسانه كان سريانيا كما يظنه بعض الناس فهو غالط فالكلام المنقول عنه في الأناجيل إنما تكلم به عبريا ثم ترجم من تلك اللغة إلى غيرها.

والترجمة يقع فيها الغلط كثيرا كما وجدنا في زماننا من يترجم التوراة من العبرية إلى العربية ويظهر في الترجمة من الغلط ما يشهد به الحذاق الصادقون ممن يعرف اللغتين.

والنصارى يقولون إنما كتبت بأربع لغات: (بالعبرية والرومية واليونانية والسريانية).

وأما قولهم إنها كتبت باثنين وسبعين لغة، فهذا إن كان صحيحا فإنما كتبت بعد أن كتبت تلك الأربعة فإذا كان الغلط وقع في مواضع من تلك الأربعة، لم يرفعه بعد ذلك كتابتها باثنين وسبعين لغة، فإن المسلمين لا يقولون: إنها كتبت باثنين وسبعين لغة غير لفظها في جميع الألسن (لاثنين وسبعين لغة في كل نسخة من ذلك).

وإنما يقال التغيير وقع قبل ذلك كما يقال في سائر ما ورد عن المسيح وموسى (ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه - من الحديث مثل سيرة ابن إسحاق، وأحاديث السنن، والمساند المأثورة عن النبي ﷺ فإن في العالم بكل كتاب منها نسخ كثيرة، لا يمكن أن يغير منها فصل طويل، ولكن في نفس السيرة وقع غلط في مواضع وأحاديث وقعت في السنن هي غلط في الأصل (فاشتهار النسخ بها بعد ذلك لا يمنع وقوع الغلط في الأصل) وهذه كتب التفسير والفقه والدقائق، ما من كتاب إلا وبه نسخ كثيرة في العالم لا يمكن تغيير فصل طويل منها وفيها أحاديث غلط في الأصل.

والأناجيل التي بأيدي النصارى تشبه هذا، ولهذا أمروا أن يحكموا بما فيها فإن فيها أحكام الله وعامة ما فيها من الأحكام لم يبدل لفظه وإنما بدلت بعض ألفاظ الخبريات وبعض معاني الأمريات كما نؤمر نحن أن نعمل بأحاديث الأحكام المعروفة عن النبي ﷺ فإن العلماء اعتنوا بضبطها أكثر من اعتنائهم بضبط الخبريات كأحاديث الزهد والقصص والفضائل ونحو ذلك، إذ حاجة الأمم إلى معرفة الأمر والنهي أكثر من حاجتهم إلى معرفة التفاصيل بالخبريات التي يكتفى بالإيمان المجمل بها.

وأما الأمر والنهي، فلابد من معرفته على وجه التفصيل، إذ العمل بالمأمور لا يكون إلا مفصلا، والمحظور الذي يجب اجتنابه لابد أن يميز بينه وبين غيره كما قال تعالى: وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون.

والنصارى لا يحتاجون عند أنفسهم إلى هذا فإنه لا يجب عندهم أن يتمسكوا بشرع منقول عن المسيح وعندهم لأكابرهم أن يشرعوا دينا لم يشرعه المسيح، ويقولون: ما شرعه هؤلاء فقد شرعه المسيح فلم يكن لهم عناية ولا معرفة بشرع المسيح، كما للمسلمين عناية ومعرفة بشرع محمد ﷺ.

فصل

وأما التوراة فمن المعلوم عند المسلمين واليهود والنصارى أن بيت المقدس خرب الخراب الأول وجلا أهله منه وسبوا ولم يكن هناك من التوراة نسخ كثيرة ظاهرة، بل إنما أخذت عن نفر قليل.

كما يقولون إن عزيرا أملاها وأنهم وجدوا نسخة أخرى فقابلوها بها والمقابلة تحصل باثنين وقد يغلط أحدهما وهم يذكرون أن من الملوك من أمر اثنين وسبعين حبرا منهم بنقلها واعتبر بعض تلك النسخ ببعض وهذا إذا كان صدقا لا يمنع أن يكون الغلط وقع في بعض ألفاظها قبل ذلك إلا أن يثبت أنها مأخوذة عن نبي معصوم أو أقر جميع ألفاظها نبي معصوم.

فما قاله المعصوم فهو حق، وما ثبت بالنقل المتواتر فهو حق.

وهؤلاء القائلون إنه وقع التغيير في بعض ألفاظها في ذلك الزمان يقولون لم تؤخذ عن نبي معصوم ولا نقلت بالتواتر.

ومن نازع من المسلمين وأهل الكتاب يقولون: أخذت عن العزير، وهو نبي معصوم وهذا مما يحتاج المثبت فيه والنافي إلى تحقيقه.

وإذا قالت النصارى فالمسيح أقرها قيل المسيح لم يمكن أن يلزمهم بما أوجبه الله عليهم من الإيمان به وطاعته فكيف كان يمكنه أن يغير نسخ التوراة التي عندهم مع كثرتها وهم قد طلبوا قتله وصلبه لعجزه وضعفه وصلبوا شبيهه كما يقوله المسلمون أو صلبوه نفسه (كما يقوله النصارى)، فكيف كان يمكنه أن يصلح ما غير منها؟

وأما من بعد المسيح فليس معصوما والمسيح غير بعض أحكامها وأقر أكثرها، والأحكام إنما يدعي المسلمون فيها النسخ وتبديلها بالاعتقاد بخلاف موجبها والعمل بذلك، لا يحتاجون إلى دعوى تبديل ألفاظها، كما بدلوا شريعة الرجم بغيرها وهو مكتوب في التوراة.

بخلاف الخبريات فإن هذه يقول أكثر المسلمين: إن التغيير وقع في بعض ألفاظها.

وأما النبوات المنقولة عن الاثنين وعشرين نبيا فهذه لا تعلم منها نبوة واحدة تواترت جميع ألفاظها، بل أحسن أحوالها أن تكون بمنزلة الإنجيل وهو بمنزلة ما ينقل من أقوال الأنبياء وسيرهم كسيرة ابن إسحاق أو بعض كتب المساند والسنن التي ينقل فيها ما ينقله الناقلون من أقوال النبي ﷺ وأفعاله، وأكثره صدق، وبعضه غلط.

ولكن هذه الأمة حفظ الله لها ما أنزله كما قال تعالى: إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون.

فما في تفسير القرآن أو نقل الحديث أو تفسيره من غلط فإن الله يقيم له من الأمة من يبينه ويذكر الدليل على غلط الغالط وكذب الكاذب فإن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة ولا يزال فيها طائفة ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة إذ كانوا آخر الأمم فلا نبي - بعد نبيهم - بعدهم ولا كتاب بعد كتابهم.

وكانت الأمم قبلهم إذا بدلوا وغيروا بعث الله نبيا يبين لهم ويأمرهم وينهاهم ولم يكن بعد محمد ﷺ نبي، وقد ضمن الله أن يحفظ ما أنزله من الذكر وأن هذه الأمة لا تجتمع على ضلالة، بل أقام الله لهذه الأمة في كل عصر من يحفظ به دينه من أهل العلم والقرآن وينفي به تحريف الغالين وانتحال المضلين وتأويل الجاهلين.

فصل

وأما من قال: إنه غير بعض ألفاظها بعد مبعث محمد ﷺ فهؤلاء يقولون: إنه كان في التوراة والإنجيل وغيرهما ألفاظ صريحة بأمور.

منها اسم محمد ﷺ، وأنه عمد بعض أهل الكتاب فغيروا بعض الألفاظ في النسخ التي كانت عندهم.

لا يقولون: إن هؤلاء غيروا كل نسخة كانت على وجه الأرض لكن غيروا بعض ألفاظ النسخ وكتب الناس من تلك النسخ المغيرة نسخا كثيرة انتشرت فصار أكثر ما يوجد عند كثير من أهل الكتاب هو من تلك النسخ المغيرة.

وفي العالم نسخ أخرى لم تغير فذكر كثير من الناس أنه رآها وقرأها وفي تلك النسخ ما ليس في النسخ الأخرى ومما يدل على ذلك أنك في هذا الزمان إذا أخذت نسخ التوراة الموجودة عند اليهود والنصارى والسامرة وجدت بينهما اختلافا في مواضع متعددة.

وكذلك نسخ الإنجيل، وكذلك نسخ الزبور مختلفة اختلافا متباينا بحيث لا يعقل العاقل أن جميع نسخ التوراة الموجودة متفقة على لفظ واحد، ولا يعلم أن جميع نسخ الإنجيل متفقة على لفظ واحد، ولا يعلم أن جميع نسخ الزبور متفقة على لفظ واحد فضلا عن سائر النبوات.

ومعلوم أنه لا يمكن أهل الكتاب إقامة حجة على أن جميع النسخ بجميع اللغات في زوايا الأرض متفقة على لفظ واحد في جميع ما هو موجود من جميع النبوات والحجة التي احتجوا بها على تعذر تغييرها كلها تدل على تعذر العلم بتساويها كلها.

فإذا قالوا: فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا، ومن هو الذي حكم على الدنيا كلها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض (حتى يغيرها.

قيل لهم: ومن الذي يعلم اثنين وسبعين لغة ومن هو الذي حكم على الدنيا ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على جميع من بأقطار الأرض وجمعها من أربع زوايا الأرض) وأحضر كل نسخة موجودة في جميع الأرض وقابل كل نسخة (موجودة في جميع الأرض) بجميع النسخ فوجد جميع ألفاظ جميع النسخ التي باثنين وسبعين لسانا من جميع أقطار الأرض لفظا متفقا، لم يختلف ألفاظها.

فإن دعوى العلم بهذا ممتنع أعظم من امتناع دعوى تغييرها، فإنه إن أمكن أحدا أن يجمع جميع النسخ كانت قدرته على تغيير بعض ألفاظها كلها أيسر عليه من مقابلة كل ما في نسخة بجميع ما في سائر النسخ.

فإنا إذا أحضرنا بكتاب من الكتب عشر نسخ كان تغيير بعض ألفاظ العشرة أيسر علينا من مقابلة كل واحد من العشرة بالتسعة الباقية إذ المقابلة يحتاج فيها إلى معرفة جميع ألفاظ كل نسخة ومساواتها للأخرى.

وأما التغيير فيكفي فيه أن يغير من كل نسخة ما يغيره من الأخرى فإن كان تغيير جميع النسخ ممتنعا في العادة فالعلم باتفاقها أشد امتناعا، وإن كان العلم باتفاقها ممكنا، فإمكان تغيير بعض ألفاظها أيسر وأيسر.

وأما قولهم إن قيل: إنه غير بعضها وترك بعضها، فهذا لا يمكن أن يكون لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن.

فيقال: أما إمكان قول هذا فظاهر لا ينازع فيه عاقل، وهو واقع فإنا قد رأينا التوراة التي عند السامرة تخالف توراة اليهود والنصارى (حتى في العشر الكلمات.

فذكر السامرة فيها من أمر استقبال الطور ما لا يوجد في نسخ اليهود والنصارى) وكذلك بين نسخ اليهود والنصارى اختلاف معروف ونسخ الإنجيل مختلفة، ونسخ الزبور مختلفة اختلافا أكثر من ذلك، وبكل حال فلا يقدر عاقل أن يقول: يمتنع تغيير بعض النسخ.

ولكن إذا قالوا لم يغير شيء منها لأن جميعها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن كانت هذه الدعوى باطلة من وجهين.

أحدهما: أن دعوى العلم بتساوي جميع النسخ أبلغ من دعوى إمكان تغييرها، فإن كان التغيير ممتنعا على جميعها كان علم الواحد بما في جميعها - وأنها متماثلة الألفاظ مع اختلاف الألسن - أولى بالامتناع.

الثاني: أن هذا دعوى خلاف الواقع، فإن الاختلاف في نسخ التوراة والإنجيل والزبور موجود قد رأيناه نحن بأعيننا، ورآه غيرنا، فرأيت عدة نسخ بالزبور يخالف بعضها بعضا اختلافا كثيرا ورأينا بعض ألفاظ التوراة التي ينقلها هذه الطائفة وهي مكتوبة عندهم يدعون أنها هي التوراة الصحيحة المنقولة عندهم بالتواتر تخالف بعض ألفاظ توراة الطائفة الأخرى، وكذلك الإنجيل.

وبالجملة قولهم: هذا لا يمكن أن يكون؛ لأنها كلها قول واحد ولفظ واحد في جميع الألسن، تضمن شيئين:

تضمن دعوى كاذبة، وحجة باطلة، فإن قولهم: (هذا لا يمكن) مكابرة ظاهرة، فإن إمكان تغيير بعض النسخ مما لا ينازع عاقل في إمكانه، لكن قد يقول القائل: إذا غير بعض النسخ وأظهر ذلك، شاع ذلك فرأى سائر أهل النسخ تلك النسخة مغايرة لنسخهم فأنكروه، فإن الهمم والدواعي متوفرة على إنكار ذلك، كما يوجد اليوم مثل ذلك لو أراد رجل أن يغير كتابا مشهورا عند الناس، به نسخ متعددة، فإذا غيره فوصلت تلك النسخة إلى من يعرف ما في تلك النسخ أنكروا ذلك.

فيقال: هذا يمكن إذا كانت تلك النسخة المغيرة وصلت إلى طائفة يمتنع عليهم مواطأتهم على الكذب فإنه كما يمتنع في الأخبار المتواترة التواطؤ على الكذب، فيمتنع التواطؤ على كتمان ما يتعذر كتمانه في العادة.

ومعلوم أنه لا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ، والنسخ إنما هي موجودة عند علماء أهل الكتاب وليس عامتهم يحفظ ألفاظها كما يحفظ عوام المسلمين ألفاظ القرآن فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك، ثم إذا تواطأت طائفة أخرى على أن لا يذكروا ذلك أمكن ذلك، ولكن إذا كانت الطوائف ممن لا يمكن تواطؤها على الكذب أو الكتمان امتنع ذلك فيهم.

وقد رأينا عند أهل الكتاب كتبا يدعون أنها عندهم من النبي ﷺ بخط علي بن أبي طالب، فيها أمور تتعلق بأغراضهم، وقد التبس أمرها على كثير من المسلمين، وعظموا ما فيها وأعطوا أهل الكتاب ما كتب لهم فيها معتقدين أنهم ممتثلين ما فيها

فلما وصلت إلى من وصلت إليه من علماء المسلمين بينوا كذبها بطرق معلومة بالتواتر، مثل ذكرهم فيها: شهد بما فيها كعب بن مالك الحبر على النبي ﷺ يعنون كعب الأحبار.

وكعب الأحبار إنما أسلم على عهد عمر بن الخطاب لم يدرك النبي واسمه كعب بن ماتع، ولكن في الأنصار كعب بن مالك الشاعر الذي أنزل الله توبته في سورة (براءة)، فظن هؤلاء الجهال أن هذا هو ذاك.

ومثل ذكرهم شهادة سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن، ذكروا شهادته عام خيبر، وقد اتفق أهل العلم أنه مات عقب غزوة الخندق قبل غزوة خيبر بمدة، وأمثال ذلك.

وأما حجتهم الداحضة فقولهم: إن جميع كتب النبوات التي في العالم من التوراة والإنجيل والزبور والنبوات موجودة باثنين وسبعين لسانا، بلفظ واحد وقول واحد، فهل يقول عاقل من العقلاء إنه علم ذلك؟ وإنه علم أن كل نسخة من النبوات الأربعة وعشرين بأحد الألسنة الاثنين وسبعين موافقة لكل نسخة في سائر الألسنة، ولو ادعى مدع أن كل نسخة من التوراة في العالم باللسان العربي (أو كل نسخة من الإنجيل في العالم باللسان العربي) أو كل نسخة في العالم من الزبور باللسان العربي موافقة لجميع النسخ العربية الموجودة في زوايا العالم لكان قد ادعى ما لا يعلمه ولا يمكنه علمه، فمن أين له ذلك؟ وهل رأى كل نسخة عربية بهذه الكتب، أو أخبره من يعلم صدقه أن جميع النسخ العربية الموجودة في العالم موافقة لهذه النسخة؟

وكذلك إذا ادعى ذلك في اللسان اليوناني، والسرياني، والرومي، والعبراني، والهندي، فإن كان في العالم بكل كتاب من هذه اثنان وسبعون لسانا فدعوى اتفاق نسخ كل لسان من جنس دعوى اتفاق النسخ العربية، فكيف إذا ادعى اتفاق النسخ بجميع الألسنة؟

وهب أنه يمكن أن يقال ذلك في نسخ لسان نقلها أهله، والناطقون به، فكيف يمكن دعواه في لسان كثر الناطقون به وانتشر أهله؟

وليس هذا كدعوى اتفاق مصاحف المسلمين بالقرآن فإن القرآن لا يتوقف نقله على المصاحف، بل القرآن محفوظ في قلوب ألوف مؤلفة من المسلمين، لا يحصي عددهم إلا الله عز وجل، فلو عدم كل مصحف في العالم لم يقدح ذلك في نقل لفظ من ألفاظ القرآن، بخلاف الكتب المتقدمة فإنه قل أن نجد من أهل الكتاب أحدا يحفظ كتابا من هذه الكتب، فقل أن يوجد من اليهود من يحفظ التوراة.

وأما النصارى فلا يوجد فيهم من يحفظ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات كلها فضلا عن أن يحفظها باثنين وسبعين لسانا، (وإن وجد ذلك فهو قليل لا يمتنع عليهم لا الكذب ولا الغلط).

فتبين أن ما ذكروه من انتشار كتبهم بالألسنة المختلفة هو من أقوى الأمور في عدم العلم بتماثل ما فيها من الألفاظ، وأن القرآن إذا كان منقولا، بلغة واحدة، وذلك اللسان يحفظه خلق كثير من المسلمين فكان ذلك مما يبين أن القرآن لا يمكن أحدا أن يغير شيئا من ألفاظه، وإن أمكن تغيير بعض ألفاظ التوراة والإنجيل عند كثير من أهل الكتاب.

والمسلمون لا يدعون أنه غير جميع ألفاظ جميع النسخ بعد مبعث النبي ﷺ كما ظنه بهم هؤلاء الجهال، بل إنما ادعوا ما يسوغه العقل، بل ويظهر دليل صدقه ولكن هؤلاء الجهال ادعوا العلم، بأن جميع النسخ بجميع الألسنة بجميع الكتب، بلفظ واحد، فادعوا ما لا يمكن أحدا علمه، وادعوا ما يعلم بطلانه

فصل: ثبوت الإختلاف والتغيير في نسخ أهل الكتاب

وقد ظهر الجواب عن قولهم فمن هو الذي تكلم باثنين وسبعين لسانا، أو من هو الذي حكم على الدنيا جميعها ملوكها وقساوستها وعلمائها حتى حكم على الدنيا جميعها من أربع زوايا العالم حتى غيرها، وإن كان مما أمكنه جمعها كلها أو بعضها.

فهذا ما لا يمكن، إذ جميعها قول واحد ونص واحد واعتقاد واحد.

وقد ظهر الجواب عن ذلك من وجوه:

أحدها: أنا لم ندع تغييرها بعد أن صارت بهذه الألسن، وانتشرت بها النسخ، بل لا ندعي التغيير بعد انتشار النسخ فيما ليس من كتب الأنبياء مثل كتب النحو والطب والحساب والأحاديث والسنن المنقولة عن الأنبياء مما نقل في الأصل نقل آحاد، ثم صارت النسخ به كثيرة منتشرة، فإن أحدا لا يدعي أنه بعد انتشار النسخ بكتاب في مشارق الأرض ومغاربها حكم إنسان على جميع المعمورة، وجمع النسخ التي بها وغيرها.

ولا ادعى أحد مثل ذلك في التوراة والإنجيل، وإنما ادعى ذلك فيها، لما كانت النسخ قليلة: إما نسخة، وإما اثنتين، وإما أربعة ونحو ذلك.

أو ادعى تغيير بعض ألفاظ النسخ، فإن بعض النسخ يمكن تغييرها.

ونسخ التوراة والإنجيل والزبور موجودة اليوم وفي بعضها اختلاف، لكنه اختلاف قليل والغالب عليها الاتفاق.

وذلك يظهر بالوجه الثاني: أن قولهم: إن جميعها قول واحد، ونص واحد، واعتقاد واحد، ليس كما قالوه، بل نسخ التوراة مختلفة في مواضع.

وبين توراة اليهود والنصارى والسامرة اختلاف، وبين نسخ الزبور اختلاف أكثر من ذلك وكذلك بين الأناجيل فكيف بنسخ النبوات؟

وقد رأيت أنا من نسخ الزبور ما فيه تصريح بنبوة محمد ﷺ باسمه ورأيت نسخة أخرى بالزبور فلم أر ذلك فيها وحينئذ فلا يمتنع أن يكون في بعض النسخ من صفات النبي ﷺ ما ليس في أخرى.

الوجه الثالث: أن التبديل في التفسير أمر لا ريب فيه، وبه يحصل المقصود في هذا المقام فإنا نعلم قطعا أن ذكر محمد ﷺ مكتوب فيما كان موجودا في زمنه من التوراة والإنجيل كما قال تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل.

ولا ريب أن نسخ التوراة والإنجيل على عهده كانت كثيرة منتشرة في مشارق الأرض ومغاربها فلابد من أحد الأمرين.

إما أن يكون غير اللفظ من بعض النسخ وانتشرت النسخ المغيرة.

وإما أن يكون ذكره في جميع النسخ كما استخرجه كثير من العلماء ممن كان من أحبار اليهود والنصارى وممن لم يكن من أحبارهم، استخرجوا ذكره والبشارة به في مواضع كثيرة متعددة من التوراة والإنجيل ونبوات الأنبياء، كما هو مبسوط في موضع آخر.

ومن قال إن ذكره موجود فيها أكثر من هذا وأصرح في بعض النسخ لا يمكن هؤلاء دفعه بأن يقولوا: قد اطلعنا على كل نسخة في العالم بالتوراة والإنجيل في مشارق الأرض ومغاربها، فوجدناها على لفظ واحد، فإن هذا لا يقوله إلا كذاب، فإنه لا يمكن بشرا أن يطلع على كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها، كما لا يمكنه أن يغير كل نسخة في مشارق الأرض ومغاربها، فلو لم يعلم اختلاف النسخ لم يمكنه الجزم باتفاقها في اللفظ، فكيف وقد ذكر الناس المطلعون عليها من اختلاف لفظها؟ ما تبين به كذب من ادعى اتفاق لفظها، وكيف يمكن اتفاق لفظها وهي، بلغات مختلفة.

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن أقرهم على ما هم عليه

قالوا: ثم وجدنا في هذا الكتاب، ما هو أعظم من هذا برهانا، مثل قوله في سورة الشورى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم الله يجمع بيننا وإليه المصير.

وأما لغير أهل الكتاب، فيقول: قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد... السورة كلها.

والجواب:

أما قوله: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم.

فهذه الآية مذكورة بعد قوله تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب * وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب * فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم.

فقد أخبرنا أنه شرع لنا من الدين ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كما قال تعالى في الآية الأخرى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون * منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون.

وقال تعالى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا إني بما تعملون عليم * وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون * فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون.

ثم أخبر عن تفرق الذين أوتوا الكتاب كتفرق اليهود والنصارى وتفرق فرق اليهود، وفرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية.

ثم قال: وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم - أولئك المفترقين - لفي شك منه مريب.

وهكذا توجد عامة اليهود والنصارى في شك من ذلك مريب.

وقال تعالى: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب.

وقال تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.

ثم قال تعالى: فلذلك فادع واستقم كما أمرت. إلى الدين الذي شرعه لنا: واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم. وهذا يتناول أهواء أهل الكتاب، كما يتناول أهواء المشركين، وقد صرح بذلك في قوله تعالى: ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل إن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير.

وقال تعالى:

ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك وما أنت بتابع قبلتهم وما بعضهم بتابع قبلة بعض ولئن اتبعت أهواءهم من بعد ما جاءك من العلم إنك إذا لمن الظالمين.

كما صرح بنهيه عن اتباع أهواء المشركين في قوله تعالى: قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا فإن شهدوا فلا تشهد معهم ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة وهم بربهم يعدلون.

وقوله تعالى: وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب. حق، فإن الله أمره وجميع الخلق أن يؤمنوا بجميع ما أنزل الله

وكذلك قوله تعالى: وأمرت لأعدل بينكم. فإن الله أمره أن يعدل بين جميع الخلق

وقوله: الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم. هذه براءة منه لمن يخاطب بذلك من المشركين وأهل الكتاب، كقوله تعالى: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

ومثله قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

وكذلك قوله: قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين.

فإن هذه الكلمة كقوله: لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

وهي كلمة توجب براءته من عملهم وبراءتهم من عمله فإن حرف اللام في لغة العرب يدل على الاختصاص، فقوله: لكم دينكم ولي دين. يدل على أنكم مختصون بدينكم لا أشرككم فيه، وأنا مختص بديني لا تشركوني فيه، كما قال: لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

ولهذا قال النبي ﷺ في قل يا أيها الكافرون هي براءة من الشرك، وليس في هذه الآية أنه رضي بدين المشركين ولا أهل الكتاب كما يظنه بعض الملحدين، ولا أنه نهى عن جهادهم كما ظنه بعض الغالطين، وجعلوها منسوخة، بل فيها براءته من دينهم وبراءتهم من دينه، وأنه لا تضره أعمالهم ولا يجزون بعمله ولا ينفعهم.

وهذا أمر محكم لا يقبل النسخ ولم يرض الرسول بدين المشركين، ولا أهل الكتاب طرفة عين قط ومن زعم أنه رضي بدين الكفار واحتج بقوله تعالى:

قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين.

فظن هذا الملحد أن قوله: لكم دينكم ولي دين معناه أنه رضي بدين الكفار، ثم قال: هذه الآية منسوخة، فيكون قد رضي بدين الكفار، وهذا من أبين الكذب والافتراء على محمد ﷺ، فإنه لم يرض قط إلا بدين الله الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه، ما رضي قط بدين الكفار لا من المشركين، ولا من أهل الكتاب.

وقوله: لكم دينكم ولي دين لا يدل على رضاه بدينهم، بل ولا على إقرارهم عليه، بل يدل على براءته من دينهم، ولهذا قال النبي ﷺ (إن هذه السورة براءة من الشرك).

ونظير هذه الآية قوله تعالى: وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.

وكذلك قوله تعالى: فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم.

وقد يظن بعض الناس أيضا أن قوله لكم دينكم ولي دين الآية، أني لا آمر بالقتال ولا أنهى عنه ولا أتعرض له بنفي ولا إثبات وإنما فيها أن دينكم لكم أنتم مختصون به وأنا بريء منه وديني لي وأنا مختص به وأنتم برآء منه.

وهذا أمر محكم لا يمكن نسخه بحال كما قال تعالى: عن الخليل.

وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون * إلا الذي فطرني فإنه سيهدين.

وقد قال تعالى: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه.

وهو ما طار عنه من خير وشر، وقد قال تعالى: ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى.

وقال تعالى: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت

وقال تعالى: إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها، بل قال تعالى لنبيه: واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين * فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون.

فإذا كان قد برأه الله من معصية من عصاه من أتباعه المؤمنين فكيف لا يبرئه من كفر الكافرين الذين هم أشد له معصية ومخالفة؟

فصل: إلزام اليهود والنصارى بدين الإسلام

وأما قوله تعالى:

قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي دين فهو أمر بالقول لجميع الكافرين من المشركين وأهل الكتاب، فإن أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بما أنزل إليه من ربه كافرون قد شهد عليهم بالكفر وأمر بجهادهم وكفر من لم يجعلهم كافرين ويوجب جهادهم قال تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة.

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم.

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة.

وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وحرف (من) في هذه المواضع لبيان الجنس، فتبين جنس المتقدم، وإن كان ما قبلها يدخل في جميع الجنس الذي بعدها، بخلاف ما إذا كان للتبعيض كقوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب.

فإنه يدخل في الذين كفروا بعد مبعث النبي ﷺ جميع المشركين، وأهل الكتاب.

وكذلك دخل في الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، ولا يدينون دين الحق جميع أهل الكتاب الذين بلغتهم دعوته، ولم يؤمنوا به، وكذلك قوله: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات.

وإن كان جميعهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهذا إذا كان الجنس يتناول المذكورين وغيرهم، ولكن لم يبق في الجنس إلا المذكورون، كما يقول: هنا رجل من بني عبد المطلب، وإن لم يكن بقي منهم غيره.

ووصفهم بالشرك، وبأنهم يعبدون غير الله، كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

فأخبر أنهم اتخذوا من دون الله أربابا واتخذوا المسيح ربا وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا وهؤلاء باتخاذهم غيره أربابا عبدوهم فأشركوا بالله - سبحانه و تعالى عما يشركون -.

وقال تعالى:

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

فقد أخبر أيضا أنه من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا فإنه كافر.

وقال تعالى:

لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم * أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم * ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون * قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم

فقد وبخ أهل التثليث على أنهم يعبدون ما لا يملك لهم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم) فدخلوا في قوله: قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد. كما دخل في ذلك غيرهم من الكفار، لا سيما وقد دخل في ذلك اليهود، وهم أولى بالدخول من غيرهم، فإن قوله: (ما تعبدون) يتناول صفات المعبود، والإله الذي يعبده المؤمنون هو الإله الذي أنزل التوراة والإنجيل والقرآن، وأرسل موسى وعيسى ومحمدا - صلوات الله عليهم وسلامه -.

والإله المتصف بهذه الصفات لا يعبده اليهود والنصارى، وهذا كقوله: قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون.

فهذا الإله الذي يعبده محمد وأمته، وليس هو إله المشركين الذي يعبدونه، وإن كان هو المستحق لأن يعبدوه فإنهم يشركون بعبادته ويصفونه بما هو بريء منه فلا يخلصون له الدين، فيعبدوا معه آلهة أخرى إن لم يستكبروا عن عبادته، وإله العبد الذي يعبده بالفعل ليس حاله معه كحاله مع الذي يستحق أن يعبده، وهو لا يعبده، بل يشرك به أو يستكبر عن عبادته، فهذا هو الذي قال فيه: لا أعبد ما تعبدون.

والشرك غالب على النصارى، والكبر غالب على اليهود.

فصل: وجوب محاججة الظالمين من مشركين وأهل كتاب

وأما قوله: لا حجة بيننا وبينكم. الآية، فهذا ليس خطابا للنصارى خصوصا، بل هو خطاب للجميع، وهؤلاء النصارى ظنوا أن معنى هذا لا تحاجوا أهل الكتاب، كما ظنوا في قوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. أن معناه: لا تجادلوا أهل الكتاب - أي النصارى - إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا، أي اليهود اهـ.

وهذا تحريف كلم الله عن مواضعه، وهو شبيه بتحريفهم لما عندهم من التوراة والإنجيل والزبور، وسائر النبوات، فإنهم أعظم تسلطا على تحريف معانيها منهم على تحريف معاني

القرآن، إذ كان القرآن له أمة تحفظه، وتعرف معانيه، وتذب عنه من يحرف لفظه أو معناه.

وأما تلك الكتب فليس لها من يذب عن لفظها ومعناها، فلهذا عظم تحريفهم لها، وكان أعظم من تحريفهم للقرآن.

ومما يبين أن هذا الخطاب ليس مختصا بالنصارى أن هذه السورة مكية، والسور المكية كانت تتناول من لا يقرأ الكتاب، لا تختص بأهل الكتاب، بل كانت تعم الأمم أو تختص بالمشركين.

والسور المدنية خطابها تارة لأهل الكتاب، وتارة تختص بالمؤمنين وتارة تعم، وقد قال تعالى: كبر على المشركين ما تدعوهم إليه الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.

وقال تعالى: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب.

فالخطاب إما أن يعم المشركين، وأهل الكتاب، أو يخص المشركين، وأهل الكتاب: اليهود والنصارى، وبكل تقدير فلا وجه لتخصيص النصارى به.

وأما قوله تعالى: لا حجة بيننا وبينكم.

فهو نظير قوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

وقوله: فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ.

فالحجة اسم لما يحتج به من حق وباطل كقوله: لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم. فإن الظالمين يحتجون عليكم بحجة باطلة كقول المشركين لما حولت القبلة إلى الكعبة قد عاد إلى قبلتكم فسوف يعود إلى ملتكم، فهذه حجة داحضة من الظالمين.

ومما يبين ذلك بعد قوله بعد ذلك: والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.

فسماها حجة وجعلها داحضة، وهؤلاء الذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له هم الكفار من المشركين وأهل الكتاب.

فهم يحاجون المؤمنين ليردوهم عن دينهم، وقال عن النصارى: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين.

فكان الكفار يحاجون المؤمنين حتى يردوهم عن دينهم، كما يؤذونهم، فهؤلاء حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد.

ومحاجتهم للمؤمنين من باب الظلم لهم والعدوان عليهم وقول الباطل، فأمره تعالى أن يقول: لا حجة بيننا وبينكم.

أي ليس لكم أن تظلمونا، وتعتدوا علينا بحجتكم الداحضة، وليس المراد بذلك أنا نحن لا نحاجكم، وندعوكم إلى الحق بالحجج الصحيحة.

فإنه تعالى قال: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن.

فأمره تعالى أن يجادل أهل دعوته مطلقا من المشركين، وأهل الكتاب بالتي هي أحسن.

وقد قال تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم.

فإن الظالم باغ مستحق للعقوبة، فيجوز أن يقابل بما يستحقه من العقوبة، لا يجب الاقتصار معه على التي هي أحسن، بخلاف من لم يظلم، فإنه لا يجادل إلا بالتي هي أحسن.

وأهل الكتاب اسم يتناول اليهود والنصارى، كما في نظائره في القرآن كقوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب الآية. وقوله:

لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين.

وأمثال ذلك.

والظالم يكون ظالما بترك ما تبين له من الحق واتباع ما تبين له أنه باطل، والكلام بلا علم فإذا ظهر له الحق فعند عنه كان ظالما.

وذلك مثل الألد في الخصام قال تعالى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام.

وقال: يجادلونك في الحق بعد ما تبين.

وقال: ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم.

فصل: الإسلام دين الأنبياء جميعا

وقولهم: إنه لم يقل: كونوا له مسلمين، ولكن ونحن، أي عنه وعن العرب التابعين له، ولما أتى به وجاء في كتابه.

فيقال لهم: هذا ونظائره كلام من لم يفهم القرآن، بل ولا يفهم كلام سائر الناس، فإنه إذا عرف من صاحب كتاب يقول إنه منزل من الله، أو يقول إنه صنفه هو أنه يدعو قوما بالأقوال الصريحة الكثيرة، والأعمال البينة الظاهرة، كان سكوته عن دعائهم في بعض الألفاظ لا ينافي دعاءهم له.

لكن إن كان حكيما في كلامه كان للسكوت عن دعائهم في بعض المواضع حكمة تناسب ذلك، وهذا كقوله تعالى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

أفتراه لما أمر أمته أن يقولوا ونحن له مخلصون لم يكن أهل الكتاب مأمورين بالإخلاص لله، وقد ذكر أمر أهل الكتاب بالإخلاص في غير موضع كقوله تعالى: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة * وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة.

وكذلك دعاهم إلى الإسلام وتوعدهم على التولي عنه في مثل:

شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم * إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب * فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد

وقال تعالى: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين * إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين * ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون * أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون.

فقد بين - سبحانه - أنه لا يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه أي سفه نفسا، أي كانت نفسه سفيهة جاهلة، هذا أصح القولين في ذلك، وهو مذهب الكوفيين من النحاة، يجوزون أن يكون المنصوب على التمييز معرفة، كما يكون نكرة، ثم أخبر عنه أنه: إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين.

وذكر أن إبراهيم وصى بها بنيه، ويعقوب وصى بها بنيه أيضا، كلاهما قال لبنيه: يابني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.

ثم ذكر أن يعقوب عند موته: إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون.

فهؤلاء إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب كلهم على الإسلام وهم يأمرون بالإسلام

ثم قال بعد ذلك: وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين.

ثم قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

ثم قال: فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم.

فقد أخبر أنهم إن تولوا عن الإيمان بمثل ما آمنتم به المتضمن قولكم: ونحن له مسلمون فإنما هم في شقاق، أي: مشاقون لله ورسوله كما قال تعالى: هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار - إلى قوله - ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب.

وقوله تعالى: ونحن له مسلمون في العنكبوت فهو مثل قوله: ونحن له مسلمون في البقرة مع دعائهم إلى الإسلام، وكذلك في سورة آل عمران في قوله: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فقد دعاهم أولا إلى الإسلام، وهو عبادة الله وحده، لا شريك له، وأن لا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، كما قال تعالى: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

ثم قال تعالى: فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

وهذه الآية هي التي كتب بها النبي ﷺ إلى قيصر ملك الروم لما دعاه إلى الإسلام.

وقال في كتابه.

بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و: يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فدعاه النبي إلى الإسلام، في كتابه الذي أرسله إليه وقال أيضا في آل عمران:

ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون * ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

فذكر التوحيد في هذه الآية، وكفر من اتخذ الملائكة والنبيين أربابا، فكيف بمن اتخذ الأحبار والرهبان أربابا ثم ذكر الإيمان بخاتم الرسل، فقال: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين * فمن تولى بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون * أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه يرجعون * قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون * ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.

فقد ذكر أنه أخذ الميثاق على النبيين وأممهم: مهما آتيتكم من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه.

وهذا يتناول الأمر لكل أهل الكتاب إذا جاءهم رسول ثان أن يؤمنوا به وينصرونه، وإن كان عندهم من الكتاب والحكمة ما كان، ولا يقولون: نحن مستغنون بما عندنا من الكتاب والحكمة، لا نؤمن بالرسول الذي جاءنا.

ونخص الإيمان بمحمد ﷺ، فإنه خاتم الرسل، وهو آخر رسول جاء مصدقا لما بين يديه من الكتاب، فوجب على من جاءه أن يؤمن به وينصره، وإن كان عنده من الكتاب والحكمة ما كان.

وهذا الميثاق أخذه الله على الأنبياء، وأخذوه على أممهم، ثم قال: أفغير دين الله يبغون.

وهذا هو دين الله الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، فمن ابتغى غيره فقد ابتغى غير دين الله، وهو دين الإسلام، (الذي قال) فيه: ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين

فصل: أمر المؤمنين بقول الحق لتقوم به الحجة على المخالف

وأما قوله تعالى:

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.

فهو أمر للمؤمنين أن يقولوا الحق الذي أوجبه الله عليهم، وعلى جميع الخلق ليرضوا به الله، وتقوم به الحجة على المخالفين، فإن هذا من الجدال بالتي هي أحسن، وهو أن تقول كلاما حقا يلزمك، ويلزم المنازع لك أن يقوله، فإن وافقك وإلا ظهر عناده وظلمه.

كما قال تعالى في الآية الأخرى: قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون.

فإنا مشتركون في أنه ربنا كلنا وأن عمل كل عامل له لا لغيره،

وامتزنا نحن بأنا مخلصون له، وأنتم لستم مخلصين له، فأوجب هذا أن الحق معنا دونكم، وأن أعمالنا صالحة مقبولة، وأعمالكم مردودة.

ويشبه ذلك قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فأمره لهم أن يقولوا اشهدوا بأنا مسلمون يتضمن إقامة الحجة عليهم كما كان المسيح يقول.

فصل: نقض دعواهم أن الظلم اتصف به اليهود دون النصارى

ثم قالوا: فأما الذين ظلموا فما يشك أحد في أنهم اليهود الذين سجدوا لرأس العجل، وكفروا بالله مرارا كثيرة ليست واحدة، وقتلوا أنبياءه ورسله وعبدوا الأصنام، وذبحوا للشياطين ليس حيوانات غير ناطقة فقط، بل بنيهم وبناتهم حسب ما شهد الله عليهم قائلا على لسان داود النبي في كتاب الزبور في مزمور مائة وخمسة يقول ذبحوا بنيهم وبناتهم للشياطين وأراقوا دما زكيا دم بنيهم وبناتهم الذين ذبحوا للمنحوتات بكنعان وقد تنجست الأرض بالدماء وتنجست أعمالهم وزنوا بضغائنهم، وسخط الرب عليهم ورذل ميراثهم.

وقال أيضا على لسان أشعيا النبي يقول الله في بني إسرائيل: لم يسمعوا وصاياي، لم يحفظوا كل ما أوصيتهم به،

بل غيروا ونقضوا الميثاق الذي كنت جعلته لهم إلى الأبد، فلذلك أجلستهم عليهم الحزن، وأهلكتهم وانقطع ممن يبقى منهم الفرح والسرور.

هكذا قال الله على سكان بيت المقدس من بني إسرائيل: سأبددهم بين الأمم، وفي تلك الأيام يرفعون الأمم أصواتهم ويسبحون الله ويمجدونه بأصوات عالية، ويجتمعون من أقطار الأرض، ومن جزائر البحر، ومن البلدان البعيدة ويقدسون اسم الله ويرجعون إلى الله إله إسرائيل، ويكونون شعبة، وأما بنو إسرائيل فيكونون مبددين في الأرض.

وقال أشعيا النبي يقول الله: (يا بني إسرائيل نجستم جبلي المقدس، فإني سأفنيكم بالحرب وتموتون، وذلك لأني دعوتكم فلم تجيبوا وكلمتكم فلم تسمعوا، وعملتم الشيء بين يدي).

وقال أشعيا أيضا: (إن الله قد بغض بني إسرائيل، وأخرجهم من بيوتهم ومن بيته ولا يغفر لهم لأنهم لعنة، وجعلوا لعنة الناس فلذلك أهلكهم الله، وبددهم بين الأمم، ولا يعود يرحمهم ولا ينظر إليهم برحمة إلى أبد الآبدين، ولا يقربون لله قربانا ولا ذبيحة في ذلك اليوم وذلك الزمان، ولا يفرح بنو إسرائيل؛ لأنهم قد ضلوا عن الله - عز وجل -).

وقال أرميا النبي : (كما أن الحبشي لا يستطيع أن يكون أبيضا، فكذلك بنو إسرائيل لا يتركون عادتهم الخبيثة، ولذلك إني لا أرحم، ولا أشفق، ولا أرق على الأمة الخبيثة ولا أرثي لها).

وقال حزقيل النبي : (قال الله: إنما رفعت يدي عن بني إسرائيل وبددتهم بين الأمم، لأنهم لم يعملوا بوصاياي، ولم يطيعوا أمري، وخالفوني فيها فيما قلت لهم ولم يسمعوا لي).

ومثل هذا القول في التوراة، وكتب الأنبياء، وزبور داود شيء كثير يقرونها اليهود في كنائسهم، ويقرأونها ولا ينكرون منها حرفا واحدا، ومثل ما هو عندهم، وكذلك عندنا في جميع الألسن ا هـ.

والجواب أن يقال: أما كون اليهود ظالمين كافرين معتدين مستحقين لعذاب الله وعقابه، فهذا معلوم بالاضطرار من دين محمد منقول بالتواتر، كما علم بالاضطرار والنقل المتواتر عنه ﷺ أن النصارى أيضا ظالمون معتدون كافرون مستحقون لعذاب الله وعقابه، وفي اليهود من الكفر ما ليس في النصارى، وفي النصارى ما ليس في اليهود فإن اليهود بدلوا شريعة التوراة قبل أن يأتيهم المسيح ابن مريم، فلما أتاهم كفروا به وكذبوه فلما بعث محمد كذبوه فباءوا بغضب على غضب.

كما قال تعالى عنهم:

أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون * ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون * وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون * ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين * بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين * وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق مصدقا لما معهم قل فلم تقتلون أنبياء الله من قبل إن كنتم مؤمنين * ولقد جاءكم موسى بالبينات ثم اتخذتم العجل من بعده وأنتم ظالمون * وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور خذوا ما آتيناكم بقوة واسمعوا قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم قل بئسما يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين.

فغضب عليهم أولا بتكذيب المسيح، وثانيا بتكذيب محمد ﷺ.

وقال تعالى: ضربت عليهم الذلة أين ما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباءوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.

وقال تعالى: لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون * كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون.

وقال تعالى: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت.

فتبين أن اليهود لعنهم الله وأنهم عبدوا الطاغوت، وأنه جعل منهم القردة والخنازير، ومثل هذا في القرآن كثير لكن قول القائل أنهم المرادون بقوله تعالى: إلا الذين ظلموا منهم.

في قوله: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم. غلط بين ولهذا كان باطلا باتفاق المسلمين.

فإن قوله تعالى: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن. نهي عن مجادلة أهل الكتاب من اليهود والنصارى إلا بالتي هي أحسن.

وقوله: إلا الذين ظلموا. من الطائفتين جميعا.

ولهذا كان الواجب على المسلمين، إذا جادلهم اليهودي والنصراني أن يجادلوه بالتي هي أحسن، إلا من ظلم من الطائفتين، فإنه يعاقب باللسان تارة وباليد أخرى، كما أمر الله ورسوله بجهاد الظالمين من هؤلاء، فجاهد النبي ﷺ اليهود الذين كانوا بالمدينة النبوية وحولها وقريبا منها، كما جاهد بني قينقاع، والنضير، وقريظة، وأهل خيبر، وأهل وادي القرى، وغيرهم.

وكما جاهد النصارى عام تبوك غزاهم بالشام عربهم ورومهم، وأغزاهم قبل ذلك نوابه: زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن رواحة، وأمرهم بغزوهم فغزاهم بعده خلفاؤه الراشدون.

والنبي ﷺ لما قدم وفد نجران النصارى جادلهم في مسجده بالتي هي أحسن، ثم أمره الله - سبحانه - أن يدعوهم إلى المباهلة، فامتنعوا عن مباهلته، وأقروا بأداء الجزية عن يد وهم صاغرون، كما تقدم ذلك مفصلا فجادل بعضهم بالتي هي أحسن، والظالم منهم عاقبه وجاهده، كما عاقب الظالم من اليهود.

ومن أعجب الأشياء قولهم: وأما الذين ظلموا، فلا يشك أحد أنهم اليهود، فإن هذا من جنس قولهم: ثم وجدنا في الكتاب ما هو أعظم من هذا برهانا وهو قوله في سورة الشورى:

وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكم أعمالكم كما تقدم.

وهي من جنس قولهم في قوله: ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. أنه عنى بالكتاب الإنجيل، والذين يؤمنون بالغيب: النصارى، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك هم المسلمون، وزعمهم أن قولهم هذا بين ظاهر.

وتفاسير النصارى للكتب الإلهية فيها من التحريف لكلمات الله، والإلحاد في أسماء الله وآياته ما يطول وصفه، ولا ينقضي التعجب منه، لكن إقدامهم على تفسير القرآن بالإلحاد والتحريف أعجب وأعجب كقولهم: [ إن محمدا ﷺ ذكر أنه لم يرسل إليهم، وأنه أثنى على الدين الذي هم عليه بعد النسخ والتبديل، بعد مبعثه ﷺ، وأن

قوله صراط الذين أنعمت عليهم أراد به النصارى.

وقوله: لقد أرسلنا رسلنا أراد به الحواريين.

وقوله: وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس.

أراد به الإنجيل ] فإن في هذا من الكذب الظاهر، والافتراء على محمد بأنه أراد هذه الأمور، ما هو من جنس افترائهم على الأنبياء، فإنهم أخبروا أن المسيح هو خالق السماوات والأرض، وأن التوراة والزبور وغيرهما من الكتب أخبرت بذلك، ثم يأتون إلى ما يعلم كل عاقل أن محمدا ﷺ لم يرده، فيقولون: إنه لا يشك فيه أحد، وإنه قول ظاهر بين، وكل من عرف حال محمد ﷺ، وما جاء به من القرآن والدين يعلم علما يقينيا ضروريا أن محمدا ﷺ لم يكن يجعل النصارى مؤمنين دون اليهود، بل كان يكفر الطائفتين، ويأمر بجهادهم، ويكفر من لم ير جهادهم واجبا عليه.

وهذا مما اتفق عليه المسلمون، وهو منقول عندهم عن نبيهم نقلا متواترا، بل هذا يعلمه من حاله الموافق والمخالف، إلا من هو مفرط في الجهل بحاله، أو من هو معاند عنادا ظاهرا

فصل: المسلمون يوافقون النصارى فيما كفروا به اليهود

وأما ما نقلوه عن الأنبياء مما يدل على كفر اليهود، فهذا لا ننازعهم فيه، ولا حاجة بنا إلى الاستدلال بما نقلوه، وإن كان فيما يثبت عن الأنبياء ما يبين كفرهم لما بدلوا دين موسى كما كفر النصارى لما بدلوا دين المسيح، فهذا حق موافق لما أخبر به خاتم الرسل ﷺ فإنا قد علمنا كفرهم من جهة لا نشك في صدقها.

وما أخبرونا به عن الأنبياء إن علمنا صدقهم فيه، صدقناهم فيه وإن علمنا كذبهم فيه كذبناهم فيه، وإن لم نعلم صدقه ولا كذبه لم نصدقه ولم نكذبه، بل نقول: آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون.

فإن الإيمان بجميع ما أوتي النبيون حق واجب، لكن وجوب التصديق في النبي المعين الذي لم نعلمه من غيرهم يقف على مقدمتين:

1 - أن يكون اللفظ قد قاله النبي

2 - وأن يكون المعنى الذي فسروه به مرادا للنبي الذي تكلم بذلك القول، فلابد من ثبوت الإسناد ودلالة المتن.

وهاتان المقدمتان، لابد منهما في جميع المنقول عن الأنبياء.

وقد يحتاج إلى مقدمة ثالثة في حق من لم يعرف اللغة العبرية، فإن موسى وداود والمسيح وغيرهم إنما تكلموا باللغة العبرية، فمن لم يعرف بها، وإنما يعرف بالعربية أو الرومية، لابد أن يعرف أن المترجم من تلك اللغة إلى هذه قد ترجم ترجمة مطابقة.

فصل: غلو النصارى في عيسى عبد الله ورسوله

وأما قولهم: وأما نحن النصارى فلم نعمل شيئا مما عملته اليهود، فيقال لهم: الكفر والفسوق والعصيان لم ينحصر في ذنوب اليهود، فإن لم تعملوا مثل أعمالهم فلكم من الأقوال والأعمال ما بعضه أعظم من كفر اليهود، وإن كنتم أنتم ألين من اليهود وأقرب مودة، فأنتم أيضا أجهل وأضل من اليهود.

وقال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا

وقال تعالى: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا * ماكثين فيه أبدا * وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

وقال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

وقال تعالى: يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله.

وقال تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.

وقال تعالى:، لما قص قصة المسيح : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون * وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم * فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم * أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

فصل: تطرف اليهود والنصارى وتوسط المسلمين

ومن تدبر حال اليهود والنصارى مع المسلمين، وجد اليهود والنصارى متقابلين هؤلاء في طرف ضلال، وهؤلاء في طرف يقابله، والمسلمون هم الوسط.

وذلك في التوحيد، والأنبياء، والشرائع، والحلال والحرام والأخلاق وغير ذلك.

فاليهود يشبهون الخالق بالمخلوق في صفات النقص المختصة بالمخلوق التي يجب تنزيه الرب سبحانه عنها كقول من قال منهم: إنه فقير، وإنه بخيل، وإنه تعب لما خلق السماوات والأرض، والنصارى يشبهون المخلوق بالخالق في صفات الكمال المختصة بالخالق التي ليس له فيها مثل، كقولهم إن المسيح هو الله، وابن الله.

وكل من القولين يستلزم الآخر.

والنصارى أيضا يصفون اللاهوت بصفات النقص التي يجب تنزيه الرب عنها، ويسبون الله سبا ما سبه إياه أحد من البشر، كما كان معاذ بن جبل يقول: لا ترحموهم فإنهم قد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر.

واليهود تزعم أن الله يمتنع منه أن ينسخ ما شرعه، كما يمتنع ما لا يدخل في القدرة أو ينافي العلم والحكمة.

والنصارى يجوزون لأكابرهم أن ينسخوا شرع الله الذي بعث به رسله، فيحللوا ما حرم، كما حللوا الخنزير، وغيره من الخبائث، بل لم يحرموا شيئا، ويحرمون ما حلل، كما يحرمون في رهبانيتهم التي ابتدعوها، وحرموا فيها من الطيبات ما أحله الله، ويسقطون ما أوجب كما أسقطوا الختان وغيره، وأسقطوا أنواع الطهارة من الغسل، وإزالة النجاسة وغير ذلك.

ويوجبون ما أسقط، كما أوجبوا من القوانين ما لم يوجبه الله وأنبياؤه.

والمسلمون وصفوا الرب بما يستحقه من صفات الكمال، ونزهوه عن النقص، وأن يكون له مثل، فوصفوه بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، مع علمهم أنه ليس كمثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.

وقالوا: ألا له الخلق والأمر، فكما لا يخلق غيره لا يأمر غيره، بل الدين كله له، هو المعبود المطاع الذي لا يستحق العبادة إلا هو، ولا طاعة لأحد إلا طاعته، وهو ينسخ ما ينسخه من شرعه، وليس لغيره أن ينسخ شرعه.

واليهود بالغوا في اجتناب النجاسات، وتحريم الطيبات، والنصارى استحلوا الخبائث، وملابسة النجاسات، والمسلمون أحل الله لهم الطيبات خلافا لليهود، وحرم عليهم الخبائث، خلافا للنصارى.

واليهود يبالغون في طهارة أبدانهم مع خبث قلوبهم والنصارى يدعون أنهم يطهرون قلوبهم مع نجاسة أبدانهم، والمسلمون يطهرون أبدانهم وقلوبهم جميعا.

والنصارى لهم عبادات وأخلاق، بلا علم ومعرفة ولا ذكاء، واليهود لهم ذكاء وعلم ومعرفة بلا عبادات ولا أخلاق حسنة.

والمسلمون جمعوا بين العلم النافع، والعمل الصالح، بين الزكا والذكاء، فإن الله أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، فالهدى يتضمن العلم النافع، ودين الحق يتضمن العمل الصالح ليظهره على الدين كله، والظهور يكون بالعلم واللسان ليبين أنه حق وهدى، ويكون باليد والسلاح ليكون منصورا مؤيدا، والله أظهره هذا الظهور فهم أهل الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، غير المغضوب عليهم الذين يعرفون الحق، ولا يعملون به، كاليهود، ولا الضالين الذين يعملون ويعبدون ويزهدون بلا علم كالنصارى.

واليهود قتلوا النبيين، والذين يأمرون بالقسط من الناس، والنصارى اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم.

والمسلمون اعتدلوا فآمنوا بالله وملائكته وكتبه، ورسله، ولم يفرقوا بين أحد من رسله وآمنوا بجميع النبيين، وبكل كتاب أنزله الله فلم يكذبوا الأنبياء ولا سبوهم ولا غلوا فيهم ولا عبدوهم، وكذلك أهل العلم والدين لا يبخسونهم حقهم ولا غلوا فيهم.

واليهود يغضبون لأنفسهم وينتقمون، والنصارى لا يغضبون لربهم ولا ينتقمون.

والمسلمون المعتدلون المتبعون لنبيهم يغضبون لربهم ويعفون عن حظوظهم كما في الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها – أنها قالت: ما ضرب رسول الله ﷺ بيده خادما له، ولا امرأة ولا شيئا قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله، ولا نيل منه شيء قط فانتقم لنفسه، إلا أن تنتهك محارم الله فينتقم لله.

وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: خدمت رسول الله ﷺ عشر سنين، فما قال لي: أف قط، وما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ وكان بعض أهله إذا عاتبني على شيء يقول: " دعوه فلو قضي شيء لكان ".

هذا في حق نفسه، وأما في حدود الله، ففي الصحيحين عن عائشة - رضي الله عنها -: ( أن قريشا أهمهم شأن المخزومية التي سرقت، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله ﷺ، (فقالوا من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله ﷺ ) فكلمه فيها أسامة، فقال: يا أسامة، أتشفع في حد من حدود الله، إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحدود، والذي نفسي بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

وقد وصف الله أمة محمد ﷺ بأنهم أنفع الأمم للخلق، فقال: كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون.

ففي أمة محمد ﷺ من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي فيه صلاح العباد في المعاش والمعاد ما لم يوجد مثله في الأمتين.

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن نفى عنهم الشرك

ثم قالوا: وكذلك جاء في هذا الكتاب يقول: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. فذكر القسيسين والرهبان، لئلا يقال: إن هذا قيل عن غيرنا، ودل بهذا على أفعالنا وحسن نياتنا، ونفى عنا اسم الشرك بقوله اليهود والذين أشركوا أشد الناس عداوة للذين آمنوا، والذين قالوا إنا نصارى أقربهم مودة.

والجواب أن يقال: تمام الكلام: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين فأثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين،

فهو سبحانه لم يعد بالثواب في الآخرة إلا لهؤلاء الذين آمنوا بمحمد ﷺ الذين قال فيهم: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.

والشاهدون هم الذين شهدوا له بالرسالة فشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله ﷺ وهم الشهداء الذين قال فيهم: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.

ولهذا قال ابن عباس وغيره في قوله: فاكتبنا مع الشاهدين، قال: مع محمد ﷺ وأمته.

وكل من شهد للرسل بالتصديق فهو من الشاهدين كما قال الحواريون: ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون * وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول شهيدا عليكم وتكونوا شهداء على الناس.

وأما قوله في أول الآية: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى.

فهو كما أخبر - سبحانه وتعالى - فإن عداوة المشركين واليهود للمؤمنين أشد من عداوة النصارى، والنصارى أقرب مودة لهم، وهذا معروف من أخلاق اليهود، فإن اليهود فيهم من البغض والحسد والعداوة ما ليس في النصارى. وفي النصارى من الرحمة والمودة ما ليس في اليهود، والعداوة أصلها البغض فاليهود كانوا يبغضون أنبياءهم، فكيف ببغضهم للمؤمنين.

وأما النصارى فليس في الدين الذي يدينون به عداوة ولا بغض لأعداء الله الذين حاربوا الله ورسوله وسعوا في الأرض فسادا، فكيف بعداوتهم وبغضهم للمؤمنين المعتدلين أهل ملة إبراهيم، المؤمنين بجميع الكتب والرسل؟

وليس في هذا مدح للنصارى بالإيمان بالله، ولا وعد لهم بالنجاة من العذاب، واستحقاق الثواب وإنما فيه أنهم أقرب مودة،

وقوله تعالى: ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون. أي بسبب هؤلاء، وسبب ترك الاستكبار يصير فيهم من المودة ما يصيرهم بذلك خيرا من المشركين وأقرب مودة من اليهود والمشركين.

ثم قال تعالى: وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق.

فهؤلاء الذين مدحهم بالإيمان ووعدهم بثواب الآخرة، والضمير وإن عاد إلى المتقدمين، فالمراد جنس المتقدمين لا كل واحد منهم، كقوله تعالى: الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل.

وكأن جنس الناس، قالوا لهم: إن جنس الناس، قد جمعوا ويمتنع العموم، فإن القائل من الناس، والمقول له من الناس، والمقول عنه من الناس، ويمتنع أن يكون جميع الناس قال لجميع الناس: إنه قد جمع لكم جميع الناس.

ومثل ذلك قوله تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله.

أي جنس اليهود قال هذا، لم يقل هذا كل يهودي، ومن هذا أن في النصارى من رقة القلوب التي توجب لهم الإيمان ما ليس في اليهود، وهذا حق، وأما قولهم: ونفى عنا اسم الشرك، فلا ريب أن الله فرق بين المشركين، وأهل الكتاب في عدة مواضع، ووصف من أشرك منهم في بعض المواضع، بل قد ميز بين الصابئين والمجوس وبين المشركين في بعض المواضع وكلا الأمرين حق، فالأول كقوله تعالى: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين.

وقوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا.

وقال تعالى: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا.

وأما وصفهم بالشرك ففي قوله: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

فنزه نفسه عن شركهم، وذلك أن أصل دينهم ليس فيه شرك، فإن الله إنما بعث رسله بالتوحيد، والنهي عن الشرك، كما قال تعالى: واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.

وقال تعالى: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت.

وقال تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

فالمسيح صلوات الله عليه وسلامه ومن قبله من الرسل إنما دعوا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وفي التوراة من ذلك ما يعظم وصفه، لم يأمر أحد الأنبياء بأن يعبد ملك ولا نبي ولا كوكب ولا وثن، ولا أن تسأل ولا تطلب الشفاعة إلى الله من ميت ولا غائب، لا نبي ولا ملك، فلم يأمر أحد من الرسل بأن يدعو الملائكة، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا يدعو الأنبياء والصالحين الموتى والغائبين، ويقول: اشفعوا لنا إلى الله ولا تصور تماثيلهم لا مجسدة ذات ظل، ولا مصورة في الحيطان، ولا بجعل دعاء تماثيلهم وتعظيمها قربة وطاعة، سواء قصدوا دعاء أصحاب التماثيل، وتعظيمهم والاستشفاع بهم، وطلبوا منهم أن يسألوا الله تعالى، وجعلوا تلك التماثيل تذكرة بأصحابها، أو قصدوا دعاء التماثيل ولم يستشعروا أن المقصود دعاء أصحابها، كما فعله جهال المشركين، وإن كان في هذا جميعه إنما يعبدون الشيطان وإن كانوا لا يقصدون عبادته، فإنه قد يتصور لهم في صورة ما يظنون أنها صورة الذي يعظمونه، ويقول: أنا الخضر، أنا المسيح، أنا جرجس، أنا الشيخ فلان.

كما قد وقع هذا لغير واحد من المنتسبين إلى المسلمين والنصارى، وقد يدخل الشيطان في بعض التماثيل فيخاطبهم، وقد يقضي بعض حاجاتهم، فبهذا السبب وأمثاله ظهر الشرك قديما وحديثا، وفعل النصارى وأشباههم ما فعلوه من الشرك.

وأما الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم وسلامه - فنهوا عن هذا كله ولم يشرع أحد منهم شيئا من ذلك، والنصارى لا يأمرون بتعظيم الأوثان المجسدة، ولكن بتعظيم التماثيل المصورة، فليسوا على التوحيد المحض، وليسوا كالمشركين الذين يعبدون الأوثان ويكذبون الرسل، فلهذا جعلهم الله نوعا من غير المشركين تارة، وذمهم على ما أحدثوه من الشرك تارة.

وإذا أطلق لفظ الشرك فطائفة من المسلمين تدخل فيه جميع الكفار من أهل الكتاب، وغيرهم كقوله تعالى: ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا.

فمن الناس من يجعل اللفظ عاما لجميع الكفار، ولا سيما النصارى ثم من هؤلاء من ينهى عن نكاح هؤلاء، كما كان عبد الله بن عمر، ينهى عن نكاح النصرانية، ويقول: لا أعلم شركا أعظم من أن تقول: إن عيسى ربها. وهذا قول طائفة من الشيعة وغيرهم.

وأما جمهور السلف والخلف، فيجوزون نكاح الكتابيات ويبيحون ذبائحهم لكن إذا قالوا لفظ المشركين عام قالوا: هذه الآية مخصوصة أو منسوخة بآية المائدة وهو قوله تعالى: وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان.

وطائفة أخرى تجعل لفظ المشركين إذا أطلق لا يدخل فيه أهل الكتاب.

وأما كون النصارى فيهم شرك كما ذكره الله فهذا متفق عليه بين المسلمين، كما نطق به القرآن كما أن المسلمين متفقون على أن قوله: لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى. أن النصارى لم يدخلوا في لفظ الذين أشركوا كما لم يدخلوا في لفظ اليهود.

وكذلك قوله: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين. ونحو ذلك، وهذا لأن اللفظ الواحد تتنوع دلالته بالإفراد والاقتران فيدخل فيه مع الإفراد والتجريد ما لا يدخل فيه عند الاقتران بغيره، كلفظ المعروف والمنكر في قوله تعالى: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.

فإنه هنا يتناول جميع ما أمر الله به فإنه معروف، وجميع ما نهى عنه فإنه منكر.

وفي قوله: لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس. فهنا قرن الصدقة بالمعروف والإصلاح بين الناس.

وكذلك المنكر في قوله: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر. قرن الفحشاء بالمنكر، وقوله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون. قرن الفحشاء بالمنكر والبغي.

وكذلك لفظ البر والإيمان، إذا أفرده أدخل فيه الأعمال الصالحة والتقوى، كقوله: ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين. وقال: إن الأبرار لفي نعيم. وقوله: إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون. وقد يقرنه بغيره كقوله: وتعاونوا على البر والتقوى. وقوله: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات.

وكذلك لفظ الفقير، والمسكين إذا أفرد أحدهما دخل فيه معنى الآخر. وقد يجمع بينهما في قوله: إنما الصدقات للفقراء والمساكين. فيكونان هنا صنفين، وفي تلك المواضع صنف واحد،

فكذلك لفظ الشرك في مثل قوله: إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا. يدخل فيه جميع الكفار، أهل الكتاب وغيرهم عند عامة العلماء لأنه أفرده وجرده، وإن كانوا إذا قرن بأهل الكتاب كانا صنفين.

وفي صحيح مسلم عن بريدة أن النبي ﷺ: كان إذا أرسل أميرا على سرية، أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله، وأوصاه بمن معه من المسلمين خيرا، وقال لهم: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا ولا تغلوا، ولا تغدروا ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خلال ثلاث - فإن هم أجابوك إليها فاقبل منهم وكف عنهم - ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك إلى ذلك، فاقبل منهم، وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فإن لهم ما للمهاجرين وعليهم ما عليهم، فإن أبوا أن يتحولوا منها فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المسلمين وليس لهم في الغنيمة والفيء نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم.

وهذا الحديث كان بعد نزول آية الجزية، وهي إنما نزلت عام تبوك لما قاتل النبي ﷺ النصارى بالشام، واليهود باليمن.

وهذا الحكم ثابت في أهل الكتاب باتفاق المسلمين، كما دل عليه الكتاب والسنة، ولكن تنازعوا في الجزية: هل تؤخذ من غير أهل الكتاب؟ وهذا مبسوط في موضعه.

فصل: رد دعوى النصارى أن القرآن سوى بين جميع الأنبياء

قالوا وقال في سورة البقرة: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فساوى بهذا القول بين سائر الناس: اليهود والمسلمين وغيرهم.

والجواب أن يقال:

أولا: لا حجة لكم في هذه الآية على مطلوبكم، فإنه يسوي بينكم وبين اليهود والصابئين، وأنتم مع المسلمين متفقون على أن اليهود كفار من حين بعث المسيح إليهم فكذبوه.

وكذلك الصابئون من حين بعث إليهم رسول فكذبوه، فهم كفار. فإن كان في الآية مدح لدينكم الذي أنتم عليه بعد مبعث محمد ففيها مدح دين اليهود أيضا، وهذا باطل عندكم وعند المسلمين.

وإن لم يكن فيها مدح اليهود بعد النسخ والتبديل فليس فيها مدح لدين النصارى بعد النسخ والتبديل.

وكذلك يقال لليهودي، إن احتج بها على صحة دينه.

وأيضا، فإن النصارى يكفرون اليهود، فإن كان دينهم حقا لزم كفر اليهود، وإن كان باطلا لزم بطلان دينهم فلابد من بطلان أحد الدينين فيمتنع أن تكون الآية مدحتهما، وقد سوت بينهما.

فعلم أنها لم تمدح واحدا منهما بعد النسخ والتبديل، وإنما معنى الآية أن المؤمنين بمحمد ﷺ، والذين هادوا الذين اتبعوا موسى ، وهم الذين كانوا على شرعه قبل النسخ والتبديل، والنصارى الذين اتبعوا المسيح ، وهم الذين كانوا على شريعته قبل النسخ والتبديل.

والصابئين وهم الصابئون الحنفاء، كالذين كانوا من العرب وغيرهم على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق قبل التبديل والنسخ.

فإن العرب من ولد إسماعيل، وغيره الذين كانوا جيران البيت العتيق الذي بناه إبراهيم وإسماعيل كانوا حنفاء على ملة إبراهيم إلى أن غير دينه بعض ولاة خزاعة، وهو عمرو بن لحي، وهو أول من غير دين إبراهيم بالشرك، وتحريم ما لم يحرمه الله، ولهذا قال النبي ﷺ: رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه - أي أمعاءه - في النار وهو أول من بحر البحيرة، وسيب السوائب، وغير دين إبراهيم.

وكذلك بنو إسحاق الذين كانوا قبل مبعث موسى متمسكين بدين إبراهيم كانوا من السعداء المحمودين، فهؤلاء الذين كانوا على دين موسى والمسيح وإبراهيم، ونحوهم هم الذين مدحهم الله تعالى:

إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

فأهل الكتاب بعد النسخ والتبديل ليسوا ممن آمن بالله، ولا باليوم الآخر وعمل صالحا، كما قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وقد تقدم أنه كفر أهل الكتاب الذين بدلوا دين موسى والمسيح، وكذبوا بالمسيح أو بمحمد ﷺ في غير موضع، وتلك آيات صريحة، ونصوص كثيرة، وهذا متواتر معلوم بالاضطرار من دين محمد ﷺ.

ولكن هؤلاء النصارى سلكوا في القرآن ما سلكوه في التوراة والإنجيل، يدعون النصوص المحكمة الصريحة البينة الواضحة التي لا تحتمل إلا معنى واحدا، ويتمسكون بالمتشابه المحتمل، وإن كان فيه ما يدل على خلاف مرادهم، كما قال تعالى فيهم وفي أمثالهم: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.

فصل: رد دعواهم أنه لا يليق بهم أن يتركوا كلمة الله عندهم التي عظمها القرآن

قالوا: ثم مدح قرابيننا وتوعدنا إن أهملنا ما معنا وكفرنا بما أنزل إلينا أن يعذبنا عذابا أليما لم يعذبه أحدا من العالمين بقوله ذلك في سورة المائدة:

إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين * قال عيسى ابن مريم اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.

فالمائدة هي القربان المقدس الذي يتقرب به في كل قداس.

والجواب أن يقال:

هذا كذب ظاهر على القرآن في هذا الموضع، كما كذبتم عليه في غير هذا الموضع، فإنه ليس في الآيات ذكر قرابينكم البتة، وإنما فيه ذكر المائدة التي أنزلها الله تعالى في عهد المسيح ، وقولهم: المائدة هي القربان الذي يتقرب به في كل قداس، هو أولا: قول لا دليل عليه، وثانيا: هو قول معلوم الفساد بالاضطرار من دين المسلمين الذين نقلوا هذا القرآن عن محمد ﷺ لفظه ومعناه، فإنهم متفقون على أن المائدة مائدة أنزلها الله من السماء على عهد المسيح ، وقصتها مشهورة في عامة الكتب تعرفها العامة والخاصة، ولم يقل أحد إنها قرابين النصارى، وليس في لفظ الآية ما يدل على ذلك، بل يدل على خلاف ذلك، فإن الآية تبين أن المائدة منزلة من السماء وقرابينهم هي عندهم في الأرض لم تنزل من السماء.

وفي الآية أن عيسى قال:

اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا وآية منك وارزقنا وأنت خير الرازقين * قال الله إني منزلها عليكم فمن يكفر بعد منكم فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين.

وفي أول الكلام: إذ قال الحواريون يا عيسى ابن مريم هل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء قال اتقوا الله إن كنتم مؤمنين * قالوا نريد أن نأكل منها وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا ونكون عليها من الشاهدين.

فأين هذا من قرابينهم الموجودة اليوم؟

فصل: تكريم الإسلام للمسيح عبد الله ورسوله

قالوا: ولما تقدم به القول لأنه غير لائق عند ذوي الألباب أن نهمل روح القدس وكلمة الله الذي شهد لهما في هذا الكتاب بالعظائم، فقال عن كلمة الله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا.

والجواب:

إن الله تعالى لم يبعث محمدا ﷺ بإهمال ما يجب من حق المسيح ، بل أمره بالإيمان بالمسيح وبما جاء به، كما أمره بالإيمان بموسى وبما جاء به وكما أمر المسيح بالإيمان بموسى وبما جاء به ولكنه أمر بإهمال ما ابتدع من الدين الذي لم يشرعه الله على لسان المسيح ، وما نسخه الله من شرعه على لسان محمد ﷺ، فيهمل المبدل والمنسوخ كما أمر الله المسيح أن يهمل ما ابتدعته اليهود من الدين الذي لم يشرعه، وما نسخه من شرع موسى.

فكما أمر المسيح أن يهمل المبدل والمنسوخ من التوراة التي جاء بها موسى ، ولم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق التوراة وموسى ، فكذلك إذا أهمل المبدل والمنسوخ من دين أهل الإنجيل، لم يكن في ذلك إهمال لما يجب من حق الإنجيل والمسيح، بل ما جاء به محمد ﷺ يتضمن الإيمان بجميع الكتب والرسل، وأن لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون كما قال تعالى: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون.

والنصارى كاليهود، آمنوا ببعض وكفروا ببعض، فأيما هو اللائق عند أولي الألباب، أن نؤمن بجميع كتب الله ورسله، أو نؤمن ببعض ونكفر ببعض وأيما هو اللائق عند أولي الألباب أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئا، ونعبده بما شرعه على لسان رسوله، أو نبتدع من الشرك والعبادات المبتدعة ما لم ينزل به الله كتابا ولا بعث به رسولا ونضاهي المشركين عباد الأوثان؟

قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

فالمسلمون لم يهملوا روح القدس، وكلمة الله، وقد قال تعالى عن كلمة الله: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته.

بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء عليهم السلام جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد.

وقد قال تعالى: شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه.

فدين المرسلين كلهم دين واحد، ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد، فإن دين المسيح هو دين موسى، وهو دين الخليل قبلهما، ودين محمد بعدهما، مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى.

كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة.

والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا ﷺ بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم، كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح.

والمسلمون أشد تعظيما للمسيح واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى، فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه، ولا يفسرون كلامه بغير مراده، وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى، فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء، (وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله) القائمة بذاته سبحانه و تعالى تسمى ابنا، ولا روح قدس، ولا تسمى صفته القديمة ابنا، ولا روح قدس، ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق.

والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله، كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، [1] ولداود (أنت ابني وحبيبي)، [2] وأن المسيح قال للحواريين (أبي وأبيكم)، [3] فجعله أبا للجميع، وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق، فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت، قديم أزلي مولود غير مخلوق.

وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع، وهو المخلوق، وهو الابن بالطبع، وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا، ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق، ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا.

وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء عليهم السلام لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به.

وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء، ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده، ومما ينزل بذلك من الملائكة، وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم: إن روح القدس كانت في داود وغيره، وكانت أيضا عندهم في الحواريين.

وهكذا خاتم الرسل، كان يقول لحسان بن ثابت: إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه، ويقول اللهم أيده بروح القدس.

وقد قال الله تعالى عن عباده المؤمنين: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

فروح القدس لا اختصاص للمسيح بها، بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس، وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل، وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره.

فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر.

والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون: إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم، ولم يسلطهم عليه.

والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام، وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة، يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه، وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس، ويقولون مع هذا: إنه رب السماوات والأرض وما بينهما.

فصل: نسخ شرع التوراة وأن ما جاء به المسيح حق

قالوا ثم شهد لقرابيننا وذبائحنا أنها مقدسة مقبولة لدى الله من كتب اليهود التي في أيديهم يومنا هذا المنزلة من الله على أفواه الأنبياء المرسلين.

قال أشعيا: (قال الله: إني أعرف بني إسرائيل وقلوبهم القاسية الخبيثة فإذا أنا ظهرت إلى الأمم فنظروا إلى كرامتي أقيم منها أنبياء وأبعث منهم مخلصين يخلصون الأمم من البلدان القاصية الذين لم يسمعوا بسماعي، ولم يعرفوا من قبل كرامتي، ويكون اسمي فيهم، ويجلبون إخوتهم من الأمم كلها، ويجيبون قرابين الله على الدواب والمراكب إلى جبل قدسي بيت المقدس، فيقربون لي القرابين بالسميد، كما كان بنو إسرائيل من قبل وكذلك باقي الأمم وتقرب القرابين بين يدي، فهم وزرعهم إلى الأبد، ويحجون في كل سنة، وفي كل شهر، ومن سنة إلى سنة إلى بيت المقدس، بيت الله ويقربون لله ربهم فيه قرابين زكية نقية، ينظرون إلى الأمة الخبيثة الماردة: بني إسرائيل، لا يبلى حزنها ولا ينقطع، بلاؤها إلى الأبد).

وقال دانيال النبي : (وسيأتي على شعبك وقرية قدسك سبعون سابوعا، وتنقضي الذنوب، وتفنى الخطايا وغفران الإثم، ويؤتى بالحق الذي لم ينزل من قبل، وتتم نبوات الأنبياء وكتب الرسل، وتبيد قرية القدس وتخرب مع مجيء المسيح، ويفنى الميثاق العتيق من الناس، ومن بعد أسبوع ونصف تبطل ذبائح اليهود وقرابينهم، وتصير على كف النجاسة والفساد إلى انقضاء الدهر).

وقال ميخا النبي : (قال الله في آخر الزمان إذا أتى المسيح يدعو الأمم المبددة، ويضعهم شعبا واحدا، ويبطل قتال بني إسرائيل وسلاحهم وقرابينهم إلى الأبد).

وقال عاموص النبي: (لا تذبحوا العجول بعد فإن الرب سيأتي صهيون ويحدث وصية جديدة طاهرة من الخبز النقي والخمر الزكي ويصير بنو إسرائيل مطرودين).

والجواب من وجوه:

أحدها: أن ما يحتجون به من النقل عن الأنبياء - صلوات الله عليهم - يحتاجون فيه إلى أربع مقدمات: إلى أن تعلم نبوة المنقول عنه، والى أن يعلم لفظه الذي تكلم به، وإلى أن يعلم ما ذكروه ترجمة صحيحة عنده، فإن أولئك الأنبياء لم يتكلموا بالعربية، بل ولا بالرومية والسريانية واليونانية، وإنما تكلموا بالعبرية، كالمسيح .

والرابع: أن يعلم أن ما ذكروه من كلام الأنبياء دليل على ما ادعوه من قبول قرابينهم في هذا الزمان، ونحن في هذا المقام نقتصر على منازعتهم في هذه المقدمة، فليس فيما ذكروه دليل على مدح قرابينهم وذبائحهم بعد التبديل والنسخ، ولكن غايتها أن يدل على مدحها قبل النسخ والتبديل، وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون.

الوجه الثاني: أن هذه النعوت المذكورة عن " أشعيا " وغيره من الأنبياء لا توافق ما عليه النصارى، فإن النصارى لا يقربون القرابين بالسميد، كما كان بنو إسرائيل من قبل، ولا يحجون في كل شهر ومن سنة إلى سنة إلى بيت المقدس بيت الله، ويقربون لله ربهم فيه قرابين نقية زكية، وإنما يحجون إلى قمامة الخارجة عن بيت الله الذي كانت الأنبياء تقصده وتصلي فيه، فإن الأنبياء إنما كانوا يصلون في بيت المقدس، ويزورون بيت المقدس نفسه، وأما قمامة فليس لها ذكر في كتب الأنبياء عليهم السلام، بل إنما ظهرت قمامة في زمن قسطنطين الملك، لما أظهرتها أمه هيلانة الحرانية لما جاءت بيت المقدس، واختارت من اليهود ثلاثة، وسألتهم أن يدلوها على موضع الصليب فامتنعوا، فعاقبتهم بالحبس والجوع، فدلوها على موضعه في مزبلة فاستخرجوه، وجعلته في غلاف من ذهب وحملته، وبنت كنيسة القمامة في موضعه، كما ذكر ذلك ابن البطريق في تاريخه، وغيره، كما سيأتي، وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاث مائة سنة.

ومن ذلك الوقت أظهروا الصليب، وجعلوا " عيد الصليب "، ولم يشرع ذلك لا المسيح ولا الحواريون، وهذا مذكور في كتبهم متفق عليه بين علمائهم، كما قد ذكر في موضع آخر، ولا هم يأتون بقرابين لله على الدواب والمراكب إلى جبل قدس بيت الله المقدس.

الوجه الثالث: أن ما ذكروه عن " دانيال " لا يتضمن مدح دينهم بعد النسخ والتبديل، وإنما يتضمن أن الله يبعث المسيح بالحق الذي لم يزل من قبل، وهو الدين الذي بعث به الرسل قبله، وهو عبادة الله وحده وأن بيت المقدس يخرب مع مجيء المسيح، ويفنى الميثاق العتيق، يعني ما نسخ من شرع التوراة، وأنه يبطل ذبائح اليهود وقرابينهم.

وهذا كله إنما يدل على نسخ شرع التوراة، وبطلان دولة اليهود ويدل على أن المسيح جاء بالحق، ومن اتبع المسيح كان على الحق، وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون فإنهم متفقون على أن من كان متمسكا بما أمر به المسيح فإنه من عباد الله الصالحين ولكن من جاء بشرع لم يأت به المسيح أو أراد اتباع شرعه بعد النسخ فهو بمنزلة اليهود الذين نسخ الله ما نسخه من شرعهم وأزال دولتهم وكذلك فعل بالنصارى لما بعث الله محمدا ﷺ أزال دولتهم عن وسط الأرض وخيارها وحيث بعثت الأنبياء كأرض الشام ومصر والجزيرة، والعراق، وأرمينية، وأذربيجان، وأجلاهم إلى طرفي الأرض من جهة الشمال والجنوب، وصار الذين في وسط الأرض منهم أحسن أحوالهم إذا لم يسلموا أن يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون.

وكذلك ما ذكروه عن " ميخا " و " عاموس " إنما يدل على مجيء المسيح ، وبطلان ما نسخه الله وأبطله من شرع اليهود وملكهم ولا يدل على صحة دين النصارى الذي لم يشرعه المسيح ولا على صحته بعد أن نسخ بشرع محمد ﷺ نسخا هو أبلغ من نسخ بعض شرع موسى بشرع المسيح .

هذا إذا سمى الشرع المؤقت بغاية مجهولة نسخا، فإن الأول لم يبشر بالثاني.

وأما إذا كان الأول بشر بالثاني، وكانت شريعة الأول مؤقتة إلى مجيء الثاني لم يسم ذلك نسخا، فالمسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - لم ينسخا شيئا، بل كان شرع موسى إلى مجيء المسيح، وشرع المسيح إلى مجيء محمد - صلى الله عليهما وسلم -.

وأما ما حكي عن أشعيا عن الله أنه قال: فإذا ظهرت إلى الأمم فهذا قد يحتج به النصارى وبأمثاله من كلام الأنبياء عليهم السلام على الحلول الذي ابتدعوه، وهو باطل فإن مثل هذا اللفظ مذكور في كتب أهل الكتاب في غير موضع ولا يراد بشيء منها حلول ذات الله في أحد من البشر، كما ذكر في التوراة أن الله عز وجل استعلن لإبراهيم وغيره، وأن الله يأتي من طور سيناء، ويشرف من ساعير، ويستعلن من جبال فاران.[4]

ومعلوم عند جميع أهل الملل أن الله سبحانه و تعالى لم يحل في موسى وغيره لما كلمه، ولا يحل في شيء من جبال فاران مع إخباره أنه استعلن منها.

وقد قال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله. فأظهره بالعلم والحجة والبيان، وأظهره باليد والسنان،

كما قال تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

قال أبي بن كعب وغيره: مثل نوره في قلب المؤمن.

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وفي الترمذي، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي ﷺ أنه قال: اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ: إن في ذلك لآيات للمتوسمين. قال الترمذي: حديث حسن، وقد جاء عن بعض السلف أن قلوب المؤمنين تضيء لأهل السماوات كما تضيء الكواكب لأهل الأرض.

والمخلوق الذي تظهر محبته وذكره وطاعته في بعض البلاد، يقال فلان قد ظهر في هذه الأرض، فإذا ظهر ذكر الله وذكر أسمائه وصفاته وتوحيده وآياته وعبادته حتى امتلأت القلوب بذلك بعد أن كانت ممتلئة بظلمة الكفر والشرك، كان ذلك مما أخبر به من ظهوره، وهذا أعظم ما يكون في بيوته التي يعبد فيها ويذكر فيها اسمه.

ولهذا لما ذكر تعالى آية النور وقال: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

قال عقب ذلك: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب.

وكذلك ما في الكتب من ظهوره ببيت المقدس فهو كظهوره بطور سيناء وبجبل فاران، ومع هذا فلم يره موسى ولا غيره، لا مجردا ولا حالا في غيره وقد أخبر المسيح أنه لم يره أحد، كما أخبر غيره وذلك نفي عام يوجب أنه لا يرى لا مجردا، ولا حالا في دار الدنيا كما قد بسط هذا في موضع آخر ومعلوم أن ملابسة الشيء أبلغ من رؤيته فإذا كان الرب تعالى لا يراه ناسوت فأن لا يلابسه ناسوت بطريق الأولى والأحرى والنصارى يزعمون أنه اتحد هو والناسوت وهذا أعظم من الرؤية.

فصل: تنازع اليهود والنصارى في تفسير كتبهم

قالوا: فماذا يكون أعظم من هذا برهانا، وأقوى شهادة، إذ هذه كتب أعدائنا المخالفين لديننا، وهم يقرون بذلك ويقرءونه في كنائسهم، ولم ينكروا منه كلمة واحدة ولا حرفا واحدا.

والجواب: أن الأمر إذا كان على ما قالوه من ثبوت هذه الكلمات عن بعض الأنبياء فليس فيها مدح لدينهم بعد التبديل، فكيف بعد النسخ والتبديل؟ وإنما فيها إخبار بزوال ملك بني إسرائيل، وبنسخ ما نسخ من شرعهم بمجيء المسيح ، وهذا دليل على نبوة المسيح وصدقه وهذا مما اتفق عليه المسلمون.

والمسيح عندهم كما أخبر الله عنه، بقوله تعالى لمريم: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين.

وأما قولهم: إن هذا وغيره موجود في كتب أعدائنا اليهود.

فيقال لهم لا ريب أن اليهود يخالفونكم في تفسير الكتب، فأنتم تفسرونها بشيء، وهم يفسرونها بشيء آخر وقد يكون كلا التفسيرين باطلا وحينئذ فيقال لكم كما أن كتب الأنبياء شاهدة للمسيح ولدينه وإن خالفتكم اليهود في تفسيرها، فكذلك هي شاهدة لمحمد ﷺ وأمته، وإن خالف أهل الكتاب في تفسيرها كما قد بين الله في كتب الأنبياء صفة محمد وأمته في غير موضع.

والواجب في الكتب إذا تنازعت الأمم في تفسيرها أن يبين الحق الذي يقوم عليه الدليل الشرعي والعقلي، وحينئذ تبين أنكم فسرتم كتب الله بأشياء تخالف مراد الله في أمر التثليث والاتحاد وغيره، كما فعلت اليهود بتفسير الكتب، كما قد بسط في غير هذا الموضع.

فصل: رد دعوى النصارى أن محمدا لم يرسل إليهم وشكه فيما جاء به

قالوا: وأيضا في قول هذا الإنسان مما أتى في كتابه حيث اتبع القول أنه لم يرسل إلينا مع تشككه فيما أتى به في هذا الكتاب في سورة سبأ حيث يقول: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين. وأيضا في سورة الأحقاف يقول: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

والجواب: أن نقلهم عنه أنه قال: إنه لم يرسل إليهم كذب ظاهر عليه، فإن كتابه مملوء بدعوتهم وأمره لهم بالإيمان به واتباعه، بل وبعموم رسالته إلى جميع الناس، بل وإلى الجن والإنس، وليس فيه قط أنه لم يرسل إلى أهل الكتاب، بل فيه التصريح بدعوة أهل الكتاب في غير موضع كقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون.

وقد كتب النبي بهذه الآية إلى قيصر ملك النصارى الذي اسمه هرقل بالشام، وقد تقدم ذكر ذلك، وتقدم أيضا أن قوله تعالى: لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون. يقتضي أنه لم ينذر الأميين، وليس فيه أنه لا ينذر غيرهم، كما أن قوله: وأنذر عشيرتك الأقربين. يقتضي إنذار قومه ولا ينافي أن ينذر غيرهم من العرب كما أن قوله في قريش: فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. لا يمنع أن يكون غير قريش مأمورين بعبادة رب هذا البيت، بل أمر الله جميع الثقلين: الجن والإنس أن يعبدوا رب هذا البيت.

فإن قيل: فقد سكت عن ما سوى الأميين في هذا، فيشعر بالنفي بدليل الخطاب الذي يسمى مفهوم المخالفة، قيل ذاك إنما يدل إذا لم يكن في التخصيص فائدة سوى الاختصاص بالحكم، ولم يكن هنا تصريح بأن حكم المسكوت كحكم المنطوق، وهنا لما بعث الله محمدا ﷺ، أمره أن ينذر عشيرته الأقربين أولا، ثم ينذر العرب الأميين ثم أهل الكتاب والمجوس وغيرهم، وقد تقدم بسط هذا.

فصل

وأما قولهم مع تشككه فيما أتى به فمن الكذب البين فإنه تعالى قال: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير * ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلي الكبير * قل من يرزقكم من السماوات والأرض قل الله وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين * قل لا تسألون عما أجرمنا ولا نسأل عما تعملون * قل يجمع بيننا ربنا ثم يفتح بيننا بالحق وهو الفتاح العليم.

فإنه لما دعاهم إلى التوحيد وبين أن ما يدعونه من دون الله لا يملك مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، ولا هو شريك، ولا هو ظهير ولا ينفع شفيع إلا بإذنه، نفى بذلك جميع وجوه الشرك، فإن ما يشرك به إما أن يكون له ملك أو شريك في الملك، أو يكون معينا، فإذا انتفت الثلاثة لم يبق إلا الشفاعة التي هي دعاء لك ومسألة وتلك لا تنفع عنده إلا لمن أذن له.

ثم ذكر بعد هذا أنه لا رازق يرزق من السماء والأرض إلا الله دل بهذا وهذا على التوحيد، كما في قوله: وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون * ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون * ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون.

فلما ذكر ما دل على وجوب توحيده، وبيان أن أهل التوحيد هم على الهدى، وأن أهل الشرك على الضلال قال: وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين.

يقول: إن أحد الفريقين أهل التوحيد الذين لا يعبدون إلا الله، وأهل الشرك لعلى هدى أو في ضلال مبين.

وهذا من الإنصاف في الخطاب الذي كل من سمعه من ولي وعدو قال لمن خوطب به قد أنصفك صاحبك، كما يقول العادل الذي ظهر عدله للظالم الذي ظهر ظلمه: الظالم إما أنا وإما أنت، لا للشك في الأمر الظاهر، ولكن لبيان أن أحدنا ظالم ظاهر الظلم، وهو أنت لا أنا.

فإنه إذا قيل: أهل التوحيد الذين يعبدون الله على هدى، أو في ضلال مبين، وأهل الشرك الذين يعبدون ما لا يضر ولا ينفع على هدى أو في ضلال مبين.

تبين أن أهل التوحيد على الهدى، وأهل الشرك على الضلال، وهذا مما يعلمه جميع الملل من المسلمين واليهود والنصارى، يعلمون أن أهل التوحيد على الهدى، وأهل الشرك على الضلال.

وفي القرآن في بيان مثل هذا ما لا يحصى إلا بكلفة، بل قطب القرآن وسائر الكتب ومدارها على عبادة الله وحده، فكيف يقال إن الرسول كان يشك هل المهتدى هم أهل التوحيد أم أهل الشرك؟ وهل يقول هذا إلا من هو في غاية الجهل والعناد.

ثم الآية خطاب للمشركين ليست خطابا للنصارى خصوصا.

فصل: الرسول بشر لا يعلم الغيب ولا يقول إني ملك

وأما قوله تعالى: قل ما أدري ما يفعل بي ولا بكم، فلفظ الآية: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين.

وهذا بعد قوله: أم يقولون افتراه قل إن افتريته فلا تملكون لي من الله شيئا هو أعلم بما تفيضون فيه كفى به شهيدا بيني وبينكم وهو الغفور الرحيم.

ونظير هذا قوله: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون.

وهذا قاله نوح أول الرسل، وأمر محمد ﷺ آخر الرسل أن يقوله، ومثل قوله: قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا * قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا * إلا بلاغا من الله ورسالاته ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا.

وهذا ونحوه يتضمن اعترافه بأنه عبد الله ورسول من الله لا يتعدى حد الرسالة ولا يدعي المشاركة في الألوهية، كما ادعته النصارى في المسيح ولهذا قال تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام.

فتبين أنه لا يتعدى حد الرسالة، وهو كقوله تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم.

ولهذا قال ﷺ وفي الحديث المتفق على صحته: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله.

فقال تعالى: قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

يقول لست أول من أرسل، أو ادعى الرسالة، بل قد تقدم قبلي رسل: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين.

يقول لا أدعي علم الغيب، إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين أنذركم بما أمرني الله أن أنذركم به لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك، وهذا من كمال صدقه وعدله وعبوديته لله وطاعته، وتمييز ما يستحقه الخالق وحده مما يستحقه العبد، فإن العلم بعواقب الأمور على وجه التفصيل مما استأثر الله بعلمه، فلا يعلمه ملك مقرب، ولا نبي مرسل.

وليس من شرط الرسول أن يعلم كل ما يكون وقوله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم.

نفي لعلمه بجميع ما يفعل به وبهم وهذا لا يعلمه إلا الله - تبارك وتعالى -، وهذا لا ينفي أن يكون عالما بأنه سعيد من أهل الجنة، وإن لم يدر تفاصيل ما يجري له في الدنيا من المحن والأعمال، وما يتجدد له من الشرائع، وما يكرم به في الآخرة من أصناف النعيم، فإنه قد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (يقول الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، وأيضا هذا مأثور عن غيره من الأنبياء عليهم السلام.

ولا من شرط النبي أن يعلم حال المخاطبين: من يؤمن به، ومن يكفر، وتفصيل ما يصيرون إليه، هذا إن قيل إنه لم يعلم بعد هذه الآية ما نفي فيها، وإن قيل إنه أعلم بذلك فمعلوم أن الله لم يعلمه بكل شيء جملة، بل أعلمه بالأمور شيئا بعد شيء.

وقد قال له بعد ذلك: إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا.

وقال تعالى: هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا.

وفي القرآن والأحاديث عنه ﷺ من الإخبار بما سيكون في الدنيا وفي الآخرة أضعاف أضعاف ما يوجد عن الأنبياء قبله، حتى إنه ينبئ عن الشيء الذي يكون بعد ما يبين من السنين خبرا أكمل من خبر من عاين ذلك، كقوله ﷺ في الحديث الصحيح لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا الترك صغار الأعين، ذلف الأنوف، حمر الخدود، ينتعلون الشعر، كأن وجوههم المجان المطرقة، فمن رأى هؤلاء الترك الذين قاتلهم المسلمون من حين خرج جنكز خان ملكهم الأكبر وأولاده وأولاد أولاده، مثل هولاكو وغيره من ملوك الترك الكفار الذين قاتلهم المسلمون، لم يحسن أن يصفهم بأحسن من هذه الصفة.

وقد أخبر بهذا قبل ظهوره بأكثر من ستمائة سنة، وقوله: ﷺ لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، وهذه النار ظهرت سنة خمس وخمسين وستمائة بأرض الحجاز، فكانت تحرق الحجر ولا تنضج اللحم، ورأى أهل بصرى أعناق الجمال من ضوء تلك النار، وكانت منذرة بما يكون بعدها، ففي سنة ست وخمسين وستمائة دخل هولاكو ملك الكفار بغداد، وقتل فيها مقتلة عظيمة مشهورة (وسيأتي - إن شاء الله - بعض أخبار أنه شاهد الناس وقوعها كما أخبرنا عند ذكرنا معجزاته).

ثم قالوا: مع الأمر له في فاتحة الكتاب أن يسأل الهداية إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فإنه عنى بقوله: المنعم عليهم والمغضوب عليهم والضالين الثلاث أمم الذين كانوا في عصره، وهم: النصارى، واليهود وعباد الأصنام، ولم يكن في زمانه غير هؤلاء الثلاث أمم. فالمنعم عليهم نحن النصارى والمغضوب عليهم فلا - يشك أنهم - اليهود، الذين غضب الله عليهم في كتب التوراة والأنبياء وهذا الكتاب، والضالين فهم عباد الأصنام الذين ضلوا عن الله، فهذا أمر واضح بين ظاهر عند كل أحد، ولا سيما عند ذوي العقول والمعرفة والصراط: هو المذهب، أي الطريق، وهذه اللفظة رومية، لأن الطريق بالرومية اسطراطا.

والجواب:

أما قولهم: المنعم عليهم نحن النصارى، فمن العجائب التي تدل على فرط جهل صاحبها، وأعجب من ذلك قولهم إن هذا شيء بين واضح عند كل أحد، لا سيما عند ذوي العقل والمعرفة، فيا سبحان الله!

ألم يعرف العام والخاص علما ضروريا لا تمكن المنازعة فيه من دين محمد ﷺ، ودين أمته الذي تلقوه عنه من تكفير النصارى وتجهيلهم وتضليلهم واستحلال جهادهم وسبي حريمهم وأخذ أموالهم، ما يناقض كل المناقضة أن يكون محمد وأمته في كل صلاة يقولون: اللهم اهدنا صراط النصارى.

وهل ينسب محمدا - صلى الله عليه وسلم - وأمته إلى أنهم في كل صلاة يطلبون من الله أن يهديهم صراط النصارى إلا من هو من أكذب الكذابين وأعظم الخلق افتراء ووقاحة وجهلا وضلالا؟

ولو كانوا يسألون الله هداية طريق النصارى، لدخلوا في دين النصارى، ولم يكفروهم ويقاتلوهم، ويضعوا عليهم الجزية التي يؤدونها عن يد وهم صاغرون، ولم يشهدوا عليهم بأنهم من أهل النار، وأمته أخذوا ذلك جميعه عنه منقولا عنه بالنقل المتواتر بإجماعهم، لم يبتدعوا ذلك، كما ابتدعت النصارى من العقائد والشرائع ما لم يأذن به الله، فلا يلام المسلمون في اتباعهم لرسول الله الذي جاء بالبينات والهدى.

ومحمد ﷺ إن كان رسولا صادقا، فقد كفر النصارى، وأمر بجهادهم، وتبرأ منهم ومن دينهم، وإن كان كاذبا لم يقبل شيء مما نقله عن الله عز وجل.

وقد تقدم غير مرة قوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة؛

لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم؛

وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

فمن يقول عن النصارى مثل هذه الأقوال هل يأمر أمته في كل صلاة أن يقولوا: اهدنا طريقهم؟

ثم يقال: أي شيء في الآية مما يدل على أن قوله: صراط الذين أنعمت عليهم، هم النصارى؟

وإنما المنعم عليهم هم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى: ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.

فهؤلاء هم الذين أمر الله عباده أن يسألوا هداية صراطهم.

وأما النصارى الذين كانوا على دين المسيح قبل النسخ والتبديل فهم من المنعم عليهم، كما أن اليهود الذين كانوا على دين موسى قبل النسخ والتبديل كانوا من المنعم عليهم.

وأما النصارى بعد النسخ والتبديل فهم من الضالين، لا من المنعم عليهم عند الله ورسوله، كما قال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وقال تعالى: أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين.

وعباد الأصنام من الضالين المغضوب عليهم، وقد قال النبي ﷺ اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون رواه الإمام أحمد والترمذي عن عدي بن حاتم عن النبي ﷺ وقال الترمذي: هذا حديث صحيح.

وسبب ذلك أن اليهود يعرفون الحق ولا يعملون به، والنصارى يعبدون بلا علم، وقد وصف الله اليهود بأعمال، والنصارى بأعمال، فوصف اليهود بالكبر والبخل والجبن والقسوة وكتمان العلم وسلوك سبيل الغي وهو سبيل الشهوات والعدوان.

وذكر عن النصارى الغلو والبدع في العبادات والشرك والضلال واستحلال محارم الله، فقال تعالى:

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا * لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا * فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

وقال تعالى: ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها.

أي لكن كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله، لم نكتب عليهم الرهبانية، بل هم ابتدعوها ومع ابتداعهم إياها فما رعوها حق رعايتها، وكل بدعة ضلالة فهم مذمومون على ابتداع الرهبانية وعلى أنهم لم يرعوها حق رعايتها.

وأما ما كتب عليهم من ابتغاء رضوان الله فيحصل بفعل ما شرعه الله لهم من واجب ومستحب، فإن ذلك هو الذي يرضاه، ومن فعل ما يرضاه الله فقد فعل ما كتب عليه، ويحصل رضوان الله أيضا بمجرد فعل الواجبات، وهذا هو الذي كتب على العباد، فإذا لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله كان ابتغاء رضوانه واجبا، فما ليس بواجب لا يشترط في حصول ما كتب عليهم.

ولهذا ضعف أحمد بن حنبل وغيره الحديث المروي: أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله، فإن من صلى في آخر الوقت كما أمر فقد فعل الواجب، وبذلك يرضى الله عنه وإن كان فعل المستحبات والمسابقة إلى الطاعات أبلغ في إرضاء الله، ويحصل له بذلك من رضوان الله ومحبته ما لا يحصل بمجرد الواجبات.

كما قال موسى : وعجلت إليك رب لترضى.

وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره عن أبي هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي فلئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض روح عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته، ولا بد له منه فقوله حتى أحبه يريد المحبة المطلقة الكاملة.

وأما أصل المحبة: فهي حاصلة بفعل الواجبات، فإن الله يحب المتقين والمقسطين، ومن أدى الواجبات فهو من المتقين المقسطين.

وقال تعالى فيهم: وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون * اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وهو - سبحانه - خاطب النصارى بهذا لأن النصارى يعتمدون في دينهم على ما يقوله كبراؤهم الذين وضعوا لهم القوانين والنواميس ويسوغون لأكابرهم الذين صاروا عندهم عظماء في الدين أن يضعوا لهم شريعة وينسخوا بعض ما كانوا عليه قبل ذلك، لا يردون ما يتنازعون فيه من دينهم إلى الله ورسله، بحيث لا يمكنون أحدا من الخروج عن كتب الله المنزلة كالتوراة والإنجيل وعن اتباع ما جاء به المسيح، ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام.

ولهذا قال تعالى: قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليكم من ربكم.

بل ما وضعه لهم أكابرهم من القوانين الدينية والنواميس الشرعية بعضها ينقلونه عن الأنبياء، وبعضها عن الحواريين، وكثير من ذلك ليس منقولا، لا عن الأنبياء، ولا عن الحواريين، بل من وضع أكابرهم وابتداعهم.

كما ابتدعوا لهم الأمانة التي هي أصل عقيدتهم، وابتدعوا لهم الصلاة إلى الشرق، وابتدعوا لهم تحليل لحم الخنزير، وسائر المحرمات، وابتدعوا لهم الصوم وقت الربيع، وجعلوه خمسين يوما، وابتدعوا لهم أعيادهم، كعيد الصليب، وغيره من الأعياد.

وكذلك قال النبي ﷺ لعدي بن حاتم لما سمعه يقرأ هذه الآية: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. فقال: لم يعبدوهم، فقال له النبي ﷺ: إنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم، فكانت تلك عبادتهم.

ولهذا قال تعالى: ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل. فإنهم يتبعون أهواء أكابرهم الذين مضوا من قبلهم، وأولئك ضلوا من قبل هؤلاء وأضلوا أتباعهم، وهم كثيرون، وضلوا عن سواء السبيل، وهو وسط السبيل، وهو الصراط المستقيم، فإن كانوا هم وأتباعهم ضالين عن الصراط المستقيم، فكيف يجوز أن يأمر الله عباده أن يسألوه أن يهديهم الصراط المستقيم، ويعني به صراط هؤلاء الضالين المضلين عن سواء السبيل، وهو الصراط المستقيم.

وقد قال - سبحانه -: ولا تتبعوا أهواء هؤلاء لأن أصل ابتداعهم هذه البدعة من أنفسهم مع ظن كاذب، فكانوا ممن قيل فيهم: إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى. وممن قيل فيه: ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله.

وسبب ذلك أن المسيح ﷺ لما رفع إلى السماء وعاداه اليهود، وعادوا أتباعه عداوة شديدة، وبالغوا في أذاهم وإذلالهم وطلب قتلهم ونفيهم، صار في قلوبهم من بغض اليهود، وطلب الانتقام منهم ما لا يوصف، فلما صار لهم دولة وملك مثل ما صار لهم في دولة قسطنطين، صاروا يريدون مقابلة اليهود.

كما جرت العادة في مثل ذلك بين الطوائف المتقابلة المتنازعين في الملك، والمتنازعين في البدع كالخوارج، والروافض، والجبرية مع القدرية والمعطلة مع الممثلة، وكالدولتين المتنازعتين على الملك والأهواء بمنزلة قيس ويمن، وأمثال ذلك. إذا ظهرت طائفة على الأخرى بعدما آذتها الأخرى وانتقمت منها تريد أن تأخذ بثأرها، ولا تقف عند حد العدل، بل تعتدي على تلك كما اعتدت تلك عليها.

فصار النصارى يريدون مناقضة اليهود فأحلوا ما يحرمه اليهود كالخنزير وغيره، وصاروا يمتحنون من دخل في دينهم بأكل الخنزير، فإن أكله وإلا لم يجعلوه نصرانيا. وتركوا الختان، وقالوا: إن المعمودية عوض عنه، وصلوا إلى قبلة غير قبلة اليهود.

وكان اليهود قد أسرفوا في ذم المسيح وزعموا أنه ولد زنا، وأنه كذاب ساحر. فغلوا هؤلاء في تعظيم المسيح، وقالوا: إنه الله وابن الله، وأمثال ذلك، وصار من يطلب أن يقول فيه القول العدل مثل كثير من علمائهم وعبادهم، يجمعون له مجمعا ويلعنونه فيه على وجه التعصب، واتباع الهوى، والغلو فيمن يعظمونه، كما يجري مثل ذلك لأهل الأهواء، كالفلاة في بعض المشايخ، وبعض أهل البيت، وبعض العلماء وبعض الملوك، وبعض القبائل وبعض المذاهب، وبعض الطرائق، فإنما كان مصدر ضلالهم أهواء نفوسهم، قال تعالى للنصارى الذين كانوا في وقت النبي ﷺ، ومن بعدهم: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

وأما قولهم إن الصراط هو المذهب أي الطريق، وهذه لفظة رومية لأن الطريق بالرومية اسطراطا.

فيقال لهم: الصراط في لغة العرب: هو الطريق يقال هو الطريق الواضح ويقال هو الطريق المحدود بجانبين الذي لا يخرج عنه، ومنه الصراط المنصوب على جهنم، وهو الجسر الذي يعبر عليه المؤمنون إلى الجنة، وإذا عبر عليه الكفار سقطوا في جهنم، ويقال فيه: معنى الاستواء والاعتدال الذي يوجب سرعة العبور عليه، وفيه ثلاث لغات، هي ثلاث قراءات: الصراط، والسراط، والزراط، وهي لغة عربية عرباء ليست من المعرب، ولا مأخوذة من لغة الروم كما زعموا.

ويقال أصله من قولهم: سرطت الشيء أسرطه سرطا، إذا ابتلعته واسترطته ابتلعته، فإن المبتلع يجري بسرعة في مجرى محدود.

ومن أمثال العرب: لا تكن حلوا فتسترط، ولا مرا فتعفى، من قولهم: أعفيت الشيء، إذا أزلته من فيك لمرارته، ويقال فلان يسترط ما يأخذ من الدين.

وحكى يعقوب بن السكيت: الأخذ سريط، والقضاء ضريط، والسرطاط: الفالوذج، لأنه يسترط استراطا، وسيف سراطي، أي قاطع فإنه ماض سريع المذهب في مضربه.

فالصراط: هو الطريق المحدود المعتدل الذي يصل سالكه إلى مطلبه بسرعة، وقد ذكر الله لفظ الصراط في كتابه في غير موضع، ولم يسم الله سبيل الشيطان سراطا، بل سماها سبلا، وخص طريقه باسم الصراط، كقوله تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

وفي السنن عن عبد الله بن مسعود قال: خط لنا رسول الله ﷺ خطا، وخط خطوطا عن يمينه وشماله، ثم قال: هذا سبيل الله وهذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه من أجابه قذفه في النار ثم قرأ: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.

فسمى - سبحانه - طريقه صراطا، وسمى تلك سبلا، ولم يسمها صراطا كما سماها سبيلا، وطريقه يسميه سبيلا كما يسميه صراطا.

وقال تعالى: عن موسى وهارون: وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم.

وقال تعالى: إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا.

وهذه الهداية الخاصة التي أعطاه إياها بعد فتح الحديبية أخص مما تقدم فإن السالك إلى الله لا يزال يتقرب إليه بشيء بعد شيء، ويزيده الله هدى بعد هدى، وأقوم الطريق وأكملها الطريق التي بعث الله بها نبيه محمدا ﷺ كما قال تعالى: إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم.

فصل: بيان أن تفسيرهم للتثليث تفسير باطل

قال الحاكي عنهم: فقلت: إنهم ينكرون علينا في قولنا، أب وابن، وروح قدس، وأيضا في قولنا إنهم ثلاثة أقانيم، وأيضا في قولنا إن المسيح رب وإله وخالق، وأيضا يطلبون منا إيضاح تجسيد تجسم كلمة الله الخالق بإنسان مخلوق.

أجابوا قائلين: لو علموا قولنا هذا إنما نريد به القول الذي يعني أن الله شيء حي ناطق لما أنكروا علينا ذلك، لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب.

فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي عنه العدم، ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجملهما، فقلنا: هو شيء حي، لننفي الموت عنه، ورأينا الحي ينقسم قسمين: حي ناطق، وحي غير ناطق، فوصفناه بأفضلهما، فقلنا: هو شيء حي ناطق لننفي الجهل عنه.

والثلاثة أسماء وهي إله واحد، مسمى واحد، ورب واحد، خالق واحد شيء حي ناطق، أي الذات والنطق والحياة، فالذات عندنا الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والنطق الابن الذي هو مولود منه لولادة النطق من العقل، والحياة روح القدس، وهذه أسماء لم نسمه نحن بها.

والجواب من وجوه:

أحدها: قولهم: أما قولنا أب، وابن، وروح قدس، فلو علموا قولنا هذا إنما نريد به تصحيح القول بأن الله حي ناطق لما أنكروا ذلك علينا، فيقال: ليس الأمر كما ادعوه فإن النصارى يقولون: إن هذا القول تلقوه عن الإنجيل، وإن في الإنجيل عن المسيح - صلوات الله عليه وسلامه - أنه قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن وروح القدس فكان أصل قولهم هو ما يذكرونه من أنه متلقى من الشرع المنزل لا أنهم أثبتوا الحياة والنطق بمعقولهم، ثم عبروا عنها بهذه العبارات، كما ادعوه في مناظرتهم.

ولو كان الأمر كذلك لما احتاجوا إلى هذه العبارة، ولا إلى جعل الأقانيم ثلاثة، بل معلوم عندهم، وعند سائر أهل الملل أن الله موجود حي عليم، قدير متكلم لا تختص صفاته بثلاثة، ولا يعبر عن ثلاثة منها بعبارة لا تدل على ذلك، وهو لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، فإن هذه الألفاظ لا تدل على ما فسروها به في لغة أحد من الأمم، ولا يوجد في كلام الأنبياء أنه عبر بهذه الألفاظ عما ذكروه من المعاني، بل إثبات ما ادعوه من التثليث والتعبير عنه بهذه الألفاظ هو مما ابتدعوه لم يدل عليه لا شرع ولا عقل.

وهم يدعون أن التثليث والحلول والاتحاد إنما صاروا إليه من جهة الشرع، وهو نصوص الأنبياء والكتب المنزلة، لا من جهة العقل، وزعموا أن الكتب الإلهية نطقت بذلك، ثم تكلفوا لما ظنوه مدلول الكتاب طريقا عقلية، فسروه بها تفسيرا ظنوه جائزا في العقل ولهذا نجد النصارى لا يلجئون في التثليث والاتحاد إلا إلى الشرع والكتب وهم يجدون نفرة عقولهم وقلوبهم عن التثليث والاتحاد والحلول فإن فطرة الله التي فطر الناس عليها وما جعله الله في قلوب الناس من المعارف العقلية التي قد يسمونها ناموسا عقليا طبيعيا يدفع ذلك وينفيه وينفر عنه ولكن يزعمون أن الكتب الإلهية جاءت بذلك وأن ذلك أمر يفوق العقل وأن هذا الكلام من طور وراء طور العقل فينقلونه لظنهم أن الكتب الإلهية أخبرت به، لا لأن العقول دلت عليه، مع أنه ليس في الكتب الإلهية ما يدل على ذلك، بل فيها ما يدل على نقيضه كما سنذكره - إن شاء الله تعالى -، ولا يميزون بين ما يحيله العقل ويبطله ويعلم أنه ممتنع، وبين ما يعجز عنه العقل فلا يعرفه ولا يحكم فيه بنفي ولا إثبات، وأن الرسل أخبرت بالنوع الثاني: ولا يجوز أن تخبر بالنوع الأول، فلم يفرقوا بين محالات العقول ومحارات العقول، وقد ضاهوا في ذلك من قبلهم من المشركين الذين جعلوا لله ولدا شريكا.

قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وقد ضاهاهم في ذلك أهل البدع والضلال المشبهون لهم من المنتسبين إلى الإسلام الذين يقولون: نحو قولهم من الغلو في الأنبياء وأهل البيت والمشايخ وغيرهم، ومن يدعي الوحدة أو الحلول أو الاتحاد الخاص المعين كدعوى النصارى ودعوى الغالية من الشيعة في علي وطائفة من أهل البيت كالنصيرية ونحوهم ممن يدعي إلهية علي، وكدعوى بعض الإسماعيلية الإلهية في الحاكم وغيره من بني عبد الله بن ميمون القداح المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر.

ودعوى كثير من الناس نحو ذلك في بعض الشيوخ، إما المعروفين بالصلاح، وإما من يظن به الصلاح وليس من أهله، فإن لهم أقوالا من جنس أقوال النصارى، وبعضها شر من أقوال النصارى.

وعامة هؤلاء إذا خوطبوا ببيان فساد قولهم قالوا من جنس قول النصارى، هذا أمر فوق العقل، ويقول بعضهم ما كان يقوله التلمساني لشيخ أهل الوحدة، يقول: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح النقل ويقولون: لمن أراد أن يسلك سبيلهم: دع العقل والنقل، أو اخرج من العقل والنقل.

وينشدون فيهم:

مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أقدامه يسجد العقل

هم معشر حلوا النظام وحرقوا السياج فلا فرض لديهم ولا نقل

وهؤلاء مقلدون لمشايخهم متبعون لهم فيما يخرجون به عن شريعة الرسول، وما ابتدعوه مما لم يأذن به الله باتخاذ البدع عبادات، واستحلال المحرمات كتقليد بعض النصارى لشيوخهم، وإذا اعترض على أحد منهم يقولون: الشيخ يسلم له حاله، ولا يعترض عليه كما يقول النصارى لشيوخهم ومن هؤلاء من يقول نحن أولاد الله، ويقول: المسيح هو ولد الله، وينطق أيضا، بلفظ الشهوة، فيقول إنهم أولاد شهوة، ويقول: إنه زوج مريم، كما يقول ذلك من يقوله من النصارى.

وغاية ما عندهم أنهم يحكون عن شيوخهم نوعا من خرق العادات، قد يكون كذبا، وقد يكون صدقا، وإذا كانت صدقا فقد يكون من أحوال أولياء الشيطان كالسحرة والكهان، وقد يكون من أحوال أولياء الرحمن، وإذا كانت من أحوال أولياء الرحمن لم يكن في ذلك ما يوجب تقليد الولي في كل ما يقوله، إذ الولي لا يجب أن يكون معصوما، ولا يجب اتباعه في كل ما يقوله، ولا الإيمان بكل ما يقوله.

وإنما هذا من خصائص الأنبياء الذين يجب الإيمان بكل ما يقولونه فيجب تصديقهم في كل ما يخبرون به من الغيب، وطاعتهم فيما أوجبوه على الأمم، ومن كفر بشيء مما جاءوا به فهو كافر، ومن سب نبيا واحدا وجب قتله، وليس هذا لغير الأنبياء من الصالحين.

فهؤلاء المبتدعة الغلاة المشركون القائلون بنوع من الحلول هم مضاهئون للنصارى بقدر ما شابهوهم فيه، وخالفوا فيه دين المسلمين ومنهم من تكون موافقته لدين المسلمين أكثر، وأما الغلاة منهم فموافقتهم للنصارى أكثر، ومنهم من هو أكفر من النصارى، ولما كان مستند النصارى هو ما ينقلونه إما عن الأنبياء، وإما عن غيرهم ممن يوجبون اتباعه كانوا إذا أوردوا على علمائهم ما يقتضي امتناع ذلك قالوا هكذا في الكتاب، وبهذا نطق الكتاب وهذه الكتب جاءت بها الرسل، يعنون المؤيدين بالمعجزات، ويعنون بالرسل الحواريين فاعتصامهم بها إنما هو لما ظنوه مذكورا في الكتب الإلهية، وإن رأوه مخالفا لصريح المعقول.

ولهذا ينهون جمهورهم عن البحث والمناظرة في ذلك، لعلمهم بأن العقل الصريح متى تصور دينهم علم أنه باطل، فدعوى المدعين أنا إنما قلنا أب وابن وروح قدس لتصحيح القول بأن الله حي ناطق كذب ظاهر، وهم يعلمون أنه كذب، وتصحيح القول بأن الله حي متكلم، لا يقف على هذه العبارة، بل يمكنه تصحيح ذلك بالأدلة الشرعية والسمعية والعقلية، والتعبير عنه بالعبارات البينة كما يقوله المسلمون وغيرهم بدون قولنا أب وابن وروح قدس.

ومما يبين ذلك الوجه الثاني: وهو أن النصارى - المقرون بأن هذه العبارة في الإنجيل المأخوذ عن المسيح - مختلفون في تفسير هذا الكلام، فكثير منهم يقول الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو الحياة.

ومنهم من يقول: بل الأب هو الوجود، والابن هو الكلمة، وروح القدس هو القدرة.

وبعضهم يقول: إن الأقانيم الثلاثة: جواد حكيم قادر، فيجعل الأب هو الجواد، والابن هو الحكيم، وروح القدس هو القادر، ويزعمون أن جميع الصفات تدخل تحت هذه الثلاثة، ويقولون: إنا استدللنا على وجوده بإخراجه الأشياء من العدم إلى الوجود، وذلك من جوده.

وقد رأيت في كتب النصارى هذا وهذا وهذا، ومنهم من يعبر عن الكلمة بالعلم، فيقولون: موجود حي عالم، أو موجود عالم قادر، كما يقول بعضهم: ناطق، ومنهم من يقول موجود حي حكيم، ومنهم من يقول قائم بنفسه حي حكيم، وهم متفقون على أن المتحد بالمسيح والحال فيه هو أقنوم الكلمة، وهو الذي يسمونه الابن دون الأب، ومن أنكر الحلول والاتحاد منهم كالأريوسية يقول: إن المسيح عبد مرسل، كسائر الرسل - صلوات الله عليهم وسلامه -، فوافقهم على لفظ: الأب، والابن، وروح القدس، ولا يفسر ذلك بما يقوله منازعوه من الحلول والاتحاد.

كما أن النسطورية يوافقونهم أيضا على هذا اللفظ، وينازعونهم في الاتحاد الذي يقوله اليعقوبية والملكية: فإذا كانوا متفقين على اللفظ متنازعين في معناه، علم أنهم صدقوا أولا باللفظ لأجل اعتقادهم مجيء الشرع به، ثم تنازعوا بعد ذلك في تفسير الكتاب، كما يختلفون هم وسائر أهل الملل في تفسير بعض الكلام الذي يعتقدون أنه منقول عن الأنبياء عليهم السلام، وعلم بذلك أن أصل قولهم: الأب، والابن، وروح القدس، لم يكن لأجل تصحيح القول بأن الله موجود حي ناطق الذي علموه أولا بالعقل.

يوضح هذا الوجه الثالث: وهو قولهم إنما لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها، إن كان المتكلم بهذا طائفة معينة من النصارى، فيقال لهؤلاء: القول بالأب، والابن، وروح القدس، موجود عند النصارى قبل وجودكم، وقبل نظركم هذا واستدلالكم، فلا يجوز أن يكون نظركم هو الموجب لقول النصارى هذا، وإن كان المراد به أن جميع النصارى من حين قالوا هذا الكلام نظروا واستدلوا حتى قالوا ذلك فهذا كذب بين، فإن هذا الكلام يقول النصارى إنهم تلقوه من الإنجيل، وأن المسيح قال: عمدوا الناس باسم الأب، والابن، وروح القدس.

والمسيح والحواريون لم يأمروهم بهذا النظر الموجب لهذا القول، ولا جعل المسيح هذا القول موقوفا عندهم على هذا البحث، فعلم أن جعلهم هذا القول ناشئا عن هذا البحث قول باطل يعلمون هم بطلانه.

الوجه الرابع: إن هذا القول: إن كان المسيح لم يقله فلا يجوز أن يقال، ولو عنى به الإنسان معنى صحيحا فإن هذه العبارة إنما يفهم منها عند الإطلاق المعاني الباطلة، ولهذا يوجد كثير من عوام النصارى يعتقدون أن المسيح ابن الله، البنوة المعروفة في المخلوقات، ويقولون: إن مريم زوجة الله وهذا لازم لعامة النصارى، وإن لم يقولوه فإن الذي يلد لابد له من زوجة.

ولهذا قال تعالى: أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم.

وجعل الرب والد المولود أنكر في العقول من إثبات صاحبة له سواء فسرت الولادة بالولادة المعروفة، أو بالولادة العقلية التي يقولها علماء النصارى، فإن من أثبت صاحبة له يمكنه تأويل ذلك، كما تأولوا هم الولد، ويقولون: إن الأب ولدت منه الكلمة،ومريم ولد منها الناسوت واتحد الناسوت باللاهوت، فكما أن الأب أب باللاهوت لا بالناسوت، ومريم أم للناسوت لا للاهوت، فكذلك هي صاحبة للأب بالناسوت، واللاهوت زوج مريم، بلاهوته، كما أنه أب للمسيح بلاهوته، وإذا اتحد اللاهوت بناسوت المسيح مدة طويلة، فلماذا يمتنع أن يجتمع اللاهوت بناسوت مريم مدة قصيرة، وإذا جعل الناسوت الذي ولدته ابنا للاهوت، فلأي شيء لا تجعل هي صاحبة وزوجة للاهوت فإن المسيح عندهم اسم لمجموع اللاهوت والناسوت، وهو عندهم إله تام وإنسان تام، فلاهوته من الله، وناسوته من مريم، فهو من أصلين: لاهوت وناسوت، فإذا كان أحد الأصلين أباه والآخر أمه، فلماذا لا تكون أمه زوجة أبيه بهذا الاعتبار، مع أن المصاحبة قبل البنوة؟ فكيف يثبت الفرع الملزوم بدون ثبوت الأصل اللازم؟

وليس في ذلك من المحال على أصلهم إلا ما هو من جنس إثبات بنوة المسيح، وأقل امتناعا، وإن كان المسيح قال هذا الكلام، فقد علمنا أن المسيح وغيره من الأنبياء معصومون لا يقولون: إلا الحق، وإذا قالوا قولا فلابد له من معنى صحيح.

ويمتنع أن يريدوا بقولهم ما يمتنع بطلانه بسمع أو عقل فإذا كانت العقول، ونصوص الكتب المتقدمة مع نصوص القرآن تناقض ما ابتدعته النصارى في المسيح، علم أن المسيح لم يرد معنى باطلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.

بل نقول في الوجه الخامس: إن صحت هذه العبارة عن المسيح المعصوم عليه الصلاة والسلام، فإنه أراد بذلك ما يناسب سائر كلامه، وفي الموجود في كتبهم تسمية الرب أبا وتسمية عباده أبناء، كما يذكرون أنه قال في التوراة ليعقوب: " إسرائيل " " أنت ابني بكري "، وقال لداود في الزبور: " أنت ابني وحبيبي "، وفي الإنجيل في غير موضع يقول المسيح: " أبي وأبيكم " كقوله إني أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم فيسميه أبا لهم كما يسميهم أبناء له، فإن كان هذا صحيحا، فالمراد بذلك أنه الرب المربي الرحيم، فإن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها، والابن هو المربى المرحوم، فإن تربية الله لعبده أكمل من تربية الوالدة لولدها فيكون المراد بالأب الرب، والمراد بالابن عنده المسيح الذي رباه.

وأما روح القدس: فهي لفظة موجودة في غير موضع من الكتب التي عندهم، وليس المراد بها حياة الله باتفاقهم، بل روح القدس عندهم تحل في إبراهيم وموسى وداود وغيرهم من الأنبياء الصالحين.

والقرآن قد شهد أن الله أيد المسيح بروح القدس، كما قال تعالى: وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس. في موضعين من البقرة.

وقال تعالى: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس.

وقد قال النبي ﷺ لحسان بن ثابت: إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه وقال: اللهم أيده بروح القدس كما تقدم ذكره هذا كله مبسوطا.

وروح القدس: قد يراد بها الملك المقدس كجبريل، ويراد بها الوحي، والهدى والتأييد الذي ينزله الله بواسطة الملك أو بغير واسطته، وقد يكونان متلازمين، فإن الملك ينزل بالوحي، والوحي ينزل به الملك، والله تعالى يؤيد رسله بالملائكة وبالهدى، كما قال تعالى عن نبيه محمد ﷺ: فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها. في موضعين من سورة " براءة ".

وقال الله تعالى: فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها.

وقال تعالى: إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا.

وقال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقال الله تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده.

وقال تعالى: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.

وقال: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا

وإذا كان روح القدس معروفا في كلام الأنبياء المتقدمين والمتأخرين أنها أمر ينزله الله على أنبيائه وصالحي عباده سواء كان ملائكة تنزل بالوحي والنصر أو وحيا وتأييدا مع الملك، وبدون الملك ليس المراد بروح القدس أنها حياة الله القائمة به كان المعصوم إن كان قال: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس مراده مروا الناس أن يؤمنوا بالله ونبيه الذي أرسله وبالملك الذي أنزل عليه الوحي الذي جاء به، فيكون ذلك أمرا لهم بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، وهذا هو الحق الذي يدل عليه صريح المعقول وصحيح المنقول.

فتفسير كلام المعصوم بهذا التفسير الذي يوافق سائر ألفاظ الكتب التي عندهم، ويوافق القرآن، ويوافق العقل، أولى من تفسيره بما يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول.

وهذا تفسير ظاهر ليس فيه تكلف، ولا هو من التأويل الذي هو صرف الكلام عن ظاهره إلى ما يخالف ظاهره، بل هو تفسير له بما يدل ظاهره عليه باللغة المعروفة والعبارة المألوفة في خطاب المسيح، وخطاب سائر الأنبياء.

أما تفسير النصارى بأن الابن مولود قديم أزلي هو العلم أو كلمة الله، فتفسير للفظ بما لم يستعمل هذا اللفظ فيه، لا في كلام أحد من الأنبياء ولا لغة أحد من الأنبياء، وكذلك تفسير روح القدس بحياة الله، فالذي فسر النصارى به ظاهر كلام المسيح هو تفسير لا تدل عليه لغة المسيح وعادته في كلامه، ولا لغة غيره من الأنبياء والأمم، بل المعروف في لغته وكلامه وكلام سائر الأنبياء تفسيره بما فسرناه، وبذلك فسره أكابر علماء النصارى.

وأما ضلال النصارى المحرفون لمعاني كتب الله عز وجل، فسروه بما يخالف معناه الظاهر وينكره العقل والشرع.

وتمام هذا بالوجه السادس: وهو أن النصارى لما كان عندهم في الكتب تسمية المسيح ابنا، وتسمية غيره من الأنبياء ابنا، كقوله ليعقوب: أنت ابني بكري، وتسمية الحواريين أبناء قالوا هو ابنه بالطبع، وغيره هو ابنه بالوضع، فجعلوا لفظ الابن مشتركا بين معنيين وأثبتوا لله طبعا، جعلوا المسيح ابنه باعتبار ذلك الطبع، وهذا يقرر قول من يفهم منهم أنه ابنه البنوة المعروفة في المخلوقين، وأن مريم زوجة الله.

وكذلك جعلوا روح القدس مشتركة بين حياة الله وبين روح القدس التي تنزل على الأنبياء والصالحين، ومعلوم أن الاشتراك على خلاف الأصل وأن اللفظ إذا استعمل في عدة مواضع كان جعله حقيقة متواطئا في القدر المشترك أولى من جعله مشتركا اشتراكا لفظيا بحيث يكون حقيقة في خصوص هذا، أو يكون مجازا في أحدهما، فإن المجاز والاشتراك على خلاف الأصل، هذا إن قدر أن لفظ الابن وروح القدس استعمل في نطق الله وحياته كما يزعم النصارى فكيف إذا لم يوجد في كلام الأنبياء أنهم قالوا لفظ الابن، ولفظ روح القدس، وأرادوا به شيئا من صفات الله لا كلامه ولا حياته ولا علمه ولا غير ذلك، بل لم يوجد استعمال لفظ الابن في كلام الأنبياء إلا في شيء مخلوق، ولم يوجد استعمال روح القدس كما هو من صفات الله القائمة به، ونحن إذا فسرنا الأب وروح القدس ببنوة التربية، وروح القدس بما ينزل على الأنبياء كنا قد جعلنا اللفظ مفردا متواطئا وهم يحتاجون أن يجعلوا اللفظ مشتركا أو مجازا في أحد المعنيين، فكان تفسيرهم مخالفا لظاهر اللغة التي خوطبوا بها، ولظاهر الكتب التي بأيديهم وتفسيرنا موافقا لظاهر لغتهم، وظاهر الكتب التي بأيديهم، وحينئذ فقد تبين أنه ليس معهم بالتثليث لا حجة سمعية ولا عقلية، بل هو باطل شرعا وعقلا.

ويؤيد هذا الوجه السابع: وهو أنهم في أمانتهم أثبتوا من المعاني ولفظ الأقانيم وغير ذلك ما لا تدل عليه الكتب التي بأيديهم البتة، بل فهموا منها معنى باطلا، وضموا إليه معاني باطلة من عند أنفسهم، فكانوا محرفين لكتب الله في ذلك، مفترين على الله الكذب، وهذا مبسوط في موضع آخر.

الوجه الثامن: أن قولهم بالأقانيم مع بطلانه في العقل والشرع لم ينطق به عندهم كتاب، ولم يوجد هذا اللفظ في شيء من كتب الأنبياء التي بأيديهم ولا في كلام الحواريين، بل هي لفظة ابتدعوها، ويقال: إنها رومية، وقد قيل: الأقنوم في لغتهم معناه الأصل، ولهذا يضطربون في تفسير الأقانيم تارة يقولون: أشخاص، وتارة خواص وتارة صفات وتارة جواهر وتارة يجعلون الأقنوم اسما للذات والصفة معا، وهذا تفسير حذاقهم.

الوجه التاسع: قولهم في المسيح إنه خالق، قول مع بطلانه في الشرع والعقل، قول لم ينطق به شيء من النبوات التي عندهم، ولكن يستدلون على ذلك بما لا يدل عليه كما سنبينه إن شاء الله تعالى.

الوجه العاشر: قولهم في تجسد اللاهوت - أيضا - هو قول مع بطلانه في العقل والشرع قول لا يدل عليه شيء من كلام المعصوم من النبيين والمرسلين

الوجه الحادي عشر: إنا نقول: لا ريب أن الله حي عالم قادر متكلم، وللمسلمين على ذلك من الدلائل العقلية التي دل الرسول عليها وأرشد إليها فصارت معروفة بالعقل مدلولا عليها بالشرع ما هو مبسوط في موضعه، وأنتم مع دعواكم أنكم تثبتون ذلك بالعقل، لم تذكروا على ذلك دليلا عقليا.

فقولكم لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها إذ لا يمكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، كلام قاصر من وجوه:

أحدها: أنكم لم تروا حدوث جميع المخلوقات، وإنما رأيتم حدوث ما يشهد حدوثه كالسحاب والمطر والحيوان والنبات ونحو ذلك، فأين دليلكم على حدوث سائر الأشياء؟

الثاني: أنه كان ينبغي أن تقولوا لما علم حدوث المحدثات، أو حدوث المخلوقات أو حدوث ما سوى الله ونحو ذلك مما يبين أن المحدث ما سوى الله، فأما إطلاق حدوث جميع الأشياء فباطل، فإن الله يسمى عندكم وعند جمهور المسلمين شيئا من الأشياء، وهذا بخلاف قوله تعالى: قل الله خالق كل شيء.

فإن هذا التركيب يبين أن الخالق غير المخلوق خلاف قول القائل حدوث الأشياء.

الثالث: أن العلم بأن المحدث لابد له من محدث، علم فطري ضروري، ولهذا قال الله تعالى في القرآن: أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون.

قال جبير بن مطعم: لما سمعت النبي ﷺ يقرأ بها في صلاة المغرب أحسست بفؤادي قد انصدع، يقول تعالى: أخلقوا من غير خالق خلقهم أم هم الخالقون لأنفسهم.

ومعلوم بالفطرة التي فطر الله عليها عباده بصريح العقل أن الحادث لا يحدث إلا بمحدث أحدثه.

وإن حدوث الحادث بلا محدث أحدثه معلوم البطلان بضرورة العقل وهذا أمر مركوز في بني آدم حتى الصبيان، لو ضرب الصبي ضربة فقال: من ضربني؟ فقيل: ما ضربك أحد، لم يصدق عقله أن الضربة حدثت من غير فاعل.

ولهذا لو جوز مجوز أن يحدث كتابة أو بناء أو غراس ونحو ذلك من غير محدث لذلك، لكان عند العقلاء إما مجنونا وإما مسفسطا كالمنكر للعلوم البديهية والمعارف الضرورية، وكذلك معلوم أنه لم يحدث نفسه، فإن كان معدوما قبل حدوثه لم يكن شيئا فيمتنع أن يحدث غيره فضلا عن أن يحدث نفسه.

فقولكم لم يكن حدوثها من ذواتها لما فيها من التضاد والتقلب، تعليل باطل فإن علمنا بأن حدوثها لم يكن من ذواتها ليس لأجل ما فيها من التضاد والتقلب، بل سواء كانت متماثلة أو مختلفة أو متضادة، نحن نعلم بصريح العقل أن المحدث لا يحدث نفسه، وهذا من أظهر المعارف وأبينها للعقل، كما يعلم أن العدم لا يخلق موجودا، وأن المحدث للحوادث الموجودة لا يكون معدوما.

الوجه الرابع: أنكم ذكرتم حجة على أنها لم تحدث نفسها، وهي حجة ضعيفة ولم تذكروا حجة على أنها حدثت، بلا محدث، لا أنفسها ولا غيرها، فإن كان امتناع كونها أحدثت نفسها محتاجا إلى دليل، فكذلك امتناع حدوثها، بلا محدث، وإن كان معلوما ببديهة العقل، وهو من العلوم الضرورية، فكذلك الآخر، فذكر الدليل على أحدهما دون الآخر خطأ لو كنتم ذكرتم دليلا صحيحا، فكيف إذا كان الدليل باطلا؟ ومن يكون مبلغهم من العلم بالأدلة العقلية التي يثبتون بها العلم بالصانع وصفاته هذا المبلغ؟ ثم يريدون مع ذلك أن يثبتوا معاني عقلية ويزعمون أنها موافقة لفهمهم الباطل من الكتب الإلهية، فهم ممن قال الله فيهم:

والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب * أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

الوجه الثاني عشر: قولكم: فقلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء، لننفي عنه العدم.

فيقال لهم: لا ريب أن الله كما وصف نفسه بقوله تعالى: ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.

وقوله: فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا. أي مثلا يستحق أن يسمى بأسمائه،

وقوله تعالى: قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد.

وقد دل على ذلك العقل، فإن المثلين اللذين يسد أحدهما مسد الآخر يجب لأحدهما ما يجب للآخر ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجوز عليه ما يجوز عليه، فلو كان للخالق مثل للزم أن يشتركا فيما يجب، ويجوز ويمتنع.

والخالق يجب له الوجود والقدم، ويمتنع عليه العدم، فيلزم أن يكون المخلوق واجب الوجود قديما أزليا لم يعدم قط، وكونه محدثا مخلوقا يستلزم أن يكون كان معدوما، فيلزم أن يكون موجودا معدوما قديما محدثا، وهو جمع بين النقيضين يمتنع في بداية العقول، وأيضا فالمخلوق يمتنع عليه القدم، ويجب له سابقة العدم، فلو وجب للخالق القديم ما يجب له، لوجب كون الواجب للقدم واجب الحدوث بعد العدم وهذا جمع بين النقيضين، فالعقل الصريح يجزم بأن الله ليس كمثله شيء، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر لكن أنتم لم تذكروا على ذلك حجة، (بل قلتم إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة، إذ هو الخالق لكل شيء فلم تذكروا حجة) على أنه خالق كل شيء، إذ كان عمدتكم على ما شهدتم حدوثه وليس ذلك كل شيء، ولم تذكروا حجة مع كونه خالق كل شيء على أنه ليس كمثله شيء، بل قلتم لأننا معشر النصارى لما رأينا حدوث الأشياء علمنا أن شيئا غيرها أحدثها لما فيها من التضاد والتقلب فقلنا: إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة إذ هو الخالق لكل شيء، وذلك لننفي العدم عنه، ودليلكم لو دل على العلم بالصانع لم يدل إلا على أنه خالق فكيف إذا لم يدل؟

ولا ريب أن الخالق سبحانه يجب أن يكون موجودا لا معدوما، وهذا معلوم بالضرورة لا يحتاج إلى دليل عند جمهور العقلاء والنظار وإن كان بعضهم أثبت وجوده بالدليل النظري، لكن ليس في دليلكم ما يدل على أنه ليس كالأشياء المخلوقة، وقولكم: إذ هو الخالق لكل شيء يتضمن أنه خالق لكل ما سواه، ليس فيه بيان نفي للمماثلة عنه، ولكن بينتم بهذا الكلام جهلكم بالدلائل العقلية كجهلكم بالكتب المنزلة، وكذلك أخبر تعالى عن أهل النار بأنهم يقولون: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

فصل: دلائل حياة الله

وأما قولكم: ورأينا الأشياء المخلوقة تنقسم قسمين: شيء حي، وشيء غير حي، فوصفناه بأجل القسمين فقلنا إنه حي لننفي الموت عنه.

فيقال: لا ريب أن الله حي كما نطقت بذلك كتبه المنزلة التي هي آياته القولية، ودلت على ذلك آياته كمخلوقاته، التي هي آياته الفعلية، قال تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. أي القرآن حق،

وقد تقدم ذكر القرآن في قوله: قل أرأيتم إن كان من عند الله ثم كفرتم به من أضل ممن هو في شقاق بعيد.

فالله تعالى يري عباده من آياته المشاهدة المعاينة الفعلية، ما يبين صدق آياته المنزلة المسموعة القولية.

قال تعالى: الله لا إله إلا هو الحي القيوم

وقال تعالى: وتوكل على الحي الذي لا يموت.

والدلائل على حياته كثيرة:

منها: أنه قد ثبت أنه عالم، والعلم لا يقوم إلا بحي، وثبت أنه قادر مختار يفعل بمشيئته، والقادر المختار لا يكون إلا حيا.

ومنها: أنه خالق الأحياء وغيرهم، والخالق أكمل من المخلوق، فكل كمال ثبت للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من خالقه، وكماله أكمل منه.

والمتفلسفة القائلون بالموجب بالذات يسلمون هذا، ويقولون: كمال المعلول مستفاد من علته فإذا كان خالقا للأحياء كان حيا بطريق الأولى والأحرى.

ومنها: أن الحي أكمل من غير الحي، كما قال تعالى: وما يستوي الأحياء ولا الأموات.

فلو كان الخالق غير حي لزم أن يكون الممكن المحدث المخلوق أكمل من الواجب القديم الخالق، فيكون أنقص الموجودين أكمل من أكملها، وهذا الوجه يتناول ما ذكروه من الدليل، وإن كانوا لم يبينوه بيانا تاما، لكن قولهم قلنا إنه حي لننفي الموت عنه.

كلام مستدرك فإن الله موصوف بصفات الكمال الثبوتية كالحياة والعلم والقدرة، فيلزم من ثبوتها سلب صفات النقص، وهو سبحانه لا يمدح بالصفات السلبية إلا لتضمنها المعاني الثبوتية، فإن العدم المحض والسلب الصرف لا مدح فيه ولا كمال، إذ كان المعدوم يوصف بالعدم المحض، والعدم نفي محض لا كمال فيه، إنما الكمال في الوجود.

ولهذا جاء كتاب الله تعالى على هذا الوجه فيصف سبحانه نفسه بالصفات الثبوتية صفات الكمال وبصفات السلب المتضمنة للثبوت كقوله: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم.

فنفي أخذ السنة والنوم يتضمن كمال حياته وقيوميته، إذ النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون مع كمال الراحة، كما لا يموتون.

والقيوم: القائم المقيم لما سواه، فلو جعلت له سنة أو نوم لنقصت حياته وقيوميته، فلم يكن قائما ولا قيوما، كما ضرب الله المثل لبني إسرائيل، لما سألوا موسى: هل ينام ربك؟ فأرقه ثلاثا، ثم أعطاه قوارير فأخذه النوم فتكسرت.

بين بهذا المثل أن خالق العالم لو نام لنفد العالم، ثم قال تعالى: له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه.

فإنكاره ونفيه أن يشفع أحد عنده إلا بإذنه يتضمن كمال ملكه لما في السماوات وما في الأرض، وأنه ليس له شريك، فإن من شفع عنده غيره بغير إذنه وقبل شفاعته كان مشاركا له إذ صارت شفاعته سببا لتحريك المشفوع إليه، بخلاف من لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه فإنه منفرد بالملك ليس له شريك بوجه من الوجوه.

ثم قال تعالى: يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء. فنفى أن يعلم أحد شيئا من علمه إلا بمشيئته ليس إلا أنه منفرد بالتعليم، فهو العالم بالمعلومات، ولا يعلم أحد شيئا إلا بتعليمه، كما قالت الملائكة: لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم

ثم قال تعالى: وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما. أي لا يكرثه ولا يثقل عليه، فبين بذلك كمال قدرته، وأنه لا يلحقه أدنى مشقة، ولا أيسر كلفة في حفظ المخلوقات، كما قال تعالى في الآية الأخرى: ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب. بين بذلك كمال قدرته وأنه لا يلحقه اللغوب في الأعمال العظيمة مثل خلقه السماوات والأرض، كما يلحق المخلوق اللغوب إذا عمل عملا عظيما، واللغوب: الانقطاع والإعياء، وهذا باب واسع مبسوط في موضع آخر.

والمقصود هنا أنه موصوف بصفات الكمال التي يستحقها بذاته ويمتنع اتصافه بنقائضها، وإذا وصف بالسلوب، فالمقصود هو إثبات الكمال، وهؤلاء قالوا: قد وصفناه بالحياة لننفي عنه الموت، كما قالوا: هو شيء لننفي العدم عنه، والحياة صفة كمال يستحقها بذاته، والموت مناقض لها، فلم يوصف بالحياة لأجل نفي الموت، بل وصفه بالحياة يستلزم نفي الموت، فينفي عنه الموت لأنه حي، لا يثبت له الحياة لنفي الموت، وكذلك لتثبت له أنه شيء موجود، وذلك يستلزم نفي العدم عنه، لا أن إثبات وجوده لأجل نفي العدم، بل نفي العدم عنه لأجل وجوده، كما أن نفي الموت عنه لأجل حياته، وكذلك قولهم: قلنا إنه شيء لا كالأشياء المخلوقة وذلك لننفي العدم عنه، لكن كان مرادهم والله أعلم - وإن كانت عبارتهم قاصرة - إثبات الوجود، ونفي العدم، وإثبات الحياة ونفي الموت.

فصل: طرق معرفة صفات الله

ثم قالوا: ورأينا الحي ينقسم قسمين: حيا ناطقا، وحيا غير ناطق فوصفناه بأفضل الوصفين، فقلنا: إنه ناطق لننفي الجهل عنه.

فيقال لهم: لا ريب أن الرب سبحانه موصوف بأنه حي عليم قدير متكلم مختار، لكن قولهم: فقلنا إنه ناطق لننفي الجهل عنه يقتضي أنكم أردتم النطق المناقض للجهل، وهذا هو العلم، فإن العلم يناقض الجهل لم تريدوا بذلك النطق الذي هو العبارة والبيان، ولم تريدوا بذلك ما جعله بعض النظار كلاما، وهي معاني قائمة بالنفس ليست من جنس العلوم، ولا من جنس الإرادات، وحينئذ فيقال لكم: ليس في الأحياء إلا ما هو شاعر، فكل حي فله شعور بحسبه.

وكلما قويت الحياة قوي شعورها، وشعور الحيوان قد يعبر عنه بلفظ العلم، كما يقول الناس: علم الفهد والبازي والكلب، ويقال: كلب معلم وغير معلم وبازي معلم.

وقال تعالى: وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله.

وقال النبي ﷺ: إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله فقتل فكل ولا ريب أن العلم صفة كمال، فالعالم أكمل من الجاهل، والدلائل الدالة على علم الله كثيرة، مثل أنه سبحانه خالق كل شيء بإرادته.

والإرادة تستلزم تصور المراد فلابد أن يعلم المخلوقات قبل أن يخلقها.

وكل ما وجد في الخارج فهو موجود وجودا معينا يمتاز به عن غيره، فإذا خلقها كذلك فلابد أن يعلمها علما مفصلا يمتاز به كل معلوم عما سواه، ولو قدر أنه علمها على وجه كلي فقط لم يكن علم منها شيئا،

لأن الكلي إنما يكون كليا في الأذهان، وأما ما هو موجود في الخارج فهو معين مختص بعينه ليس بكلي.

وكل واحد من الأفلاك معين، فلو لم يعلم إلا الكليات لم يكن عالما بشيء من الموجودات، وقد بسط في غير هذا الموضع تمام الكلام على هذا وبين فساد شبه نفاة ذلك بما ادعوه من لزوم التغيير أو التكثر، وبين أنه لا يلزم من ثبوت علم الله بالأشياء كلها على وجه التفصيل محذور ينفيه دليل صحيح.

فإن التكثر فيما يقوم به من المعاني هو مدلول الأدلة العقلية والسمعية فإنه عالم قادر حي، وليس العلم هو القدرة، ولا القدرة هي الحياة ولا الصفة هي الموصوف، ومن جعل كل صفة هي الأخرى، وجعل الصفات هي الموصوف، فهو قول في غاية السفسطة.

وأيضا فإنه خالق العالمين من الملائكة والجن والإنس، وجاعلهم علماء، فيمتنع أن يجعل غيره عالما من ليس هو في نفسه بعالم، فإن العلم صفة كمال، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم، وكل كمال للمخلوق فهو من الخالق، فيمتنع أن يكون المخلوق أكمل من الخالق، وأيضا فإن في الممكنات المحدثة المخلوقة ما هو عالم، والواجب القديم الخالق أكمل من الممكن المحدث، فيمتنع أن يتصف بالكمال الموجود الناقص الخسيس دون الموجود الكامل الشريف، وهذا يتناول معنى حجتهم.

وأيضا فإنه حي، والحياة مستلزمة لجنس العلم، وإذا كانت حياته أكمل من كل حياة فعلمه أكمل من كل علم، لكن يقال لكم: كما أنه حي عالم فهو أيضا قادر، فما ذكرتم بأن الموجودات أو الأحياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، فيجب أن يوصف بأجل القسمين، وهو القدرة.

لا سيما ودلائل كونه قادرا أظهر من دلائل كونه عالما، فإن نفس كونه خالقا فاعلا يستلزم كونه قادرا، فإن الفعل بدون القدرة ممتنع حتى إذا قيل: إن الجماد يفعل فإنما يفعل بقوة فيه كالقوى الطبيعية التي في الأجسام الطبيعية، فيمتنع في خالق العالم أن لا يكون له قوة، ولا قدرة، قال تعالى: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين.

وقال تعالى: أولم يروا أن الله الذي خلقهم هو أشد منهم قوة.

وفي صحيح البخاري حديث الاستخارة: اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب

وكثير من نظار المسلمين المصنفين في أصول الدين الذين يقيمون الدليل على كونه قادرا قبل كونه عالما وحيا، ويقولون: العلم بذلك أسبق في السلوك الاستدلالي النظري لدلالة الأحداث والفعل على قدرة المحدث الفاعل فيجب أن يثبتوا له صفة القدرة مع العلم. وكذلك يقولون: إن الحي لما كان ينقسم إلى سميع، وغير سميع، وبصير، وغير بصير، وصفناه بأشرف القسمين، وهو السميع والبصير.

وكذلك في النطق إذا أريد به البيان والعبارة، ولم يرد به مجرد العلم، أو معنى من جنس العلم فإن الحي ينقسم إلى متكلم، ومبين معبر عما في نفسه، وإلى ما ليس كذلك، فيجب أن تصفوه بأشرف القسمين، وهو الكلام المبين المعبر عنه عما في النفس من المعاني.

ومما يستدل به على ثبوت جميع صفات الكمال أنه لو لم يوصف بكونه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما لوصف بضد ذلك، كالموت والجهل والعجز والصمم والبكم والخرس، ومعلوم وجوب تقدسه عن هذه النقائص، بل هذا معلوم بالضرورة العقلية، فإنه أكمل الموجودات، وأجلها وأعظمها، ورب كل ما سواه وخالقه ومالكه، وجاعل كل ما سواه حيا عالما قادرا سميعا بصيرا متكلما، فيمتنع أن يكون هو شيئا عاجزا جاهلا أصم أبكم أخرس، بل من المعلوم بضرورة العقل أن المتصف بهذه النقائص يمتنع أن يكون فاعلا، فضلا عن أن يكون خالقا لكل شيء.

ولبعض الملاحدة من المتفلسفة ومن اتبعهم هنا سؤال مشهور وهو: أنه إنما يلزم إذا لم يتصف بصفات الكمال أن يوصف بأضدادها إذا كان قابلا لها، فأما إذا لم يكن قابلا لها لم يلزم. قالوا: هذه الصفات متقابلة تقابل العدم والملكة، وهو عدم الشيء عما من شأنه أن يكون قابلا له كعدم الحياة والسمع والبصر. والكلام عن الحيوان الذي هو القابل له، فإذا لم يكن قابلا له كالجماد، فلا يسمى مع عدم الحياة والسمع والبصر والكلام ميتا ولا أصم ولا أعمى ولا أخرس.

وجواب ذلك من أوجه:

أحدها: أنه إما أن يكون قابلا للاتصاف بصفات الكمال، وإما أن لا يكون. فإن لم يكن قابلا لزم أن يكون أنقص ممن قبلها، ولم يتصف بها، فالجماد أنقص من الحيوان الذي لم يتصف بعد بصفات كماله، وإن كان قابلا لها لزم إذا عدمها أن يتصف بأضدادها.

وهؤلاء قد يقولون: في إثباتها تشبيه له بالحيوان، فيقال لهم: وفي نفيها تشبيه له بالجماد الذي هو أنقص من الحيوان، فإذا لم يكن في نفيها تشبيه له بالجماد، فكذلك لا يكون في إثباتها تشبيه له بالحيوان، وإن كان في ذلك تشبيه بالحيوان فهو محذور، فالمحذور في تشبيهه بالجماد أعظم وإن لم يكن مثل هذا التشبيه محذورا في ذلك، فأن لا يكون محذورا في هذا بطريق الأولى.

الوجه الثاني: أن جعلهم سلب الموت والصمم والبكم عن الجماد لزعمهم أنه غير قابل لها اصطلاح محض، فإنه موجود في كلام الله تسمية الجماد ميتا، كما قال تعالى في الأصنام: أموات غير أحياء.

الوجه الثالث: أنه يكفي عدم هذه الصفات، فإن مجرد عدم الحياة والعلم والقدرة صفة نقص سواء قدر الموصوف قابلا لها أو غير قابل، بل إذا قدر أنه غير قابل لها كان ذلك أبلغ في النقص. فعلم أن نفي هذه الصفات عنه، ونفي قبولها يوجب أن يكون أنقص من الحيوان الأعمى الأصم الذي يقبلها، وإن لم يتصف بها.

الوجه الرابع: أن الكمال في الوجود، والنقص في العدم، فنفس ثبوت هذه الصفات كمال، ونفس نفيها نقص، وإن لم يتصف بها لزم نقصه، وأن يكون المفعول أكمل من الفاعل، وأن يكون المحدث الممكن المخلوق أكمل من القديم الأزلي الواجب الوجود الخالق، وهذا ممتنع في بداية العقول، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ولكن نبهنا عليها هنا لبيان بعض الطرق التي بها تعرف صفات الرب، وبيان أن هؤلاء القوم من أجهل أهل الملل بالرب.

والطرق التي يعرف بها كماله فيها العقلية والسمعية، وأن القوم عندهم من ألفاظ الأنبياء ما لم يفهموا كثيرا منه وما حرفوا كثيرا منه، وعندهم من المعقول في ذلك ما يفضلهم اليهود فيه، لكن اليهود، وإن كانوا أعلم منهم، فهم أعظم عنادا وكبرا وجحدا للحق، والنصارى أجهل وأضل من اليهود لكن هم أعبد وأزهد وأحسن أخلاقا، ولهذا كانوا أقرب مودة للذين آمنوا من اليهود والمشركين.

فصل: بيان أسماء الله تعالى

قالوا: والثلاثة أسماء فهي إله واحد ورب واحد، وخالق واحد، مسمى واحد لم يزل ولا يزال شيئا حيا ناطقا، أي الذات، والنطق، والحياة.

فالذات عندنا: الأب الذي هو ابتداء الاثنين.

والنطق: الابن الذي هو مولود منه كولادة النطق من العقل.

والحياة: هي الروح القدس.

والجواب عن هذا من وجوه:

الأول أن أسماء الله تبارك وتعالى متعددة كثيرة، فإنه:

هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم * هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون * هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى يسبح له ما في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم

وقال تعالى: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون.

وقال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعو فله الأسماء الحسنى.

وقال تعالى: طه * ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلا * الرحمن على العرش استوى * له ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى * وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى * الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: إن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة وهذا معناه في أشهر قولي العلماء وأصحهما أن من أسمائه تعالى تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة، وإلا فأسماؤه تبارك و تعالى: أكثر من ذلك، كما في الحديث الآخر الذي رواه أحمد في مسنده، وأبو حاتم في صحيحه، عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قال: ما أصاب عبدا قط هم ولا حزن وقال اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي وغمي، إلا أذهب الله همه وغمه، وأبدل مكانه فرحا، قالوا: يا رسول الله، أفلا نتعلمهن، قال: بلى ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن.

وإذا كانت أسماء الله كثيرة، كالعزيز والقدير وغيرها، فالاقتصار على ثلاثة أسماء دون غيرها باطل، وأي شيء زعم الزاعم في اختصاص هذه الأسماء به دون غيرها فهو باطل، كما قد بسط في موضع آخر.

الوجه الثاني: قولهم الأب الذي هو ابتداء الاثنين، والابن: النطق الذي هو مولود منه، كولادة النطق من العقل، كلام باطل، فإن صفات الكمال لازمة لذات الرب عز وجل أولا وآخرا، ولم يزل ولا يزال حيا عالما قادرا، لم يصر حيا بعد أن لم يكن حيا، ولا عالما بعد أن لم يكن عالما.

فإذا قالوا: إن الأب الذي هو الذات، هو ابتداء الحياة والنطق اقتضى ذلك أن يكون الأب قبل الحياة والنطق، وأن يكون فاعلا للحياة والنطق، فإن ما كان ابتداء لغيره يكون متقدما عليه أو فاعلا له.

وهذا في حق الله باطل.

وكذلك قولهم: إن النطق مولود منه كولادة النطق من العقل، فإن المولود من غيره متولد منه، فيحدث بعد أن لم يكن، كما يحدث النطق شيئا فشيئا، سواء أريد بالنطق العلم أو البيان فكلاهما لم يكن لازما للنفس الناطقة، بل حدث فيها واتصفت به بعد أن لم يكن، وإن كانت قابلة له ناطقة بالقوة، فإذا مثلوا تولد النطق من الرب كتولده عن العقل لزم أن يكون الرب كان ناطقا بالقوة، ثم صار ناطقا بالفعل فيلزم أنه صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا من أعظم الكفر وأشده استحالة، فإنه لا شيء غيره يجعله متصفا بصفات الكمال بعد أن لم يكن متصفا بها، إذ كل ما سواه فهو مخلوق له وكماله منه، فيمتنع أن يكون هو جاعل الرب سبحانه وتعالى كاملا.

وذلك دور ممتنع في صريح العقل، إذ كان الشيء لا يجعل غيره متصفا بصفات الكمال، حتى يكون هو متصفا بها، فإذا لم يتصف بها حتى جعله غيره متصفا بها لزم الدور الممتنع، مثل كون كل من الشيئين فاعلا للآخر وعلة له أو لبعض صفاته المشروطة في الفعل فتبين بطلان كون نطقه متولدا منه، كتولد النطق من العقل، كما بطل أن يكون لصفاته اللازمة له ما هو مبدأ لها متقدم عليها أو فاعل لها.

الوجه الثالث: أن قولهم في الابن أنه مولود من الله إن أرادوا به أنه صفة لازمة له، فكذلك الحياة صفة لازمة لله، فيكون روح القدس أيضا ابنا ثانيا، وإن أرادوا به أنه حصل منه بعد أن لم يكن، صار عالما بعد أن لم يكن عالما، وهذا مع كونه باطلا وكفرا فيلزم مثله في الحياة، وهو أنه صار حيا بعد أن لم يكن حيا.

الوجه الرابع: أن تسمية حياة الله روح القدس أمر لم ينطق به شيء من كتب الله المنزلة، فإطلاق روح القدس على حياة الله من تبديلهم وتحريفهم.

الوجه الخامس: أنهم يدعون أن المتحد بالمسيح هو الكلمة الذي هو العلم، وهذا إن أرادوا به نفس الذات العالمة الناطقة، كان المسيح هو الأب، وكان المسيح نفسه هو الأب، وهو الابن، وهو روح القدس، وهذا عندهم وعند جميع الناس باطل وكفر.

وإن قالوا المتحد به هو العلم، فالعلم صفة لا تفارق العالم، ولا تفارق الصفة الأخرى التي هي حياة، فيمتنع أن يتحد به العلم دون الذات، ودون الحياة.

الوجه السادس: أن العلم أيضا صفة، والصفة لا تخلق ولا ترزق، والمسيح نفسه ليس هو صفة قائمة بغيرها باتفاق العقلاء، وأيضا فهو عندهم خالق السماوات والأرض، فامتنع أن يكون المتحد به صفة، فإن الإله المعبود هو الإله الحي العالم القادر، وليس هو نفس الحياة، ولا نفس العلم والكلام.

فلو قال قائل: يا حياة الله، أو يا علم الله، أو يا كلام الله، اغفر لي، وارحمني واهدني، كان هذا باطلا في صريح العقل، ولهذا لم يجوز أحد من أهل الملل أن يقال للتوراة أو الإنجيل وغير ذلك من كلام الله اغفر لي وارحمني، وإنما يقال للإله المتكلم بهذا الكلام: اغفر لي وارحمني.

والمسيح عندكم هو الإله الخالق الذي يقال له اغفر لنا وارحمنا، فلو كان هو نفس علم الله وكلامه لم يجز أن يكون إلها معبودا فكيف إذا لم يكن هو نفس علم الله وكلامه، بل هو مخلوق بكلامه حيث قال له: كن فيكون؟

فتبين من ذلك أن كلمات الله كثيرة لا نهاية لها، وفي الكتب الإلهية كالتوراة أنه خلق الأشياء بكلامه، وكان في أول التوراة أنه قال: ليكن كذا ليكن كذا.

ومعلوم أن المسيح ليس هو كلمات كثيرة، بل غايته أن يكون كلمة واحدة، إذ هو مخلوق بكلمة من كلمات الله عز وجل.

الوجه السابع: أن أمانتكم التي وضعها أكابركم بحضرة قسطنطين، وهي عقيدة إيمانكم التي جعلتموها أصل دينكم تناقض ما تدعونه من أن الإله واحد، وتبين أنكم تقولون لمن يناظركم خلاف ما تعتقدونه.

وهذان أمران معروفان في دينكم تناقضكم وإظهاركم في المناظرة بخلاف ما تقولونه من أصل دينكم، فإن الأمانة التي اتفق عليها جماهير النصارى يقولون فيها: أومن بإله واحد، أب ضابط الكل، خالق السماوات والأرض، كل ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر الذي به كان كل شيء، الذي من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء وتأنس وصلب وتألم وقبر، وقام في اليوم الثالث على ما في الكتب المقدسة، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وأيضا سيأتي بمجده ليدين الأحياء والأموات الذي لا فناء لملكه، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب والابن المسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، كنيسة واحدة جامعة رسولية، وأعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا، وابن جاء لقيامة الموتى، وحياة الدهر العتيد كونه أمينا.

ففي هذه الأمانة التي جعلتموها أصل دينكم ذكر الإيمان بثلاثة أشياء بإله واحد خالق السماوات والأرض، خالق ما يرى وما لا يرى، فهذا هو رب العالمين الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، وهو إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الأنبياء والمرسلين، وهو الذي دعت جميع الرسل إلى عبادته وحده لا شريك له ونهوا أن يعبد غيره،

كما قال الله تعالى: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون.

وقال تعالى: وسئل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون.

ثم قلتم: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، فصرحتم بالإيمان مع خالق السماوات والأرض برب واحد مخلوق، مساو الأب ابن الله الوحيد، وقلتم: هو إله حق من إله حق من جوهر أبيه.

وهذا تصريح بالإيمان بإلهين، أحدهما من الآخر، وعلم الله القائم به، أو كلامه أو حكمته القائمة به الذي سميتموه ابنا، ولم يسم أحد من الرسل صفة الله ابنا ليس هو إله حق من إله حق، بل إله واحد وهذا صفة الإله، وصفة الإله ليست بإله، كما أن قدرته وسمعه وبصره وسائر صفاته ليس بآلهة، ولأن الإله واحد، وصفاته متعددة، والإله ذات متصفة بالصفات قائمة بنفسها، والصفة قائمة بالموصوف، ولأنكم سميتم الإله جوهرا، وقلتم: هو القائم بنفسه، والصفة ليست جوهرا قائما بنفسه.

وهم في هذه الأمانة قد جعلوا الله والدا وهو الأب، ومولودا وهو الابن، وجعلوه مساويا له في الجوهر، وقد نزه الله نفسه عن الأنواع الثلاثة، فقالوا: مولود غير مخلوق مساو الأب في الجوهر، فصرحوا بأنه مساو له في الجوهر، والمساوي ليس هو المساوى.

ولا يساوي الأب في الجوهر إلا جوهر، فوجب أن يكون الابن جوهرا ثانيا، وروح القدس جوهرا ثالثا كما سيأتي.

وهذا تصريح بإثبات ثلاثة جواهر، وثلاثة آلهة، ويقولون مع ذلك: إنما نثبت جوهرا واحدا وإلها واحدا، وهذا جمع بين النقيضين، فهو حقيقة قولهم يجمعون بين جعل الآلهة واحدا، وإثبات ثلاثة آلهة، وبين إثبات جوهر واحد، وبين إثباته ثلاثة جواهر،

وقد نزه الله نفسه عن ذلك بقوله: قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد.

فنزه نفسه أن يلد كما يقولون: هو الأب، وأن يولد كما يقولون: هو الابن، وأن يكون له كفوا أحد، كما يقولون: إن له من يساويه في الجوهر.

وإذا قلتم نحن نقول أحدي الذات ثلاثي الصفات، قيل لكم: قد صرحتم بإثبات إله حق من إله حق وبأنه مساو للأب في الجوهر، وهذا تصريح بإثبات جوهر ثاني لا بصفة، فجمعتم بين القولين بين إثبات ثلاثة جواهر، وبين دعوى إثبات جوهر واحد، ولا ينجيكم من هذا اعتذار من اعتذر منكم كيحيى بن عدي ونحوه حيث قالوا: هذا بمنزلة قولك: زيد الطبيب الحاسب الكاتب، ثم تقول: زيد الطبيب وزيد الحاسب وزيد الكاتب.

فهو مع كل صفة له حكم خلاف حكمه مع الصفة الأخرى، وقد يفسرون الأقنوم بهذا، فيقولون: الأقنوم هو الذات مع الصفة، فالذات مع كل صفة أقنوم، فصارت الأقانيم ثلاثة، لأن هذا المثال لا يطابق قولكم، فإن زيدا هنا هو جوهر واحد له ثلاث صفات: الطب والحساب والكتابة، وليس هنا ثلاثة جواهر، ولكن لكل صفة حكم ليس للأخرى.

ولا يقول عاقل: إن الصفة مساوية للموصوف في الجوهر، ولا أن الذات مع هذه الصفة تساوي الذات مع الصفة الأخرى في الجوهر، لأن الذات واحدة والمساوي ليس هو المساوى، ولأن الذات مع الصفة هي الأب فإن كان هذا هو الذي اتحد بالمسيح فالمتحد به هو الأب، ولأنكم قلتم عن هذا الذي قلتم: (إنه إله حق من إله حق، من جوهر أبيه الذي هو مساو الأب في الجوهر وأنه نزل، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء، وتأنس وصلب وتألم) فاقتضى ذلك أن يكون الإله الحق المساوي للأب في الجوهر صلب وتألم، فيكون اللاهوت مصلوبا متألما، وهذا تقر به طوائف منكم، وطوائف تنكره، لكن مقتضى أمانتكم هو الأول.

وأيضا فإذا كان تجسد من روح القدس ومريم، فإن كان روح القدس هو حياة الله، كما زعمتم فيكون المسيح كلمة الله وحياته، فيكون لاهوته أقنومين من الأقانيم الثلاثة، وعندهم إنما هو أقنوم الكلمة فقط وإن كان روح القدس ليس هو حياة الله بطل تفسيركم لروح القدس بأنه حياة الله. وقيل لكم: لا يجب أن يكون روح القدس صفة لله ولا أقنوما.

ثم ذكرتم في عقيدة أمانتكم أنكم تؤمنون بروح القدس الرب المحيي، فأثبتم ربا ثالثا، قلتم المنبثق من الأب والانبثاق: الانفجار، كالاندفاق والانصباب، ونحو ذلك، يقال: بثق السيل موضع كذا يبثقه بثقا أي خرقه وشقه فانبثق أي انفجر، فاقتضى ذلك أن يكون هذا الرب المحيي انفجر من الأب واندفق منه.

ثم قلتم: هو مع الأب مسجود له وممجد ناطق في الأنبياء فجعلتموه مع الأب مسجودا له فأثبتم إلها ثالثا يسجد له.

ومعلوم أن حياة الله التي هي صفته ليست منبثقة منه، بل هي قائمة به لا تخرج عنه البتة، وهي صفة لازمة له لا تتعلق بغيره، فإن العلم يتعلق بالمعلومات، والقدرة بالمقدورات والتكليم بالمخاطبين بخلاف التكلم فإنه صفة لازمة، يقال: علم الله كذا، وقدر الله على كل شيء، وكلم الله موسى.

وأما الحياة: فاللفظ الدال عليها لازم لا يتعلق بغير الحي، يقال حيا يحيا حياة، ولا يقال حيا كذا ولا بكذا، وإنما يقال: أحيا كذا، والإحياء فعل غير كونه حيا، كما أن التعليم غير العلم، والإقدار غير القدرة، والتكليم غير التكلم، ثم جعلتم روح القدس هذا ناطقا في الأنبياء عليهم السلام، وحياة الله صفة قائمة به لا تحل في غيره، وروح القدس الذي تكون في الأنبياء والصالحين ليس هو حياة الله القائمة به، ولو كان روح القدس الذي في الأنبياء هو أحد الأقانيم الثلاثة لكان كل من الأنبياء إلها معبودا قد اتحد ناسوته باللاهوت كالمسيح عندكم، فإن المسيح لما اتحد به أحد الأقانيم صار ناسوتا ولاهوتا، فإذا كان روح القدس الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة ناطقا في الأنبياء كان كل منهم فيه لاهوت وناسوت كالمسيح وأنتم لا تقرون بالحلول والاتحاد إلا للمسيح وحده مع إثباتكم لغيره ما ثبت له.

وهم تارة يشبهون الأقنومين - العلم والحياة التي يسمونها الكلمة وروح القدس - بالضياء والحرارة التي للشمس، مع الشمس ويشبهون ذلك بالحياة والنطق الذي للنفس مع النفس، وهذا تشبيه فاسد، فإنهم إن أرادوا بالضياء والحرارة ما يقوم بذات الشمس، فذلك صفة للشمس قائمة بها لم تحل بغيرها ولم تتحد بغيرها، كما أن صفة النفس كذلك هذا إن قيل إن الشمس تقوم به حرارة، وإلا فهذا ممنوع.

والمقصود هنا: بيان فساد كلامهم وقياسهم.

وإن أرادوا ما هو بائن عن الشمس قائم بغيرها. كالشعاع القائم بالهواء والأرض، والحرارة القائمة بذلك كان هذا دليلا على فساد قولهم من وجوه:

منها: أن هذه أعراض منفصلة بائنة عن الشمس قائمة بغيرها لا بها، ونظير هذا ما يقوم بقلوب الأنبياء من العلم والحكمة والوحي الذي أنذروا به، وعلى هذا التقدير فليس في الناسوت شيئا من اللاهوت وإنما فيه آثار حكمته وقدرته.

ومنها: أن الحرارة والضوء القائم بالهواء والجدران أعراض قائمة بغير الشمس، والكلمة وروح القدس عندهم هما جوهران.

ومنها: أن هذا ليس هو الشمس، ولا صفة من صفات الشمس، وإنما هو أثر حاصل في غير الشمس بسبب الشمس، ومثل هذا لا ينكر قيامه بالأنبياء والصالحين، ولكن ليس للمسيح بذلك اختصاص، فما حل بالمسيح حل بغيره من المرسلين، وما لم يحل بغيره لم يحل به فلا اختصاص له بأمر يوجب أن يكون إلها دون غيره من الرسل، ولا هنا اتحاد بين اللاهوت والناسوت، كما لم تتحد الشمس ولا صفاتها القائمة بها بالهواء، والأرض التي حصل بها الشعاع والحرارة.

فصل: رد دعواهم أن الله سمى نفسه أبا وابنا وروح قدس

قالوا: وهذه الأسماء لم نسمه نحن معشر النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سمى لاهوته بها، وذلك أنه قال على لسان موسى النبي في التوراة مخاطبا بني إسرائيل قائلا: أليس هذا الأب الذي صنعك وبراك واقتناك؟ وعلى لسانه أيضا قائلا: وكان روح الله ترف على الماء وقوله على لسان داود النبي: روحك القدس لا تنزع مني، وأيضا على لسانه بكلمة الله تشددت السماوات والأرض وبروح فاه جميع قواتهن.

وقوله على لسان أشعيا: (ييبس القتاد ويجف العشب، وكلمة الله باقية إلى الأبد، وعلى لسان أيوب الصديق، روح الله خلقني وهو يعلمني).

وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس للتلاميذ الأطهار: (اذهبوا إلى جميع العالم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس إله واحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به)،

وقد قال في هذا الكتاب: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين.

وقال أيضا: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس.

وقال أيضا: وكلم الله موسى تكليما

وقال في سورة التحريم: ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.

وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى والإله واحد لا يتبعض ولا يتجزأ.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن تقول: إن كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا يكون إلا حقا وصدقا، ولا يكون فيه شيء يعلم بطلانه بصريح العقل، وإن كان فيه ما يعجز العقل عن معرفته بدون إخبار الأنبياء، ولا يكون كلام النبي الذي يخبر به مناقضا لكلامه في موضع آخر، ولا لكلام سائر الأنبياء، بل كل ما أخبرت به الأنبياء فهو حق وصدق، يصدق بعضه بعضا.

وقد أوجب الله علينا أن نؤمن بكل ما أخبروا به، وحكم بكفر من آمن ببعض ذلك، وكفر ببعضه، فما علم بصريح العقل لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن الأنبياء وما علم بالنقل الصحيح عن بعضهم لا يناقض ما علم بالنقل الصحيح عن غيره، ولكن قد يختلف بعض الشرع والمناهج في الأمر والنهي.

فأما ما يخبرون به عن الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وغير ذلك، فلا يجوز أن يناقض بعضه بعضا.

وإذا كان كذلك فما ينقلونه عن الأنبياء إنما تتم الحجة به إذ علم إسناده ومتنه، فيعلم أنه منقول عنهم نقلا صحيحا، ونعلم أن ترجمته من العبرية إلى اللسان الآخر، كالرومية والعربية والسريانية ترجمة صحيحة ويعلم بعد ذلك أنهم أرادوا به ذلك المعنى.

وليس مع النصارى حجة عن الأنبياء تثبت فيها هذه المقدمات الثلاث ونحن في هذا المقام يكفينا المنع، والمطالبة لهم بتصحيح هذه المقدمات فإنهم ادعوا أن التثليث أخذوه عن الأنبياء، فنحن نطالبهم بتصحيح هذه المقدمات.

والجواب الثاني: أنا نبين تفسير ما ذكروه من الكلمات، أما قوله على لسان موسى مخاطبا بني إسرائيل قائلا: (أليس الأب الذي صنعك وبراك واقتناك)؟ فهذا فيه أنه سماه أبا لغير المسيح ، وهذا نظير قوله لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، وداود (ابني حبيبي)، وقول المسيح (أبي وأبيكم) وهم يسلمون أن المراد بهذا في حق غير المسيح بمعنى الرب لا معنى التولد الذي يخصون به المسيح.

الثالث: أن هذا حجة عليهم، فإذا كان في الكتب المتقدمة تسميته أبا لغير المسيح وليس المراد بذلك إلا معنى الرب، علم أن هذا اللفظ في لغة الكتب يراد به الرب، فيجب حمله في حق المسيح على هذا المعنى، لأن الأصل عدم الاشتراك في الكلام.

الرابع: أن استعماله في المعنى الذي خصوا به المسيح، إنما يثبت إذا علم أنه أريد المعنى الذي ادعوه في المسيح فلو أثبت ذلك المعنى بمجرد إطلاق لفظ الأب لزم الدور، فإنه لا يعلم أنه أريد به ذلك المعنى من حيث يثبت أنه كان يراد به في حق الله هذا المعنى ولا يثبت ذلك، حتى يعلم أنه أريد به ذلك المعنى في حق المسيح، فإذا توقف العلم بكل منهما على الآخر لم يعلم واحد منهما، فتبين أنه لا علم عندهم بأنه أريد في حق المسيح، بلفظ الأب ما خصوه به في محل النزاع.

الوجه الخامس: أنه يوجد في كتب الأنبياء وكلامهم إطلاق اسم الأب، والمراد به أب اللاهوت، ولا إطلاق اسم الابن والمراد به شيء من اللاهوت لا كلمته ولا حياته، بل لا يوجد لفظ الابن إلا والمراد به المخلوق، فلا يكون لفظ الابن إلا لابن مخلوق.

وحينئذ فيلزم من ذلك أن يكون مسمى الابن في حق المسيح هو الناسوت، وهذا يبطل قولهم: إن الابن وروح القدس أنهما صفتان لله وأن المسيح اسم للاهوت والناسوت، فتبين أن نصوص كتب الأنبياء تبطل مذهب النصارى، وتناقض أمانتهم، فهم بين أمرين:

بين الإيمان بكلام الأنبياء وبطلان دينهم.

وبين تصحيح دينهم وتكذيب الأنبياء، وهذا هو المطلوب.

فصل

قالوا: وعلى لسانه أيضا قائلا: (وكان روح الله ترف على الماء).

فيقال هذا في السفر الأول - سفر الخليقة - في أوله، لما ذكر أنه في البدء خلق السماوات والأرض، وأنه كانت الأرض مغمورة بالماء، وكانت روح الله ترف على الماء، أخبر أنه كان الماء فوق التراب والهواء فوق الماء، وروح الله هي الريح التي كانت فوق الماء.

هذا تفسير جميع الأمم من المسلمين واليهود وعقلاء النصارى، ولفظ الكلمة بالعبرية " روح " بضم الراء وتشديد الواو، وهي الروح، والريح تسمى روحا، وجمعها أرواح، ولم يرد بذلك أن حياة الله كانت ترف على الماء.

فإن هذا لا يقوله عاقل، فإن حياة الله صفة قائمة به لا تفارقه ولا تقوم بغيره فيمتنع أن تقوم بماء أو غيره فضلا عن أن ترف على الماء والذي يرف على الماء، جسم قائم بنفسه، وهذا إخبار عن الريح التي كانت تتحرك فوق الماء.

ومثل هذا قول النبي ﷺ: لا تسبوا الريح فإنها من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب فلا تسبوها ولكن تعوذوا بالله من شرها وسلوا الله خيرها وقوله: إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن

فصل

قالوا: وقوله على لسان داود النبي ﷺ: " روحك القدس لا تنزع مني ".[5]

فيقال: هذا دليل على أن روح القدس كانت في داود، فعلم بذلك أن روح القدس التي كانت في المسيح من هذا الجنس، فعلم بذلك أن روح القدس لا تختص بالمسيح، وهم يسلمون ذلك، فإن ما في الكتب التي بأيديهم في غير موضع أن روح القدس حلت في غير المسيح في داود، وفي الحواريين، وفي غيرهم.

وحينئذ فإن كان روح القدس هو حياة الله ومن حلت فيه يكون لاهوتا، لزم أن يكون إلها ولزم أن يكون كل هؤلاء فيهم لاهوت وناسوت كالمسيح، وهذا خلاف إجماع المسلمين والنصارى واليهود.

ويلزم من ذلك أيضا أن يكون المسيح فيه لاهوتان الكلمة وروح القدس، فيكون المسيح مع الناسوت أقنومين: أقنوم الكلمة، وأقنوم روح القدس، وأيضا فإن هذه ليست صفة لله قائمة به، فإن صفة الله القائمة به، بل وصفة كل موصوف لا تفارقه وتقوم بغيره، وليس في هذا أن الله اسمه روح القدس، ولا أن حياته اسمها روح القدس ولا أن روح القدس الذي تجسد المسيح منه، ومن مريم هو حياة الله سبحانه و تعالى، وأنتم قلتم إنا معاشر النصارى لم نسمه بهذه الأسماء من ذات أنفسنا، ولكن الله سمى لاهوته بها، وليس فيما ذكرتموه عن الأنبياء أن الله سمى نفسه، ولا شيئا من صفاته بروح القدس، ولا سمى نفسه ولا شيئا من صفاته ابنا فبطل تسميتكم لصفته التي هي الحياة بروح القدس ولصفته التي هي العلم بالابن.

وأيضا فأنتم تزعمون أن المسيح مختص بالكلمة والروح، فإذا كانت روح القدس في داود والحواريين وغيرهم، بطل ما خصصتم به المسيح، وقد علم بالاتفاق أن داود عبد لله عز وجل، وإن كانت روح القدس فيه.

وكذلك المسيح عبد لله وإن كانت روح القدس فيه، فما ذكرتموه عن الأنبياء حجة عليكم لأهل الإسلام لا حجة لكم.

فصل

قالوا: وأيضا على لسان داود النبي : بكلمة الله تشددت السماوات والأرض، وبروح فاه جميع قواتهن.

فيقال: أما قوله: بكلمة الله تشددت السماوات والأرض، فهو أيضا حجة عليكم لوجوه:

أحدها: أن الله خلق الأشياء بكلمته التي هي (كن)، كما قال في التوراة (ليكن كذا ليكن كذا ليكن كذا) وكذلك في الزبور: (لأنه قال فكانوا، وهو أمر فخلقوا) فجعل كونهم عن قوله.

ومثل قوله في الزبور: (الكل بحكمة صنعت)، وفي القرآن: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وليس المسيح هو هذه الكلمات.

الثاني: أن كلمة الله اسم جنس، فإن كلمات الله لا نهاية لها، قال تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا.

والتوراة تدل على تعدد الكلمات، وإذا كان كذلك، فالمسيح ليس هو مجموع الكلمات، بل خلق بكلمة منها.

الثالث: أن المسيح عندكم هو الخالق، وأنتم مع قولكم: إنه الابن والكلمة، تقولون إنه الإله الخالق، وتقولون إنه إله حق من إله حق، وتقولون: إله واحد فتجمعون بين النقيضين، وإذا كان هو الخالق فهو الذي يشدد السماوات والأرض، لا يقال به تشددت السماوات والأرض، وإنما يقال به فيما كان صفة للموصوف، فيقال: خلق الله الأشياء بكن، وخلق الأشياء بقدرته.

وقوله: (بكلمته تشددت السماوات والأرض) يقتضي أن الكلمة صفة فعل بها لأنها هي الخالقة والمسيح عندكم هو الخالق ليس هو صفة خلق.

والرابع: أن كلمة الله يراد بها جنس كلماته، كما قال تعالى: وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا

وكقول النبي ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وحينئذ فالمراد أن الله أقام السماوات والأرض بكلمته، كقوله كن وليس في هذا تعرض للمسيح .

وأما نقلكم أنه قال: (وبروح فاه جميع قواتهن) فهذه الكلمة سواء كانت حقا أو باطلا، لا حجة لكم فيها لأنه إن أريد بهذه الكلمة حياة الله فإثبات حياة الله حق وهو لم يسم حياة الله روح القدس، كما زعمتم، وإن أراد شيئا غير حياة الله لم تنفعكم فأنتم ادعيتم أن حياة الله روح القدس حتى قلتم مراده في الإنجيل بقوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس) هو حياة الله، وادعيتم أن الأنبياء سموه بذلك ولم تذكروا نقلا عن الأنبياء أنهم سموا حياته روح القدس، بل ذكرتم عنهم ما يوافق ما في القرآن أن روح القدس ليس المراد بها حياة الله، ولو قدر أن هذا اللفظ استعمل في هذا وهذا لم يتعين أنالمسيح أراد بقوله: (روح القدس) حياة الله، فكيف إذا لم يستعمل في كلام الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين - في حياة الله قط.

فصل: بيان المعنى الصحيح لروح الله

قالوا: وقوله: على لسان أيوب الصديق روح الله خلقني وهو يعلمني.

فيقال هذا لا حجة فيه لأنكم ادعيتم أن الأنبياء سمت حياة الله روح القدس، وهذا لم يقل روح القدس، بل قال روح الله.

وروح الله يراد بها الملك الذي هو روح اصطفاه الله فأحبها، كما قال في القرآن:

فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا.

فقد أخبر أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا، وتبين أنه رسوله.

فعلم أن المراد بالروح ملك، هو روح اصطفاها فأضافها إليه، كما يضاف إليه الأعيان التي خصها بخصائص يحبها.

كقوله: ناقة الله وسقياها.

وقوله: وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود.

وقوله: عينا يشرب بها عباد الله.

والمضاف إلى الله إن كان صفة لم تقم بمخلوق كالعلم والقدرة والكلام والحياة، كان صفة له، وإن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة لغيره، كالبيت والناقة والعبد والروح، كان مخلوقا مملوكا مضافا إلى خالقه ومالكه، ولكن الإضافة تقتضي اختصاص المضاف بصفات تميز بها عن غيره، حتى استحق الإضافة، كما اختصت الكعبة والناقة والعباد الصالحون بأن يقال فيهم (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله)، كذلك اختصت الروح المصطفاة بأن يقال لها روح الله.

بخلاف الأرواح الخبيثة كأرواح الشياطين والكفار، فإنها مخلوقة لله، ولا تضاف إليه إضافة الأرواح المقدسة، كما لا تضاف إليه الجمادات كما تضاف الكعبة، ولا نوق الناس، كما تضاف ناقة صالح التي كانت آية من آياته.

كما قال تعالى: هذه ناقة الله لكم آية.

وإذا كان كذلك فهذا اللفظ إن كان ثابتا عن النبي وترجم ترجمة صحيحة، فقد يكون معناه أن الملك صورني في بطن أمي، وهو يعلمني، فإن النبي ﷺ قال: إذا مر بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة بعث الله إليها ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثم قال: يا رب أذكر أو أنثى، فيقضي ربك ما شاء ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب أجله؟ فيقول ربك ما شاء، ويكتب الملك، ثم يقول: يا رب رزقه؟ فيقول ربك ما يشاء، ويكتب الملك، ثم يخرج الملك بالصحيفة في يده، فلا يزاد على أمر ولا ينقص رواه مسلم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري.

وقد يقال: من هذا قوله في الزبور في مزمور الخليقة: ترسل روحك فيخلقون، وفي المزمور أيضا هو قال: فكانوا وأمر فخلقوا فقد يضاف الخلق إلى الملك.

ومن هذا الباب قوله تعالى: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله.

فأخبره أنه يخلق من الطين كهيئة الطير طيرا بإذن الله، وكذلك الملك يخلق النطفة في الرحم بإذن الله.

ولا يجوز أن يريد به أن حياة الله خلقتني وتعلمني، فإن الصفة لا تخلق ولا تعلم، إنما يخلق ويعلم الرب الموصوف الذي خلق الإنسان من علق، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، ولكن هو سبحانه يخلق بواسطة الملائكة، فإن الملائكة رسل الله في الخلق، فجاز أن يضاف الفعل إلى الوسائط تارة، وإلى الرب أخرى، وهذا موجود في الكتب الإلهية في غير موضع كما في القرآن: الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها.

وفي موضع آخر: حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهم لا يفرطون.

وفي موضع ثالث: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون.

والجميع حق، فإذا وجد لفظ له معنى في كلام بعض الأنبياء، ولم يوجد له معنى يخالف ذلك من كلامهم، كان حمله على ذلك المعنى أولى من حمله على معنى يخالف كلامهم، ولا يوجد في كلامهم أن حياة الله تسمى روحا، ولا أن صفات الله تخلق المخلوقات.

قالوا: وقوله على لسان أشعيا النبي: (ييبس القتاد، ويجف العشب، وكلمته باقية إلى الأبد).

فيقال: إما أن يريد بكلمة الله علمه، أو كلمة معينة، أو تكون كلمة الله اسم جنس، وعلى التقديرات الثلاثة لا حجة لكم في ذلك، فإنه إن كان كلمة الله اسم جنس لكل ما تكلم الله به كما قال:

وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.

وقال النبي ﷺ: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله

ولهذا جمعها في قوله تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.

وفي قوله: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا.

فالمراد بذلك أن ما قاله الله فهو حق ثابت لا يبطل.

كما قال تعالى: وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا.

يعني بتمامها نفاذ ما وعدهم به من النصر على فرعون، وإهلاكه، وإخراجهم إلى الشام.

وقال تعالى: وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا.

ومنه قوله: واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك لا مبدل لكلماته.

وقوله: سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل.

ومن هذا الباب قول المسيح السماء والأرض يزولان، وكلامي لا يزول، فإن أراد علم الله، فعلم الله باق سواء أراد به علمه القائم بذاته أو معلومه الذي أخبر ببقائه فلا حجة لكم فيه، وكذلك إن أراد كلمة معينة فإن المسيح عندكم ليس كلمة معينة من كلامه، بل هو عندكم هو الكلمة وهو الله الخالق وليس في هذا اللفظ ما يدل على أنه أراد بالكلمة المسيح والمسيح عندكم أزلي أبدي لا يوصف بالبقاء دون القدم ولو قدر أنه أراد بالكلمة المسيح فنحن لا ننكر أنه يسمى بالكلمة، لأنه قال له: كن فكان، كما سيأتي بيان ذلك، ويريد بذلك إما بقاؤه إلى أن ينزل إلى الأرض، وإما أن يريد بقاء ذكره والثناء عليه، ولسان صدق له إلى آخر الزمان.

ومما يوضح هذا وأنه ليس المراد به ما يدعونه، أنه قال: وكلمة الله باقية إلى الأبد فوصفها بالبقاء دون القدم.

وعندهم أن الكلمة المولودة من الأب قديمة أزلية لم تزل ولا تزال ومثل هذا لا يحتاج أن يوصف بالدوام والبقاء، بخلاف ما وعد به من النعيم والرحمة والثواب، فإنه يوصف بالبقاء والدوام كما في القرآن: أكلها دائم وقوله: إن هذا لرزقنا ما له من نفاد.

وفي الزبور: اعترفوا للرب، فإنه صالح، وإنه إلى الأبد رحمته.[6]

فصل: إبطال استدلالهم بالتغطيس على الأقانيم

قالوا: وقال السيد المسيح في الإنجيل المقدس لتلاميذه الأطهار: (اذهبوا إلى جميع الأمم وعمدوهم باسم الأب والابن وروح القدس الإله الواحد، وعلموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيكم به).

فيقال لهم: هذا عمدتكم على ما تدعونه من الأقانيم الثلاثة وليس فيه شيء يدل على ذلك لا نصا ولا ظاهرا، فإن لفظ الابن لم يستعمل قط في الكتب الإلهية في معنى صفة من صفات الله، ولم يسم أحد من الأنبياء علم الله ابنه ولا سموا كلامه ابنه، ولكن عندكم أنهم سموا عبده أو عباده ابنه أو بنيه وإذا كان كذلك فدعواكم أن المسيح أراد بالعلم ابن الله وكلامه - دعوى في غاية الكذب على المسيح، وهو حمل للفظه على ما لم يستعمله هو ولا غيره فيه لا حقيقة ولا مجازا، فأي كذب وتحريف لكلام الأنبياء أعظم من هذا.

ولو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله لسميت حياته ابنا، وقدرته ابنا، فتخصيص العلم، بلفظ الابن دون الحياة خطأ ثان لو كان لفظ الابن يستعمل في صفة الله، فكيف إذا لم يكن كذلك.

وكذلك روح القدس لم يستعملوها في حياة الله، ولا أرادوا بهذا اللفظ حياة الله التي هي صفته، وإنما أرادوا بذلك ما ينزله على الصديقين والأنبياء، ويؤيدهم به كما في قول داود: (روحك القدس لا تنزع مني)، وعندهم أن روح القدس حلت في الحواريين، وقد قدمنا أن روح القدس يراد به الملك، ويراد به ما يجعله في القلوب من الهدى والقوة، ومنه قوله في بعض النبوات: (وفي تلك الأيام أسكب من روحي على كل قديس) وفي زبور داود (روحك الصالح يهديني في أرض مستقيمة.

يوضح هذا أنهم قالوا في أمانتهم: (الذي من أجلنا - نحن البشر - ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء) وذكروا أن ذلك في الكتب المقدسة، والذي في الكتب المقدسة لا يكون إلا حقا، ولا ريب أن فيها مثل ما في القرآن، وفي القرآن أن الله أرسل روحه إلى مريم فنفخ فيها فحملت بالمسيح ،

قال تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا * قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا * قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا * فحملته فانتبذت به مكانا قصيا.

إلى آخر القصة.

وقال تعالى: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين.

وقال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

وهذا الروح هو الرسول كما قال: قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا.

ونفخ فيها من هذا الروح فكان المسيح مخلوقا من هذا الروح، ومن أمه مريم كما قالوا في الأمانة: إنه تجسد من مريم، ومن روح القدس، لكن اعتقدوا أن روح القدس التي خلق المسيح منها ومن مريم هي حياة الله، وهذا ليس في الكتب ما يدل عليه، بل الكتب كلها صريحة في نقيض هذا، وهو أيضا مناقض لقولهم إن المتحد بالمسيح هو أقنوم الكلمة، وهو العلم، فإن كان قد تجسد من مريم، وأقنوم الكلمة لم يكن متجسدا من روح القدس، وإن كان من روح القدس لم يكن من الكلمة، وإن كان منهما جميعا كان المسيح أقنومين: أقنوم الكلمة وأقنوم الروح.

والنصارى بفرقهم الثلاثة كلهم يقولون: إنما المتحد به أقنوم الكلمة لا أقنوم الحياة، فتبين تناقضهم في أمانتهم، وتبين خطؤهم فيما فسروا به كلام الأنبياء.

وتبين أن ما ثبت عن الأنبياء فهو حق موافق لما أخبر به محمد خاتم النبيين لا يناقض شيئا من كلام الأنبياء، كما أنه لا يناقض شيئا من كلامهم صريح المعقول، وتبين أنهم حملوا كلام الأنبياء في لفظ الابن وروح القدس وغيره على ما لم يوجد استعمال هذا اللفظ فيه، وتركوا حمله على المعنى الموجود في كلامهم، وهذا من أبلغ ما يكون من تحريف كلامهم عن مواضعه وتبديل معاني كلام الله، فكيف يجوز أن يحمل لفظ روح القدس على معنى لم يستعمله فيه الأنبياء، ولا أرادوه به، ويترك حمله على المعنى المعروف الذي يستعملونه فيه دائما.

وهل هذا إلا من فعل من يحرف كلام الأنبياء، ويفتري الكذب عليهم؟ بل ظاهر هذا الكلام أن يعمدوهم باسم الأب الذي يريدون به - في لغتهم - الرب، والابن الذي يريدون به - في لغتهم - المربي، وهو هنا المسيح وروح القدس وهو روح القدس الذي أيد الله به المسيح من الملك والوحي وغير ذلك، وبهذا فسر هذا الكلام من فسره من أكابر علمائهم.

فصل

فهذا ما ذكروه في كتابهم يحتجون بها على ما يعتقدونه من الأقانيم الثلاثة قائلين: إن تسمية الله أنه أب وابن وروح القدس أسماء لم نسمه نحن النصارى بها من ذات أنفسنا، بل الله سمى لاهوته بها.

وقد تبين أنه ليس فيما ذكروه عن الأنبياء ما يدل لا نصا ولا ظاهرا على أن أحدا من الأنبياء سمى الله، ولا شيئا من صفاته ابنا ولا روح قدس.

وتبين أن تسميتهم لعلم الله وكلامه ابنا، وتسميتهم لحياته روح القدس - أسماء ابتدعوها ما أنزل الله بها من سلطان، وأنه ليس معهم على ما ادعوه من الأقانيم حجة أصلا، لا سمعية، ولا عقلية، وأنه ليس لقولهم بالتثليث وحصرهم لصفات الله في ثلاثة مستند شرعي.

كما تبين أنه ليس له مستند عقلي، وأن القوم ممن قيل فيهم: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وممن قيل فيهم: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا.

فصل: رد وجود حجة على الأقانيم في القرآن

ثم أخذوا يزعمون أن فيما أنزل على محمد ﷺ - حجة لهم على الأقانيم التي ادعوها، وهم ابتدعوا القول بالأقانيم والتثليث قبل أن يبعث محمد ﷺ.

وذلك معروف عندهم من حين ابتدعوا الأمانة التي لهم، التي وضعها الثلاثمائة وثمانية عشر منهم بحضرة قسطنطين الملك، فإذا لم يكن لهم مستند عقلي، ولا سمعي عن الأنبياء قبل محمد ﷺ فكيف يكون لهم مستند فيما جاء به محمد ﷺ بعد ابتداعهم الأمانة؟ لا سيما مع العلم الظاهر المتواتر أن محمدا ﷺ كفرهم في الكتاب الذي أنزل عليه وضللهم، وجاهدهم بنفسه وأمر بجهادهم؛ كقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم. وقوله تعالى: وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون وقال: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة. وقال: ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم. ونحو ذلك من الآيات.

وقالوا: وقد قال في هذا الكتاب أيضا: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا الصالحين.

فيقال لهم: حرفتم لفظ الآية ومعناها؛ فإن لفظها: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون.

فالكلمة التي سبقت لعباده المرسلين قوله: إنهم لهم المنصورون. أخبر أنه سبق منه كلمة لعباده المرسلين لينصرنهم،

كما قال تعالى: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما وأجل مسمى

وقوله: ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم وإنهم لفي شك منه مريب.

وقوله: وكذلك حقت كلمة ربك على الذين كفروا أنهم أصحاب النار.

وقوله: وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم.

وقوله: ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين.

والكلمة في لغة العرب: هي الجملة المفيدة سواء كانت جملة اسمية أو فعلية، وهي القول التام، وكذلك الكلام عندهم هو الجملة التامة.

قال سيبويه: واعلم أنهم يحكون بالقول ما كان كلاما ولا يحكون به ما كان قولا، ولكن النحاة اصطلحوا على أن يسموا ما تسميه العرب حرفا يسمونه كلمة مثل زيد وعمرو، ومثل: قعد وذهب، وكل حرف جاء لمعنى ليس باسم ولا فعل، مثل: إن وثم، وهل ولعل.

قال تعالى: وينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا * ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم. فسمى هذه الجملة كلمة.

وقال تعالى: مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة. وهو قول: لا إله إلا الله.

وقال تعالى: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه.

وقال تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله

وقوله تعالى: وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها.

وقال النبي ﷺ: كلمتان حبيبتان إلى الرحمن خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، وقال ﷺ: أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل

وقال النبي ﷺ: اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة، ولما شاع عند المشتغلين بالنحو استعمال لفظ الكلمة في الاسم أو الفعل، وحرف المعنى - صاروا يظنون أن هذا هو كلام العرب، ثم لما وجد بعضهم ما سمعه من كلام العرب أنه يراد بالكلمة الجملة التامة صار يقول: وكلمة بها كلام قد يؤم، فيجعل ذلك من القليل.

ومنهم من يجعل ذلك مجازا، وليس الأمر كذلك، بل هذا اصطلاح هؤلاء النحاة، فإن العرب لم يعرف عنهم أنهم استعملوا لفظ الكلمة والكلام إلا في الجملة التامة، وهكذا نقل عنهم أئمة النحو كسيبويه وغيره.

فكيف يقال: إن هذا هو المجاز، وإن هذا قليل وكثير.

كما أن لفظ القديم في لغة العرب هو المتقدم على غيره كما قال تعالى: حتى عاد كالعرجون القديم.

وقوله تعالى: وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم.

وقوله تعالى: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون.

ثم إن من أهل الكلام من خص لفظ القديم بما لم يسبقه عدم، أو ما لم يسبقه غيره، وصار هذا عندهم هو حقيقة اللفظ، حتى صار كثير منهم يظن أن استعمال القديم في المتقدم على غيره مطلقا - مجاز.

فتبين أن مراده تعالى بقوله: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. من جنس قوله: ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاما.

فسبق منه كلمته بما سيكون من نصر المرسلين، وملء جهنم من الجنة والناس أجمعين ونحو ذلك، فحرف هؤلاء الضلال لفظ الآية فقالوا: لعبادنا الصالحين، وجعلوا الكلمة هي المسيح وليس في اللفظ ما يدل على ذلك بوجه من الوجوه، ولا في كون المسيح سبق لعبادنا المرسلين - معنى صحيح، وقد قال تعالى: ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون

فصل: بيان معنى تأييد المسيح بروح القدس

قالوا: وقال أيضا: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس.

فيقال: هذا مما لا ريب فيه، ولا حجة لكم فيه، بل هو حجة عليكم، فإن الله أيد المسيح بروح القدس كما ذكر ذلك في هذه الآية وقال تعالى: في البقرة: وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس.

وقال تعالى: تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس.

وهذا ليس مختصا بالمسيح، بل قد أيد غيره بذلك، وقد ذكروا هم أنه قال لداود: روحك القدس لا تنزع مني، وقد قال نبينا ﷺ لحسان بن ثابت: اللهم أيده بروح

القدس، وفي لفظ: روح القدس معك ما دمت تنافح عن نبيه وكلا اللفظين في الصحيح.

وعند النصارى أن الحواريين حلت فيهم روح القدس، وكذلك عندهم روح القدس حلت في جميع الأنبياء.

وقد قال تعالى:

فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم * إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون * إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون * وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

وقد قال تعالى في موضع آخر: نزل به الروح الأمين على قلبك.

وقال: قل من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله. فقد تبين أن روح القدس هنا جبريل،

وقال تعالى: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وقال تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون.

وقال: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق.

فهذه الروح التي أوحاها والتي تنزل بها الملائكة على من يشاء من عباده - غير الروح الأمين التي تنزل بالكتاب، وكلاهما يسمى روحا، وهما متلازمان؛ فالروح التي ينزل بها الملك مع الروح الأمين التي ينزل بها روح القدس يراد بها هذا وهذا.

وبكلا القولين فسر المفسرون قوله في المسيح وأيدناه بروح القدس، ولم يقل أحد إن المراد بذلك حياة الله، ولا اللفظ يدل على ذلك ولا استعمل فيه.

وهم إما أن يسلموا أن روح القدس في حق غيره ليس المراد بها حياة الله، فإذا ثبت أن لها معنى غير الحياة، فلو استعمل في حياة الله أيضا لم يتعين أن يراد بها ذلك في حق المسيح، فكيف ولم يستعمل في حياة الله في حق المسيح.

وإما أن يدعوا أن المراد بها حياة الله في حق الأنبياء والحواريين، فإن قالوا ذلك لزمهم أن يكون اللاهوت حالا في جميع الأنبياء والحواريين، وحينئذ فلا فرق بين هؤلاء وبين المسيح.

ويلزمهم أيضا أن يكون في المسيح لاهوتان: لاهوت الكلمة، ولاهوت الروح، فيكون قد اتحد به أقنومان.

ثم في قوله تعالى: وأيدناه بروح القدس، يمتنع أن يراد بها حياة الله، فإن حياة الله صفة قائمة بذاته لا تقوم بغيره، ولا تختص ببعض الموجودات غيره، وأما عندهم فالمسيح، هو الله الخالق، فكيف يؤيد بغيره، وأيضا فالمتحد بالمسيح هو الكلمة دون الحياة، فلا يصح تأييده بها.

فتبين أنهم يريدون أن يحرفوا القرآن كما حرفوا غيره من الكتب المتقدمة، وأن كلامهم في تفسير المتشابه من الكتب الإلهية - من جنس واحد.

فصل

قالوا: وقال أيضا: وكلم الله موسى تكليما.

فيقال لهم: وأي حجة لكم في هذا، وإنما هو حجة عليكم، فإنه قد ثبت أن الله كلم موسى تكليما، وكلام الله الذي سمعه منه موسى ، ليس هو المسيح فعلم أن المسيح ليس هو كلام الله، وعندهم هو كلمة الله، وهو علم الله، وهو الله.

ومعلوم أن كلام الله كثير كالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، وليس المسيح شيئا من ذلك، والمسيح عندهم خالق، ولو كان المسيح نفس كلام الله لم يكن خالقا ولا معبودا، فإن كلام الله لم يخلق السماوات والأرض، ولا كلام الله هو الإله المعبود، بل كلامه كسائر صفاته مثل حياته وقدرته، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ولا يا كلام الله اغفر لي، وإنما يعبد ويدعى الإله الموصوف بالعلم، والقدرة، والكلام الذي كلم به موسى تكليما.

فصل

قالوا: وقال أيضا في سورة التحريم: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين.

فيقال: أما قوله تعالى: فنفخنا فيه من روحنا. وقوله: في سورة الأنبياء: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين. فهذا قد فسره قوله تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا * قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا * قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا. وفي القراءة الأخرى: ليهب لك غلاما زكيا.

فأخبر أنه رسوله وروحه، وأنه تمثل لها بشرا، وأنه ذكر أنه رسول الله إليها، فعلم أن روحه مخلوق مملوك له، ليس المراد حياته التي هي صفته سبحانه وتعالى.

وكذلك قوله: فنفخنا فيها من روحنا.

وهو مثل قوله في آدم : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي.

وقد شبه المسيح بآدم في قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

والشبهة في هذا نشأت عند بعض الجهال من أن الإنسان إذا قال: روحي، فروحه في هذا الباب هي الروح التي في البدن، وهي عين قائمة بنفسها، وإن كان من الناس من يعني بها الحياة، والإنسان مؤلف من بدن وروح، وهي عين قائمة بنفسها عند سلف المسلمين وأئمتهم وجماهير الأمم.

والرب تعالى منزه عن هذا، وأنه ليس مركبا من بدن وروح، ولا يجوز أن يراد بروحه ما يريد الإنسان بقوله: روحي، بل تضاف إليه ملائكته وما ينزله على أنبيائه من الوحي والهدى والتأييد، ونحو ذلك.

فصل

قالوا: وسائر المسلمين يقولون: إن الكتاب كلام الله، ولا يكون كلام إلا لحي ناطق، وهذه صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء، وكل صفة منها غير الأخرى، فالإله واحد، خالق واحد، ورب واحد لا يتجزأ.

فيقال لهم: أما قول المسلمين إن الكتاب - أي القرآن - كلام الله، فهذا حق، والكلام لا يكون إلا لمتكلم.

والمسلمون يقولون: إن الله حي متكلم، وإنه تكلم بالتوراة والإنجيل والقرآن، وغير ذلك من كلامه، والقرآن قد أخبر بكلام الله في مواضع كثيرة، وهل يسمى ناطقا وكلامه نطقا؟

فيه نزاع، فبعض المسلمين يجيزه، وبعضهم يمنع منه لكونه لم يرد به الشرع، وليس في التوراة والإنجيل والزبور تسمية الله ناطقا، بخلاف لفظ القول والكلام، وقد تنازع المسلمون بعد ظهور البدع فيهم كما تنازع أهل الكتاب في كلام الله، هل هو قائم به، أو مخلوق منفصل عنه.

والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وجمهورها، أن كلام الله قائم به،

وكذلك سائر ما يوصف به من الحياة والقدرة وغير ذلك.

وأحدث قوم منهم بعد انقراض الصحابة وأكابر التابعين، بعد أكثر من مائة سنة من موت النبي ﷺ أنه مخلوق خلقه في غيره، وشاركهم في هذه البدعة كثير من اليهود والنصارى.

وظهرت هذه المقالة بعد المائة الثانية، وانتصر لها قوم من الولاة، وغيرهم، ثم أطفأها الله بمن أقامه الله من أئمة الإسلام والسنة الذين بينوا فسادها وبينوا ما اتفق عليه السلف من أن كلام الله منزل منه غير مخلوق، بل منه بدأ، لم يبتدئ من شيء من المخلوقات، ومع هذا فلم يقل أحد من المسلمين: إن كلام الله يكون إلها ولا ربا.

وكذلك حياته لم يقل أحد منهم: إن حياته تكون إلها ولا ربا، ولا أنه مساو للرب تعالى في الجوهر.

فصل: نقاش دعواهم أن الأقانيم صفات جوهرية تجري مجرى الأسماء

وأما قولهم: هذه صفات جوهرية تجري مجرى أسماء.

فإن أرادوا بقولهم: جوهرية أن كل صفة جوهر، فهذا كلام ظاهر الفساد فإن الصفة القائمة بغيرها لا تكون جوهرا قائما بنفسه، ومن ظن أن حرارة النار القائمة بها جوهر قائم بنفسه كالنار، فهو إما مصاب في عقله وإما مسفسط معاند.

والأول: يستحق علاج المجانين.

والثاني: يستحق العقوبة التي تردعه عن العناد.

ثم إن جاز أن تكون الصفة جوهرا كانت القدرة أيضا جوهرا.

وإن أرادوا بقولهم: جوهرية أنها صفات ذاتية، وغيرها صفات فعلية كالخالق والرازق، فمعلوم أن صفاته الذاتية منها القدرة وغيرها فلم تنحصر في هذه.

وأيضا فالكلام، وإن كان قائما بذاته، فقيل: هو متعلق بمشيئته وقدرته، وهو قول السلف والأكثرين، وقيل: ليس كذلك.

والمتكلم قيل: هو من فعل الكلام ولو كان منفصلا عنه، وقيل: هو من قام به الكلام، وإن لم يكن بمشيئته وقدرته، وقيل: المتكلم من قام به الكلام بمشيئته وقدرته، وهذا قول السلف والأكثرين، فبطل قولهم على كل تقدير.

وإن أرادوا بالجوهرية أنها ذاتية مقومة، وباقي الصفات عرضية على رأي أهل المنطق اليونان الذين يفرقون في الصفات اللازمة للموصوف بين هذا وهذا، كان هذا فاسدا من وجوه:

منها: أن تفريق هؤلاء في الصفات اللازمة للموصوف بين صفة وصفة، وجعل بعضها ذاتيا مقوما داخلا في الماهية، وبعضها عرضيا لاحقا خارجا عن الماهية - كلام باطل عند جماهير نظار الأمم من أهل الملل، وغيرهم كما قد بسط الكلام عليه في الرد على هؤلاء المتفلسفة، وبين أن ما يدعونه من تركيب الأنواع من الأجناس والفصول إنما هو تركيب في الأذهان لا حقيقة له في الأعيان، وأن ما يقوم بالأذهان يختلف باختلاف تصور الأذهان.

فتارة يتصور الشيء مجملا، وتارة يتصوره مفصلا، وما سموه تمام الماهية، والداخل في الماهية، والخارج عنها، اللازم لها - يعود عند التحقيق إلى ما يدل عليه اللفظ بالمطابقة والتضمن والالتزام.

ومدلول اللفظ هو بحسب ما يعنيه المتكلم ويقصده ويتصوره، وهذا يختلف باختلاف إرادات الناس لا يرجع ذلك إلى حقيقة عقلية ولا صفة ذاتية للموجودات.

ولهذا لما كان كلامهم باطلا لم يمكنهم ذكر فرق صحيح بين الذاتي والعرضي اللازم إذا كان كلاهما لازما للموصوف، بل ذكروا ثلاثة فروق، والثلاثة باطلة، واعترف حذاقهم ببطلانها، كقولهم: إن الذاتي يثبت للموصوف، بلا وسط، والعرضي اللازم إنما يثبت بوسط.

ثم حذاقهم يفسرون الوسط بالدليل، كما فسره ابن سينا.

ومنهم من يفسر الوسط بصفة قائمة للموصوف، كما يفسره الرازي وغيره، وهؤلاء لم يفهموا مراد أولئك فزاد غلطهم، وأولئك أرادوا بالوسط الدليل، كما يريدون بالحد الأوسط ما يقرن باللام في قولك: لأنه، فصار العرضي اللازم عندهم ما يعلم ثبوته للموصوف بدليل، وهذا لا يرجع إلى حقيقة ثابتة في نفس الأمر، بل هذا أمر يتعلق بالعالم بالصفات.

فمنهم من يكون تام التصور فيعلم لزوم الصفة للموصوف، بلا دليل.

ومنهم من لا يكون تام التصور فلا يعلم ذلك إلا بدليل، ثم كل ما كان مستلزما لشيء، فإنه يمكن الاستدلال به عليه، إذا كان الدليل هو الذي يلزم من تحققه تحقق المدلول، فيكون الوسط كل ما كان مستلزما للعرض، فيكون العرض لازم اللازم.

وهم معترفون بأن من العرضيات ما يلزم، بلا وسط، وقد مثلوا ذلك بالزوجية والفردية في العدد، كالعلم بأن الأربعة زوج، والثلاثة فرد، وإن كان ظاهرا، لكن العلم بأن خمسمائة وثلاثة وأربعين نصف ألف وستة وثمانين، قد يفتقر إلى دليل، وقد يفتقر إلى تأمل وفكر.

وهم يقولون ما يقول ابن سينا أفضل متأخريهم، وغيره من أن العرض المنقسم إلى الكيف والكم وغير ذلك هو ذاتي لموصوفاته.

واللون المنقسم إلى السوداء والبياض هو ذاتي للمتلون، والسوادية والبياضية صفتان ذاتيتان، بخلاف الزوجية والفردية.

قالوا: لأن كون هذا أسود وأبيض وعرضا قائما بغيره، لا يفتقر إلى استدلال ونظر بخلاف كون هذا العدد زوجا أو فردا، فإن هذا قد يفتقر إلى نظر واستدلال، فإنه ينقسم إلى قسمين متساويين أو لا ينقسم.

ومعلوم أن هذا فرق يعود إلى علم العالم بهذه الصفات، هل هو جلي أو خفي، وهل يفتقر إلى نظر واستدلال أو لا يفتقر، ليس هو فرقا يعود إلى الصفة في نفسها ولا إلى موصوفها، فعلم أنه ليس بين ما جعلوه ذاتيا مقوما داخلا في الماهية، وما جعلوه عرضيا لازما خارجا عن الماهية - فرق يعود إلى نفس الماهية التي هي الذات الموصوفة الموجودة في الخارج، ولا إلى صفاتها، بل جميع صفاتها اللازمة لها - سواء في ذلك، وليست الماهية مركبة من هذا دون هذا، ولا فيها شيء يتقدم على الماهية في الوجود الخارجي، كما يقولون: إن الذاتي يتقدم على الماهية في الوجود والذهن.

ولا الصفات جواهر موجودة في الخارج لها أجزاء كأجزاء الأجسام المركبة، وإنما هي صفات قائمة بالموصوف يمتنع تقدم شيء منها على الموصوف.

ولكن إذا قيل في الإنسان: هو جسم حساس تام متحرك بالإرادة ناطق - فهنا قد يتصور الذهن هذه الأمور، ويعبر عنها، فكل واحد منهما جزء من الجملة التي في ذهنه ولسانه.

والجملة التي في ذهنه ولسانه مركبة من هذه الأجزاء لا أن الإنسان الموجود في الخارج مركب من هذه الأجزاء، وأنها متقدمة عليه أو أنها جواهر، فإن هذا كله مما يعلم بصريح العقل أنه باطل، لكن هؤلاء المتفلسفة اليونان ومن اتبعهم - كثيرا ما يشتبه عليهم ما يتصورونه في الأذهان بما يوجد في الأعيان، كما أثبت من أثبت من قدمائهم مثل فيثاغورس وأتباعه - أعدادا مجردة موجودة في الخارج.

وقد رد ذلك عليهم سائر العقلاء، كما رده من بعده منهم.

وقالوا: إن العدد المجرد، والمقدار المجرد إنما يوجد في الذهن لا في الخارج، وإنما يوجد في الخارج المعدودات والمقدرات، مثل الأجسام المتفرقة التي تعد كالكواكب، أو المتصلة التي تقدر كالأفلاك، وذلك هو المتصف بالكم المتصل والكم المنفصل الموجود في الخارج.

وأثبت أصحاب أفلاطون الكليات العقلية في الخارج التي يسمونها المثل الأفلاطونية وزعموا أنها قديمة أزلية، وأثبتوا بعدا موجودا مجردا جوهرا: هو الخلاء، وجوهرا قائما بنفسه، هو الدهر، وجوهرا مجردا قائما بنفسه: هو المادة والهيولى الأزلية.

وهذه كلها إنما تتصور في الأذهان لا في الأعيان، بل وما أثبتوه من العقول المجردة العشرة هي أيضا عند التحقيق ترجع إلى ما يجرده الذهن، ويقدره فيه، لا إلى موجود في الخارج.

وأصل قولهم: المجردات والمفارقات هو مأخوذ من مفارقة النفس الناطقة للبدن بالموت، وهذا حق، فإن الذي عليه الأنبياء وأتباعهم، وجمهور العقلاء أن الروح تفارق البدن، وتبقى بعد فراق البدن، ومن قال من متكلمة أهل الملل إنه لا يبقى بعد البدن روح تفارقه، وإن الروح جزء من البدن أو عرض من أعراض البدن، فقوله - مع أنه خطأ في العقل الصريح - هو أيضا مخالف لكتب الله المنزلة ولرسله، ولمن اتبعهم من جميع أهل الملل، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.

والمقصود هنا التنبيه على أن تفريق هؤلاء اليونانيين في الصفات اللازمة للموصوف بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة، وجعلهم اللازمة: منها ما هو لازم للماهية، ومنها ما هو لازم لوجودها - هو مبني على أصلين فاسدين لهم، خالفهم فيها جمهور عقلاء الأمم من نظار أهل الملل وغيرهم.

أحد الأصلين: هو ما تقدم من جعلهم الصفات اللازمة للموصوف هي في الخارج منقسمة إلى ذاتي، جزء من الماهية داخل فيها، وإلى عرضي خارج عنها لازم لها.

والثاني: زعمهم أن كل موجود ممكن وله في الخارج ماهية هي ذاته وحقيقته - غير الموجود المعلوم المعين الثابت في الخارج، وهذا أيضا مما اشتبه عليهم فيه ما في الذهن بما في الخارج.

فإنه إذا أريد بالماهية ما يتصور في الذهن، وهو المقول في جواب ما هو، وبالوجود ما هو ثابت متحقق في الخارج، فمعلوم أن هذا غير هذا، كما يقولون: إنا نتصور المثلث قبل أن نعلم وجوده في الخارج، فعلم أن ماهية المثلث غير المثلث الموجود في الخارج.

فإنه يقال لهم إن أردتم أن ما يتصور في الذهن من المثلث غير الموجود في الخارج فهذا حق، لكن ليس في هذا ما يدل على أنه في الخارج عن الذهن شيئين:

أحدهما: ماهية المثلث التي هي حقيقته وذاته.

الثاني: المثلث الموجود الذي هو زاوية الحائط.

وإن أردتم أن في الخارج شيئين، فهذا غلط، وهذا الموضع مما اشتبه على كثير من النظار حتى صار بعض أكابرهم حائرا متوقفا.

وبعضهم يختلف قوله ويتناقض، وسبب ذلك عدم تمييزهم بين ما يتصور في الأذهان وبين ما يوجد في الأعيان، ثم هذا الموضوع نقلوه إلى الكلام في صفات الله اللازمة له، كحياته وعلمه وقدرته، هل هي ذاتية أو عرضية؟

فإن قيل: ذاتية لزم أن تكون له أجزاء متقدمة عليه تركب منها، وإن كانت عرضية لازمة لزم أن يكون قابلا وفاعلا، فإن كونه فاعلا غير كونه قابلا، فلزم أن يكون فيه جهتان، وهذا من التركيب الذي زعموه منتفيا، وذلك يستلزم التركيب، وهو التركيب من الذاتيات، وقد بين فساد هذا من وجوه متعددة:

منها: أن التركيب المعقول هو تركيب الحيوان والنبات والمعادن من أبعاضه وأخلاطه، وتركيب المبنيات والملبوسات والأطعمة والأشربة من أبعاضها وأخلاطها.

وأما تركيب الأجسام من الجواهر المنفردة أو من المادة والصورة فهذا مما تنازع فيه جمهور العقلاء، وكذلك تركيب الشيء من الموجود، والماهية سواء كان واجبا أو ممكنا هو مما تنازع فيه جمهور العقلاء، وكذلك تركبه من الصفات الذاتية المشتركة والمميزة التي يسمونها: الجنس، والفصل.

وأما اتصاف الذات بصفات تقوم بها، فهذا هو الذي يعرفه عامة العقلاء، ولكن لا يسمون هذا تركيبا، فمن سماه تركيبا لم يكن نزاعه اللفظي قادحا فيما علم بالأدلة السمعية والعقلية.

ثم هم يقولون: المركب يفتقر إلى أجزائه، وأجزاؤه غيره، وواجب الوجود لا يفتقر إلى غيره، وهذه كلها ألفاظ مجملة، فإن لفظ الافتقار هنا لم يعنوا به افتقار المفعول إلى فاعله، ولا المعلول إلى علته الفاعلية، فإن جزء الشيء لا يكون فاعله ولا علته الموجبة له، بل يريدون به التلازم والاشتراط، فإن وجود المجموع مستلزم لوجود أجزائه، وهو مشروط بذلك.

ومنها: أن لفظ الجزء ليس مرادهم جزءا مباينا للجملة، فإن جزء الجملة ليس مباينا لها.

ومنها لفظ الغير، فإنه يراد بالغيرين ما يجوز مباينة أحدهما لصاحبه، أو مفارقته له بزمان أو مكان أو وجود، ويراد بهما ما يجوز العلم بأحدهما دون الآخر، وبعض المجموع وصفة الموصوف لا يجب أن تفارقه وتباينه، بل قد يجوز أن تباينه ويجوز أن لا تباينه.

فصفات الرب عز وجل اللازمة له لا يجوز أن تفارقه وتباينه، وحينئذ فمن الناس من لا يسميها غيرا له، ومن سماها غيرا له فذاته مستلزمة لها، ليست الصفات فاعلة للذات، ولا علة موجبة لها.

ولفظ واجب الوجود يراد به الموجود بنفسه الذي لا فاعل له، ولا علة فاعلة له، وذات الرب عز وجل وصفاته واجبة الوجود بهذا الاعتبار، ويراد به مع ذلك المستغني عن محل يقوم به، والذات بهذا المعنى واجبة دون الصفات، ويراد به ما لا تعلق له بغيره، وهذا لا حقيقة له؛ فإن الرب تعالى له تعلق بمخلوقاته لا سيما عند هؤلاء الفلاسفة الدهرية الذين يقولون: إنه موجب بذاته للأفلاك مستلزم لها، فيجعلونه ملزوما لمفعولاته، فكيف ينكرون أن تكون ذاته ملزومة لصفاته؟

وهؤلاء المتفلسفة اليونانيون الذين يسمون المشائين أتباع أرسطو صاحب التعاليم: المنطق الطبيعي، والرياضي، والإلهي، يقولون: إن موضوع العلم الطبيعي متعلق بالمادة في الذهن والخارج من الجسم وأحكامه.

والثاني الرياضي: وهو متعلق بالمادة في الخارج لا في الذهن، فإنه لا يوجد عددا ولا مقدارا في الخارج إلا في جسم في الخارج أو عرض معدود، أو مقدر منفصل، بخلاف الذهن، فإنه يجرد أعدادا ومقادير مجردة عن المعدودات والمقدرات.

والثالث: الذي يسمونه علم ما بعد الطبيعة باعتبار السلوك العلمي، وهو علم ما قبلها باعتبار الوجود العيني، ويسمونه أيضا العلم الإلهي، وموضوعه عندهم: المجرد عن المادة في الذهن والخارج، وهو الموجود من حيث هو موجود، وانقسامه إلى جوهر وعرض، وانقسام الجوهر إلى جسم وغير جسم، وانقسام الجسم إلى المادة والصورة والعقول والنفوس.

والعلة الأولى يسميها أرسطو وأتباعه جوهرا، ولا يسميها واجب الوجود، وأما متأخروهم كابن سينا وأتباعه يسمونها واجب الوجود، ولا يسمونها جوهرا، والكلام على هؤلاء مبسوط في موضع آخر، إذ المقصود هنا أن هذه الأمور التي يقولون هي موضوع العلم الإلهي، وهي المجردة عندهم عن المادة في الذهن والخارج، هي عند التحقيق وجودها في الأذهان، لا في الأعيان.

فإن الوجود العام الكلي لا يوجد عاما كليا إلا في الأذهان لا في الأعيان كما أن الإنسان العام الكلي، والحيوان العام الكلي لا يوجد عاما كليا إلا في الأذهان، لا في الأعيان.

وقد بسط الكلام على هؤلاء في غير هذا الموضع، وبين أن اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل، أقرب إلى الحق في الأمور الإلهية منهم.

وهذه الأمور مبسوطة في موضع آخر، ولكن نبهنا عليها لتعلقها هنا بقول هؤلاء النصارى: إن صفات الرب الثلاث هي جوهرية دون غيرها، وأنهم إن عنوا بذلك ما يعنيه هؤلاء بالذاتية، فقولهم باطل مبني على أصل باطل.

فإن تفريق هؤلاء اليونان في الصفات اللازمة بين الذاتي والعرضي اللازم للموجود، والعرضي اللازم للماهية، والعرضي اللازم للموصوف - فرق باطل، وقد ذكروا ثلاث فروق كلها باطلة، كما تقدم:

الأول: الوسط.

والفرق الثاني: تقدم الذاتي ذهنا ووجودا، بخلاف اللازم العرضي.

والثالث: توقف الحقيقة على الذات.

وقد تبين بطلان هذا في غير هذا الموضع.

والنصارى ليس مرادهم بالجوهرية ما يريده هؤلاء بالذاتية، فلهذا لم نبسط الكلام عليه، بل يقولون: إن الثلاثة جواهر، وهؤلاء المنطقيون يفرقون بين اللازم للماهية، واللازم لوجودها بناء على أن في الخارج شيئين: الوجود، وماهية أخرى غير الوجود.

والكلام على هذا كله مبسوط في موضع آخر.

ومنها: أنه لو قدر أن صفات الموصوفات اللازمة لها تنقسم إلى ذاتي مقوم، وعرضي لازم، وأن صفات الرب سبحانه كذلك، لم يكن تخصيص العلم بأنه ذاتي أولى من القدرة، فليس ذكر القائم بنفسه الحي العالم بأولى من ذكر القائم بنفسه الحي القادر.

والنصارى لما كانت الأقانيم عندهم ثلاثة، وزعموا أن الشرع المنزل دل على ذلك، وكانوا في ذلك مخالفين للشرع المنزل إليهم،

كما قد بسط في موضعه - صار طائفة منهم يقولون: موجود حي عالم، وطائفة يقولون: موجود عالم قادر، فيجعلون القادر مكان الحي، ويجعلون روح القدس هو القدرة.

وهذا القول وإن كان أحسن في المعنى، لكن تفسير روح القدس بالقدرة في غاية البعد الذي يظهر فساده لكل أحد.

ولا بد لهم من إثبات أقنوم الكلمة الذي يقولون تارة: هي العلم، وتارة: هي الحكمة، ويسمونها تارة: النطق كما سموها في كتابهم هذا، لأن الذي اتحد بالمسيح عندهم هو أقنوم الكلمة، فصاروا تارة يضمون إليها الحياة، وتارة يضمون إليها القدرة.

والأب تارة يقولون: هو الوجود، وتارة يقولون: القائم بنفسه، وتارة يقولون: الذات، وتسمى القائم بنفسه بالسريانية: الكيان، وتارة يقولون: الجود.

وكل هذا من الحيرة والضلال، لأنهم لا يجدون ثلاث معان هي المستحقة لأن تكون جوهرية دون غيرها من الصفات، سواء فسرت الجوهرية بأنها جواهر، أو بأنها ذاتية مقومة أو بغير ذلك.

ومنها قولهم: تجري مجرى أسماء، فإن أرادوا بذلك أسماء أعلام أو جامدة، وسائرها صفات، فاسم الحي والعالم اسم مشتق يدل على معنى العلم والحياة، كما يدل القدير على القدرة، وإن أرادوا أنه يسمى بها، فلله تعالى أسماء كثيرة، فإنه سبحانه له الأسماء الحسنى.

ومن أسمائه القدير، والقدرة تستلزم من قدرته على المخلوقات ما لا يدل عليه العلم، وخلقه للمخلوقات يدل على قدرته أبلغ من دلالته على علمه، واختصاصه بالقدرة أظهر من اختصاصه بالعلم، حتى إن طائفة من النظار كأبي الحسن الأشعري وغيره يقول: أخص وصفه القدرة على الاختراع، فلا يوصف بذلك غيره.

والجهم بن صفوان قبله يقول: ليس في الوجود قادر غيره، ولا لغيره قدرة، والأشعري وإن أثبت للمخلوق قدرة، لكن يثبت قدرة لا تؤثر في المقدور، ولم يقل أحد من العقلاء: إن أخص وصفه الحياة والعلم، ولا إن غيره ليس بحي ولا عالم، فكان جعل القدير اسما وغيره صفة - إن كان الفرق حقا - أولى من العكس، فكيف إذا كان الفرق باطلا فإن أسماءه تعالى التي يعرفها الناس هي أسماء، وهي صفات في اصطلاح أهل العربية تدل على معان، هي صفاته القائمة به.

فالحي يدل على الحياة، والعليم يدل على العلم، والقدير يدل على القدرة، هذا مذهب سلف الأمة وجماهير الأمم، ومن الناس فرقة شاذة تزعم أن هذه الأسماء لا تدل على معان كأسماء الأعلام، وقد تنازع الناس فيما يسمى به سبحانه، ويسمى به غيره كالحي والعليم والقدير.

فالجمهور على أنه حقيقة فيهما، وقالت طائفة كأبي العباس الناشي: إنها حقيقة في الرب عز وجل مجاز في المخلوق،

وقالت طائفة عكس هؤلاء من الجهمية والملاحدة والمتفلسفة: إنها مجاز في الرب عز وجل حقيقة في المخلوق، والأولون هي عندهم متواطئة، وقد يسمونها مشككة لما فيها من التفاضل، وبعضهم يقول: هي مشتركة اشتراكا لفظيا.

فصل: إبطال تمثيلهم الصفات بشعاع الشمس

وأما قولهم: كل صفة منها غير الأخرى:

فهذا إن أرادوا به أن صفات الرب سبحانه وتعالى قد تباينه وتنفصل عنه، وهو حقيقة قولهم. ويقولون مع ذلك: إنها متصلة به، فهو جمع بين النقيضين، وتمثيلهم بشعاع الشمس تمثيل باطل، وهو حجة عليهم لا لهم.

فإن الشعاع القائم بالهواء والأرض والجبال والشجر والحيطان، ليس هو قائما بذات الشمس.

والقائم بذات الشمس، ليس هو قائما بالهواء والأرض.

فإن قالوا: بل ما يقوم به من العلم يفيض منه على قلوب الأنبياء علوم، كما يفيض الشعاع من الشمس.

قيل لهم: لا اختصاص للمسيح بهذا، بل هذا قدر مشترك بينه وبين غيره من الأنبياء، وليس في هذا حلول ذات الرب ولا صفته القائمة به بشيء من مخلوقاته، ولا أن العبد بما حل فيه من العلم والإيمان يصير إلها معبودا.

وإن أرادوا أنها قائمة به، وتسمى كل واحدة غير الأخرى، فهنا نزاع لفظي، هل تسمى غيرا أو لا تسمى غيرا؟

فإن من الناس من يقول: كل صفة للرب عز وجل فهي غير الأخرى، ويقول: الغيران ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.

ومنهم من يقول ليست هي الأخرى، ولا هي هي؛ لأن الغيرين ما جاز وجود أحدهما مع عدم الآخر، أو ما جاز مفارقة أحدهما الآخر بزمان أو مكان أو وجود.

والذي عليه سلف الأمة وأئمتها إذا قيل لهم: علم الله وكلام الله، هل هو غير الله أم لا؟ لم يطلقوا النفي ولا الإثبات، فإنه إذا قال: غيره؛ أوهم أنه مباين له.

وإذا قال: ليس غيره؛ أوهم أنه هو، بل يستفصل السائل، فإن أراد بقوله: غيره؛ أنه مباين له منفصل عنه - فصفات الموصوف لا تكون مباينة له منفصلة عنه، وإن كان مخلوقا، فكيف بصفات الخالق؟

وإن أراد بالغير أنها ليست هي هو، فليست الصفة هي الموصوف، فهي غيره بهذا الاعتبار، واسم الرب تعالى إذا أطلق يتناول الذات المقدسة بما يستحقه من صفات الكمال، فيمتنع وجود الذات عرية عن صفات الكمال.

فاسم الله يتناول الذات الموصوفة بصفات الكمال، وهذه الصفات ليست زائدة على هذا المسمى، بل هي داخلة في المسمى، ولكنها زائدة على الذات المجردة التي تثبتها نفاة الصفات، فأولئك لما زعموا أنه ذات مجردة قال هؤلاء: بل الصفات زائدة على ما أثبتموه من الذات.

وأما في نفس الأمر، فليس هناك ذات مجردة تكون الصفات زائدة عليها، بل الرب تعالى هو الذات المقدسة الموصوفة بصفات الكمال، وصفاته داخلة في مسمى أسمائه سبحانه وتعالى.

فصل: بيان تناقض قول النصارى في عقيدة إيمانهم

وقولهم: فالإله واحد، خالق واحد، رب واحد.

هو حق في نفسه، لكن قد نقضوه بقولهم في عقيدة إيمانهم: (نؤمن برب واحد، يسوع المسيح ابن الله الوحيد، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساو الأب في الجوهر) فأثبتوا هنا إلهين، ثم أثبتوا روح القدس إلها ثالثا، وقالوا إنه مسجود له، فصاروا يثبتون ثلاثة آلهة، ويقولون: إنما نثبت إلها واحدا، وهو تناقض ظاهر، وجمع بين النقيضين، بين الإثبات والنفي.

ولهذا قال طائفة من العقلاء: إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل، وجمعوا في كلامهم بين النقيضين، ولهذا قال بعضهم: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا، وقال آخر: لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا، وامرأته قولا آخر، وابنه قولا ثالثا.

فصل

وقولهم: (لا يتبعض ولا يتجزأ) مناقض لما ذكروه في أمانتهم، ولما يمثلونه به. فإنهم يمثلونه بشعاع الشمس، والشعاع يتبعض ويتجزأ، فإن ما يقوم منه بهذا الموضع بعض وجزء منه، ويمكن زوال بعضه مع بقاء بعض، فإنه إذا وضع على مطرح الشعاع شيء فصل ما بين جانبيه، وصار الشعاع الذي كان بينهما على ذلك الفوقاني فاصلا بين الشعاعين السافلين.

يبين ذلك أن الشعاع قائم بالأرض والهواء، وكل منهما متجزئ متبعض، وما قام بالمتبعض فهو متبعض، فإن الحال يتبع المحل، وذلك يستلزم التبعض والتجزيء فيما قام به.

ويقولون أيضا: إنه اتحد بالمسيح وأنه صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب، وعندهم أن اللاهوت منذ اتحد بالناسوت لم يفارقه، بل لما صعد إلى السماء، وجلس عن يمين الأب كان الصاعد عندهم هو المسيح الذي هو ناسوت ولاهوت إله تام، وإنسان تام، فهم لا يقولون: إن الجالس عن يمين الأب هو الناسوت فقط، بل اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا؟

وليس هذا من كلام الأنبياء حتى يقال: إن له معنى لا نفهمه، بل هو من كلام أكابرهم الذي وضعوه وجعلوه عقيدة إيمانهم، فإن كانوا تكلموا بما لا يعقلونه، فهم جهال لا يجوز أن يتبعوا، وإن كانوا يعقلون ما قالوه، فلا يعقل أحد من كون اللاهوت المتحد بالناسوت جلس عن يمين اللاهوت المجرد عن الاتحاد، إلا أن هذا اللاهوت المجرد منفصل مباين للاهوت المتحد، وليس هو متصلا به، بل غايته أن يكون مماسا له، بل يجب أن يكون الذي يماس اللاهوت المجرد هو الناسوت مع اللاهوت المتحد به، فهذا حقيقة التبعيض والتجزئة مع انفصال أحد البعضين عن الآخر.

وأيضا فيقال لهم: المتحد بالمسيح أهو ذات رب العالمين، أم صفة من صفاته؟ فإن كان هو الذات، فهو الأب نفسه، ويكون المسيح هو الأب نفسه، وهذا مما اتفق النصارى على بطلانه؛ فإنهم يقولون: هو الله، وهو ابن الله، كما حكى الله عنهم، ولا يقولون هو الأب والابن، والأب عندهم هو الله، وهذا من تناقضهم.

وإن قالوا: المتحد بالمسيح صفة الرب فصفة الرب لا تفارقه، ولا يمكن اتحادها ولا حلولها في شيء دون الذات.

وأيضا فالصفة نفسها ليست هي الإله الخالق رب العالمين، بل هي صفته، ولا يقول عاقل: إن كلام الله أو علم الله أو حياة الله، هي رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض، فلو قدر أن المسيح هو صفة الله نفسها لم يكن هو الله، ولم يكن هو رب العالمين، ولا خالق السماوات والأرض.

والنصارى يقولون: إن المسيح رب العالمين خالق كل شيء، وهو خالق آدم ومريم، وإن كان ابن آدم ومريم، فإنه خالق ذلك بلاهوته، وهو ابن آدم ومريم بناسوته.

فلو قدر أن المسيح هو صفة الرب لم تكن الصفة هي الخالق، فكيف والمسيح ليس هو صفة الله نفسها، بل هو مخلوق بكلمة الله، وسمي كلمة الله، لأن الله كونه (بكن)؟

وقال تعالى: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وسماه روحه، لأنه خلقه من نفخ روح القدس في أمه، لم يخلقه كما خلق غيره من أب آدمي.

قال الله تعالى: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين * ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين * قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

وإن قالوا: المتحد به بعض ذلك دون بعض، فقد قالوا بالتبعيض والتجزئة، فهم بين أمرين: إما بطلان مذهبهم، وإما اعترافهم بالتبعيض والتجزئة مع بطلانه.

وأيضا فقولهم: (إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو للأب في الجوهر، ابن الله الوحيد، المولود قبل كل الدهور).

يقال لهم: هذا الابن المولود المساوي للأب في الجوهر، الذي هو إله حق من إله حق، هل هو صفة قائمة بغيرها؟ أو عين قائمة بنفسها؟

فإن كان الأول، فالصفة ليست إلها ولا هي خالقة، ولا يقال لها: مولودة من الله، ولا إنها مساوية لله في الجوهر، ولم يسم قط أحد من الأنبياء، ولا أتباع الأنبياء صفات الله لا ابنا له ولا ولدا، ولا قال: إن صفة الله تولدت منه، ولا قال عاقل: إن الصفة القديمة تولدت من الذات القديمة. وهم يقولون: إن المسيح إله خلق السماوات والأرض لاتحاد ناسوته بهذا الابن المولود قبل كل الدهور، المساوي الأب في الجوهر.

وهذا كله نعت عين قائمة بنفسها، كالجواهر القائمة بنفسها، لا نعت صفات قائمة بغيرها، وإذا كان كذلك كان التبعيض والتجزئة لازمة لقولهم، فإن القول بالولادة الطبيعية مستلزم لأن يكون خرج منه جزء، قال تعالى: وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين * أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين * وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم * أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين * وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويسألون.

وأما هذا المعنى الذي يثبته من يثبته من علماء النصارى ويسمونه ولادة وبنوة فيسمونه الصفة القديمة الأزلية القائمة بالموصوف ابنا، ويسمونها تارة النطق، وتارة الكلمة، وتارة العلم، وتارة الحكمة، ويقولون: هذا مولود من الله، وابن الله. فهذا لم يقله أحد من الأنبياء وأتباعهم، ولا من سائر العقلاء غير هؤلاء المبتدعة من النصارى، ولا يفهم أحد من العقلاء من اسم الولادة والبنوة هذا المعنى.

والأنبياء لم يطلقوا لفظ الابن إلا على مخلوق، وهم يقولون: هو أب للمسيح بالطبع، ولغيره بالوضع، فلا يعقل جمهور العقلاء وغيرهم من هذا المعنى إلا البنوة المعقولة بانفصال جزء من الوالد، وهذا ينكره من ينكره من علمائهم.

لكنهم لم يتبعوا الأنبياء، ولم يقولوا ما تعقله العقلاء، فضلوا فيما نقلوه عن الأنبياء، وأضلوا أتباعهم فيما قالوه، وعوامهم، وإن كانوا لا يقولون: إن ولادة الله مثل ولادة الحيوان بانفصال شيء يوجد، فيقولون: ولادة لاهوتية بانفصال جزء من اللاهوت حل في الناسوت، لا يعقل من الولادة غير هذا.

وأيضا فقولهم: (ونؤمن بروح القدس الرب المحي المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له، وممجد ناطق في الأنبياء، فقولهم: المنبثق من الأب الذي هو مع الأب مسجود له وممجد، يمتنع أن يقال هذا في حياة الرب القائمة به، فإنها ليست منبثقة منه كسائر الصفات، إذ لو كان القائم بنفسه منبثقا لكان علمه وقدرته، وسائر صفاته منبثقة منه، بل الانبثاق في الكلام أظهر منه في الحياة، فإن الكلام يخرج من المتكلم، وأما الحياة فلا تخرج من الحي، فلو كان في الصفات ما هو منبثق لكان الصفة التي يسمونها الابن، ويقولون: هي العلم والكلام أو النطق والحكمة - أولى بأن تكون منبثقة من الحياة التي هي أبعد عن ذلك من الكلام.

وقد قالوا أيضا: إنه مع الأب مسجود له وممجد، والصفة القائمة بالرب ليست معه مسجود لها، وقالوا: هو ناطق في الأنبياء، وصفة الرب القائمة به لا تنطق في الأنبياء، بل هذا كله صفة روح القدس الذي يجعله الله في قلوب الأنبياء، أو صفة ملك من الملائكة كجبريل، فإذا كان هذا منبثقا من الأب، والانبثاق الخروج، فأي تبعيض وتجزئة أبلغ من هذا.

وإذا شبهوه بانبثاق الشعاع من الشمس كان هذا باطلا من وجوه:

منها: أن الشعاع عرض قائم بالهواء والأرض، وليس جوهرا قائما بنفسه، وهذا عندهم حي مسجود له، وهو جوهر.

ومنها: أن ذلك الشعاع القائم بالهواء والأرض ليس صفة للشمس، ولا قائما بها، وحياة الرب صفة قائمة به.

ومنها: أن الانبثاق خصوا به روح القدس، ولم يقولوا في الكلمة: إنها منبثقة. والانبثاق لو كان حقا لكان بالكلمة أشبه منه بالحياة، وكلما تدبر العاقل كلامهم في الأمانة وغيرها وجد فيه من التناقض والفساد ما لا يخفى إلا على أجهل العباد، ووجد فيه من مناقضته التوراة والإنجيل، وسائر كتب الله - ما لا يخفى من تدبر هذا وهذا. ووجد فيه من مناقضة صريح المعقول ما لا يخفى إلا على معاند أو جهول، فقولهم متناقض في نفسه، مخالف لصريح المعقول، وصحيح المنقول عن جميع الأنبياء والمرسلين صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين.

فصل: نقض قولهم إن اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف ولهذا تجسمت كلمة الله الخالقة بعيسى

قالوا: وأما تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإنه لم يخاطب الباري أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، حسب ما جاء في هذا الكتاب بقوله: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء. وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - روح القدس - وغيرها، فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف والكثائف، تظهر في غير كثيف كلا. ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.

والجواب من طرق:

أحدها: أنه يقال: هذا الذي ذكروه، وادعوا أنه تجسم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق، وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، وهو الذي يعبر عنه باتحاد اللاهوت بالناسوت - هو أمر ممتنع في صريح العقل، وما علم أنه ممتنع في صريح العقل لم يجز أن يخبر به رسول، فإن الرسل إنما تخبر بما لا يعلم بالعقل أنه ممتنع، فأما ما يعلم بصريح العقل أنه ممتنع، فالرسل منزهون عن الإخبار عنه.

الطريق الثاني: أن الأخبار الإلهية صريحة بأن المسيح عبد الله ليس بخالق العالم، والنصارى يقولون: هو إله تام وإنسان تام.

الطريق الثالث: الكلام فيما ذكروه.

فأما الطريق الأول فمن وجوه:

أحدها: أن يقال: المتحد بالمسيح إما أن يكون هو الذات المتصفة بالكلام أو الكلام فقط، وإن شئت قلت: المتحد به، إما الكلام مع الذات، وإما الكلام بدون الذات، فإن كان المتحد به الكلام مع الذات كان المسيح هو الأب وهو الابن وهو روح القدس، وكان المسيح هو الأقانيم الثلاثة.

وهذا باطل باتفاق النصارى، وسائر أهل الملل، وباتفاق الكتب الإلهية، وباطل بصريح العقل كما سنذكره إن شاء الله.

وإن كان المتحد به هو الكلمة فقط فالكلمة صفة، والصفة لا تقوم بغير موصوفها، والصفة ليست إلها خالقا، والمسيح عندهم إله خالق، فبطل قولهم على التقديرين، وإن قالوا: المتحد به الموصوف بالصفة فالموصوف هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، وإن قالوا: الصفة فقط، فالصفة لا تفارق الموصوف ولا تقوم بغير الموصوف، والصفة لا تخلق ولا ترزق، وليست الإله، والصفة لا تقعد عن يمين الموصوف، والمسيح عندهم صعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه.

وأما كونه هو الأب فقط، وهو الذات المجردة عن الصفات، فهذا أشد استحالة، وليس فيهم من يقول بهذا.

الوجه الثاني: أن الذات المتحدة بناسوت المسيح مع ناسوت المسيح إن كانتا بعد الاتحاد ذاتين، وهما جوهران كما كانا قبل الاتحاد، فليس ذلك باتحاد.

وإن قيل: صارا جوهرا واحدا، كما يقول من يقول منهم: إنهما صارا كالنار مع الحديدة، أو اللبن مع الماء، فهذا يستلزم استحالة كل منهما، وانقلاب صفة كل منهما، بل حقيقته كما استحال الماء واللبن إذا اختلطا، والنار مع الحديدة، وحينئذ فيلزم أن يكون اللاهوت استحال وتبدلت صفته وحقيقته، والاستحالة لا تكون إلا بعدم شيء ووجود آخر، فيلزم عدم شيء من القديم الواجب الوجود بنفسه.

وما وجب قدمه استحال عدمه، وما وجب وجوده امتنع عدمه، فإن القديم لا يكون قديما إلا لوجوبه بنفسه، أو لكونه لازما للواجب بنفسه، إذ لو لم يكن لازما له، بل كان غير لازم له لم يكن قديما بقدمه، والواجب بنفسه يمتنع عدمه، ولازمه لا يعدم إلا بعدمه، فإنه يلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم.

الوجه الثالث: أن يقال: الناس لهم في كلام الله عز وجل عدة أقوال، وقول النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله فثبت بطلانه على كل تقدير، وذلك أن كلام الله سبحانه إما أن يكون صفة له قائما به، وإما أن يكون مخلوقا له بائنا عنه، وإما أن يكون لا هذا ولا هذا، بل هو ما يوجد في النفوس، وهذا الثالث هو أبعد الأقوال عن أقوال الأنبياء، وهو قول من يقول من الفلاسفة والصابئة: إن الرب لا تقوم به الصفات وليس هو خالقا باختياره.

ويقولون مع ذلك: إنه ليس عالما بالجزئيات، ولا قادرا على تغيير الأفلاك، بل كلامه عندهم ما يفيض على النفوس، وربما سموه كلاما، بلسان الحال.

وهؤلاء ينفون الكلام عن الله، ويقولون: ليس بمتكلم، وقد يقولون: متكلم مجازا، لكن لما نطقت به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أطلقه من دخل في الملل منهم، ثم فسره بمثل هذا، وهذا أحد قولي الجهمية.

والقول الثاني: أنه متكلم حقيقة، لكن كلامه مخلوق، خلقه في غيره، وهو قول المعتزلة وغيرهم، والقول الآخر للجهمية.

وعلى هذين القولين، فليس لله كلام قائم به حتى يتحد بالمسيح، أو يحل به، والمخلوق عرض من الأعراض ليس بإله خالق، وكثير من أهل الكتاب: اليهود، والنصارى، من يقول بهذا وهذا.

وأما القول الأول، وهو قول سلف الأمة وأئمتها، وجمهورها، وقول كثير من سلف أهل الكتاب، وجمهورهم - فإما أن يقال: الكلام قديم النوع، بمعنى أنه لم يزل يتكلم بمشيئته، أو قديم العين، وإما أن يقال: ليس بقديم، بل هو حادث، والأول هو القول المعروف عن أئمة السنة والحديث.

وأما القائلون بقدم العين، فهم يقولون: الكلام لا يتعلق بمشيئته وقدرته، لاعتقادهم أنه لا تحله الحوادث، وما كان بمشيئته وقدرته لا يكون إلا حادثا.

ولهم قولان: منهم من قال: القديم معنى واحد، أو خمسة معان، وذلك المعنى يكون أمرا ونهيا وخبرا، وهذه صفات له لا أقسام له، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة.

ومنهم من قال: هو حروف، أو حروف وأصوات قديمة الأعيان.

والقول الثالث: إنه متكلم بمشيئته وقدرته كلاما قائما بذاته، قالوا: وهو حادث، ويمتنع أن يكون قديما، لامتناع كون المقدور المراد قديما، وهذه الطوائف بنوا أقوالهم على أن ما لم يخل عن الحوادث، فهو حادث لامتناع وجود ما لا نهاية له عندهم، وإذا امتنع ذلك تعين أن يكون لنوع الحوادث ابتداء، كما للحادث المعنى ابتداء، وما لم يسبق الحوادث كان معه أو بعده، فيكون حادثا، فلهذا منع هؤلاء أن تكون كلمات الله لا نهاية لها في الأزل، وإن كان من هؤلاء من يقول بدوام وجودها في الأبد.

وأما القول بأن كلمات الله لا نهاية لها مع أنها قائمة بذاته، فهو القول المأثور عن أئمة السلف، وهو قول أكثر أهل الحديث، وكثير من أهل الكلام، ومن الفلاسفة، وهذه الأقوال قد بسط الكلام عليها في غير موضع.

والمقصود هنا أن قول النصارى باطل على كل قول من هذه الأقوال الأربعة، كما تقدم بيان بطلانه على ذينك القولين، فإنه - على قول الجمهور الذين يجعلون لله كلمات كثيرة - إما كلمات لا نهاية لها ولم تزل، وإما كلمات لها ابتداء، وإذا كان له كلمات كثيرة فالمسيح ليس هو الكلمات التي لا نهاية لها، وليس هو كلمات كثيرة، بل إنما خلق بكلمة من كلمات الله كما في الكتب الإلهية: القرآن والتوراة، إنه يخلق الأشياء بكلماته.

قال تعالى في قصة بشارة مريم بالمسيح: قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وقال أيضا: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

وقال: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون.

وقد أخبر الله في القرآن بخلقه للأشياء بكلماته في غير موضع، بقوله: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

وفي التوراة: ليكن يوم الأحد، ليكن كذا، ليكن كذا.

وأيضا فعلى قول هؤلاء وعلى قول من يجعل كلامه إما معنى واحدا، وإما خمسة معان، وإما حروف وأصوات هي شيء واحد؛ فكلهم يقولون: إن الكلام صفة قائمة بالموصوف لا يتصور أن يكون جوهرا قائما بنفسه، ولا يتصور أن يكون خالقا، ولا للكلام مشيئة، ولا هو جوهر آخر غير جوهر المتكلم، ولا يتحد بغير المتكلم، بل جمهورهم يقولون: إنه لا يحل أيضا بغير المتكلم.

ومن قال بالحلول منهم فلا يقول: إن الحال جوهر، ولا إله خالق، فتبين أن ما قاله النصارى باطل على جميع الأقوال التي قالها الناس في كلام الله مع أن أكثر هذه الأقوال خطأ، ولما كان قول النصارى فساده أظهر للعقلاء كان الخطأ الذي في أكثر هذه الأقوال قد خفي على العقلاء الذين قالوها، ولم يخف عليهم فساد قول النصارى.

وأيضا فالذين قالوا بالحلول من الغلاة الذين يكفرهم المسلمون، كالذين يقولون بحلوله في بعض أهل البيت أو بعض المشايخ، هم وإن كانوا كفارا شاركوا النصارى في الحلول، ولكن لم يقولوا: إن الكلمة التي حلت هي الإله الخالق، فيتناقضون تناقضا ظاهرا، مثل ما في قول النصارى من التناقض البين ما ليس في قول هؤلاء، وإن كانوا في بعض الوجوه قولهم شر من قول النصارى.

الوجه الرابع: أن يقال: لو كان المسيح نفس كلمة الله فكلمة الله ليست هي الإله الخالق للسماوات والأرض، ولا هي تغفر الذنوب، وتجزي الناس بأعمالهم، سواء كانت كلمته صفة له أو مخلوقة له كسائر صفاته ومخلوقاته، فإن علم الله وقدرته وحياته لم تخلق العالم، ولا يقول أحد: يا علم الله اغفر لي، ويا قدرة الله توبي علي، ويا كلام الله ارحمني، ولا يقول: يا توراة الله أو يا إنجيله أو يا قرآنه اغفر لي وارحمني، وإنما يدعو الله سبحانه، وهو سبحانه متصف بصفات الكمال، فكيف والمسيح ليس هو نفس الكلام؟

فإن المسيح جوهر قائم بنفسه، والكلام صفة قائمة بالمتكلم، وليس هو نفس الرب المتكلم، فإن الرب المتكلم هو الذي يسمونه الأب، والمسيح ليس هو الأب عندهم، بل الابن، فضلوا في قولهم من جهات:

منها: جعل الأقانيم ثلاثة، وصفات الله لا تختص بثلاثة.

ومنها: جعل الصفة خالقة، والصفة لا تخلق.

ومنها: جعلهم المسيح نفس الكلمة، والمسيح خلق بالكلمة، فقيل له كن فكان كما سيأتي إن شاء الله تعالى تفسير ذلك، وإنما خص المسيح بتسميته كلمة الله دون سائر البشر، لأن سائر البشر خلقوا على الوجه المعتاد في المخلوقات، يخلق الواحد من ذرية آدم من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم ينفخ فيه الروح، وخلقوا من ماء الأبوين: الأب والأم.

والمسيح لم يخلق من ماء رجل، بل لما نفخ روح القدس في أمه حبلت به، وقال الله: كن فكان، ولهذا شبهه الله بآدم في قوله: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون.

فإن آدم خلق من تراب وماء، فصار طينا، ثم أيبس الطين، ثم قال له: كن فكان، وهو حين نفخ الروح فيه صار بشرا تاما، لم يحتج بعد ذلك إلى ما احتاج إليه أولاده بعد نفخ الروح، فإن الجنين بعد نفخ الروح يكمل خلق جسده في بطن أمه، فيبقى في بطنها نحو خمسة أشهر، ثم يخرج طفلا يرتضع، ثم يكبر شيئا بعد شيء، وآدم حين خلق جسده قيل له كن فكان بشرا تاما بنفخ الروح فيه، ولكن لم يسم كلمة الله لأن جسده خلق من التراب والماء وبقي مدة طويلة يقال: أربعين سنة، فلم يكن خلق جسده إبداعيا في وقت واحد، بل خلق شيئا فشيئا، وخلق الحيوان من الطين معتاد في الجملة.

وأما المسيح فخلق جسده خلقا إبداعيا بنفس نفخ روح القدس في أمه، قيل له: كن فكان، فكان له من الاختصاص بكونه خلق بكلمة الله ما لم يكن لغيره من البشر، ومن الأمر المعتاد في لغة العرب وغيرهم أن الاسم العام إذا كان له نوعان خصت أحد النوعين باسم، وأبقت الاسم العام مختصا بالنوع، كلفظ الدابة والحيوان، فإنه عام في كل ما يدب، وكل حيوان، ثم لما كان للآدمي اسم يخصه بقي لفظ الحيوان يختص به البهيم، ولفظ الدابة يختص به الخيل أو هي والبغال والحمير ونحو ذلك، وكذلك لفظ الجائز والممكن، وذوي الأرحام، وأمثال ذلك، فلما كان لغير المسيح ما يختص به أبقي اسم الكلمة العامة مختصا بالمسيح.

الطريق الثاني: أن ما ذكروه حجة عليهم، فإن الله إذا لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب، فالمسيح عيسى ابن مريم يجب أن لا يكلمه إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل إليه رسولا.

وقوله تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب. يعم كل بشر: المسيح وغيره.

وإذا امتنع أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب فامتناع أن يتحد به أو يحل فيه أولى وأحرى.

فإن ما اتحد به وحل فيه كلمة الله من غير حجاب بين اللاهوت والناسوت، وهم قد سلموا أن الله لا يكلم بشرا إلا من وراء حجاب.

الوجه الثالث: أن قوله: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب. يقتضي أن يكون الحجاب حجابا يحجب البشر كما حجب موسى، فيقتضي ذلك أنهم لا يرونه في الدنيا وإن كلمهم، كما أنه كلم موسى ولم يره موسى، بل سأل الرؤية فقال: قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين. قيل: أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد في الدنيا.

وعندهم في التوراة: إن الإنسان لا يمكنه أن يرى الله في الدنيا فيعيش، [7]

وكذلك قال عيسى لما سألوه عن رؤية الله فقال: إن الله لم يره أحد قط.[8] وهذا معروف عندهم، وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون الحجاب الحاجب للبشر ليس هو من البشر، وهذا يبطل قول النصارى فإنهم يقولون: إن الرب احتجب بحجاب بشري، وهو الجسد الذي ولدته مريم، فاتخذه حجابا وكلم الناس من ورائه، والقرآن يدل على أن الحجاب ليس من البشر.

يبين هذا الوجه الرابع: وهو أن ذلك الجسد الذي ولدته مريم هو من جنس أجسام بني آدم، فإن جاز أن يتحد به، ويحل فيه، ويطيق الجسد البشري ذلك في الدنيا بما يجعله الله فيه من القوة، جاز أن يتحد بغيره من الأجسام بما يجعله فيها من القوة، وإذا جاز أن يتحد بها جاز أن يكلمها بغير حجاب بينه وبينها بطريق الأولى والأحرى، وهذا خلاف ما ذكروه وخلاف القرآن.

فتبين أن نفي الأنبياء لأن يراه المرء في الدنيا هو نفي لمماسته ببشر بطريق الأولى والأحرى، والناسوت المسيحي هو بشر فإذا لم يمكنه أن يرى الله فكيف يمكنه أن يتحد به، ويماسه ويصير هو وإياه كاللبن والماء، والنار والحديد، أو كالروح والبدن؟

الوجه الخامس: أنه من المعلوم أن رؤية الآدمي له أيسر من اتحاده به، وحلوله فيه، وأولى بالإمكان، فإذا كانت الرؤية في الدنيا قد نفاها الله، ومنعها على ألسن رسله: موسى وعيسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، فكيف يجوز اتصاله بالبشر واتحاده به؟

الوجه السادس: أنه لو كان حلوله في البشر مما هو ممكن وواقع، لم يكن لاختصاص واحد من البشر بذلك دون من قبله وبعده معنى، فإن القدرة شاملة، والمقتضى - وهو وجود الله وحاجة الخلق - موجودة، ولهذا لما كانت الرسالة ممكنة أرسل من البشر غير واحد، ولما كان سماع كلامه للبشر ممكنا سمع كلامه غير واحد، ورؤيته في الدنيا بالأبصار لم تقع لأحد باتفاق علماء المسلمين، لكن لهم في النبي ﷺ قولان، والذي عليه أكابر العلماء وجمهورهم أنه لم يره بعينه، كما دل على ذلك الكتاب والسنة.

والخلة لما كانت ممكنة اتخذ إبراهيم خليلا، واتخذ محمدا أيضا خليلا كما في الصحيح من غير وجه عن النبي ﷺ أنه قال: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا وقال ﷺ: لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله، يعني نفسه.

الوجه السابع: قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف مثل الروح وغيرها - فكلمة الله التي بها خلقت الكثائف تظهر في غير كثيف كلا.

فيقال لهم: ظهور اللطائف في الكثائف كلام مجمل، فإن أردتم أن روح الإنسان تظهر في جسده، أو الجني يتكلم على لسان المصروع ونحو ذلك - فليس هذا مما نحن فيه، وإن أردتم أن الله تعالى نفسه يحل في البشر، فهذا محل النزاع، فأين الدليل عليه وأنتم لم تذكروا إلا ما يدل على نقيض ذلك؟

الوجه الثامن: أن هذا أمر لم يدل عليه عقل ولا نقل، ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله يحل في بشر، ولا ادعى صادق قط حلول الرب فيه، وإنما يدعي ذلك الكذابون، كالمسيح الدجال الذي يظهر في آخر الزمان، ويدعي الإلهية، فينزل الله تبارك وتعالى عيسى ابن مريم مسيح الهدى، فيقتل مسيح الهدى الذي ادعيت فيه الإلهية بالباطل المسيح الدجال الذي ادعى الإلهية بالباطل، ويبين أن البشر لا يحل فيه رب العالمين.

ولهذا لما أنذر النبي ﷺ بالمسيح الدجال، وقال: ما من نبي إلا وقد أنذر أمته المسيح الدجال حتى نوح أنذر قومه به وذكر النبي ﷺ له ثلاث دلائل ظاهرة تظهر لكل مسلم، تبين كذبه:

أحدها: قوله: مكتوب بين عينيه كافر، " ك ف ر " يقرؤه كل مؤمن: قارئ وغير قارئ

الثاني: قوله: واعلموا أن أحدا منكم لن يرى ربه حتى يموت فبين أن الله لا يراه أحد في الدنيا بعينيه، وكل بشر فإنه يرى في الدنيا بالعين، فعلم أن الله لا يتحد ببشر.

الثالث: قوله: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور، ودلائل نفي الربوبية عنه كثيرة.

لكن لما كان حلول اللاهوت في البشر واتخاذه به مذهبا ضل به طوائف كثيرون من بني آدم النصارى وغيرهم، وكان المسيح الدجال يأتي بخوارق عظيمة، والنصارى احتجوا على إلهية المسيح بمثل ذلك - ذكر النبي ﷺ من علامات كذبه أمورا ظاهرة لا يحتاج فيها إلى بيان موارد النزاع التي ضل فيها خلق كثير من الآدميين، فإن كثيرا من الناس، بل أكثرهم، تدهشهم الخوارق حتى يصدقوا صاحبها قبل النظر في إمكان دعواه، وإذا صدقوه صدقوا النصارى في دعوى إلهية المسيح، وصدقوا أيضا من ادعى الحلول والاتحاد في بعض المشايخ، أو بعض أهل البيت أو غيرهم من أهل الإفك والفجور.

وبهذا يظهر الجواب عما يورده بعض أهل الكلام كالرازي على هذا الحديث حيث قالوا: دلائل كون الدجال ليس هو الله - ظاهرة، فكيف يحتج النبي ﷺ على ذلك بقوله: إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور؟ وهذا السؤال يدل على جهل قائله بما يقع فيه بنو آدم من الضلال، وبالأدلة البينة التي تبين فساد الأقوال الباطلة، وإلا فإذا كان بنو إسرائيل في عهد موسى ظنوا أن العجل هو إله موسى، فقالوا: هذا إلهكم وإله موسى، وظنوا أن موسى نسيه.

والنصارى مع كثرتهم يقولون: إن المسيح هو الله. وفي المنتسبين إلى القبلة خلق كثير يقولون ذلك في كثير من المشايخ وأهل البيت، حتى إن كثيرا من أكابر شيوخ المعرفة والتصوف يجعلون هذا نهاية التحقيق والتوحيد، وهو أن يكون الموحد هو الموحد، وينشدون:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من يخبر عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

فكيف يستبعد مع إظهار الدجال هذه الخوارق العظيمة أن يعتقد فيه أنه الله، وهو يقول: أنا الله، وقد اعتقد ذلك فيمن لم يظهر فيه مثل خوارقه من الكذابين وفيمن لم يقل: أنا الله، كالمسيح، وسائر الأنبياء والصالحين.

الوجه التاسع: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا، فيقال لهم: كلمة الله التي يدعون ظهورها في المسيح، أهي كلام الله الذي هو صفته، أو ذات الله المتكلمة أو مجموعها؟ فإن قلتم: الظاهر فيه نفس الكلام فهذا يراد به شيئان:

إن أريد به أن الله أنزل كلامه على المسيح، كما أنزله على غيره من الرسل، فهذا حق اتفق عليه أهل الإيمان، ونطق به القرآن.

وإن أريد به أن كلام الله فارق ذاته وحل في المسيح أو غيره، فهو باطل مع أن هذا لا ينفع النصارى، فإن المسيح عندهم إله خلق السماوات والأرض، وهو عندهم ابن آدم وخالق آدم، وابن مريم وخالق مريم، ابنها بناسوته وخالقها بلاهوته.

وإن أرادوا بظهور الكلمة ظهور ذات الله أو ظهور ذاته وكلامه في الكثيف الذي هو الإنسان، فهذا أيضا يراد به ظهور نوره في قلوب المؤمنين، كما قال تعالى: الله نور السماوات والأرض إلى قوله: كوكب دري الآية.

وكما ظهر الله من طور سيناء وأشرق من ساعير واستعلن من جبال فاران، [4] وكما تجلى لإبراهيم، كما ذكره في التوراة، فهذا لا يختص بالمسيح، بل هو لغيره كما هو له.

وإن أرادوا أن ذات الرب حلت في المسيح، أو في غيره فهذا محل النزاع، فأين دليلهم على إمكان ذلك ثم وقوعه؟ مع أن جماهير العقلاء من أهل الملل وغيرهم يقولون: هذا غير واقع، بل هو ممتنع.

الوجه العاشر: قولهم: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف تظهر في غير كثيف كلا - كلام باطل.

فإن ظهور ما يظهر من الأمور الإلهية إذا أمكن ظهوره فظهوره في اللطيف أولى من ظهوره في الكثيف، فإن الملائكة تنزل بالوحي على الأنبياء عليهم السلام، وتتلقى كلام الله من الله، وتنزل به على الأنبياء عليهم السلام، فيكون وصول كلام الله إلى ملائكة قبل وصوله إلى البشر وهم الوسائط كما قال تعالى: أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء

والله تعالى أيد رسله من البشر حتى أطاقوا التلقي عن الملائكة، وكانت الملائكة تأتيهم أحيانا في غير الصورة البشرية، وأحيانا في الصورة البشرية، فكان ظهور الأمور الإلهية باللطائف ووصولها إليهم أولى منه بالكثائف، ولو جاز أن يتحد الرب سبحانه بحي من الأحياء، ويحل فيه، لكان حلوله في ملك من الملائكة واتحاده به أولى من حلوله واتحاده بواحد من البشر.

الوجه الحادي عشر: أن الناسوت المسيحي عندهم الذي اتحد به هو البدن والروح معا، فإن المسيح كان له بدن وروح، كما لسائر البشر، واتحد به عندهم اللاهوت، فهو عندهم اسم يقع على بدن وروح آدميين وعلى اللاهوت، وحينئذ فاللاهوت على رأيهم إنما اتحد في لطيف وهو الروح، وكثيف وهو البدن، لم يظهر في كثيف فقط، ولولا اللطيف الذي كان مع الكثيف، وهو الروح - لم يكن للكثيف فضيلة ولا شرف.

الوجه الثاني عشر: أنهم يشبهون اتحاد اللاهوت بالناسوت باتحاد الروح بالبدن، كما شبهوا هنا ظهوره فيه بظهور الروح في البدن، وحينئذ فمن المعلوم أن ما يصيب البدن من الآلام تتألم به الروح، وما تتألم به الروح يتألم به البدن، فيلزمهم أن يكون الناسوت لما صلب وتألم وتوجع الوجع الشديد كان اللاهوت أيضا متألما متوجعا، وقد خاطبت بهذا بعض النصارى فقال لي: الروح بسيطة، أي لا يلحقها ألم، فقلت له: فما تقول في أرواح الكفار بعد الموت، أمنعمة أو معذبة؟ فقال: هي في العذاب، فقلت: فعلم أن الروح المفارقة تنعم وتعذب، فإذا شبهتم اللاهوت في الناسوت بالروح في البدن لزم أن تتألم إذا تألم الناسوت كما تتألم الروح إذا تألم البدن، فاعترف هو وغيره بلزوم ذلك.

الوجه الثالث عشر: أن قولهم: وإذا كانت اللطائف لا تظهر إلا في الكثائف - فكلمة الله لا تظهر إلا في كثيف كلا، تركيب فاسد لا دلالة فيه، وإنما يدل إذا بينوا أن كل لطيف يظهر في كثيف، ولا يظهر في غيره حتى يقال: فلهذا ظهر الله في كثيف ولم يظهر في لطيف، وإلا فإذا قيل: إنه لا يحل لا في لطيف، ولا كثيف، أو قيل إنه يحل فيهما - بطل قولهم بوجوب حلوله في المسيح الكثيف دون اللطيف، وهم لم يؤلفوا الحجة تأليفا منتجا، ولا دلوا على مقدماتها بدليل، فلا أتوا بصورة الدليل، ولا مادته، بل مغاليط لا تروج إلا على جاهل يقلدهم.

ولا يلزم من حلول الروح في البدن أن يحل كل شيء في البدن، بل هذه دعوى مجردة، فأرواح بني آدم تظهر في أبدانهم، ولا تظهر في أبدان البهائم، بل ولا في الجن، والملائكة تتصور في صورة الآدميين، وكذلك الجن، والإنسان لا يظهر في غير صورة الإنسان، فأي دليل من كلامهم على أن الرب يحل في الإنسان الكثيف، ولا يحل في اللطيف؟

والقوم شرعوا يحتجون على تجسيم كلمة الله الخالقة فقالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة بإنسان مخلوق وولادتهما معا، أي الكلمة مع الناسوت، فإن الله لم يكلم أحدا من الأنبياء إلا وحيا أو من وراء حجاب وليس فيما ذكروه قط دلالة لا قطعية ولا ظنية على تجسيم كلمة الله الخالقة وولادتها مع الناسوت.

الوجه الرابع عشر: أنهم قالوا: وأما تجسيم كلمة الله الخالقة، ثم قالوا: فكلمة الله التي بها خلقت اللطائف، فتارة يجعلونها خالقة، وتارة يجعلونها مخلوقا بها، ومعلوم أن الخالق ليس هو المخلوق به، والمخلوق به ليس هو الخالق، فإن كانت الكلمة خالقة، فهي خلقت الأشياء، ولم تخلق الأشياء بها، وإن كانت الأشياء خلقت بها، فلم تخلق الأشياء، بل خلقت الأشياء بها، ولو قالوا: إن الأشياء خلقت بها بمعنى أن الله إذا أراد أمرا فإنما يقول له: كن فيكون، لكان هذا حقا، لكنهم يجعلونها خالقة، مع قولهم بما يناقض ذلك.

الوجه الخامس عشر: أن يقال لهم: إذا كان الله لم يخاطب بشرا إلا وحيا أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء - فتكليمه للبشر بالوحي ومن وراء حجاب، كما كلم موسى، وبإرسال ملك، كما أرسل الملائكة - إما أن يكون كافيا في حصول مراد الرب من الرسالة إلى عباده، أو ليس كافيا، بل لا بد من حلوله نفسه في بشر، فإن كان ذلك كافيا أمكن أن يكون المسيح مثل غيره فيوحي الله إليه أو يرسل إليه ملكا فيوحي بإذن الله ما يشاء، أو يكلمه من وراء حجاب كما كلم موسى، وحينئذ فلا حاجة به إلى اتحاده ببشر مخلوق، وإن كان التكلم ليس كافيا وجب أن يتحد بسائر الأنبياء، كما اتحد بالمسيح فيتحد بنوح وإبراهيم وموسى وداود وغيرهم، يبين هذا:

الوجه السادس عشر: وهو أنه من المعلوم أن الأنبياء الذين كانوا قبل المسيح أفضل من عوام النصارى الذين كانوا بعد المسيح، وأفضل من اليهود الذين كذبوا المسيح فإذا كان الرب قد يفضل باتحاده في المسيح حتى كلم عباده بنفسه، فيتحد بالمسيح محتجبا ببدنه الكثيف، وكلم بنفسه اليهود المكذبين للمسيح وعوام النصارى، وسائر من كلمه المسيح، فكان أن يكلم من هم أفضل من هؤلاء من الأنبياء والصالحين بنفسه أولى وأحرى، مثل أن يتحد بإبراهيم الخليل، فيكلم إسحاق ويعقوب ولوطا محتجبا ببدن الخليل، أو يتحد بيعقوب فيكلم أولاده أو غيرهم محتجبا ببدن يعقوب أو يتحد بموسى بن عمران فيكلم هارون ويوشع بن نون وغيرهما محتجبا ببدن موسى، فإذا كان هو سبحانه لم يفعل ذلك، إما لامتناع ذلك، وإما لأن عزته وحكمته أعلى من ذلك مع عدم الحاجة إلى ذلك، علم أنه لا يفعل ذلك في المسيح بطريق الأولى والأحرى.

الوجه السابع عشر: أنه إذا أمكنه أن يتحد ببشر فاتحاده بملك من الملائكة أولى وأحرى، وحينئذ فقد كان اتحاده بجبريل الذي أرسله إلى الأنبياء أولى من اتحاده ببشر يخاطب اليهود، وعوام النصارى.

فصل: تفنيد مراد النصارى بظهور الله في عيسى

قالوا: ولذلك ظهر في عيسى ابن مريم، إذ الإنسان أجل ما خلقه الله، ولهذا خاطب الخلق، وشاهدوا منه ما شاهدوا.

فيقال: إن ادعيتم ظهوره في عيسى كما ظهر في إبراهيم وموسى ومحمد صلوات الله عليهم وسلامه، وكما يظهر في بيوته التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وذلك بظهور نوره ومعرفته، وذكر أسمائه وعبادته ونحو ذلك، من غير حلول ذاته في البشر ولا اتحاده به، فهذا أمر مشترك بين المسيح وغيره فلا اختصاص للمسيح بهذا، وهذا أيضا قد يسمى حلولا، وعندهم أن الله يحل في الصالحين، وهذا مذكور عندهم في بعض الكتب الإلهية، كما في كتبهم في المزمور الرابع من الزبور، يقول داود في مناجاته لربه: وليفرح المتوكلون عليك إلى الأبد، ويبتهجون، وتحل فيهم ويفتخرون. فأخبر أنه يحل في الصالحين المذكورين، فعلم أن هذا لا اختصاص للمسيح به، وليس المراد بهذا - باتفاقهم واتفاق المسلمين - أن ذات الله نفسه تتحد بالبشر، ويصير اللاهوت والناسوت كالنار والحديد، والماء واللبن، ونحو ذلك مما يمثلون به الاتحاد، بل هذا يراد به حلول الإيمان به ومعرفته، ومحبته وذكره وعبادته، ونوره وهداه.

وقد يعبر عن ذلك بحلول المثال العلمي، كما قال تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.

وقال تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض؛

وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.

فهو سبحانه له المثل الأعلى في قلوب أهل السماوات وأهل الأرض.

ومن هذا الباب ما يرويه النبي ﷺ عن ربه قال: يقول الله: أنا مع عبدي ما ذكرني، وتحركت بي شفتاه، فأخبر أن شفتيه تتحرك به أي باسمه، وكذلك قوله في الحديث الصحيح: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده. فقال: لوجدتني عنده ولم يقل: لوجدتني إياه، وهو عنده أي في قلبه، والذي في قلبه المثال العلمي. وقال تعالى: عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولم يقل لوجدتني قد أكلته.

وكذلك قوله في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري، عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: يقول الله تعالى: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وفي رواية: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته.

وهذا الحديث قد يحتج به القائلون بالحلول العام أو الاتحاد العام أو وحدة الوجود، وقد يحتج به من يقول بالخاص من ذلك، كأشباه النصارى.

والحديث حجة على الفريقين، فإنه قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، فأثبت ثلاثة: وليا له، وعدوا يعادي وليه، وميز بين نفسه وبين وليه، وعدو وليه، فقال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، ولكن دل ذلك على أن وليه الذي والاه فصار يحب ما يحب ويبغض ما يبغض، ويوالي من يوالي ويعادي من يعادي، فيكون الرب مؤذنا بالحرب لمن عاداه، بأنه معاد لله.

ثم قال تعالى: وما تقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ففرق بين العبد المتقرب، والرب المتقرب إليه، ثم قال: ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فبين أنه يحبه بعد تقربه بالنوافل والفرائض.

ثم قال: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وعند أهل الحلول والاتحاد العام أو الوحدة: هو صدره وبطنه وظهره ورأسه وشعره، وهو كل شيء، أو في كل شيء قبل التقرب وبعده، وعند الخاص وأهل الحلول صار هو، وهو كالنار والحديد والماء واللبن، لا يختص بذلك آلة الإدراك والفعل.

ثم قال تعالى: فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، وعلى قول هؤلاء - الرب هو الذي يسمع ويبصر ويبطش ويمشي، والرسول إنما قال: فبي، ثم قال: ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، فجعل العبد سائلا مستعيذا، والرب مسئولا مستعاذا به، وهذا يناقض الاتحاد، وقوله: فبي يسمع مثل قوله: ما تحركت بي شفتاه، يريد به المثال العلمي.

وقول الله: فيكون الله في قلبه أي معرفته ومحبته وهداه وموالاته، وهو المثل العلمي، فبذاك الذي في قلبه يسمع ويبصر ويبطش ويمشي.

والمخلوق إذا أحب المخلوق أو عظمه أو أطاعه يعبر عنه بمثل هذا، فيقول: أنت في قلبي وفي فؤادي، وما زلت بين عيني، ومنه قول القائل:

مثالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب

وقول الآخر:

ومن عجبي أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

ومثل هذا كثير مع علم العقلاء أن نفس المحبوب المعظم هو في نفسه ليست ذاته في عين محبه ولا في قلبه، ولكن قد يشتبه هذا بهذا حتى يظن الغالطون أن نفس المحبوب المعبود في ذات المحب العابد.

ولذلك غلط بعض الفلاسفة حتى ظنوا أن ذات المعلوم المعقول يتحد بالعالم العاقل، فجعلوا المعقول والعقل والعاقل شيئا واحدا، ولم يميزوا بين حلول مثال المعلوم، وبين حلول ذاته، وهذا يكون لضعف العقل وقوة سلطان المحبة والمعرفة، فيغيب الإنسان بمعبوده عن عبادته، وبمحبوبه عن محبته، وبمشهوده عن شهادته، وبمعروفه عن معرفته، فيفنى من لم يكن عن شهود العبد، لا أنه نفسه يعدم ويفنى في من لم يزل في شهوده، ومن هذا المقام إذا غلط قد يقول مثل ما يحكى عن أبي يزيد البسطامي: سبحاني، أو ما في الجبة إلا الله، وفي هذا تذكر حكاية، وهو أن شخصا كان يحب آخر فألقى المحبوب نفسه في ماء، فألقى المحب نفسه خلفه، فقال: أنا وقعت فلم وقعت أنت؟ فقال: غبت بك عني، فظننت أنك أني، فهذا العبد المحب لما استولى على قلبه سلطان المحبة صار قلبه مستغرقا في محبوبه، لا يشهد قلبه غير ما في قلبه وغاب عن شهود نفسه وأفعاله، فظن أنه هو نفس المحبوب، وهذا أهون من أن يظن أن ذات المحبوب نفسه.

فهذا الظن لاتحاد الذات أو لحلولها ظن غالط وقع فيه كثير من الناس، فالذين قالوا: إن المسيح أو غيره من البشر هو الله، أو إن الله حال فيه قد يكون غلطهم من هذا الجنس، لما سمعوا كلاما يقتضي أن الله في ذات الشخص، وجعلوا فعل هذا فعل هذا، ظنوا ذاك اتحاد الذات وحلولها.

وإنما المراد أن معرفة الله فيه، واتحاد المأمور به والمنهي عنه والموالي والمعادي، كقوله تعالى: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله.

وقوله: من يطع الرسول فقد أطاع الله.

وليس ذلك لأن الرسول هو الله، ولا لأن نفسه حال في الرسول، بل لأن الرسول يأمر بما أمر الله به، وينهى عما ينهى الله عنه، ويحب ما يحبه الله، ويبغض ما يبغضه الله، ويوالي أولياء الله، ويعادي أعداء الله.

فمن بايعه على السمع والطاعة، فإنما بايع الله على السمع والطاعة، ومن أطاعه فإنما أطاع الله.

وكذلك المسيح وسائر الرسل؛ إنما يأمرون بما يأمر الله به، وينهون عما ينهى الله عنه ويوالون أولياء الله، ويعادون أعداء الله، فمن أطاعهم فقد أطاع الله، ومن صدقهم فقبل منهم ما أخبروا به، فقد قبل عن الله، ومن والاهم فقد والى الله، ومن عاداهم وحاربهم فقد عادى الله وحارب الله، ومن تصور هذه الأمور تبين له أن لفظ الحلول قد يعبر به عن معنى صحيح، وقد يعبر به عن معنى فاسد.

وكذلك حلول كلامه في القلوب، ولذلك كره أحمد بن حنبل الكلام في لفظ حلول القرآن في القلوب، كما قد ذكر في غير هذا الموضع.

ومما يوضح هذا أن الشيء له وجود في نفسه هو، وله وجود في المعلوم والأذهان، ووجود في اللفظ واللسان، ووجود في الخط والبيان، ووجود عيني شخصي، وعلمي ولفظي، ورسمي، وذلك كالشمس مثلا فلها تحقق في نفسها، وهي الشمس التي في السماء، ثم يتصور بالقلب الشمس، ثم ينطق اللسان بلفظ الشمس، ويكتب بالقلم الشمس.

والمقصود بالكتابة مطابقة اللفظ، وباللفظ مطابقة العلم، وبالعلم مطابقة المعلوم، فإذا رأى الإنسان في كتاب خط الشمس، أو سمع قائلا يذكر قال: هذه الشمس قد جعلها الله سراجا وهاجا، وهذه الشمس تطلع من المشرق وتغرب في المغرب، فهو يشير إلى ما سمعه من اللفظ ورآه من الخط، وليس مراده نفس اللفظ والخط، فإن ذلك ليس هو الشمس التي تطلع وتغرب، وإنما مراده ما يقصد بالخط واللفظ ويراد بهما، وهو المدلول المطابق لهما، وكذلك قد يرى اسم الله مكتوبا في كتاب، ومعه اسم صنم، فيقول: آمنت بهذا، وكفرت بهذا، ومراده أنه مؤمن بالله كافر بالصنم، فيشير إلى اسمه المكتوب ومراده المسمى بهذا الاسم، وكذلك إذا سمع من يذكر أسماء الله الحسنى قال: هذا رب العالمين، ومراده: المسمى بتلك الأسماء، ومن هذا قول أنس بن

مالك: كان نقش خاتم النبي ﷺ ثلاثة أسطر: محمد رسول الله، محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر.

ومراده بهذه الأسماء الخط لهذا وهذا وهذا، لا اللفظ ولا المسمى.

ومما يشبه هذا ما يرى في المرآة أو الماء، مثل أن يرى الشمس أو غيرها في ماء أو مرآة، فيشار إلى المرئي فيقال: هذا الشمس، وهذا وجهي أو وجه فلان، وليس مراده أن نفس الشمس أو وجهه أو وجه فلان حل في الماء أو المرآة، ولكن لما كان المقصود بتلك الرؤية هو الشمس وهو الوجه - ذكره، ثم قد يقال: رآه رؤية مقيدة في الماء، أو المرآة، وقد يقال: رآه بواسطة الماء والمرآة، وقد يقال: رأى مثاله وخياله المحاكي له، ولكن المقصود بالرؤية هو نفسه، ومثل هذا كثير.

ومعلوم أن ما في القلوب من المثال العلمي المطابق للمعلوم أقرب إليه من اللفظ، واللفظ أقرب من الخط، فإذا كان قد يشار إلى اللفظ والخط، والمراد هو نفسه، وإن لم يكن الخط واللفظ هو ذاته، بل به ظهر وعرف، فلأن يشار إلى ما في القلب، ويراد به المعروف الذي ظهر للقلب وتجلى للقلب، وصار نوره في القلب بطريق الأولى.

والعقلاء إنما تتوجه قلوبهم إلى المقصود المراد دون الوسائل، ويعبرون بعبارات تدل على ذلك لظهور مرادهم بها، كما يقولون لمن يعرف علم غيره، أو لمن يأمر بأمره، ويخبر بخبره، هذا فلان، فإذا كان مطلوبهم علم عالم أو طاعة أمير، فجاء نائبه القائم مقامه في ذلك، قالوا: هذا فلان، أي المطلوب منه هو مع هذا، فالاتحاد المقصود بهما يعبرون عن أحدهما بلفظ الآخر.

كما يقال: عكرمة هو ابن عباس، وأبو يوسف هو أبو حنيفة، ومن هذا الباب ما يذكر عن المسيح أنه قال: أنا وأبي واحد، من رآني فقد رأى أبي.

وقوله تعالى فيما حكاه عن رسوله: عبدي مرضت فلم تعدني، عبدي جعت فلم تطعمني، ويشبهه قوله: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله.

فينبغي أن يعرف هذا النوع من الكلام، فإنه تنحل به إشكالات كثيرة، فإن هذا موجود في كلام الله ورسله وكلام المخلوقين، في عامة الطوائف مع ظهور المعنى ومعرفة المتكلم والمخاطب أنه ليس المراد أن ذات أحدهما اتحدت بذات الآخر.

بل أبلغ من ذلك يطلق لفظ الحلول والاتحاد، ويراد به معنى صحيح، كما يقال فلان وفلان بينهما اتحاد، إذا كانا متفقين فيما يحبان ويبغضان، ويواليان ويعاديان، فلما اتحد مرادهما ومقصودهما صار يقال هما متحدان، وبينهما اتحاد، ولا يعني بذلك أن ذات هذا اتحدت بذات الآخر، كاتحاد النار والحديد، والماء واللبن، أو النفس والبدن، وكذلك لفظ الحلول، والسكنى، والتخلل وغير ذلك، كما قيل:

قد تخللت مسلك الروح مني وبذا سمي الخليل خليلا

والمتخلل مسلك الروح منه هو محبته له وشعوره به، ونحو ذلك، لا نفس ذاته، وكذلك قول الآخر:

ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره

والساكن في القلب هو مثاله العلمي ومحبته ومعرفته، فتسكن في القلب معرفته ومحبته لا عين ذاته، وكذلك قول الآخر:

إذا سكن الغدير على صفاء وجنب أن يحركه النسيم

بدت فيه السماء بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم

وقد يقال: فلان ما في قلبه إلا الله، وما عنده إلا الله، يراد بذلك: إلا ذكره ومعرفته ومحبته وخشيته وطاعته، وما يشبه ذلك، أي ليس في قلبه ما في قلب غيره من المخلوقين، بل ما في قلبه إلا الله وحده، ويقال: فلان ما عنده إلا فلان، إذا كان يلهج بذكره، ويفضله على غيره.

وهذا باب واسع، مع علم المتكلم والمستمع أن ذات فلان لم تحل في هذا، فضلا عن أن تتحد به، وهو كما يقال عن المرآة إذا لم تقابل إلا الشمس: ما فيها إلا الشمس، أي لم يظهر فيها غير الشمس.

وأيضا فلفظ الحلول يراد به حلول ذات الشيء تارة، وحلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي تارة كما تقدم ذكره، وعندهم في النبوات أن الله حل في غير المسيح من الصالحين، وليس المراد به أن ذات الرب حلت فيه، بل يقال فلان ساكن في قلبي وحال في قلبي وهو في سري، وسويداء قلبي، ونحو ذلك، وإنما حل فيه مثاله العلمي، وإذا كان كذلك فمعلوم أن المكان إذا خلا ممن يعرف الله ويعبده لم يكن هناك ذكر الله ولا حلت فيه عبادته ومعرفته، فإذا صار في المكان من يعرف الله ويعبده ويذكره ظهر فيه ذكره والإيمان به وحل فيه الإيمان بالله وعبادته وذكره، وهو بيت الله عز وجل فيقال: إن الله فيه، وهو حال فيه.

كما يقال: إن الله في قلوب العارفين، وحال فيهم، والمراد به حلول معرفته والإيمان به ومحبته، ونحو ذلك، وقد تقدم شواهد ذلك، فإذا كان الرب في قلوب عباده المؤمنين، أي نوره ومعرفته، وعبر عن هذا بأنه حال فيهم وهم حالون في المسجد - قيل: إن الله في المسجد، وحال فيه، بهذا المعنى، كما يقال: الله في قلب فلان وفلان، ما عنده إلا الله، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلو عدته لوجدتني عنده.

ومما يزيد ذلك إيضاحا ما يراه النائم من بعض الأشخاص في منامه، فيخاطبه ويأمره وينهاه ويخبره بأمور كثيرة، وهو يقول: رأيت فلانا في منامي فقال لي: كذا، وقلت له: كذا، وفعل كذا، وفعلت كذا، ويذكر أنواعا من الأقوال والأفعال.

وقد يكون فيها علوم وحكم وآداب ينتفع بها غاية المنفعة، وقد يكون ذلك الشخص الذي رأى في المنام حيا، وهو لا يشعر بأن ذاك رآه في منامه فضلا عن أن يكون شاعرا بأنه قال أو فعل، وقد يقص الرائي عليه رؤياه، ويقول له الرائي: يا سيدي رأيتك في المنام فقلت لي: كذا، وأمرتني بكذا، ونهيتني عن كذا، والمرئي لا يعرف ذلك، ولا يشعر به، لأن المرئي الذي حل في قلب الرائي هو المثال العلمي المطابق للعيني، كما يرى الرائي في المرآة أو الماء الشخص الموجود في الخارج، فهو المقصود، وبعض المرئيين في المنام قد يدري بأنه رئي في المنام ويكاشف بذلك الرائي كما قد يكاشفه بأمور أخرى، لا لأنه نفسه حل فيه.

والرؤيا إذا كانت صادقة كان ذلك القول والعمل مناسبا لحال المرئي، مما هو عادته يقوله ويفعله بنفسه، فمثل للرائي مثاله قائلا له وفاعلا؛ ليعلم أنه نفسه يقوله ويفعله فينتفع بذلك الرائي، كما يحكى للإنسان قول غيره وعمله ليعرف بذلك نفس القول والعمل المحكي، فإن كثيرا من الأشياء لا يعرفه الناس أو أكثرهم إلا بالمثل المضروب له، إما في اليقظة وإما في المنام، مع العلم بأن عين هذا ليس عين هذا.

ومن توهم أنه إذا رأى شخصا في منامه بأن ذاته نفسها حلت فيه دل على جهله؛ فإن المرئي كثيرا ما يكون حيا وهو لا يشعر بمن رآه ذلك، لا روحه تشعر ولا جسمه، فلا يتوهم أن ذات روحه تمثلت في صورته الجسمية للنائم، بل الممثل في نفس الرائي مثال مطابق له وجسمه وروحه حيث هما.

ثم الرؤيا قد تكون من الله، فتكون حقا، وقد تكون من الشيطان، كما ثبت تقسيمها إلى هذين في الأحاديث الصحيحة، والشيطان كما قد يتمثل في المنام بصورة شخص فقد يتمثل أيضا في اليقظة بصورة شخص يراه كثير من الناس، يضل بذلك من لم يكن من أهل العلم والإيمان، كما يجري لكثير من مشركي الهند وغيرهم إذا مات ميتهم يرونه قد جاء بعد ذلك وقضى ديونا، ورد ودائع وأخبرهم بأمور عن موتاهم، وإنما هو شيطان تصور في صورته، وقد يأتيهم في صورة من يعظمونه من الصالحين، ويقول: أنا فلان، وإنما هو شيطان.

وقد يقوم شيخ من الشيوخ، ويخلف موضعه شخصا في صورته يسمونه روحانية الشيخ ورفيقه، وهو جني تصور في صورته، وهذا يقع لكثير من الرهبان وغير الرهبان من المنتسبين إلى الإسلام، وقد يرى أحدهم في اليقظة من يقول له: أنا الخليل، أو أنا موسى، أو أنا المسيح، أو محمد، أو أنا فلان لبعض الصحابة، أو الحواريين، ويراه طائرا في الهواء، وإنما يكون ذلك من الشياطين، ولا تكون تلك الصورة مثل صورة ذلك الشخص.

وقد قال النبي ﷺ: من رآني في المنام فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي، فرؤيته في المنام حق، وأما في اليقظة فلا يرى بالعين هو، ولا أحد من الموتى، مع أن كثيرا من الناس قد يرى في اليقظة من يظنه نبيا من الأنبياء، إما عند قبره وإما عند غير قبره.

وقد يرى القبر انشق، وخرج منه صورة إنسان، فيظن أن الميت نفسه خرج من قبره، أو أن روحه تجسدت وخرجت من القبر، وإنما ذلك جني تصور في صورته ليضل ذلك الرائي، فإن الروح ليست مما تكون تحت التراب وينشق عنها التراب، فإنها وإن كانت قد تتصل بالبدن، فلا يحتاج في ذلك إلى شق التراب، والبدن لم ينشق عنه التراب، وإنما ذلك تخييل من الشيطان، وقد جرى مثل هذا لكثير من المنتسبين إلى المسلمين، وأهل الكتاب والمشركين. ويظن كثير من الناس أن هذا من كرامات عباد الله الصالحين، ويكون من إضلال الشياطين، كما قد بسط الكلام في هذا الباب في غير هذا الكتاب، مثل الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان وغير ذلك.

فصل

وإذا أردتم بقولكم: ظهر في عيسى حلول ذاته واتحاده بالمسيح أو غيره - فهذه دعوى مجردة من غير دليل متقدم ولا متأخر، وكون الإنسان أجل ما خلقه الله - لو كان مناسبا لحلوله فيه - أمر لا يختص به المسيح، بل قد قام الدليل على أن غير عيسى أفضل منه مثل إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وهذان اتخذهما الله خليلين، وليس فوق الخلة مرتبة، فلو كان يحل في أجل ما خلقه الله من الإنسان لكونه أجل مخلوقاته لحل في أجل هذا النوع، وهو الخليل، ومحمد صلى الله عليهما وسلم، وليس معهم قط حجة على أن الجسد المأخوذ من مريم إذا لم يتحد باللاهوت على أصلهم - أنه أفضل من الخليل وموسى.

وإذا قالوا: إنه لم يعمل خطيئة، فيحيى بن زكريا لم يعمل خطيئة، ومن عمل خطيئة وتاب منها فقد يصير بالتوبة أفضل مما كان قبل الخطيئة، وأفضل ممن لم يعمل تلك الخطيئة، والخليل وموسى أفضل من يحيى الذي يسمونه يوحنا المعمداني.

وأما قولهم: ولهذا خاطب الخلق، فالذي خاطب الخلق هو عيسى ابن مريم، وإنما سمع الناس صوته لم يسمعوا غير صوته، والجني إذا حل في الإنسان وتكلم على لسانه يظهر للسامعين أن هذا الصوت ليس هو صوت الآدمي، ويتكلم بكلام يعلم الحاضرون أنه ليس كلام الآدمي.

والمسيح لم يكن يسمع منه إلا ما يسمع من مثله من الرسل، ولو كان المتكلم على لسان الناسوت هو جنيا أو ملكا لظهر ذلك، وعرف أنه ليس هو البشر، فكيف إذا كان المتكلم هو رب العالمين؟ فإن هذا لو كان حقا لظهر ظهورا أعظم من ظهور كلام الملك والجني على لسان البشر بكثير كثير.

وأما ما شاهدوه من معجزات المسيح عليه الصلاة والسلام، فقد شاهدوا من غيره ما هو مثلها وأعظم منها، وقد أحيا غيره الميت وأخبره بالغيوب أكثر منه، ومعجزات موسى أعظم من معجزاته أو أكثر، وظهور المعجزات على يديه يدل على نبوته ورسالته، كما دلت المعجزات على نبوة غيره، ورسالتهم، لا تدل على الإلهية.

والدجال لما ادعى الإلهية لم يكن ما يظهر على يديه من الخوارق دليلا عليها، لأن دعوى الإلهية ممتنعة، فلا يكون في ظهور العجائب ما يدل على الأمر الممتنع.

فصل

قالوا: وقد قال الله على أفواه الأنبياء والمرسلين، الذين تنبوا على ولادته من العذراء الطاهرة مريم، وعلى جميع أفعاله التي فعلها في الأرض، وصعوده إلى السماء، وهذه النبوات جميعها عند اليهود مقرين ومعترفين بها ويقرؤنها في كنائسهم، ولم ينكروا منها كلمة واحدة.

فيقال: هذا كله مما لا ينازع المسلمون فيه، فإنه لا ريب أنه ولد من مريم العذراء البتول التي لم يمسها بشر قط، وأن الله أظهر على يديه الآيات، وأنه صعد إلى السماء، كما أخبر الله بذلك في كتابه، كما تقدم ذكره، فإذا كان هذا مما أخبرت به الأنبياء في النبوات التي عند اليهود لم ينكروا ذلك، وإن كان اليهود يتأولون ذلك على غير المسيح، كما في النبوات من البشارة بمحمد ﷺ، فهو حق، وإن كان الكافرون به من أهل الكتاب يتأولون ذلك على غيره.

فصل: نقاش ما نقلوه عن الأنبياء عن مجيء المسيح عليه السلام وبيان وجه الدلالة

قالوا: وسبيلنا أن نذكر من بعض قول الأنبياء الذين تنبوا على السيد المسيح، ونزوله إلى الأرض، قال عزرا الكاهن حيث سباهم بختنصر الفريدي إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنتين وثمانين سنة: يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم، وفي كمال هذه المدة أتى السيد المسيح. وقال أرميا النبي عن ولادته في ذلك الزمان: يقوم لداود ابن هو ضوء النور يملك الملك ويعلم ويفهم ويقيم الحق والعدل في الأرض ويخلص من آمن به من اليهود من بني إسرائيل وغيرهم، ويبقى بيت المقدس بغير مقاتل ويسمى الإله. وأما قوله: ابن لداود لأن مريم كانت من نسل داود ولأجل ذلك قال النبي: يقوم لداود ابن.

فيقال: أما قول عزرا الكاهن فليس فيه إلا إخباره بأنه يأتي المسيح ويخلص الشعوب والأمم، وهذا مما لا ينازع فيه المسلمون، فإنهم يقرون بما أخبر الله به في كتابه من إتيان المسيح ، وتخليص الله به كل من آمن به من الشعوب والأمم إلى أن بعث محمد ﷺ.

فكل من كان مؤمنا بالمسيح، متبعا لما أنزل عليه من غير تحريف ولا تبديل، فإن الله خلصه بالمسيح من شر الدنيا والآخرة، كما خلص الله تعالى بموسى من اتبعه من بني إسرائيل.

ومن حرف وبدل فلم يتبع المسيح، ومن كذب محمدا ﷺ فهو كمن كذب المسيح بعد أن كان مقرا بموسى .

ولكن هذا النص وأمثاله حجة على اليهود الذين يتأولون ذلك على أن هذا ليس هو المسيح ابن مريم، وإنما هو مسيح ينتظر، وإنما ينتظرون المسيح الدجال مسيح الضلالة، فإن اليهود يتبعونه ويقتلهم المسلمون معه (حتى يقول الشجر والحجر: يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله) وهكذا يقال في النبوة الثانية التي ذكروها عن أرميا النبي .

فصل

قالوا: وقال أرميا النبي عن ولادته في ذلك الزمان: يقوم لداود ابن، وهو ضوء النور يملك الملك، ويعلم ويفهم ويقيم الحق والعدل في الأرض، ويخلص من آمن به من اليهود، من بني إسرائيل وغيرهم ويبقى بيت المقدس بغير مقاتل، ويسمى الإله، وأما قوله: ابن لداود لأن مريم كانت من نسل داود، ولأجل ذلك قال: (ويقوم لداود ابن).

والجواب أن يقال: قد قال فيه: ويخلص من آمن به من اليهود، ومن بني إسرائيل. وهو كما فسرنا به التخليص الذي نقله عن عزرا الكاهن.

وأما قوله: واسمه الإله فهذا يدل على أنه ليس هو الله رب العالمين، وإنما لفظ الإله اسم سمي به كما سمي موسى إلها لفرعون عندهم في التوراة، [9] إذ لو كان هو الله رب العالمين لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله، فإن الله تبارك وتعالى لا يعرف بمثل هذا ويقال فيه: إن الله يسمى الإله، ولقال: يأتي الله بنفسه فيظهر. وقال: يملك الملك، ورب العالمين ما زال ولا يزال مالكا للملك سبحانه.

وأيضا فإنه قال: يقوم لداود ابن هو ضوء النور، ومعلوم أن الابن الذي من نسل داود الذي اسم أمه مريم هو الناسوت فقط، فإن اللاهوت ليس هو من نسل البشر، وقد تبين أن هذا الناسوت الذي هو ابن داود، يسمى الإله، فعلم أن هذا اسم للناسوت المخلوق لا للإله الخالق.

وأيضا فإنه قال: وهو ضوء النور لم يجعله النور نفسه، بل جعله ضوء النور، والله تعالى منور كل نور، فكيف يكون هو ضوء النور، والله تعالى قد سمى محمدا ﷺ سراجا منيرا، ولم يكن بذلك خالقا، فكيف إذا سمي ضوء النور؟

وأيضا فإنه لم يجعل القائم إلا ابن داود، وابن داود مخلوق؛

وأضاف الفعل إلى هذا المخلوق، ولو كان هذا هو الله رب العالمين قد اتحد بالناسوت البشري لبين أرميا، وغيره من الأنبياء ذلك بيانا قاطعا للعذر، ولم يكتفوا بمثل هذه الألفاظ التي هي إما صريحة أو ظاهرة في نقيض ذلك، أو مجملة لا تدل على ذلك، فإنه من المعلوم أن إخبارهم بإتيان نبي من الأنبياء أمر معتاد ممكن، ومع هذا يذكرون فيه من البشارات والدلائل الواضحة ما يزيل الشبهة.

وأما الإخبار بمجيء الرب نفسه وحلوله أو اتحاده بناسوت بشري فهو: إما ممتنع غير ممكن كما يقوله أكثر العقلاء من بني آدم، ويقولون: يعلم بصريح العقل أن هذا ممتنع. وإما ممكن كما يقوله بعض الناس، وحينئذ فإمكانه خفي على أكثر العقلاء وهو أمر غير معتاد، وإتيان الرب بنفسه أعظم من إتيان كل رسول ونبي، لا سيما إذا كان إتيانه باتحاده ببشر لم يظهر على يديه من الآيات ما يختص بالإلهية، بل لم يظهر على يديه إلا ما ظهر على يد غيره من الأنبياء ما هو مثله أو أعظم منه، والله تعالى لما كان يكلم موسى ولم يكن موسى يراه، ولا يتحد لا بموسى ولا بغيره، ومع هذا فقد أظهر من الآيات على ذلك، وعلى نبوة موسى ما لم يظهر مثله ولا قريب منه على يد المسيح.

فلو كان هو بذاته متحدا بناسوت بشري لكان الأنبياء يخبرون بذلك إخبارا صريحا بينا لا يحتمل التأويلات، ولكان الرب يظهر على ذلك من الآيات ما لم يظهر على يد رسول ولا نبي، فكيف والأنبياء لم ينطقوا في ذلك بلفظ صريح، بل النصوص الصريحة تدل على أن المسيح مخلوق ولم تأت آية على خلاف ذلك، بل إنما تدل الآيات على نبوة المسيح.

فصل

قالوا: وقال أشعيا النبي: قل لصهيون هنا تفرح وتتهلل، فإن الله يأتي ويخلص الشعوب، ويخلص من آمن به وبشعبه ويخلص مدينة بيت المقدس، ويظهر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المبددين ويجعلهم أمة واحدة، ويبصرون جميع أهل الأرض من خلاص الله، لأنه يمشي معهم وبين يديهم، ويجمعهم إله إسرائيل.

فيقال: هذا محتاج أولا أن يعلم من هذه النبوة أن هذا الكلام نقل بلا تحريف للفظه، ولا غلط في الترجمة، ولم يثبت ذلك،

وإذا ثبت ذلك فحينئذ هو نظير ما في التوراة من قوله: (جاء الله من طور سينا، وأشرف من ساعير، واستعلن من جبال فاران).

ومعلوم أنه ليس في هذا ما يدل على أن الله حال في موسى بن عمران، ومتحد به، ولا أنه حال في جبل فاران، ولا أنه متحد بشيء من طور سينا، ولا ساعير.

وكذلك هذا اللفظ لا يدل على أنه حال في المسيح ومتحد به، إذ كلاهما سواء، وإذا قيل: المراد بذلك قربه ودنوه كتكليم موسى، وظهور نوره وهداه وكتابه ودينه، ونحو ذلك من الأمور التي وقعت، قيل: وهكذا في المسيح .

وقوله: ويظهر الله ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين، قد قال في التوراة مثل هذا في غير موضع، ولم يدل ذلك على اتحاده بموسى .

وأما قوله عن الأمم المبددين: فيجعلهم أمة واحدة، فهم الذين اتبعوا المسيح، فإنهم كانوا متفرقين مبددين فجعلهم أمة واحدة.

وأما قوله: ويبصرون جميع أهل الأرض خلاص الله، لأنه يمشي معهم وبين يديهم، ويجمعهم إله إسرائيل، فمثل هذا في التوراة في غير موضع، ولم يدل ذلك على اتحاده بموسى ولا حلوله فيه، كقوله في السفر الخامس من التوراة: يقول موسى لبني إسرائيل: لا تهابوهم ولا تخافوهم، لأن الله ربكم السائر بين أيديكم هو يحارب عنكم.[10]

وفي موضع قال موسى: إن الشعب هو شعبك، فقال: أنا أمضي أمامك فارتحل، فقال: إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من هاهنا، وكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت أمامك نعمة كذا إلا بسيرك معنا.[11]

وفي السفر الرابع من الفصل الثالث عشر: إن أصعدت هؤلاء من بينهم بقدرتك، فيقولون لأهل هذه الأرض الذين سمعوا أنك الله فيما بين هؤلاء القوم، يرونه عينا بعين، وغمامك يقيم عليهم، وبعمود غمام يسير بين أيديهم نهارا، وبعمود نار ليلا.[12]

وفي التوراة أيضا: يقول الله لموسى: (إني آت إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك).[13]

ثم قوله: اجمع سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل وخذهم إلى خباء العرب يقفون معك حتى أخاطبهم.[14]

فصل

قالوا: وقال زكريا النبي: (افرحي يا بيت صهيون، لأني آتيك وأحل فيك وأترايا، قال الله: ويؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعبا واحدا، ويحل هو وهم فيك، وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا، ويملك عليهم إلى الأبد.

فيقال: مثل هذا قد ذكر عندهم عن إبراهيم وغيره من الأنبياء أن الله تجلى له، واستعلن له، وترايا له، ونحو هذه العبارات، ولم يدل ذلك على حلوله فيه واتحاده به.

وكذلك إتيانه، وهو لم يقل: إني أحل في المسيح وأتحد به، وإنما قال عن بيت صهيون: (آتيك وأحل فيك) كما قال مثل ذلك عندهم في غير هذا ولم يدل على حلوله في بشر، وكذلك قوله: (وتعرفين أني أنا الله القوي الساكن فيك) لم يرد بهذا اللفظ حلوله في المسيح، فإن المسيح لم يسكن بيت المقدس وهو قوي، بل كان يدخلها وهو مغلوب مقهور حتى أخذ وصلب أو شبهه، والله سبحانه إذا حصلت معرفته والإيمان به في القلوب اطمأنت وسكنت.

وكان بيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد رفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك.

وجماع هذا أن النبوات المتقدمة والكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل والزبور، وسائر نبوات الأنبياء لم تخص المسيح بشيء يقتضي اختصاصه باتحاد اللاهوت به وحلوله فيه كما يقوله النصارى، بل لم تخصه إلا بما خصه الله به على لسان محمد في قول الله تعالى: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

فكتب الأنبياء المتقدمة، وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد ﷺ يصدق بعضها بعضا، وسائر ما تستدل به النصارى على إلهيته من كلام الأنبياء قد يوجد مثل تلك الكلمات في حق غير المسيح، فتخصيص المسيح بالإلهية ودون غيره باطل، وذلك مثل اسم الابن والمسيح ومثل حلول روح القدس فيه، ومثل تسميته إلها، ومثل ظهور الرب أو حلوله فيه أو سكونه فيه أو في مكانه.

فهذه الكلمات وما أشبهها موجودة في حق غير المسيح عندهم، ولم يكونوا بذلك آلهة.

ولكن القائلون بالحلول والاتحاد في حق جميع الأنبياء والصالحين قد يحتجون بهذه الكلمات.

وهذا المذهب باطل باتفاق المسلمين واليهود والنصارى، وهو باطل في نفسه عقلا ونقلا، وإن كان طوائف من أهل الإلحاد والبدع المنتسبين إلى المسلمين واليهود والنصارى تقول به، فهؤلاء اشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين به، من أهل الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه والروح منه، وما يعبر عنه بالمثل الأعلى، والمثال العلمي.

وظنوا أن ذلك ذات الرب، كمن يظن أن نفس اللفظ بالاسم هو المعنى الذي في القلب، أو نفس الخط هو نفس اللفظ، ومن يظن أن ذات المحبوب حلت في ذات المحب واتحدت به، أو نفس المعروف المعلوم حل في ذات العالم العارف به واتحد به، مع العلم اليقيني أن نفس المحبوب المعلوم باين عن ذات المحب روحه وبدنه، لم يحل واحد منها في ذات المحب.

وقد قال الله تعالى: وله المثل الأعلى في السماوات والأرض.

وقال تعالى: وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله.

وقال تعالى: وهو الله في السماوات وفي الأرض.

فالمؤمنون يعرفون الله ويحبونه ويعبدونه ويذكرونه ويقال هو في قلوبهم، والمراد معرفته ومحبته وعبادته، وهو المثل العلمي ليس المراد نفس ذاته، كما يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، وما زلت في قلبي وبين عيني، ويقال:

ساكن في القلب يعمره لست أنساه فأذكره

ويقال:

إن بيتا أنت ساكنه غير محتاج إلى السرج

ومن قول القائل:

ومن عجبي أني أحن إليهم وأسأل عنهم من لقيت وهم معي

وتطلبهم عيني وهم في سوادها ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي

وقال:

مثالك في عيني وذكرك في فمي ومثواك في قلبي فأين تغيب؟

والمساجد: هي بيوت الله التي فيها يظهر ذلك، ولهذا قال تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح. قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلوب المؤمنين.

ثم قال: نور على نور. ثم قال: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.

فذكر سبحانه نوره في قلوب المؤمنين، ثم ذكر ذلك في بيوته، كذلك ما ذكر في الكتب الأولى.

وأما الإتيان والمجيء والتجلي فعندهم في التوراة يقول الله لموسى: إني آتي إليك في غلظ الغمام لكي يسمع القوم مخاطبتي لك، ثم قوله: اجمع سبعين رجلا من شيوخ بني إسرائيل، وخذهم إلى خباء العرب يقفون معك حتى أخاطبهم.[14]

وفي السفر الرابع لما كلم مريم وهارون في موسى: (حينئذ تجلى الله بعمود الغمام قائما على باب الخباء ونادى يا هارون ويا مريم، فخرجا كلاهما فقال: اسمعا كلامي إني أنا الله فيما بينكم).[15]

وفي الفصل الثالث عشر: (إن أصعدت هؤلاء من بينهم بقدرتك، فيقولون لأهل هذه الأرض الذين سمعوا أنك الله فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين وغمامك يقيم عليهم، وبعمود غمام يسير بين أيديهم نهارا وبعمود نار ليلا).[16]

وفي السفر الخامس قول موسى لبني إسرائيل: (لا تهابوهم ولا تخافوهم، لأن الله ربكم السائر بين أيديكم هو يحارب عنكم).[16]

وفي موضع آخر قال موسى: (إن الشعب هو شعبك، فقال: يا موسى أنا أمضي أمامك فارتحل، فقال: إن لم تمض أنت معنا وإلا فلا تصعدنا من هاهنا، وكيف أعلم أنا وهذا الشعب أني وجدت أمامك نعمة كذا بعلمك إلا بسيرك معنا؟).[16]

وفي المزمور الرابع من الزبور عندهم يقول: (وليفرح المتكلون عليك إلى الأبد ويبتهجون ويحل فيهم ويفتخرون) [17] فأخبر أنه يحل في جميع الصديقين، أي معرفته ومحبته، فإنهم متفقون على أن ذات الله لم تحل في الصديقين، وكذلك في رسائل يوحنا الإنجيلي: (إذا أخفى بعضنا بعضا نعلم أن الله يلبث فينا) [18] أي محبته، ونظائره كثيرة.

فصل

قالوا: وقال عاموص النبي: ستشرق الشمس على الأرض، ويهتدي بها الضالون ويضل عنها بنو إسرائيل، قالوا: فالشمس هو السيد المسيح، والضالون الذين اهتدوا به هم النصارى المختلفة ألسنتهم، الذين كانوا من قبله عابدين الأصنام وضالين عن معرفة الله، فلما أتوهم التلاميذ وأنذروهم بما أوصاهم السيد المسيح فتركوا عبادة الأصنام واهتدوا باتباعهم السيد المسيح.

فيقال: هذا مما لا ينازع فيه المسلمون، وإنما ينازع في مثل هذا وأمثاله اليهود المكذبون للمسيح ، كما ينازع كفار أهل الكتاب في محمد ﷺ.

وأما المسلمون فيؤمنون بجميع كتب الله ورسله، وأن المسيح عليه الصلاة والسلام أشرق نوره على الأرض! كما أشرق قبله نور موسى عليه الصلاة والسلام، وأشرق بعده نور محمد ﷺ.

وقد قال الله تعالى لمحمد ﷺ: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا.

فسماه الله سراجا منيرا، وسمى الشمس سراجا وهاجا، والسراج المنير أكمل من السراج الوهاج، فإن الوهاج له حرارة تؤذي، والمنير يهتدى بنوره من غير أذى بوهجه.

وقال تعالى لمحمد ﷺ: فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم * صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور

والمسلمون مقرون بأن كل من كان متبعا لدين المسيح الذي لم يغير ولم يبدل، فإنه اهتدى بالمسيح من الضلالة، ومن كفر به من بني إسرائيل، فإنه ضال، بل كافر،

كما قال تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

وقوله: ستشرق الشمس على الأرض ويهتدي بها الضالون ويضل عنها بنو إسرائيل - يناسب قوله في التوراة: جاء الله من طور سينا وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران، [4] فإن إشراقه من ساعير هو ظهور نوره بالمسيح، كما أن مجيئه من طور سينا: هو ظهور نوره بموسى، واستعلانه من جبال فاران هو ظهور نوره بمحمد.

وبهذه الأماكن الثلاثة أقسم الله في القرآن بقوله: والتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين.

فبلد التين والزيتون هي الأرض المقدسة التي بعث منها المسيح، وكان بها أنبياء بني إسرائيل، وأسري بمحمد ﷺ إليها وظهرت بها نبوته. وطور سينين المكان الذي كلم الله فيه موسى بن عمران، وهذا البلد الأمين هو بلد مكة التي بعث الله منه محمدا ﷺ وأنزل عليه القرآن.

فصل

قالوا: وقال في السفر الثالث من أسفار الملوك: (والآن يا رب إله إسرائيل لتحقق كلامك لداود، لأنه حق أن يكون إنه سيسكن الله مع الناس على الأرض، اسمعوا أيتها الشعوب كلكم، ولتنصت الأرض، وكل من فيها، فيكون الرب عليها شاهدا من بيته القدوس، ويخرج من موضعه وينزل ويطأ على مشاريق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب هذا كله.

فيقال هذا السفر يحتاج إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي، وأن ألفاظه ضبطت وترجمت إلى العربية ترجمة مطابقة، ثم بعد ذلك يقال فيه ما يقال في أمثاله من الألفاظ الموجودة عندهم، وليس فيها ما يدل على اتحاده بالمسيح، فإن قوله: (إن الله سيسكن مع الناس في الأرض) لا يدل على المسيح، إذ كان المسيح لم يسكن مع الناس في الأرض، بل لما أظهر الدعوة لم يبق في الأرض إلا مدة قليلة، ولم يكن ساكنا في موضع معين، وقبل ذلك لم يظهر عنه شيء من دعوى النبوة فضلا عن الإلهية، ثم إنه بعد ذلك رفع إلى السماء فلم يسكن مع الناس في الأرض، وأيضا فإذا قالوا: سكونه هو ظهوره في المسيح ، قيل لهم: أما الظهور الممكن المعقول، كظهور معرفته ومحبته ونوره وذكره وعبادته، فهذا لا فرق فيه بين المسيح وغيره.

وحينئذ فليس في هذا اللفظ ما يدل على أن هذا السكون كان بالمسيح دون غيره، وإن كان بالمسيح فليس هذا من خصائصه ، وليس في ظهوره فيه أو حلول معرفته ومحبته ومثاله العلمي ما يوجب اتحاد ذاته به.

وأما قوله: (فيكون الرب عليها شاهدا)، فيقال أولا شهود الله على عباده لا يستلزم حلوله، أو اتحاده ببعض مخلوقاته، بل هو شهيد على العباد بأعمالهم كما قال: ثم الله شهيد على ما يفعلون.

ولفظ النص: (ولتنصت الأرض، وكل من فيها فيكون الرب عليها شاهدا)، وهذا كما في التوراة: أن موسى لما خاطب بني إسرائيل أشهد عليهم. وكذلك محمد ﷺ كان يقول لأمته لما بلغ الناس بقول: " ألا هل بلغت؟ فيقولون: نعم، فيقول: اللهم اشهد.

وحينئذ فليس في هذا تعرض لكون المسيح هو الله، وقد يقال أيضا: ليس فيه أن المراد بلفظ الرب هنا هو الله، ولفظ الرب يراد به السيد المطاع، وقد غاير بين اللفظين، فقال هناك: إنه سيسكن الله مع الناس، فقال: فيكون الرب عليها شاهدا، والأنبياء يشهدون على أممهم، كما قال المسيح : وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم.

وقال تعالى: إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا.

وقال تعالى: فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا.

وقال تعالى: ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء.

وحينئذ فيكون الرب الشهيد هو المسيح، الذي هو الناسوت، وهو الذي جاء من بيت المقدس، وخرج من موضعه، ونزل ووطئ على الأرض من أجل خطيئة بني يعقوب فإنهم لما أخطأوا وبدلوا أرسل الله إليهم المسيح يدعوهم إلى عبادة الله وحده وطاعته، فمن آمن به كان سعيدا مستحقا للثواب، ومن كفر به كان شقيا مستحقا للعذاب.

فصل

قالوا: وقال ميخا النبي: (وأنت يا بيت لحم قرية يهودا بيت أفراتا، يخرج لي رئيس الذي يرعى شعبي إسرائيل، وهو من قبل أن تكون الدنيا، لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة، وسلطانه من أقاصي الأرض إلى أقاصيها).

والجواب: أن عامة ما يذكرونه عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام حجة عليهم لا لهم، كما ذكروه عن المسيح في أمر التثليث، فإنه حجة عليهم لا لهم، وهكذا تأملنا عامة ما يحتج به أهل البدع والضلالة من كلام الأنبياء، فإنه إذا تدبر حق التدبر وجد حجة عليهم لا لهم، فإن كلام الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هدى وبيان، وهم معصومون لا يتكلمون بباطل.

فمن احتج بكلامهم على باطل فلا بد أن يكون في كلامهم ما يبين به أنهم أرادوا الحق لا الباطل، وهذا مثل قوله في هذه النبوة: (منك يخرج لي رئيس)، فهذا صريح في أن هذا الذي يخرج هو رئيس الله ليس هو الله، بل هو رئيس له كسائر الرؤساء الذين لله، وهم الرسل والأنبياء المطاعون مثل: داود، و موسى، وغيرهما.

ولهذا قال: (الذي يرعى شعبي إسرائيل)، ولو كان هو، لكان هو راعي شعب نفسه، وأما قوله: (وهو من قبل أن تكون الدنيا) فهذا مثل قول النبي ﷺ في حديث ميسرة الفجر، وقد قيل له: يا رسول الله متى كنت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد " وفي لفظ: متى كتبت نبيا؟ قال: " وآدم بين الروح والجسد "، وفي مسند الإمام أحمد عن العرباض بن سارية، عن النبي ﷺ أنه قال: " إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول أمري، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام " فقد أخبر ﷺ أنه كان نبيا، وكتب نبيا وآدم بين الروح والجسد، وأنه مكتوب عند الله خاتم النبيين وآدم منجدل في طينته.

ومراده ﷺ أن الله كتب نبوته، وأظهرها وذكر اسمه، ولهذا جعل ذلك في ذلك الوقت بعد خلق جسد آدم وقبل نفخ الروح فيه، كما يكتب رزق المولود وأجله وعمله، وشقي هو أو سعيد بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه.

وكذلك قول القائل في المسيح وهو من قبل أن تكون الدنيا، فإنه مكتوب مذكور من قبل أن تكون الدنيا.

فإنه قد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن عمرو، عن النبي ﷺ أنه قال: " قدر الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء ".

وفي صحيح البخاري، عن عمران بن حصين، عن النبي ﷺ أنه قال: " كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات

والأرض ".

وهو قد قال: قبل أن تكون الدنيا، ولم يقل: إنه كان قديما أزليا مع الله لم يزل، كما يقول النصارى: إنه صفة الله الأزلية، بل وقت ذلك بقوله: " قبل أن تكون الدنيا "، ولا يحسن أن يقال في رب العالمين كان قبل أن تكون الدنيا؛ فإنه سبحانه قديم أزلي، ولا ابتداء لوجوده فلا يوقت بهذا المبدأ، لا سيما إن أريد بكون الدنيا عمارتها بآدم وذريته، فإن الدنيا قد لا تدخل فيها السماوات والأرض، بل يجعل من الآخرة، وأرواح المؤمنين في الجنة في السماوات، ويراد بالدنيا الحياة الدنيا أو الدار الدنيا.

ولهذا قال: لكنه لا يظهر إلا في الأيام التي تلده فيها الوالدة كما يظهر غيره من الأنبياء بعد أن تلده أمه.

والوالدة إنما ولدت الناسوت، وأما اللاهوت فهو عندهم مولود من الله القديم الأزلي، وإذا قالوا فهي ولدت اللاهوت مع الناسوت كان هذا معلوم الفساد من وجوه كثيرة، وإذا قيل: لم خص عيسى المسيح بالذكر؟ قيل: كما خص محمد ﷺ بالذكر، لأن أمر المسيح كان أظهر وأعظم ممن قبله من الأنبياء بعد موسى.

وكذلك أمر محمد ﷺ كان أظهر وأعظم من أمر جميع الأنبياء قبله، وإذا عظم الشيء كان ظهوره في الكتاب أعظم.

وظن بعض النصارى أن المراد بذلك وجود ذات المسيح، يضاهي ظن طائفة من غلاة المنتسبين إلى الإسلام وغيرهم الذين يقولون: إن ذات النبي ﷺ كانت موجودة قبل خلق آدم، ويقولون: إنه خلق من نور رب العالمين، ووجد قبل خلق آدم، وأن الأشياء خلقت منه حتى قد يقولون في محمد ﷺ من جنس قول النصارى في المسيح، حتى قد يجعلون مدد العالم منه، ويروون في ذلك أحاديث وكلها كذب، مع أن هؤلاء لا يقولون إن المتقدم هو اللاهوت، بل يدعون تقدم حقيقته وذاته، ويشيرون إلى شيء لا حقيقة له، كما تشير النصارى إلى تقدم لاهوت اتحد به لا حقيقة له.

ومن هؤلاء الغلاة من يروي عن النبي ﷺ أنه قال: " من قال: إني كلي بشر فقد كفر، ومن قال لست ببشر فقد كفر " ويحتجون بقوله تعالى: ما كان محمد أبا أحد من رجالكم. فيجعلون فيه شيئا من اللاهوت مضاهاة للنصارى.

وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث، وقد ثبت عنه ﷺ في الحديث الذي في الصحيحين أنه قال: لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله.

وقد قال تعالى عنه: قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا.

وهذا من جنس الغلاة الذين يقولون: إن الرب يحل في الصالحين، ويتكلم على ألسنتهم، وإن الناطق في أحدهم هو الله لا نفسه، وقول هؤلاء من جنس قول النصارى في المسيح، ويقول أحدهم: إن الموحد هو الموحد، وينشدون:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

وهو من جنس قول الذين يجعلون روح الإنسان قديمة أزلية، ويقولون: هي صفة الله فيجعلون نصف الإنسان لاهوتا، ونصفه ناسوتا، لكن اللاهوت عندهم هو روحه، لا لاهوت واحد كما يقوله النصارى وعلى قول هؤلاء مع قول النصارى يكون في المسيح وأمثاله ممن ادعي فيه اتحاد اللاهوت به لاهوتان: روحه لاهوت والكلمة لاهوت ثان، ومن جنس هؤلاء من ينشد ما يحكى عن الحلاج أنه أنشد:

سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب

ثم بدا في خلقه ظاهرا في صورة الآكل والشارب

حتى لقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب للحاجب

ولو قدر أن نفسه هي التي كانت قبل أن تكون الدنيا، فهذا لا يدل على أنه الله أو صفة الله، بل إذا قال من يدعي أن روحه كانت موجودة حينئذ: المراد روحه، كان هذا أقرب من قول النصارى، وفي الجملة ما يخبر عن المسيح أنه كان قبل أن تكون الدنيا بمنزلة ما عند أهل الكتاب، عن سليمان أنه قال: (كنت قبل أن تكون الدنيا) ثم قد ثبت باتفاق الخلائق أن سليمان لم يكن اللاهوت متحدا به، فعلم أن مثل هذا الكلام لا يوجب اتحاد اللاهوت به، بل المسلمون يعدلون في القول، ويفسرون كلام الله في كتبه بعضه ببعض، ويجعلون كلامه يصدق بعضه بعضا لا يناقض بعضه بعضا.

وأما أهل الضلال من النصارى وغيرهم فيفضلون المفضول على من هو أفضل منه، ويبخسون الفاضل حقه، ويغلون في المفضول ويبخسون الأنبياء حقوقهم، مثل تنقصهم لسليمان، فإن كثيرا من اليهود والنصارى يطعنون فيه.

منهم من يقول: كان ساحرا، وأنه سحر الجن بسحره.

ومنهم من يقول: سقط عن درجة النبوة، فيجعلونه حكيما لا نبيا، ولهذا ذكر الله في القرآن تبرئة سليمان عن ذلك، وذلك أن سليمان سأل الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فسخر لسليمان الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، والشياطين كل بناء وغواص، وآخرين مقرنين في الأصفاد، فسخر له الريح غدوها شهر، ورواحها شهر، ولما طلب من الملأ أن يأتوه بعرش (بلقيس) ملكة اليمن، وكان هو بالشام قال: (يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين * قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين * قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك فلما رآه مستقرا عنده قال هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم.

فلما مات سليمان عمدت الشياطين إلى أنواع من الشرك فكتبوها ووضعوها تحت كرسيه، وقالوا: كان سليمان يسخر الجن بهذا، فصار هذا فتنة لمن صدق بذلك وصاروا طائفتين، طائفة علمت أن هذا من الشرك والسحر، وأنه لا يجوز، فطعنت في سليمان كما فعل ذلك كثير من أهل الكتاب اليهود والنصارى.

وطائفة قالت: سليمان نبي، وإذا كان قد سخر الجن بهذا دل على أن هذا جائز، فصاروا يقولون ويكتبون من الأقوال التي فيها الشرك والتعزيم والإقسام بالشرك والشياطين - ما تحبه الشياطين وتختاره ويساعدونهم لأجل ذلك على بعض مطالب الإنس، إما إخبارا بأمور غائبة يخلطون فيها كذبا كثيرا، وإما تصرفا في بعض الناس، كما يقتل الرجل أو يمرض بالسحر، أو تسرق الشياطين له بعض الأموال، ونحو ذلك مما فيه إعانة الشياطين للإنس على أمور تريدها الإنس، لأجل مطاوعة الإنس وموافقتهم للشياطين على ما تريده الشياطين من الكفر والفسوق والعصيان.

وكثير منهم يضيف ذلك إلى سليمان وإلى آصف بن برخيا ويصورون خاتم سليمان، وقد يأخذون الرجل الذي صار من إخوانهم إلى مواضع فيرونه شخصا، ويقولون: هذا سليمان بن داود، كما قد جرى مثل ذلك لمن نعرفه من المشايخ الذين كانت تقترن بهم الشياطين، وكان لهم خوارق شيطانية من جنس خوارق السحرة والكهان.

فنزه الله تعالى سليمان من كذب هؤلاء، وهؤلاء الذين جعلوه يسخر الشياطين بنوع من الشرك والسحر، هؤلاء جرحوه، وهؤلاء زعموا أنهم يتبعونه فقال تعالى:

واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون * ولو أنهم آمنوا واتقوا لمثوبة من عند الله خير لو كانوا يعلمون

ومثل هذا كثير يحكى عن بعض الأنبياء، أو بعض أهل العلم والدين، من أمور ليست من شرع الله، فيصدق بها بعض الناس، وتصير فتنة لطائفتين مصدقتين بها.

طائفة تقدح في ذلك النبي أو الرجل الصالح بما هو منه بريء.

وطائفة تقول: إنها تتبعه فيم يقول، وهذا موجود في كثير مما يحكيه أهل الكتاب عن الأنبياء، فإن اليهود تذكر عنهم ما يقدح في نبوتهم.

والنصارى تجعل ذلك قدوة لهم فيما يبتدعونه، وهذا مبسوط في موضع آخر، فالمقصود هنا أن الكلام الذي وصف به المسيح إما وصفه به الأنبياء قبله، أو أخبر به عن نفسه - موجود مثله في حق غيره، ولم يكن أحدهم بذلك لاهوتا وناسوتا، ولا اتحد اللاهوت بالناسوت، ولا استحق أحدهم بذلك أن يعبد ويصلى له ويسجد ويدعى كما يدعى الله، ويضاف إليه ما يضاف إلى الله من الخلق والبعث والثواب والعقاب، وليس للمسيح صلوات الله عليه آية خارقة إلا ولغيره مثلها وأعظم منها، ولا قيل فيه كلمة، إلا قيل في غيره مثلها وأعظم منها، إلا ما خصه فيه القرآن.

فصل

قالوا: وقال: حبقوق النبي: (إن الله في الأرض يتراءى، ويختلط مع الناس، ويمشي معهم). وقال أرميا النبي: (الله بعد هذا في الأرض يظهر، وينقلب مع البشر، فيقول أنا الله رب الأرباب).

والجواب: أن هذا يحتاج إلى تثبيت نبوة هذين، وإلى ثبوت النقل عنهما، وثبوت الترجمة الصحيحة المطابقة، وبعد هذا يكون حكم هذا الكلام حكم نظائره، ففي التوراة ما هو من هذا الجنس، ولم يدل ذلك باتفاق المسلمين، واليهود، والنصارى على أن الله حل في موسى، ولا في غيره من أنبياء بني إسرائيل، بل قوله يتراءى هو بمنزلة يتجلى ويظهر، وقد ذكر في التوراة أنه تجلى وتراءى لإبراهيم وغيره من الأنبياء عليهم السلام من غير أن تكون ذاته حلت بأحد منهم، وما في القلوب من المثال العلمي وبمعرفته ومحبته وذكره - يطلق عليه ما يطلق على المعروف بنفسه؛ لعلم الناس أن المراد به المثال العلمي.

وما في القلوب من معرفة المعروف ومحبته ليس المراد به نفس المعروف المحبوب، فإذا قال القائل: أنت والله في قلبي، أو في سويداء قلبي، أو قال له: والله ما زلت في قلبي، وما زلت في عيني، ونحو ذلك - علم جميع الناس أنه لم يرد ذاته، فإذا رأوا من يذكر عالما مشهورا أو شيخا مشهورا، فيذكر علمه، وعمله، ويحيي ذلك بين الناس - قالوا: قد صار فلان، يعني المعروف المذكور، عندنا وبين أظهرنا لعلم المخاطبين بالمراد. ويقول أحدهم لمن مات والده: أنا والدك؛ أي قائم مقامه، ويقولون للولد القائم مقام أبيه: من خلف مثلك ما مات، وإذا رأوا عكرمة مولى ابن عباس الذي معه علمه يقولون: جاء ابن عباس، وابن عباس بين الناس؛ لأن مولاه نائب عنه، وقائم مقامه، وإذا بعث الملك نائبا قائما مقامه يقولون جاء الملك الفلاني، لأن هذا النائب قائم مقامه مظهر لأمره، ونهيه، وأحواله.

وفي الحديث الصحيح، عن النبي ﷺ يقول الله: عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول العبد: يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما لو عدته لوجدتني عنده، عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟، فيقول: أما علمت أن عبدي فلانا جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي، عطشت فلم تسقني، فيقول: رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما علمت أن عبدي استسقاك فلم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي.

فجعل جوع عبده جوعه، ومرضه مرضه، لأن العبد موافق لله فيما يحبه ويرضاه، ويأمر به، وينهى عنه، وقد عرف أن الرب نفسه لا يجوع، ولا يمرض. ومعلوم أن وصفه بالجوع والمرض أبعد من وصفه بالمشي بين الناس، والاختلاط بهم، ولهذا نظائر كثيرة موجودة في كلام الأنبياء، وغير الأنبياء من الخاصة، والعامة، ولا يفهم عاقل من ذلك أن ذات المذكور اتحدت بالآخر أو حلت فيه إلا من هو جاهل كالنصارى.

والناس يرون الشمس، والقمر، والكواكب، وغير ذلك في الماء الصافي، وفي المرآة المجلوة، ونحو ذلك. ويقول أحدهم: رأيت وجه فلان في هذه المرآة، ورأيت الشمس والقمر في المرآة أو في الماء، مع علم كل عاقل أن نفس الشمس والقمر وغيرهما لم تحلا لا في المرآة ولا في الماء، ولكن هذه رؤية مقيدة رآها بواسطة المثال الذي تمثل في المرآة أو الماء، سواء كان ذلك شعاعا منعكسا أو غير ذلك، ومن هذا الباب قول القائل:

إذا ظهر الغدير على صفاء، وجنب أن يحركه النسيم

ترى فيه السماء، بلا امتراء كذاك الشمس تبدو والنجوم

كذاك قلوب أرباب التجلي يرى في صفوها الله العظيم

فقد أخبر أن الله يرى في قلوب العارفين، كما ترى الشمس والنجوم في الماء الصافي، بل يتصور أحدهم صورة من يعرفه بحمرة أو خضرة أو سواد، فيقول: والله هذا هو فلان بعينه، مع علمه وعلم كل من سمعه أنه مثاله المطابق لصورته لا عينه، وذلك لمماثلة تلك الصورة لصورته، يريد أن هذا تمثيل مطابق له لا مخالف.

ومن هذا قول النبي ﷺ: " من رآني في المنام فقد رآني حقا، فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي " لم يرد أنه رأى جسدي الذي في القبر، وروحي التي في الجنة - حالة في ذاته، فإن هذا ممتنع لوجوه كثيرة، فلهذا قال: " فإن الشيطان لا يتمثل في صورتي ".

ولما دخل جماعة من الصحابة على المقوقس ملك النصارى بمصر، واستخبرهم عن دينهم فأخبروه بذلك، فإذا عنده شبه الربعة العظيمة مذهبة، وإذا فيها أبواب صغار ففتح منها بابا فاستخرج منه خرقة حرير سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل طوال أكثر الناس شعرا، فقال: أتعرفون هذا؟ قالوا: قلنا لا، فقال: هذا آدم. ثم أعاد، وفتح بابا آخر، فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل ضخم الرأس عظيم له شعر كشعر النبط أحمر العين، فقال: أتعرفون هذا؟ فقلنا: لا، فقال: هذا نوح. ثم أعاد، وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، فإذا رجل أبيض الرأس واللحية، كأنه يبتسم فقال أتعرفون هذا؟ فقلنا: لا. فقال: هذا إبراهيم. ثم أعاد، وفتح بابا آخر فاستخرج حريرة سوداء فيها صورة بيضاء، قال: أتعرفون هذا؟ قلنا: النبي ﷺ، قال: هذا والله محمد ﷺ رسول الله. قال: والله يعلم أنه قام ثم قعد ثم قال: الله بدينكم إنه نبيكم؟ قلنا: الله بديننا إنه نبينا كأنما ننظر إليه. ثم قال: أما إنه كان آخر الأبواب، ولكني عجلته لكم لأنظر ما عندكم. ثم أعاد، وفتح بابا بابا، وهو يقول: هذا موسى، هذا هارون، هذا داود، هذا سليمان، هذا عيسى.

وهذا كله لظهور المراد به، ومعرفة الناس بمقصود المتكلم، كما يقال لمن كتب اسمه في كتاب: هذا فلان، ومعلوم أن الموجود في الكتاب اسمه المكتوب لا ذاته الموجودة في الخارج، ومن هذا الباب قوله تعالى: وكل شيء فعلوه في الزبر. وإنما في الزبر ذكر أعمالهم، وكتابة ذلك، ويقال في كتابة الوثائق: هذا ما أصدق فلان، وهذا ما يقاضي عليه فلان وفلان، ويقال: هذا ذكر ما أصدق فلان أو يقاضي عليه فلان وفلان، فيشار إلى الموجود تارة، وإلى ذكره تارة. ومعلوم أن الموجود في الكتاب ذكره لا عينه، بل ذلك وجود الخط في الأذهان المطابق لذكره باللفظ.

والشيء له وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، ووجود عيني، وعلمي، ورسمي، ولفظي، وفي كل من الأربعة يذكر، ويشار إليه مع القرائن والضمائر التي تبين تارة أن المشار إليه هو الخط المطابق للفظ، وتارة تكون الإشارة إلى اللفظ المطابق للمعنى.

ومعلوم أن المعنى الذي في القلب أقرب إلى الموجود في الخارج من اللفظ والخط، فإذا أشير إلى ما في قلب العارف بعين المحب له الذاكر له، بأنه المعروف المحبوب، كان أقرب لا سيما، وقد يغلب الذكر والمعرفة والمحبة على القلب حتى يغيب بموجوده عن وجوده، وبمعروفه عن معرفته، وبمذكوره عن ذكره حتى يقول أحدهم في هذه الحال: سبحاني، أو ما في هذه الجبة إلا الله.

ومعلوم أن ذات الله تبارك وتعالى ليست الذي في قلبه، بل في قلبه مثاله العلمي، ومعرفته، ومحبته، فغاب بذلك عن نفسه، هذا وإن كان يقوله الغالط، فيقول من ليس بغالط: الله في قلب فلان، وفلان ما عنده إلا الله، ومن أراد الله فليذهب إلى فلان، وليس مرادهم أن ذات الله في قلبه، بل مثاله العلمي ومعرفته وذكره ومحبته، وأنه لا يعبد إلا الله، ولا يرجو إلا إياه، ولا يخاف إلا إياه، ولا يعمل إلا لله، ولا يأمر إلا بطاعته فيفنى بعبادته عن عبادة ما سواه، وبطاعته عن طاعة ما سواه، وبمحبته عن محبة ما سواه.

فما قيل في المسيح ، وأمثاله من هذا فهو حق، لكن لا اختصاص للمسيح بهذا.

وإذا كان مثل هذا الكلام كثيرا موجودا في كلام الأنبياء وغيرهم، بل هو المعروف في كلامهم، ولا يوجد قط على أحد من الأنبياء أنه جعل ذات الله في قلب أحد من البشر - علم أن النصارى تركوا المحكم من كلام الأنبياء عليهم السلام، وتمسكوا بالمتشابه كأمثالهم من الضلال، فاشتبه عليهم المعلوم بالقلوب المذكور بالألسن بالموجود في نفسه، فظنوا أن نفس المثال العلمي هو الموجود العيني، كما يظن ذلك كثير من الغالطين، وهؤلاء يقولون بالحلول تارة، وبالاتحاد أخرى، ولا يفرقون بين حلول الإيمان والمعرفة والمحبة والمثال العلمي في القلب، وبين حلول الذات المعلومة المحبوبة.

ولهذا يعتقد كثير من هؤلاء أنهم يكلمون الله، ويكلمهم، ويقول أحدهم: أوقفني، وقال لي، وقلت له. وتكون مخاطبته ومناجاته مع هذا المثال العلمي بحسب ما عندهم من الاعتقاد في الله تعالى، وكثير منهم يتمثل له الشيطان ويقول: أنا ربك، فيخاطبه ويظنه ربه، وإنما هو الشيطان.

ومنهم: من يرى عرشا عليه نور، أو يرى ما يظنه الملائكة وهم شياطين، وذلك شيطان.

وكثير من هؤلاء يظن أنه أفضل من الأنبياء، وأنه يدخل إلى الله بلا إذن، خلاف الأنبياء، ويكون ذلك الإله الذي يعتقده هو الشيطان، والذين لا يتمثل لهم الشيطان يخاطب أحدهم من في قلبه، فتخاطبه تلك الصورة العلمية، ويقدر أنها تخاطبه، ويظن ذلك مخاطبة الحق له.

وهذا كالرجل يذكر بعض أصحابه فيمثله في قلبه ويخاطبه مخاطبة من يعاتبه أو يعتذر إليه، ويقدر خطاب تلك الصورة، ويقول: قلت لك كذا، وقلت لي كذا.

ونفس الشخص لا يكلمه ولا يسمع كلامه، وإنما هو المثال، كما قد يصور صورة الإنسان ويخاطبها الإنسان، ويقدر ذلك مخاطبة لصاحب الصورة.

والنصارى أدخل في هذا من غيرهم، فإنهم يخاطبون الصور الممثلة في الكنائس كصورة مريم، والمسيح والقديسين، ويقولون: إنما نقصد خطاب أصحاب تلك الصور نستشفع بهم.

وهذا مما حرمه الله على ألسن جميع النبيين، ولم يشرع لأحد أن يدعو الملائكة، ولا الأنبياء ولا الصالحين الأموات، فكيف بالصور الممثلة لهم، كما قد بسط في موضع آخر.

والمقصود هنا أنه كثيرا ما يوجد في كلام الناس الأنبياء وغيرهم من ذكر ظهور الله عز وجل، والمراد به ظهوره في قلوب عباده بالمعرفة والمحبة والذكر.

ولهذا لما كان يقصد بذكر اسمه ذكر المسمى صار يقول - من يقول: إن الاسم هو المسمى -: إن المراد المقصود من الاسم هو المسمى، لا أن نفس اللفظ هو المسمى، فإن هذا لا يقوله عاقل، وتنزيه الاسم وتسبيحه تنزيه للمسمى وتسبيح له.

كما قال تعالى: سبح اسم ربك الأعلى، وقال: فسبح باسم ربك العظيم.

وقال: تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام.

وجاء في الحديث: " لا تقوم القيامة حتى لا يعبد لله اسم "، أي لا يعبد الله باسم من أسمائه، فإنه إذا قيل: دعوت الله وعبدته، فإنما في اللفظ الاسم، والمقصود هو المسمى.

وهذا الذي ذكرناه من تفسير ظهور اللاهوت في المسيح وغيره بأن المراد ظهور ما في القلوب من توحيد الله ومعرفته ومحبته وذكره ونوره وهداه وروحه - هو مما يفسر به ذلك كثير من علماء النصارى، فإنهم يفسرون اتحاد اللاهوت بالناسوت بظهور اللاهوت فيه كظهور نقش الخاتم في الشمع والطين.

ومعلوم أن الحال في الشمع والطين هو مثال نقش الخاتم لا أن في الشمع والطين شيئا من الخاتم، بل ظهر فيه نقش الخاتم.

وكذلك يظهر نور الله وروحه في الأنبياء والصالحين، وهذا المعنى لا يختص به المسيح ، بل يشترك هو فيه وسائر الرسل، بل وكل مؤمن له من هذا نصيب بحسب إيمانه.

فصل

قالوا: وقال أشعيا النبي: (ها هي العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمانويل).

وعمانويل: كلمة عبرانية تفسيرها بالعربي (إلهنا معنا) فقد شهد النبي أن مريم، ولدت اللاهوت المتحد بالناسوت كلاهما.

فيقال: ليس في هذا الكلام أن مريم ولدت اللاهوت المتحد بالناسوت)، وأنها ولدت خالق السماوات والأرض، بل هذا الكلام يدل على أن المولود ليس هو خالق السماوات والأرض، فإنه قال: تلد ابنا. وهذا نكرة في الإثبات كما يقال في سائر النساء: إن فلانة ولدت ابنا، وهذا دليل على أنه ابن من البنين، ليس هو خالق السماوات والأرضين، ثم قال: ويدعى اسمه (عمانويل) فدل بذلك على أن هذا اسم يوضع له، ويسمى به كما يسمي الناس أبناءهم بأسماء الأعلام، أو الصفات التي يسمونهم بها.

ومن تلك الأسماء ما يكون مرتجلا ارتجلوه. ومنها ما يكون جملة يحكونها، ولهذا كثير من أهل الكتاب يسمي ابنه عمانويل، ثم منهم من يقول: العذراء المراد بها غير مريم، ويذكرون في ذلك قصة جرت.

ومنهم من يقول: بل المراد بها مريم، وعلى هذا التقدير فيكون المراد أحد معنيين:

إما أنه يريد أن إلهنا معنا بالنصر والإعانة، فإن بني إسرائيل كانوا قد خذلوا بسبب تبديلهم، فلما بعث المسيح بالحق كان الله مع من اتبع المسيح، والمسيح نفسه لم يبق معهم، بل رفع إلى السماء ولكن الله كان مع من اتبعه بالنصر والإعانة. كما قال تعالى: فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين. وقال تعالى: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وهذا أظهر،

وإما أن (يكون) يسمى المسيح إلها، كما يقولون: إنه يسمى موسى إله فرعون، أي هو الآمر الناهي له المسلط عليه.

وقد حرف بعضهم معنى هذه الكلمة، فقال: معناها: الله معنا، فقال: من رد عليهم من علمائهم يقال لهم: أهذا هو القائل: أنا الرب لا إله غيري، أنا أميت وأنا أحيي، أم هو القائل لله: إنك أنت الإله الحق وحدك والذي أرسلت يسوع المسيح؟ [19] وإذا كان الأول باطلا، والثاني هو الذي شهد به الإنجيل، وجب تصديق الإنجيل، وتكذيب من كتب في الإنجيل أن (عمانويل) وتأويله - (الله معنا)، بل تأويل عمانويل (معنا إله)، وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم، بل عمانويل اسم يسمى به النصارى، واليهود من قبل النصارى. وهذا موجود في عصرنا هذا، في أهل الكتاب من سماه أبوه عمانويل يعني (شريف القدر) وكذلك السريان أكثرهم يسمون أولادهم عمانويل.

قلت: ومعلوم أن الله مع المتقين والمحسنين والمقسطين بالهداية، والنصر، والإعانة، ويقال للرجل في الدعاء: الله معك، فإذا سمي الرجل بقول: (الله معك) كان هذا تبركا بمعنى هذا الاسم، وإذا قيل إن المسيح سمي الله معنا أو إلهنا معنا ونحو ذلك - كان ذلك دليلا على أن الله مع من اتبع المسيح وآمن به، فيكون الله هاديه وناصره ومعينه.

فصل: في كلام أشعيا بشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم

قالوا: وقال أشعيا أيضا: إن غلاما ولد لنا، وابنا أعطيناه، الذي رياسته على عاتقيه وبين منكبيه، ويدعى: اسمه ملكا، عظيم المشية مسيرا عجيبا، إلها قويا مسلطا رئيس السلامة في كل الدهور، وسلطانه كامل ليس له فناء.

فيقال: ليس في هذه البشارة دلالة بينة أن المراد به المسيح ، ولو كان المراد به المسيح لم يدل على مطلوبهم، بل قد يقال المراد بها محمد ﷺ فإنه الذي رياسته على عاتقيه، وبين منكبيه من جهتين:

من جهة خاتم النبوة على بعض كتفيه، وهو علامة من أعلام النبوة الذي أخبرت به الأنبياء، وعلامة ختمهم.

ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه، إذا ضرب به على عاتقه، ويدل على ذلك قوله: (مسلط رئيس قوي السلامة).

وهذه صفة محمد ﷺ المؤيد المنصور المسلط رئيس السلامة، فإن دينه الإسلام، ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، ومن استيلاء عدوه عليه.

والمسيح لم يسلط على أعدائه، كما سلط محمد ﷺ، بل كان أعداؤه بحيث يقدرون على صلبه، وعند النصارى قد صلبوه، وعند المسلمين ألقى الله شبهه على غيره، فصلب ذاك المشبه، فبهذه الطريق دفع الله الصلب عنه لا بقهر أعدائه، وإهلاكهم وذلهم له، كما نصر الله محمدا ﷺ على أعدائه.

وقال: (في كل الدهور سلطانه كامل ليس له فناء)، وهذا صفة خاتم الرسل الذي لا يأتي بعده نبي ينسخ شرعه، وسلطانه بالحجة واليد، كامل لا يحتاج فيه إلى الاستعانة بشرع آخر، وشرعه ثابت باق إلى آخر الدهر.

فصل

قالوا: وقال أشعيا أيضا: يخرج عصاه من بيت يسي ينبت نور منها، ويحل فيه روح القدس روح الله، روح الحكمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله. وفي تلك الأيام يكون أصل يسي آية للأمم، وبه يؤمنون وعليه يتوكلون، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين).

والجواب: أن هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن النبي، وصحة الترجمة له باللسان العربي - هو حجة على النصارى لا لهم، فإنه لا يدل على أن المسيح هو خالق السماوات والأرض، بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن من أن المسيح أيد بروح القدس، فإنه قال: ويحل فيه روح القدس، وروح الله، وروح الحكمة والفهم، وروح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله)، ولم يقل تحل فيه حياة الله - فضلا عن أن يقول حل فيه الله أو اتحد به، ولكن جعل روح القدس هي روح الله، وهي روح الحكمة والفهم والعلم، وهي روح الحيل والقوة.

كما أن عندهم في التوراة (أن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان حلت فيهم روح الحكمة روح الفهم، روح العلم).

فهي ما يحصل به الهدى والنصر، كما قال تعالى: واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار.

فقال: هي روح الله، وهذا كقوله تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقوله تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وقال تعالى: ينزل الملائكة بالروح من أمره.

فما أنزله يسمى هدى الله، وروح الله، ووحي الله، ونور الله، ونحو ذلك.

وقال تعالى لما ذكر أنبياءه من ذرية إبراهيم فقال: ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف وموسى وهارون وكذلك نجزي المحسنين * وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس كل من الصالحين * وإسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على العالمين * ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم * ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده.

وقال تعالى: فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى.

وسماه نور الله كقوله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

فهذا هدى الله، ونور الله هو روح الله كما قال تعالى:

وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

وقال تعالى:

أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

فصل

قالوا: وقال أشعيا أيضا: " من أعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر ".

فيقال: مثل هذا الكلام لا بد أن يكون قبله كلام وبعده كلام، وهو منقول من لغة إلى لغة، ونحن نعلم قطعا أنه لم يرد أن رب العالمين يولد من البشر، ولو أراد ذلك لم يقل رب الملائكة فقط، فإن الله رب كل شيء، لكن قد يريد أنه يولد من البشر من سيكون سيد الملائكة تخدمه وتكرمه، كما سجدت الملائكة لأبي البشر آدم.

والنصارى يسلمون أن اللاهوت ما هو متولد من البشر، وإنما المتولد من البشر هو الناسوت، وليس هو رب العالمين بالاتفاق، فعلم أنه لا حجة لهم في ظاهر اللفظ إن قدر سلامته من التغيير.

ونظير هذا ما عندهم في إنجيل متى: (أن ابن الإنسان يرسل ملائكته، ويجمعون كل الملوك ربا على الأمم فيلقونهم في أتون النار) [20] قال بعض علماء أهل الكتاب: لم يرد بذلك أن المسيح هو رب الأرباب، ولا أنه خالق الملائكة، بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح بشهادة النبي القائل: (إن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك).[21]

ثم شهادة (لوقا) أن الله أرسل له ملكا من السماء ليقويه.[22] قال: " وإذا شهد الإنجيل باتفاق الأنبياء والرسل بأن الله يوصي ملائكته بالمسيح فيحفظونه، علم أن الملائكة تطيع للمسيح بالأمر، وهو والملائكة في خدمة رب العالمين ".

وقال المسيح لتلاميذه: " من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل من أرسلني ".[23]

وقال المسيح: " من أنكرني قدام الناس أنكرته قدام ملائكة الله ".[24]

وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة: " أغمد سيفك، ولا تظن أن لا أستطيع أن أدعو الله الأب فيقدم لي أكثر من اثني عشر جوقا من الملائكة ".[25]

فصل

قالوا: ومثل هذا القول في كتب الله المنزلة على أفواه الأنبياء والرسل شيء كثير عند النصارى جميعهم المختلفة ألسنتهم المفرقين في سبعة أقاليم العالم المتمسكين بدين النصرانية قول واحد ونص واحد، على ما تسلموه من الحواريين حين أنذروهم وردوهم عن عبادة الأصنام إلى معرفة الله تعالى، سلموها إليهم، كل أمة بلسانها، وهي على هيئتها إلى يومنا هذا.

والجواب على هذا من وجوه:

أحدها: أن القول في سائر ما يذكرونه من النصوص كما تقدم وقد تكلم على هذا من تكلم عليه من علماء النصارى الذين هداهم الله، وبينوا ما وقع في ذلك من تحريفهم لمعاني الكتب التي عندهم، وذكروا مما عندهم من النصوص الصريحة بأن المسيح عبد الله [26] ليس هو الله [27] ما يتبين به بطلان قولهم، وأنهم ممن تركوا المحكم من الآيات واتبعوا المتشابه، ولهذا أنزل الله فيهم:

فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب.

وهذا كقول المسيح لما سئل عن علم الساعة فقال: (لا يعلمها إنسان ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب فقط) فنفى عن نفسه علم الساعة، وهذا يدل على شيئين: على أن اسم الابن إنما يقع على الناسوت دون اللاهوت، فإن اللاهوت لا يجوز أن ينفى عنه علم الساعة، ويدل على أن الابن لم يكن يعلم ما يعلمه الله، وهذا يبطل قولهم بالاتحاد، فإنه لو كان الاتحاد حقا كما يزعمون لكان الابن يعلم ما يعلمه الله، ويقدر على ما يقدر عليه، فإنه هو الله عندهم، والناسوت لا يتميز عندهم عن اللاهوت فيما يوصف به المسيح من كونه عالما قادرا يحيي ويميت.

وقال المسيح لتلاميذه: (آمنوا بالله وآمنوا بي) وقال أيضا: (من يؤمن بي فليس يؤمن بي فقط بل وبالذي أرسلني)، [28] وهم يذكرون أن المسيح استصرخ الله قائلا: (إلهي إلهي انظر لماذا تركتني وتباعدت عن خلاصي).[29]

الوجه الثاني: أن قولهم: إن هذه الكتب التي بأيديهم من التوراة والإنجيل، وسائر النبوات؛ تسلموها من الحواريين كل أمة بلسانها، وهي على هيئتها - قول لم يقيموا على صحته دليلا، بل ادعوا ذلك دعوى مجردة.

ومثل هذا النقل إن لم يثبت بالتواتر لم يحتج به في المسائل العلمية، لا سيما إذ قيل في

الوجه الثالث: إن هذا كذب ظاهر، فإن كثيرا من الألسنة ليس عند أهله إنجيلا قديما، ومن ذلك لسان العرب، فإن العرب النصارى كثيرون قبل الإسلام، ولا تعرف توراة ولا إنجيلا ولا نبوات عربية، إلا ما عرب من النسخ العبرية والرومية والسريانية، ونحن نطالبهم بهذه الكتب التي هي بالعربية التي في زمن الحواريين أين هي؟ ومن رآها؟ ولو قدر أنها كانت بالعربية، فهذه النسخ اليوم العربية الموجودة بأيدي الناس هي مما عرب مما بأيديهم، وحينئذ فلا تعرف صحتها إن لم تعرف صحة الترجمة، ويثبت نقل تلك عن المسيح ، وهكذا القول في سائر الألسن.

الوجه الرابع: أن التوراة والنبوات التي نقلت من نسخ اليهود والأناجيل هي أربعة كتب بعد المسيح ، اثنان ممن كتبها لم يريا المسيح، وهما لوقا، ومرقس، واثنان رأياه، وهما يوحنا، ومتى. والنسخ إنما كثرت عن الأربعة، وما ينقله الأربعة لا يجب أن يكون متواترا معلوما، وإذا كثرت الألسن بها فمن بعد الأربعة، لا أن الذين سمعوها من المسيح تكلموا باثنين وسبعين لسانا، فإن هذا لم يقله أحد، ولا يقوله عاقل، إذ الحواريون كانوا اثني عشر لم يكونوا اثنين وسبعين، فإذا قيل: إنه نقلها اثنان وسبعون، فهم نقلوها عمن نقلها إليهم من الحواريين، وهم إنما يسندون نقلها إلى أربعة.

الوجه الخامس: أن الحواريين ليسوا معصومين، بل يجوز على أحدهم الغلط في بعض ما ينقله، وما ينقل من خوارقهم للعادات، فمن الناس من يكذبه، ومنهم من يصدقه، ولا دلالة فيه على عصمتهم، إلا أن يثبت أنهم ادعوا النبوة، وأقاموا المعجزات الدالة على نبوتهم، ولم يكن الأمر كذلك، وإلا فالصالحون إذا كانت لهم كرامات لم تدل كراماتهم على أنهم معصومون كالأنبياء، بل يجوز عليهم الغلط مع ثبوت كراماتهم. والحواريون عندهم ليسوا بأنبياء، وإن سموهم رسلا، فهم رسل المسيح لا رسل الله تبارك وتعالى.

الوجه السادس: أن في هذه الكتب التي بأيديهم ما يناقض قولهم من الأقوال الصريحة الكثيرة ما هو أكثر وأصرح مما احتجوا به على قولهم. والواجب حينئذ التمسك بالصريح المحكم، ورد المتشابه إليه، ولا يجوز التمسك بالمتشابه، ورد المحكم إليه.

الوجه السابع: أنه بتقدير أن يكون في الأرض هذه الكتب باثنين وسبعين لسانا سواء كانت كلها منقولة عن الحواريين نقلا صحيحا، أو كان نقل أكثرها أو أكثر منها مترجمة من لغة إلى لغة.

فمعلوم أنه بكل لسان عدة نسخ، ولو لم يكن بها إلا لسان واحد مع كثرة النسخ بها في مشارق الأرض ومغاربها، لم يمكن أحدا أن يقطع بأن جميع النسخ على لفظ واحد ونص واحد، كما ادعاه هؤلاء في الاثنين وسبعين لسانا، حيث قالوا: ( ومثل هذا القول في كتب الله المنزلة على أفواه الأنبياء والرسل كثير، عند النصارى جميعهم المختلفة ألسنتهم المتفرقين في سبعة أقاليم العالم، المتمسكين بدين النصرانية - قول واحد ونص واحد على ما تسلموه من الحواريين، وردوهم عن عبادة الأصنام فسلموها إليهم كل أمة بلسانها، وهي على هيئتها إلى يومنا هذا).

فإن هذا الكلام يتضمن عدة دعاوى ليس فيها ما يمكن قائله أن يكون عالما به، فعلم أن هؤلاء تكلموا بهذا الكلام بلا علم، بل بالجهل والضلال، كما هو عادتهم، فإنه يقال لهم: من الذي جمع كل نسخة في العالم من جميع التوراة والإنجيل والزبور وسائر النبوات الأربعة والعشرين بلسان واحد كالعربي مثلا، وهل ميز جميع النسخ فلم يجد نسخة تزيد على نسخة ولا تنقص عنها؟

ومعلوم إن كان هذا ممكنا أمكن أن يقال: جمعها جامع وغير بعض ألفاظها، فلا يمكنهم دعوى بقائها بلا تغيير، وإن لم يمكن ذلك لم يمكن أحدا أن يقول: أنا أعلم موافقة كل نسخة من نسخ هذه الكتب لكل نسخة توجد في سبعة أقاليم العالم بذلك اللسان، فضلا عن اثنين وسبعين لسانا، فضلا عن أن يقال: أنا أعلم أن هذه الألسن كلها تكلمت بها الحواريون، وهي باقية على لفظهم إلى اليوم.

ومعلوم أن الإنسان إذا أمكنه جمع نسخ كتاب واحد من جميع الفنون من كتب الطب والحساب والهندسة والنحو والفقه والحديث، كان إمكان تغيير بعض ألفاظ تلك النسخ أيسر عليهم من مقابلة ألفاظ كل نسخة بألفاظ تلك النسخ مثلها.

فإن هذا لا يقدر عليه في العادة، بل هو متعذر أو متعسر، ولا سيما والمقابلة إن كانت بين اثنين فكل منهما ينقل للآخر لفظ نسخته فيكون مدار المقابلة على خبر واحد، لم يقترن بخبره ما يعلم به صدقه، فقد يغلطان أو يكذبان جميعا.

وإن كانت بين عدد يحصل بهم العلم احتاجت كل نسخة بكل لسان إلى أن يشهد بلفظها جمع يحصل بهم العلم، وأولئك بأعيانهم يشهدون بلفظ كل نسخة بكل لسان، ويشهدون بلفظ كل نسخة، ويشهد لهم من هو مثلهم بلفظ النسخة الأخرى (وموافقتها لها، وهؤلاء أو مثلهم بموافقة النسخة الثانية).

ومعلوم أن هذا لم يفعله أحد، ولا يقدر عليه أحد، بل لو اجتمع جميع ملوك النصارى على ذلك (وعلماء بلادهم على ذلك) لم يقدروا عليه، فإن من النسخ ما هو عند المسلمين، ومنها ما هو في بلاد لا حكم لهم عليها، وأيضا فقد يكون في بلادهم من النسخ ما لم يظهرها أصحابها.

فكل من شهد من النصارى، وغيرهم بأن كل نسخة في العالم بهذه الكتب توافق جميع النسخ فهو شاهد زور شهد بما لا يعلم، بل شهد بما يعلم أنه كاذب فيه.

وكذلك لو شهد بمثل هذا لنسخ أي كتاب كان، فإن العادة المعروفة أن نسخ الكتب تختلف ويزيد بعضها وينقص بعضها، والقرآن المنقول بالتواتر لم يكن الاعتماد في نقله على نسخ المصاحف، بل الاعتماد على حفظ أهل التواتر له في صدورهم.

ولهذا إذا وجد مصحف يخالف حفظ الناس أصلحوه، وقد يكون في بعض نسخ المصاحف غلط، فلا يلتفت إليه مع أن المصاحف التي كتبها الصحابة قد قيد الناس صورة الخط ورسمه، وصار ذلك أيضا منقولا بالتواتر فنقلوا بالتواتر لفظ القرآن حفظا، ونقلوا رسم المصاحف أيضا بالتواتر.

ونحن لا ندعي اتفاق جميع نسخ المصاحف كما لا ندعي أن كل من يحفظ القرآن لا يغلط، بل ألفاظه منقولة بالتواتر حفظا ورسما فمن خرج عن ذلك علم الناس أنه غلط لمخالفته النقل المتواتر، بخلاف هذه الكتب، فإن النصارى لم يحفظوها كلها في قلوبهم تلقيا لها عن الحواريين حفظا منقولا بالتواتر، بل لم يكن أحد منهم يحفظها كلها، فضلا عن أن يحفظها كلها أهل التواتر، فضلا عن أن يحفظ كل لسان منها من تواتر بهم ذلك اللسان.

وهذا أمر معلوم لجميع النصارى وغيرهم أنه لم يحفظها كلها بكل لسان من زمن الحواريين عدد التواتر، بل ولا في زمن من الأزمان، بل بعد انتشار النصارى، وكثرتهم، وتفرقهم في الأقاليم السبعة لا يكاد يوجد فيهم من يحفظها كلها عن قلبه، كما يحفظ صبيان مكاتب المسلمين القرآن، فكيف يحفظها في كل زمان أهل التواتر؟ فكيف يحفظ كل لسان من الاثنين وسبعين أهل التواتر؟

وإذا كان اعتمادهم إنما هو على الكتب، وهم لا يمكنهم معرفة اتفاق جميع النسخ بلسان واحد فضلا عن جميع الألسنة، علم أن دعواهم أنها لم تزل متفقة على نص واحد ولفظ واحد، وأن جميع نسخها متفقة في هذا الزمان، وفيما قبله - كلام مجازف يتكلم بلا علم، بل يتكلم بما يعلم أنه باطل.

الوجه الثامن: أن هذا لو قدر إمكانه، فإنما يكون منقولا لو لم يعلم أنه كذب فكيف مع العلم بأنه كذب؟ فإنه يوجد في هذا الزمان نسخ التوراة والإنجيل والزبور والنبوات مختلفة متناقضة.

والنسخ التي عند النصارى مختلفة، وهي أيضا تخالف نسخ اليهود والسامرة في مواضع، وحينئذ فإذا قالت النصارى: نسخنا هي الصحيحة - لم يكن هذا أولى من قول اليهود: نسخنا هي الصحيحة. بل معلوم أن اعتناء اليهود بالتوراة أعظم من اعتناء النصارى، (ثم بعد هذا، ما ذكروه لا يكفي إن لم يعلم أن نسخهم توافق النسخ التي عند اليهود حتى السامرة، وهذا غير معلوم).

وإن قالوا: إذا خالف نقل اليهود لنقل الحواريين - لم يلتفت إليه لأنهم معصومون. كل هذا مبني على دعوى عصمتهم، وقد عرف فساده، وإذا قالت النصارى: نحن ننقلها عن الحواريين المعصومين، قالت اليهود: نحن ننقلها عن موسى المعصوم باتفاق أهل الملل، أو عن العارف المعصوم باتفاق اليهود والنصارى، وكثير من المسلمين، فالتوراة باتفاق الخلق مأخوذة عن موسى بن عمران وهو معصوم، وإنما يطعن من يطعن في نقل بعضها لانقطاع التواتر في أثناء المدة لما خرب بيت المقدس، ولم يبق فيه ساكن، أكثر من سبعين سنة، فيقول بعض الناس: إن بعض ألفاظها غير حينئذ، ويقول بعضهم: لم تغير ألفاظ جميع النسخ، وإنما غير ألفاظ بعض النسخ، وانتشرت النسخ المغيرة عند كثير من الناس حتى لا يعرفوا غيرها.

ثم بنو إسرائيل لم يزل فيهم نبي بعد نبي حتى جاء المسيح، وبعد المسيح فلم يزالوا خلقا كثيرا لا يمكن تواطؤهم في مشارق الأرض ومغاربها على تغيير نسخ التوراة، بخلاف الإنجيل فإنه إنما نقله أربعة، ومن كتب التوراة والزبور والنبوات من أتباع المسيح، فإنما كتبوها من النسخ التي كانت بأيدي اليهود.

وإذا قالوا: كانوا معصومين، فهذا ممنوع عند المسلمين واليهود، وعلى تقدير تسليمه فاليهود ينقلونها أيضا عن المعصوم قبل هؤلاء، فلا يمكن مع هذا أن يدعي مدع أن النبوات التي عند النصارى تواترت عن المعصوم أعظم من تواتر ما عند اليهود، بل لا يشك العقلاء العادلون أن نقل حروف التوراة أصح من نقل حروف الإنجيل.

وهذا أمر يعرف من وجوه متعددة فإن التوراة أخذت عن المعصوم باتفاق أهل الملل، وكانت منقولة قبلالمسيح بين الأنبياء وبين بني إسرائيل أعظم من نقل الإنجيل، وبعد المسيح نقلها اليهود، والنصارى.

وإذا كان كذلك، فإذا وجد ما عند اليهود والسامرة من نسخ النبوات يخالف ما عند النصارى في بعض الألفاظ - كان هذا دليلا على أن هذه الكتب ليست ألفاظها منقولة عن نص واحد، وأنه ليس كل لفظ من ألفاظها متواترا، والله أعلم.

الوجه التاسع: أن جميع ما عندهم من النصوص الصحيحة لا يدل على مذهبهم ألبتة نصا، بل غاية ما يدعون فيها الظهور، وهم منازعون في ذلك حتى يقال: بل الظاهر فيما يحتجون به خلاف قولهم.

ومعلوم أن أصول الإيمان التي يؤمن أهل الإيمان بها، ويكفرون من خالفها - لا بد أن تكون معلومة عندهم عن الأنبياء، والعلم لا يحصل بلفظ محتمل، فعلم أنه لا علم عندهم عن الأنبياء عليهم السلام، وهو محل النزاع.

الوجه العاشر: أن أصرح ما عندهم من التثليث، هو قوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس)، وعلى هذا القول بنوا قولهم بالتثليث، وأثبتوا لله ثلاثة أقانيم.

ولفظ الأقانيم لم ينطق به أحد من الأنبياء، ولا أحد من الحواريين باتفاقهم، بل هو مما ابتدعوه، قيل: إنه لفظ رومي معناه: الأصل، ثم أقنوم الابن تارة يقولون: " هو علم الله "، وتارة يقولون: " هو حكمة الله "، وتارة يقولون: " هو كلمة الله "، وتارة يقولون: " هو نطق الله "، وروح القدس تارة يقولون: " هو حياة الله " وتارة يقولون: " هو قدرة الله ".

والكتب المنقولة عن الأنبياء عندهم ليس فيها تسمية شيء من صفات الله لا باسم ابن ولا باسم روح القدس، فلا يوجد أن أحدا من الأنبياء سمى علم الله وحكمته وكلامه - ابنا، ولا سمى حياة الله أو قدرته روح القدس، بل روح القدس في كلام الأنبياء يراد بها معنى ليس هو حياة الله، كما يراد بها ملك الله أو ما ينزله في قلوب الأنبياء والصالحين من هداه ونوره وتأييده، ونحو ذلك.

وإذا كان كذلك، علم أن ما فسروا به قول المسيح : (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس) - كذب صريح عليه، وكذلك ما فسروا به كلام الأنبياء من إثبات الأقانيم الثلاثة كذب صريح عليهم، كقولهم إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، أرادوا به إثبات ثلاثة آلهة، فإن هذا مما يعلم بالضرورة ضلالهم فيه وافتراؤهم على الأنبياء، ويعلم أن إله الثلاثة هو إله واحد ليس إله إبراهيم إلها آخر غير إله إسحاق حتى لو قيل بالأقانيم، فلا يقول عاقل: إن أحد الأقانيم إله هذا، والأقنوم الآخر إله الآخر، فإن هذا لم يقله أحد من العقلاء لا النصارى، ولا غيرهم، لا يقولون: إن الأب إله إبراهيم مثلا، والابن إله إسحاق، وروح القدس إله يعقوب، بل هم متفقون مع قولهم بالتثليث أن الجميع إله واحد لجميع المرسلين، ليس إله هذا أقنوما وإله الآخر أقنوما آخر، فعلم أن ما يفسرون به كلام الأنبياء كذب، لا يصح لا على تثليثهم الذي ابتدعوه، ولا قول أهل التوحيد المتبعين لرسل الله تعالى.

فصل: رأي النصارى في كفر اليهود بالمسيح رغم ما عندهم من النبوات عنه وبيان مشابهة النصارى لهم بكفرهم بمحمد

قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إذا كانت هذه النبوات عند اليهود، وهم مقرون معترفون بها أنها حق، وأنها عتيدة أن تكمل عند مجيء المسيح فأي حجة لهم يحتجون بها عن الإيمان به؟

أجابوا قائلين: إن الله اختار بني إسرائيل، واصطفاهم على الناس له شعبا في ذلك الزمان، وحيث كانوا في أرض مصر في عبودية فرعون أرسل إليهم موسى النبي دلهم على معرفة الله، ووعدهم أن الله يخلصهم من عبودية فرعون، ويخرجهم من مصر، ويريهم أرض الميعاد التي هي أرض بيت المقدس فطلب موسى من الله، وعمل العجائب قدام عيونهم وضرب أهل مصر عشر الضربات، وهم يرون ذلك جميعه، ويعلمون أن الله يصنعه لأجلهم، وأخرجهم من مصر بيد قوية، وشق لهم البحر، وأدخلهم فيه، وصار لهم الماء حائطا عن يمينهم، وحائطا عن شمالهم، ودخل فرعون، وجميع جنوده في البحر، وبنو إسرائيل ينظرون ذلك فلما برز موسى وبنو إسرائيل من البحر، وخلفهم فرعون بجنوده فيه - أمر الله لموسى أن يرد عصاه إلى الماء فعاد الماء كما كان، وغرق فرعون وجميع جنوده في البحر، وبنو إسرائيل يشهدون ذلك. فلما غاب عنهم موسى إلى الجبل ليناجي ربه، وأخذ لهم التوراة من يد الله تركوا عبادة الله، ونسوا جميع أفعاله، وكفروا به وعبدوا رأس العجل من بعد ذلك، ثم عبدوا الأصنام مرارا كثيرة ليس مرة واحدة، وذبحوا لها الذبائح ليست حيوانات بل بنيهم مع البنات حسبما ذكر فيما قبل ذلك، وجميع أفعالهم مكتوبة في أخبار بني إسرائيل فلما رأى الله قساوة قلوبهم، وغلظ رقابهم وكفرهم به، ورأى أفعالهم النجسة الخبيثة، غضب عليهم وجعلهم مرذولين، وطبع على قلوبهم فلا يؤمنون، وجعلهم مهانين في جميع الأمم، وليس لهم ملك ولا بلاد ولا نبي ولا كاهن إلى الأبد حسبما تنبئت عليهم الأنبياء على ما ذكرناه قبل، وتشهد به كتبهم التي في أيديهم إلى يومنا هذا.

وكذا قال الله لأشعيا: (اذهب إلى هذا الشعب، فقل لهم تسمعون سماعا ولا تفهمون، وينظرون نظرا ولا تبصرون، لأن قلب هذا الشعب قد غلظ وقد سمعوا بأفهامهم سمعا ثقيلا، وقد غمضوا أعينهم لئلا يبصروا بها، وسمعوا بآذانهم ولا يفهمون بقلوبهم، ويرجعون إلي فأرحمهم).

وقال أشعيا: (قال الله: هكذا مقتت نفسي سبوتكم ورءوس شهوركم صارت عندي مرذولة، وقال: (وفي ذلك اليوم يقول الله: سأبطل السبوت والأعياد كلها وأعطيكم سنة جديدة مختارة لا كالسنة التي أعطيتها لموسى عبدي (يوم حوريب) يوم الجمع الكثير، بل سنة جديدة مختارة أمر بها وأخرجها من صهيون) فصهيون هي أورشليم، والسنة الجديدة المختارة: هي السنة التي تسلمناها نحن معشر النصارى من يدي الرسل الحواريين الأطهار الذين خرجوا من أورشليم، وداروا في سبعة أقاليم العالم وأنذروا بهذه السنة الجديدة. فأي بيان يكون أوضح وأصح من هذا البيان، إذ قد أوردناه من قول الله، ولا سيما وأعداؤنا اليهود المخالفون لديننا شهدوا لنا بصحة ذلك جميعه.

وأما حجة اليهود في هذه النبوات يقولون ويعتقدون أنها حق، وأنها قول الله لكن يقولون: إنها عتيدة (فهذه النبوات مثلما هي عند اليهود كذلك هي عندنا معشر النصارى في اثنين وسبعين لسانا، فيراهم جميع الأمم قولا واحدا وأنها قول الله، وقالت اليهود نحن مصدقون بها) أن تكمل وتتم عند مجيء المسيح، لكن المسيح لم يجئ بعد، وأن الذي جاء ليس هو المسيح. هذا قولهم، وكفاهم أنهم يكفرون ويفجرون مع الكفر، ويقولون: إن المسيح كان ضالا مضلا، وأما المسيح الحق فعتيد أنه يأتي ويكمل نبوات الأنبياء إذا جاء، وإذا جاء اتبعناه وكنا أنصاره، وهذا رأيهم واعتقادهم في السيد المسيح، فماذا يكون أعظم من هذا الكفر الذي هم عليه؟ ولأجل (ذلك في هذا الكتاب سماهم المغضوب عليهم لأجل) خلافهم لقول الله الذي أرسل نطقه على أفواه الأنبياء، ولما كنا نحن النصارى متمسكين بما أمرتنا به الرسل الأطهار سمانا في هذا الكتاب المنعم عليهم، وأما قولنا في الله: ثلاثة أقانيم إله واحد، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة، وفي كتب الأنبياء، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول: (حيث شاء الله أن يخلق آدم قال: لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا، فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروح قدسه، وحين خالف آدم وعصى ربه (ها آدم قد صار كواحد منا). ( وهذا واضح أن الله قال هذا القول لابنه، أي كلمته وروح قدسه، وقال هذا القول يستهزئ بآدم، أي طلب أن يصير كواحد منا) صار عريانا مفتضحا. وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة قال في التوراة: (وأمطر الرب عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا)، أوضح بهذا ربوبية الأب والابن بذكر ثالث.

والجواب: أن يقال أما كفر اليهود كلهم لما أرسل المسيح إليهم فلم يؤمنوا به وكفر من كفر منهم قبل ذلك، إما بقتل النبيين، وإما بتكذيبهم، إما بالشرك، وإما بغير ذلك مما كفروا فيه بما أنزل الله - فهذا حق.

وهذا هو نظير كفر النصارى كلهم الذين بلغتهم دعوة محمد ﷺ، وأقام الله عليهم الحجة به فلم يؤمنوا به، وكفر من كفر منهم قبل ذلك بما أنزل الله، إما بتكذيب بعض ما أنزله، وإما بتبديله بغيره، وإما بجعل ما لم ينزله الله منزلا منه، وإما بغير ذلك مما فيه كفر بما أنزل الله عز وجل.

وكذلك ما ذكر من أن الله أقام سنة جديدة، وعهدا جديدا، وهو ما بعث به المسيح من الشريعة التي بعث بها، وفيها تحليل بعض ما حرم الله في التوراة، كما قال في القرآن عن المسيح: ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم. فهذا أيضا حق.

فصل

وأما قولكم: السنة الجديدة المختارة هي السنة التي تسلمناها من يدي الرسل الأطهار، على ما تسلموها هم من المسيح .

فيقال: لو كنتم على تلك السنة لم تغيروها، لم ينفعكم المقام عليها إذا كذبتم الرسول النبي الأمي الذي بعث إليكم وإلى سائر الخلق بسنة أخرى أكمل من السنن التي كانت قبله، كما لم ينفع اليهود، ولو تمسكوا بسنة التوراة، ولم يتبعوا سنة المسيح الذي أرسل إليهم، بل من كذب برسول واحد فهو كافر.

كما قال تعالى: إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا.

فإنه، وإن كانت السنة التي جاء بها المسيح حقا، وكل من كان متبعا له فهو مؤمن مسلم من أولياء الله، من أهل الجنة الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، كما قال تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

وقال تعالى: كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين.

فمن اتبع المسيح كان مؤمنا، ومن كفر به كان كافرا.

وقال تعالى: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إلي مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين * وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم والله لا يحب الظالمين.

لكن غيرتموها وبدلتموها قبل مبعث محمد ﷺ، (فصرتم كفارا بتبديل شريعة المسيح، وتكذيب شريعة محمد ﷺ)، كما كفرت اليهود بتبديل شريعة التوراة، وتكذيب شريعة الإنجيل، ثم كفروا بتكذيب شريعة محمد ﷺ، وعلى سائر رسل الله أجمعين.

فإن المسيح لم يسن لكم التثليث والقول بالأقانيم، ولا القول بأنه رب العالمين، ولا سن لكم استحلال الخنزير وغيره من المحرمات، ولا ترك الختان، ولا الصلاة إلى المشرق، ولا اتخاذ أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، ولا الشرك واتخاذ التماثيل والصليب، ودعاء الموتى والغائبين من الأنبياء والصالحين وغيرهم، وسؤالهم الحوائج، ولا الرهبانية، وغير ذلك من المنكرات التي أحدثتموها، ولم يسنها لكم المسيح، ولا ما أنتم عليه هي السنة التي تسلمتموها من رسل المسيح.

بل عامة ما أنتم عليه من السنن أمور محدثة مبتدعة بعد الحواريين، كصومكم خمسين يوما زمن الربيع، واتخاذكم عيدا يوم الخميس والجمعة والسبت، فإن هذا لم يسنه المسيح ولا أحد من الحواريين، وكذلك عيد الميلاد والغطاس، وغير ذلك من أعيادكم.

بل عيد الصليب إنما ابتدعته (هيلانة) الحرانية القندقانية أم قسطنطين، فأنتم تقولون: إنها هي التي أظهرت الصليب وصنعت لوقت ظهوره عيدا، وذلك بعد المسيح والحواريين بمدة طويلة زمن الملك قسطنطين بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة.

وفي ذلك الزمان أحدثتم الأمانة لنصوص الأنبياء في غير موضع، وأظهرتم استحلال الخنزير وعقوبة من لم يأكله، وابتدعتم في ذلك الزمان تعظيم الصليب، وغير ذلك من بدعكم، وكذلك كتب القوانين التي عندكم جعلتموها سنة وشريعة فيها شيء عن الأنبياء والحواريين، وكثير مما فيها ابتدعه من بعدهم لا ينقلونه لا عن المسيح ولا عن الحواريين، فكيف تدعون أنكم على السنة والشريعة التي كان عليها المسيح وهذا مما يعلم بالاضطرار والتواتر أنه كذب بين.

فصل: رد استدلالهم على الأقانيم بما ورد في التوراة عن خلق آدم

قالوا: وأما قولنا في الله: ثلاثة أقانيم إله واحد، فهو أن الله نطق به وأوضحه في التوراة، وفي كتب الأنبياء، ومن ذلك ما جاء في السفر الأول من التوراة يقول - حيث شاء الله أن يخلق آدم - قال الله: (لنخلق خلقا على شبهنا ومثالنا)، [30] فمن هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه؟ وحين خالف آدم وعصى ربه قال الله تعالى: (ها آدم قد صار كواحد منا)، [31] وهو قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه وروح قدسه.

والجواب: أن استدلالهم بهذا على قولهم في المسيح هو في غاية الفساد والضلال، فإن لفظ التوراة: (نصنع آدم كصورتنا وشبهنا)، وبعضهم يترجمه (نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا). والمعنى واحد. وهذا كما قال النبي ﷺ: (إن الله خلق آدم على صورته)، وفي رواية: (على صورة الرحمن) فقولهم: من هو شبهه ومثاله سوى كلمته وروحه - من أبطل الباطل من وجوه:

أحدها: أن الله ليس كمثله شيء، وليس لفظ النص: على مثالنا.

الثاني: أنه لا اختصاص للمسيح بما ذكر على تقدير حق وباطل، فإنه بأي تفسير فسر قوله: (سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا) لم يخص ذلك المسيح.

الثالث: أنهم إن أرادوا بالكلمة التي هي شبهه ومثاله صفته التي هي العلم القائم به، والحياة القائمة به مثلا، فالصفة لا تكون مثلا للموصوف، إذ الموصوف هو الذات القائمة بنفسها، والصفة قائمة بها، والقائم بغيره لا يكون مثل القائم بنفسه.

وإن أرادوا به شيئا غير صفاته، مثل بدن المسيح وروحه،

فذلك مخلوق له، والمخلوق لا يكون مثل الخالق، وكذلك روح القدس - سواء أريد به ملك أو هدى وتأييد - ليس مثلا لله عز وجل.

الرابع: أنه قال (لنخلق خلقا) أو قال: (نخلق آدم أو نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا) وعلى ما قالوه: (نخلق خلقا على شبهنا ومثالنا)، وبكل حال، فهذا وكلمة الله وروحه عندهم غير مخلوق فامتنع أن يكون المراد بذلك كلمته وروحه.

وإن قالوا: أراد بذلك الناسوت المسيحي، فلا فرق بين ذلك الناسوت وسائر النواسيت، مع أن المراد بذلك النص آدم أبو البشر باتفاق الأمم، والناسوت نفسه ليس هو كلمة الله وروحه.

الخامس: أنه لو قدر أنه أريد بذلك أن كلام الله يشبه ذاته من بعض الوجوه، مثل كونه قديما بقدمه - لم يكن في ذلك ما يدل على الأقانيم الثلاثة.

وكذلك اللفظ المعروف وهو قوله: (سنخلق بشرا على صورتنا شبهنا) فهذا لا يدل على التثليث بوجه من الوجوه، وشبه الشيء بالشيء يكون لمشابهته له من بعض الوجوه، وذلك لا يقتضي التماثل الذي يوجب أن يشتركا فيما يجب ويجوز ويمتنع، وإذا قيل هذا حي عليم قدير، وهذا حي عليم قدير، فتشابها في مسمى الحي والعليم والقدير - لم يوجب ذلك أن يكون هذا المسمى مماثلا لهذا المسمى فيما يجب ويجوز ويمتنع.

بل هنا ثلاثة أشياء:

أحدها: القدر المشترك، الذي تشابها فيه، وهو معنى كلي لا يختص به أحدهما، ولا يوجد كليا عاما مشتركا إلا في علم العالم.

والثاني: ما يختص به هذا، كما يختص الرب بما يقوم به من الحياة والعلم والقدرة.

والثالث: ما يختص به (ذاك، كما يختص به) العبد من الحياة والعلم والمقدرة، فما اختص به الرب عز وجل لا يشركه فيه العبد، ولا يجوز عليه شيء من النقائص التي تجوز على صفات العبد، وما يختص به العبد لا يشركه فيه الرب، ولا يستحق شيئا من صفات الكمال التي يختص بها الرب عز وجل.

وأما القدر المشترك كالمعنى الكلي الثابت في ذهن الإنسان فهذا لا يستلزم خصائص الخالق ولا خصائص المخلوق، فالاشتراك فيه لا محذور فيه.

ولفظ التوراة فيه: (سنخلق بشرا على صورتنا يشبهنا)، لم يقل: على مثالنا وهو كقول النبي ﷺ في الحديث الصحيح (لا يقولن أحدكم: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فإن الله تعالى خلق آدم على صورته) فلم يذكر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كموسى ومحمد ﷺ إلا لفظة شبه دون لفظ مثل.

وقد تنازع الناس: هل لفظ الشبه والمثل بمعنى واحد أو معنيين، على قولين:

أحدهما: أنهما بمعنى واحد، وأن ما دل عليه لفظ المثل مطلقا ومقيدا يدل عليه لفظ الشبه، وهذا قول طائفة من النظار.

والثاني: أن معناها مختلف عند الإطلاق لغة وشرعا وعقلا، وإن كان مع التقيد والقرينة يراد بأحدهما ما يراد بالآخر، وهذا قول أكثر الناس، وهذا الاختلاف مبني على مسألة عقلية، وهو أنه هل يجوز أن يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه، وللناس في ذلك قولان: فمن منع أن يشبهه من وجه دون وجه قال: المثل والشبه واحد، ومن قال: إنه قد يشبه الشيء الشيء من وجه دون وجه - فرق بينهما عند الإطلاق،

وهذا قول جمهور الناس، فإن العقل يعلم أن الأعراض مثل الألوان تشتبه في كونها ألوانا، مع أن السواد ليس مثل البياض، وكذلك الأجسام والجواهر عند جمهور العقلاء تشتبه في مسمى الجسم والجوهر، وإن كانت حقائقها ليست متماثلة، فليست حقيقة الماء مماثلة لحقيقة التراب، ولا حقيقة النبات مماثلة لحقيقة الحيوان، ولا حقيقة النار مماثلة لحقيقة الماء وإن اشتركا في أن كلا منهما جوهر وجسم وقائم بنفسه.

وأيضا فمعلوم في اللغة أنه يقال: هذا يشبه هذا، وفيه شبه من هذا، إذا أشبهه من بعض الوجوه، وإن كان مخالفا له في الحقيقة.

قال الله تعالى: وأتوا به متشابها.

وقال: منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم.

فوصف القولين بالتماثل، والقلوب بالتشابه لا بالتماثل؛ فإن القلوب وإن اشتركت في هذا القول فهي مختلفة لا متماثلة، وقال النبي ﷺ: الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور متشابهات لا يعلمهن كثير من الناس).

فدل على أنه يعلمها بعض الناس، وهي في نفس الأمر ليست متماثلة، بل بعضها حرام وبعضها حلال.

والوجه السادس: أن قوله: (سنخلق خلقا على شبهنا) لا يتناول صفته، مثل كلامه وحياته القائمة به، فإن ذلك ليس بمخلوق، وحينئذ فهذا لا يتناول اللاهوت الذي يزعمون أنه تدرع بالناسوت، فإن اللاهوت ليس بمخلوق.

وأما الناسوت فهو كسائر نواسيت الناس لا اختصاص له، بأن يكون شبيها لله دون سائر النواسيت، فقوله: فمن هو الشبه المخلوق سوى كلمته وروحه؟ - باطل على كل تقدير.

وأما قوله: (ها آدم قد صار كواحد منا)، وقولهم: إن هذا قول واضح أن الله قال هذا القول لابنه روح قدسه، فإن أرادوا أن يجعل الذي صار كواحد منا لابنه، كان هذا من أبطل الكلام؛ فإن هذا الابن إن كان المراد به الكلمة التي هي صفة لله، فتلك لم يخلق لها أمر يصير كواحد منهم، وتلك لا تسمى آدم ولا سماها الله ابنا.

وإن أريد به ناسوت المسيح فذاك مخلوق مبتدع يمتنع أن يكون كالقديم الأزلي، وأيضا فإن الله قال عن آدم، وآدم ليس هو المسيح، ولا يجوز أن يقال: آدم ويراد به المسيح، كما لا يجوز أن يقال: عصى آدم ويراد به المسيح، وأيضا فإنه قال: (ها آدم قد صار كواحد منا) هذه إشارة إلى أمر قد كان في الزمن الماضي، ليس هو إشارة إلى ما سيكون بعد ذلك بألوف من السنين، وإن أرادوا أن الله قال لابنه الذي هو كلمته وروحه، وهذا هو مرادهم، كقولهم: إنه قال هذا القول يستهزئ بآدم، أي أنه طلب أن يصير كواحد منا، صار هكذا عريانا مفتضحا، ويكون شبهتهم قوله: (منا) لأنه عبر بصيغة الجمع، (وكذلك إن أرادوا هذا بقوله (نخلق بشرا على صورتنا وشبهنا) فاحتجوا على التثليث بصيغة الجمع.

وهذا مما احتج به نصارى نجران على النبي ﷺ فاحتجوا بقوله تعالى (إنا)، (نحن) قالوا: وهذا يدل على أنهم ثلاثة، وكان هذا من المتشابه الذي اتبعوه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وتركوا المحكم المبين الذي لا يحتمل إلا واحدا، فإن الله في جميع كتبه الإلهية قد بين أنه إله واحد، وأنه لا شريك له، ولا مثل له.

وقوله: (إنا)، (نحن) لفظ يقع في جميع اللغات على من كان له شركاء وأمثال، وعلى الواحد المطاع العظيم الذي له أعوان يطيعونه، وإن لم يكونوا شركاء ولا نظراء، والله تعالى خلق كل ما سواه، فيمتنع أن يكون له شريك أو مثل، والملائكة وسائر العالمين جنوده تعالى.

قال تعالى: وما يعلم جنود ربك إلا هو.

وقال تعالى: ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما.

فإذا كان الواحد من الملوك يقول: إنا، ونحن، ولا يريدون أنهم ثلاثة ملوك فمالك الملك رب العالمين، رب كل شيء ومليكه هو أحق بأن يقول: إنا، ونحن، مع أنه ليس له شريك، ولا مثيل، بل له جنود السماوات والأرض.

وأيضا فمن المعلوم أن آدم لم يطلب أن يصير مثل الله ولا مثل صفاته كعلمه وحياته، وأيضا فليس في ظاهر اللفظ أن الله خاطب صفاته بتلك.

وأيضا فالصفة القائمة بالموصوف لا تخاطب ولا تخاطب، وإنما يخاطب الموصوف، ولم يكن قد خلق آدم ناسوت المسيح، ولا غيره من البشر حتى يخاطبه، فعلم أن دعواهم أن الله خاطب صفته التي سموها ابنا وروح قدس - كلام باطل، بل قد يخاطب ملائكته.

وآدم أراد ما أطمعه الشيطان من الخلد والملك، كما قال تعالى: فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى.

فصل: رد استدلالهم على ربوبية عيسى بما ورد عن إهلاك قوم لوط

قالوا: وقال الله عندما أخسف بسدوم وعامورة، قال في التوراة: (وأمطر الرب من عند الرب من السماء على سدوم وعامورة نارا وكبريتا) [32] أوضح بهذا ربوبية الأب والابن.

والجواب: أن احتجاجهم بهذا من أبطل الباطل لوجوه:

أحدها: أن تسمية الله علمه وحياته ابنا وربا تسمية باطلة، لم يسم موسى في التوراة شيئا من صفات الله باسم الابن ولا باسم الأب، فدعوى المدعي أن موسى أراد بالرب شيئا من صفات الله، أو أن له صفة تسمى ابنه - كلام باطل.

الثاني: أنه لو قدر أن صفة الله تسمى بذلك فمعلوم أن الذي أمطر هو الذي كان المطر عنده، لم يكن المطر عند أحدهما (والآخر هو الممطر، كما لا يجوز أن يقال خلق أحدهما) من شيء عند الآخر، ولا أنزل أحدهما المطر من سحاب الآخر.

الثالث: أن الصفة لا تفعل شيئا، ولا عندها شيء، بل هي قائمة بالموصوف، والذات المتصفة بالصفة هي التي تفعل، وعندها يكون ما يكون.

الرابع: أن هذا بمنزلة قوله: (أمطر الرب من عنده) لكن جعل الاسم الظاهر موضع المضمر إظهارا، لأن الأمر له وحده في هذا وهذا.

ومثل هذا في القرآن كقوله: الحاقة ما الحاقة؛ القارعة ما القارعة.

وقال تعالى: تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم؛ تنزيل من الرحمن الرحيم.

والله هو المنزل، ولم يقل مني.

فصل: رد استدلالهم بما ورد عن داود على ربوبية المسيح

قالوا: نذكر ثالثا، وقال داود في الزبور في المزمور المائة والتسعة قائلا: (قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك تحت موطأ قدميك).

والجواب من وجوه:

أحدها: أنه لا يجوز أن يراد بـ (ربي) شيء من صفات الله، فإنه لم يسم داود ولا أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ربا ولا ابنا، ولا قال أحد لشيء من صفات الله: يا رب ارحمني، ولا قال لعلم الله أو كلامه أو قدرته: يا رب، وإذا لم يكونوا يسمون صفات الله ربا، ولو كان المسيح صفة من صفاته لم يجز أن يكون هو المراد بلفظ الرب، فكيف وناسوته أبعد عن اللاهوت أن يراد بذلك؟ فعلم أنهم لم يريدوا بذلك لا اللاهوت ولا الناسوت.

الثاني: أنه قال: قال الرب لربي، فأضاف إليه الثاني دون الأول وأنه هو ربه الذي خلقه، وعامة ما عند النصارى من الغلو أن يقولوا: إله حق من إله حق، ويجعلونه خالقا، أما أن يجعلوه أحق من الأب بكونه رب داود، فهذا لم يقولوه، وهو ظاهر البطلان.

الثالث: أنه ليس في هذا ذكر الأقانيم الثلاثة، غايته لو كان كما تأولوه أن يكون فيه ذكر الابن، وأما الأقانيم الثلاثة فلم ينطق بها شيء من كتب الله التي بأيديهم، فضلا عن القرآن لا بلفظها ولا معناها، بل ابتدعوا لفظ الأقنوم، وعبروا به عما جعلوه مدلول كتب الله، وهي لا تدل على ذلك فكانوا في ذلك مترجمين لكلام الله، وهم لم يفهموا معناه، ولا عبروا عنه بعبارة تدل على المراد.

الرابع: أنه قال: لربي، وهذا يراد به السيد، كما قال يوسف: إنه ربي أحسن مثواي.

وقال لغلام الملك: اذكرني عند ربك.

وقال تعالى: فأنساه الشيطان ذكر ربه.

ولهذا ذكر الأول مطلقا والثاني مقيدا، فيكون المعنى: وقال الله لسيدي: قال رب العالمين لسيدي، وسماه سيدا تواضعا من داود وتعظيما له، لاعتقاده أنه أفضل منه.

فصل

قالوا: نذكر رابعا، وقال في المزمور الثاني: (الذي قال لي: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك).

والجواب من وجوه:

أحدها: أن هذا ليس فيه تسمية صفات الله - علمه وحياته - ابنا، ولا فيه ذكر الأقانيم الثلاثة، فليس فيه حجة لشيء مما تدعونه.

والثاني: أن هذا حجة عليهم، فإنه هو سمى داود ابنه، فعلم أن اسم الابن ليس مختصا بالمسيح ، بل سمى غيره من عباده ابنا، فعلم أن اسم الابن ليس اسما لصفاته، بل هو اسم لمن رباه من عبيده. وحينئذ فلا تكون تسمية المسيح ابنا لكون الرب أو صفته اتحدت به، بل كما سمى داود ابنا، وكما سمى إسرائيل ابنا فقال: (أنت ابني بكري).[33]

وهذا في كتبهم، كما ذكر، (فإن كان ما في كتبهم قول الله فلا حجة فيه، لأنه أراد المربى، وإن لم يكن قول الله ورسله) فلا حجة فيه، لأن قول غير المعصوم ليس بحجة.

الثالث: أن قوله: (وأنا اليوم ولدتك) يدل على حدوث هذا الفعل، وعندهم تولد الكلمة التي يسمونها الابن من الأب قديم أزلي، كما قالوا في أمانتهم (وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور نور من نور إله حق من إله حق من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر الذي به كان كل شيء).

فهذا الابن عندهم مولود من الأب قبل كل الدهور، وذاك ولد في يوم خاطبه بعد خلق داود فلم يكن في هذا المحدث دليل على وجود ذلك القديم.

الوجه الرابع: أنه إذا كان الأب في لغتهم هو الرب الذي يربي عبده، أعظم مما يربي الأب ابنه، كان معنى لفظ الولادة مما يناسب معنى هذه الأبوة، فيكون المعنى: اليوم جعلتك مرحوما مصطفى مختارا.

والنصارى قد يجعلون الخطاب الذي هو ضمير لغير المسيح، يراد به المسيح، فقد يقولون: المراد بهذا المسيح، وهذا باطل لا يدل اللفظ عليه، وبتقدير صحته، فهو يدل على أن المسيح هو الناسوت المخلوق، وهو المسمى بالابن، لقوله (وأنا اليوم ولدتك). واللاهوت عندهم مولود من قبل الدهور، وحينئذ فإن كان المراد به يوم ولادته، فالمعنى خلقتك، وإن كان يوم اصطفاه، فالمراد اليوم اصطفيتك وأحببتك، كأنه قال: اليوم جعلتك ولدا وابنا، على لغتهم.

فصل: رد استدلالهم بذكر التوراة إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب على تعدد ألوهيته سبحانه

قالوا: نذكر خامسا، وفي السفر الثاني من التوراة: وكلم الله موسى من العليقة قائلا: (أنا إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب)، ولم يقل أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل كرر اسم الإله ثلاث دفوع قائلا: أنا إله وإله؛ لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته.

والجواب: أن الاحتجاج بهذا على الأقانيم الثلاثة من أفسد الأشياء، وذلك يظهر من وجوه:

أحدها: أنه لو أريد بلفظ الإله أقنوم الوجود، وبلفظ الإله مرة ثانية أقنوم الكلمة، وبالثالث أقنوم الحياة، لكان الأقنوم الواحد إله إبراهيم، والأقنوم الثاني إله إسحاق، والأقنوم الثالث إله يعقوب، فيكون كل من الأقانيم الثلاثة إله أحد الأنبياء الثلاثة، والأقنومين ليسا بإلهين له.

وهذا كفر عندهم، وعند جميع أهل الملل، وأيضا فيلزم من ذلك أن يكون الآلهة ثلاثة، وهم يقولون: إله واحد، ثم هم إذا قالوا: كل من الأقانيم إله واحد، فيجعلون الجميع إله كل نبي، فإذا احتجوا بهذا النص على قولهم لزم أن يكون إله كل نبي، ليس هو إله النبي الآخر، مع كون الآلهة ثلاثة.

الوجه الثاني: أنه يقال: إن الله رب العالمين، ورب السماوات ورب الأرض ورب العرش ورب كل شيء، أفيلزم أن يكون رب السماوات ليس هو رب الأرض، رب كل شيء.

وكذلك يقال: إله موسى وإله محمد، مع قولنا: إله إبراهيم وإسحاق، ويعقوب، (أفتكون الآلهة خمسة، وقد قال يعقوب لبنيه: (ما تعبدون من بعدي)، قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق.

أفتراه أثبت إلهين: أحدهما إلهه، والآخر إله الثلاثة؟

الوجه الثالث: أن العطف يكون تارة لتغاير الذوات، وتارة لتغاير الصفات كقوله تعالى: سبح اسم ربك الأعلى * الذي خلق فسوى * والذي قدر فهدى * والذي أخرج المرعى * فجعله غثاء أحوى.

والذي خلق هو الذي قدر وأخرج، وكذلك قوله: إلهك وإله آبائك.

وهو هو سبحانه، وقال إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وسلامه لقومه:

قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون * أنتم وآباؤكم الأقدمون * فإنهم عدو لي إلا رب العالمين * الذي خلقني فهو يهدين * والذي هو يطعمني ويسقين * وإذا مرضت فهو يشفين * والذي يميتني ثم يحيين * والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين

والذي خلقه هو الذي يطعمه ويسقيه، وهو الذي يميته ثم يحييه.

فقوله في التوراة: إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب، هو من هذا الباب، ولا يختص هذا بثلاثة، بل يقال في الاثنين والأربعة والخمسة بحسب ما يقصد المتكلم ذكره من الصفات، وفي هذا من الفائدة ما ليس في قوله: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فإنه لو قيل ذلك لم يفد إلا أنه معبود الثلاثة، لا يدل على أنهم عبدوه مستقلين، كل منهم عبده عبادة اختص بها، لم تكن هي نفس عبادة الأول.

وأيضا فإنه إذا قيل: إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب دل على عبادة كل منهم باللزوم، وإذا قال: وإله، دل على أنه معبود كل من الثلاثة، فأعاده باسم الإله الذي يدل على العبادة دلالة باللفظ المتضمن لها، وفي ذلك من ظهور المعنى للسامع وتفرعه بصورة له من غير فكر - ما ليس في دلالة الملزوم.

فصل: رد استدلالهم بشهادة أشعيا على التثليث

قالوا: وكذلك شهد (أشعيا) بتحقق الثالوث بوحدانية جوهره، وذلك بقوله: (رب القوات)، وبقوله: (رب السماوات والأرض) ومثل هذا القول في التوراة والمزامير شيء كثير حتى اليهود يقرون هذه النبوات، ولا يعرفون لها تأويلا، وهم معترفون بذلك، ولا ينكرون منه كلمة واحدة، وإنما قلوبهم مغلوقة عن فهمه لقساوتها على ما ذكرنا قبل ذلك، وأنهم إذا اجتمعوا في كنيستهم كل سبت يقف الحران أمامهم، ويقول كلاما عبرانيا هذا تفسيره، ولا يجحدونه، (نقدسك، ونعظمك، ونثلث لك تقديسا مثلثا كالمكتوب على لسان نبيك). فيصرخ الجميع مجاوبين: (قدوس قدوس قدوس، رب القوات، ورب السماوات والأرض). فما أوضح إقرارهم بالثالوث، وأشد كفرهم بمعناه، فنحن لأجل هذا البيان الواضح الذي قاله الله في التوراة، وفي كتب الأنبياء فجعلوه ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا، طبيعة واحدة، إلها واحدا، ربا واحدا، خالقا واحدا، وهو الذي نقوله: أب وابن وروح قدس.

والجواب: أما ما في كتب الأنبياء عليهم السلام من تثنية اسم الرب عند إضافته إلى مخلوق آخر فهو من نمط تثنية اسم الإله، وهذا لا يقتضي تعدد الأرباب والآلهة، ولهذا لا يقتضي جعلهم اثنين وأربعة إذا ذكر اللفظ مرتين وأربعة.

فكذلك إذا ذكر ثلاث مرات لا يقتضي أن الأرباب ثلاثة، وهم أيضا لا يقولون بثلاثة أرباب وثلاثة آلهة فلو كان هذا يدل على ثلاثة أرباب وثلاثة آلهة، لدل على نقيض قولهم، بل هم يزعمون أنهم إنما يثبتون إلها واحدا، ولكنهم يناقضون فيصرحون بثلاثة آلهة، ويقولون هم إله واحد.

والكتب لا تدل على قولهم المتناقض بوجه من الوجوه، وأما ما ذكروه من اعتراف اليهود بألفاظ هذه النبوات، ودعواه أنهم لا يعرفون لها تأويلا، فإن أرادوا بالتأويل تفسيرها وما يدل عليه لفظها، فهذا ظاهر لا يخفى على الصبيان من اليهود وغيرهم.

ولكن النصارى ادعوا ما لا يدل عليه اللفظ، وإن أرادوا بالتأويل معنى يخالف ظاهر اللفظ فهذا إنما يحتاج إليه إذا كان ظاهره معنى باطلا، لا يجوز إرادته، وليس ما ذكروا هنا من هذا الباب، بل الكتب الإلهية يكثر فيها مثل هذا الكلام عند أهل الكتاب وعند المسلمين، ولا يفهم منها ثلاثة أرباب أو ثلاثة آلهة إلا من اتبع هواه بغير هدى من الله، وقال قولا مختلفا يؤفك عنه من أفك، ومثل هذا موجود في سائر الكلام يقال: هذا أمير البلد الفلاني، وأمير البلد الفلاني، وأمير البلد الفلاني، وهو أمير واحد.

ويقال: هذا رسول الله إلى الأميين، ورسول إلى أهل الكتاب، ورسول إلى الجن والإنس، وهو رسول واحد.

فصل

وأما قولهم: (نقدسك، ونعظمك، ونثلث لك تقديسا مثلثا، كالمكتوب على لسان نبيك أشعيا).

وقولهم: قدوس، قدوس، قدوس، رب القوات، ورب السماوات والأرض)، فيقال: هذا الكلام صريح في أن المثلث هو نفس التقديس لا نفس الإله المقدس.

وكذلك قولهم: (قدوس، قدوس، قدوس). قدسوه ثلاث مرات، فإنه قال: (نقدسك، ونثلث لك تقديسا مثلثا). فنصب التثليث على المصدر الذي ينصب بفعل التقديس، فقال: نقدسك تقديسا مثلثا. ( فنصب التقديس على المصدر)، كما تقول: سبحتك تسبيحا مثلثا، أي سبحتك ثلاث مرات، وقال: نثلث لك أي نثلث تقديسا لك، لم يقل: أنت ثلاثة، بل جعلوا أنفسهم هم الذين يقدسون التقديس المثلث، وهم يثلثون له، وهذا صريح في أنهم يسبحونه ثلاث مرات، ولا يسبحون ثلاثة آلهة، ولا ثلاثة أقانيم.

وهذا كما في السنن عن ابن مسعود، عن النبي ﷺ أنه قال: (إذا قال العبد في ركوعه: سبحان ربي العظيم، ثلاثا، فقد تم ركوعه، وذلك أدناه، وإذا قال في سجوده: سبحان ربي الأعلى، ثلاثا، فقد تم سجوده وذلك أدناه)، والتسبيح هو تقديس الرب، وأدناه أن يقدسه ثلاث مرات، فمعناه: قدسوه ثلاث مرات، لا تقتصروا على مرة واحدة.

ولهذا يقولون مجاوبين: قدوس، قدوس، قدوس، فيقدسونه ثلاث مرات، فعلم أن المراد تثليث التقديس حيث ما دل عليه لفظه، وما يفعلونه ممتثلين لهذا الأمر، وما يفعل في نظير ذلك من تثليث تقديسه، وأن يقدس ثلاث مرات لا أن يكون المقدس ثلاث أقانيم، فإن هذا أمر لم ينطق نبي من الأنبياء به لا لفظا ولا معنى، بل جميع الأنبياء عليهم السلام أثبتوا إلها واحدا له الأسماء الحسنى.

وأسماؤه متعددة تدل على صفاته المتعددة، ولا يختص ذلك بثلاثة أسماء، ولا بثلاث صفات، (وليست الصفات أقنوما هو ذات وصفة، بل ليس إلا ذات واحدة لها صفات) متعددة، فالتعدد في الصفات لا في الذات التي يسمونها الجوهر، ولا في الذات والصفة التي يسمونها الأقنوم.

فصل: رد دعوى إقرار اليهود بالثالوث وكفرهم بمعناه

قالوا: فما أعظم إقرارهم في الثالوث، وأشد كفرهم بمعناه.

فيقال: هذا من الافتراء الظاهر على اليهود، وإن كان اليهود كفارا فلم يكن كفرهم لأجل إنكار الثالوث، بل لو أقروا به لكان زيادة في كفرهم يزيد به عذابهم.

كما أن النصارى لما كفروا لم يكن كفرهم بإقرارهم بأن المسيح المبشر به الذي قد ظهر ليس هو المسيح الدجال الذي تنتظره اليهود، وإذا خرج كانوا شيعته ويقتلهم المسلمون معه شر قتلة، حتى إن الشجر والحجر يقول: يا مسلم هذا يهودي ورائي تعال فاقتله.

بل لو كفروا بالمسيح كما كفرت اليهود لكان ذلك زيادة في كفرهم.

وعند اليهود، وعندهم في التوراة [34] من التوحيد المحض الذي يبطل تثليثكم ما لا يخفى إلا عمن أعرض عن ذكر الله الذي أنزله، وهداه الذي هدى به عباده.

فصل: رد نسبتهم التثليث إلى كلام الأنبياء

قالوا: فمن أجل هذا البيان الواضح الذي قاله الله في التوراة، وفي كتب الأنبياء نجعل ثلاثة أقانيم: جوهرا واحدا، إلها واحدا، خالقا واحدا.

وهو الذي نقوله: أب، وابن، وروح قدس.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن في التوراة والكتب الإلهية من إثبات وحدانية الله، ونفي تعدد الآلهة، ونفي إلهية ما سواه - ما هو صريح في إبطال قول النصارى ونحوهم، وليس فيها ذكر الأقانيم لا لفظا ولا معنى، حيث يجعلون الأقنوم اسما للذات مع الصفة، والذات واحدة، والتعدد في الصفات لا في الذات.

ولا يمكن أن تتحد صفة دون الأخرى، ولا دون الذات، فيمتنع اتحاد أقنوم أو حلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر، ولا إثبات ثلاثة أقانيم ولا إثبات ثلاث صفات دون ما سواها في شيء من الكتب الإلهية، ولا كلام الحواريين، ولا إثبات إله حق من إله حق، ولا تسمية صفات الله - مثل كلامه وحياته - لا ابنا، ولا إلها، ولا ربا، ولا إثبات اتحاد الرب خالق السماوات والأرض بشيء من الآدميين، ولا حلول ذات وصفة دون ذات مع الصفات الأخرى، بل ولا حلول نفس الصفة القائمة به في غيره، لا علمه ولا كلامه ولا حياته، ولا غير ذلك.

بل جميع ما أثبتوه من التثليث والحلول والاتحاد ليس في كتب الأنبياء التي بأيديهم ما يدل عليه، بل فيها أقوال كثيرة صريحة بنقيض ذلك مع القرآن والعقل، فهم مخالفون للمعقول وكتب الله المنزلة.

الثاني: أنهم يقولون: إنما نثبت إلها واحدا، ثم يقولون في أمانتهم وأدلتهم وغير ذلك من كلامهم ما هو صريح بإثبات ثلاثة آلهة، فينقضون كلامهم بعضهم ببعض، ويقولون من الأقوال المتناقضة ما يعلم بطلانه كل عاقل تصوره.

وهذا لا ينضبط لهم قول مطرد، كما يقول من يقول من عقلاء الناس: إن النصارى ليس لهم قول يعقله عاقل، وليس أقوالهم منصوصة عن الأنبياء، فليس معهم لا سمع ولا عقل، كما قال الله تعالى عن أصحاب النار: لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

وهم أيضا يبطنون خلاف ما يظهرون، ويفهم جمهور الناس من مقالاتهم خلاف ما يزعم بعضهم أنه مرادهم، فإنه قد تقدم آنفا من استدلالهم بالتوراة، وقوله: (وكلم الله موسى من العليقة قائلا: أنا إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب) قالوا: ولم يقل: أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل كرر اسم إله ثلاث دفوع قائلا: أنا إله وإله وإله، لتحقق مسألة الثلاث أقانيم في لاهوته، فيقال لهم: وإن كان هذا التكرير لا يقتضي إلا إثبات إله واحد فلا حجة لكم فيه، كما لو قال أنا إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وإن كان يقتضي إثبات ثلاثة آلهة: فقد أثبتم ثلاثة آلهة، وأنتم تقولون: لا نثبت إلا إلها واحدا، وإن كان المعنى: إنه إله واحد موصوف بأنه معبود إبراهيم، ومعبود إسحاق، ومعبود يعقوب، فلا حجة لكم فيه على التثليث والأقانيم، (بحيث تجعلون الأقنوم اسما للذات مع صفة والذات واحدة، فالتعدد في الصفات لا في الذات، ولا يمكن أن تتحد صفة دون أخرى، ولا دون الذات فيمتنع اتحاد أقنوم وحلوله بشيء من المخلوقات دون الأقنوم الآخر.

الوجه الثالث: قولهم: وهو الذي نقوله: أب، وابن، وروح القدس، قد تقدم أن هذا القول هم معترفون بأنهم لم يقولوه ابتداء، ولا علموا بالعقل التثليث الذي قالوه في أمانتهم، ثم عبروا عنه بهذه العبارة، بل هذه العبارة منقولة عندهم في بعض الأناجيل: أن المسيح عليه الصلاة والسلام أمر أن يعمدوا الناس بها، وحينئذ، فالواجب إذا كان المسيح قالها أن ينظر ما أراد بها، وينظر سائر ألفاظه ومعانيها فيفسر كلامه، بلغته التي تكلم بها تفسيرا يناسب سائر كلامه.

وهؤلاء حملوا كلام المسيح والأنبياء عليهم السلام على شيء لا يدل عليه كلامهم، بل يدل على نقيضه فسموا كلام الله أو علمه أو حكمته أو نطقه - ابنا، وهذه تسمية ابتدعوها لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله باسم الابن، ولا باسم الرب، ولا باسم الإله، ثم لما أحدثوا هذه التسمية قالوا: مراد المسيح بالابن هو الكلمة، وهذا افتراء على المسيح ، وحمل لكلامه على معنى لا يدل عليه لفظه.

ولفظ الابن عندهم في كتبهم يراد به من رباه الله تبارك وتعالى، فلا يطلق عندهم في كلام الأنبياء لفظ الابن قط، إلا على مخلوق محدث، ولا يطلق إلا على الناسوت دون اللاهوت، فيسمى عندهم إسرائيل ابنا وداود ابنا لله، والحواريون كذلك، بل عندهم في إنجيل يوحنا في ذكر المسيح إلى خاصته، أي وخاصته لم يقبلوه، والذين قبلوه أعطاهم ليكونوا أبناء الله الذي ليس من دم ولا من مشبه لحم، ولا من مشبه رجل، بل من الله ولد.

فهذا إخبار بأنهم يكونون جميعا أبناء الله، وهم معترفون بأنه ليس فيهم لاهوت يتحد بناسوت، بل كل منهم ناسوت محض، فعلم أن الكتب ناطقة بأن لفظ ابن الله يتناول الناسوت فقط، وليس معهم لفظ ابن الله، والمراد به صفة من صفات الله.

فقولهم: إن المسيح أراد بلفظ الابن اللاهوت كذب بين عليه، والمسيح لا يسمى ابنا بهذا الاعتبار، وروح القدس لم يعبر بها أحد من الأنبياء عن حياة الله التي هي صفته، بل روح القدس في كتب الله يراد بها الملك، ويراد بها الهدى والوحي والتأييد، فيقال: روح الله، كما يقال: نور الله، وهدى الله، ووحي الله، وملك الله، ورسول الله، لم يرد به أحد من الأنبياء، بقوله: روح الله، وروح القدس - ما يريده الإنسان بقوله: (روحي).

فالإنسان مركب من روح وبدن، وفي بدنه بخار يخرج من القلب، ويسري في بدنه، وله جوف يخرج منه هواء ويدخل فيه، فإذا قيل: روح الإنسان فقد يراد بها الروح التي بها البخار اللطيف الذي في البدن، وقد يراد بها الريح الذي يخرج من جوف البدن، ويدخل فيه.

والله تبارك وتعالى بإجماع المسلمين واليهود والنصارى ليس هو روحا وبدنا كالإنسان، وهو سبحانه أحد صمد، لا جوف له، ولا يدخل فيه شيء، ولا يخرج منه شيء، لا بخار ولا هواء متردد.

وقد يعبر بعض الناس بلفظ الروح عن الحياة، والله تعالى حي له حياة، لكن لم ترد الأنبياء عليهم السلام بقولهم: روح القدس - حياة الله، بل أرادوا به ما يجعله الله في قلوب الأنبياء ويؤيدهم به، كما يراد بنور الله ذلك، قال الله تعالى:

الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم.

فضرب الله مثلا للمؤمن الذي جعل صدره كالمشكاة، وقلبه كالزجاجة في المشكاة، ونور الإيمان الذي في قلبه - وهو نور الله - كالمصباح الذي في الزجاجة، وذلك النور الذي في قلبه ليس هو نفس صفة الله القائمة به.

فتبين أن العارف كلما تدبر ما قالته الأنبياء، وما قاله أهل البدع من النصارى وغيرهم، لم يجد لهم في كلام الأنبياء إلا ما يدل على نقيض ضلالهم لا ما يدل على ضلالهم.

فصل: رد إنكارهم أنهم يعبدون ثلاثة آلهة

قالوا: وقد علمنا أنه لا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة، بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان ونطقه وروحه ثلاثة أناسي، بل إنسان واحد، ولا إذا قلنا: لهيب النار وضوء النار وحرارة النار ثلاثة نيران، ولا إذا قلنا: قرص الشمس، وضوء الشمس وشعاع الشمس ثلاثة شموس، وإذا كان هذا رأينا في الله تقدست أسماؤه، وجلت آلاؤه فلا لوم علينا، ولا ذنب لنا إذ لم نهمل ما تسلمناه ولا نرفض ما تقلدناه ونتبع ما سواه، (ولا سيما أن لنا هذه الشهادات البينات والدلائل الواضحات من الكتاب الذي أتى به هذا الرجل).

والجواب من وجوه:

أحدها أنكم صرحتم بتعدد الآلهة والأرباب في عقيدة إيمانكم وفي استدلالكم وغير ذلك من كلامكم، فليس ذلك شيئا ألزمكم الناس به، بل أنتم تصرحون بذلك، كما تقدم من قولكم: نؤمن بإله واحد، أب، ضابط الكل، خالق ما يرى وما لا يرى، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور إله حق من إله حق، من جوهر أبيه يولد، غير مخلوق، مساو الأب في الجوهر، وبروح القدس الرب المحيي المنبثق من الأب الذي مع الأب، مسجود له وممجد.

فهذا تصريح بالثلاثة أرباب، وأن الابن إله حق من إله حق، ومع تصريحكم بثلاثة أرباب وتصريحكم بأن هذا إله حق من إله حق، تقولون: إن ذلك إله واحد، وهذا تصريح بتعدد الآلهة مع القول بإله واحد.

ولو لم تذكروا ما يقتضي أنه جوهر آخر، لأمكن أن يحمل كلامكم على عطف الصفة، لكن يكون كلامكم أعظم كفرا، فتكونون قد جعلتم المسيح هو نفس الإله الواحد الأب، خالق ما يرى وما لا يرى، وهذا أعظم من كفركم مع أن هذا حقيقة قولكم، فإنكم تقولون: المسيح هو الله، وتقولون: هو ابن الله (كما ذكر الله القولين عنكم في كلامه، وكفركم بذلك، وليس هذا قول طائفة وهذا قول طائفة) كما يقوله بعض الناس، بل القولان جميعا يقولهما فرق النصارى كالنسطورية واليعقوبية والملكية ونحوهم، وهذا أيضا من تناقضكم فإنه إن كان هو الله لم يكن هو ابن الله، سواء عبر بالابن عن الصفة أو غيرها فإن الأب هو الذات، والذات ليست هي الصفة، وإن عنى بالابن الذات مع صفة الكلام، كما تفسرون الأقنوم بذلك - فهذه الذات متصفة مع ذلك بالحياة، والكلام - سواء عنوا به العلم أو البيان مع العلم - هو مع الحياة قائم بالأب، والصفة ليست عين الموصوف، بل ولا يعبر عنها بأنها ابن الموصوف، ولا عبر بذلك أحد من الأنبياء عليهم السلام.

والمقصود أنهم لم يريدوا بقولهم: وبرب واحد يسوع المسيح - عطف الصفة، وأن هذا هو الأب كما قال: إله إبراهيم، وإله إسحاق، وإله يعقوب فهذا إله واحد، والعطف لتغاير الصفة، فلو كان المراد بالابن نفس الأب لكان هذا خلاف مذهبهم، ويكونون قد جعلوه إلها من نفسه فقالوا: إلهان، بل ثلاثة، وهو واحد.

فهذا لو أرادوه لكان أعظم في الكفر، بل قالوا: وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مولود غير مخلوق. فصرحوا بأنه رب، وأنه إله حق من إله حق، وصرحوا بإله ثان مع الإله الأول.

وقالوا مع ذلك: إنه مولود من الأب قبل كل الدهور، وإنه مولود غير مخلوق، فامتنع أن يريدوا بذلك الناسوت، فإن الناسوت مخلوق.

وهم يقولون: إن الكلمة هي المتولدة من الأب. والكلمة صفة المتكلم وقائمة به، والكلام ليس برب ولا بإله، بل هو كلام الرب الإله، كما أن سائر كلام الله كالتوراة والإنجيل والقرآن ليس هو الرب والإله، ثم قلتم: مساو الأب في الجوهر فاقتضى هذا أن يكون المولود الذي هو الكلمة جوهرا، وأنه مساو الأب في الجوهر، والمساوى ليس هو المساوي.

وهذا يقتضي إثبات جوهر ثان مساو الجوهر الأول، وهو صريح بإثبات إلهين، ويقولون مع ذلك: إنه إله واحد جوهر واحد، ولا يقال الجوهر مع العلم الذي يعبرون عنه بالأقنوم مساو الجوهر الذي هو الذات؛ فإن الجوهر هو الذات، وليس هنا جوهران، أحدهما مجرد عن العلم، والآخر متصف به، حتى يقال: إن أحدهما مساو للآخر، بل الرب تعالى هو الذات المتصفة بالعلم، فإن كان الأب هو الذات المجردة، فالابن أكمل من الأب، وهو الذات مع العلم، والأب بعض الابن.

وكذلك يلزمهم أن يكون الابن هو بعض روح القدس؛ فإنهم في أمانتهم جعلوا روح القدس هو الرب المحيي، والرب المحيي هو الذات المتصفة بالحياة، والذات المجردة بعض ذلك، فإن كان الأب هو الذات المجردة فالابن بعض روح القدس.

ثم قلتم في أقنوم روح القدس الذي جعلتموه الرب المحيي -: إنه منبثق من الأب مسجود له ممجد، ناطق في الأنبياء، فإن كان المنبثق ربا حيا، فهذا إثبات إله ثالث، وقد جعلتم الذات الحية منبثقة من الذات المجردة، وفي كل منهما من الكفر والتناقض ما لا يخفى.

ثم جعلتم هذا الثالث مسجودا له، والمسجود له هو الإله المعبود، وهذا تصريح بالسجود لإله ثالث مع ما فيه من التناقض، ثم جعلتموه ناطقا بالأنبياء، وهذا تصريح بحلول هذا الأقنوم الثالث بجميع الأنبياء، فيلزمكم أن تجعلوا كل نبي مركبا من لاهوت وناسوت، وأنه إله تام وإنسان تام، كما قلتم في المسيح إذ لا فرق بين حلول الكلمة وحلول روح القدس، كلاهما أقنوم.

وأيضا فيمتنع حلول إحدى الصفتين دون الأخرى، وحلول الصفة دون الذات، فيلزم أن يكون الإله الحي الناطق بأقانيمه الثلاثة حالا في كل نبي، ويكون كل نبي هو رب العالمين، ويقال مع ذلك: هو ابنه، وفي هذا من الكفر الكبير والتناقض العظيم ما لا يخفى، وهذا لازم للنصارى لزوما لا محيد عنه، فإن ما ثبت للشيء ثبت لنظيره، ولا يجوز التفريق بين المتماثلين، وليس لهم أن يقولوا: الحلول أو الاتحاد في المسيح ثبت بالنص، ولا نص في غيره، لوجوه:

أحدها: أن النصوص لم تدل على شيء من ذلك، كما قد تبين.

الثاني: أن في غير المسيح من النصوص ما شابه النصوص الواردة فيه، كلفظ الابن، ولفظ حلول روح القدس فيه، ونحو ذلك.

الثالث: أن الدليل لا ينعكس فلا يلزم من عدم الدليل المعين عدم المدلول، وليس كل ما علمه الله وأكرم به أنبياءه أعلم به الخلق بنص صريح، بل من جملة الدلالات دلالة الالتزام.

وإذا ثبت الحلول والاتحاد في أحد النبيين بمعنى مشترك بينه وبين النبي الآخر - وجب التسوية بين المتماثلين، كما إذا ثبت أن النبي يجب تصديقه لأنه نبي.

ويكفر من كذبه لأنه نبي، فيلزم من ذلك أنه يجب تصديق كل نبي وتكفير من كذبه.

الرابع: هب أنه لا دليل على ثبوت ذلك في الغير، فيلزم تجويز ذلك في الغير؛ إذ لا دليل على انتفائه، كما يقولون: إن ذلك كان ثابتا في المسيح قبل إظهاره الآيات على قولهم، وحينئذ فيلزمهم أن يجوزوا في كل نبي أن يكون الله قد جعله إلها تاما وإنسانا تاما كالمسيح وإن لم يعلم ذلك.

الخامس: أنه لو لم يقع ذلك، لكنه جائز عندهم، إذ لا فرق في قدرة الله بين اتحاده بالمسيح واتحاده بسائر الآدميين، فيلزمهم تجويز أن يجعل الله كل إنسان إلها تاما وإنسانا تاما، ويكون كل إنسان مركبا من لاهوت وناسوت، وقد تقرب إلى هذا اللازم الباطل من قال بأن أرواح بني آدم من ذات الله، وأنها لاهوت قديم أزلي، فيجعلون نصف كل آدمي لاهوتا، ونصفه ناسوتا، وهؤلاء يلزمهم من المحالات أكثر مما يلزم النصارى من بعض الوجوه، والمحالات التي تلزم النصارى أكثر، من بعض الوجوه.

الوجه الثاني: قولهم: ولا يلزمنا إذا قلنا هذا عبادة ثلاثة آلهة بل إله واحد، كما لا يلزمنا إذا قلنا: الإنسان وروحه ونطقه ثلاثة أناسي، ولا إذا قلنا: النار وحرها وضوءها ثلاث نيران، ولا إذا قلنا: الشمس وضوءها وشعاعها ثلاث شموس.

فيقال: هذا تمثيل باطل لوجوه:

أحدها: أن حر النار وضوءها القائم بها ليس نارا من نار، ولا جوهرا من جوهر، ولا هو مساوي النار والشمس في الجوهر، وكذلك نطق الإنسان، ليس هو إنسانا من إنسان، ولا هو مساو الإنسان في الجوهر، وكذلك الشمس وضوءها القائم بها وشعاعها القائم بها - ليس شمسا ولا جوهرا قائما بنفسه، وأنتم قلتم: إله حق من إله حق، فقلتم في الأمانة: (نؤمن بإله واحد أب ضابط الكل، وبرب واحد يسوع المسيح ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، مساوي الأب في الجوهر)، وقلتم في روح القدس: (إنه رب ممجد مسجود له) فأثبتم ثلاثة أرباب.

والثاني: أن الضوء في الشمس والنار يراد به نفس الضوء القائم بها، ويراد به الشعاع القائم بالأرض والجدران، وهذا مباين لها ليس قائما بها، ولفظ النور يعبر به عن هذا وهذا، وكلاهما صفة قائمة بغيرها وعرض، وقد يراد بلفظ النور نفس النار ونفس الشمس والقمر، فيكون النور جوهرا قائما بنفسه، وإذا كان كذلك فهم جعلوا الأب ربا جوهرا قائما بنفسه، والابن أيضا ربا جوهرا قائما بنفسه، وروح القدس ربا جوهرا قائما بنفسه.

ومعلوم أن ضوء النار والشمس وحرارتها ليس كل منهما شمسا ونارا قائما بنفسها، ولا جوهرا قائما بنفسه، فلو أثبتوا حياة الله وعلمه أو كلامه صفتين قائمتين به، ولم يجعلوا هذا ربا جوهرا قائما بنفسه، وهذا ربا جوهرا قائما بنفسه - لكان قولهم حقا وتمثيلهم مطابقا، ولكنهم لم يقتصروا على مجرد جعلهما صفتين لله حتى جعلوا كلا منهما ربا وجوهرا وخالقا، بل صرحوا بأن المسيح الذي يزعمون اتحاد أحدهما به إلها واحدا وخالقا، فلو كان نفس كلمة الله وعلمه لم يكن إلها خالقا، فإن كلام الله وعلمه ليس إلها خالقا، فكيف والمسيح مخلوق بكلمة الله، ليس هو نفس كلمة الله؟

الوجه الثالث: أن قولهم: الشمس وشعاعها وضوءها، إن أرادوا بالضوء ما يقوم بها، وبالشعاع ما ينفصل عنها - فليس هذا مثال النار وحرها ولهبها؛ إذ كلاهما يقوم بها، وعلى هذا فالشمس لم تقم بها إلا صفة واحدة لا صفتين، فلا يكون التمثيل بها مطابقا، وإن أرادوا بالضوء والشعاع كلاهما؛ ما يقوم بها، أو كلاهما؛ ما ينفصل عنها - فكلاهما صفة واحدة ليس هما صفتان كالحياة والعلم، فعلم أن تمثيلهم بالشمس خطأ، وبعضهم يقول: الشمس وحرها وضوءها، كما يقولون مثل ذلك في النار.

وهذا التمثيل أصح لو ثبت أن في جرم الشمس حرارة تقوم بها، فإن هذا لم يقم عليه دليل، وكثير من العقلاء ينكره، ويزعم أن جرم الشمس والقمر والكواكب لا توصف بحرارة ولا برودة، وهو قول أرسطو وأتباعه.

وأما تمثيلهم بروح الإنسان ونطقه، فإن أرادوا بالروح حياته، فليس هذا هو مفهوم الروح، وإن أرادوا بالروح التي تفارق بدنه بالموت وتسمى النفس الناطقة - فهذه جوهر قائم بنفسه ليس عرضا من أعراضه، وحينئذ فيلزم أن تكون روح الله جوهرا قائما بنفسه مع جوهر آخر نظير بدن الإنسان، ويكون الرب سبحانه وتعالى مركبا من بدن وروح كالإنسان، وليس هذا قول أهل الملل، لا المسلمين ولا اليهود ولا النصارى، بل هو كفر عندهم، فتبين أن تمثيلهم بالثلاثة باطل.

والوجه الرابع: أن التمثيل إما أن يقع بصفات الشمس والنار والإنسان، أو النفس القائمة بهذه الجواهر، أو بما هو مباين لذلك، كالضوء الذي يقع على الأرض والحيطان والهواء، وغير ذلك من الأجسام إذا قابلت الشمس أو النار أو الإنسان أو النفس القائمة بهذه الجواهر، فإن أريد هذا فهذا شعاع منعكس، وضوء منقلب، وليس صفة قائمة بالشمس والنار.

وإذا أريد بما حل في المسيح هذا، وهذا يسمى نورا وروحا ويسمى نور الله كما قال تعالى:

الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء.

وقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا.

فأخبرنا أنه جعل الروح الذي أوحاه نورا يهدي به من يشاء.

وقال تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه.

وقال تعالى:

فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه.

وقال تعالى: ويجعل لكم نورا تمشون به.

وقال تعالى: ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور.

فإذا أريد ما حل في المسيح من الروح والكلمة بهذا المعنى فلا اختصاص للمسيح بذلك، فإن هذا يحل في جميع الأنبياء والمؤمنين، وإن كانوا متفاضلين فيه بحسب درجاتهم، وليس هذا الحال فيهم نفس صفة الله القائمة به، وإن كان ذلك حاصلا عنها ومسببا عنها، لكن ليس هو نفس صفة الله، وإن كان من الناس من يقول: بل صفة الله التي اتصف بها حلت في العبد، فهذا القول خطأ، فإن صفة الموصوف القائمة به يمتنع قيامها بعينها بغيره، ولكن الإنسان إذا تعلم علم غيره، وبلغ كلام غيره يقال: هذا علم فلان وكلامه؛ لأن هذا الثاني بلغه عنه، والمقصود هو علم الأول وكلامه، مع العلم بأن نفس ما قام بذات الأول ليس هو عين ما قام بذات الثاني، وإن كان قد يكون مثله، وقد يكون الأول هو المقصود بالثاني، مثل من بلغ كلام غيره، فكلام المبلغ هو المقصود بالتبليغ.

وصفات المبلغ - كحركته وصوته - التي بها يحصل التبليغ؛ ليس هو نفس المقصود، وإذا قيل هذا كلام المبلغ عنه، فالإشارة إلى حقيقة الكلام المقصود بالتبليغ، لا إلى ما يختص به المبلغ من أفعاله وصفاته، ولهذا شبه الناس من قال بحلول صفة الرب في عبده بالنصارى القائلين بالحلول وهو شبيه بهم من بعض الوجوه.

لكن النصارى لا يقولون بحلول صفة مجردة، بل بحلول الأقنوم الذي هو ذات متصفة بالصفة، ويقولون: إن المسيح خالق ورازق، وهو خالق آدم ومريم، وهو ولد آدم ومريم، وهو خالق لهما بلاهوته ابن لهما بناسوته.

ويقولون: هو ابن الله، وهو الله بلاهوته، ويقولون أيضا باللاهوت والناسوت لأجل الاتحاد، والله كفرهم بقولهم: إن الله هو المسيح ابن مريم ونحو ذلك.

وإن أرادوا بتمثيلهم بصفات الشمس والنار والنفس التمثيل بنفس ما يقوم بالشمس والنار والنفس من الضوء والحياة والنطق، وجعلوا ما يثبتونه من الأب والابن وروح القدس - صفات الله، كما أن هذه صفات لهذه المخلوقات.

قيل لهم أولا: لم يعبر أحد من الأنبياء عليهم السلام عن صفات الله باسم الأب والابن وروح القدس، فليس لكم إذا وجدتم في كلام المسيح ، أو غيره من الأنبياء ذكر الإيمان بالأب والابن وروح القدس - أن تقولوا: مرادهم بذلك صفة الله التي هي الكلمة والعلم، ولا حياة الله، إذ كانوا لم يريدوا هذا المعنى بهذا اللفظ، وإنما أرادوا باسم الابن وروح القدس ما هو بائن عن الله عز وجل.

والبائن عن الله ليس صفة لله، فضلا عن أن يكون هو الخالق، فضلا عن أن يكون البشر المتحد به خالقا، فقد ضللتم ضلالا بعد ضلال، ضلالا حيث جعلتم مراد المسيح وغيره بالابن وروح القدس - صفة الرب، ثم ضلالا ثانيا حيث جعلتم الصفة خالقا وربا، ثم ضلالا ثالثا حيث جعلتم الصفة تتحد ببشر هو عيسى، ويسمى المسيح ويكون هو الخالق رب العالمين فضللتم في الحلول ضلالا مثلثا بعد ضلالكم في التثليث أيضا ضلالات أخر، حيث أثبتم ثلاث صفات دون غيرها، وجعلتموها جواهر أربابا، ثم قلتم: إله واحد، فضللتم ضلالا مثلثا في التثليث، وضلالا مثلثا في الاتحاد.

وقيل لكم ثانيا: إذا جعلتم ذلك صفات لله، كما أن الضوء والنطق والحرارة صفات لما تقوم بها - امتنع أن تحل بغيرها، وامتنع مع الحلول أن تكون فاعلة فعل النار والشمس والنفس، وأنتم جعلتم الكلمة والحياة حالة بغير الله، وجعلتم ما يحل به إلها خالقا، بل هو الإله الخالق، ومعلوم أن أحدا من العقلاء لا يجعل ما يحصل فيه ضوء النار - نارا، ولا ما يحصل فيه شعاع الشمس - شمسا، ولا ما يحصل فيه نطق زيد وعلمه - هو نفس زيد، فكان جعلكم المسيح هو الخالق للعالم - مخالفا لتمثيلكم.

وتبين بذلك أن ما ذكرتموه لا يطابقه شيء من الأمثلة، إذ كان كاملا باطلا متناقضا يمتنع تحققه، فلا تمثيل بشيء من الموجودات الثابتة المعلومة، إلا إذا كان تمثيلا غير مطابق.

ولهذا يشبهون الحلول والاتحاد تارة بحلول الماء في الظرف، وتارة بحلول النار في الحديد، وتارة بالنفس والبدن، وتارة يقولون بأنهما جوهر واحد اختلطا كاختلاط الماء واللبن، وكل هذه الأمثال التي ضربوها لله أمثال باطلة، فإن الماء في الظرف وغيره من الأوعية محتاج إلى وعائه، لو انخرق وعاؤه لتبدد، وهو محيط به، ولا يتصف الظرف بشيء من صفات الماء، والرب تعالى يمتنع أن يحتاج إلى شيء من مخلوقاته لا إلى العرش، ولا إلى غيره، أو يحيط به شيء من الموجودات؛ إذ هو الظاهر، فليس فوقه شيء.

كما ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، فهو غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه، ولهذا لم يكن ما وصف الله به نفسه مماثلا لصفات المخلوقين، كما لم تكن ذاته كذوات المخلوقين، فهو مستو على عرشه، كما أخبرنا عن نفسه مع غناه عن العرش.

والمخلوق المستوي على السرير أو الفلك أو الدابة لو ذهب ما تحته لسقط؛ لحاجته إليه، والله غني عن كل ما سواه، وهو الحامل بقدرته للعرش ولحملة العرش.

وفرق النصارى الثلاثة يقولون بالاتحاد، فلا ينفعهم التمثيل بحلول الماء في الظرف، ولو قدر أنهم قالوا بالحلول المجرد مع أن الرب لا يحتاج إلى الناسوت لا يحويه ولا يمسه، بل كما خاطب موسى من الشجرة، فهذا يوجب أن الناسوت لا يتصف بشيء من الإلهية كالشجرة.

ثم إنه معلوم بالضرورة أن الصوت الذي كان يسمع هو صوت الناسوت، فالتمثيل بالشجرة أيضا باطل، كما بسط في موضعه.

وأما الحديد والخشب وغيرهما إذا ألقي في النار فإنه يستحيل نارا لاتصاله بالنار، لا أن النار الذي استحال إليها كانت موجودة فحلت به، فهذا استحالة بلا حلول، والنار الذي صارت في الحديد حادثة عن تلك النار ليست إياها، ثم تلك الحديدة إذا طرقت وقع التطريق على النار، وكذلك إذا ألقيت في الماء، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لكان الضرب والصلب والإهانة وقع على اللاهوت، وكان اللاهوت هو الذي يغتسل بالماء، وهو الذي يأكل ويشرب، وهذا من أعظم الكفر.

ويحكى عن بعض طائفة منهم كاليعقوبية أنه يقول بهذا الكفر، وإن كان كثير منهم كالملكية والنسطورية ينكره، فهو لازم لهم، وكذلك إذا شبهوه بالنفس والبدن، فإن النفس تتألم تألم البدن، وتستحيل صفاتها بكونها في البدن، وتكتسب عن البدن أخلاقا وصفات، فلو كان هذا تمثيلا مطابقا لزم تألم اللاهوت بآلام البدن، وأن يكون متألما بجوع البدن وعطشه وضربه وصلبه، وأن يكون مستحيلا لما اكتسبه من صفات الناسوت الذي هو عندهم بمنزلة البدن للنفس، وأما قولهم: إذ لم نهمل ما تسلمناه، ولم نرفض ما تقلدناه، فقولهم في ذلك بمنزلة قول اليهود للمسيح: إنا لا نهمل ما تسلمناه، ولا نرفض ما تقلدناه من موسى .

وجواب الطائفتين من وجهين:

أحدهما: أنكم بدلتم وحرفتم الكتاب الذي أنزل إليكم، والشرع الذي شرع لكم، وتبديل المعاني والأحكام لا ريب فيه عند جميع عقلاء الأنام، وما كان عليه اليهود بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه موسى ، وما كان عليه النصارى بعد التبديل لم يكن هو الشرع الذي شرعه المسيح .

والثاني: أنكم كذبتم بالكتاب الآخر، والرسول الآخر الذي أرسل إليكم، ومن كذب ما أنزل إليه من ربه، والرسول الذي أرسل إليه - كان كافرا مستحقا لعذاب الدنيا والآخرة، وإن كان قبل ذلك متبعا لشرع رسول، وكتاب غير مبدل، فكيف إذا كان قد بدل ما بدل من أحكامه ومعانيه؟

فصل: إسقاط احتجاجهم بشيء من القرآن على باطلهم وأن القرآن يؤخذ كله

وأما قولهم: ولنا هذه الشهادات والدلائل من الكتاب الذي في أيدي هؤلاء القوم.

فيقال: لا يصح استشهادهم بهذا الكتاب واستدلالهم بوجه من الوجوه، فإن الذي قد جاء به، قد تواتر عنه أنه أخبر أنه مرسل إليهم، وأنهم كفار إذا لم يؤمنوا به، مستحقون للجهاد، ومن لم يستحل جهادهم فهو كافر، والقرآن مملوء بكفرهم، فإن كان هذا رسولا من الله، وقد أخبر بكفرهم؛ ثبت أنهم كفار.

فإن الرسول لا يقول على الله إلا حقا، لا يكذب على الله في شيء، ومن كذب على الله ولو في كلمة واحدة فهو من الكذابين المفترين على الله الكذب، مستحق لعقوبة الكذابين،

كما قال تعالى: ولو تقول علينا بعض الأقاويل * لأخذنا منه باليمين * ثم لقطعنا منه الوتين * فما منكم من أحد عنه حاجزين.

أم يقولون افترى على الله كذبا فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل ويحق الحق بكلماته.

وقال تعالى: وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر بل أكثرهم لا يعلمون * قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين.

وقال تعالى: وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم * قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون

فمتى كانت كلمة من كلمات هذا الكتاب كذبا على الله لم يكن كتاب الله، ولم يكن جاء به رسول الله، فإن الكاذب قد يصدق في أكثر ما يقوله، لكن إذا كذب في بعض ما يقوله كان كاذبا، والله تعالى لا يرسل من يكذب عليه، فإن المخلوق لا يرضى أن يرسل من يعلم أنه يكذب عليه، ولو فعل ذلك دل على جهله أو عجزه، فكيف يرسل رب العالمين من يعلم أنه يكذب عليه.

وحينئذ فمتى كذبوا بكلمة واحدة مما في الكتاب لم يصح استشهادهم واستدلالهم بشيء مما في الكتاب، وإن صدقوا بالكتاب كله لزمهم الإيمان بما جاء به، واتباع شريعته، والاعتراف بكفر الذين كذبوه، وكفر الذين يقولون: إن الله هو المسيح ابن مريم، وإن الله ثالث ثلاثة.

وهذا بخلاف من آمن بالرسول، ولم يثبت عنده بعض ما نقل عنه أو لم يعرف معناه، فإن هذا لا يقدح في أصل إيمانه بالرسول.

فالمسلمون إذا كذبوا ببعض ما نقل عن موسى والمسيح فهو لطعنهم في الناقل، لا في النبي المنقول عنه.

وأما النصارى فيعلمون أن محمدا ﷺ جاء بالقرآن، فطعنهم في بعضه طعن في الرسول نفسه وكفر به، وليس هذا بمنزلة ما مثلوا به من الوثيقة التي كتب وفاؤها في ظهرها، فإن الذي له الدين أقر بالاستيفاء المسقط له، فلم يبق هناك حق له يدعيه، بخلاف ما يخبر به الذي يقول: إنه رسول الله، فإنه يقول: إن الله أنزل علي هذا الكتاب كله، وأرسلني بكذا وكذا إلى كذا وكذا، فإن كذب في شيء مما أخبر به عن الله لم يكن الله أرسله، فإن الذي أرسله هو الذي جعله يبلغ عنه ما يقوله، بلا زيادة ولا نقص، وإرسال الله للرسول يتضمن شيئين:

إنشاء الله للرسالة، والله حكيم، وهو أعلم حيث يجعل رسالاته، لا يجعلها إلا فيمن هو من أكمل الخلق وأصدقهم.

ويتضمن إخبار الله عنه بأنه صادق عليه، فيما يبلغه عنه مما يقول: إن الله أرسله به، فكما صدقه بالآيات المعجزات في قوله: إنه أرسلني، فقد صدقه بما يقول: إنه أرسلني به، إذ التصديق بكونه أرسله من غير معرفة بصدقه فيما يخبر به - لا فائدة فيه، ولا يحصل به مقصود الإرسال.

والله تعالى عليم بما يشهد به لمن أرسله بخلاف المخلوق الذي يبعث من يظنه يصدق فيما يبلغه عنه، فيظهر أنه كذب عليه، والله يعلم عواقب الأمور، والرسالة صادرة من علمه وحكمته، وهو عليم حكيم، ومن يكذب على الله ولو في كلمة لم يبلغ عنه ما يقوله، على هذا الوجه فلا يكون رسوله.

ولهذا اتفق أهل الملل على أن الرسل معصومون فيما يبلغونه عن الله، لا يكذبون عليه عمدا ولا خطأ، فإن هذا مقصود الرسالة، فكان تمثيل هذا بالوثيقة تمثيلا باطلا، فإن المدعي للإسقاط لم يدع كلاما متناقضا، بل قال: أقررت بهذا الدين، ثم وفيتك إياه، وأنت تقر بوفائه، وإقرارك مكتوب في ظهرها، فليس لك أن تحتج بإقراري بالدين دون إقرارك بالوفاء، بل إما أن تعتبر ما في الوثيقة من إقراري وإقرارك وإما أن تبطل الأمرين المتعارضين.

وهذا كلام عدل كالشريكين المتفاوضين، مثل شريكي العنان، إذا قال لصاحبه: إن حصل ربح فهو لي ولك، وإن لم يحصل ربح فلا لي ولا لك.

وكذلك البائع والمؤاجر الذي يقول: إن كان بيننا معاوضة فعليك تسليم ما بذلته، وعلي تسليم ما بذلته، لا يستحق هذا إلا بهذا، فهذا كله كلام عادل وإنصاف، بخلاف الشخص الذي يقال فيه: إنه رسول الله، والكتاب الذي يقال: إنه كلام الله، وإن الله أنزله، فإن هذا إن كان رسولا صادقا فجميع ما بلغه من الله حق، وإن كان كاذبا لم يكن الله أرسله، فجميع ما بلغه عن الله كذب على الله، فلا يجوز بمجرد خبره أن ينسب إلى الله شيء ولا يحتج بما يخبر به عن الله على شيء.

ألا ترى أن من ادعى الرسالة وعلم أنه كاذب كالأسود العنسي ومسيلمة الكذاب وطليحة الأسدي، والحارث الدمشقي، وبابا الرومي، وغير هؤلاء - لا يجوز لأحد أن يحتج بشيء مما ذكروا أن الله أرسلهم به، وإن كان ذلك القول قد علم أنه حق من جهة أخرى، فإنه قد علم بكذبهم أن الله لم يرسلهم، فأي شيء قالوا إن الله أنزله عليهم - كانوا كاذبين فيه، ومتى علم أنه كاذب في نفس الخبر المعين لم يجز أن يحتج بجنس الذي علم أنه كذب فيه.

وكذلك لو قال رجل عندي: إن موسى أو داود أو المسيح (كذبوا على الله في بعض ما يخبرون به عن الله، كانوا بمنزلة) من لم يرسلهم الله بشيء، لكن كذبوا في قولهم إن الله أرسلهم، فإذا أراد مع هذا أن يحتج بما ينقل من التوراة والزبور والإنجيل عن الله كان متناقضا، وكان احتجاجه باطلا غير مقبول، بل لو قال: أنا أشك في بعض ما أخبروا به عن الله، هل كذبوا فيه أم لا؟ كان كذلك شكا في أن الله أرسلهم، فإن من أرسله الله لا يكذب في شيء لا خطأ ولا عمدا، ومع شكه في ذلك لا يجوز أن يحتج بشيء مما ينقلونه عن الله لتجويز أن يكونوا كاذبين في نفس ذلك الذي نقلوه عن الله، وليس هذا مثل رسول الواحد من الآدميين، فإنه قد يكون أرسله، ثم إن الرسول صدق في بعض ما بلغه عن مرسله، وكذب في البعض.

ويجوز على الآدمي أن يرسل من يكذب عليه لعدم علمه بكذبه، أو عدم حكمته في إرساله.

وأما الرب تعالى: فلا يجوز أن يرسل نبيا يكذب عليه لا عمدا، ولا خطأ، وكذلك الشاهد والمخبر الذي قد علم أنه تارة يصدق وتارة يكذب - يمكن أن يستدل ببعض أخباره الذي يظهر فيها صدقه لدلالات تقترن بذلك، بخلاف الرسول، فإنه إذا كذب كذبة واحدة امتنع أن يكون الله أرسله، فصار جميع ما يبلغه عن الله هو كاذب في أن الله أرسله به، فكذبه في كلمة واحدة يوجب أنه كاذب في جميع ما بلغه عن الله، وأن جميع ما حكاه ورواه عن الله قد كذب فيه، وإن قدر أن ذلك الكلام في نفسه حق، لكن تبليغه عن الله ونقله وروايته وحكايته عن الله كذب على الله.

وقد أخبر الله أنه ينسخ ما يلقيه الشيطان، مما يناقض مقصود التبليغ، بقوله تعالى:

وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم * ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد * وليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به فتخبت له قلوبهم وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم * ولا يزال الذين كفروا في مرية منه حتى تأتيهم الساعة بغتة أو يأتيهم عذاب يوم عقيم

وإن قالوا: خبره يناقض بعضه بعضا كان الجواب من وجهين:

أحدهما: أن هذا أيضا إن كان حقا، فإنه يقدح في رسالته، فإن الرسول لا يناقض بعض خبره بعضا، ومن كان كذلك لم يصح لكم أن تحتجوا بشيء مما جاء به. وإن كان باطلا لم يرد عليه.

فعلم أن استدلالهم بما في هذا الكتاب على صحة دينهم الذي خالفوا به هذا الكتاب - في غاية الفساد، وهو جمع بين النقيضين واستدلال بما في الكتاب على ما يوجب بطلان الاستدلال بشيء مما في الكتاب.

وإذا كانت النتيجة تستلزم فساد بعض مقدمات الدليل بطل الاستدلال بذلك الدليل، الذي لا يصح إلا بصحة مقدماته، فإذا كانت مقدمته لا تصح إلا مع فساد نتيجته، ونتيجته مستلزمة لفساد مقدمته - كان الجمع بين صحة المقدمة، والنتيجة جمعا بين النقيضين.

وكذلك من استدل بشيء من الكتاب على ما يناقض ما في الكتاب، كاستدلال النصارى بآيات فيه على صحة دينهم، كان تناقضا، فإنه إن صح ذلك الدليل، بأن مدح دينهم مع ذمه كان متناقضا، والكتاب المتناقض لا يكون كتاب الله.

وإن فسد أحدهما، إما فساد دينهم، وإما فساد مدحه، فالكتاب الذي فيه فساد لا يكون كتاب الله، فيلزم أن لا يكون كتاب الله على التقديرين، فلا يصح الاستدلال به من جهة كونه خبر الله، وأما الاستدلال به من جهة كون المتكلم به رجلا عالما حكيما، وهذا لا يفيد العلم، إذ ليس معصوما إلا الأنبياء عليهم السلام.

والنصارى يجوزون أن يكون معصوما غير الأنبياء، فبتقدير أن يكون كذلك فهو حجة عليهم، وإن قالوا: هو رجل عالم ليس برسول من الله قيل لهم فهذا قوله ليس بحجة لجواز أن يخطئ، ولكن يعتضد بقوله، وأما إذا ادعى أن الله أرسله، وهو لم يرسله بهذا الكتاب كله - فهذا كذاب لا يحتج بشيء من كلامه، ولا يكون مثل هذا عدلا فضلا عن أن يكون حكيما، بل هو من الذين افتروا على الله كذبا: ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء.

والجواب الثاني: أنا قد بينا أن ما ذكروه لا يناقض شيئا مما أخبر به، وأنه ليس في هذا الكتاب تناقض يحتجون به بوجه من الوجوه.

وأما قولهم: وأعظم حجتنا ما وجدناه فيه من الشهادة لنا بأن الله جعلنا فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة.

فيقال: بل ما ذكروه حجة عليهم لا لهم، فإن الله أخبر المسيح أنه جاعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، وخبر الله حق، ووعد الله صدق، والله لا يخلف الميعاد، فلما اتبع المسيح من آمن به جعلهم الله فوق الذين كفروا به من اليهود وغيرهم.

ثم لما بعث الله محمدا ﷺ بالدين الذي بعث به المسيح، وسائر الأنبياء قبله، وكان محمد ﷺ، مصدقا لما جاء به المسيح، وكان المسيح مبشرا برسول يأتي من بعده اسمه (أحمد) صارت أمة محمد ﷺ أتبع للمسيح من النصارى الذين غيروا شريعته، وكذبوه فيما بشر به، فجعل الله أمة محمد ﷺ فوق النصارى إلى يوم القيامة.

كما جعلهم أيضا فوق اليهود إلى يوم القيامة، والنصارى بعد النسخ والتبديل ليسوا متبعين المسيح، لكنهم أتبع له من اليهود الذين بالغوا في تكذيبه وسبه، فإنهم كذبوه أولا، وكذبوا محمدا ﷺ ثانيا، فصاروا أبعد عن متابعة المسيح من النصارى فكانوا مجعولين فوق اليهود.

والمؤمنون أمة محمد ﷺ، هم المتبعون للمسيح ، ومن سواهم كافر به فأمة محمد ﷺ فوق اليهود والنصارى إلى يوم القيامة، ولهذا لما جاء المسلمون يقاتلون النصارى غلبوهم، وأخذوا منهم خيار الأرض: الأرض المقدسة، وما حولها من مصر والجزيرة، و أرض المغرب ولم يزل المسلمون منتصرين على النصارى، ولا يزالون إلى يوم القيامة لم تنتصر النصارى قط على جميع المسلمين،

وإنما تنتصر على طائفة من المسلمين بسبب ذنوبهم، ثم يؤيد الله المؤمنين عليهم.

ولو كان النصارى هم المتبعين للمسيح ، والمسلمون كفارا به - لوجب أن ينتصروا على جميع المسلمين؛ لأن جميع المسلمين ينكرون إلهية المسيح ويكفرون النصارى، فعلم أن المتبعين للمسيح هم المسلمون دون النصارى

هامش

الخروج 20: 3-5 والتثنية 5: 7-9

الخروج 4: 22

انظر مزمور 2: 7

يوحنا 20: 17

التثنية 33: 2

مزمور 51: 11

مزمور 107: 1

الخروج 33: 20

ينظر يوحنا 1: 18

الخروج 7: 1

التثنية 1: 29-30

الخروج 33: 12-13

العدد 14: 14

الخروج 19: 9

العدد 11: 16-17

العدد 12: 5

تقدم

انظر مزمور 5: 11

انظر 1يوحنا 4: 16

يوحنا 17: 3

متى 13: 41-42

مزمور 91: 11

لوقا 22: 43

متى 10: 40

لوقا 12: 9

متى 26: 53

متى 12: 18

مرقس 10: 18

انظر يوحنا 12: 44

متى 27: 46، مرقس 15: 34

التكوين 1: 26

التكوين 3: 22

التكوين 19: 24: فأمطر الرب على سدوم وعمورة كبريتا ونارا من عند الرب من السماء

مزموز 2: 7

====================

ج4.

القائمة الرئيسية

ويكي مصدر

إنشاء حساب

دخول

أدوات شخصية

[أغلق]

* اقرأ * * نزّل * استشهد * شارك في ويكي مصدر *

المحتويات

المقدمة

فصل: رد تفسيرهم لتجسم كلمة الله بالمسيح بأنه اتحاد دون اختلاط

فصل: رد دعواهم أن القرآن أثبت أن المسيح إله وإنسان

فصل: رد دعواهم تسمية القرآن للمسيح خالقا

فصل: بيان المعنى الصحيح لتشبيه القرآن الكريم عيسى بآدم

فصل: بيان اضطراب النصارى وتفرقهم في طبيعة المسيح

رسالة الحسن بن أيوب عن سبب إسلامه

فصل: مواصلة الرد على النصارى بكلام الحسن بن أيوب ثم ابن البطريق

كلام سعيد بن البطريق

فصل: رد دعوى النصارى حلول كلمة الله في الناسوت كحلول الكتابة في القرطاس

فصل: بيان أن عامة دين النصارى لم يؤخذ عن المسيح بل هو من ابتداع طوائف منهم

فصل: بيان أن ما نقله المؤلف عن الحسن بن أيوب وابن البطريق يفند أن في المسيح طبيعتين

فصل: الجواب عن شبه النصارى في إقرار المسلمين في الصفات وأنه لا يقتضي التشبيه والتجسيم

الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح/الجزء الرابع

الصفحة

نقاش

اقرأ

عدّل

تاريخ

أدوات

< الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

الجزء الثالث الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح

الجزء الرابع

ابن تيمية الجزء الخامس

توجد نسخة مشكولة

فصل: رد تفسيرهم لتجسم كلمة الله بالمسيح بأنه اتحاد دون اختلاط

قالوا: وأما تجسم كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء وتجسدها بإنسان مخلوق، وهو الذي أخذ من مريم العذراء المصطفاة، التي فضلت على نساء العالمين واتحدت الكلمة به اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة، وخاطب الناس كما خاطب الله موسى النبي من العوسجة، ففعل المعجز بلاهوته، وأظهر العجز بناسوته، والفعلان هما من المسيح الواحد

والجواب: إن في هذا الكلام من أنواع الكذب والكفر والتناقض أمورا كثيرة، وذلك يظهر بوجوه:

الأول: أن قولهم: كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء، كلام متناقض، فإن الخالق هو الإله الخالق، وهو خلق الأشياء بكلامه، وهو قوله: كن، فالخالق لم يخلق به الأشياء، بل هو خلقها، والكلام الذي به خلقت الأشياء ليس هو الخالق لها، بل خلق الخالق الأشياء، والفرق بين الخالق والمخلوق وبين ما به خلق الخالق معقول.

وهؤلاء جعلوا الخالق هو الذي به خلقت المخلوقات، فجعلوا الكلمة هي الخالق، وجعلوا المخلوقات خلقت بها.

وإيضاح هذا أن الكلمة إن كانت مجرد الصفة، فإن الصفة ليست خالقة، وإن كانت الصفة مع الموصوف فهذا هو الخالق، ليس هذا هو المخلوق به.

والثاني: قولهم: تجسدها بإنسان مخلوق وقولهم: تجسم كلمة الله، فإن قولهم تجسمت وتجسدت يقتضي أن الكلمة صارت جسدا وجسما بالإنسان المخلوق، وذلك يقتضي انقلابها جسدا وجسما، وهذا يقتضي استحالتها وتغيرها، وهم قالوا: اتحادا بريا من تغير واستحالة.

الثالث: قولهم: اتحدت الكلمة به اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة، كلام متناقض أيضا، فإن الاتحاد يصير الاثنين واحدا، فيقال قبل الاتحاد: كان اللاهوت جوهرا والناسوت جوهرا آخر.

وإن شئت قلت: كان هذا شيئا وهذا شيئا، أو هذا عينا قائمة بنفسها، وهذا عينا قائمة بنفسها، فبعد الاتحاد إما أن يكونا اثنين كما كانا أو صار الاثنان واحدا، فإن كانا اثنين كما كانا فلا اتحاد، بل هما متعددان كما كانا متعددين، وإن كانا قد صارا شيئا واحدا، فإن كان هذا الواحد هو أحدهما، فالآخر قد عدم وهذا عدم لأحدهما لا اتحاده، وإن كان هذا الذي صار واحدا ليس هو أحدهما، فلا بد من تغييرهما واستحالتهما، وإلا فلو كانا بعد الاتحاد اثنين باقيين بصفاتهما لم يكن هناك اتحاد.

فإذا قيل: اتحد اتحادا بريا من اختلاط أو تغير أو استحالة، كان هذا كلاما متناقضا، ينقض بعضه بعضا، فإن هذا إنما يكون مع التمدد والمباينة، لا مع الاتحاد، يوضح ذلك أنه إذا اتحد الماء واللبن، أو الماء والخمر، ونحو ذلك كان الحاصل من اتحادهما شيئا ثالثا ليس ماء محضا ولا لبنا محضا، بل هو نوع ثالث، وكل من الماء واللبن قد استحال وتغير واختلط، وأما اتحاد بدون ذلك فغير معقول.

ولهذا عظم اضطراب النصارى في هذا الموضع، وكثر اختلافهم، وصار كل منهم يرد على الآخر ما يقوله ويقول هو قولا يكون مردودا، فكانت أقوالهم كلها باطلة مردودة، إذ كانوا قد اشتركوا في أصل فاسد يستلزم أحد أمور كلها باطلة، فأي شيء أخذ من تلك اللوازم كان باطلا، ولا بد له منها فيأخذ هذا بعض اللوازم فيرده الآخر، ويأخذ الآخر لازما آخر فيرده الآخر.

وهذا شأن جميع المقالات الباطلة، إذا اشترك فيها طائفة لزمها لوازم باطلة، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم، فإنه إذا تحقق الملزوم تحقق اللازم، وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم.

وهذا يتبين بالوجه الرابع: وهو أن يقال: كثير من النصارى يقول: إنهما بعد الاتحاد جوهر واحد، وطبيعة واحدة، ومشيئة واحدة، وهذا القول يضاف إلى اليعقوبية.

ويقولون: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا، كما يختلط الماء واللبن، والماء والخمر، وهذا القول هو حقيقة الاتحاد، لا يعقل الاتحاد إلا هكذا، لكن فساده ظاهر لعقول الناس، فإذا كان هذا لازما لقول النصارى وفساده ظاهرا، كان فساد اللازم يدل على فساد الملزوم، فإن حقيقة هذا القول أن الذي كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط، والذي ضرب وبصق في وجهه ووضع الشوك على رأسه هو رب العالمين.

ونفس تصور هذا القول مما يوجب العلم ببطلانه وتنزيه الله عن ذلك، وأن قائله من أعظم المفترين على الله، قال تعالى:

وقالوا اتخذ الرحمن ولدا * لقد جئتم شيئا إدا * تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا * وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا * إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدهم عدا * وكلهم آتيه يوم القيامة فردا الوجه الخامس: قولهم: وخاطب الناس كما خاطب الله موسى من العوسجة، يوجب أن يكون الذين كلمهم المسيح ممن آمن به وكفر به، بمنزلة موسى بن عمران الذي كلمه الله تكليما.

ومعلوم أن تكليم الله لموسى عليه الصلاة والسلام، مما فضله به على غيره من النبيين، فإن كان آحاد الناس بمنزلة موسى بن عمران لزم أن يكون كل من آحاد الناس في ذلك بمنزلة موسى بن عمران، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الرسل.

الوجه السادس: أنه من المعلوم أن خطاب الله لأنبيائه ورسله أفضل من خطابه لمن ليس بنبي ولا رسول،والمسيح لم يكلم عامة النبيين والمرسلين، بل لم يكلم إلا ناسا منهم من آمن به ومنهم من كفر به.

والتحقيق أنه لم يكلم أحدا من رسل الله، ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله، وهذا باطل، ولو سلم فلم يكلم إلا اثني عشر رسولا، وقد بعث الله قبله رسلا كثيرين، وقد روي في حديث أبي ذر أن عدتهم ثلاثمائة وثلاثة عشر.

وقد قال الله في القرآن: ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة وقال تعالى: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير

وفي الحديث الذي في المسند، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي ﷺ أنه قال: " أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل " وهذه السبعون سواء كانت هي التي هداها أو هي الجميع، فإنه يدل على كثرة الرسل، ولم يكلم الله أحدا من هؤلاء من بشر حل فيه، فلو كان المكلم للناس في عيسى هو الله، لكان تكليم الله للذين كلمهم عيسى من الكفار والمؤمنين أكمل من تكليمه رسل الله الذين أرسلهم.

الوجه السابع: أن الناسوت ناسوت المسيح هو من جنس سائر النواسيت، والإنسان لا يستطيع أن يرى الله في الدنيا كما أخبر بذلك موسى وعيسى ومحمد ﷺ فإذا لم يستطع أن يراه كان أن لا يستطيع الاتصال به ومماسته، فضلا عن الاتحاد به أولى وأحرى.

الوجه الثامن: أن الله لما كلم موسى من الشجرة، كان الكلام المسموع مخالفا لما يسمع من كلام الناس، ولهذا لم تطق بنو إسرائيل سماع ذلك الصوت، بل قالوا لموسى: صف لنا ذلك، [1] وهذا عندهم في التوراة.

كما روى الخلال في كتاب السنة، عن أحمد بن حنبل، فيما رواه من حديث الزهري، قال: " لما سمع موسى كلام الله قال: يا رب هذا الكلام الذي أسمع هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى، هو كلامي، وإنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من هذا لمت، فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك. فقال: سبحان الله، وهل أستطيع أن أصفه لكم؟ قالوا: فشبهه لنا. قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها، فكأنه مثله ".

وأما المسيح فكان كل أحد يسمع صوته كصوت سائر الناس لم يتميز عنهم بما يوجب أن يكونوا سمعوا كلام الله كما سمعه موسى بن عمران.

الوجه التاسع: أن الجني إذا حل في الإنسي كما يحل في المصروع ويتكلم على لسانه، فإنه يتغير الكلام، ويعرف الحاضرون أنه ليس هو كلام الإنسي مع أنه يتكلم بلسان الإنسي، وحركة أعضائه، فيعلم أن الصوت حصل بحركة بدن الإنسي، مع العلم بأنه قد تغير تغيرا خالف به المعهود من كلام الإنسي، والإنسان الذي حل فيه الجني يغيب عنه عقله ولا يشعر بما تكلم الجني على لسانه، فرب العالمين سبحانه وتعالى لو حل في بشر واتحد به وتكلم بكلامه، وكان الكلام المسموع كلام الله المسموع منه، لكان يظهر من الفرق بين ذلك وبين المعهود من كلام الإنسي ما هو في غاية الظهور، وكان يتغير حال الإنسي غاية التغير، فإن الرب عز وجل لما تجلى للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا، فإذا كان البدن الإنسي لا يثبت لتجليه للجبل، فكيف يثبت لحلوله فيه وتكلمه على لسانه من غير تغير في البدن؟

وقد كان الوحي والملائكة إذا نزلت على الأنبياء في باطنهم يظهر التغير في أبدانهم، فكان النبي ﷺ إذا نزل عليه الوحي ثقل حتى يبرك به البعير، وإن كان فخذه على أحد ثقل حتى كاد يرضه.

وفي الصحيحين عن عائشة " أن الحارث بن هشام قال: يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي؟ قال: أحيانا يأتيني في مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي، فيفصم عني وقد وعيت ما قال، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول. قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا ".

وموسى لما سمع كلام الله مقت الآدميين، لما وقر في سمعه من كلام الله، وكان النور يظهر على وجهه حتى كان يتبرقع، والمسيح عند النصارى قد اتحد به اللاهوت من حين علقت به مريم، ولم يزل متحدا به وهو حمل في بطنها، يعظم اتحاده به كلما كبر، ثم كذلك كان متحدا به وهو صبي إلى أن رفع إلى السماء وقعد عن يمين أبيه وهو متحد به عندهم، واللاهوت والناسوت جميعا، ومع هذا لم يتغير بدن المسيح تغيرا يناسب ذلك، ولا ظهر من الأنوار ما يناسب ذلك، بل عندهم أن المسيح قبل أن يعمده (يوحنا) ويرى شبه الحمامة نازلا عليه، لم يظهر الآيات، بل كان كآحاد الناس، وأول ما ظهر من الآيات قلب الماء خمرا.

وموسى بمجرد ما سمع الكلام ظهر عليه النور، [2] وأين سمع الكلام من الاتحاد به؟

وموسى لما سمع الكلام وكلمه الله من الشجرة نزلت الملائكة وظهر له من آيات الله وعظمته ما يناسب تكليم الله عز وجل.

والرب دائما عند النصارى متحد ببدن المسيح، ولم يظهر من آيات الربوبية والعظمة إلا ما يظهر أكثر منه لبعض الأنبياء.

الوجه العاشر: أن المخاطب للناس إن كان هو مجموع اللاهوت والناسوت فكلامه صريح في أنه مخلوق مربوب يدعو ويسأل، والمجموع ليس بمخلوق يسأل الله ويعبده، وإن كان هو اللاهوت وحده كما يقتضيه كلامهم هذا، فهو أبعد وأبعد، وإن كان هو الناسوت وحده فلم يكن اللاهوت مخاطبا للناس ولم يكلم الله الناس من الناسوت كما كلم الله موسى من الشجرة.

وأيضا فلم يكن فرق بين حقيقة كلام الناسوت وكلام اللاهوت.

وكلام المسيح الصريح في أنه مخلوق كثير وهم يقرون به، لكن يقولون ذلك كلام الناسوت. فيقال لهم حينئذ: فالمخاطب للناس هو الناسوت دون اللاهوت، وأنتم قلتم: إن الله خاطب الخلق من بدن المسيح كما خاطب موسى من الشجرة.

والخطاب الذي سمعه موسى من الشجرة هو كله كلام اللاهوت، والكلام الذي كان يسمع من المسيح ليس فيه شيء يختص باللاهوت، بل عامته صريح في أنه كلام الناسوت.

الوجه الحادي عشر: أن الله لما كلم موسى من الشجرة، كان الكلام كلام الله وحده، لم يكن للشجرة كلام أصلا بوجه من الوجوه، فإن كان هذا المثل مطابقا، كان الذي يكلم الناس من ناسوت المسيح هو اللاهوت وحده.

ومعلوم أن في الإنجيل وغيره من النصوص الصريحة ما يدل على أن الناسوت كان هو المتكلم، مما يبين الفرق الواضح بين هذا وهذا.

الوجه الثاني عشر: أن الذي نادى موسى من الشجرة لم يتكلم إلا بكلام الربوبية فقال: إني أنا الله رب العالمين

إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى.

وسائر ما تكلم به كله يقتضي أنه كلام رب العالمين، وأما المتكلم على لسان المسيح فلم يقل كلمة من هذا أصلا، بل كان في كلامه من الإقرار بأنه رسول، وأنه مخلوق محتاج، وأنه ابن البشر، وغير ذلك مما يناقض من كل وجه كلام المنادي لموسى من الشجرة، فمن سوى بين هذا وهذا، كان قد سوى بين رب العالمين وبين إنسان من الآدميين، وهو أضل من الذين قال الله فيهم:

تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين.

فإن أولئك جعلوهم أندادا لله في بعض الأمور مع اعترافهم بأنهم مخلوقون، وهؤلاء الضلال جعلوا هذا الإنسان الذي يتكلم هو رب العالمين الذي كلم موسى من الشجرة، وقالوا: إن هذا الذي كلم العباد هو ذاك الذي نادى موسى من الشجرة

الوجه الثالث عشر: أن يقال: معلوم أن الله أجل وأعظم وأكبر من رسله بما لا يقدر المخلوق قدره، فلو كان هو الذي كلم الخلق على لسان المسيح، وكان الحواريون رسله الذين سمعوا كلامه منه بلا واسطة، لكان الحواريون إما مثل موسى وإما أعظم.

ومعلوم أن المسيح نفسه لم تكن له آيات مثل آيات موسى، فضلا عن الحواريين، فإن أعظم آيات المسيح إحياء الموتى، وهذه الآية قد شاركه فيها غيره من الأنبياء كإلياس وغيره.

وأهل الكتاب عندهم في كتبهم أن غير المسيح أحيا الله على يديه الموتى، وموسى بن عمران من جملة آياته العصا التي انقلبت فصارت ثعبانا مبينا حتى بلعت الحبال والعصي التي للسحرة، وكان غير مرة يلقيها فتصير ثعبانا ثم يمسكها فتعود عصا.

ومعلوم أن هذه آية لم تكن لغيره، وهي أعظم من إحياء الموتى، فإن الإنسان كانت فيه الحياة، فإذا عاش فقد عاد إلى مثل حاله الأول، والله تعالى يحيي الموتى بإقامتهم من قبورهم، وقد أحيا غير واحد من الموتى في الدنيا. وأما انقلاب خشبة تصير حيوانا ثم تعود خشبة مرة بعد مرة وتبتلع الحبال والعصي، فهذا أعجب من حياة الميت.

وأيضا فالله قد أخبر أنه أحيا من الموتى على يد موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل أعظم ممن أحياهم على يد المسيح؛

قال تعالى: وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة فأخذتكم الصاعقة وأنتم تنظرون ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون

وقال تعالى: فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى

وقال تعالى: ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم

وأيضا فموسى عليه الصلاة والسلام كان يخرج يده بيضاء من غير سوء وهذا أعظم من إبراء أثر البرص الذي فعله المسيح فإن البرص مرض معتاد، وإنما العجب الإبراء منه، وأما بياض اليد من غير برص ثم عودها إلى حالها الأول، ففيه أمران عجيبان لا يعرف لهما نظير.

وأيضا فموسى فلق الله له البحر حتى عبر فيه بنو إسرائيل وغرق فيه فرعون وجنوده، وهذا أمر باهر فيه من عظمة هذه الآية، ومن إهلاك الله لعدو موسى ما لم يكن مثله للمسيح.

وأيضا فموسى كان الله يطعمهم على يده المن والسلوى مع كثرة بني إسرائيل، ويفجر لهم بضربه للحجر كل يوم اثني عشر عينا يكفيهم.

وهذا أعظم من إنزال المسيح للمائدة، ومن قلب الماء خمرا، ونحو ذلك مما يحكى عنه صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وكان لموسى في عدوه من القمل والضفادع والدم وسائر الآيات ما لم يكن مثله للمسيح، فلو كان الحواريون رسلا قد كلمهم الله مثل ما كلم موسى من الشجرة كانوا مثل موسى، فكيف والمسيح نفسه لم يكن له آيات مثل آيات موسى، ولو كان المسيح هو اللاهوت الذي كلم موسى لكان يظهر من قدرته أعظم مما أظهره على يد موسى، فإنه لم يحل في بدن موسى، ولا كان اللاهوت يكلم الخلق من موسى، كما يزعمه هؤلاء في المسيح، ومع هذه فالآيات التي أيد بها عبده موسى، تلك الآيات العظيمة، فكيف تكون آياته إذا كان هو نفسه الذي قد حل في بدن المسيح، وهو الذي يخاطب الناس على لسان المسيح؟

الوجه الرابع عشر: أن يقال: إن قولهم: إن الله خاطب الناس في المسيح، كما خاطب موسى النبي من العوسجة من أبطل الباطل، فإن الله باتفاق الأمم كلها لم يحل في الشجرة، ولم يتحد بها، كما يزعمون هم أنه حل بالمسيح واتحد به، فإنه عندهم حل بباطن المسيح، بل وبظاهره، واتحد به باطنا وظاهرا، والرب تعالى لم يكن في باطن الشجرة، ولا حل فيها، ولا اتحد بها، وقول الله إنه كلمه منها وناداه منها كقوله أنه: نودي من شاطئ الواد الأيمن وذلك مثل قوله: { هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى } و { في البقعة المباركة } ونحو ذلك وليس في شيء من ذلك أن الرب تعالى حل في باطن الوادي المقدس، أو البقعة المباركة، أو الجانب الأيمن، ولا أنه اتحد بشيء من ذلك، ولا صار هو وشيء من ذلك جوهرا واحدا، ولا شخصا واحدا، كما يقول بعض النصارى: إن اللاهوت والناسوت صارا جوهرا واحدا، وبعضهم يقول: صارا شخصا واحدا، بل ولا قال أحد: أنه حل في شيء من ذلك كحلول الماء في اللبن، أو النار في الحديد، كما يقول بعضهم: إن اللاهوت حل في الناسوت. كذلك ولو قدر أن بعض الناس قد قال شيئا من المقالات التي لا تدل عليها الكتب الإلهية، ولا تعلم بالعقل، لم يكن قوله حجة، إذ لا يحتج إلا بنقل ثابت عن الأنبياء، أو بما يعلم بالعقل.

الوجه الخامس عشر: أن الذي كلم موسى وناداه هو الله رب العالمين، وتكليمه له من الشجرة من جنس ما أخبر بنزوله إلى السماء الدنيا، ونزوله يوم القيامة لحساب الخلق، والكلام على ذلك مبسوط في غير هذا الموضع.

وأما حلوله في البشر أو اتحاده به فيمتنع من وجوه كثيرة عقلا وسمعا، مع أنه لم يخبر به نبي.

وما تقوله النصارى في غاية التناقض، فإنهم يزعمون أن المسيح هو الكلمة وهو الخالق، لأن الكلمة والذات شيء واحد، فلا يفرقون بين الصفة والموصوف، ثم يقولون: المتحد بالمسيح هو الكلمة دون الذات التي يسمونها الأب، ويقولون مع ذلك: إنه لم يتبعض ولم يتجزأ.

ومعلوم بصريح العقل أن الكلمة التي هي الصفة لا يمكن مفارقتها للموصوف، فلا تتحد وتحل دون الموصوف، لا سيما والمتحد الحال عندهم هو الخالق، فيجب أن يكون هو الأب، وهم لا يقولون: المتحد الحال هو الأب، بل هو الابن، وإذا قالوا: إن الابن هو المتحد الحال دون الأب، فالمتحد ليس هو الذي ما اتحد، والابن اتحد والأب ما اتحد.

ويقولون: إن المتحد اتخذ عيسى حجابا احتجب به، ومسكنا يسكن فيه، خاطب الناس فيه، ويقولون في ذلك: إنه اتحد به الأب لم يحتجب به ولم يسكن فيه ولم يتحد به، فلزم قطعا أن يكون منه شيء اتحد ومنه شيء لم يتحد، فالأب لم يتحد، والابن اتحد، وهذا يناقض قولهم لم يتبعض، ويبطل تمثيلهم بالمخاطب من الشجرة، فإن ذاك هو الله رب العالمين ليس هو الابن دون الأب، مع ما ذكر من الفروق الكثيرة المبينة التي تبين بطلان تمثيل هذا بهذا.

الوجه السادس عشر: أن الرب عز وجل إذا تكلم تكلم بكلام الربوبية، فلو كان في المسيح اللاهوت الذي أرسل موسى وغيره، لم يخضع لموسى ولتوراته، ويذكر أنه إنما جاء ليكملها لا لينقضها، ولا كان يقوم بشرائعها، فإن رب العالمين أعظم وأجل من ذلك، بل لو كان ملكا من الملائكة لم يفعل مثل ذلك، فكيف برب العالمين؟

وإذا قالت النصارى: فعل ذلك خوفا من بني إسرائيل، أو خوفا أن يكذبوه، كان عذرهم أقبح من ذنبهم، فرب العالمين ممن يخاف سبحانه وتعالى؟.

وموسى لما كان فرعون يكذبه كان يظهر من الآيات يذل بها فرعون وقومه مع عتوه وعتو قومه، ولم تكن بنو إسرائيل أعتى من فرعون وقومه، فلو كان هو رب العالمين، كان ما يؤيد به نفسه من الآيات أعظم مما يؤيد به عبده موسى.

ومن عجائب النصارى أنهم يدعون فيه الإلهية مع ادعائهم فيه غاية العجز حتى صلب.

وأما المسلمون فيقولون: هو رسول مؤيد، لم يصلب، وهذه سنة الله سبحانه في رسله، فإنه يؤيدهم وينصرهم على عدوهم، كما نصر نوحا وإبراهيم ومحمدا صلوات الله عليهم وسلامه فإذا كان لا يجوز أن يكون رسولا مغلوبا، فكيف يكون ربا مغلوبا مصلوبا؟

الوجه السابع عشر: قولهم فعل المعجزات بلاهوته، وأظهر العجز بناسوته، فيقال لهم: إن الله فعل من المعجزات ما هو أعظم من المعجزات التي ظهرت على يد المسيح ولم يكن متحدا بشيء من البشر، فأي ضرورة له إلى أن يتحد بالبشر إذا فعل معجزات دون ذلك؟

الوجه الثامن عشر: أن المسيح ظهرت على يديه معجزات كما ظهر لسائر المرسلين، ومعجزات بعضهم أعظم من معجزاته، ومع هذا فلم تكن المعجزات دليلا على اتحاد اللاهوت بالنبي الذي ظهرت على يديه، فعلم أن الاستدلال بظهور المعجزات على يديه في غاية الفساد.

الوجه التاسع عشر: أن اللاهوت إن كان متحدا بالناسوت لم يتميز فعله عن فعل الناسوت، فإنهما إذا صارا شيئا واحدا كان كل ما فعله من عجز ومعجز هو ذلك الواحد، كالأمثال التي يضربونها لله سبحانه وتعالى فإنهم يمثلون ذلك بالنار مع الحديد، والماء مع اللبن والخمر.

ومعلوم أن الحديدة إذا أدخلت النار حتى صارت بيضاء كالنار البيضاء ففعلها فعل واحد، ليس لها فعلان متميزان: أحدهما بالحديد، والآخر بالنار، بل فيها قوة الحديد وقوة النار، بل فيها قوة ثالثة ليست قوة الحديد ولا قوة النار، إذ ليست حديدا محضا ولا نارا محضا.

وكذلك الماء إذا اختلط باللبن والخمر، فالمتحد منهما شيء واحد، فعله فعل واحد، منه ما ليس ماء محضا ولا لبنا محضا، لا يقول عاقل: إن له فعلين يتميز أحدهما عن الآخر، فعل بكونه لبنا محضا، وفعل بكونه ماء محضا، فقولهم بالاتحاد يوجب استحالة اللاهوت بالناسوت، وأن يصير فعل المتحد شيئا واحدا.

وإن كان اللاهوت لم يتحد به فهما اثنان شخصان وجوهران وطبيعتان ومشيئتان، وليس هذا دين النصارى مع أن حلول الرب عز وجل في البشر ممتنع، كما قد بسط في موضوع آخر.

وكذلك إذا مثلوه بالنفس مع البدن، فإن النفس تتغير صفاتها بمفارقة البدن، وكذلك البدن تتغير صفاته بمفارقة الروح له.

والإنسان الذي نفخت فيه الروح فصارت بدنا فيه الروح هو نوع ثالث ليس فيه بدن محض، وروح محض، حتى يقال: إنه يفعل كذا ببدنه، وكذا بنفسه، بل أفعاله تشترك فيها الروح، فهو إذا أكل وشرب، فالروح تتلذذ بالأكل والشرب، وبها صار آكلا شاربا، وإلا فالبدن الميت لا يأكل ولا يشرب، وإذا نظر واستدل وسمع ورأى وتعلم، فالنفس فعلت ذلك بالبدن، والبدن يظهر فيه ذلك، والروح وحدها لا تفعل ذلك، وعندهم أن فعل اللاهوت بعد الاتحاد كفعله قبله، وكذلك فعل الناسوت، وهذا يناقض الاتحاد.

والقول بهذا مع الاتحاد في غاية التناقض والفساد، ولا يعقل نظير هذا في شيء من الموجودات، ونفس المتكلم بهذا من النصارى لا يتصور ما يقول، ولا يمكنه أن يمثله بشيء معقول.

فصل: رد دعواهم أن القرآن أثبت أن المسيح إله وإنسان

قالوا: وقد جاء في هذا الكتاب الذي جاء به هذا الإنسان يقول: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. وهذا يوافق قولنا: إذ قد شهد أنه إنسان مثلنا، أي بالناسوت الذي أخذ من مريم، وكلمة الله وروحه المتحدة فيه، وحاشا أن تكون كلمة الله وروحه الخالقة مثلنا نحن المخلوقين، وأيضا قال في سورة النساء: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. فأشار بهذا القول إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله التي لم يدخل عليها ألم ولا عرض، وقال أيضا: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. وقال في سورة المائدة عن عيسى أنه قال: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد. فأعنى بموته عن موت الناسوت الذي أخذ من مريم العذراء. وقال أيضا في سورة النساء: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه. فأشار بهذا إلى اللاهوت الذي هو كلمة الله الخالقة، وعلى هذا القياس نقول: إن المسيح صلب وتألم بناسوته، ولم يصلب ولا تألم بلاهوته.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن يقال: دعواهم على محمد ﷺ أنه أثبت في المسيح اللاهوت والناسوت، كما يزعمه هؤلاء النصارى فيه، هو من الكذب الواضح المعلوم على محمد ﷺ الذي يعلم من دينه بالاضطرار، كما يعلم من دينه تصديق المسيح وإثبات رسالته، فلو ادعى اليهود على محمد ﷺ أنه كان يكذب المسيح ويجحد رسالته، كان كدعوى النصارى عليه أنه كان يقول: إنه رب العالمين، وأن اللاهوت اتحد بالناسوت، ومحمد ﷺ قد أخبر فيما بلغه عن الله عز وجل بكفر من قال ذلك، وبما يناقض ذلك في غير موضع كقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير.

وقوله تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرا ولا نفعا والله هو السميع العليم قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

وقال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم.

وقال تعالى: ولما ضرب ابن مريم مثلا إذا قومك منه يصدون وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا بل هم قوم خصمون إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم

وقال تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد

فأخبر عن المسيح أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به، بقوله: أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكان عليهم شهيدا ما دام فيهم، وبعد وفاته كان الله هو الرقيب عليهم، فإذا كان بعضهم قد غلط في النقل عنه أو في تفسير كلامه، أو تعمد تغيير دينه لم يكن على المسيح من ذلك درك، وإنما هو رسول عليه البلاغ المبين.

وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن أول ما تكلم به المسيح أنه قال: قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيا وجعلني مباركا أين ما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا وبرا بوالدتي ولم يجعلني جبارا شقيا.

ثم طلب لنفسه السلام فقال: والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا.

والنصارى يقولون: (علينا منه السلام) كما تقوله الغالية فيمن يدعون فيه الإلاهية كالنصيرية في علي والحاكمية في الحاكم.

الوجه الثاني: أن يقال: إن الله لم يذكر أن المسيح مات ولا قتل

إنما قال: يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا

وقال المسيح: فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد

وقال تعالى: فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما.

فذم الله اليهود بأشياء منها: قولهم على مريم بهتانا عظيما؛ حيث زعموا أنها بغي، ومنها: قولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله.

قال تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم.

وأضاف هذا القول إليهم وذمهم عليه.

ولم يذكر النصارى؛ لأن الذين تولوا صلب المصلوب المشبه به هم اليهود، ولم يكن أحد من النصارى شاهدا هذا معهم، بل كان الحواريون خائفين غائبين، فلم يشهد أحد منهم الصلب، وإنما شهده اليهود وهم الذين أخبروا الناس أنهم صلبوا المسيح، والذين نقلوا أن المسيح صلب من النصارى وغيرهم، إنما نقلوه عن أولئك اليهود وهم شرط من أعوان الظلمة، لم يكونوا خلقا كثيرا يمتنع تواطؤهم على الكذب.

قال تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم. فنفى عنه القتل،

ثم قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته.

وهذا عند أكثر العلماء معناه قبل موت المسيح، وقد قيل قبل موت اليهودي وهو ضعيف، كما قيل: أنه قبل موت محمد ﷺ وهو أضعف، فإنه لو آمن به قبل الموت لنفعه إيمانه به، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر.

وإن قيل: المراد به الإيمان الذي يكون بعد الغرغرة، لم يكن في هذا فائدة، فإن كل أحد بعد موته يؤمن بالغيب الذي كان يجحده فلا اختصاص للمسيح به، ولأنه قال قبل موته، ولم يقل بعد موته، ولأنه لا فرق بين إيمانه بالمسيح وبمحمد صلوات الله عليهما وسلامه واليهودي الذي يموت على اليهودية يموت كافرا بمحمد والمسيح عليهما الصلاة والسلام ولأنه قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته

وقوله: ليؤمنن به، فعل مقسم عليه، وهذا إنما يكون في المستقبل، فدل ذلك على أن هذا الإيمان بعد إخبار الله بهذا، ولو أريد به قبل موت الكتابي لقال: وإن من أهل الكتاب إلا من يؤمن به، لم يقل: ليؤمنن به

وأيضا فإنه قال " وإن من أهل الكتاب " وهذا يعم اليهود والنصارى فدل ذلك على أن جميع أهل الكتاب اليهود والنصارى يؤمنون بالمسيح قبل موت المسيح وذلك إذا نزل آمنت اليهود والنصارى بأنه رسول الله ليس كاذبا كما تقول اليهود ولا هو الله كما تقوله النصارى.

والمحافظة على هذا العموم أولى من أن يدعى أن كل كتابي ليؤمنن به قبل أن يموت الكتابي، فإن هذا يستلزم إيمان كل يهودي ونصراني، وهذا خلاف الواقع، وهو لما قال: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته، دل على أن المراد بإيمانهم قبل أن يموت هو، علم أنه أريد بالعموم عموم من كان موجودا حين نزوله؛ أي لا يتخلف منهم أحد عن الإيمان به، لا إيمان من كان منهم ميتا.

وهذا كما يقال: إنه لا يبقى بلد إلا دخله الدجال إلا مكة والمدينة، أي من المدائن الموجودة حينئذ، وسبب إيمان أهل الكتاب به حينئذ ظاهر، فإنه يظهر لكل أحد أنه رسول مؤيد ليس بكذاب ولا هو رب العالمين.

فالله تعالى ذكر إيمانهم به إذا نزل إلى الأرض، فإنه تعالى لما ذكر رفعه إلى الله بقوله: إني متوفيك ورافعك إلي

وهو ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ويموت حينئذ أخبر بإيمانهم به قبل موته، كما قال تعالى في آية أخرى:

إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون وإنه لعلم للساعة فلا تمترن بها واتبعون هذا صراط مستقيم ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو مبين ولما جاء عيسى بالبينات قال قد جئتكم بالحكمة ولأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله وأطيعون إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط

مستقيم فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين ظلموا من عذاب يوم أليم.

وفي الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: " يوشك أن ينزل فيكم ابن مريم حكما عدلا، وإماما مقسطا، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية. "

وقوله تعالى: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما.

بيان أن الله رفعه حيا وسلمه من القتل، وبين أنهم يؤمنون به قبل أن يموت.

وكذلك قوله: ومطهرك من الذين كفروا.

ولو مات لم يكن فرق بينه وبين غيره.

ولفظ التوفي في لغة العرب معناه: الاستيفاء والقبض، وذلك ثلاثة أنواع: أحدها: توفي النوم، والثاني: توفي الموت، والثالث: توفي الروح والبدن جميعا، فإنه بذلك خرج عن حال أهل الأرض الذين يحتاجون إلى الأكل والشرب واللباس والنوم، ويخرج منهم الغائط والبول، والمسيح توفاه الله وهو في السماء الثانية إلى أن ينزل إلى الأرض، ليست حاله كحالة أهل الأرض في الأكل والشرب واللباس والنوم، والغائط والبول، ونحو ذلك.

الوجه الثالث: قولهم: إنه عني بموته عن موت الناسوت، كان ينبغي لهم أن يقولوا على أصلهم: عني بتوفيته عن توفي الناسوت، وسواء قيل موته أو توفيته فليس هو شيئا غير الناسوت، فليس هناك شيء غيره لم يتوف، والله تعالى قال: إني متوفيك ورافعك إلي

فالمتوفى هو المرفوع إلى الله، وقولهم: إن المرفوع هو اللاهوت، مخالف لنص القرآن، لو كان هناك موت فكيف إذا لم يكن، فإنهم جعلوا المرفوع غير المتوفى، والقرآن أخبر أن المرفوع هو المتوفى. وكذلك قوله في الآية الأخرى: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه. هو تكذيب لليهود في قولهم: إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله.

واليهود لم يدعوا قتل لاهوت، ولا أثبتوا لله لاهوتا في المسيح، والله تعالى لم يذكر دعوى قتله عن النصارى حتى يقال: إن مقصودهم قتل الناسوت دون اللاهوت، بل عن اليهود الذين لا يثبتون إلا الناسوت.

وقد زعموا أنهم قتلوه، فقال تعالى: وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه.

فأثبت رفع الذي قالوا إنهم قتلوه، وإنما هو الناسوت، فعلم أنه هو الذي نفي عنه القتل. وهو الذي رفع، والنصارى معترفون برفع الناسوت، لكن يزعمون أنه صلب، وأقام في القبر إما يوما وإما ثلاثة أيام، ثم صعد إلى السماء، وقعد عن يمين الرب الناسوت مع اللاهوت.

وقوله تعالى: وما قتلوه يقينا. معناه: أن نفي قتله هو يقين لا ريب فيه، بخلاف الذين اختلفوا فإنهم في شك منه من قتله وغير قتله فليسوا مستيقنين أنه قتل؛ إذ لا حجة معهم بذلك.

ولذلك كانت طائفة من النصارى يقولون: لم يصلب، [3] فإن الذين صلبوا المصلوب هم اليهود، وكان قد اشتبه عليهم المسيح بغيره، كما دل عليه القرآن، وكذلك عند أهل الكتاب أنه اشتبه بغيره فلم يعرفوا من هو المسيح من أولئك حتى قال لهم بعض الناس: أنا أعرفه فعرفوه، وقول من قال: معنى الكلام ما قتلوه علما بل ظنا قول ضعيف.

الوجه الرابع: أنه قال تعالى: إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين كفروا.

فلو كان المرفوع هو اللاهوت، لكان رب العالمين قال لنفسه أو لكلمته: " إني أرفعك إلي "، وكذلك قوله: بل رفعه الله إليه فالمسيح عندهم هو الله.

ومن المعلوم أنه يمتنع رفع نفسه إلى نفسه، وإذا قالوا: هو الكلمة فهم يقولون مع ذلك إنه الإله الخالق، لا يجعلونه بمنزلة التوراة والقرآن ونحوهما، مما هو من كلام الله الذي قال فيه: إليه يصعد الكلم الطيب، بل عندهم هو الله الخالق الرازق رب العالمين، ورفع رب العالمين إلى رب العالمين ممتنع.

الوجه الخامس: قوله: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم دليل على أنه بعد توفيته لم يكن الرقيب عليهم إلا الله دون المسيح، فإن قوله كنت أنت يدل على الحصر، كقوله: إن كان هذا هو الحق ونحو ذلك، فعلم أن المسيح بعد توفيته ليس رقيبا على أتباعه، بل الله هو الرقيب المطلع عليهم المحصي أعمالهم المجازي عليها، والمسيح ليس برقيب فلا يطلع على أعمالهم ولا يحصيها ولا يجازيهم بها.

فصل: رد دعواهم تسمية القرآن للمسيح خالقا

قالوا: وقد سماه الله أيضا في هذا الكتاب خالقا حيث قال: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني. فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة بالناسوت المأخوذ من مريم لأنه كذا قال على لسان داود النبي: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض، ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه. وهذا مما يوافق رأينا واعتقادنا في السيد المسيح لذكره، لأنه حيث قال: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله. أي بإذن لاهوت الكلمة المتحدة في الناسوت.

والجواب: أن جميع ما يحتجون به من هذه الآيات وغيرها، فهو حجة عليهم لا لهم، وهكذا شأن جميع أهل الضلال إذا احتجوا بشيء من كتب الله وكلام أنبيائه كان في نفس ما احتجوا به ما يدل على فساد قولهم، وذلك لعظمة كتب الله المنزلة وما أنطق به أنبياءه، فإنه جعل ذلك هدى وبيانا للخلق وشفاء لما في الصدور، فلا بد أن يكون في كلام الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه أجمعين من الهدى والبيان ما يفرق الله به بين الحق والباطل والصدق والكذب، لكن الناس يؤتون من قبل أنفسهم لا من قبل أنبياء الله تعالى.

إما من كونهم لم يتدبروا القول الذي قالته الأنبياء حق التدبر حتى يفقهوه ويفهموه، وإما من جهة أخذهم ببعض الحق دون بعض، مثل أن يؤمنوا ببعض ما أنزله الله دون بعض، فيضلون من جهة ما لم يؤمنوا به، كما قال تعالى عن النصارى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة

وإما من جهة نسبتهم إلى الأنبياء ما لم يقولوه من أقوال كذبت عليهم ومن جهة ترجمة أقوالهم بغير ما تستحقه من الترجمة، وتفسيرها بغير ما تستحقه من التفسير الذي دل عليه كلام الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض، ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا، وتعرف ما عادته يعنيه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به، وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر، فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه، كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده.

وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه، وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه، وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا، وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه، كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه، وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه.

فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم، فإذا عرف هذا، فنقول:

الجواب عما ذكروه هنا من وجوه:

أحدها: أن الله لم يذكر عن المسيح خلقا مطلقا، ولا خلقا عاما، كما ذكر عن نفسه تبارك وتعالى فأول ما أنزل الله على نبيه محمد ﷺ: اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم

وقال تعالى: هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسنى

فذكر نفسه بأنه الخالق البارئ المصور، ولم يصف قط شيئا من المخلوقات بهذا لا ملكا ولا نبيا.

وكذلك قال تعالى: الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض

وقال تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم

ووصف نفسه بأنه رب العالمين، وبأنه مالك يوم الدين، وأنه له الملك وله الحمد، وأنه الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، وأنه على كل شيء قدير وبكل شيء عليم، ونحو ذلك من خصائص الربوبية، ولم يصف شيئا من مخلوقاته لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بشيء من الخصائص التي يختص بها، التي وصف بها نفسه سبحانه وتعالى

وأما المسيح فقال فيه: وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني

وقال المسيح عن نفسه: أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيي الموتى بإذن الله فلم يذكر إلا خلق شيء معين خاص بإذن الله، فكيف يكون هذا الخالق هو ذاك؟

الوجه الثاني: أنه خلق من الطين كهيئة الطير، والمراد به تصويره بصورة الطير، وهذا الخلق يقدر عليه عامة الناس، فإنه يمكن أحدهم أن يصور من الطين كهيئة الطير، وغير الطير من الحيوانات، ولكن هذا التصوير محرم، بخلاف تصوير المسيح، فإن الله أذن له فيه.

والمعجزة أنه ينفخ فيه الروح فيصير طيرا بإذن الله عز وجل ليس المعجزة مجرد خلقه من الطين، فإن هذا مشترك، وقد لعن النبي ﷺ المصورين، وقال: إن أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون.

الوجه الثالث: أن الله أخبر المسيح أنه إنما فعل التصوير والنفخ بإذنه تعالى وأخبر المسيح أنه فعله بإذن الله، وأخبر الله أن هذا من نعمه التي أنعم بها على المسيح كما قال تعالى: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه وجعلناه مثلا لبني إسرائيل

وقال تعالى: يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك بروح القدس تكلم الناس في المهد وكهلا وإذ علمتك الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيرا بإذني وتبرئ الأكمه والأبرص بإذني وإذ تخرج الموتى بإذني وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات.

وهذا كله صريح في أنه ليس هو الله، وإنما هو عبد الله فعل ذلك بإذن الله، كما فعل مثل ذلك غيره من الأنبياء، وصريح بأن الآذن غير المأذون له، والمعلم ليس هو المعلم، والمنعم عليه وعلى والدته ليس هو إياه، كما ليس هو والدته.

الوجه الرابع: أنهم قالوا: أشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت، ثم قالوا في قوله: بإذن الله أي بإذن الكلمة المتحدة في الناسوت، وهذا يبين تناقضهم وافتراءهم على القرآن، لأن الله أخبر في القرآن أن المسيح خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، ففرق بين المسيح وبين الله، وبين أن الله هو الآذن للمسيح، وهؤلاء زعموا أن مراده بذلك أن اللاهوت المتحد بناسوت المسيح هو الخالق وهو الآذن فجعلوا الخالق هو الآذن، وهو تفسير للقرآن بما يخالف صريح القرآن.

الوجه الخامس: أن اللاهوت إذا كان هو الخالق لم يحتج إلى أن يأذن لنفسه، فإنهم يقولون: هو إله واحد، وهو الخالق فكيف يحتاج أن يأذن لنفسه وينعم على نفسه؟

الوجه السادس: أن الخالق إما أن يكون هو الذات الموصوفة بالكلام أو الكلام الذي هو صفة للذات، فإن كان هو الكلام، فالكلام صفة لا تكون ذاتا قائمة بنفسها خالقة، ولو لم تتحد بالناسوت، واتحادها بالناسوت دون الموصوف ممتنع لو كان الاتحاد ممكنا، فكيف وهو ممتنع؟

فقد تبين امتناع كون الكلمة تكون خالقة من وجوه.

وإن كان الخالق هو الذات المتصفة بالكلام، فذاك هو الله الخالق لكل شيء رب العالمين، وعندهم هو الأب، والمسيح عندهم ليس هو الأب، فلا يكون هو الخالق لكل شيء، والقرآن يبين أن الله هو الذي أذن للمسيح حتى خلق من الطين كهيئة الطير، فتبين أن الذي خلق من الطين كهيئة الطير ليس هو الله ولا صفة من صفاته، فليس المسيح هو الله ولا ابن قديم أزلي لله ولكن عبده فعل بإذنه.

الوجه السابع: قولهم: فأشار بالخالق إلى كلمة الله المتحدة في الناسوت المأخوذ من مريم، لأنه كذا قال على لسان داود النبي: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض ". يقال لهم: هذا النص عن داود حجة عليكم، كما أن التوراة والقرآن وسائر ما ثبت عن الأنبياء حجة عليكم، فإن داود قال: " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " ولم يقل: إن كلمة الله هي الخالقة، كما قلتم أنتم أنه أشار بالخالق إلى كلمة الله.

والفرق بين الخالق للسماوات والأرض وبين الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض، أمر ظاهر معروف، كالفرق بين القادر والقدرة، فإن القادر هو الخالق وقد خلق الأشياء بقدرته، وليست القدرة هي الخالقة، وكذلك الفرق بين المريد والإرادة، فإن الله خلق الأشياء بمشيئته، وليست مشيئته هي الخالقة.

وكذلك الدعاء والعبادة هو للإله الخالق لا لشيء من صفاته، فالناس كلهم يقولون: يا الله يا ربنا يا خالقنا، ارحمنا واغفر لنا، ولا يقول أحد: يا كلام الله اغفر لنا وارحمنا، ولا يا قدرة الله ويا مشيئة الله ويا علم الله اغفر لنا وارحمنا، والله تعالى يخلق بقدرته ومشيئته وكلامه، وليست صفاته هي الخالقة.

الوجه الثامن: أن قول داود : " بكلمة الله خلقت السماوات والأرض " يوافق ما جاء في القرآن والتوراة وغير ذلك من كتب الأنبياء: أن الله يقول للشيء: كن فيكون، وهذا في القرآن في غير موضع، وفي التوراة قال الله: " ليكن كذا ليكن كذا "

الوجه التاسع: قولهم: لأنه ليس خالق إلا الله وكلمته وروحه، إن أرادوا بكلمته كلامه، وبروحه حياته، فهذه من صفات الله كعلمه وقدرته، فلم يعبر أحد من الأنبياء عن حياة الله بأنها روح الله، فمن حمل كلام أحد من الأنبياء بلفظ الروح أنه يراد به حياة الله فقد كذب عليه. ثم يقال: هذا كلامه وحياته من صفات الله كعلمه وقدرته، وحينئذ فالخالق هو الله وحده، وصفاته داخلة في مسمى اسمه لا يحتاج أن تجعل معطوفة على اسمه بواو التشريك التي تؤذن أن لله شريكا في خلقه، فإن الله لا شريك له.

ولهذا لما قال الله تعالى: " الله خالق كل شيء " دخل كل ما سواه في مخلوقاته، ولم تدخل صفاته كعلمه وقدرته ومشيئته وكلامه، لأن هذه داخلة في مسمى اسمه ليست أشياء مباينة له، بل أسماؤه الحسنى متناولة لذاته المقدسة المتصفة بهذه الصفات لا يجوز أن يراد بأسمائه ذاتا مجردة عن صفات الكمال، فإن تلك لا حقيقة لها، ويمتنع وجود ذات مجردة عن صفة فضلا عن وجود ذاته تعالى مجردة عن صفات كماله التي هي لازمة لذاته، فيمتنع تحقق ذاته دونها، ولهذا لا يقال: الله وعلمه خلق، والله وقدرته خلق.

وإن أرادوا بكلمته وروحه المسيح أو شيئا اتحد بناسوت المسيح، فالمسيح كله مخلوق كسائر الرسل، والله وحده هو الخالق، وإن شئت قلت: إن أريد بالروح والكلمة ما هو صفة الله، فتلك داخلة في مسمى اسمه، وإن أريد ما ليس بصفة فذلك مخلوق له كالناسوت.

الوجه العاشر: أن داود لا يجوز أن يريد بكلمة الله المسيح؛ لأن المسيح عند جميع الناس هو اسم للناسوت، وهو عندهم اسم للاهوت والناسوت لما اتحدا، والاتحاد فعل حادث عندهم، فقبل الاتحاد لم يكن هناك ناسوت ولا ما يسمى مسيحا، فعلم أن داود لم يرد بكلمة الله المسيح، ولكن غايتهم أن يقولوا: أراد الكلمة التي اتحدت فيما بعد بالمسيح، لكن الذي خلق بإذن الله هو المسيح كما نطق به القرآن بقوله: يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين

فالكلمة التي ذكرها وأنها هي التي خلقت السماوات والأرض ليست هي المسيح الذي خلق من الطين كهيئة الطير بإذن الله، فاحتجاجهم بهذا على هذا احتجاج باطل، بل تلك الكلمة التي بها خلقت السماوات والأرض لم يكن معها ناسوت حين خلقت باتفاق الأمم، والمسيح لا بد أن يدخل فيه الناسوت، فعلم أنه لم يرد بالكلمة المسيح.

فصل: بيان المعنى الصحيح لتشبيه القرآن الكريم عيسى بآدم

قالوا: وقال أيضا في موضع آخر: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب، فأعنى بقوله: (مثل عيسى) إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة، لأنه لم يذكر هاهنا اسم المسيح، إنما ذكر عيسى فقط. كما أن آدم خلق من غير جماع ولا مباضعة، فكذلك جسد السيد المسيح خلق من غير جماع ولا مباضعة، وكما أن جسد آدم ذاق الموت، فكذلك جسد المسيح ذاق الموت، وقد يبرهن بقوله أيضا قائلا: إن الله ألقى كلمته إلى مريم، وذلك حسب قولنا معشر النصارى: إن كلمة الله الأزلية الخالقة حلت في مريم وتجسدت بإنسان كامل، وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لاهوتية: التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية: التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به، ولما تقدم به القول من الله تعالى على لسان موسى النبي، إذ يقول: (أليس هذا الأب الذي خلقك وبراك واقتناك) قيل: وعلى لسان داود النبي (روحك القدس لا تنزع مني) وأيضا على لسان داود النبي: (بكلمة الله تشددت السماوات وبروح فاه جميع قواهن) وليس يدل هذا القول على ثلاثة خالقين، بل خالق واحد: الأب ونطقه: أي كلمته وروحه: أي حياته.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن قوله تعالى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون. كلام حق، فإنه سبحانه خلق هذا النوع البشري على الأقسام الممكنة؛ ليبين عموم قدرته، فخلق آدم من غير ذكر ولا أنثى، وخلق زوجته حواء من ذكر بلا أنثى، كما قال تعالى: وخلق منها زوجها. وخلق المسيح من أنثى بلا ذكر، وخلق سائر الخلق من ذكر وأنثى، وكان خلق آدم وحواء أعجب من خلق المسيح، فإن حواء خلقت من ضلع آدم، وهذا أعجب من خلق المسيح في بطن مريم، وخلق آدم أعجب من هذا وهذا، وهو أصل خلق حواء.

فلهذا شبهه الله بخلق آدم الذي هو أعجب من خلق المسيح، فإذا كان سبحانه قادرا أن يخلقه من تراب، والتراب ليس من جنس بدن الإنسان، أفلا يقدر أن يخلقه من امرأة هي من جنس بدن الإنسان؟ وهو سبحانه خلق آدم من تراب، ثم قال له: كن فيكون، لما نفخ فيه من روحه، فكذلك المسيح نفخ فيه من روحه وقال له: كن فيكون، ولم يكن آدم بما نفخ من روحه لاهوتا وناسوتا، بل كله ناسوت، فكذلك المسيح كله ناسوت، والله تبارك وتعالى ذكر هذه الآية في ضمن الآيات التي أنزلها في شأن النصارى، لما قدم على النبي ﷺ نصارى نجران وناظروه في المسيح، وأنزل الله فيه ما أنزل، فبين فيه قول الحق الذي اختلفت فيه اليهود والنصارى، فكذب الله الطائفتين: هؤلاء في غلوهم فيه، وهؤلاء في ذمهم له.

وقال عقب هذه الآية:

فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون

وقد امتثل النبي ﷺ قول الله فدعاهم إلى المباهلة فعرفوا أنهم إن باهلوه أنزل الله عليهم لعنته، فأقروا بالجزية وهم صاغرون، ثم كتب النبي ﷺ إلى هرقل ملك الروم بقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى آخرها.

وكان أحيانا يقرأ بها في الركعة الثانية من ركعتي الفجر، ويقرأ في الأولى بقوله: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون

وهذا كله يبين به أن المسيح عبد ليس بإله، وأنه مخلوق كما خلق آدم، وقد أمر أن يباهل من قال إنه إله، فيدعو كل من المتباهلين أبناءه ونساءه وقريبه المختص به، ثم يبتهل هؤلاء وهؤلاء ويدعون الله أن يجعل لعنته على الكاذبين، فإن كان النصارى كاذبين في قولهم: هو الله، حقت اللعنة عليهم، وإن كان من قال: ليس هو الله بل عبد الله، كاذبا، حقت اللعنة عليه، وهذا إنصاف من صاحب يقين يعلم أنه على الحق.

والنصارى لما لم يعلموا أنهم على الحق، نكلوا عن المباهلة، وقد قال عقب ذلك: إن هذا لهو القصص الحق وما من إله إلا الله وإن الله لهو العزيز الحكيم

تكذيبا للنصارى الذين يقولون: هو إله حق من إله حق، فكيف يقال إنه أراد أن المسيح فيه لاهوت وناسوت، وأن هذا هو الناسوت فقط دون اللاهوت؟ وبهذا ظهر الجواب عن قولهم، قال في موضع آخر: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم

فأعنى بقوله: عيسى، إشارة إلى البشرية المأخوذة من مريم الطاهرة، لأنه لم يذكر هاهنا اسم المسيح إنما ذكر عيسى فقط، فإنه يقال: عيسى هو المسيح، بدليل أنه قال: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل

فأخبر أنه ليس المسيح إلا رسولا ليس هو بإله وأنه ابن مريم، والذي هو ابن من مريم هو الناسوت

وقال: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا

وقال تعالى: وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون

وقال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا.

الوجه الثاني: أن ما ذكروه من موته قد بينا أن الله لم يذكر ذلك، وأن المسيح لم يمت بعد، وما ذكروه من أنه صلب ناسوته دون لاهوته باطل من وجهين:

فإن ناسوته لم يصلب، وليس فيه لاهوت، وهم ذكروا ذلك دعوى مجردة فيكتفى في مقابلتها بالمنع.

لكن نقول في الوجه الثالث: إنهم في اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبهونه تارة باتحاد الماء باللبن، وهذا تشبيه اليعقوبية، وتارة باتحاد النار بالحديد أو النفس بالجسم، وهذا تشبيه الملكانية وغيرهم.

ومعلوم أنه لا يصل إلى الماء شيء إلا وصل إلى اللبن، فإنه لا يتميز أحدهما عن الآخر، وكذلك النار التي في الحديد متى طرق الحديد أو بصق عليه لحق ذلك بالنار التي فيه، والبدن إذا ضرب وعذب لحق ألم الضرب والعذاب بالنفس، فكأن حقيقة تمثيلهم يقتضي أن اللاهوت أصابه ما أصاب الناسوت من إهانة اليهود وتعذيبهم له وإيلامهم له والصلب الذي ادعوه وهذا لازم على القول بالاتحاد، فإن الاتحاد لو كان ما يصيب أحدهما لا يشركه الآخر فيه لم يكن هنا اتحاد بل تعدد.

الرابع: أن هؤلاء الضلال لم يكفهم أن جعلوا إله السماوات والأرض متحدا ببشر في جوف امرأة، وجعلوه له مسكنا، ثم جعلوا أخابث خلق الله أمسكوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه وصلبوه بين لصين، وهو في ذلك يستغيث بالله ويقول: " إلهي إلهي لم تركتني " وهم يقولون: الذي كان يسمع الناس كلامه هو اللاهوت، كما سمع موسى كلام الله من الشجرة، ويقولون: هما شخص واحد، ويقول بعضهم: لهما مشيئة واحدة وطبيعة واحدة.

والكلام إنما يكون بمشيئة المتكلم، فيلزم أن يكون المتكلم الداعي المستغيث المصلوب هو اللاهوت وهو المستغيث المتضرع وهو المستغاث به، وأيضا فهم يقولون: إن اللاهوت والناسوت شخص واحد، فمع القول بأنهما شخص واحد، إما أن يكون مستغيثا، وإما أن يكون مستغاثا به، وإما أن يكون داعيا، وإما أن يكون مدعوا، فإذا قالوا: إن الداعي هو غير المدعو، لزم أن يكونا اثنين لا واحدا، وإذا قالوا: هما واحد فالداعي هو المدعو.

الوجه الخامس: أن يقال: لا يخلو إما أن يقولوا: إن اللاهوت كان قادرا على دفعهم عن ناسوته، وإما أن يقولوا: لم يكن قادرا، فإن قالوا لم يكن قادرا لزم أن يكون أولئك اليهود أقدر من رب العالمين وأن يكون رب العالمين مقهورا مأسورا مع قوم من شرار اليهود، وهذا من أعظم الكفر والتنقص برب العالمين، وهذا أعظم من قولهم: إن لله ولدا، وأنه بخيل، وأنه فقير، ونحو ذلك مما يسب به الكفار رب العالمين.

وإن قالوا: كان قادرا فإن كان ذلك من عدوان الكفار على ناسوته وهو كاره لذلك، فسنة الله في مثل ذلك نصر رسله المستغيثين به، فكيف لم يغث ناسوته المستصرخ به، وهذا بخلاف من قتل من النبيين وهو صابر، فإن أولئك صبروا حتى قتلوا شهداء، والناسوت عندهم استغاث وقال: " إلهي إلهي لماذا تركتني "، وإن كان هو قد فعل ذلك مكرا، كما يزعمون أنه مكر بالشيطان وأخفى نفسه حتى يأخذه بوجه حق، فناسوته أعلم بذلك من جميع الخلق، فكان الواجب أن لا يجزع ولا يهرب لما في ذلك من الحكمة، وهم يذكرون من جزع الناسوت وهربه ودعائه ما يقتضي أن كل ما جرى عليه كان بغير اختياره، ويقول بعضهم: مشيئتهما واحدة، فكيف شاء ذلك وهرب مما يكرهه الناسوت؟ بل لو يشاء اللاهوت ما يكرهه كانا متباينين، وقد اتفقا على المكر بالعدو ولم يجزع الناسوت، كما جرى ليوسف مع أخيه لما وافقه على أنه يحمل الصواع في رحله، ويظهر أنه سارق لم يجزع أخوه لما ظهر الصواع في رحله، كما جزع إخوته حيث لم يعلموا، وكثير من الشطار العيارين يمسكون ويصلبون وهم ثابتون صابرون، فما بال هذا يجزع الجزع العظيم الذي يصفون به المسيح، وهو يقتضي غاية النقص العظيم مع دعواهم فيه الإلهية.

الوجه السادس: قولهم إنه كلمته وروحه تناقض منهم، لأنه عندهم أقنوم الكلمة فقط لا أقنوم الحياة.

الوجه السابع: قولهم: وقد برهن بقوله رأينا أيضا في موضع آخر قائلا: إن الله ألقى كلمته إلى مريم، وذلك حسب قولنا معشر النصارى: إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم واتحدت بإنسان كامل.

فيقال لهم: أما قول الله في القرآن فهو حق، ولكن ضللتم في تأويله كما ضللتم في تأويل غيره من كلام الأنبياء، وما بلغوه عن الله،

وذلك أن الله تعالى قال: إذ قالت الملائكة يامريم إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

ففي هذا الكلام وجوه تبين أنه مخلوق وليس هو ما يقوله النصارى:

منها أنه قال: (بكلمة منه) وقوله بكلمة منه نكرة في الإثبات تقتضي أنه كلمة من كلمات الله، ليس هو كلامه كله كما يقول النصارى.

ومنها: أنه يبين مراده بقوله: بكلمة منه، وأنه مخلوق حيث قال: كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

كما قال في الآية الأخرى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون

وقال تعالى في سورة كهيعص: ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون

فهذه ثلاث آيات في القرآن تبين أنه قال له: (كن فيكون) وهذا تفسير كونه كلمة منه.

وقال " اسمه المسيح عيسى ابن مريم " أخبر أنه ابن مريم، وأخبر أنه وجيه في الدنيا والآخرة ومن المقربين، وهذه كلها صفة مخلوق، والله تعالى وكلامه الذي هو صفته لا يقال فيه شيء من ذلك، وقالت مريم: أنى يكون لي ولد، فبين أن المسيح الذي هو الكلمة هو ولد مريم، لا ولد الله سبحانه وتعالى

وقال في سورة النساء:

يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

فقد نهى النصارى عن الغلو في دينهم، وأن يقولوا على الله غير الحق، وبين أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، وأمرهم أن يؤمنوا بالله ورسله، فبين أنه رسوله، ونهاهم أن يقولوا ثلاثة، وقال: انتهوا خيرا لكم، إنما الله إله واحد، وهذا تكذيب لقولهم في المسيح أنه إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، ثم قال: سبحانه أن يكون له ولد، فنزه نفسه وعظمها أن يكون له ولد كما تقوله النصارى، ثم قال: له ما في السماوات وما في الأرض فأخبر أن ذلك ملك له، ليس فيه شيء من ذاته، ثم قال: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون أي: لن يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لله تبارك وتعالى فمع هذا البيان الواضح الجلي، هل يظن ظان أن مراده بقوله (وكلمته) أنه إله خالق؟ أو أنه صفة لله قائمة به؟ وأن قوله: (وروح منه) المراد به أنه حياته، أو روحه منفصلة عن ذاته؟

ثم نقول أيضا: أما قوله (وكلمته) فقد بين مراده أنه خلقه بـ (كن) وفي لغة العرب التي نزل بها القرآن أن يسمى المفعول باسم المصدر، فيسمى المخلوق خلقا لقوله: هذا خلق الله، ويقال: درهم ضرب الأمير، أي: مضروب الأمير، ولهذا يسمى المأمور به أمرا، والمقدور قدرة وقدرا، والمعلوم علما، والمرحوم به رحمة، كقوله تعالى: وكان أمر الله قدرا مقدورا. وقوله: أتى أمر الله فلا تستعجلوه

وقال النبي ﷺ: " يقول الله للجنة: أنت رحمتي، أرحم بك من أشاء من عبادي، ويقول للنار: أنت عذابي، أعذب بك من أشاء من عبادي. " وقال: " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، أنزل منها رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق ويتعاطفون، وأمسك عنده تسعة وتسعين رحمة، فإذا كان يوم القيامة جمع هذه إلى تلك، فرحم بها الخلق " ويقال للمطر: هذه قدرة عظيمة، ويقال: غفر الله لك علمه فيك، أي معلومه، فتسمية المخلوق بالكلمة كلمة من هذا الباب.

وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب (الرد على الجهمية) وذكره غيره أن النصارى الحلولية والجهمية المعطلة اعترضوا على أهل السنة، فقالت النصارى: القرآن كلام الله غير مخلوق، والمسيح كلمة الله فهو غير مخلوق، وقالت الجهمية: المسيح كلمة الله وهو مخلوق، والقرآن كلام الله فيكون مخلوقا.

وأجاب أحمد وغيره: بأن المسيح نفسه ليس هو كلاما، فإن المسيح إنسان وبشر مولود من امرأة، وكلام الله ليس بإنسان ولا بشر ولا مولود من امرأة، ولكن المسيح خلق بالكلام، وأما القرآن فهو نفسه كلام الله. فأين هذا من هذا؟

وقد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من جهة اشتراك الأسماء، وما من عاقل إذا سمع قوله تعالى في المسيح أنه كلمته ألقاها إلى مريم، إلا يعلم أنه ليس المراد أن المسيح نفسه كلام الله، ولا أنه صفة الله ولا خالق.

ثم يقال للنصارى: فلو قدر أن المسيح نفس الكلام، فالكلام ليس بخالق، فإن القرآن كلام الله وليس بخالق، والتوراة كلام الله وليست بخالقة، وكلمات الله كثيرة وليس منها شيء خالق، فلو كان المسيح نفس الكلام لم يجز أن يكون خالقا، فكيف وليس هو الكلام، وإنما خلق بالكلمة، وخص باسم الكلمة، فإنه لم يخلق على الوجه المعتاد الذي خلق عليه غيره، بل خرج عن العادة فخلق بالكلمة من غير السنة المعروفة في البشر.

وقوله: (بروح منه) لا يوجب أن يكون منفصلا من ذات الله، كقوله تعالى: وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه

وقوله تعالى: وما بكم من نعمة فمن الله

وقال تعالى: ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك

لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة

فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة، وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم، وهي مخلوقة.

فالمسيح الذي هو روح من تلك الروح أولى أن يكون مخلوقا،

قال تعالى: فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا

وقد قال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا.

وقال: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين.

فأخبر أنه نفخ في مريم من روحه، كما أخبر أنه نفخ في آدم من روحه، وقد بين أنه أرسل إليها روحه فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته

فهذا الروح الذي أرسله الله إليها ليهب لها غلاما زكيا، مخلوق وهو روح القدس الذي خلق المسيح منه ومن مريم، فإذا كان الأصل مخلوقا فكيف الفرع الذي حصل منه وهو روح القدس؟ وقوله عن المسيح: (وروح منه) خص المسيح بذلك لأنه نفخ في أمه من الروح، فحبلت به من ذلك النفخ، وذلك غير روحه التي يشاركه فيها سائر البشر فامتاز بأن حبلت به من نفخ الروح، فلهذا سمي روحا منه.

ولهذا قال طائفة من المفسرين: روح منه، أي رسول منه سماه باسم الروح الرسول الذي نفخ فيها، فكما يسمى " كلمة " يسمى " روحا " لأنه كون بالكلمة، لا كما يخلق الآدميون غيره، ويسمى " روحا "، لأنه حبلت به أمه بنفخ الروح الذي نفخ فيها، لم تحبل به من ذكر كغيره من الآدميين، وعلى هذا فيقال: لما خلق من نفخ الروح ومن مريم سمي " روحا " بخلاف سائر الآدميين، فإنه يخلق من ذكر وأنثى، ثم ينفخ فيه الروح بعد مضي أربعة أشهر.

والنصارى يقولون في أمانتهم: (تجسد من مريم ومن روح القدس) ولو اقتصروا على هذا، وفسروا روح القدس بالملك الذي نفخ فيها وهو روح الله، لكان هذا موافقا لما أخبر الله به، لكنهم جعلوا روح القدس حياة الله وجعلوه ربا وتناقضوا في ذلك، فإنه على هذا كان ينبغي فيه أقنومان: أقنوم الكلمة، وأقنوم الروح، وهم يقولون: ليس فيه إلا أقنوم الكلمة، وكما يسمى المسيح كلمة لأنه خلق بالكلمة، يسمى " روحا " لأنه حل به من الروح.

فإن قيل: فقد قال في القرآن: والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك. وقال: تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. وقد قال أئمة المسلمين وجمهورهم: " القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ " وقال في المسيح: " وروح منه "؛ قيل: هذا بمنزلة سائر المضاف إلى الله إن كان عينا قائمة بنفسها أو صفة فيها كان مخلوقا، وإن كان صفة مضافا إلى الله كعلمه وكلامه ونحو ذلك كان إضافة صفة، وكذلك ما كان منه إن كان عينا قائمة أو صفة قائمة بغيرها كما في السماوات والأرض والنعم، والروح الذي أرسله إلى مريم، وقال: " إنما أنا رسول ربك " كان مخلوقا، وإن كان صفة لا تقوم بنفسها ولا يتصف بها المخلوق كالقرآن لم يكن مخلوقا، فإن ذلك قائم بالله، وما يقوم بالله لا يكون مخلوقا، والمقصود هنا بيان بطلان احتجاج النصارى وأنه ليس لهم في ظاهر القرآن ولا باطنه حجة في سائر كتب الله، وإنما تمسكوا بآيات متشابهات وتركوا المحكم، كما أخبر الله عنهم بقوله: هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله

والآية نزلت في النصارى، فهم مرادون من الآية قطعا، ثم قال: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا. وفيها قولان وقراءتان، منهم من يقف عند قوله: (إلا الله)، ويقول: الراسخون في العلم لا يعلمون تأويل المتشابه، لا يعلمه إلا الله. ومنهم من لا يقف، بل يصل بذلك قوله تعالى: والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ويقول: الراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه وكلا القولين مأثور عن طائفة من السلف، وهؤلاء يقولون: قد يكون الحال من المعطوف دون المعطوف عليه كما في قوله تعالى " والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا " أي قائلين، وكلا القولين حق باعتبار، فإن لفظ التأويل يراد به التفسير ومعرفة معانيه.

والراسخون في العلم يعلمون تفسير القرآن، قال الحسن البصري: لم ينزل الله آية إلا وهو يحب أن يعلم في ماذا نزلت، وماذا عنى بها.

وقد يعنى بالتأويل ما استأثر الله بعلمه من كيفية ما أخبر به عن نفسه وعن اليوم الآخر، ووقت الساعة ونزول عيسى، ونحو ذلك، فهذا التأويل لا يعلمه إلا الله، وأما لفظ التأويل إذا أريد به صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما يخالف ذلك لدليل يقترن به، فلم يكن السلف يريدون بلفظ التأويل هذا ولا هو معنى التأويل في كتاب الله عز وجل. ولكن طائفة من المتأخرين خصوا لفظ التأويل بهذا، بل لفظ التأويل في كتاب الله يراد به ما يئول إليه الكلام، وإن وافق ظاهره، كقوله تعالى: هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل.

ومنه تأويل الرؤيا، كقول يوسف الصديق: هذا تأويل رؤياي من قبل

وكقوله: إلا نبأتكما بتأويله.

وقوله: ذلك خير وأحسن تأويلا. وهذا مبسوط في موضع آخر.

والمقصود هنا أنه ليس للنصارى حجة لا في ظاهر النصوص، ولا في باطنها، كما قال تعالى: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه

والكلمة عندهم هي جوهر، وهي رب لا يخلق بها الخالق، بل هي الخالقة لكل شيء، كما قالوا في كتابهم: (إن كلمة الله الخالقة الأزلية حلت في مريم)، والله تعالى قد أخبر أنه سبحانه ألقاها إلى مريم، والرب سبحانه هو الخالق، والكلمة التي ألقاها ليست خالقة، إذ الخالق لا يلقيه شيء بل هو يلقي غيره، وكلمات الله نوعان: كونية، ودينية.

فالكونية: كقوله للشيء: كن فيكون.

والدينية: أمره وشرعه الذي جاءت به الرسل، وكذلك أمره وإرادته وإذنه وإرساله وبعثه ينقسم إلى هذين القسمين، وقد ذكر الله تعالى إلقاء القول في غير هذا،

وقد قال تعالى: ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا

وقال تعالى: وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون وألقوا إلى الله يومئذ السلم

وقال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة

وأما لقنته القول ولقيته فتلقاه، فذلك إذا أردت أن تحفظه بخلاف ما إذا ألقيته إليه، فإن هذا يقوله فيما يخاطبه به وإن لم يحفظه، كمن ألقيت إليه القول بخلاف القول إنكم لكاذبون، وألقوا إليهم السلام، وليس هنا إلا خطاب سمعوه لم يحصل نفس صفة المتكلم في المخاطب، فكذلك مريم إذا ألقى الله كلمته إليها وهي قول: " كن " لم يلزم أن تكون نفس صفته القائمة به حلت في مريم، كما لم يلزم أن تكون صفته القائمة به حلت في سائر من ألقى إليه كلامه، كما لا تحصل صفة كل متكلم فيمن يلقى إليه كلامه.

فصل: بيان اضطراب النصارى وتفرقهم في طبيعة المسيح

وأما قولهم: وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لاهوتية: التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية: التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به.

فيقال لهم: كلام النصارى في هذا الباب مضطرب مختلف متناقض، وليس لهم في ذلك قول اتفقوا عليه، ولا قول معقول، ولا قول دل عليه كتاب، بل هم فيه فرق وطوائف كل فرقة تكفر الأخرى، كاليعقوبية والملكانية والنسطورية، ونقل الأقوال عنهم في ذلك مضطربة كثيرة الاختلاف. ولهذا يقال: لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا على أحد عشر قولا، وذلك أن ما هم عليه من اعتقادهم من التثليث والاتحاد، كما هو مذكور في أمانتهم، لم ينطق به شيء من كتب الأنبياء، ولا يوجد لا في كلام المسيح ولا الحواريين ولا أحد من الأنبياء، ولكن عندهم في الكتب ألفاظا متشابهة وألفاظا محكمة يتنازعون في فهمها، ثم القائلون منهم بالأمانة وهم عامة النصارى اليوم من الملكانية والنسطورية واليعقوبية مختلفون في تفسيرها، ونفس قولهم متناقض يمتنع تصوره على الوجه الصحيح.

فلهذا صار كل منهم يقول ما يظن أنه أقرب من غيره، فمنهم من يراعي لفظ أمانتهم وإن صرح بالكفر الذي يظهر فساده لكل أحد كاليعقوبية، ومنهم من يستر بعض ذلك كالنسطورية، وكثير منهم وهم الملكانية بين هؤلاء وهؤلاء، ولما ابتدعوا ما ابتدعوا من التثليث والحلول، كان فيهم من يخالفهم في ذلك.

وقد يوجد نقل الناس لمقالاتهم مختلفا، وذلك بحسب قول الطائفة التي ينقل ذلك الناقل قولها، والقول الذي يحكيه كثير من نظار المسلمين يوجد كثير منهم على خلافه، كما نقلوا عنهم ما ذكره أبو المعالي وصاحبه أبو القاسم الأنصاري، وغيرهما: أن القديم واحد بالجوهر، ثلاثة بالأقنوم، وأنهم يعنون بالأقنوم: الوجود والحياة والعلم. ونقلوا عنهم: أن الحياة والعلم ليسا بوصفين زائدين على الذات موجودين، بل هما صفتان نفسيتان للجوهر، قالوا: ولو مثل مذهبهم بمثال لقيل: إن الأقانيم عندهم تنزل منزلة الأحوال والصفات النفسية عند مثبتيها من المسلمين، فإن سوادية اللون ولونيته صفتان نفسيتان للعرض، قال: وربما يعبرون عن الأقانيم بالأب وروح القدس، فيعنون بالأب الوجود، وبالابن المسيح والكلمة، وربما سموا العلم كلمة، والكلمة علما، ويعبرون عن الحياة بالروح، قال: ولا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم من صفات الفعل، ولا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح واتحاده به ابنا، بل المسيح عندهم مع ما تدرع به ابن، قالوا: ومن مذهبهم أن الكلمة اتحدت بالمسيح وتدرعت بالناسوت، ثم اختلفوا في معنى الاتحاد فمنهم من فسره بالاختلاط والامتزاج، وهذا مذهب طوائف من اليعقوبية والنسطورية والملكانية، قالوا: إن الكلمة خالطت جسد المسيح ومازجته كما مازج الخمر الماء أو اللبن، قالوا: وهذا مذهب الروم ومعظمهم الملكانية، قالوا: فمازجت الكلمة جسد المسيح فصارت شيئا واحدا وصارت الكثرة قلة.

وذهبت طائفة من اليعاقبة إلى أن الكلمة انقلبت لحما ودما، وقالوا: وصارت شرذمة من كل صنف إلى أن المراد بالاتحاد ظهور اللاهوت على الناسوت كظهور الصورة في المرآة، والنقش في الخاتم.

ومنهم من قال: ظهور اللاهوت على الناسوت كاستواء الإله على العرش عند المسلمين، وذهب كثير من هذه الطوائف إلى أن المراد بالاتحاد الحلول. قالوا: وقد اختلفوا أيضا في الجوهر والأقانيم فذهبت اليعقوبية والنسطورية إلى أن الجوهر ليس بغير الأقانيم. ولا يقال: إنه هي، وصرحت الملكانية بأنه غير الأقانيم، وآخرون قالوا: هو الأقانيم.

قالوا: وافترقت النصارى من وجه آخر، فذهبت الروم إلى التصريح بإثبات ثلاثة آلهة، وامتنعت اليعقوبية والنسطورية من ذلك في وجه والتزموه من وجه، وذلك أنهم قالوا: الكلمة إله والروح إله والأب إله، والثلاثة الأقانيم التي كل أقنوم إله، إله واحد.

قالوا: وذهبت شرذمة من النصارى إلى أن عيسى كان ابنا لله على جهة الكرامة، فكما اتخذ الله إبراهيم خليلا، كذلك اتخذ عيسى ابنا.

قالوا: وهؤلاء يقال لهم: الأريوسية. فهذا نقل طائفة من نظار المسلمين، وهذا قول لمن قاله من النصارى، وفيه ما هو مخالف لصريح أمانتهم وما عليه جمهورهم، مثل قوله: إنهم لا يسمون العلم قبل تدرعه بالمسيح ابنا، بل المسيح مع ما تدرع به ابن، فإن هذا خلاف ما عليه فرق النصارى من الملكانية واليعقوبية والنسطورية، وخلاف ما تضمنته أمانتهم، إذ صرحوا فيها بأن الكلمة ابن قديم أزلي مولود قبل الدهور، وهذا صفة اللاهوت عندهم، وفيها أشياء يقولها بعض النصارى لا كلهم، وكذلك نقلهم عنهم أنهم لا يريدون بالكلمة الكلام، فإن الكلام عندهم صفة فعل، وهذا قول طائفة منهم ومن اليهود، وكثير منهم أو أكثرهم يقولون: إن كلام الله غير مخلوق، وينكرون على من يقول إنه مخلوق.

ونقلت طائفة أخرى منهم أبو الحسن بن الزاغوني عنهم ما يوافق هذا من وجه دون وجه، فقالوا: اتفقت طوائف النصارى على أن الله ليس بجسم، واتفقوا على أنه جوهر واحد ثلاثة أقانيم، وأن كل واحد من الأقانيم جوهر خاص يجمعها الجوهر العام، ثم اختلفوا، فقال بعضهم: إن الأقانيم مختلفة في الأقنومية، متفقة في الجوهرية.

وقال آخرون: ليست مختلفة في الأقنومية، بل متغايرة، وقال فريق منهم: إن كل واحد منها لا هو الآخر، ولا هو غيره، وليست متغايرة ولا مختلفة، وزعموا أن الجوهر ليس هو غيرها إلا ما ذكر عن طائفة من الملكانية، فإنهم قالوا: إن الأقانيم هي الجوهر غير الأقانيم، وزعموا أن الجوهر هو الأب، والأقانيم الحياة، وهي روح القدس، والقدرة، والعلم، وأن الله اتحد بأحد الأقانيم الذي هو الابن بعيسى ابن مريم، وكان مسيحا عند الاتحاد، لاهوتا وناسوتا، حمل، وولد، ونشأ، وقتل، وصلب، ودفن.

واختلفوا أيضا فقالت النسطورية: إن المسيح جوهران أقنومان قديم ومحدث، وأن اتحاده إنما هو بالمشيئة، وأن مشيئتهما واحدة وإن كانا جوهرين.

وقالت اليعقوبية: لما اتحدا صار الجوهران الجوهر القديم والجوهر المحدث جوهرا واحدا.

واختلفوا هاهنا فقال بعضهم: الجوهر المحدث صار قديما، وزعم آخرون أنهما لما اتحدا صارا جوهرا واحدا قديما من وجه محدثا من وجه آخر.

وقالت الملكانية: إن المسيح جوهران أقنوم واحد. وحكي عن بعضهم أنه أقنومان جوهر واحد، وقالت الأريوسية: إن الله ليس بجسم ولا أقانيم له، وأن المسيح لم يصلب ولم يقتل، وأنه نبي، وحكي عن بعضهم أنه قال: المسيح ليس بابن الله، وحكى عن بعضهم أنه ابن الله على التسمية والتقريب.

واختلفوا في الكلمة الملقاة إلى مريم، فقالت طائفة منهم: إن الكلمة حلت في مريم حلول الممازجة، كما يحل الماء في اللبن فيمازجه ويخالطه. وقالت طائفة منهم: إنها حلت في مريم من غير ممازجة، كما أن شخص الإنسان يحل في المرآة وفي الأجسام الصقيلة من غير ممازجة.

وزعمت طائفة من النصارى أن الناسوت مع اللاهوت كمثل الخاتم مع الشمع، يؤثر فيه بالنقش، ثم لا يبقى منه شيء إلا أثره.

قال أبو الحسن بن الزاغوني ومن معه: واختلفت النصارى في الأقانيم فقال قوم منهم: هي جواهر، وقال قوم: هي خواص، وقال قوم هي صفات، وقال قوم: هي أشخاص، والأب عندهم الجوهر الجامع للأقانيم، والابن هو الكلمة التي اتحدت عند مبدأ المسيح، والروح هي الحياة، واجتمعوا على أن الاتحاد صفة فعل وليس بصفة ذات.

قالوا: واختلف قولهم في الاتحاد اختلافا متباينا، فزعم قوم منهم أن الاتحاد هو أن الكلمة التي هي الابن حلت جسد المسيح وقيل: هذا قول الأكثرين منهم.

وزعم قوم منهم أن الاتحاد: هو الاختلاط والامتزاج، وقال قوم من اليعقوبية: هو أن كلمة الله قد انقلبت لحما ودما بالاختلاط، وقال كثير من اليعقوبية والنسطورية: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط الماء بالخمر وامتزاجهما، وكذلك الخمر باللبن.

وقال قوم منهم: الاتحاد هو أن الكلمة والناسوت اتحدا فصارا هيكلا واحدا.

وقال قوم منهم: الاتحاد مثل ظهور صورة الإنسان في المرآة، وكظهور الطابع في المطبوع، مثل الخاتم في الشمع، وقال قوم منهم: الكلمة اتحدت بجسد المسيح على معنى أنها حلته من غير مماسة ولا ممازجة، كما نقول: الله في السماء على العرش من غير مماسة ولا ممازجة، وكما نقول: إن العقل جوهر حال في النفس من غير مخالطة للنفس ولا مماسة لها. وقالت الملكانية: الاتحاد أن الاثنين صارا واحدا وصارت الكثرة قلة.

وهذا الذي نقله عنهم أبو الحسن الزاغوني هو نحو ما نقله عنهم القاضي أبو بكر بن الطيب والقاضي أبو يعلى وغيرهما، وقال أبو محمد بن حزم: النصارى فرق منهم أصحاب أريوس، وكان قسيسا بالأسكندرية، ومن قوله: التوحيد المجرد وأن عيسى عبد مخلوق، وأنه كلمة الله التي بها خلق السماوات والأرض، وكان في زمن " قسطنطين " الأول باني القسطنطينية وأول من تنصر من ملوك الروم، وكان على مذهب أريوس هذا.

قال: ومنهم أصحاب بولس الشمشاطي، وكان بطرياركا بأنطاكية قبل ظهور النصرانية وكان قوله بالتوحيد المجرد الصحيح، وأن عيسى عبد الله ورسوله كأحد الأنبياء عليهم السلام خلقه الله في بطن أمه مريم من غير ذكر، وأنه إنسان لا إلهية فيه البتة، وكان يقول: لا أدري ما الكلمة ولا الروح القدس، قال: وكان منهم أصحاب مقدنيوس، كان بطرياركا بالقسطنطينية بعد ظهور النصرانية أيام قسطنطين بن قسطنطين باني القسطنطينية، وكان هذا الملك أريوسيا كأبيه، وكان من قول مقدونيوس هذا التوحيد المجرد وأن عيسى عبد مخلوق إنسان نبي رسول كسائر الأنبياء عليهم السلام، وأن عيسى هو روح القدس وكلمة الله، وأن روح القدس والكلمة مخلوقان، خلق الله كل ذلك، قال: وكان منهم البربرانية، وهم يقولون: إن عيسى وأمه إلهان من دون الله تعالى. قال: وهذه الفرق قد بادت، وعمدتهم اليوم ثلاث فرق، وأعظمها فرق الملكانية، وهي مذهب جميع ملوك النصارى حيث كانوا حاشا الحبشة والنوبة ومذهب عامة أهل كل مملكة النصارى حاشا النوبة والحبشة وهو مذهب جميع نصارى أفريقية وصقلية والأندلس وجمهور الشام، وقولهم أن الله تعالى الله عن قولهم ثلاثة أشياء: أب، وابن، وروح القدس، كلها لم تزل، وأن عيسى إله تام كله وإنسان تام ليس أحدهما غير الآخر، وأن الإنسان منه هو الذي صلب وقتل، وأن الإله منه لم ينله شيء من ذلك، وأن مريم ولدت الإله والإنسان، وأنهما معا شيء واحد ابن الله تعالى الله عن كفرهم.

وقالت النسطورية مثل ذلك سواء بسواء، إلا أنهم قالوا: إن مريم لم تلد الإله، وإنما ولدت الإنسان، وأن الله لم يلد الإنسان، وإنما ولد الإله تعالى الله عن كفرهم، وهذه الفرقة غالبة على الموصل والعراق وفارس وخراسان، وهم منسوبون إلى نسطور، وكان بطرياركا بالقسطنطينية.

وقالت اليعقوبية: إن المسيح هو الله نفسه، وأن الله تعالى الله عن عظيم كفرهم مات وصلب وقتل، وأن العالم بقي ثلاثة أيام بلا مدبر، والفلك بلا مدبر، ثم قام ورجع كما كان، والله تعالى عاد محدثا، والمحدث عاد قديما، والله تعالى كان في بطن مريم محمولا به، وهم في أعمال مصر وجميع النوبة وجميع الحبشة، وملوك الأمتين المذكورتين.

رسالة الحسن بن أيوب عن سبب إسلامه

قلت: ومن أخبر الناس بمقالاتهم من كان من علمائهم، وأسلم على بصيرة بعد الخبرة بكتبهم ومقالاتهم، كالحسن بن أيوب [4] الذي كتب رسالة إلى أخيه علي بن أيوب يذكر فيها سبب إسلامه ويذكر الأدلة على بطلان دين النصارى وصحة دين الإسلام، قال في رسالته إلى أخيه لما كتب إليه يسأله عن سبب إسلامه بعد أن ذكر خطبته: " ثم أعلمك أرشدك الله أن ابتداء أمري في الشك الذي دخلني فيما كنت عليه والاستبشاع بالقول به من أكثر من عشرين سنة لما كنت أقف عليه في المقالة من فساد التوحيد لله عز وجل بما أدخل فيه من القول بالثلاثة الأقانيم وغيرها مما تضمنته شريعة النصارى، ووضع الاحتجاجات التي لا تزكو ولا تثبت في تقرير ذلك، وكنت إذا تبحرته وأجلت الفكر فيه، بان لي عواره، ونفرت نفسي من قبوله، وإذا فكرت في دين الإسلام الذي من الله علي به، وجدت أصوله ثابتة وفروعه مستقيمة وشرائعه جميلة.

وأصل ذلك ما لا يختلف فيه أحد ممن عرف الله عز وجل منكم ومن غيركم وهو الإيمان بالله الحي القيوم السميع البصير الواحد الفرد الملك القدوس الجواد العدل إله إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وإله موسى وعيسى وسائر النبيين والخلق أجمعين، الذي لا ابتداء له ولا انتهاء، ولا ضد ولا ند، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا، الذي خلق الأشياء كلها لا من شيء ولا على مثال، بل كيف شاء وبأن قال لها: " كوني " فكانت على ما قدر وأراد، وهو العليم القدير الرءوف الرحيم الذي لا يشبهه شيء، وهو الغالب فلا يغلب، والجواد فلا يبخل، لا يفوته مطلوب، ولا تخفى عليه خافية، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وكل مذكور أو موهوم هو منه، وكل ذلك به، وكل له قانتون، ثم نؤمن بأن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، ونؤمن بموسى وعيسى وسائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لا نفرق بين أحد منهم، ونؤمن بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن وسائر الكتب التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأن الأبرار لفي نعيم وأن الفجار لفي جحيم يصلونها يوم الدين، ذلك بما كسبت أيديهم وأن الله ليس بظلام للعبيد.

قال: وكان يحملني إلف ديني وطول المدة والعهد عليه والاجتماع مع الآباء والأمهات والإخوة والأخوات والأقارب والإخوان والجيران وأهل المودات على التسويف بالعزم، والتلبث على إبرام الأمر، ويعرض مع ذلك الفكر في إمعان النظر والازدياد في البصيرة، فلم أدع كتابا من كتب أنبياء التوراة والإنجيل والزبور وكتب الأنبياء والقرآن إلا نظرت فيه وتصفحته، ولا شيئا من مقالات النصرانية إلا تأملته، فلما لم أجد للحق مدفعا، ولا للشك فيه موضعا، ولا للأناة والتلبث وجها، خرجت مهاجرا إلى الله عز وجل بنفسي هاربا بديني عن نعمة وأهل مستقر ومحل وعز ومتصرف في عمل، فأظهرت ما أظهرته عن نية صحيحة، وسريرة صادقة، ويقين ثابت، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، وإياه تعالى نسأل أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا منه رحمة، إنه هو الوهاب.

قال: ولما نظرت في مقالات النصارى وجدت صنفا منهم يعرفون بالأريوسية يجردون توحيد الله ويعترفون بعبودية المسيح ولا يقولون فيه شيئا مما يقوله النصارى من ربوبية ولا بنوة خاصة ولا غيرهما، وهم متمسكون بإنجيل المسيح مقرون بما جاء به تلاميذه والحاملون عنه، فكانت هذه الطبقة قريبة من الحق مخالفة لبعضه في جحود نبوة محمد ﷺ ودفع ما جاء به من الكتاب والسنة.

قال: ثم وجدت منهم صنفا يعرفون باليعقوبية، يقولون: إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: إحداهما طبيعة الناسوت والأخرى طبيعة اللاهوت، وأن هاتين الطبيعتين تركبتا كما تركبت النفس مع البدن فصارتا إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا، وأن هذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله، وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين.

وقالوا: إن مريم ولدت الله، تعالى الله عما يقولون، وإن الله مات وتألم وصلب متجسدا، ودفن وقام من بين الأموات وصعد إلى السماء، فجاءوا من القول بما لو عرض على السماء لانفطرت، أو على الأرض لانشقت، أو على الجبال لانهدت، فلم يكن لمحاجة هؤلاء وجه، إذ كان كفرهم بما صرحوا به أوضح من أن يقع فيه الشك، وكان غيرهم من النصارى كالمالكانية والنسطورية يشهدون بذلك عليهم.

قال: ثم نظرت في قول الملكانية وهم الروم وهم أكثر النصارى فوجدتهم قالوا: إن الابن الأزلي الذي هو الله الكلمة تجسد من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس، وركب في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناس، وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناسوت مثل إبراهيم وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده وثبت له جوهر اللاهوت كما لم يزل يصح له جوهر الناسوت الذي لبسه من مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة مثل مشيئة إبراهيم وداود.

وقالوا: إن مريم ولدت إلها، وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، مات، وقالوا: إن الله لم يمت، والذي ولدت مريم قد مات بجوهر ناسوته (فهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله مشيئة اللاهوت ومشيئة الناسوت، وهو شخص واحد لا نقول شخصان لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم.

قال: فهؤلاء أتوا من ذلك بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله، تعالى الله عما يقول الظالمون، وقالوا: إن المسيح وهو اسم لا تشك جماعة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت مات، وأن الله لم يمت، فكيف يكون ميتا لم يمت، وقائما قاعدا في حال واحدة؟ وهل بين المقالتين فرق إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع؟

قال: ثم نظرت في قول النسطورية فوجدتهم قالوا: إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت التي للمسيح غير طبيعة ناسوته، وأن طبيعة اللاهوت لما توحدت بالناسوت بشخصها الكلمة التي صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان، ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بتلك إلها وإنسانا، فهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص، وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان.

وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ توحدت بناسوته.

وقال: فوجدنا اليعقوبية قد صرحوا بأن مريم ولدت الله، تعالى عما يصفه المبطلون ويقوله العادلون، وأنه تألم وصلب ومات، وقام بعد ثلاثة أيام من بين الموتى، وهذا الكفر الذي تشهد به عليهم سائر ملل النصارى وغيرهم، ووجدنا الملكانية قد حادوا عن هذا التصريح إلى ما هو دونه في الظاهر، فقالوا: إن المسيح شخص واحد وطبيعتان، فلكل واحدة من الطبيعتين مشيئة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب والروح، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود. وأوهموا الواقف على قولهم أنهم بما اخترعوه من هذا الاختيار قد فرقوا بين اللاهوت والناسوت، ثم عادوا إلى قول اليعقوبية، فقالوا: إن مريم ولدت إلها وأن المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت عند جماعتهم لا يشكون في ذلك، مات بالجسد وأن الله لم يمت، والذي قد ولدته مريم قد مات بجوهر ناسوته، فكيف يكون ميت لم يمت؟ وهل بين المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع فرق؟ وإذا كانوا قد اعترفوا بأن مريم ولدت الله، وأن الذي ولدته مريم وهو المسيح الاسم الجامع للجوهرين، للاهوت والناسوت قد مات، فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي تحكي النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليهما؟ فكيف يصح لذي عقل عبادة مولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟

قلت: ومما يوضح تناقضهم أنهم يقولون: إن المسيح وهو اللاهوت والناسوت شخص واحد وأقنوم واحد مع قولهم أنهما جوهران بطبيعتين ومشيئتين فيثبتون للجوهرين أقنوما واحدا، ويقولون: هو شخص واحد، ثم يقولون: إن رب العالمين إله واحد، وأقنوم واحد، وجوهر واحد، وهو ثلاثة أقانيم، فيثبتون للجوهر الواحد ثلاثة أقانيم، وللجوهرين المتحدين أقنوما واحدا، مع أن مشيئة الأقانيم الثلاثة عندهم واحدة، والناسوت واللاهوت يثبتون لهما مشيئتين وطبيعتين، ومع هذا هما عندهم شخص واحد، أقنوم واحد، وهذا يقتضي غاية التناقض سواء فسروا الأقنوم بالصفة، أو الشخص، أو الذات مع الصفة، أو أي شيء قالوه. وهو يبين أن الذين تكلموا بهذا الكلام ما تصوروا ما قالوه، بل كانوا ضلالا جهالا، بخلاف ما يقوله الأنبياء فإنه حق، فلهذا لا يوجد عن المسيح ولا غيره من الأنبياء ما يوافق قولهم في التثليث والأقانيم والاتحاد ونحو ذلك مما ابتدعوه بغير سمع وعقل، بل ألقوا أقوالا مخالفة للشرع والعقل.

ثم قال الحسن بن أيوب: ثم وجدنا النصارى المعروفين بالنسطورية قد خالفوا اليعقوبية والملكانية في قولهم بشخصين لهما مشيئة واحدة، وأن الطبيعتين اتحدتا فصارتا بجهة واحدة، ثم عادوا إلى شبيه قولهم في أن مريم ولدت المسيح، فإذا كانت ولدت المسيح فقد لزمهم ووجب عليهم الإقرار بأنها ولدت هذا اللاهوت والناسوت المتحدين. وقد رجع المعنى إلى قول اليعقوبية، إلا أنهم اختاروا لذلك ألفاظا زوقوها وقدروا بها التمويه على السامع، ولم يصرحوا بالقول كتصريح اليعقوبية؛ لأن المتحد بالشيء هو الممازج له والمجتمع معه حتى صار مازجه وهو شيئا واحدا، ثم أكدوا القول بإقرارهم أن الناسوت منذ اتحد باللاهوت لم يفارقه، فما لم يفارق الشيء هل هو إلا يجري مجراه في سائر متفرقاته من ضر ونفع، وخير وشر، وحاجة وغنى؟

قال: وأما قولهم: إن مريم ولدت المسيح بناسوته فهذه أغلوطة، وإلا فكيف يولد ولد متحد بشيء آخر مجامع له دون ذلك الشيء؟ وكيف يكون ذاك وهم يقولون إنه لم يفارقه قط؟ وهل يصح هذا عند أهل النظر؟ أوليس الحكم عند كل ناظر ومن كل ذي عقل يوجب أن تكون الولادة واقعة على اللاهوت والناسوت معا؟ بمعنى الاتحاد وبمعنى الاسم الجامع للاهوت والناسوت وهو المسيح، وكذلك الحمل بهما جميعا، وأن يكون البطن قد حواهما؟

قال: فإن لجوا في الباطل ودافعوا عن قبيح هذه المقالة، ومالوا إلى تحسينها بالتمويهات المشككة لمن قصرت معرفته، فنحن نقيم عليهم شاهدا من أنفسهم لا يمكنهم دفعه، وذلك أن شريعة إيمانهم التي ألفها لهم رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة والأحبار في دينهم وذوي العلم منهم بحضرة الملك عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة " قسطنطينية " وكانوا ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا، يصفون أنهم نطقوا بها بروح القدس، وهي التي لم تختلف جماعتهم عند اختلافهم في المقالات فيها، ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي نبينه: نؤمن بالله الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر البشر، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا، وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصلب أيام قيطوس بن بيلاطوس، ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح، ومجيئه، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليخية جاثليقية، وبقيامة أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.

قال: فهذه الشريعة يجتمع على الإيمان بها، وبذل المهج فيها، وإخراج الأنفس دونها جماهيرهم من الملكانية واليعقوبية والنسطورية.

وقد اعترفوا فيها جميعا بأن الرب المسيح الذي هذه صفته على ما اقتصصناه منها الإله الحق من الإله الحق، نزل من السماء وتجسد من روح القدس، وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب.

قال: فهل في هذا الإقرار شبهة أو علقة يتعلق بها العنت المدافع عن الحجة؟ فتدبروا هذا القول يا معشر النصارى، فإنه لا يمكن أحد منكم أن يخرج عنه، ولا أن يدفع ما صرح به، فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فمريم على قولكم ولدت الله، سبحانه وتعالى عما يقولون، وإن قلتم: إنه إنسان فمريم ولدت إنسانا، وفي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم، فاختاروا أي القولين شئتم، فإن فيه نقض الدين.

قال: وقد يجب على ذوي العقول أن تزجرهم عقولهم عن عبادة إله ولدته مريم، وهي امرأة آدمية، ثم مكث على الأرض ثلاثين سنة تجري عليه أحكام الآدميين من غذاء وتربية، وصحة وسقم، وخوف وأمن، وتعلم وتعليم، لا يتهيأ لكم أن تدعوا أنه كان منه في تلك المدة من أسباب اللاهوتية شيء، ولا له من أحوال الآدميين كلها من حاجتهم وضروراتهم وهمومهم ومحنهم وتصرفاتهم مخرج، ثم أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من إظهار أمر الله تعالى والنبوات والآيات الباهرة المعجزة بقوة الله تعالى، وقد كان من غيره من الأنبياء مثلها وما هو أعلى منها، فكانت مدته في ذلك أقل من ثلاث سنين، ثم انقضى أمره بما يصفون أنه انقضى به وينسبونه إليه من حبس وضرب وقذف، وصلب وقتل، فهل تقبل العقول ما يقولون من أن إلها نال عباده منه، مثل ما تذكرون أنه نيل منه؟

فإن تأولتم أن ذلك حل بالجسم، وليس بالقياس يحتمل ذلك لما شرحناه من معنى اتحاد اللاهوت به، أفليس قد وقع بجسم توحدت اللاهوتية به، وحلت الروح فيه، وقد أنجبه الله على ما تزعمون وتصفون لخلاص الخلق، وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي يجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب، وقد وجدناكم تؤثرون أخبارا في قوم عرضوا التوابيت فيها شهداء لكم بأن الأيدي التي بسطت إليها جفت، أو هل نال أحدا من الجزع والهلع والغم والقلق والتضرع إلى الله في إزالة ما حل به، مثل ما يحكى في الإنجيل أنه ناله، ووجدنا الكتب تنبئ بأنه نيل من جورجيس أحد من كان على دين المسيح ﷺ من العذاب الشديد بالقتل والحرق والنشر بالمناشير ما لم يسمع بمثله في أحد من الخلق، ونال خلقا كثيرا من تلامذته أيضا عذاب شديد.

وقيل: لما كان الملوك المحاربون لهم يسومونهم إياه من الرجوع عن أديانهم إلى الكفر الذي كان أولئك الملوك عليه فصبروا على ذلك واحتسبوا أنفسهم، فلم يهربوا من الموت، وقد كان يمكنهم الهرب من بلد إلى بلد، والاستتار وإخفاء أشخاصهم، وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعا ولا هلعا، وهم بعض الآدميين التابعين له، لأنه خفف عنهم ما كانوا ينالون به بتأييد الله عز وجل إياهم.

قال: ثم نقول قولا آخر: قد نستدل على صحة هذه الشريعة من سقمها بأربعة أوجه، لا يقع في شيء منها شك ولا طعن، ولا زيادة ولا نقصان، وهي أصل أمر المسيح عندكم:

فأولها البشرى التي أتى بها جبريل

والثانية: قول يحيى بن زكريا الذي شهد له المسيح بأنه لم تقم النساء عن مثله.[5]

والثالثة: النداء المسموع من السماء.[6]

والرابعة: قول المسيح عن نفسه حين سأله يحيى عن شأنه.[7] والذي قال جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها: (السلام عليك أيتها الممتلئة نعما، ربنا معك أيتها المباركة في النساء. فلما رأته مريم ذعرت منه، فقال: لا ترهبي يا مريم فقد فزت بنعمة من ربك، فها أنت تحبلين وتلدين ابنا وتسميه يسوع ويكون كبيرا، ويسمى ابن الله العلي، ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود، ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد. فقالت مريم: أنى يكون لي ذلك ولم يمسسني رجل؟ قال لها الملك: إن روح القدس يأتيك، أو قال: يحل فيك، وقوة العلي تحبلك، من أجل ذلك يكون الذي يولد منك قديسا، ويسمى ابن الله العلي).[8]

قال: فلم نر الملك قال لها: إن الذي تلدين هو خالقك، وهو الرب كما سميتموه، بل أزال الشك في ذلك بأن قال: إن الله الرب يعطيه كرسي أبيه داود، ويصطفيه ويكرمه، وأن داود النبي أبوه، وأنه يسمى ابن الله، وما قال أيضا: (إنه يكون ملكا على الأرض) وإنما جعل له الملك على بني إسرائيل فقط، وقد علمتم أن من يسمى بابن الله كثير لا يحصون، فمن ذلك إقراركم بأنكم جميعا أبناء الله بالمحبة، [9] وقول المسيح: (أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم)، [10] في غير موضع من الإنجيل، ثم تسمية الله يعقوب وغيره بنيه خصوصا، [11] فالسبيل في المسيح إذا لم تلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار، ونسبة الملك إياه إلى أبيه داود تحقق أن أباه داود، وأن التسمية الأولى على جهة الاصطفاء والمحبة، وأن حلول الروح عليه على الجهة التي قالها " متى " التلميذ للشعب عن المسيح في الإنجيل: (لستم أنتم متكلمين، بل روح الله تأتيكم تتكلم فيكم).[12]

فأخبر أن الروح تحل في القوم أجمعين وتتكلم فيهم، وقال الملك في بشارته لمريم بالمسيح : إنه يكون ملكا على آل يعقوب. فخص آل يعقوب بتملكه عليهم دون غيرهم من الناس، ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق، ومعنى قول جبريل لمريم: (ربنا معك) مثل معنى قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء: (إني معكم) فقد قال ليوشع بن نون: (إني أكون معك، كما كنت مع موسى عبدي) [13] فقول النصارى كلهم في مجاري لغتهم ومعاني ألفاظهم أن الله عز وجل وروح القدس مع كل خطيب وراهب وفاضل في دينه على هذه السبيل.

قال: وأما النداء الذي سمعه يحيى بن زكريا من السماء في المسيح، وشهادة يحيى له، فإن " متى " قال في إنجيله: (إن المسيح لما خرج من الأردن تفتحت له السماء، فنظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة، وسمع نداء من السماء: إن هذا ابني الحبيب الذي اصطفيته).

فقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول، والمفعول مخلوق، وليس يستنكف المسيح من الاعتراف بذلك عن الاعتراف بذلك في كل كلامه، وما زال يقول: (إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم) [14] وكلما يصحح به أنه عبد مرسل مربوب مبعوث مأمور يؤدي ما سمع، ويفعل ما حد له، ونحن نشرح هذا في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

ثم قال: وقد وجدنا المسيح احتاج إلى تكميل أمره بمعمودية يحيى له، فسار إليه لذلك وسأله إياه، فليس مرتبة المقصود بدون مرتبة القاصد الراغب، وقال " لوقا " التلميذ في إنجيله: (إن يحيى المعمداني أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله: أنت ذلك الذي تجيء، أو نتوقع غيرك؟) فكان جواب المسيح لرسله: (أن ارجعوا فأخبروه بما ترون من عميان يبصرون، وزمن ينهضون، وصم يسمعون، فطوبى لمن لم يغتر بي، أو يذل في أمري).[15]

قال: فوجدنا يحيى مع محله وجلالة قدره عند الله عز وجل ثم ما شهد به للمسيح له من أنه ما قامت النساء عن مثله، قد شك فيه، فاحتاج إلى أن يسأله عن شأنه، ثم لم يكن من جواب المسيح له بشيء مما تصفون من الربوبية، ولا قال: إني خالقك وخالق كل شيء، كما في شريعة إيمانكم، بل حذر الغلط في أمره والاغترار، ولا كان من قوله أكثر مما ذكر أنه أظهر بنبوته من هذه الآيات التي سبق إلى مثلها أكثر الأنبياء.

قال: ولا رأينا يحيى زاد في وضعه إياه لما قرظه وأعلا ذكره مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله على أن قال: (هو أقوى مني، وأني لا أستحق أن أحل معقد خفه) [16] ولم يقل إنه خالقي، وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا، كما قال المسيح في يحيى: (إنه ما قامت النساء عن مثله).

قال: فتركتم ما أتت به الرسل والنبوات في المسيح وهو أصلكم الذي وقع عليه بناؤكم، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها، ومثل الذين عقدوا هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل ينتفي من النبوة، لأن المسيح يقول: إنه مربوب مبعوث، ويقول جبريل: إنه مكرم مصطفى، وأن أباه داود، وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب، وينادي مناد من السماء بمثل ذلك، ويشهد يحيى بن زكريا على مثله، وتقولون: بل هو خالق أزلي إلا أنه يستر نفسه، ويقول المسيح وغيره ممن سمينا إنه معطى وأن الله معطيه، وتقولون: بل رازق النعم وواهبها، ويقول: إن الله أرسله، وتقولون: بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم، ويحتمل الخطيئة، ويربط الشيطان! فقد وجدنا الخلاص لم يقع، والخطيئة قائمة لم تزل، والشيطان أعتى ما كان لم يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون، فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه، وقال له في بعض أحواله معه: (إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا له: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز، بل بكل كلمة تخرج من الله. ثم ساقه الشيطان إلى مدينة بيت المقدس، وأقامه على قرنة الهيكل، وقال له: إن كنت ابن الله فارم بنفسك من هاهنا، فإنه مكتوب إن الملائكة توكل بك، لئلا تعثر رجلك بالحجر. قال يسوع: ومكتوب أيضا: لا تجرب الرب إلهك. ثم ساقه إلى جبل عال وأراه جميع مملكات الدنيا وزخارفها، وقال له: إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك. قال له المسيح: اغرب أيها الشيطان، فإنه مكتوب: اسجد للرب إلهك، ولا تعبد شيئا سواه.[17] ثم بعث الله عز وجل ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر، وأطلق السبيل للمسيح.

وقال: أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة، أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله، ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يأتيه الملك من عند ربه، ولما قال: (أمرنا أن لا نجرب الله، وأن نسجد للرب، ولا نعبد شيئا سواه). وكيف لم يربط الشيطان عن نفسه قبل أن يربط عن أمته؟ قال: فهذه أمور إذا تأملها المتأمل قبحت جدا، وكثر اختلافها، واشتد تناقضها واضطرابها.

قال: ومما يعجب منه أنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصارا بجهة واحدة ولم يفارقه قط منذ اتحد به، ومكث على ذلك في بطن أمه تسعة أشهر، ثم أقام مولودا وتغذى باللبن، ومربوبا صبيا مغذى بالأغذية إلى أن بلغ ثلاثين سنة لا يظهر منه شيء من آلة الربوبية، ولا أمر يوجب هذا المحل، ولا كان بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور، ولا ظهرت له سكينة، ولا حفته الملائكة بالتهليل، ولا ألم به الشعث بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله، فقد كلم الله موسى من العوسجة كيف شاء فأشرق ما حولها نورا، وكلمه من طور سيناء فاضطربت في الجبل النيران، والتبس وجهه النور الساطع حتى كان يتبرقع إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك، لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه، ثم سأل موسى ربه عز وجل لما قرب منه فقال: رب أرني أنظر إليك. قال: لن تراني ولكن انظر إلى الجبل، فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق) من صعقته استغفر ربه فتاب عليه.[18] وتجلى مجد الله لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.

وقال داود: (يا رب إنك حيث عبرت ببلاد سنين تزلزلت الأرض منك وانفطرت من هيبتك).[19] وقال أيضا كالمخاطب للبحر والجبال والمتعجب منها: (ما لك أيها البحر هاربا، وأنت يا نهر الأردن لم وليت راجعا، وما لك أيتها الجبال تنفرين كالأبابيل، ومالكن أيتها الشوامخ والهضبات تنزو نزو الشياء). ثم قال كالمجيب عنهم: (من قدام الرب تزلزلت البقاع).[20]

قال: فإن كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به، فكيف لم ترجف بين يديه الجبال ولم تتصرف عن مشيئته الأنهار والبحار؟ أو كيف لم تظهر منه آيات باهرات أجل من آيات الأنبياء قبله مثل المشي على متون الهواء، والاضطجاع على أكتاف الرياح، والاستغناء عن المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين والجن، كما أحرق إيليا من قرب منه من جند أحاب الملك، ويمنع الآدميين من نفسه، وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق؟

قال: ووجدناكم تقولون: إن الابن إنما يسمى ابن الله وكلامه، لأنه تولد من الأب وظهر منه، فلم نقف على معنى ذلك، لأن شريعة إيمانكم تقول: إن الروح أيضا تخرج من الأب، فإن كان الأمر كما تقولون فالروح أيضا ابن، لأنها تخرج عن الله تعالى، وإلا فما الفرق بينهما؟

قال: ولم نفهم أيضا قولكم: إن الابن تجسد من روح القدس، وأن روح القدس ساقه إلى البر ليمتحنه الشيطان، فما كانت حاجة الابن إلى أن تكون الروح وهي في قولكم مثله تدبره وتغيره من حال إلى حال، أوما علمتم أن الغير السابق المدبر فاعل، والمسبوق المدبر مفعول به، فالابن إذن دون الروح وليس مثله، لأن الأزلي لا ينفك من الأزلي وهو مثله.

قال: وإن كان المسيح من روح القدس، كما قال جبريل الملك لأمه مريم، فلم سميتموه كلمة الله وابنه، ولم تسموه روحه، فإنما قال لها الملك: إن الذي تلدين من روح القدس. والروح غير الابن، ولو كان المعنى واحدا لما قالت الشريعة إنه تجسد من روح القدس، وإن روح القدس ساقه إلى البر، وإن روح القدس نزل عليه، ولم تثلثون به في إيمانكم فتقولون: نؤمن بالأب والابن والروح القدس؟

قال: ووجدناكم تقولون أيتها النسطورية: إن لله علما وحكمة هما الابن، وحياة هي الروح قديمين، ولعلمه وحياته ذات كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة، ولحياته التي هي روحه علم وحياة، وأن الله الأب لما رأى استيلاء العدو على خلقه ونكول الأنبياء عن مناوأته، أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووفاء للناس أجمعين، وأن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا، ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي في كنائسهم، ويستن بسننهم، لا يدعي دينا غير دينهم، ولا ينتحل رسالة ولا نبوة ولا بنوة حتى إذا انقضت تلك السنون. أظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وقتلته وصلبته، ثم صعد إلى السماء.

وصدقتم بشريعة الإيمان وكفرتم من خالفها، ثم لم تلبثوا أن خلعتموها وانسلختم منها وقلتم إن المسيح جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حياله، وإن الله جوهر قديم يقوم بمعنيين، فهو واحد يقوم بثلاثة معان، وثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور. فالمسيح هو الله، وهو مبعوث غير أنه ليس يعبد.

فكان معنى قولكم هذا: أن المسيح مولود لكنه ليس مفعولا به، وهو مبعوث مرسل لكنكم تستحيون أن تسموه رسولا، إذ كنتم لا تفرقون بين الله وبينه في شيء من الأشياء، وأقبلتم على الملكانية واليعقوبية بالتكفير واللعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد، ثم لم تلبثوا أن قدمتم المسيح على الله تبارك وتعالى وبدأتم به في التمجيد، ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين خاصة، وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم عندكم، فإنه يقوم الإمام منكم على المذبح من مذابحكم وأهله مرعوبون فتتوقعون نزول روح القدس بزعمكم من السماء بدعائه، فيفتح دعاءه ويقول: (ليتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب، ومشاركة روح القدس إلى دهر الداهرين). ثم يختم صلاته بمثل ذلك، فهذا تصريح بالشرك، وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن هو دونه، وهو معطى ومخول من عند الله على قولكم، وجعلتم لله بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة.

قال: ووجدناكم قد عبتم على اليعقوبية قولهم إن مريم ولدت الله، عز الله وجل عن ذلك، وفي شريعة الإيمان التي بيناها المجتمع عليها أن المسيح إله حق، وأنه ولد من مريم، فما معنى المنافرة، وما الفرق، وما تنكرون من قولهم: إن المقتول المصلوب هو الله عز الله وجل عن ذلك؟ وشريعة إيمانكم تقول: نؤمن بالرب المسيح الذي من خبره وحاله الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك " بيلاطيس " النبطي، ودفن وقام في اليوم الثالث، أليس هذا إقرارا بمثل قولهم؟ فتدبروا هذا القول يا أولي الألباب.

فإنكم إن قلتم: إن المقتول المصلوب هو الله، فإن مريم عندكم ولدت الله.

وإن قلتم: إنه إنسان فإن مريم ولدت إنسانا، وبطلت الشريعة، فأي القولين اخترتموه ففيه نقض دينكم.

ثم عبتم على الملكانية قولهم: إنه ليس للمسيح إلا أقنوما واحدا، لأنه صار مع الأزلي الخالق شيئا واحدا لا فرق بينهما، وقلتم بأن له أقنومين، لكل جوهر أقنوم على حياله، ثم لم تلبثوا أن رجعتم إلى مثل قولهم فقلتم: إن المسيح وإن كان مخلوقا من مريم مبعوثا، فإنه هيكل لابن الله الأزلي، ونحن لا نفرق بينهما، فإذا كان الأمر عندكم على هذا فما تنقمون على الملكية، وما معنى الافتراق؟ وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟ إن هذا الأمر تحار فيه الأفهام.

فإن كانت الشريعة بمعنى الأمانة عندكم حقا، فالقول ما قال يعقوب، وذلك أنا إذا ابتدأنا من الشريعة في ذكر المسيح، ثم نسقنا المعاني نسقا واحدا وانحدرنا فيها إلى آخرها، وجدنا القوم الذين ألقوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق كلها، وهو الذي ولد من مريم ليس بمصنوع، وهو إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وهو الذي أتقن العوالم وخلق كل شيء على يده، وهو الذي نزل لخلاصكم، فتجسد وحملتهمريم وولدته، وقتل وصلب، فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن من ألفها.

قال: وإنما أخذت تلك الطائفة يعني الذين وضعوا الأمانة بكلمات وذكروا أنهم وجدوها في الإنجيل مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها، وتركت ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلاميذه به عليه، فأخذت بالمشكل اليسير، وجعلت له ما أحبت من التأويل، وألغت الواضح الكثير الذي لا يحتاج إلى تأويل.

قال: فأما احتجاجكم بالشمس، وأنها شيء واحد له ثلاثة معان، وتشبيهكم ما يقولونه في الثلاثة الأقانيم بها، فإن ذلك تمويه لا يصح، لأن نور الشمس لا يحد بحد الشمس، وكذلك حرها لا يحد بحد الشمس، إذ كان حد الشمس جسما مستديرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما، ويتهيأ أن يحد نورها وحرها بمثل هذه الصفة، ولا يقال: إن نورها أو حرها جسم مستدير مضيء مسخن دائم الدوران، ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس، كما قالت الشريعة في المسيح: إنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، لكان ما قلتم له مثلا تاما، والأمر مخالف لذلك فلا يشبهه ولا يقع القياس عليه، والحجة منكم فيه باطلة.

قال: ووجدناكم تذكرون أن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام، فإن العجب ليطول من هذا القول، وأعجب منه من قبله ولم يتفكر فيه، وممن لم يستقبح أن يعتقد ديانة لله تبارك وتعالى على مثل هذا القول المحال البائن عما تشهد به العقول وتنبئ به المشاهدة، ويدعو الناس إليها، فما هو ببعيد من عقد ما هو أمحل وأبطل منها، لأنه إن كانت الخطيئة بطلت بمجيئه، فالذين قتلوه إذا ليسوا خاطئين ولا مأثومين، لأن لا خاطئ بعد مجيئه ولا خطيئة.

وكذلك أيضا الذين قتلوا حواريه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين، وكذلك من نراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى هذا الوقت يقتل ويسرق ويزني ويلوط، ويسكر ويكذب، ويركب كل ما نهي عنه من الكبائر وغيرها غير خاطئين، ولا مأثومين.

فمن جحد ذلك فليرجع إلى التسبيحة التي تقرأ بعقب كل قربان، وهو أن (يا ربنا الذي غلب بوجعه الموت الطاغي). وفي الأخرى التي تقال في يوم الجمعة الثانية من الفصح: (إن فخرنا بالصليب الذي بطل به سلطان الموت وصرنا إلى الأمن والنجاة بسببه). وفي بعض التسابيح (بصلوات ربنا يسوع المسيح بطل الموت، وانطفأت فتن الشيطان، ودرست آثارها). فأي خطيئة بطلت؟ وأي فتنة للشيطان انطفأت؟ أو أي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير عن حاله؟

قال: فإذا كان التمويه يقع فيما يلحقه كل أحد بالمعرفة والبيان، فهو فيما أشكل من الأمور وفعل بالتأويلات التي تأولها أولئك المتأولون أوقع.

وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا خفاء به عن الصبيان، فأنتم لما هو أعظم منه من المحال أقبل، وهذا إنجيلكم يكذب هذا القول، حيث يقول المسيح فيه: (ما أكثر من يقول لي يوم القيامة: يا سيدنا أليس باسمك أخرجنا الشيطان، فأقول: اغربوا عني أيها الفجرة الغاوون، فما عرفتكم قط) [21] فهذا خلاف قول علمائكم ما قالوا، ووضعهم لكم ما وضعوا، ومثله قوله: (إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل الميسرة: إني جعت فلم تطعموني، وعطشت فلم تسقوني، وكنت غريبا فلم تأووني، ومحبوسا فلم تزوروني، ومريضا فلم تعودوني، فاذهبوا إلى النار المعدة لكم من قبل تأسيس الدنيا. وأقول لأهل الميمنة: فعلتم بي هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم من قبل تأسيس الدنيا).[22] فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ركبوها؟ وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم؟ فمن قال: إن الخطيئة قد بطلت، فقد بهت، وقد خالف قول المسيح، وكان هو من الكاذبين.

وقال: ويا أيها القوم الذين هم أولوا الألباب والمعرفة، حيث ينسبونه إلى الربوبية، وينحلونه اللاهوتية، ويجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم، بماذا ساغ ذلك لكم، وما الحجة فيه عندكم؟ هل قالت كتب النبوات فيه ذلك؟ أو هل قاله عن نفسه؟ أو قاله أحد عن تلامذته والناقلين عنه الذين هم عماد دينكم وأساسه ومن أخذتم الشرائع والسنن عنه؟ ومن كتب الإنجيل وبينه، قد أفصح في كل الإنجيل من كلامه ومخاطبته ووصاياه بما لا يحصى كثرة بأنه عبد مثلكم ومربوب معكم، ومرسل من عند ربه وربكم، ومبدي ما أمر به فيكم، وحكى مثل ذلك من أمره حواريوه وتلامذته ووصفوه لمن سأل عنه.

وفي كلامهم بأنه رجل جاء من عند الله عز وجل ونبي له قوة وفضل، [23] فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت، ولو كان كما تقولون، لأفصح عن نفسه بأنه إله، كما أفصح بأنه عبد ولكنه ما ذكره ولا ادعاه، ولا دعا إليه ولا ادعته له كتب الأنبياء قبله ولا كتب تلامذته ولا حكي عنهم، ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم، ولا قول يحيى بن زكريا.

قال: فإن قلتم: إنكم استدللتم على ربوبيته بأنه أحيا الموتى، وأبرأ الأكمه والأبرص، ومشى على الماء وصعد إلى السماء، وصير الماء خمرا، وكثر القليل، فيجب الآن أن ينظر إلى كل من فعل من هذه الأمور فعلا فنجعله ربا وإلها، وإلا فما الفرق؟ فمن ذلك أن كتاب " سفر الملوك " يخبر أن إلياس أحيا ابن الأرملة، [24] وأن اليسع أحيا ابن الإسرائيلية، [25] وأن " حزقيال " أحيا بشرا كثيرا، [26] ولم يكن أحد ممن ذكرنا بإحيائه الموتى إلها.

وأما إبراء الأكمه فهذه التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، وهذا موسى طرح العصا فصارت حية لها عينان تبصر بهما، [27] وضرب بها الرمل فصار قملا لكل واحدة منها عينان تبصر بهما، [28] ولم يكن واحد منهم بذلك إلها.

وأما إبراء الأبرص، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن رجلا من عظماء الروم برص فرحل من بلده قاصدا اليسع ليبرأه من برصه، فأخبر الكتاب بأن الرجل وقف بباب اليسع أياما لا يؤذن له، فقيل لليسع: إن ببابك رجلا يقال له " نعمان " وهو أجل عظماء الروم، به برص وقد قصدك لتبرأه من مرضه، فإن أذنت له دخل إليك، فلم يأذن له، وقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى هذا الرجل فقل له: ينغمس في الأردن سبع مرات، فأبلغ الرسول لنعمان ما أمره به اليسع، ففعل ذلك، فذهب عنه البرص ورجع قافلا إلى بلده، فأتبعه خادم اليسع فأوهمه أن اليسع وجه به إليه يطلب منه مالا، فسر الرجل بذلك ودفع إلى الخادم مالا وجوهرا، ورجع فأخفى ذلك وستره. ثم دخل إلى اليسع، فلما مثل بين يديه قال له: تبعت نعمان وأوهمته عني كذا وكذا، وأخذت منه كذا وأخفيته في موضع كذا، إذ فعلت الذي فعلت به، فليصر برصه عليك وعلى نسلك، فبرص ذلك الخادم على المكان.[29]

قال: فهذا اليسع قد أبرأ أبرصا، وأبرص صحيحا، وهو أعظم مما فعل المسيح فلم يكن في فعله ذلك إلها.

قال: وأما قولكم أنه مشى على الماء، فإن كتاب سفر الملوك يخبر بأن إلياس سار إلى الأردن ومعه اليسع تلميذه، فأخذ عمامته فضرب بها الأردن فاستيبس له الماء حتى مشى عليه هو واليسع، [30] ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع، فلما رجع اليسع إلى الأردن ضرب بها الماء فاستيبس له حتى مشى عليه راجعا.[31] ولم يكن واحد منهما بمشيه على الماء إلها، ولا كان إلياس بصعوده إلى السماء إلها.

قال: وأما قولكم أنه صير الماء خمرا، فهذا كتاب سفر الملوك يخبر بأن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقالت المرأة: يا نبي الله إن على زوجي دينا قد فدحه، فإن رأيت أن تدعو الله لنا بقضاء ديننا فافعل. فقال لها اليسع: اجمعي كل ما عندك من الآنية، واستعيري من جيرانك جميع ما قدرت عليه من آنيتهم. ففعلت، ثم أمرها فملأت الآنية كلها ماء فقال: اتركيه ليلتك هذه. ومضى من عندها فأصبحت المرأة وقد صار ذلك الماء كله زيتا، فباعوه فقضوا دينهم.[32] وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا، ولم يكن اليسع بذلك إلها.

وأما قولكم: المسيح كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة، فإن كتاب " سفر الملوك " يخبر بأن إلياس نزل بامرأة أرملة، وكان القحط قد عم الناس وأجدبت البلاد، ومات الخلق ضرا وهزلا، وكان الناس في ضيق، فقال للأرملة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كف من دقيق في قلة، أردت أن أخبزه لطفل لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط. فقال لها: أحضريه فلا عليك. فأتته به، فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل هي وأهلها وجيرانها منه حتى فرج الله عن الناس.[33] فقد فعل إلياس في ذلك أكثر مما فعل المسيح، لأن إلياس كثر القليل وأدامه، والمسيح كثر القليل في وقت واحد، ولم يكن إلياس بفعله هذا إلها.

قال: فإن قلتم: إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال، وإن الصنع فيها والقدرة لله عز وجل إذ كان هو الذي أجراها على أيديهم فقد صدقتم، ونقول لكم أيضا: كذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من هذه الأعاجيب، إذ كان الله هو الذي أظهرها على يديه، فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء؟ وما الحجة في ذلك؟

قال: وإن قلتم: إن الأنبياء كانت إذا أرادت أن يظهر الله على أيديهم آية تضرعت إلى الله ودعته وأقرت له بالربوبية وشهدت على أنفسها بالعبودية. قيل لكم: وكذلك سبيل المسيح، سبيل سائر الأنبياء، قد كان يدعو ويتضرع ويعترف بربوبية الله، ويقر له بالعبودية، فمن ذلك: أن الإنجيل يخبر بأن المسيح أراد أن يحيي رجلا يقال له العازر، فقال: (يا أبي أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتجيبني وتستجيب لي، وأنا أدعوك من أجل هؤلاء القيام ليعلموا).[34] وقال بزعمكم وهو على الخشبة: (إلهي إلهي لم تركتني؟) [35] وقال: (يا أبي اغفر لليهود ما يعملون، فإنهم لا يدرون ما يصنعون).[36] وقال في إنجيل متى: (يا أبي أحمدك).[37] وقال: (يا أبي إن كان بد أن يتعداني هذا الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، فلتكن مشيئتك).[38] وقال أيضا: (أنا أذهب إلى إلهي الذي هو أعظم مني) [39] وقال: (لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أتفكر فيه إلا باسم إلهي).[40] وقال يعني نفسه: (لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده، ولا للرسول أن يكون أعظم ممن أرسله).[41] وقال: (إن الله لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب، ولم ينم ولم يره أحد من خلقه، ويراه أحد إلا مات).[42]

والمسيح قد أكل وشرب وولد، ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته ولا مات أحد منهم، وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة.

قلت: وعامة ما ذكره هذا عن الكتب تعترف به النصارى، ولكن بعضهم ينازعه في يسير من الألفاظ، فنازعه هنا في قوله: ( لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده). وقال: هذا إنما قاله المسيح للحواريين، وذكر أنه لا يعرف عنه لفظ (لم يولد، ولم يأكل ولم يشرب).

قال: وقال في إنجيل يوحنا: ": (إنكم متى رفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني أنا هو وشيء من قبل نفسي لا أفعل، ولكن كل شيء كالذي علمني أبي).[43] وقال في موضع آخر: (من عند الله أرسلت معلما).[44] وقال لأصحابه: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته) [45] وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت: إنك لذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: (صدقت، طوبى لك).[46] وقال لتلامذته: (كما بعثني أبي كذلك أبعث بكم).[47]

قال: فاعترف بأنه نبي وأنه مألوه ومربوب ومبعوث، وقال لتلامذته: (إن من قبلكم وآواكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني، ومن قبل نبيا باسم نبي فإنما يفوز بأجر من قبل النبي).[48]

فبين هاهنا في غير موضع أنه نبي مرسل، وأن سبيله مع الله سبيلهم معه، وقال متى التلميذ في إنجيله، يستشهد على المسيح بنبوة أشعيا عن الله عز وجل: (هذا عبدي الذي اصطفيته، وحبيبي الذي ارتاحت إليه نفسي، أنا واضع روحي عليه، ويدعو الأمم إلى الحق).[49] فلن يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم، فقد أوضح الله أمره وسماه عبدا، وأعلم أنه يضع عليه روحه ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عنهم، وهذا القول يوافق ما بشر به جبريل الملك مريم حين ظهر لها، وقال القول الذي سقناه في صدر كتابنا.

وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح : (إن كلامي الذي تسمعون هو كلام من أرسلني).[50] وقال في موضع آخر: (إن أبي أجل وأعظم مني).[39] وقال أيضا: (كما أمرني أبي كذلك أفعل أنا، أنا الكرم وأبي هو الفلاح).[51] وقال يوحنا: (كما للأب حياة في جوهره، فكذلك أعطى الابن أن تكون له حياة في قينومه).[52] قال: فالمعطي خلاف المعطى لا محالة، والفاعل خلاف المفعول.

قال: وقال المسيح في إنجيل يوحنا: (إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي، لكانت شهادتي باطلة، لكن غيري يشهد لي، فأنا أشهد لنفسي ويشهد لي أبي الذي أرسلني).[53] وقال المسيح لبني إسرائيل: (تريدون قتلي، وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله).[54]

قال: وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي وأعترف لك بذلك، وأعلم أنك كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني).[55] قال: فأي تضرع وإقرار بالرسالة والمسألة والطلب للإجابة من الله عز وجل أشد من هذا أو أكثر؟

قال: وقال في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون: (أنا لست بمجنون، ولكن أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي، بل أمدح أبي، لأني أعرفه، ولو قلت: إني لا أعرفه، لكنت كذابا مثلكم، بل أعرفه وأتمسك بأمره).[56]

قال: وقال داود في مزموره المائة وعشرة: (قال الرب اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئا لرجليك، عصا العظمة تبعث الرب من صهيون، ويبسط على أعدائك شعبك يا مسيح يوم الرعب في بهاء القدس من اليوم الذي ولدتك يا صبي، عهد الرب ولا يكذب أنك أنت الكاهن المؤيد يشبه ملكليزداق.) [57]

قال: فهذه مخاطبة ينسبونها إلى اللاهوت، وقد أبان داود في مخاطبته، أن لربه الذي ذكره ربا هو أعظم منه وأعلى أعطاه ما حكيناه، ومنحه ذلك وشهد عليه، إن عصا العظمة تبعث ربه هذا من صهيون وسماه صبيا محققا لقوله الأول: اليوم ولدتك ونسقا على أول كلامه وهو ربه، ووصف أنه الكاهن المؤيد الذي يشبه ملكليزداق.

قلت: قالوا: وهذا الكاهن هو الذي ذكر في التوراة أن الخليل أعطاه القربان، [58] وإذا كان المسيح مشبها به مع تسميته كاهنا، كان ذلك من أعظم الأدلة على أنه مخلوق، قال: فأما قوله: (من البدء ولدتك)، فهو يشبه قول داود: (تبنني على نفسه من البدء. ذكرتك وهديت كل أعمالك). وبعضهم يقول: لفظ النص: (إن الرب يبعث عصاه من صهيون).

قال: وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: (يا رجال بني إسرائيل اسمعوا مقالتي، إن يسوع الناصري رجل ظهير لكم من عند الله بالقوة والأيدي والعجائب التي أجراها على يديه، وأنكم أسلمتموه وقتلتموه، فأقام الله يسوع هذا من بين الأموات).[59]

قال: فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول؟ وهو أوثق التلاميذ عندكم يخبر كما ترون أن المسيح رجل وأنه من عند الله، وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه، وأن الذي بعثه من بين الموتى هو الله عز وجل.

قال: وقال في هذا الموضع: (اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قتلتموه ربا ومسيحا).[60] قال: فهذا القول يزيل تأويل من لعله يتأول في الفصل الأول أنه أراد بقوله الناسوت، لأنه يقول: إن الله جعله ربا ومسيحا، والمجعول مخلوق مفعول، قال أبو نصر: وإنما سمي ناصري؛ لأن أمه كانت من قرية يقال لها: " ناصرة " في الأردن وبها سميت النصرانية.

قال: وقد سمى الله جل ثناؤه يوسف ربا، قال داود في مزمور مائة وخمسة: (وللعبودية بيع يوسف وشدوا بالكبول رجليه وبالحديد دخلت نفسه حتى صدقت كلمته قول الرب جربه، بعث الملك فخلاه وصيره مسلطا على شعبه، وربا على بنيه، ومسلطا على فتيانه).[61]

وقال لوقا في آخر إنجيله: (إن المسيح عرض له وللوقا تلميذه جبريل في الطريق وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك أنت وحدك غريب ببيت المقدس، إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه) على قولهم فيه.[62]

قال: فهذا قوله وأقوال تلاميذه قد تركتموها وعقدتم على بدع ابتدعها لكم أولوكم تؤدي إلى الضلالة والشرك بالله جل ثناؤه. وقال داود في المزمور الثاني في زبوره مخاطبا لله ومثنيا على المسيح: (من الرجل الذي ذكرته والإنسان الذي أمرته وجعلته دون الملائكة قليلا، وألبسته المجد والكرامات؟) [63] وقال في المزمور الثاني: (قال لي الرب: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني فأعطيك).[64] فقوله: " ولدتك " دليل على أنه حديث غير قديم، وكل حادث فهو مخلوق، ثم أكد ذلك بقوله: " اليوم " فحد باليوم حدا لولادته أزال به الشك في أنه ما كان قبل اليوم، ودل بقوله: " سلني فأعطيك " على أنه محتاج إلى المسألة غير مستغن عن العطية، قال: فهذا ما حضرنا من الآيات في تصحيح خلق المسيح وعبوديته، وبطلان ما يدعونه من ربوبيته، ومثله كثير في الإنجيل لا يحصى، فإذا كانت الشهادات منه على نفسه، ومن الأنبياء عليه، ومن تلاميذه بمثل ما قد بيناه في هذا الكتاب، وإنما اقتصرنا على الاحتجاج عليكم من كتبكم، فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة أخذتم ذلك واخترتم الكلام الشنيع الذي يخرج عن المعقول، وتنكره النفوس، وتنفر منه القلوب، الذي لا يصح بحجة ولا قياس ولا تأويل على القول الجميل الذي تشهد به العقول وتسكن إليه النفوس ويشاكل عظمة الله وجلاله.

قال: وإذا تأملتم كل ما بيناه تأمل إنصاف من أنفسكم وإشفاق عليها، علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيئا دون اللاهوت.

قال: فإن قلتم: إنه يثبت للمسيح البنوة بقوله: (أبي وأبيكم، ويا أبي، وبعثني أبي). قلنا: فإن كان الإنجيل أنزل على هذه الألفاظ لم تبدل ولم تغير، فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي ابنا، وقد سماكم الله جميعا بنيه، وأنتم لستم في مثل حاله.

ومن ذلك أن الله عز وجل قال لإسرائيل في التوراة: (أنت ابني بكري).[65] وقال لداود في الزبور: (أنت ابني وحبيبي).[66] وقال المسيح في الإنجيل للحواريين: (أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم).[14] فسمى الحواريين أبناء الله، وأقر بأن له إلها هو الله، ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون، فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق الإلهية بأن الله سماه ابنا، فنلتزم ذلك ونشهد بالإلهية لكل من سماه ابنا، وإلا فما الفرق؟

قال: فإن قلتم: إن إسرائيل وداود ونظراءهم إنما سموا أبناء الله على جهة الرحمة من الله لهم، والمسيح ابن الله على الحقيقة، تعالى الله عن ذلك.

قلنا: يجوز لمعارض أن يعارضكم، فيقول لكم: ما تنكرون أن يكون إسرائيل وداود ابني الله على الحقيقة، والمسيح ابن رحمة، وما الفرق؟

فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن المسيح جاء إلى مقعد فقال: (قم قم، فقد غفرت لك، فقام الرجل، ولم يدع الله في ذلك الوقت).

قلنا لكم: هذا إلياس أمر السماء أن تمطر فأمطرت، ولم يدع الله في ذلك الوقت، وكذلك اليسع أمر نعمان الرومي أن ينغمس في الأردن من غير دعاء ولا تضرع، على أنا قد وجدناه في الإنجيل قد تضرع، وسأل مسائل قد تقدم ذكرها. وقال في بعض الإنجيل: (يا أبي أشكرك على استجابتك دعائي، وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليؤمنوا بأنك أنت أرسلتني).

فإن قلتم: إن الغفران من الله عز وجل وأن المسيح قال لبعض بني إسرائيل: (قم فقد غفرت لك) والله هو الذي يغفر الذنوب.

قلنا: فقد قال الله في السفر الخامس من التوراة لموسى: (اخرج أنت وشعبك الذي أخرجت من مصر، وأنا أجعل معكم ملكا يغفر ذنوبكم).[67]

فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنوب المقعد، فالملك إذا إله، لأنه يغفر ذنوب بني إسرائيل وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم: إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل، أن الله سماه ربا فقال: (ابن البشر رب السبت).

قلنا: فهذه التوراة تخبر بأن لوطا لما رأى الملكين قد أقبلا من البرية لهلاك قومه قال لهما: (يا ربي ميلا إلى منزل عبدكما).[68] وقد تقدم لنا احتجاج في هذا الكتاب بذكر من سمي في الكتب ربا من يوسف وغيره، فإن كان المسيح إلها لأنه سمي ربا، فهؤلاء إذا آلهة، لأنهم سموا بمثل ذلك.

فإن قلتم: إن الأنبياء قد تنبأت بإلهية المسيح، فقال أشعيا: (العذراء تحبل وتلد ابنا ويدعى اسمه " عمانويل ")، وتفسيره: " معنا إلهنا ".

قلنا: إن هذا اسم يعاره السيد الشريف من الناس، وإن كان الله عز وجل المنفرد بمعنى الإلهية جل ثناؤه فقد قال الله في التوراة لموسى : (قد جعلتك لهارون إلها، وجعلته لك نبيا).[69] وقال في موضع آخر: (قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون).[70] وقال داود في الزبور لمن كانت عنده حكمة: (كلكم آلهة ومن العلية تدعون).[71]

فإن قلتم: إن الله عز وجل جعل موسى إلها لهارون على معنى الرياسة عليه.

قلنا: وكذلك قال أشعيا في المسيح إنه إله لأمته على هذا المعنى، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (من رآني فقد رأى أبي، وأنا وأبي واحد).

قلنا: إن قوله: (أنا وأبي واحد) إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد، ويقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم فيما يؤديه مقامه، ويؤدي عنه ما أرسله به، ويتكلم بحجته ويطالب له بحقوقه، وكذلك قوله: (من رآني فقد رأى أبي)، يريد بذلك أن من رأى هذه الأفعال التي أظهرها فقد رأى أفعال أبي.

فإن قلتم: إن المسيح قد قال في الإنجيل: (أنا قبل إبراهيم)، فكيف يكون قبل إبراهيم، وإنما هو من ولده؟ ولكن لما قال (قبل إبراهيم) علمنا ما أراد أنه قبل إبراهيم من جهة الإلهية.

قلنا: هذا سليمان بن داود يقول في حكمته: (أنا قبل الدنيا وكنت مع الله حيث بدأ الأرض)، [72] فما الفرق بينه وبين من قال: إن سليمان ابن الله، وأنه إنما قال: أنا قبل الدنيا بالإلهية، وقد قال داود أيضا في الزبور: (ذكرتك يا رب من البدء، وهديت بكل أعمالك).

فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود متأول، لأنهما من ولد إسرائيل، وليس يجوز أن يكونا قبل الدنيا.

قلنا: وكذلك قول المسيح أنا قبل الدنيا متأول، لأنه من ولد إبراهيم، ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم، فإن تأولتم تأولنا، وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق؟

وقد قدمنا هذا الاحتجاج على تأويلكم لتعلموا بطلان ما ذهبتم إليه على أنه تأويل غير واقع بحقه، وإنما حقه أن يكون هذا الاسم يعني " عمانويل " لما وقع على المسيح كان معناه أنه أخبر عن نفسه بأن " إلهنا معنا " يعني أن الله معه ومع شعبه معينا وناصرا. ومما يصحح ذلك أنكم تتسمون به، ولو كان المعنى ما ذهبتم إليه لما جاز لأحد أن يتسمى به، كما لم يجز أن يتسمى بالمسيح؛ لأنه مخصوص بمعناه.

فإن قلتم: إن تلاميذ المسيح كانوا يعلمون الآيات باسم المسيح.

قلنا لكم: فقد قال الله جل ثناؤه ليحيى بن زكريا: (قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس، وهي قوة تفعل الآيات)، [73] فأضاف القوة إلى إلياس.

فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه، فما الفرق بينكم وبين من قال: إن إلياس إله فإنه فعلت بقوته الآيات؟ فإن قلتم: إن الخشبة التي صلب عليها المسيح على زعمكم ألصقت بميت فعاش، فإن هذا دليل على أنه إله. قلنا لكم: فما الفرق بينكم وبين من قال: إن اليسع إله؟ واحتج في ذلك (بأن كتاب سفر الملوك يخبر بأن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة، فلما كانوا بين القبور رأوا عدوا لهم يريد أنفسهم فطرحوا الميت عن رقابهم وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب ذلك الميت تراب قبر اليسع عاش وأقبل يمشي إلى المدينة، فإن زعمتم أن المسيح إله لأن الخشبة التي ذكروا أنه صلب عليها ألصقت بميت فعاش، فاليسع إله، لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.

فإن قلتم: أن المسيح كان من غير فحل. قلنا لكم: قد كان ذلك، وليس أعجوبة الولادة توجب الإلهية ولا الربوبية، لأن القدرة في ذلك للخالق تبارك وتعالى لا للمخلوق، وعلى أنه يوجدكم لأن حواء خلقت من فحل بلا أنثى، وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى، أعجب من ذكر من أنثى بغير ذكر، وأعجب من ذلك أن آدم خلقه الله من تراب، وخلق بشر من تراب أعجب وأبدع من خلق ذكر من أنثى بلا فحل، فما الفرق؟

قال: وهذه الأسباب التي ذكرناها كلها هي الأسباب التي تتعلقون بها في نحلتكم المسيح الربوبية، وإضافتكم إليه الإلهية، وقد وصفناها على حقائقها عندكم، وقبلنا فيها قولكم، وإن كنا لا نشك في أن أهل الكتاب قد حرفوا بعض ما فيها من الكلام عن مواضعه، وأوجدناكم بطول ما تنتحلونه وفساد ما تتأولونه من الكتب التي في أيديكم التوراة والزبور والأنبياء والإنجيل، فما الذي يثبت الحجة بعد ذلك لكم؟

قال: وقد قال السيد المسيح في الإنجيل لتلاميذه لما سألوه عن الساعة والقيامة: (إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن أيضا، ولكن الأب وحده يعرفه).[74] قال: فهذا إقرار منه بأنه منقوص العلم، وأن الله تبارك وتعالى أعز وأعلم منه، وأنه خلافه وأعلا منه، وقد بين بقوله (أحد) عمومه بذلك الخلق جميعا، ثم قال: (ولا الملائكة) وعندهم من علم الله ما ليس عند أهل الأرض، ثم قال: (ولا الابن) وله من القوة ما ليس لغيره، وشهد قوله هذا شهادة واضحة عليه بأنه لا يعلم كل ما يعلمه الله، بل ما علمه الله إياه وأطلعه على معرفته وجعله له، وأنه لقصور معرفته بكل الأشياء ليس بحيث يصفونه من الربوبية، وأنه هو الله ومن جوهر أبيه، تعالى الله الخالق لكل شيء علوا كبيرا، ولو كان إلها كما يقولون، لعلم ما يعلمه الله من سائر الأشياء وسرائر الأمور وعلانيتها، إذا كان هذا المعنى ليس من الكلام الذي إذا سئلتم عنه تعلقتم بأنه قيل للناسوت دون اللاهوت.

قلت: مقصوده بذلك أنه صرح بأنه لا يعلمه أحد، ثم خص الملائكة بالذكر لئلا يظن أن أحدا منهم يعلمه، فقال: (ولا الملائكة الذين في السماء)، ثم قال: (ولا الابن يعرفه، وأن الأب وحده يعرفه)، فنفى معرفة الابن، وأثبت أن الأب وحده يعرفه، ومراده بالابن المسيح، فعرف أن المسيح لا يعرفه، وأثبت أن الرب يعرفه دون الابن، ودل ذلك على أن لفظ الابن عند المسيح إنما يراد بها الناسوت وحده، إذ كان لا يجوز نفي العلم عن اللاهوت، فإن اللاهوت يعلم كل شيء، وقد دل ذلك على أن قوله: (عمدوا الناس باسم الأب والابن)، المراد به الناسوت وحده، كما أريد بلفظ الابن في سائر كلامه وكلام غيره لم يرد قط أحد منهم بلفظ الابن اللاهوت، بل إطلاق الابن على اللاهوت مما ابتدعته النصارى وحملوا عليها كلام المسيح، فابتدعوا لصفات الله أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، وحملوا عليها كلام المسيح، وإنما يحمل كلام الأنبياء عليهم السلام وغيرهم على معنى لغتهم التي جرت عادتهم بالتكليم بها، لا على لغة يحدثها من بعدهم ويحمل كلامهم عليها.

قلت: فإن هذا الذي فعلته النصارى وأشباههم يفتح باب الإلحاد في كتب الله المنزلة وقد قال تعالى: " إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة ".

وذلك أن كل من اعتقد معاني برأيه يمكنه أن يعبر عنها بألفاظ تناسبها بنوع مناسبة، وتلك الألفاظ موجودة في كلام الأنبياء عليهم السلام لها معان أخر، ويجعل تلك الألفاظ دالة على معانيه التي رآها، ثم يجعل الألفاظ التي تكلمت بها الأنبياء وجاءت بها الكتب الإلهية أرادوا بها معانيه هو، وهكذا فعل سائر أهل الإلحاد في سائر الكتب الإلهية، كما فعلته النصارى مثل ما عمدت الملاحدة المتبعون لفلاسفة اليونان القائلون بأن هذه الأفلاك قديمة أزلية لم تزل ولا تزال، وأن الله لم يتكلم بالتوراة ولا غيرها من الكتب الإلهية، ولا هو عالم بالجزئيات لا بموسى بن عمران ولا بغيره، ولا هو قادر أن يفعل بمشيئة، ولا يقيم الناس من قبورهم، فقالوا: خلق وأحدث وفعل وصنع ونحو ذلك يقال على الإحداث الذاتي، والإحداث الزماني.

فالأول: هو إيجاب العلة لمعلولها المقارن لها في الزمان.

والثاني: إيجاد الشيء بعد أن لم يكن، ثم قالوا: ونحن نقول: إن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، وأحدث ذلك وأبدعه وصنعه، كما أخبرت بذلك الأنبياء عليهم السلام، لكن مرادهم بذلك الإحداث الذاتي، وهو أن ذلك معلول له لم يزل معه.

فيقال لهم: لم يستعمل أحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل ولا أحد من سائر الأمم لفظ الخلق والإحداث إلا فيما كان بعد عدمه، وهو ما كان مسبوقا بعدمه ووجود غيره، ومعنى هذا اللفظ معلوم بالاضطرار في جميع لغات الأمم، وأيضا فاللفظ المستعمل في لغة العامة والخاصة لا يجوز أن يكون معناه ما لا يعرفه إلا بعض الناس، وهذا المعنى الذي يدعونه لو كان حقا لم يتصوره إلا بعض الناس، فلا يجوز أن يكون اللفظ العام الذي تداوله العامة والخاصة موضوعا له إذا كان هذا يبطل مقصود اللغات، ويبطل تعريف الأنبياء للناس، فكيف وهو باطل في صريح المعقول؟ كما هو باطل في صحيح المنقول، فإنه لم يعرف أن أحدا قط عبر عن القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا ولا يزال بأنه محدث أو مخلوق أو مصنوع أو مفعول، فهذا الذي ذكرتموه كذب صريح على الأنبياء عليهم السلام لتوهموا الناس أنكم موافقون لهم، والكتب الإلهية كالتوراة والقرآن مصرحة بأن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، والقديم الأزلي لا يكون مخلوقا في ستة أيام، وكذلك الكتب الإلهية كالتوراة والقرآن قد أخبرت بتكليم الله لموسى وبندائه إياه من الطور من الشجرة، وفي التوراة أنها شجرة العليق.

وأخبرت بأن موسى كان يلقي عصاه فتصير حية تسعى، ويخبر بأن الله فلق البحر، فقالت الملاحدة: إن الشيء الثابت يسمى طورا، فإنه ثابت كالجبل، والقلوب تسمى أودية، وإظهار العلوم بتفجير ينابيع العلم، والحجة المبتلعة كلام أهل الباطل هي عصا معنوية، فمراد الكتب بالطور العقل الفعال الذي فاض منه العلم على قلب موسى ، والوادي قلب موسى، والكلام الذي سمعه موسى سمعه من سماء عقله، وتلك الأصوات كانت في نفسه لا في الخارج، والملائكة التي رآها كانت أشخاصا نورانية تمثلت في نفسه لا في الخارج، والبحر الذي فلقه هو بحر العلم، والعصا كانت حجته، غلب على السحرة بحجته العلمية فابتلعت حجته شبههم التي جعلوها حبالا يتوسلون بها إلى نيل أغراضهم، وعصيا يقهرون بها من يجادلونه.

أفليس من قال مثل هذا الكلام يعلم بالاضطرار أنه يكذب على الكتب الإلهية التي أخبرت بقصة موسى كالتوراة والقرآن، وأنه ليس مراد الرسل بما أخبروا به من قصة موسى هذا، بل صرحوا بأن موسى سمع نداء الله له، وأنه كلمه من الطور طور سينا الذي هو الجبل، وقلب عصاه التي كان يهش بها على غنمه ثعبانا عظيما، وفلق له البحر وأغرق فيه آل فرعون فغرقوا وماتوا فيه وهلكوا، وأمثال هذا من تحريفات الملاحدة كثير.

فهكذا النصارى حرفوا كتب الله وسموا صفة الله القديمة الأزلية التي هي علمه أو حكمته ابنا، وسموها أيضا كلمة، وسموا صفته القديمة الأزلية، التي هي حياته روح القدس، وتسمية هذه الصفات بهذه الأسماء لا توجد في شيء من كلام الأنبياء ولا غيرهم ولا يعرف أن أحدا قط لا من الأنبياء ولا غيرهم سمى علم الله القائم به ابنه، بل وسمى علم أحد من العالمين القائم به ابنه، ولكن لفظ الابن يعبر به عمن ولد الولادة المعروفة، ويعبر به عمن كان هو سببا في وجوده، كما يقال: ابن السبيل، لمن ولدته الطريق، فإنه لما جاء من جهة الطريق جعل كأنه ولده. ويقال لبعض الطير: ابن الماء، لأنه يجيء من جهة الماء، ويقال: كونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن الابن ينتسب إلى أبيه ويحبه ويضاف إليه، أي كونوا ممن ينتسب إلى الآخرة ويحبها ويضاف إليها، وهذا اللفظ موجود في الكتب التي بأيدي أهل الكتاب في حق الصالحين الذين يحبهم الله ويربيهم، كما ذكروا أن المسيح قال: (أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم). وفي التوراة أن الله قال ليعقوب: (أنت ابني بكري). ونحو ذلك مما يراد به إذا كان صحيحا له معنى صحيح، وهو المحبة له والاصطفاء له، والرحمة له، وكان المعنى مفهوما عند الأنبياء عليهم السلام ومن يخاطبونه، وهو من الألفاظ المتشابهة، فصار كثير من أتباعهم يريدون به المعنى الباطل.

وزعم كثير من الكفار أن لله سبحانه وتعالى بنين وبنات، وأن الملائكة بناته، وبعض من يقول بقدم العالم من المتفلسفة يقولون: العقول العشرة هي بنوه، والنفوس الفلكية هي بناته وهي متولدة عنه لازمة لذاته، فجاء القرآن الذي هو أفضل الكتب وأكملها بإبطال هذه المعاني ومنع استعمال هذا اللفظ في حق الله تعالى، فنزه الله عن أن يتخذ ولدا، كما نزهه عن أن يكون له ولد، والأول من باب تنزيهه عن الأفعال المذمومة، وهذا على قول جماهير المسلمين وغيرهم الذين ينزهون الله ويقدسونه عن الأفعال القبيحة التي لا تليق به، بل تنافي ما وجب له من الكمال في أفعاله، كما وجب له الكمال في ذاته وصفاته، وأما من كان من المسلمين وغيرهم لا ينزه الله عن فعل من الأفعال إلا ما كان ممتنعا لذاته، فأما الممكن المقدور فيقول: لا يعلم انتفاؤه إلا بالخبر أو بالعادة المطردة التي يمكن انتقاضها، فهذا لا يبقى معه ما ينفي به عن الله الأفعال المذمومة القبيحة، والكتب الإلهية قد نزهت الرب عز وجل عن الأفعال المذمومة، كما نزهته عن صفات النقص، كقوله تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون.

وقال تعالى: إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا.

كما قال تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون

وقال تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا.

وقال تعالى عن المؤمنين: ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا.

وقال تعالى: تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديرا.

وقال تعالى: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون عالم الغيب والشهادة فتعالى عما يشركون.

وقال تعالى: ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون.

وقال تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد

فكما نزه نفسه عن الولادة، نزه نفسه عن اتخاذ الولد.

وقال تعالى: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا.

وقال تعالى: لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون.

وقال تعالى: ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " يقول الله تعالى: كذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: أنى يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: أني اتخذت ولدا، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ".

وفي الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: " ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله، إنهم ليجعلون له ولدا وشريكا، وهو يرزقهم ويعافيهم ".

ولهذا كان معاذ بن جبل يقول: لا ترحموا النصارى، فإنهم سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر. فجاءت هذه الشريعة الحنيفية القرآنية وحرمت أن يتكلم في حق الله باسم ابن أو ولد، سدا للذريعة، كما منعت أن يسجد أحد لغير الله وإن كان على وجه التحية، كما منعت أن يصلي أحد عند طلوع الشمس وغروبها، لئلا يشبه عباد الشمس والقمر، فكانت بسدها للأبواب التي يجعل لله فيها الشريك والولد أكمل من غيرها من الشرائع، كما سدت غير ذلك من الذرائع، مثل تحريمها قليل المسكر؛ لأنه يجر إلى كثيره، فإن أصول المحرمات التي قال الله فيها: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون. مما اتفقت عليه شرائع الأنبياء بخلاف تحريم الطيبات عقوبة، فإن هذا جاء في شرع التوراة دون شرع القرآن، فإن الله أحل لأمة محمد الطيبات وحرم عليهم الخبائث، وكذلك تكميل التوحيد من كل الوجوه وسد أبواب الشرك من كل الوجوه، جاءت به هذه الشريعة مع اتفاق الأنبياء على إيجاب التوحيد وتحريم أن يجعل لله شريك أو ولد.

فإذا كان مراد المسيح بالابن هو الناسوت، وهو لم يسم اللاهوت ابنا، وقد ذكر أن الابن لا يعلم الساعة، فتبين بذلك أن المسيح هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم الساعة وهذا هو الحق، وإن قالوا: مراده بالابن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لزم من ذلك أن اللاهوت أو اللاهوت والناسوت لا يعلم الساعة وهذا باطل وكذب، وهو أيضا مناقض لقولهم.

فدل هذا النص من المسيح مع سائر نصوصه ونصوص الأنبياء على أن مسمى الابن هو الناسوت وحده، وأنه لا يعلم ما يعلمه الله، وذلك صريح في أنه مخلوق ليس بخالق، ولا يجوز أن يكون هذا خطابا للناسوت المتحد باللاهوت دون اللاهوت، كما يتأوله عليه بعض النصارى، لأن كل ما علمه اللاهوت المتحد بالمسيح علمه الناسوت، ولأن الناسوت ليس هو الابن عندهم دون اللاهوت المتحد به، بل اسم الابن عندهم هو اللاهوت، ولأجل الاتحاد دخل فيه الناسوت، ولأنه لم يثبت إلا علم الأب وحده لم يستثن علم الابن الأزلي عندهم، بل نفى علم ما سوى الأب به، وهذا مناقض لقولهم من كل وجه.

فصل: مواصلة الرد على النصارى بكلام الحسن بن أيوب ثم ابن البطريق

قال الحسن بن أيوب: ومثل هذا أنه لما خاطبه الرجل على ما كتب في الإنجيل فقال له: (أيها الخير، فقال: ليس الخير إلا الله وحده، قلت: وبعضهم يترجمه أيها الصالح، فقال: ليس الصالح إلا الله وحده).[75] قال: ومثله قوله في الإنجيل: (إني لم آت لأعمل بمشيئتي، لكن بمشيئة من أرسلني).[76] قال: ولو كانت له مشيئة لاهوتية، كما يقولون، لما قال هذا القول فقد أبطل به ما تدعونه في ذلك.

قال: ثم أنتم مع ذلك تدعون أن المسيح كلمة الله، ومن قوة الله غير بائنة منه ولا منفصلة عنه، وتشهدون عليه في الإنجيل بقوله إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، ويدين الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم، ويتولى الحكم بينهم، وأن الله عز وجل منحه ذلك إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة، فإن كان هذا الجالس للحكومة بين العالمين يوم الدين، والقاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم بذاته لا يشك فيه هو الجسد الذي كان في الأرض المتوحد به الربوبية، فقد فصلتم بين الله تبارك وتعالى وبينه، وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه، وهذا كفر وشرك بالله عز وجل وإن كان جسدا خاليا من الإلهية، وهي الكلمة، وقد عادت إلى الله كما بدت منه، فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنتحلونه إياها.

قال: ونسألكم عن واحدة نحب أن تخبرونا بها، هي أصل ما وضعتموه من عبادة الثلاثة الأقانيم التي ترجع بزعمكم إلى جوهر واحد وهو اللاهوت، ما هو؟ ومن أين أخذتموه؟ ومن أمركم به؟ وفي أي كتاب نزل؟ وأي نبي تنبأ به؟ أو أي قول للمسيح تدعونه فيه؟ وهل بنيتم أمركم في ذلك إلا على قول متى التلميذ على المسيح أنه قال لتلاميذه حيث أراد أن يفارقهم: (اذهبوا فعمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).

قال: وهذا كلام يحتمل معناه إن كان صحيحا أن يكون ذهب فيه بأن يجمع هذه الألفاظ إلى أن تجتمع لهم بركات الله وبركة نبيه المسيح وروح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل، وقد نراكم إذا أردتم الدعاء بعضكم لبعض قلتم: صلاة فلان القديس تكون معك. ومعنى الصلاة: الدعاء. واسم فلان النبي يعينك على أمورك. وكما قال الله تبارك وتعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، يقرن طاعته نبيه وأولي الأمر من المسلمين، أفنقول لذلك إنهم جميعا آلهة؟

قال: وقد يجوز أن يكون له معنى يدق عن الوقوف عليه بغير التأويل إن لم يكن معناه ما قلناه، أو يكون المسيح ذهب فيه إلى ما هو أعلم به، فلم حكمتم بأنه ذهب إلى أن هذه الأسماء لما أضافها إلى الله عز وجل صارت آلهة، وجعلتم لها أقانيم لكل اسم أقنوم يخصه بعينه وهو شخص واحد، وكيف استجزتم ما أشركتموه مع الله عز وجل بالتأويل الذي لا يصح؟ وإذا قلتم بثلاثة أقانيم كل أقنوم بذاته، فلا بد من أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها حي سميع بصير عالم حكيم منفرد بذاته، كما يقولون في المسيح إنه جالس عن يمين أبيه، فنراكم أخذتم الأقنومين اللذين أحدثتموها مع الله من جهة أن الله حكيم حي، فحكمته الكلمة وهي المسيح، وروحه روح القدس، وهذه صفة من صفات الله مثلها كثير، لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير. وكذلك ربنا تبارك وتعالى وإن كانت صفاتنا إياه لا تلحق صفاته ولا تبلغ كنه مجده إلا بالتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلوه، فنحلتم صفاته التي هي معناه وليست سواه غيره وجعلتموه أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة وسائر الصفات مثل الذي له، وما منها أقنوم له صفة إلا ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله، فإذا كانت هذه الأقانيم آلهة وكل صفة إله، وهي من جوهره فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة الأقانيم إلها مثله إذ كان من جوهره فيتسع الأمر في ذلك حتى لا يكون له غاية ولا نهاية.

قال: وإذا قلتم بثلاثة أقانيم هي في السماء من جوهر قديم، أفليس يلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة، لأن الأقانيم أشخاص يومأ إليها ويقع الحد عليها، وإلا فما الحجة وأنتم تذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير متبعضة ولا منفصلة، وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس، وقد نراكم عقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين، وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه، والجالس عن يمين صاحبه أليس هو منفصلا عنه مفروزا عنه؟ فكيف يصح على هذا القول قياس، أو يصح به عقد دين؟ تقولون مرة مجتمع، ومرة منفصل، وما شبهتموه به من الشمس، فقد تقدم شرحنا لبطلان الحجة فيه، وأنه لا يكون قياسه القياس الذي تعلقتم به.

على أنا وجدناكم تقولون في معنى التثليث: إن الذي دعاكم إليه ما ذكرتم أن " متى " التلميذ حكاه في الإنجيل عن المسيح إذ قال لتلاميذه: (سيروا في البلاد، وعمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس). وأنكم فكرتم في هذا القول بعقولكم فعلمتم أن المراد بذلك أنه لما أن ثبت حدوث العالم علمتم أن له محدثا فتوهمتموه شيئا موجودا، ثم توهمتموه حيا ثم ناطقا، لأن الشيء ينقسم لحي ولا حي، والحي ينقسم لناطق ولا ناطق. وأنكم علمتم بذلك أنه شيء حي ناطق، فأثبتم له حياة ونطقا غيره في الشخص وهما هو في الجوهرية.

فنقول لكم في ذلك: إذا كان الحي له حياة ونطق، فأخبرونا عنه: أتقولون أنه قادر عزيز، أم عاجز ذليل؟

فإن قلتم: لا بل هو قادر عزيز، قلنا: فأثبتوا له قدرة وعزة، كما أثبتم له حياة وحكمة.

فإن قلتم: لا يلزمنا ذلك، لأنه قادر بنفسه عزيز بنفسه، قلنا لكم: وكذلك فقولوا: إنه حي بنفسه وناطق بنفسه، ولا بد لكم مع ذلك من إبطال التثليث، أو إثبات التخميس، وإلا فما الفرق؟ وهيهات من فرق.

وقال الحسن بن أيوب أيضا: إنا كلما تأملنا معكم في نسبة المسيح إلى الإلهية وعبادتكم له مع الله على الجهة التي تذهبون إليها، وطلبنا لكم الحجة في ذلك من كتبكم، ازددنا بصيرة في استحالة ذلك ووضعكم له من القول ما يثبت لكم به حجة، ولا يشهد به لكم شيء من كتبكم، ووجدنا أبين ما جاء في المسيح وصحة أمره فيما أتى به ما قال متى التلميذ: إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية سأل تلاميذه فقال: ماذا يقول الناس في أني ابن البشر؟ فقالوا: منهم من يقول: إنك يوحنا المعمداني، وآخرون يقولون: إنك أرميا، أو أحد الأنبياء. فقال لهم يسوع: فأنتم ماذا تقولون؟ فأجابه سمعان الصفا، وهو رئيسهم، فقال: أنت المسيح ابن الله الحق. فأجابه المسيح وقال: طوبى لك يا سمعان ابن يونان، إنه لم يطلعك على هذا لحم ولا دم، ولكن أبي الذي في السماء.[77] وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر فقال: (إن سمعان أجابه فقال: أنت مسيح الله)، [78] ولم يقل ابن الله، فهذا كلام تلميذه الرئيس فيه وأرضاه ما قال.

وقوله: إنه لم ينطق بذلك إلا ما أوحاه الله في قلبه ولم ندفعكم قط عن أنه مسيح الله، ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع هذا الاختلاف الواقع في ذلك في الإنجيلين، وقد قال مثل ذلك فيكم جميعا: (إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم)، [14] فنعمل على احتجاجكم بأنه ليس مثلكم في معنى النبوة ونجعله مثل من سمي في الكتب ابنا على جهة الاصطفاء والمحبة مثل إسرائيل وغيره، بل قد خص إسرائيل بأن قال عز وجل: (أنت ابني بكري).[79] وهذا كلام له مذهب في اللغة القديمة التي جاءت بها الكتب، وليست بموجبة الإلهية إذ كان قد شاركه في هذا الاسم غيره، فلم لا جعلتموه كما جعل نفسه؟

ومما يؤكد المعنى في ذلك ويزيل تأويل من يتأوله له ما لم يدعه ولم يرض به، قوله في علم الساعة: (أن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة المقربون، ولا الابن يعني نفسه إلا الأب وحده)، ثم قال للرجل الذي أتاه فقال له: (أيها العالم الصالح، أي الأعمال خير لي، الذي تكون لي حياة إلى يوم الدين؟ فقال له: لم تقول لي صالحا؟ ليس الصالح إلا الله وحده)، [75] فاعترف لله بأنه واحد لا شريك له، ونفى عن نفسه فلم يجعلها ولا أحد من الخلق أهلا لذلك.

وقوله للمرأة التي جاءته فقالت: (أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: صدقت طوبى لك)، [80] ثم قال للشيطان حين اختبره فسامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل، فقال: (أمرنا أن لا نجرب الرب)، [81] ثم سامه أن يسجد له فقال: (أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده، ولا نعبد سواه)، [82] ثم صلاته في غير وقت لله، وآخرها الليلة التي أخذته اليهود فيها، [83] فإذا كان إلها كما زعمتم فلمن كان يصلي ويسجد؟

ثم قول الجموع الذين كانوا معه حين دخل أورشليم، وهي مدينة بيت المقدس على الأتان، لمن كان يسأله عن أمره لما راجت المدينة به: (هذا هو يسوع الناصري النبي الذي من الناصرة) [84] ثم قوله في بعض الإنجيل: (اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يبجل في مدينته). وفي موضع آخر أنه قال: (لا يهان نبي إلا في مدينته وفي بيته وأقاربه).[85] وقوله في بعض خطبه: (إن هذا الجيل السوء يريد آية وأنه لا يعطى إلا آية يونس، كما كان يونس لأهل نينوى: كذلك يكون ابن البشر لهذا الجيل، رجال نينوى يقومون في الدين مع هذا الجيل فيخصمونهم، لأنهم تابوا على قول يونس النبي، وإن هاهنا أفضل من يونس).[86] ثم قول داود في نبوته عليه: (من هذا الرجل الذي ذكرته وجعلته دون الملائكة قليلا).[87] ثم قول تلاميذه فيه ما شرحناه في صدر كتابنا هذا ما تقدم ووصفهم أنه رجل أتى من عند الله بالأيدي والقوة.

ومما يشبه ذلك أنه لما قدم تلامذته فركبوا السفينة وقال لهم: (امضوا فإني ألحق بكم، فأتاهم يمشي على البحر فلما رأوه في تلك الحال قالوا: ما هذا الحال ويح، ومن الغرق صاحوا. فقال لهم يسوع: اطمئنوا ولا تخافوا أنا هو، فأجابه شمعون الصفا وقال له: يا رب إن كنت أنت هو فأذن لي آتيك على الماء. فقال له: تعال، فنزل سمعان إلى الماء ليمشي عليه، فلم يستطع وجعل يغرق، فصاح وقال: يا رب أغثني، فبسط يده يسوع فأخذه وقال له: لم تشككت يا قليل الأمانة؟).[88] قال: فبان بذلك عجز المسيح عن إتمام ما سأله شمعون الصفا، ومثله أمر الرجل الذي قال ليسوع خبر ابنته وما ينالها من الشيطان، وأنه قد قدمها إلى تلاميذه فلم يستطيعوا أن يخرجوه، وقد كان جعل لهم ذلك وغيره فأخرجه هو منها.[89]

وقال في الإنجيل، وهو يذكر الأمثال التي ضربها لرؤساء الكهنة، أنهم لما سمعوها منه علموا أنها في شأنهم، فهموا أن يأخذوه ثم فرقوا من الجموع، لأنهم كانوا ينزلونه مثل النبي.[90]

وقال في الإنجيل لما جاءته أم ابني زبدا، وكانت من تلامذته مع ابنيها، فقال لها: (ما تريدين؟ قالت: أريد أن تجلس ابناي أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك. فقال: ليس إلى ذلك سبيل، لأنه ليس لي أن أعطيه، ولكن من وعد له من أبي).[91]

قال الحسن بن أيوب: فما يكون يا هؤلاء أفصح وأبين وأوضح من اجتماع هذه الشواهد لكم في كتبكم، ما رضيتم بقوله في نفسه، ولا بقول تلامذته فيه، ولا بقول من تنبأ عليه من الأنبياء، ولا قول جموعه الذين تولوه لمن سألهم من مخالفيهم عنه وتركتم ذلك كله، وأخذتم بآراء قوم تأولوا لكم على علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي، فقال كل قوم في المسيح ما اختاروا، واتبع كلا منهم طائفة قالوا بقولهم، ثم سلك من بعدهم سبيل الآباء في الاقتداء بهم. فبينوا لنا حجتكم في ذلك، وهيهات من حجة ونحن نستوهب الله العصمة والتوفيق منه.

قال: ومما يشبه ما تقدم قوله لتلاميذه في إنجيل لوقا: (فأما أنتم الذين صبرتم معي في بلائي وتجاربي فإني أعدكم كما وعدني أبي الملكوت لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي) [92] فبين أن الله عز وجل ثناؤه وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدته، وهذا ما لا شك لكم فيه، وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه، وفي الأكل والشرب والنعيم هناك؛ ثم قوله لشمعون حين أتته الجموع فأخذوه: (أم تظن أني لست قادرا أن أطلب إلى أبي فيقيم لي اثني عشر جندا من ملائكته أو أكثر، ولكن: كيف تتم الكتب أنه هكذا ينبغي أن يكون)، [93] ولم يقل: إني قادر أن أدفعهم عن نفسي، ولا أني آمر الملائكة أن يمنعوا عني، كما يقول من له القدرة والأمر.

قال: ونجدكم تقولون في المسيح : إنه مولود من أبيه أزلي، ويجب على المدعي القول أن يثبت الحجة فيه ويعلم أنه مطالب بإيضاحها، لا سيما في مثل هذا الخطب الجليل الذي لا يقع التلاعب به، ولا تجترئ النفوس على ركوب الشبهات فيه، والويل الطويل لمن تأول في ذلك تأويلا لا حقيقة له، فإنه يهلك نفسه ومن كان من الناس معه ممن يتبع قوله، إن كان هذا الابن أزليا على ما في شريعة إيمانكم فليس هذا بمولود، وإن كان مولودا فليس بأزلي؛ لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر.

ومعنى المولود: أنه حادث مفعول، وكل مفعول فله أول، فكيف ما أردتم القول فيه كان بطلان الشريعة.

قال: ونسألكم أيضا عن واحدة، لم سميتم الأب أبا والابن ابنا؟ فإنه إن كان وجب للأب اسم الأبوة لقدمه، فالابن أيضا يستحق هذا الاسم بعينه، إذ كان قديما مثله، وإن كان الأب عالما عزيزا فهو أيضا عالم عزيز تشهد شريعة الإيمان له بذلك في قولها: إنه خلق الخلائق كلها وأتقنت على يده، وأنه نزل لخلاصكم ومن قدر على ذلك لم يكن إلا عالما عزيزا، فهذه المعاني التي ذكرناها تبطل اسم الأبوة والبنوة وفي إبطالها بطلان الشريعة التي تقول: ولد من أبيه، وإلا فإن كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة، فبأي فضل وسلطان للأب عليه أمره ونهاه، فصار الأب باعثا والابن مبعوثا، والأب متبوعا مطاعا والابن تابعا مطيعا؟

ومما يشهد بصحة قولنا وبطلان ما تأوله أولوكم في عبودية المسيح، أن " متى " التلميذ حين بنى كتابه الإنجيل أول ما ابتدأ به أن قال: كتاب مولد يسوع المسيح ابن داود بن إبراهيم، [94] فنسبه إلى من كان منه على الصحة، ولم يقل: إنه ابن الله، ولا إنه إله من إله كما يقولون: فإن قلتم: إن تسمية يسوع للناسوت الذي قد جعلتموه حجة بينكم وبين كل من التمس الحجة منكم عند الانقطاع فيما يعترف به للمسيح من العبودية، فقد نسق " متى " على اسم يسوع الذي هو عندكم اسم للناسوت المسيح الذي هو جامع الناسوت واللاهوت، فأي حجة في إبطال هذا التأويل أوضح من هذا؟.

ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل الملك لمريم عند مخاطبته إياها: إنه ابن داود على ما ثبت من ذلك في الإنجيل.

قال: ووجدناكم قد ذكرتم في شريعة الإيمان: أن يسوع المسيح بكر الخلائق، فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد الرجل وكبيرهم فجائز، وهو محقق لقولنا في عبوديته، وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم، فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا للأكبر من الإخوة والأول من الولد، وبكر الخلائق لا يكون إلا من الخلائق. كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما، وباكورة الثمار لا تكون إلا ثمرة، ولأن من المحال أن يقول قائل: بكر ولد آدم ملك من الملائكة، وكذلك من المحال أن يكون بكر المصنوعات ليس بمصنوع، وبكر المخلوقات ليس بمخلوق.

وقد قال الله تعالى في التوراة: ( يا ابني بكري) أي إسرائيل، [65] وقال في موضع آخر: (إنه نظر بنو الله إلى بنات الناس فشغفوا بهن).[95] فهل يوجب لآل إسرائيل إلهية بهذا القول؟

قال: وقلتم إن المسيح ولد من أبيه قبل العوالم وليس بمصنوع، فليس يخلو الأب من أن يكون أولد شيئا موجودا أو غير موجود، فإن كان لم يزل موجودا فإن الأب لم يلد شيئا، وإن كان غير موجود وإنما هو حادث، لم يكن، فهو مخلوق كما قلنا.

قال: ومما يبين قولنا في خلق المسيح: أن هذا الاسم إنما وقع له، لأنه مسح للنبوة والخير وماسحه الله تبارك وتعالى، وقد قال داود في زبوره قولا يشهد على ذلك بعينه: (من أجل هذا البر مسحك الله إلهك أكثر مما مسح به نظراءك) [96] فأبان داود بهذه الآية معنى المسح بإنجيله، وأن ماسحه الله إلهه، وأنه مصطفى مكرم بزيادة على نظرائه، وقال داود أيضا في مزمور إحدى وثلاثين يخاطب الله: (من أجل داود عبدك لا يغلب وجه مسيحك. عهد الرب لداود بالحق، ولا يرجع عنه) [97] يعني بمسيحه نفسه، لأن الله مسحه للنبوة والملك، وقد قال مثل هذا في غير موضع من زبوره، فسمى نفسه مسيح الله.

قال: وإذا نظر في الإنجيل وكتب بولس وغيره ممن يحتج به النصارى، وجد نحوا من عشرين ألف آية مما فيه اسم المسيح وكلها تنطق بعبودية المسيح، وأنه مبعوث مربوب وأن الله اختصه بالكرامات، ما خلا آيات يسيرة مشكلات قد تأولها كل فريق من أولئك الذين وضعوا الشريعة باختيارهم على هواهم، فأخذوا بذلك التأويل الفاسد، وتركوا المعظم الذي ينطق بعبوديته، فلو كانوا قصدوا الحق لردوا تلك المشكلات الشاذة اليسيرة التي يوجد لها من التأويل خلاف ما يتأولونه على الواضحات الكثيرة التي قد بانت بغير تأويل، لأنه إنما يجب أن يقاس الجزء على الكل، ويستدل على ما غاب بما حضر، وعلى ما أشكل بما ظهر، فمن تلك الآيات المشكلات ما ذكرناه في كتابنا هذا وبينا معناه والحجة فيه، وأنه ليس كما تأولوه.

ومنها ما يحكون عن المسيح أنه قال: (أنا بأبي)، وقد فسر المسيح ذلك وكشفه. قال " يوحنا " في إنجيله: إن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال: يا أيها الرب القدوس احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، [98] وكما أنك أرسلتني إلى العالم، وكذلك أرسلهم أنا أيضا.[47] ثم قال بعد هذا أيضا: إني قد منحتهم من المجد الذي أعطيتني ومنحتني ليكونوا أيضا شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فأنا بهم وأنت بي.[99]

قال: هو معنى ذلك أنه قال: أنت معي وأنت لي، كما أنا مع تلاميذي ولهم.

قلت: أو أراد أنك بي هديت الخلق وعلمتهم وأنا أهديهم وأعلمهم. والباء للسببية، فإن الله برسله هدى عباده وعلمهم، والرسل علموا الغائبين عنهم بالحاضرين الذين بلغوا عنهم، وقوله: ليكونوا شيئا واحدا: أراد به اتفاق صدقهم وأمرهم ومرادهم، وهذا مفسر، وقد قال: ليكونوا هم شيئا واحدا، كما أنا شيء واحد، فقد طلب لهم مثل ما حصل له ولربه.

وهذا يبين أن قوله: كما أنا شيء واحد، أي أنا موافقك في أمرك ونهيك ومحبتك ورضاك، لم يرد بذلك اتحاد ذاته به، كما لم يرد أن تتحد ذوات بعضهم ببعض، فإنه طلب لهم مثل ما حصل له من الموافقة لأمر الله ونهيه ومحبته ورضاه.

قال: أو يكون ذهب فيه إلى معنى دقيق لا يعرفه إلا أنه قد بطل على كل حال بهذا القول تأويلكم ممازجته عز وجل في اللاهوت بقوله في تلاميذه أنه بهم، كما أن أباه به، لأنه إن تأول متأول في هذا المعنى أنه ذهب في وصفه أنه أبيه، وأن أباه به إلى مشاركته في اللاهوت فقد قال في تلامذته مثل هذا القول، فيجب أن يكونوا على هذا القياس شركاء في المحل، وهذا ما لا يكون ولا يجترئ على القول به أحد.

قال: ومن أعجب العجب أن تكون أمة كتابها ودعوتها ومعبودها واحد يتمسكون بأمر المسيح ، وتلامذته وإنجيله وسنته وشرائعه، وهم مع ذلك مختلفون فيه أشد الاختلاف، فمنهم من يقول: إنه عبد، ومنهم من يقول: إنه إله، ومنهم من يقول: إنه ولد، ومنهم من يقول: إنه أقنوم وطبيعة، ومنهم من يقول: إنه أقنومان وطبيعتان. وكل منهم يكفر صاحبه ويقول إن الحق في يده، وكلهم لا يأتي من الكتاب بحجة واضحة يثبت بها دعواه، ولا من قياسه لنفسه وتأوله بما يصح له عند المناظرة، وإنما يرجع في دينه واعتقاده إلى ما تأوله له المتأولون، بما يخالف إنجيلهم وكتبهم بالهوى والعناد من بعضهم لبعض، فهم يشركون بالله على التأويل ولا شريك له، ويدعون له ولدا من جهة ما أحدثوا لأنفسهم، سبحانه أنى يكون له ولد.

قال الحسن بن أيوب: وقد بينا الحجج في بطلان كل قول لكم مما عقدتم به شريعة إيمانكم، ووجدنا قوما منكم إذا نوظروا في ذلك قالوا قد وجدنا أكثر الأديان يختلف أهلها فيها، ويتفرقون على مقالات شتى هم عليها، وكل منهم يدعي أن الصواب في يده.

وهذا أيضا من سوء الاختيار، وذهاب القلوب عن رشدها وانصرافها عن سبيل حقها. فلم يختلف أهل دين من الأديان في عقد معبودهم، ولا شكوا فيه ولا تفرقوا القول فيما اختاروه، إلا أهل ملل النصرانية فقط. وسائر من سواهم إنما اختلفوا في فروع من فروع الدين وشرائعه، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسنن لهم، ومثل اختلاف المسلمين في القدر. فمنهم من قال به، ومنهم من دفعه. وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد ﷺ على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وخالقهم، وأن الله إله الخلق كلهم واحد لا شريك له ولا ولد. ثم اتفاقهم بعد ذلك على نبيهم محمد ﷺ لا يشكون فيه، وعلى القرآن وأنه كتاب الله المنزل على محمد المرسل لا يختلفون فيه.

فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول، كان ما سواها خللا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين.

والبلاء العظيم الاختلاف في المعبود.

فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ولا دينا، ثم عرض عليهم دين النصرانية، لوجب أن يتوقفوا عنه، إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء فيه. ودل اختلافهم في مقالاتهم ومباينتها ما في كتبهم على باطله.

فأما قولنا في باب التوحيد، واعترافنا بوحدانية الله تعالى ونفينا عنه الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد، فهو قول لا يشكون في صحته ولا يشك فيه أحد من أهل الكتب وسائر الملل ولا غيرهم من أهل القول بالدهر وسائر عبدة الأصنام والأوثان، وكل منهم يقر به ويرجع إليه. إلا أن منهم من يتابعنا على تحديد التوحيد. ومنهم من يدخل العلل فيه، بأن يقول: ثلاثة ترجع إلى واحد، وصنما نعبده إجلالا لله ليقربنا إلى ربنا وربه، ومدبر للأمور قديم لا بد أن نعترف به خالقها وباريها. وكل منهم مقر بقولنا، وذاهب إلى مذهبنا على الاعتراف بالله على الجهة التي يذهب إليها، وأنه واحد لا شريك له.

فقد صح عقدنا بلا شك منكم، ولا من أحد من الأمم فيه، ولا في شيء منه، بل تقودكم الضرورة إلى الإقرار به والاجتماع معنا عليه.

والحمد لله رب العالمين على توفيقه، وإياه نسأل أن يتم علينا فضله ويديم لنا تسديده بقدرته، وأن يحيينا ويميتنا على الإسلام غير مشركين ولا جاحدين ولا مبدلين، إنه على كل شيء قدير، وكل مستصعب عليه يسير، وهو بمن خافه واتقاه وطلب ما عنده ولم يلحد في دينه رءوف رحيم. اهـ.

قلت: هذا آخر ما كتبته من كلام الحسن بن أيوب، وهو ممن كان من أجلاء علماء النصارى وأخبر الناس بأقوالهم، فنقله لقولهم أصح من نقل غيره.

وقد ذكر في كتابه من الرد على ما يحتجون به من الحجج العقلية والسمعية، وما يبطل قولهم من الحجج السمعية والعقلية ما يبين ذلك.

كلام سعيد بن البطريق

ونحن نذكر مع ذلك كلام من نقل مذاهبهم من أئمتهم المنتصرين لدين النصرانية، ونذكر ما ذكروه من حججهم، مثل ابن البطريق، بترك الإسكندرية، فإنه صنف كتابه الذي سماه " نظم الجوهر " وذكر فيه أخبار النصارى ومجامعهم واختلافهم، وسبب إحداثهم ما أحدثوه مع انتصاره لقول الملكية والرد على من خالفهم.

قال سعيد بن البطريق بطريرك الإسكندرية في تاريخه المعروف عند النصارى الذي سماه نظم الجوهر، وذكر فيه مبدأ الخلق وتواريخ الأنبياء والملوك والأمم وأخبار ملوك الروم وأصحاب الكراسي برومية وقسطنطينية وغيرهما، ووصف دين النصرانية وفرق أهلها، وهو ملكي، رد على سائر طوائف النصارى لما ذكر مولد المسيح صلوات الله عليه وأنه ولد في عهد ملك الروم قيصر المسمى أغسطس لثنتين وأربعين سنة من ملكه، قال: وملك ستا وخمسين سنة.

قال: وملك بعده ابنه " طيباريوس " قيصر برومية، وللمسيح خمس عشرة سنة. وكان لقيصر هذا صديق يقال له " بلاطس " من قرية على شط البحر الذي تحت " قسطنطينية " ويسمى ذلك البحر " السطس " ولذلك يسمى " بلاطس النبطي " فولاه على أرض " يهوذا ".

قال: وفي خمس عشرة سنة من ملك " طيباريوس " قيصر هذا ظهر " يحيى " ابن زكريا المعمداني، فعمد اليهود في الأردن لغفران الخطايا. فجاء المسيح إلى يحيى بن زكريا فعمده يحيى في الأردن، ولسيدنا المسيح ثلاثون سنة، وذكر قصة قتل يحيى، وقصة الصلب المعروفة عند النصارى.

إلى أن قال: وكتب بلاطس " إلى " طيباريوس " الملك بخبر سيدنا المسيح وما تفعل تلاميذه من العجائب الكثيرة من إبراء المرضى وإحياء الموتى. فأراد أن يؤمن بسيدنا المسيح ويظهر دين النصرانية، فلم يتابعه أصحابه على ذلك، وملك اثنتين وعشرين سنة وستة أشهر.

وذكر أن في عصره بنيت مدينة " طبرية " مشتقة من اسمه.

قال: وملك بعده قيصر آخر أربع سنين وثلاثة أشهر. قتل " بلاطس " وولى شخصا كان شديدا على تلاميذ المسيح، وقتل رئيس الشهداء والشمامسة، فرجم بالحجارة حتى مات.

وذكر أنه لقي التلاميذ من اليهود ومن الروم شدة شديدة، وقتل منهم خلق كثيرة، وأنه مات هذا وولي بعده قيصر آخر، وفي زمنه وقع جوع ووباء وفي زمنه كتب " متى " وبين إنجيله بالعبرانية في بيت المقدس، وفسره من العبرانية إلى الرومية " يوحنا " صاحب الإنجيل.

قال: وفي تسع سنين من ملكه كان " مرقس " صاحب الإنجيل بمدينة الإسكندرية يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح، وأنه أول شخص جعل بطريركا على الإسكندرية، وأنه صير معه اثني عشر قسيسا وأمرهم إذا مات البطريرك أن يختاروا واحدا من الاثني عشر قسيسا، ويضع الاثنا عشر قسيسا أيديهم على رأسه ويباركونه ويصلحونه بطريركا، ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا ويصيرونه معهم بدل القسيس الذي أصلحوه بتركا، ليكون اثني عشر أبدا.

فلم يزل رسمهم بالإسكندرية على هذا إلى زمن الثلاثمائة وثمانية عشر.

فأمرهم بطريرك الإسكندرية الذي كان من جملة الثلاثمائة وثمانية عشر أن لا يفعل هذا فيما بعد، ومنع أن يصلح الأقساء البترك، بل يختاروا من أي بلد كان رجلا فاضلا، وإذا مات البترك اجتمع الأساقفة فأصلحوا البترك من أي بلد كان من أولئك الأقسة، أو من غيرهم.

فانقطع الرسم الأول من إصلاح الأقساء البترك، وجعل التيسير لهم في إصلاح البترك بابا، ثم سمى بترك الإسكندرية بابا، ومعناه الجد.

ومن حنانيا الذي أصلحه " مرقس البشير " إلى حادي عشر بطركا بالإسكندرية، لم يكن في عمل مصر أسقف ولم يكن البطاركة قبله أصلحوا أسقفا، وأن العامة لما سمعت الأساقفة يسمون البطريرك أبا قالوا: إذا كنا نحن نسمي الأسقف أبا، والأسقف يسمي البطريك أبا، فيجب علينا أن نسمي البطريرك بابا؛ أي الجد، إذ كان أبا لأبينا، فسمي بطريرك الإسكندرية من وقت " هرقل " بابا، أي الجد.

قال: وخرج " مرقس " إلى " برقة " يدعو الناس إلى الإيمان بالسيد المسيح ومات " قلوديوس " قيصر، وملك بعده ابنه " نارون " ثلاث عشرة سنة.

قال: وهو أول من أهاج على النصارى الشر والبلاء والعذاب.

قال: وفي عصره كتب " بطرس " رئيس الحواريين الإنجيل ( إنجيل مرقس) عن مرقس بمدينة رومية، ونسبه إلى مرقس.

قال: وفي عصر هذا الملك كتب " لوقا " إنجيله بالرومية إلى رجل شريف من عظماء الروم يقال له " فوفيلا " فكتب له أيضا الأبركسس الذي فيه أخبار التلاميذ.

وقد كان " لوقا البشير " صاحب " بولس الرسول " يقول في بعض رسائله أن " لوقا " الطبيب يقول: " عليكم السلام ".[100]

وقال: وأخذ ثارون قيصر لبطرس فصلبه منكسا، ثم قتله، لأن بطرس قال له: إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكسا، لئلا أكون مثل سيدي المسيح، فإنه صلب قائما، وضرب عنق بولس الرسول بالسيف. وأقام بطرس بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة.

قال: وكان مرقس صاحب الإنجيل بالإسكندرية وبرقة يدعو الناس إلى الإيمان فأقام سبع سنين.

وفي أول سنة من ملك نارون قيصر قتل مرقس بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار، وذكر بعده عدة قياصرة، وذكر أن " طيطس " خرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة، بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم، وقتل كل من كان فيها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهم الصخور. وخرب المدينة والهيكل، وأضرم بها النار، وأحصى القتلى على يديه فكانوا ثلاثة آلاف ألف.

وذكر عدة قياصرة بعد ذلك، وأنه ولي واحد منهم خمس عشرة سنة، يقال له: " ذوما طيانوس " وكان شديدا جدا على اليهود، وأنه بلغه أن النصارى يقولون أن المسيح ملكهم، وأن ملكه إلى الدهر. فغضب غضبا شديدا وأمر بقتل النصارى، وأن لا يكون في ملكه نصراني.

وكان " يوحنا " صاحب الإنجيل هناك فسمع بهذا، فخاف وهرب إلى أفسس.

ثم إنه أمر بإكرامهم وترك الاعتراض عليهم.

ثم تولى بعده قيصر آخر سنة وبعض أخرى، ثم ملك آخر بعده تسع عشرة سنة، يسمى " طرايانوس ".

قال: وهذا الملك أثار على النصارى بلاء عظيما وحزنا طويلا، وقتل شهداء كثيرة، وقتل بطريرك إنطاكية برومية وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه وله مائة وعشرون سنة، وأمر أن يستعبد النصارى إذ ليس لهم دين ولا شريعة.

فلشدة ما استعبد النصارى وغلظ ما نالهم من القتل، رحمتهم الروم وشهد وزراء الملك عنده أن النصارى لهم شريعة ودين، وأنه لا يحل أن يستعبدوا، فكف عنهم الأذية.

قال: وفي عصره كتب " يوحنا " إنجيله بالرومية في جزيرة يقال لها: " تيمرا " من أرض الروم من أرض " أثينة " في عصر رجل من عظماء الروم فيلسوف يقال له: " مومودس ".

قال: وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس.

فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة، عزموا على أن يملكوا منهم ملكا، فبلغ الخبر " طيباريوس قيصر " فوجه بقائد من قواده بجيش عظيم إلى بيت المقدس، فقتل من اليهود ما لا يحصى كثرة.

قال: وخرج على قيصر هذا خارجي مقاتل ببابل، فخرج إليه بنفسه فوقعت بينهم حرب شديدة، وقتل من الفريقين خلق عظيم، وقتل قيصر في الحرب.

وملك بعده " أندريانوس قيصر " عشرين سنة، فخرج إلى ذلك الخارجي ببابل فهزمه، وصار إلى مصر فلقي منه أهل مصر شدة شديدة، وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من النصارى خلقا كثيرا، وأصاب " إيليا " ابنه علة في بدنه، فكان ينفذ إلى البلدان يطلب شفاء لعلته، فوصفوا له بيت المقدس.

فلما وافاها رآها خرابا ليس فيها أحد إلا كنيسة للنصارى، فأمر أن تبنى المدينة وتحصن بحصن قوي.

فلما سمع اليهود أقبلوا من كل بلد وكل مدينة، فما كان إلا زمان قليل حتى امتلأت منهم المدينة، فلما كثروا ملكوا عليهم ملكا.

فاتصل الخبر بإيليا بن قيصر إندريانوس، فوجه إليهم بقائد من قواده مع خلق كثير، فحاصر المدينة، فمات كل من فيها من الجوع والعطش، ثم فتحها فقتل من اليهود ما لا يحصى، وهدم الحصن وخرب المدينة حتى صيرها صحراء.

قال: وهذا آخر خراب بيت المقدس، وهرب من اليهود من هرب إلى مصر وإلى الشام وإلى الجبال وإلى الغور.

وأمر الملك أن لا يسكن المدينة يهودي، وأن يقتل اليهود ويستأصلوا، وأن يسكن المدينة اليونانيون ويبنوا على باب الهيكل برجا، ويجعل فوقه ألواحا ويكتبوا عليه اسم " إيليا الملك " وذلك من ثمان سنين من ملكه.

قال: والبرج اليوم على باب مدينة القدس، وسمي محراب داود.

قال: فسمي بيت المقدس إلى هذا الوقت " إيليا ".

فمن الخراب الأول الذي أخربه " طيطس " إلى هذا الخراب ثلاث وخمسون سنة.

وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين، فنظروا إلى النصارى يأتون إلى تلك المزبلة التي فيها القبر والأقرانيون، فيصلون، فمنعوهم من ذلك.

وبنى اليونانيون على تلك المزبلة هيكلا على اسم الزهرة، فلم يقدر أحد من النصارى بعد ذلك أن يقرب ذلك الموضع.

قال: ثم مات " إيليا الملك " وملك بعده " أنطونيوس قيصر " برومية اثنين وعشرين سنة.

قال: وفي إحدى عشرة سنة من ملكه صير " يهودا " أسقفا على بيت المقدس، فأقام سنتين ومات.

قال: فمن يعقوب أسقف المقدس الأول إلى يهودا أسقف بيت المقدس هذا، كانت الأساقفة الذين صيروا على بيت المقدس مختونين.

وذكر أنه ولي بعد هذا قيصر آخر اسمه " مرقس " تسع عشرة سنة، وأنه أثار على النصارى بلاء عظيما وحزنا شديدا، واستشهد في زمانه شهداء كثيرون.

قال: وكان في أيامه جوع شديد ووباء عظيم لم تمطر السماء سنين، وكاد الملك وجميع أهل مملكته أن يهلكوا من الجوع.

فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم، فدعوا فأمطر الله عليهم مطرا عظيما وارتفع الوباء والقحط.

قال: وكان بأيامه بأرض اليونانيين " مغنوس " الحكيم.

قال: وفي خمس سنين من ملكه، صير " لولياثوس " بطريركا، وهو أول بطريرك أصلح الأساقفة في عمل مصر، أقام ثلاثا وأربعين سنة ومات.

فصل

قال: وفي ذلك العصر كتب بطريرك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس وبطرك إنطاكية وبطرك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم، وكيف يستخرج من فصح اليهود، فوضعوا في ذلك كتبا كثيرة على ما هو عليه اليوم.

قال: وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود سيدنا المسيح إلى السماء إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما، ويفطرون كما فعل سيدنا يسوع المسيح، لأن سيدنا المسيح لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها صائما أربعين يوما، وكان النصارى إذا أفصح اليهود عيدوا هم الفصح.

فوضع هؤلاء البطاركة حسابا للفصح ليصوم النصارى أربعين يوما، ويكون فطرهم يوم الفصح ليتم فرحهم بذلك.

قلت: فقد أخبر عن المسيح أنه لما صام أربعين يوما عقب المعمودية، وكان يعيد مع اليهود في عيدهم لا يعيد عقب صومه، شاركه النصارى في ذلك مدة، فصاروا يصومون أربعين عقب الغطاس الذي هو نظير المعمودية، ويعيدون مع اليهود العيد.

ثم إنهم بعد هذا ابتدعوا تغيير الصوم، فلم يصوموا عقب الغطاس، بل نقلوا الصوم إلى وقت يكون عيدهم مع عيد اليهود، فيكون عيدهم مع عيد اليهود، وهو فصح المسيح، ويكون ذلك وقت قيامته من قبره.

قال: ومات " مرقص الملك " وملك بعده " قمودوس قيصر " برومية اثنتي عشرة سنة، وفي أيامه كان في أرض اليونانيين في مدينة " أفرغامس "، " جالينوس " الحكيم صاحب صناعة الطب.

وذكر " جالينوس " في فهرست كتبه أنه ربى " قمودوس الملك ".

وذكر " جالينوس " في المقالة الأولى من الكتاب المعروف بـ (كتاب أخلاق النفس): أنه كان في عصر " قمودوس الملك " رجل يقال له " بولس " طلبه " قمودوس الملك " ليقتله، فهرب منه، وكان له غلامان، فقبضهما الملك، فضربهما الملك، وطلب منهما أن يدلاه على مولاهما، فلم يفعلا لكرم أنفسهما ونخوتهما وشدة محاماتهما على مولاهما، فقتلهما. وأن من الإسكندر إلى بولس خمسمائة سنة وست عشرة سنة، وذلك في السنة التاسعة من ملك " قمودوس قيصر " فهذا ما ذكر جالينوس.

قال: وكان أيضا في أيام " ديمقراطيس " الحكيم.

قلت: هذه المدة أكثر مما ذكره " سعيد " هذا، فإنه لم يذكر من المسيح إلى هنا مائتا سنة، بل ذكر إلى الخراب مائة وثلاثة وعشرين سنة، وقد تقدم ذكره " لديمقراطيس " قبل هذا.

قال: وفي عشر سنين من ملكه ظهرت الفرس فغلبت على " بابل "، وأمدوا فارس، وتملك " أزدشير بن ساسان " بابل من أهل أصطخر، وهو أول ملك ملك على فارس في المرة الثانية.

قال: ومات " قمودوس قيصر " ملك الروم، وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر، ثم آخر، وملك بعده برومية " سويرس قيصر " سبع عشرة سنة، وذلك في أربع سنين من ملك " أزدشير ".

وكان هذا الملك شديدا، قد أثار على النصارى بلاء عظيما وعذابا كبيرا، وقتل كل عالم منهم وقتل خلقا كثيرا، واستشهد في أيامه خلق كثير من النصارى في كل موضع، ثم قتل كل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى، وهدم الكنائس وبنى بالإسكندرية هيكلا، وسماه هيكل الآلهة.

وملك بعده قيصر، وهو " أنطونيوس " الأصلع ست سنين، وملك بعده قيصر آخر ثلاث عشرة سنة، كانت النصارى في أيامه في هدوء وسلامة، وكانت أمه تحب النصارى، وفي أيامه سمي بطرك الإسكندرية " بابا " أي الجد، وملك بعده قيصر آخر ثلاث سنين، وهذا أثار على النصارى بلاء طويلا وحزنا عظيما، وقتل منهم خلقا كثيرا وأخذ الناس بعبادة الأصنام، وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا وقتل بترك أنطاكية، فلما سمع أسقف بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي.

قال: ومات قيصر هذا في السنة الثانية من ملك " بهرام بن هرمز " وملك بعده قيصر آخر ثلاثة أشهر، ثم بعده آخر أربع سنين، واسمه " غرديانوس " وفي ثلاث سنين من ملكه مات " بهرام بن هرمز " وملك بعده " بهرام بن بهرام " على الفرس تسع عشرة سنة.

وفي أيامه ظهر رجل فارسي يقال له: " ماني " فأظهر دين المانية، وزعم أنه نبي، فأخذه " بهرام بن بهرام " ملك الفرس فشقه نصفين، وأخذ من أصحابه وممن يقول بقوله مائتي رجل، فغرس رءوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا منكسين.

وملك بعد قيصر هذا " فيلبس " قيصر برومية سبع سنين، وآمن بالسيد المسيح، ووثب عليه قائد من قواده فقتله.

ثم ملك بعده قيصر آخر اسمه " داقنوس " وهو " دقيانوس " وذلك من عشر سنين من ملك " بهرام بن بهرام " فلقي النصارى منه حزنا طويلا وعذابا شديدا، وقتل منهم من لا يحصى واستشهد في أيامه من الشهداء خلق كثير، وقتل بطرق رومية، ثم خرج إلى مدينة " أفسس " فبنى في وسطها هيكلا عظيما وصير فيه الأصنام، وأمر أن يسجد للأصنام ويذبح لها، ومن لم يفعل ذلك قتل، فقتل من النصارى بأفسس خلقا عظيما، وصلبهم على الحصن واتخذ من أولاد عظماء " أفسس " سبعة غلمان من خواصه وعلى كسوته، وقدمهم على جميع من عنده، وذكر أسماءهم، أسماء أصحاب أهل الكهف.

قال: وهؤلاء السبعة الغلمان لم يسجدوا للأصنام، فأعلموا الملك بخبرهم فأمر بحبسهم، ثم خرج إلى بعض المواضع وأطلق سبيلهم إلى حين رجوعه.

فلما خرج من المدينة أخذ الغلمان كل ما لهم فتصدقوا به، ثم خرجوا إلى جبل عظيم يقال له: " جاوس " شرقي أفسس " فيه كهف كبير فاختفوا في الكهف، فكان واحد منهم في كل يوم يتنكر ويدخل المدينة، فيسمع ما يقول الناس في شأنهم ويشتري لهم طعاما ويرجع فيعلمهم.

فقدم " دقيانوس " الملك فسأل عنهم، فقيل له: إنهم في جبل " جاوس " في الكهف مختفين.

فأمر الملك أن يبنى باب الكهف عليهم ليموتوا، وصب الله عليهم النعاس، فناموا كالأموات.

وأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس، وكتب فيها خبرهم وقصتهم مع " دقيانوس " الملك، وصير الصفيحة في صندوق نحاس ودفنه داخل الكهف، وبنى الكهف.

ومات الملك " دقيانوس قيصر " وملك بعده قيصران برومية سنتين، ثم قيصر آخر اسمه " غنيونوس " خمس عشرة سنة، وملك بعده قيصر آخر سنة واحدة ومات، وذلك من ثلاث سنين من ملك " هرمز ".

وفي أول سنة من ملك هذا، صير " بولس " بطركا على أنطاكية ويسمى: " بولوس الشمشاطي " قال: وهو الذي ابتدع دين " البوليانية "، فسمي التابعون لدينه والقائلون بمقالته بوليانيين.

قال: وكانت مقالته: أن سيدنا المسيح خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره، فإن ابتداء الابن من مريم وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية، فحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي: (ابن الله).

وقال: إن الله جوهر واحد، وأقنوم واحد ولا نؤمن بالكلمة، ولا بروح القدس.

قال: وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفا في مدينة " أنطاكية " ونظروا في مقالة " بولس "، فأوجبوا على هذا الشمشاطي اللعن فلعنوه، ولعنوا من يقول مقالته وانصرفوا.

قال: وبعده ملك قيصر آخر ست سنين، اسمه " أوراغوس قيصر ".

قال: وكان النصارى بالإسكندرية في أيامه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم، ولم يكن يظهر بترك بالإسكندرية؛ لئلا يقتلوهم.

فلما صار " نارون " بطركا، ظهر ولم يزل يداري الروم حتى بنى بالإسكندرية كنيسة " حنا " و " مار مريم " وملك بعده قيصران، ثم قيصر اسمه " فاروس " وذلك في تسع سنين من ملك " سابور بن هرمز ". وكان شديدا على النصارى، قتل الأخوين " قزمان " و " دميان " الشهيدين، وملك بعده " دقيطيانوس ".

قال: فمن خراب " طيطس " لبيت المقدس إلى ملك " دقيطيانوس " مائتان وست سنين، ومن مولد سيدنا المسيح إلى " دقيطيانوس " مائتان وست وسبعون سنة، ومن الإسكندر إلى " دقيطيانوس " خمسمائة وخمس وتسعون سنة، ومن سبي بابل إلى " دقيطيانوس " ألف وثلاثمائة وخمس وثلاثون سنة، ومن داود إلى " دقيطيانوس " ألف وتسعمائة وإحدى وأربعون سنة.

قال: وملك " دقيطيانوس " في إحدى عشرة سنة من ملك " سابور بن هرمز " ملك الفرس، وملك معه اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة، وهؤلاء أثاروا على النصارى بلاء عظيما وحزنا طويلا وعذابا أليما وشدة شديدة تجل عن الوصف من القتل والعذاب واستباحة الأموال، واستشهدوا ألوفا من الشهداء وعذبوا " ماري جرجس " أصناف العذاب وقتلوه بفلسطين، وقتلوا " ماري مينا " و " ماري بقطر " و " أيتماخوس " و " مركورس " وغيرهما.

قال: وفي عشر سنين من ملكهما صير " بطرس " بطركا على الإسكندرية فأقام عشر سنين وقتل.

وفي عشرين سنة من ملكهما، ضرب عنق بطرس هذا البطرك بالإسكندرية.

قال: وكان لبطرس تلميذان، اسم أحدهما " أشلا " والآخر " الأكصندروس " وكان بالإسكندرية رجل يقال له: " أوريوس " يقول: إن الأب وحده الله الفرد، والابن مخلوق مصنوع، وقد كان (الأب) إذ لم يكن الابن.

فقال " بطرس " البطرك لتلميذيه: إن المسيح لعن " أريوس " فاحذرا أن تقبلا قوله، فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب، فقلت له: يا سيدي من شق ثوبك؟ فقال لي: " أريوس "، فاحذروا أن تقبلوه ويدخل معكم الكنيسة، كنيسة الله.

قال: وبعد قتل " بطرس " بخمس سنين صير " أشيلا " بطركا على الإسكندرية، فأقام ستة أشهر ومات.

وكان " أريوس " قد استعان على " أشلا " بأصدقائه، فأورى أنه قد رجع عن تلك المقالة، فقبله " أشلا " وأدخله الكنيسة وجعله قسيسا.

قال: وأما " دقيطيانوس " الملك فكان يطلب النصارى فيقتلهم. فبينما هو يسير في طلبهم إذ بلغ إلى موضع يقال له: " ملطية " فصب الله عليه نقمته، فوقع في علل عظيمة وأمراض عظيمة حتى ذاب جسمه، وكان الدود يتساقط من بدنه إلى الأرض، وسقط لسانه من حنكه ومات.

وملك بعده قيصران، أحدهما المشرق والشام وأرض الروم، والآخر رومية ونحوها، وكان أحدهما اسمه " علانيوس " والآخر " مقصطيوس " فكانا كالسباع الضارية على النصارى، وأثارا عليهم البلاء والجلاء وما لا يصفه واصف، وفعلا بهم ما لم يفعله أحد من الملوك قبلهم.

وملك معهما على بزنطية، وما والاها " قسطس " أبو " قسطنطين "، وكان رجلا دينا مبغضا للأصنام محبا للنصارى.

فخرج " قسطس " إلى ناحية الجزيرة و " الرها "، فنزل في قرية من قرى " الرها " يقال لها: " كفرجاث " فنظر فيها امرأة حسنة جميلة يقال لها: " هيلانة " وكانت قد تنصرت على يدي أسقف " الرها " وتعلمت قراءة الكتب.

وولدت " هيلانة " " قسطنطين " " فتربى بـ " الرها " وتعلم حكم اليونانيين، وكان غلاما حسن الوجه قليل الشر، وديعا محبا للحكمة.

وأما " علانيوس " فكان رجلا وحشيا شديد البأس، مبغضا للنصارى جدا كثير القتل لهم، محبا للنساء، ولم يترك للنصارى بنتا بكرا إلا أخذها وأفسدها وقتلها، وكذلك أصحابه، وهكذا كانوا يفعلون بالنصارى، وكان النصارى في شدة شديدة جدا معهم.

وبلغه خبر " قسطنطين " وأنه غلام هاد قليل الشر كثير العلم والخير.

وأخبره الحكماء الذين له والمنجمون أن " " قسطنطين " " سيملك ملكا عظيما، فهم بقتله.

وعلم " " قسطنطين " " بذلك فهرب من " الرها " وذهب إلى مدينة " بزنطية " ووصل إلى أبيه " قسطس " فسلم إليه الملك.

وبعد قليل مات " قسطس " وصب الله على " علانيوس " الملك عللا عظيمة، حتى تقطع لحمه وتهرأ، وبقي مطروحا لا يقدر أحد أن يقترب منه.

فعجب الناس مما ناله، ورحمه أعداؤه مما حل به.

فرجع إلى نفسه وقال: لعل هذا الذي بي مما أقتل النصارى.

فكتب إلى جميع عماله أن يطلقوا النصارى من الحبوس، وأن يكرموهم ولا يؤذوهم، ويسألونهم أن يدعوا له في صلاتهم.

فصلى النصارى على الملك ودعوا له، فوهب الله له العافية ورجع إلى أفضل مما كان عليه من الصحة والقوة.

فلما صح وقوي، رجع إلى أشر مما كان عليه من الردى.

وكتب إلى جميع عماله أن يقتلوا النصارى، ولا يعيش في مملكته نصراني ولا يسكنوا مدينة ولا قرية له.

فمن كثرة القتلى كانوا يحملون على العجل ويرمون بهم في البحار والصحاري، وقتل " مار جرجس " وأخاه بمدينة " قباذوقية " وهما من أهلها، وقتل " بربارة "، وذكر حربا جرت بينه وبين " سابور " لما تنكر " سابور " وجاء إليه متنكرا وعرفه.

قال: وأما " مقسطيوس " فكان شريرا على أهل رومية، واستعبد كل من كان برومية وخاصة النصارى، فكان ينهب أموالهم ويقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم.

فلما سمع أهل رومية بملك " " قسطنطين " " وأنه مبغض للشر محب للخير، وأن أهل مملكته معه في هدوء وسلامة، كتب رؤساء رومية إلى " " قسطنطين " " يسألونه ويطلبون إليه أن يخلصهم من عبودية " مقسطيوس " عدو الله.

فلما قرأ كتبهم، اغتم غما شديدا وبقي متحيرا ولا يدري كيف يصنع.

فبينما هو متفكر، إذ ظهر له من نصف النهار في السماء صليب من كواكب تضيء، مكتوبا حوله بهذا تغلب.

فقال لأصحابه: رأيتم ما رأيت؟ قالوا: نعم.

فآمن من ذلك الوقت بالنصرانية، وذلك لست سنين من بعد موت أبيه.

فتجهز " " قسطنطين " " واستعد لمحاربة " مقسطيوس " ملك رومية، وعمل صليبا كبيرا من ذهب، وصيره على رأس البند وخرج يريد " مقسطيوس ".

فلما سمع " مقسطيوس " أن " " قسطنطين " " قد وافاه لمحاربته، استعد لحربه وعقد جسرا على النهر الذي قدام رومية، وخرج مع جميع أصحابه يحارب " " قسطنطين " ".

فأعطي " " قسطنطين " " النصرة عليه، فقتل من أصحاب " مقسطيوس " مقتلة عظيمة، وهرب " مقسطيوس " وغرق هو وأصحابه حتى امتلأ البحر وهو النهر الذي عند رومية غرقى وقتلى.

وخرج أهل رومية إلى " " قسطنطين " " بالإكليل الذهب وكل أنواع اللهو واللعب، فلقوا " " قسطنطين " " وفرحوا فرحا عظيما.

فلما دخل المدينة أمر أن تدفن أجساد النصارى الشهداء المصاليب، وكل من كان من النصارى هرب أو نفاه " مقسطيوس " يرجع إلى بلده وموضعه، ومن أخذ له شيء رد إليه.

وأقام أهل رومية سبعة أيام يعيدون للملك وللصليب ويفرحون.

فلما سمع الخبر " علانيوس " جمع ما قدر عليه وتجهز لقتال " " قسطنطين " ".

فلما عاينه انهزموا من بين يديه وأخذهم بالسيف، وقتل منهم مقتلة عظيمة، ومنهم من أسر ومنهم من استأمن.

وأفلت " علانيوس " عريانا، فلم يزل يتقوى موضعا موضعا حتى وافى مدينته، فجمع الكهنة والسحرة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم، فضرب أعناقهم، لئلا يقعوا في يد " " قسطنطين " ".

وصب الله على " علانيوس " نارا في جوفه حتى كانت أحشاؤه تتقطع من الحر الذي كان يجده في جوفه، وسقط على الأرض وتهرأ لحمه على عظمه ومات.

وملك " " قسطنطين " " الدنيا في هدوء وسلامة، وذلك في إحدى وأربعين سنة من ملك " سابور بن هرمز " ملك الفرس.

قال: وتنصر " " قسطنطين " " في مدينة يقال لها: " نيقوميديا "، وذلك في اثنتي عشرة سنة من ملكه، وأمر ببناء الكنائس في كل بلد، وأن يخرج من بيت المال الخراج مما يعمل به أبنية الكنائس.

قال: وفي خمس سنين من ملكه صير " الأكصندروس " بطريركا على الإسكندرية، وهو تلميذ بطركها " بطرس " الذي قتل وهو رفيق " أشلا "، فأقام ست عشرة سنة، وفي خمس عشرة سنة من رياسته، كان المجمع بمدينة " نيقية " الذي رتبت فيه الأمانة الأرثذكسية.

فمنع " الأكصندروس " بترك الإسكندرية " أريوس " من دخول الكنيسة ولعنه، وقال: إن " أريوس " ملعون، لأن " بطرس " البترك قبل أن يستشهد قال لنا: إن الله لعن " أريوس " فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة.

وكان على مدينة " أسيوط " من عمل مصر أسقف يرى رأي " أريوس " فلعنه أيضا.

وكان بالإسكندرية هيكل عظيم كانت " كلاوبطرة " الملكة بنته على اسم زحل، وكان فيه صنم من نحاس عظيم يسمى: " ميكائيل "، وكان أهل الإسكندرية ومصر في اثني عشر يوما في شهر " هتور " وهو " تشرين الثاني " يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما، ويذبحون الذبائح الكثيرة.

فلما صار هذا بطركا على الإسكندرية وظهرت النصرانية، أراد أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح.

فامتنع عليه أهل الإسكندرية، فاحتال لهم بأن قال: إن هذا صنم لا منفعة فيه ولا مضرة، فلو صيرتم العيد لميكائيل الملاك، وجعلتم هذه الذبائح له كان أنفع لكم عند الله، وكان خيرا لكم من هذا الصنم، فأجابوه إلى ذلك.

فكسر الصنم، وأصلح منه صليبا وسمى الهيكل " كنيسة ميكائيل " وهي الكنيسة التي تسمى " قيسارية "، احترقت بالنار وقت موافاة الجيوش من المغاربة القرامطة مع المسمى

أبو عبيد الله، وكان معه أمير من أصحابه يسمى " حباسة " وذلك في خلافة " المعتضد بالله ".

وكان عامله على مصر يومئذ مولاه المعروف " بتكين الحاجب " رجل تركي، فنفر إلى المغاربة وجاءه مدد من الشرق مع الخادم الملقب " مونس " الأستاذ.

فهرب منه أبو عبيد الله وحباسة وجنودهما، وصير العيد لميكائيل الملك والذبائح.

وإلى اليوم القبط بمصر والإسكندرية يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك ويذبحون فيه الذبائح الكثيرة، وكذلك الملكية يعيدون في هذا اليوم عيد ميكائيل الملاك وصار رسما إلى اليوم.

قال: فلما منع بترك الإسكندرية " أريوس " من دخول الكنيسة ولعنه، خرج " أريوس " مستعديا عليه ومعه أسقفان، فاستغاثوا إلى " " قسطنطين " " الملك.

وقال " أريوس ": إنه تعدى علي وأخرجني من الكنيسة ظلما.

وسأل الملك أن يشخص " الأكصندروس " بطرك الإسكندرية ليناظره قدام الملك.

فوجه " " قسطنطين " " برسول إلى الإسكندرية فأشخص البطرك، وجمع بينه وبين " أريوس " ليناظره فقال " " قسطنطين " " " لأريوس ": اشرح مقالتك.

قال " أريوس ": أقول: إن الأب كان إذ لم يكن الابن، ثم الله أحدث الابن، فكان كلمة له إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة، فكان هو خالق السماوات والأرض وما بينهما كما قال في إنجيله، إذ يقول: (وهب لي سلطانا على السماء والأرض) فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك. ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس فصار ذلك مسيحا واحدا. فالمسيح الآن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.

قال: فأجابه عند ذلك بطرك الإسكندرية، وقال: تخبرنا الآن أيما أوجب علينا عندك، عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا.

قال " أريوس ": بل عبادة من خلقنا.

قال له البطرك: فإن كان خالقنا الابن كما وصفت، وكان الابن مخلوقا، فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بخالق، بل تصير عبادة الأب الخالق للابن كفرا، وعبادة الابن المخلوق إيمانا، وذلك من أقبح الأقاويل.

فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البطرك، وشنع عندهم مقالة " أريوس "، ودار بينهما أيضا مسائل كثيرة.

فأمر " " قسطنطين " " البطرك " الأكصندروس " أن يلعن " أريوس " وكل من قال بمقالته.

فقال له: بل يوجه الملك فيشخص البطاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع، ونضع فيه قضية ونلعن " أريوس " ونشرح الدين ونوضحه للناس.

فبعث " " قسطنطين " " الملك إلى جميع البلدان فجمع البطاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة " نيقية " بعد سنة وشهرين، ألفان وثمانية وأربعون أسقفا، وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان.

فمنهم من يقول: المسيح ومريم إلهان من دون الله، وهم " المريمانية "، ويسمون " المريميين ".

ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار، فلم تنقص الأولى لإيقاد الثانية منها، وهي مقالة " سبارينون " وأشياعه.

ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم لتسعة أشهر، وإنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب، لأن " كلمة الله " دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهي مقالة " ألبان " وأشياعه.

ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وأن ابتداء الابن من مريم، وأنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي، صحبته النعمة الإلهية فحلت فيه المحبة والمشيئة، فلذلك سمي " ابن الله " ويقولون: إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد، يسمونه بثلاثة أسماء ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، وهي مقالة " بولص الشمشاطي " بطرك أنطاكية وأشياعه، وهم " البوليانيون ".

ومنهم من كان يقول بثلاثة آلهة، لم يزل صالح وطالح وعدل بينهما، وهي مقالة " مرقيون " وأشياعه.

وزعموا أن " مرقيون " رئيس الحواريين، وأنكروا " بطرس " السليح.

ومنهم من كان يقول: ربنا هو المسيح، وهي مقالة " بولس " الرسول، ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا.

قال: فلما سمع " " قسطنطين " " الملك مقالاتهم، عجب من ذلك وأخلى لهم دارا وتقدم لهم بالإكرام والضيافة، وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه.

فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على دين واحد ورأي واحد، فناظروا بقية الأساقفة المختلفين فأفلجوا عليهم حججهم وأظهروا الدين المستقيم، وكان أيضا باقي الأساقفة مختلفي الأديان والآراء.

وصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا مجلسا خاصا عظيما، وجلس في وسطه، وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه فدفعها إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم اليوم على المملكة لتصنعوا ما بدا لكم، لتصنعوا ما ينبغي لكم أن تصنعوا مما فيه قوام الدين وصلاح المؤمنين.

فباركوا على الملك وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذب عنه.

ووضعوا له أربعين كتابا، فيها السنن والشرائع، وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها.

وكان رئيس المجمع والمقدم فيه " الأكصندروس " بطريرك الإسكندرية، وبطرك الإنطاكية، وأسقف بيت المقدس.

ووجه بطرك رومية من عنده رجلين، فاتفقوا على نفي " أريوس " وأصحابه ولعنوهم وكل من قال مقالته، ووضعوا تلك الأمانة، وثبتوا أن الابن مولود من الأب قبل كل الخلائق، وأن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق.

واتفقوا على أن يكون فصح النصارى في يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود، وأن لا يكون فصح اليهود مع فصح النصارى في يوم واحد، وثبتوا ما وضعه من تقدم ذكره من حساب الصوم والفصح، وأن يكون فطر النصارى يوم فصحهم، يوم الأحد الذي يكون بعد فصح اليهود.

لأن النصارى كما قلنا من قبل كانوا إذا عيدوا عيد الحميم وهو عيد الغطاس صاموا من الغد أربعين يوما ويفطرون.

فإذا كان عيد اليهود عيدوا معهم الفصح، فصيروا يوم الفصح للفطر، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة، وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء، لأنه كان إذا اختير واحد أسقفا وكانت له زوجة، تبيت معه ولم تتنح عنه، ما خلا البطاركة، فإنه لم يكن لهم نساء ولا كانوا أيضا يصيرون أحدا بطركا له زوجة.

قال: وانصرفوا مكرمين محظوظين، وذلك في سبع عشرة سنة من ملك " قسطنطين ".

قال: وسن " قسطنطين " الملك ثلاث سنن:

أحدها: كسر الأصنام وقتل كل من يعبدها.

والثانية: أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى، ويكونون أمراء وقوادا.

والثالثة: أن يقيم الناس جمعة الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملا، ولا يكون فيها حرب.

قال: وتقدم " قسطنطين " إلى أسقف بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب، ويبني الكنائس ويبدأ ببناء القيامة المقدسة.

فقالت " هيلانة " أم " قسطنطين " للملك: إني نذرت أن أصير إلى بيت المقدس فأطلب المواضع المقدسة فأبنيها، فدفع الملك إليها أموالا كثيرة جزيلة.

وسارت إلى بيت المقدس مع أسقف بيت المقدس، فلما وصلت لم يكن لها حرص ولا همة إلا طلب الصليب.

فجمعت اليهود والسكان في بيت المقدس، واختارت منهم عشرة، ومن العشرة ثلاثة كان واحد منهم يقال له: " يهوذا " فسألتهم أن يدلوها على موضع الصليب فامتنعوا، وقالوا: ليس عندنا علم منه ولا خبرة بالموضع. فأمرت بهم فطرحتهم في جب ليس فيه ماء، فأقاموا سبعة أيام لم يطعموا ولم يسقوا، فقال أحدهم الذي اسمه يهوذا لصاحبيه: إن أباه عرفه بالموضع الذي تطلب هذه المرأة، وإن جده عرف أباه. فصاح الاثنان من الجب: أخرجونا حتى نعلم الملكة بحال هذا الرجل. فأخرجوهم، فأخبروا الملكة بما قال لهما " يهوذا " فأمرت بضربه بالسياط فأقر أنه يعرف الموضع، فخرج حتى جاء إلى الموضع الذي فيه المقبرة والأقرانيون، وكانت مزبلة عظيمة هناك، فصلى وقال: اللهم إن كان في هذا الموضع المقبرة فأسألك أن تزلزل المكان وتخرج منه دخانا حتى نؤمن، فزلزل الموضع وخرج منه دخان كما سأل فآمن.

فأمرت " هيلانة " بكنس الموضع من التراب، فظهرت المقبرة والأقرانيون ووجد ثلاثة صلبان، قالت " هيلانة " كيف لنا أن نعلم بصليب السيد المسيح؟ وكان بالقرب منهم عليل شديد العلة قد يئس منه، فوضع الصليب الأول عليه والثاني والثالث فقام المريض وليس به شيء يكره.

فعلمت " هيلانة " أنه الصليب الذي لسيدنا المسيح، فجعلته في غلاف من ذهب، وحملته معها وجملته بما تقدر عليه، وأظهرت كل ما كان مدفونا من آثار سيدنا المسيح وحملته إلى ابنها " قسطنطين " وبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب والأقرانيون وكنيسة " قسطنطين "، وانصرفت وأمرت أسقف بيت المقدس أن يبني باقي الكنائس، وذلك في اثنين وعشرين سنة من ملك " قسطنطين ".

قال: فمن ميلاد سيدنا المسيح إلى أن وجد الصليب ثلاثمائة وثمانية وعشرون سنة، وذكر أنه بعد هذا اجتمعوا بمجمع عظيم ببيت المقدس.

وكان معهم رجل قد دسه بطرك القسطنطينية وجماعة معه ليسألوا بطرك الإسكندرية، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك أظهر أنه مخالف لأريوس، وكان يرى رأيه ويقول بمقالته، فقام هذا الرجل واسمه " مانيوس " فقال: إن " أريوس " لم يقل إن المسيح خلق الأشياء، ولكن قال به خلقت الأشياء، لأنه " كلمة الله " التي بها خلق السماوات والأرض، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته، ولم تخلق الأشياء كلمته، كما قال سيدنا المسيح في الإنجيل المقدس: " كل بيده كان، ومن دونه لم يكن شيء ". فقال: به كانت الحياة، والحياة نور البشر. وقال: في هذا العالم والعالم به تكون، فأخبر أن الأشياء به تكونت ولم يخبر أنها كونت له، قال: فهذه كانت مقالة " أريوس " ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا تعدوا عليه وظلموه وحرموه ظلما وعدوانا.

فرد عليه بطرك الإسكندرية وقال: أما " أريوس " فلم يكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه، لأنه إنما قال: " إن الابن خالق الأشياء دون الأب.

وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا، فقد يجب أن يكون ما خلق منها شيئا، وفي ذلك تكذيب للمسيح، قوله: " الأب يخلق وأنا أخلق " وقال: " إن أنا لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني ". وقال: " كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته، كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته. فدل على أنه يحيي ويخلق، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق، وإنما خلقت به دون أن يكون خالقا له. وأما قولك: إن الأشياء كونت به، فإنما كنا لا نشك أن المسيح حي فعال، وكان قد دل بقوله: " إثما أفعل الخلق والحياة " كان قولك: (به كونت الأشياء) إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها فكانت به مكونة، ولو لم يكن ذلك كذلك لتناقض القولان.

قال: ورد عليه أيضا فقال: (أما قول من قال من أصحاب " أريوس ": إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن، والإرادة للأب والتكوين للابن، فإن ذلك يفسد أيضا إذ كان الابن عنده مخلوقا فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه، وذلك أن هذا أراد وفعل، وذاك أراد ولم يفعل، فهذا أوفر حظا في فعله من ذاك، ولا بد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك، بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه، ويكون حكمه كحكمه في الجبر والاختيار، فإن كان مجهولا فلا شيء له في الفعل، وإن كان مختارا فجائز أن يطاع، وجائز أن يعصى وجائز أن يثاب، وجائز أن يعاقب، وهذا أشنع في القول.

قال: ورد عليه أيضا وقال: إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق، فالمخلوق غير الخالق بلا شك، فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره، والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به إذ كان لا يتم له الفعل إلا به، والمحتاج إلى غيره منقوص، والخالق يتعالى عن هذا كله.

قال: فلما دحض بطرك الإسكندرية حجج أولئك المخالفين وظهر لمن حضر بطلان قولهم، تحيروا وخجلوا فوثبوا على بطرك الإسكندرية فضربوه حتى كاد أن يقتل، فخلصه من أيديهم ابن أخت " قسطنطين "، وهرب بطرك الإسكندرية المحتج على أصحاب " أريوس " وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة، ثم أصلح دهن الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون، وسار إلى الملك فأعلمه بالخبر فصرفه الملك إلى الإسكندرية.

فصل

قال: وأمر الملك أن لا يسكن يهودي بيت المقدس ولا يجوز بها، ومن لم يتنصر يقتل. فتنصر من اليهود خلق كثير، وظهر دين النصرانية.

فقيل لقسطنطين الملك: إن اليهود يتنصرون من فزع القتل وهم على دينهم. قال الملك: كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟

قال بولس البترك: إن الخنزير في التوراة حرام واليهود لا يأكلون لحم الخنزير، فأمر أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتطعمهم منها، فمن لم يأكل منه علمنا أنه مقيم على دين اليهودية.

فقال الملك: إذا كان الخنزير في التوراة حراما، فكيف يجوز لنا أن نأكل لحم الخنزير ونطعمه للناس؟

فقال له " بولس " البترك: إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة وجاء بناموس آخر وبتوراة جديدة وهو الإنجيل، وفي إنجيله المقدس: (أن كل ما يدخل البطن ليس بحرام ولا ينجس، وإنما ينجس الإنسان الذي يخرج من فيه).

وقال بولس الرسول في رسالته إلى أهل مدينة " فورينيوس " الأولى: (الطعام للبطن آلته لها، والبطن للطعام، وله يلعن). ومكتوب في " الإبركسس " يعني أخبار الحواريين: أن بطرس رئيس الحواريين كان في مدينة " يافا " في منزل رجل دباغ يقال له: " سيمون "، وأنه صعد إلى المنزل ليصلي وقت ست ساعات من النهار، فوقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت وإذا إزار قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض.

وفيه: كل ذي أربع قوائم على الأرض من السباع والذئاب وغير ذلك من طير السماء. وسمع صوتا يقول له: يا بطرس، قم فاذبح وكل، فقال بطرس: يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط ولا وسخا قط فجاء صوت ثان: كل ما طهره الله فليس بنجس، وفي نسخة أخرى: ما طهره الله فلا تنجسه أنت. ثم جاء الصوت بهذا ثلاث مرات، ثم إن الإزار ارتفع إلى السماء، فعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه. فبهذا المنظر وبما قال سيدنا المسيح في إنجيله المقدس، أمر بطرس وبولس أن نأكل كل ذي أربع قوائم من الخنزير وغيره من جميع الحيوان حلالا لنا.

فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغارا صغارا وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنزير، فمن لم يأكل منه يقتل، فقتل لأجل ذلك خلق كثير.

قال سعيد: وكان لقسطنطين ثلاثة أولاد أكبرهم " قسطنطين " بن " قسطنطين " وذلك حين ملك " أزدشير بن سابور بن هرمز " على الفرس، وملك بعده " سابور بن سابور " لخمس سنين من ملك " قسطنطين ".

قال: وفي ذلك العصر اجتمع أصحاب " أريوس " وكل من قال بمقالته إلى الملك " قسطنطين "، فحملوا له دينهم ومقالتهم، وقالوا: إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحق في قولهم: إن الابن متفق مع الأب في الجوهر، فتأمر أن لا يقال هذا، فإنه خطأ. فأراد الملك أن يفعل ذلك.

قال: وفي ذلك العصر ظهر على " الأقرانيون " وهو الجلجلة نصف النهار صليب من نور من الأرض إلى السماء يفوق ضوءه ضوء الشمس، فكان يبلغ إلى طور زيتا فرأى ذلك كل من كان في بيت المقدس من كبير وصغير.

فكتب أسقف بيت المقدس إلى " قسطنطين " بن " قسطنطين " بالخبر وقال: في أيام أبيك السعيد ظهر صليب كواكب من السماء في نصف النهار، وفي أيامك ظهر أيها الملك على " الأقرانيون " صليب من نور يفوق نوره نور الشمس في نصف النهار.

وكتب إليه أن لا يقبل قول أصحاب " أريوس " فإنهم حائدون عن الحق كفار، قد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا، ولعنوا كل من يقول بمقالتهم. فقيل قوله.

قال: وفي ذلك الوقت غلبت مقالة " أريوس " على قسطنطينية وأنطاكية وبابل والإسكندرية.

فسمي التابعون لأريوس والقائلون بمقالته " أريوسيين " مشتقا من اسمه.

قال: وفي ثاني سنة من ملك " قسطنطين " صير على أنطاكية بطرك أريوسي، ثم بعده آخر أريوسي، ثم بعده آخر مناني، وصير على قسطنطينية بترك مناني.

قال ففي عشر سنين من ملكه صير على قسطنطينية بطرك، وكان يقول: روح القدس مخلوقة، وأقام عشر سنين ومات.

ونقل بعد ذلك بطرك أنطاكية فصير على قسطنطينية، وكان منانيا.

قال: وأما أهل مصر والإسكندرية فكان أكثرهم " أريوسيين " و " منانيين " فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى، وصيروا على إسكندرية بتركا منانيا.

وفي ذلك الزمان قدم من القسطنطينية إلى الإسكندرية قائد، وكان أريوسيا، فنفى الملكي وأقام بطركا أريوسيا.

فلما خرج القائد قتل الملكيون ذلك البترك الأريوسي وأحرقوه بالنار.

ومات الملك " قسطنطين " بن " قسطنطين " وله في الملك أربع وعشرون سنة.

وملك بعده " يوليانوس " الملك الكافر على الروم سنين، وأراد أن يرد الناس إلى عبادة الأصنام، وقتل من الشهداء خلقا كثيرا.

وفي أول سنة من ملكه وثب الأريوسيون ببيت المقدس على أسقفها الملكي الذي كتب بظهور الصليب ليقتلوه فهرب منهم، فصيروا أسقفا أريوسيا.

قال: وفي ثاني سنة من ملكه، صير على أنطاكية بطركا على الأمانة، أقام خمسا وعشرين سنة.

وفي إحدى وعشرين سنة من رياسته، كان المجمع الثاني بقسطنطينية.

قال: وكان في عصره أهل مدينة " نيريار " كلهم صابئون، فوضع أسقف " نيريار ميمرا " في ميلاد المسيح ويقول في ابتدائه الميمر: السيد ولد مختونا، فخذوا المسيح من السماء واستقبلوه على الأرض، فلما قرأه عليهم استهزأوا به، وأقبلوا يضحكون منه، فلما كان عيد الحميم، وضع " ميمرا " في عيد الحميم، هتك فيه دين الصابئين وفضحهم فيه، ومكن فيه دين النصرانية.

قال: وكان في عصر " يوليانوس " الملك الكافر أول راهب سكن برية مصر وبنى الديارات وجمع الرهبان.

وكان آخر بالشام وهو أول من سكن برية " الأردن " وجمع الرهبان وبنى الديارات.

قال: وخرج هذا الملك الكافر لقتال " سابور " ملك الفرس، فلسوء مذهبه ورداءة دينه وما أراد أن يأخذ بعبادة الأصنام، ظفر به ملك الفرس فقتله، وقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.

وذكر أسقف " قيسارية " أنه كان جالسا في محرابه وحذاؤه لوح فيه صورة " ماري مركورس " الشاهد، فنظر إلى اللوح فلم ير فيه صورة الشاهد، فعجب من ذلك إذ غابت فلم يكن إلا ساعة حتى عادت صورة الشاهد إلى اللوح، وفي طرف الحربة المصورة التي في يد الشاهد شبيه بالدم، فتعجب من ذلك وبقي متحيرا حتى بلغه أن الملك الكافر قتل في الحرب.

فعلم أن " ماري مركوس " الشاهد قتله؛ لشدة بغضه الذي كان للنصارى، وما كان عزم عليه من عبادة الأصنام.

وذكر بعد هذا جماعة من البتاركة والأساقفة، كان بعضهم أريوسيا وبعضهم منانيا وبعضهم ملكيا، وذكر فتنا بينهم وتعصب كل طائفة لبتركها حتى يقتل بعضهم بعضا وينفي بعضهم بعضا.

وذكر أنه اختلفت آراء النصارى وكثرت مقالاتهم وغلبت عليهم مقالة " أريوس "، وأنهم ملكوا عليهم ملكا اسمه " تذوس "، وأن الوزراء والقواد اجتمعوا إليه، ذاكرين أن مقالات الناس اختلفت وفسدت وغلبت عليهم مقالة " أريوس " و " مقدينوس " فينظر الملك في هذا ويذب عن النصرانية ويوضح الأمانة المستقيمة.

وكتب إلى بطرك إسكندرية وأنطاكية ورومية وأسقف بيت المقدس فحضروا مع أساقفتهم بقسطنطينية، إلا بطرك رومية، فإنه كتب وأنفذ بالأمانة المستقيمة.

فاجتمع بقسطنطينية مائة وخمسون أسقفا، وكان المقدم البطاركة الثلاثة، فدفع الملك إليهم كتاب بطرك رومية، فكان صحيحا موافقا، وكان يزعم أن روح القدس إله، ولكن مخلوق مصنوع.

فقال بطرك الإسكندرية: ليس روح القدس عندي معنى غير حياته، فإذا قلنا: إن روح القدس مخلوق، فقد قلنا: إن حياته مخلوقة، وإذا قلنا: إن حياته مخلوقة، فقد زعمنا أنه غير حي، وإذا زعمنا أنه غير حي، فقد كفرنا، ومن كفر وجب عليه اللعن.

فاتفقوا على لعن " مقدونيوس " فلعنوه وأشياعه، ولعنوا البطاركة الذين كانوا بعده يقولون بقوله، ولعنوا أسقف لونية وأشياعه، ولعنوا " بوليناريوس " وأشياعه، لأنه كان يقول: إن الأب والابن وجه واحد.

ولعنوا " بوليناريوس " وأشياعه، لأنه كان يقول: إن جسد سيدنا المسيح بغير فعل.

وثبتوا أن روح القدس خالقة غير مخلوقة إله حق، وأن طبيعة الأب والابن جوهر واحد وطبيعة واحدة.

وزاد في الأمانة التي وضعها الثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا الذين اجتمعوا في مدينة " نيقية ": (وبروح القدس المحيي المميت المنبثق من الأب)، وثبتوا أن الأب وحده والابن وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاثة وجوه وثلاثة خواص في وحدانية واحدة وكيان واحد، وثلاثة أقانيم إله واحد جوهر واحد طبيعة واحدة.

وثبتوا أن جسد سيدنا المسيح بنفس ناطقة عقلية.

قال: فمن المجمع الأول إلى هذا المجمع الثاني ثمان وخمسون سنة.

قال: وأطلق بطرك الإسكندرية للبطاركة والأساقفة والرهبان أكل اللحم من أجل المنانية ليعرف المناني منهم، لأن المنانية لا يرون أكل اللحم ولا شيئا من الحيوان البتة.

وكان أكثر أساقفة مصر منانية، فأكل بطاركة مصر وأسقفهم اللحم.

وأما بطاركة رومية وقسطنطينية وأساقفتها ورهبانها، فلم يأكلوا اللحم وأكلوا بدل اللحم السمك، وأقاموه مقام اللحم إذ كان حيوانا.

قال سعيد بن البطريق: لم يطلق أكل اللحم على أنهم يعتاضون منه بالسمك، إذ ليس بذبيحة، ويمنعون أكل اللحم إذ كان قد أخطأ الذين أقاموا السمك مقام اللحم، وسيدنا المسيح فقد أكل اللحم، فوجب ضرورة أكل اللحم اقتداء بالسيد المسيح، ولو يوما واحدا في السنة، ليزيلوا الشك من مذهب المنانية.

قال: وفي الأبركسس مكتوبا، ما نظره " بطرس " السليح بـ " يافا " من تنزل السبنية، وفيها كل ذي أربع قوائم، ولهذا الحكم كل من لم يأكل اللحم مخالف لشريعة النصرانية، ومضاهاة لمذهب الصابئة الروم، وهم لا يغتسلون إلى اليوم، لأن المنانية لا يرون الغسل بالماء، فلما طال بهم الزمان أقاموه على هذه السنة.

وقال قوم: إنما تركوا الغسل بالماء، لشدة برد بلادهم وبرد الماء عندهم، وأنه لا يتهيأ لهم بالجملة أن يقربوا الماء في الشتاء؛ لثلجه وبرده، فصار سنة جارية شتاء وصيفا.

والمنانية صنفان: السماعون والصديقون.

فالسماعون: يصومون في كل شهر أياما معلومة.

والصديقون: يصومون الدهر كله ولا يأكلون إلا ما نبت من الأرض.

فلما تنصروا خافوا أن يتركوا أكل اللحم فيعلم بهم، فجعلوا لأنفسهم صياما، فصاموا الميلاد والحواريين.

فلما طال بهم الزمان وتربوا في هذا الصوم أكلوا اللحم، فتبعتهم في ذلك النساطرة واليعاقبة والمارونية، وصارت سنة استحسنتها الملكية، فتبعوهم وخاصة المقيمون ببلاد الإسلام.

وأما الروم: فما تركوا أكل اللحم في أيام صوم الميلاد وصوم الحواريين، وتلك الأيام التي يظن أنها من جملة الصوم الكبير.

فمن أحب أن يصوم الميلاد والحواريين والسيدة ولا يأكل لحما، فليس بواجب وليس لأحد قطع اللحم طول السنة إلا في صوم الأربعين المقدسة فقط، ومن فعل بضد ذلك مخالف راجع إلى أصحاب الآراء المختلفة.

قال: وفي ثمان سنين من ملك " ثذوس " ظهرت الفتية الذين كانوا هربوا من ذاقيوس الملك واختفوا في الكهف.

وذلك أن الرعاة على طول الزمان كانوا إذا جازوا بذلك الموضع الذي هو الكهف، قلعوا الطوب المبني على باب الكهف حتى عاد مفتوحا كالباب.

فلما انتبهت الفتية توهموا أنهم كانوا نياما ليلة واحدة، فقالوا لصاحبهم الذي كان يذهب يبتاع لهم الطعام: امض واشتر لنا طعاما واستعلم خبر ذاقنوس.

فلما خرج إلى باب الكهف، نظر إلى البنيان والهدم ثم مضى حتى بلغ باب المدينة وهي " أفسس " فرأى باب المدينة عليه صليب كبير منصوب، فأنكر ذلك في نفسه وقال: أحسب أني نائم، فأقبل يمسح عينيه وينظر يمينا وشمالا هل يرى من يعرفه، فلم ير، فبقي متحيرا وقال: لعلي أخطأت الطريق، ولعل هذه مدينة أخرى.

ثم دخل المدينة فدفع دراهم مما كان معه عليها صورة " ذاقيوس " الملك فأنكر عليه، وقالوا: لعله أصاب كنزا، ثم قالوا: من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلناك، فلم يكلمهم.

وصاح الناس، فاجتمع إليه خلق كثير وكلموه، فلم يكلمهم، فصاروا به إلى بطريق المدينة وكلمه فلم يتكلم، فهدده فلم يتكلم، فجاء إلى أسقف المدينة فكلمه وخوفه وقال: إنك إن لم تكلمني وتقل لي من أين لك هذه الدراهم وإلا قتلتك.

وإنما كان يمتنع من الكلام خوفا من " ذاقيوس " الملك.

فقالوا له: إنه قد مات، وملك بعده جماعة ملوك، فضربوه حتى آلمه الضرب فخبرهم بحاله على جليتها.

فقالوا له: إن " دقيانوس " قد مات وملك بعده ملوك كثيرة، والملك اليوم " ثذوس " الكبير، وقد ظهر دين النصرانية.

ثم سار معهم إلى الكهف فنظروا إلى أصحابه والصندوق النحاس الذي في الصحيفة الرصاص مكتوب فيها قصتهم وخبرهم.

فكثر تعجبهم، وكتبوا إلى الملك يعلمونه بخبرهم، فركب وسار إلى مدينة " أفسس " فنظر إليهم وكلمهم.

وبعد ثلاثة أيام دخل إليهم فوجدهم أمواتا، فأمر أن يتركوا في الكهف ولا يخرجوا، ولكن يدفنوا فيه وتبنى عليهم كنيسة، وتسمى بأسمائهم، ويعيد لها عيد في كل سنة في ذلك اليوم، وانصرف إلى قسطنطينية.

قال: فمن وقت هرب الفتية من " ذاقيوس " إلى الكهف إلى الوقت الذي ظهروا فيه وماتوا، مائة وسبع أو تسع وأربعون سنة.

قلت: هذا مما أخطأ فيه فإن الله تعالى أخبر أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا.

لكن بعض المفسرين زعموا أن هذا قول بعض أهل الكتاب لقوله: (الله أعلم بما لبثوا) وليس كذلك، فإن الله لم يذكر هذا عن أهل الكتاب، بل ذكره كلاما منه تعالى.

قال سعيد: وفي زمنه كانت قصة بترك قسطنطينية " يوحنا " الملقب بـ " فم الذهب " وتولى بعده ابنه " ثذوس " الصغير اثنين وأربعين سنة لإحدى عشرة سنة من ملك " يزدجرد بن بهرام ".

وفي زمنه جعل " نسطورس " الذي تنسب إليه مقالة النسطورية بطركا على قسطنطينية.

قال: وكان " نسطورس " يقول: إن مريم العذراء ليست بوالدة إلها على الحقيقة، ولذلك كان اثنان.

أحدهما: الذي هو إله مولود من الأب، والآخر: الذي هو إنسان مولود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي يقول: إنه مسيح بالمحبة متوحد مع ابن إله، ويقال له: إله وابن إله، ليس بالحقيقة، ولكن موهبة، واتفاق الاسمين والكرامة شبيها بأحد الأنبياء.

فبلغ قوله بطرك الإسكندرية فأنكر ذلك وكتب إليه يقبح عليه فعله ومقالته ويعرفه فساد ما هو عليه ويسأله الرجوع إلى الحق، فجرت بينهما رسائل كثيرة، ولم يرجع " نسطورس " عن مقالته. فكتب إلى بطرك أنطاكية يسأله أن يكتب إلى " نسطورس " ويعرفه قبح فعله ورأيه وفساد مقالته ويسأله الرجوع إلى الحق.

فكتب إلى " نسطورس " إن هو لم يرجع اجتمعوا والعنوه، وجرت بينهما رسائل كثيرة فلم يرجع.

فكتبوا إلى بطرك رومية وأنطاكية وبطرك بيت المقدس أن يجتمعوا في مدينة " أفسس " لينظروا في مقالة " نسطورس ".

فاجتمع بالمدينة مائتا أسقف مقدمهم بطرك الإسكندرية، وتأخر بطرك أنطاكية فلم ينتظروه وبعثوا إلى " نسطورس " فلم يحضر معهم، فنظروا في مقالته وأوجبوا عليه اللعن، فلعنوه ونفوه وثبتوا أن مريم العذراء والدة الإله، وأن المسيح إله حق وإنسان معروف بطبيعتين متوحدة في الأقنوم.

وهذا هو خلاف المحبة، لأن " نسطورس " كان يقول: إن التحيد (أي الاتحاد): اتفاق الوجهين، وأما التحيد (أي الاتحاد المستقيم): فإنما هو أن يكون أقنوما واحدا من طبيعتين.

فلما لعنوا " نسطورس " قدم " يوحنا " بطرك أنطاكية، فلما وجدهم قد لعنوه قبل حضوره، غضب وقال: ظلمتم " نسطورس " ولعنتموه باطلا، وتعصب مع " نسطورس " فجمع الأساقفة الذين قدموا معه، فقطع بطرك إسكندرية وقطع أسقف " أفسس ".

فلما رأى أصحاب بطرك إسكندرية قبح فعاله وقع بينهم شر عظيم، وخرجوا من " أفسس " وصار أصحاب بطرك إسكندرية والمشرقيون حزبين، فلم يزل " ثذوس " الملك حتى أصلح بينهم.

وكتب المشرقيون صحيفة وثبتوا فيها الأمانة الصحيحة، وقالوا فيها: إن مريم العذراء القديسة ولدت إلها ربنا يسوع المسيح، الذي هو مع أبيه في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت، وأقروا بطبيعتين ووجه واحد وأقنوم واحد، ولعنوا " نسطورس " ووجهوا بالصحيفة إلى بطرك إسكندرية، فقبل الصحيفة وأجابهم عنها بموافقتهم على ذلك.

وقال قوم: لما قبل صحيفة المشرقيين بدا له، ولم يقبل طبيعتين ووجها واحدا.

قال سعيد بن البطريق: وهم في ذلك كاذبون؛ لأن كتبه تنطق بذلك.

ثم أرسل نسخة صحيفة المشرقيين إلى جماعة من الأساقفة يعلمهم أن المشرقيين رجعوا إلى الإيمان، وأنهم غير موافقين لنسطورس.

قال: فمن المجمع الثاني إلى المائة والخمسين أسقفا المجتمعين بمدينة قسطنطين، ولعنوا " مقدونيوس " إلى هذا المجمع المائتين أسقفا المجتمعين بأفسس على " نسطورس " - إحدى وخمسون سنة.

قال: ولما نفي " نسطورس " صار إلى مصر فأقام بضيعة في صعيد مصر يقال لها: " إخميم " ومات ودفن بها.

وكانت مقالته قد اندرست، فأحياها من بعده بزمن طويل " مطران نصيبين " في عصر بوسيطيانوس ملك الروم و قباد بن فيروز ملك الفرس، فبثها بالمشرق، فلذلك كثر النسطورية بالمشرق وخاصة أرض فارس بالعراق والموصل ونصيبين والفرات والجزيرة.

قال سعيد بن البطريق: رأيت أن أرد على النسطورية في هذا الموضع وأبين بطلان قولهم وفساده؛ لأن النسطورية في عصرنا هذا خالفوا قول " نسطور " القديم، وزعموا أن " نسطور " كان يقول: إن المسيح جوهران وأقنومان، إله تام بأقنومه وجوهره، وإنسان تام بأقنومه وجوهره.

وإن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته؛ لأن الأب عندهم ولد إلها ولم يلد إنسانا، ومريم ولدت إنسانا ولم تلد إلها.

فيقال لهم: إن كان الأمر على ما تقولون، فالمسيح مسيحان وابنان، فمسيح إله وابن إله، ومسيح إنسان وابن إنسان؛ لأنه لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده.

فإن كانت ولدته، فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا.

فإن كان جسمانيا، فهو غير الذي ولده الأب، وذلك يوجب أن يكون مسيحان.

وإن كان روحانيا، فالمسيح ابن واحد أقنوم واحد مسيح واحد.

والدليل على ذلك صفيحة الحديد التي تتحد بها النار فإنها سيف واحد تحرق وتمنع وتقطع وتضيء.

ولا يجوز أن يكون من الجهة الحديدية هي المحرقة المضيئة من غير جهة النار، إذ كان ما لم يكن فيه نار من الحديد غير محرق. ولا الجهة النارية هي القاطعة المانعة، إذ كان شأن النار الإضاءة والإحراق لا القطع.

فقد ثبت بهذا وصح ما تعتقده الملكية من أن المسيح أقنوم واحد، وبان زيف قول النسطورية: إن المسيح أقنومان.

قلت: يقال لهذا: إن قول النسطورية والملكية، وإن كانا باطلين فقول الملكية أشد بطلانا وأعظم كفرا وتناقضا، وما ذكره هذا باطل.

أما قوله: لو كان الأمر على ما تقولون، فالمسيح مسيحان.

فيقال له: هذا إنما يلزم أن لو كان اللاهوت بمجرده يسمى مسيحا، فإن النسطورية وافقوهم على باطل، وهو أن الرب ولد إلها، وهذا باطل، ولم يقل أحد قط من الأنبياء لا في الإنجيل ولا غيره: إن صفة الله القائمة به مولودة، ولا أن الرب له مولود قديم أزلي.

ولكن إذا قدر أن الأمر كذلك، فصفة الله لم يسمها أحد مسيحا.

فإذا قدر أن اللاهوت والناسوت جوهران أقنومان لا اتحاد بينهما، لم يلزم أن يكون اللاهوت مسيحا، ولا هناك مسيح هو إله، ولا مسيح هو ابن إله.

وقد تقدم عن نسطور أنه كان يقول: إن هذا الإنسان الذي نقول: إنه مسيح متوحد بالمحبة مع ابن إله، ويقال له إله وابن إله، ليس بالحقيقة، ولكن موهبه.

فقد صرح بأن المسيح هو الإنسان فقط دون اللاهوت، وأن المسيح ليس بإله ولا ابن إله في الحقيقة.

فبطل ما ألزمه إياه، من أنه يلزم أن يكون هنا مسيحان.

وأما قوله: لا بد لمريم من أن تكون ولدت المسيح أو لم تلده.

فيقال: بل ولدت المسيح، وهو الإنسان وهو غير اللاهوت الذي تزعمون أن الأب ولده، وليس في ذلك مسيحان، بل مسيح واحد إنسان مخلوق.

وأيضا فقوله: فإن كان ولدته فلا بد أن يكون ولادا روحانيا أو جسمانيا، فإن كان روحانيا، فالمسيح ابن واحد، أقنوم واحد، مسيح واحد - تقسيم باطل وحجة فاسدة داحضة.

فإن مريم لم تلد ولادة روحانية، بل خرج الولد من فرجها كما تخرج أولاد النساء من فروجهن، سواء كانت عذرتها باقية أو لم تكن.

وأما ما ذكره من التمثيل بصفيحة الحديد، فلو قدر أنه مثل مطابق لم يدل على صحة قولهم، بل غايته أنه يدل على إمكانه.

فأين الدليل على أن هذا هو الواقع؟ فليس فيه ما يدل على صحة قول الملكية وفساد قول خصومهم، فكيف وهو تمثيل غير مطابق؟

فإن الحديد إذا اتحدت به النار كان الحديد قد استحال عن صفته فلم يبق حديدا محضا، وليست نارا محضا، والخشب وغيره إذا أحرق وصار نارا، فليس هو خشبا محضا وليس هو نارا محضة بسيطة.

فمن شأن الشيئين إذا اتحدا، أن يستحيل كل منها إلى جوهر ثالث وطبيعة ثالثة ليست هذا ولا هذا، كالماء واللبن إذا اتحدا فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا وطبيعة ثالثة لا لبنا محضا ولا ماء محضا، وكذلك النار مع الحديد أو الخشب أو غير ذلك، فإن ذلك يصير جوهرا ثالثا ليس حديدا محضا ولا خشبا محضا ولا نارا محضة، لكن الحديد إذا برد هو حديد، لكنه تغيرت حقيقته، فالنار تلينه وتذهب خبثه ولا يبقى بعد اتحاده بالنار كما كان قبل، والخشب يصير فحما وهو جوهر ثالث، إذ كان من طبع النار أنها تؤثر في كل جسد بحسبه، فتؤثر في الحديد بحسبه، وفي الخشب بحسبه.

وكل شيئين اتحدا فإنهما يصيران جوهرا ثالثا وأقنوما ثالثا وطبيعة ثالثة.

فإن كان اللاهوت والناسوت قد اتحدا - كما زعموا - فقد استحالت صفة اللاهوت واستحالت صفة الناسوت، فلم يبق اللاهوت لاهوتا ولا الناسوت ناسوتا، بل صارا جوهرا ثالثا لا لاهوتا ولا ناسوتا، وهم ينكرون هذا القول، وهو باطل.

فإن رب العالمين لا يتبدل ولا تستحيل صفاته بصفات المحدثات، ولا ينقلب القديم ولا شيء من صفاته محدثا، ولا يستحيل القديم الرب الخالق والمخلوق المحدث إلى شيء ثالث.

بل صفات الرب التي لم يزل ولا يزال موصوفا بها لا تتبدل ولا تنقلب ولا تستحيل، فضلا عن أن تستحيل إلى أمر ثالث.

ثم هذا الثالث، إن كان قديما خالقا، صار هنا خالقين قديمين. وإن كان مخلوقا محدثا، كان الخالق قد صار مخلوقا محدثا، ومعلوم أن استحالة الخالق إلى خالق آخر أو إلى مخلوق، ممتنع ظاهر الامتناع.

ومما يوضح هذا، أن ما مثلوا به من الحديدة المحماة بالنار، هي جوهر ثالث يجري على نارها ما يجري على حديدها، فإذا طرقت، فالتطريق واقع على نارها كما هو واقع على حديدها، وكذلك إذا مدت، وكذلك إذا بصق عليها، وكذلك إذا ألقيت في الماء.

فإن كان هذا التمثيل مطابقا، لزم أن يكون ما حل بالناسوت قد حل باللاهوت.

فيكون رب العالمين هو الذي يأكل ويشرب ويبول ويتغوط، وهو الذي صفع عندهم، وبصق في وجهه، وجعل الشوك على رأسه، وضرب بالسياط، وصلب ومات وتألم، كما يحكى مثل هذا عن اليعقوبية.

وهذا لازم لكل من قال بالاتحاد، حتى النسطورية إن قالوا: إنهما متحدان بالمشيئة بمعنى أن مشيئة هذا عين مشيئة هذا.

بخلاف ما إذا قالوا: إن مشيئته موافقة لمشيئته، ليست إياها، ولهذا قال تعالى: لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون. فذكر سبحانه وتعالى: أنهما كانا يأكلان الطعام؛ لأن ذلك من أظهر الأدلة على أنهما مخلوقان مربوبان، إذ الخالق أحد صمد لا يأكل ولا يشرب.

وذكر مريم مع المسيح؛ لأن من النصارى من اتخذها إلها آخر فعبدها كما عبد المسيح.

والذين لا يقولون بهذا - كثير منهم يطلب منها كل ما يطلب من الله حتى يقول لها: اغفري لي وارحميني، وغير ذلك، بناء على أنها تشفع في ذلك إلى ابنها.

فتارة يقولون: يا والدة الإله، اشفعي لنا إلى الإله، وتارة يسألونها الحوائج التي تطلب من الله ولا يذكرون شفاعة، وآخرون يعبدونها كما يعبدون المسيح.

وقد ذكر سعيد بن البطريق هذا عنهم، لما ذكر اجتماعهم عند " قسطنطين " بـ " نيقية ".

قال: وكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان.

فمنهم من يقول: المسيح وأمه إلهان من دون الله، وهم المريمانيون ويسمون المريمانية، كذلك قال ابن حزم، وقد قال تعالى: وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد. وهو - سبحانه - لم يحك هذا عن جميع النصارى، بل سأل المسيح سؤالا يقرع به من اتخذه وأمه إلهين من دون الله.

قال ابن البطريق: ويقال للنسطورية أيضا: أخبرونا عن الناسوت التي اتحدت بها اللاهوت وسمي مسيحا، هل لم يزل مسيحا منذ كان في بطن مريم إلى حين وضعته وأرضعته وشب وصلب وقتل؟ أم كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس، ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا؟

فإن قالوا: لم يكن مسيحا وهو في بطن مريم، وإنما ولدت مريم إنسانا كان ثلاثين سنة وهو واحد من الناس، ثم اتحد بعد ذلك اللاهوت بالناسوت فكان مسيحا، تركوا قولهم وكذبوا الإنجيل وبولص وجميع كتب الكنيسة، وخرجوا عن مقالة النصرانية.

وإن قالوا: إن اللاهوت اتحد في الناسوت عند الحمل، وإنه كان مسيحا وهو محمول ومولود ومرضع إلى أن صلب وقتل - قد أقروا أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا، أقنوما واحدا.

فيقال له: هذا التقسيم يدل على بطلان قول النصارى الذي ابتدعه طوائفهم الثلاثة وغيرهم، فإن الاتحاد يزعمون أنه كان من حين حملت به مريم، وأنه كان ينمو قليلا قليلا كنمو جسد المسيح، والاتحاد باطل، كما قد قرر غير مرة، ولو قدر أنه ممكن لظهر أثر ذلك.

فإن الله لما كلم موسى من الشجرة، ظهر من الآيات والعظمة ما دل على ذلك. ولذلك كان إذا كلم موسى يظهر آيات ذلك.

وكذلك ما أخبر به في التوراة وغيرها من مصاحبته لبني إسرائيل، وهو مما ظهر أثره، وإن لم يكن متحدا ولا حالا في شيء من ذلك.

ولما تجلى من طور سينا وأشرق من " ساعير " واستعلن من جبال " فاران " [101] بما أنزله من كتبه، ظهر آثار ذلك، وإن لم تكن ذاته متحدة ولا حالة بفاران ولا طور سينا، باتفاق الأمم.

فكيف تكون ذاته متحدة بما في بطن مريم، أو حالة فيه، ولا يظهر أثر ذلك؟

وأيضا فيقال له: قد يقول النسطورية له: الناسوت كان مسيحا من حين الحمل، بمعنى أنه كان طاهرا مقدسا، لا بمعنى اتحاد اللاهوت به.

وإن قالوا: المسيح اسم اللاهوت والناسوت جميعا. فيقال: ليس في كتب الأنبياء ما يقتضي هذا، والنسطورية يسلمون ذلك، لكن قد يقولون: إن المسيح اسم لهما كما أن الإنسان اسم للروح والجسد.

ثم قد يقال لجسد الإنسان الميت: هذا الإنسان، فيقال وهو في بطن مريم أمه قبل نفخ الروح فيه: هذا الجنين وهذا الحمل. فكذلك إذا قيل له: مسيح بدون اللاهوت.

وأيضا فقد تقول النساطرة باقتران اللاهوت من حين الحمل، ولا يلزم أن يكون قد ولدت إلها، إذ لم يقولوا بالاتحاد، بل قالوا: هما جوهران أقنومان، ولدت أحدهما ولم تلد الآخر، كما تقول الملكية معهم: إنه صلب أحدهما ولم يصلب الآخر، ومات أحدهما ولم يمت الآخر، وتألم أحدهما ولم يتألم الآخر.

فكيف جوز الملكية حين الموت أن يحل الموت والصلب والأكل والشرب وسائر الأمور البشرية بأحد الجوهرين دون الآخر، ولم يجوزوا - حين الولادة - أن تلد مريم أحد الجوهرين دون الآخر؟ وهل هذا إلا من تناقضهم؟ كقولهم جميعا: إنه صعد إلى السماء وقعد عن يمين أبيه مع قولهم: إن اللاهوت مع الناسوت قعد عن يمين الأب.

ويقولون مع ذلك: إن اللاهوت القاعد عن يمين الآخر هو ذلك الآخر، وهما جوهر واحد، وإله واحد، مع قوله: إنه إله حق من إله حق، فمناقضتهم كثيرة.

ولا ريب أن قول النسطورية أيضا متناقض، لكن لا يمكن أن نصحح قول الملكية دون قولهم، بل قول الملكية أعظم فسادا وتناقضا.

فالنسطورية يقولون: الإله لم يولد ولم يصلب.

واليعقوبية يقولون: ولد وصلب.

والملكية يقولون: ولد ولم يصلب.

ومتى جاز أن يولد، جاز أن يموت ويصلب، وإن لم يجز أن يصلب ويموت، لم يجز أن يولد. فتجويز أحدهما ومنع الآخر تناقض.

ويقال للملكية: أنتم تقولون: إن اللاهوت اتحد بالناسوت عند الحمل، وكان مسيحا وهو مصفوع ومصلوب وميت ومتألم. وتقولون: هذا كان بالناسوت دون اللاهوت، فهذا التناقض من جنس تناقض النساطرة.

قال ابن البطريق: ويقال للنساطرة أيضا: متى اتحدت الكلمة بالإنسان؟ أقبل الولادة، أم في حال الولادة؟

فإن قالوا: قبل الولادة، قلنا لهم: قبل الولادة، قبل الحمل؟ أو قبل الولادة وهو حمل؟

فإن قالوا: قبل الولادة وقبل الحمل، فقد زعموا أنه اتحد قبل أن يكون إنسانا وقبل أن يصور. فإن كان ذلك كذلك، فسد قول النسطورية: إن القديم اتحد بإنسان جزئي؛ لأن الإنسان الجزئي إنما كان إنسانا جزئيا، لما صار مصورا بشريا.

فيقال له: هذا السؤال لازم للطوائف الثلاثة، فإنهم يقولون بالاتحاد أعظم من النساطرة.

فإن قيل: هم يقولون: إنه اتحد بإنسان كلي، كان هذا من أفسد الأقاويل، فإن المسيح بشر معين جزئي، يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، لم يكن إنسانا كليا.

ثم قال: ويلزمهم أن يزعموا أن اللاهوت قد كان حل مع الناسوت تسعة أشهر ونحوها من بدء الحمل مقيما معه في الموضع الذي يحمل فيه الجنين، ثم ولدا معا، وهذا خلاف قولهم: إن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته.

فيقال: قد يقولون: إنه ولد الناسوت دون اللاهوت، كما يقول الملكية: إنه صلب الناسوت دون اللاهوت.

وإن كان هذا متناقضا، فالنساطرة أقل تناقضا؛ لأن الملكية يقولون: إنهما شخص واحد، أقنوم واحد، فقد اتحد أحدهما بالآخر.

فإذا جاز مع هذا أن يفارق أحدهما الآخر في الأكل والشرب والصلب والموت، فمن قال: إنهما جوهران أقنومان، هو أولى أن يقول ولدت أحدهما دون الآخر.

ثم قال: وإن قالوا: اتحد به وهو حمل صورة تامة.

قلنا لهم: فقد كان الإله حملا قبل الولادة، وإذا جاز أن يحمل، جاز أن يولد.

فيقال: هم لا يقولون بأنهما صارا شخصا واحدا، أقنوما واحدا، بل يقولون: جوهران أقنومان، وحينئذ فلا يقولون: حملت بإله، ولا ولدت إلها، كما لا يقول الملكية: صلب اللاهوت ومات اللاهوت، مع قولهم بأن اللاهوت والناسوت اتحدا.

قال: فإن قالوا: كان الاتحاد في حال الولادة.

قلنا: فقد ولدت مريم الكلمة إذا مع الإنسان، والكلمة عندنا وعندهم إله، فقد ولدت مريم إلها.

فإن قالوا: نعم. قلنا: فإذا جاز أن يولد، فلم لا يجوز أن يكون حملا؟ فإذا أجازوا ذلك، تركوا قولهم، وإن لم يجيزوه، قلنا: فما الفرق بين أن يكون مولودا وبين أن يكون محمولا؟ فإن قالوا: ليس الإله مولودا، ولم يكن الاتحاد قبل الولادة، وهو أن يكون محمولا، ولا في حال كونه ولدا في حال الولادة.

قلنا: فهذا نقض قولكم: إن مريم ولدت المسيح؛ لأن المسيح - عندكم - ليس هو الإنسان وحده، ومريم - عندكم - إنما ولدت الإنسان وحده.

وإذا كان المسيح ليس هو الإنسان وحده، وعندكم إنما ولدت الإنسان وحده قبل الاتحاد، فإنما ولدت إذا ما ليس بمسيح، إذ كان إنما كان مسيحا بالاتحاد، وكان الاتحاد بعد الولادة، فإنما كان مسيحا بعد الولادة.

فإذا كان هذا عندكم فاسدا، وكانت مريم ولدت المسيح، فمريم لم تلد الإنسان وحده، وهذا يوجب أنها قد ولدت الإله مع الإنسان، ويوجب أن الاتحاد كان قبل الولادة.

قال: فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية من أن مريم ولدت المسيح من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته، وصح أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا.

قال: ويقال لهم: إذا زعمتم أن المسيح جوهران، جوهر قديم وجوهر محدث، ثم زعمتم أن مريم ولدت المسيح، فقد أقررتم أن مريم ولدت هذين الجوهرين اللذين هما المسيح، وإذا ولدتهما وأحدهما إله، فقد ولدت إلها قديما، ولا يجوز أن تلد إلا ما كان محمولا، فهذا يوجب أنها قد كانت حاملة لذلك الإله.

فقد تبين زائف ما تعتقده النسطورية، أن مريم لم تحمل إلها ولم تلده، وصح ما تعتقده الملكية أن مريم ولدت إلها مسيحا واحدا وابنا واحدا، أقنوما واحدا.

فيقال له: ليس هذا التناقض من النسطورية بأعظم من تناقض الملكية فإنهم - مع قولهم باتحاد اللاهوت والناسوت، وأنهما شخص واحد - يقولون: إن أحدهما كان يأكل ويشرب ويصوم ويصلي ويتصرف، وأنه أخذ وصفع ووضع الشوك على رأسه وصلب وتألم ومات دون الآخر.

فإذا كان قول النسطورية متناقضا، فقول الملكية أعظم تناقضا، فإذا منعوا أن تحمل المرأة وتلد الناسوت دون اللاهوت لأجل الاتحاد الذي بينهما، وجب أن يمنعوا أن يأكل ويشرب ويصلب ويقتل أحدهما دون الآخر لأجل الاتحاد بطريق الأولى.

وكون الصلب والقتل أعظم منافاة للربوبية من حمل مريم به وولادته إياه، لا يمنع كون كل ذلك ممتنعا على الله.

ومن جوز عقله أن يكون رب العالمين خرج من فرج مريم وهي بكر، فقد جعل رب العالمين يخرج من ثقب صغير، وهذا أعظم ما يكون من الامتناع.

ومن جوز عليه هذا، جوز عليه أن يخرج من كل ثقب مثل ذلك الثقب وأكبر منه، وجوز أن يخرج رب العالمين من فم كل حيوان وفرجه، ومن شقوق الأبواب وغير ذلك من الثقوب.

وإن قالوا: ذاك مكان طاهر. قيل: أفواه الأنبياء والصالحين أطهر من كل فرج في العالم، فيجوز أن يخرج من فم كل نبي وولي لله، ومن أذنه ومن أنفه، فإن هذه الخروق والثقوب أفضل من فروج النساء، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

فهؤلاء النصارى يقولون: إن كون الله مولودا من فرج مريم، غير كونه مولودا في الأزل من الأب، بل هما ولادتان روحانية وجسمانية.

وهم إذا طولبوا بتفهيم ما يقولونه، وقيل لهم: هذا لا يتصور؛ أن يكون رب العالمين يخرج من ثقب ضيق، لا فرج ولا فم ولا أذن ولا غير ذلك من الأثقاب. قالوا: هذا فوق العقل، واعترفوا بأن هذا لا يتصوره العقل.

فيقال لهم: هذا الكلام لم يقله نبي من الأنبياء، ولم ينطق به نبي من الأنبياء بأن مريم حملت برب العالمين وولدته، بل ولا نطق نبي من الأنبياء بأن الله مولود ولا شيء من صفاته مولود، لا علمه ولا حياته ولا غير ذلك.

ولا نطق نبي من الأنبياء لا المسيح ولا غيره بأن الله اتحد بشيء من المخلوقات.

وليس في الإنجيل وغيره مما ينقل عن الأنبياء شيء من ذلك، بل غاية ما فيها كلمات مجملة متشابهة، كقوله: (أنا وأبي واحد) كما قال الله لمحمد: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله وقوله: من يطع الرسول فقد أطاع الله فإذا قال بعض ملاحدة المسلمين من الشيعة أو المتصوفة أو غيرهم: إن الله اتحد بمحمد؛ لقوله: إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله، كان هذا من جنس قول النصارى. والآية لم تدل على ذلك، بل مبايعة الرسول مبايعة لله؛ لأن الرسول أمر بما أمر الله، ونهى عما نهى الله عنه.

فليس في كلام الأنبياء أن الله ولا شيئا من صفاته مولود الولادة التي يسمونها ولادة عقلية وروحانية، ولا في كتبهم أن شيئا من صفات الله تسمى ابنا لله، ولا أن اللاهوت ابن الله، فضلا عن أن ينطقوا بأن الله مولود من امرأة ولادة، وخرج من فرجها، فيكون مولودا ولادة جسمانية.

ولهذا لما تنازعت النصارى في ذلك، لم يكن لمن ادعاه على من نفاه حجة من نصوص الأنبياء، غاية ما عندهم التمسك بألفاظ متشابهة وتغيير ألفاظ صريحة محكمة، تبين أن المولود إنما هو بشر.

فإذا قالوا في الألفاظ المتشابهة: لا نعلم مراد الرسول بها، كان هذا مما قد يعذرون به، فإن المتشابه من النصوص لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم.

فإذا قالوا: لسنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله - كانوا شاهدين على أنفسهم بعدم العلم، وشهادة الإنسان على نفسه مقبولة.

بخلاف القول الذي تكلموا به هم، وزعموا أن معناه يدل عليه كلام الأنبياء أو يدل عليه العقل، فإن عليهم أن يبينوا معناه الذي عنوه به، وعليهم أن يبينوا أنه قد دل على ذلك شرع أو عقل.

فإذا قالوا: نفس الكلام الذي قلناه لا نتصور معناه، كانوا معترفين أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وهذا حرام عليهم.

وإن قالوا: إن كلام الأنبياء دل على ذلك، كان غاية ما عندهم التمسك بالمتشابه، وحينئذ فيطالبون بتفسير المتشابه، والجمع بينه وبين المحكم على وجه صحيح معلوم، وإلا فإذا قالوا: هذا فوق العقل لا نفهمه، قيل لهم: فدعوا المتشابه لا تحتجوا به، ولا تذكروا له معنى تزعمون أنكم لا تعقلونه.

فمتى ثبت عن الأنبياء قول وقال قوم: إنا لا نفهمه - فإنهم يصدقون على أنفسهم.

وأما إذا فسروا كلام الأنبياء بقول عبروا به على مراد الأنبياء وقالوا: هذا مرادهم مع تعبيرهم عنه بعبارات أخرى - طولبوا بأن يبينوا ذلك المعنى، وقيل لهم: إن فهمتم ما قلتموه فبينوه، وإن لم تفهموه فلا تتكلموا بلا علم.

قال سعيد بن البطريق: إن أئمة الضلالة - أعني " نسطوريوس " و " أرطيوس " و " ديسقورس " و " سورس " و " يعقوب البرادعي " وأشياعهم - الذين أرادوا أن يقيموا الزيف والمحال، ولم يرجعوا إلى خشية الله، وزاغوا عن سبيل الحق لسوء رأيهم، فقد تورطوا في بحر الضلالة.

وهم جميعا فيما ارتطموا فيه من ضلالتهم يضمرون جهلا منهم باتحاد لاهوت سيدنا المسيح بناسوته، ويتورط كل واحد منهم في وجه من وجوه الخلطة، ويتمسك به.

فقد رأيت أن أوضح وجه الخلطة، وأبين ذلك؛ لتقف على فساد قولهم: إن من عظيم تدبير الله وكمال عدله وجليل رحمته، أن بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء، وهي التي من جوهره ليست مخلوقة، ولكن مولودة منه قبل كل الدهور، ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط، ولا كانت الكلمة برية منه قط، ولا من روحه الخالقة، ولا من جوهره، فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت، الذي لم يزل ولا يزال، فالتحمت من مريم العذراء وهي جارية طاهرة مختارة من نسل داود، اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين، وطهرها بروح القدس، روحه الجوهرية، حتى جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها، فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها، بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس، خلقا جديدا من غير نطفة آدمية جرت عليها الخطيئة، ومن غير مجامعة بشرية ولا انفكاك عذرة تلك الجارية المقدسة، فهو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية وروحه الكلمانية التي من صورة الله في الإنسان وشبهه، فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم.

واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق، ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه فيما يظهر لأهل الأثقال من غليظ الخلق.

وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية ألطف من لطيف الخلق، فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله، فكانت لها حجابا ولمن هو ألطف منها، وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا.

فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية، وصارت كلمة الله بقوامها قواما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها؛ لأنها لم تخلق ولم تك شيئا إلا بقوام من كلمة الله الذي خلقها وكونها لا من شيء، لا سبق قبل ذلك في بطن مريم، ولا من شيء كان لها من نطفة، ولا من غير ذلك، غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي، فذلك القوام معدود معروف مع الناس، لما ضم إليه وخلقه له؛ التحم به من جوهر الإنسان، فهو - بتوحيد ذلك القوام الواحد - قوام لكلمة الله الخالقة، واحد في التثليث بجوهر لاهوته، واحد في الناس بجوهر ناسوته، وليس باثنين، ولكن واحد مع الأب والروح وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين من جوهر اللاهوت الخالق، وجوهر الناسوت المخلوق، بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة التي هي الابن المولود من الله قبل الأدهار كلها، وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب ولا من روح القدس.

قلت: فهذا كلام سعيد بن البطريق الذي قرر به دين النصارى، وفيه من الباطل ما يطول وصفه، لكن نذكر من ذلك وجوها.

الوجه الأول: قوله: إن من عظيم تدبير الله أن بعث كلمته الخالقة، التي بها خلق كل شيء من جوهره، ليست مخلوقة، ولكن مولودة منه، فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم، فالتحمت من مريم العذراء.

فيقال: قد جعلت الكلمة الخالقة، وقلت - بعد هذا -: ولا كانت الكلمة برية منه، ولا من روحه الخالقة، وقلت - بعدها -: فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق، خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس جميعا، خلقا جديدا.

فيقال لهم: أخالق العالم - عندكم - خالق واحد وهو إله واحد، أم للعالم ثلاثة آلهة خالقون؟.

فإن قالوا: إن الخالق واحد، وهم ثلاثة آلهة خالقون، كما أنهم في كثير من كلامهم يصرحون بثلاثة آلهة، وثلاثة خالقين، ثم يقولون: إله واحد، وخالق واحد.

فيقال: هذا تناقض ظاهر، فإما هذا، وإما هذا.

وإذا قلتم: الخالق واحد، له ثلاث صفات، لم ننازعكم في أن الخالق له صفات، لكن لا يختص بثلاثة.

فإن قالوا بثلاثة آلهة خالقين، كما قد كثر منهم في كثير من كلامهم، بان كفرهم وعظم شركهم، وبان أن شركهم أعظم من كل شرك في العالم، فغاية المجوس الثنوية - إثبات اثنين، نور وظلمة، وهؤلاء يثبتون ثلاثة.

ثم الأدلة السمعية في التوراة والإنجيل والزبور وسائر كلام الأنبياء مع الأدلة العقلية المبينة لكون الخالق واحدا، كثيرة جدا لا يمكن حصرها هنا.

وإن قالوا: إن الخالق واحد، له صفات، قيل لهم: فهذا مناقض لقولكم: إنه بعث كلمته الخالقة، وقولكم: (ولا كانت الكلمة برية منه

ولا من روحه الخالقة) وقولكم: (فهبطت الكلمة الخالقة)، وقولكم: (فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق، خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة الروح). فهذا يقتضي أن الكلمة خالقة وأن الروح خالقة، وأنها خلقت بمسرة الأب الخالق ومؤازرة الروح الخالقة، وهذا الخالق هبط والأب لم يهبط.

فإذا كان الخالق واحدا له صفات، لم يكن هنا إلا خالق واحد.

الوجه الثاني: قولكم: (بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء)، وقد نطقت الكتب بأن الله يخلق الأشياء بكلامه، فيقول لها: (كن فيكون)، هكذا في القرآن والتوراة وغيرهما.

لكن الخالق هو الله تعالى يخلق بكلامه، ليس كلامة خالقا.

ولا يقول أحد قط: إن كلام الله خلق السماوات والأرض.

والتوراة كلام الله، والإنجيل كلام الله، ولا يقول أحد: إن شيئا من ذلك خلق السماوات والأرض، ولا يقول أحد: يا كلام الله اغفر لي وارحمني.

فقول هؤلاء: إن كلمته هي الخالقة وإنه خلق بها - كلام متناقض.

فإنها إن كانت هي الخالقة، لم تكن هي المخلوق به، فالمخلوق به ليس هو الخالق.

الوجه الثالث: أن يقال: قولكم: (كلمة الله الخالقة) أهي كلام الله كله، أم هي بعض كلام الله، أم هي المعنى القائم بالذات القديم الأزلي، الذي يثبته ابن كلاب، أم حروف وأصوات قديمة أزلية كما يقوله بعض الناس، أم هي الذات المتكلمة؟.

فإن كانت هي الذات المتكلمة، فهي الأب والرب، وتكون هي الموصوفة بالحياة، فلا يكون هناك كلام مولود، ولا كلمة أرسلت، ولا غير ذلك مما ذكره، وهذا خلاف قولهم كلهم، فإن الكلمة المتحدة بالمسيح ليست هي الأب عندهم.

وإن قالوا: بل هي كلام الله كله.

قيل لهم: فيكون المسيح هو التوراة والإنجيل والقرآن وسائر كلام الله، وهذا لا يقولونه، ولم يقله أحد ولا يقوله عاقل.

وإن قالوا: إنها هي المعنى الواحد القديم الأزلي، أو الحروف والأصوات القديمة الأزلية.

قيل لهم: هذان القولان، وإن كانا باطلين، فإن قلتم بهما لزمكم أن يكون المسيح هو كلام الله كله، فإن هذين - عند من يقول بهما - هما جميع كلام الله. والتوراة والإنجيل وسائر كلام الله، عبارة عن ذلك المعنى القائم بذات الله، وهو الحروف والأصوات القديمة القائمة بالذات عند من يقول بهذين.

إن قلتم: إن المسيح بعض كلمات الله، فحينئذ لله كلمات أخر غير المسيح، فاجعلوا كل كلمة خلقا كما جعلتم الكلمة المتحدة بالمسيح خالقا، إذ كنتم تقولون: (الكلمة هي الخالقة وهي المخلوق بها)، فقولوا عن سائر كلمات الله إنها خالقة مخلوق بها، وحينئذ فيتعدد الخالق بتعدد كلمات الله.

وإذا كانت كلمات الله لا نهاية لها، كان الخلق خالقين لا نهاية لهم، وهذا غاية الباطل والكفر.

وبالجملة، أي شيء فسروا به الكلمة تبين به فساد قولهم، ولكنهم يتكلمون بما لا يفهمونه، ويقولون الكذب والكفر المتناقض، وإنما عندهم تقليد من أضلهم، كما قال تعالى: قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.

الوجه الرابع: أن يقال لهم: ما لم يعلم بالمعقول، فليس في المنقول ما يدل عليه، وأنتم لا تدعون أنكم عرفتموه بالعقل، لكن بما نقل عن الأنبياء، وأنتم قد فسرتم كلمته بعلمه وحكمته، وروح القدس بحياته، فمن أي نبي تنقلون أن علم الله وحكمته مولودة منه، وأنه يسمى ابنا، وأن علمه أو حكمته خلق كل شيء، وأن حياته خلقت كل شيء، وأن علمه خالق وإله ورب، وحياته خالقة وإله ورب، وليس في الأنبياء من سمى شيئا من صفات الرب ولدا له ولا ابنا، ولا ذكر أن الله ولد شيئا من صفاته. فدعواكم أن صفته القديمة الأزلية ولدت مرتين، مرة ولادة قديمة أزلية، وولادة حادثة من فرج مريم - كذب معلوم على الأنبياء، لم يقل أحد منهم: إن الله ولد، ولا إن شيئا من صفاته ولده، لا ولادة روحانية، ولا ولادة جسمانية.

وهذا وإن أبطل قول الملكية، فهو لقول اليعقوبية أشد إبطالا، وهو مبطل أيضا لقول النسطورية، فإنهم يقولون بالأمانة التي فيها أنه مولود قديم أزلي، فإن طوائفهم الثلاثة متفقون على الأمانة التي ابتدعوها في زمن " قسطنطين " بعد أكثر من ثلاثمائة سنة من المسيح.

الوجه الخامس: قولكم: بعث كلمته الخالقة فهبطت كلمة الله الخالقة التي بها خلق كل شيء، ليست مخلوقة، ولكن مولودة منه، ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط.

من قال من الأنبياء: إنه لم يكن بلا روحه قط، أو إن روحه صفة له قديمة، أو إنها حياته؟

وكلام الأنبياء كله ينطق بأن روح الله وروح القدس ونحو ذلك هو ما ينزله على الأنبياء، كالوحي والتأييد، أو الملائكة، فليست روح الله صفة قائمة به ولا غيرها، ولكنها أمر بائن عنه.

الوجه السادس: أنه إذا كان قد بعث كلمته الخالقة وهبطت والتحمت من مريم، فهو نفسه رب العالمين هبط والتحم من مريم، أم رب العالمين نفسه لم يهبط ولم يلتحم من مريم، وإنما هبط والتحم الكلمة التي أرسلها؟

فإن قلتم: هو نفسه هبط والتحم، كان الأب الوالد للكلمة، هو الذي هبط والتحم، وكان الأب هو الكلمة، وهذا مناقض لأقوالكم.

وإن قلتم: إن المبعوث الهابط الملتحم ليس هو الأب، بل هو كلمة الرب، فقد جعلتموه الخالق، فيكون هناك خالقان، خالق أرسل فهبط والتحم، وخالق أرسل ذلك ولم يهبط ولم يلتحم، وقد أثبتم خالقا ثالثا، وهو الروح، وهذا تصريح بثلاثة آلهة خالقين.

الوجه السابع: أنه قال: إن الله بعث كلمته الخالقة التي بها خلق كل شيء فمع كونه جعلها خالقة، جعل أنه بها خلق كل شيء، والذي خلق بها كل شيء هو خالق، فجعلها خالقة، وجعل خالقا آخر، وجعل أحد الخالقين قد خلق الآخر به كل شيء، وجعل هذا الخالق قد بعث ذاك الخالق الذي به خلق كل شيء، وجعل الكلمة الخالقة احتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا.

وإذا كانت هي الخالقة بمسرة الأب الخالق على الخلق، فالأب لم يخلقه، بل سر بذلك، وروح القدس وازرت ذلك، والخالق خلق الخلق.

ومعلوم أنه إذا كان للخالق من يوازره على الخلق، لم يكن مستقلا بالخلق، بل يكون له فيه شريك.

فهذه الكلمة، تارة يقولون: هي الخالقة، وتارة يقولون: خلق بها الخالق فخلقت، وتارة يقولون: إن روح القدس وازرها في الخلق، فهذه أربعة أقوال ينقض بعضها بعضا.

فإن كان الله هو الخالق لكل شيء فالخالق واحد، فليس هناك خالق آخر ولا شريك له في الخلق.

والخالق إذا خلق الأشياء بقوله: (كن) لم يكن كلامه خالقا، ولو كانت كل كلمة إلها خالقا، لكان الآلهة الخالقون كثيرين لا نهاية لهم.

ثم قال: ليست بمخلوقة ولكن مولودة منه من قبل كل الدهور.

فيقال: من من الأنبياء سمى شيئا من صفات الله مولودا قديما أزليا؟ فكيف يكون مولودا قديما أزليا؟ وهل يعقل مولود إلا محدثا؟.

وأيضا فإذا جاز أن تكون الكلمة التي يفسرونها بالعلم أو الحكمة مولودة منه، فكذلك حياته مولودة منه، وإن كانت حياته منبثقة منه، فكلمته منبثقة منه.

فجعل إحدى الصفتين الأزليتين مولودة من الأزل غير منبثقة، والأخرى ليست مولودة من الأزل، بل منبثقة - مع كونه باطلا فهو متناقض، وتفريق بين المتماثلين.

فإنه إن جاز أن يقال للصفة القديمة الأزلية: إنها مولودة منه فالحياة مولودة.

وإن جاز أن يقال: إنها منبثقة، فالكلمة منبثقة.

وأيضا فكون الصفة إلها خالقا، وإثبات ثلاثة آلهة خالقين مع قولهم: إن الخالق واحد - تناقض آخر.

وأيضا فقوله: (ولم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط) إن أراد بروحه حياته، فهذا صحيح، لكن من من الأنبياء سمى حياة الله روحه؟ ومن الذي جعل الله روحا قديمة أزلية؟ وهل هذا إلا افتراء على الأنبياء؟

وليس لقائل أن يقول: إن هذا نزاع لفظي فلا اعتبار به؛ لأن هذا تفسير لكلام الأنبياء، فهم الذين تكلموا بروح الله وروح القدس ونحو ذلك، ولم يرد أحد بذلك حياة الله قط.

فتسمية حياة الله روحا، وتفسير مراد الأنبياء بذلك - افتراء على الله ورسله.

الوجه الثامن: قوله (فهبطت كلمة الله الخالقة بقوامها القائم الدائم الثابت الذي لم يزل ولا يزول، فالتحمت من مريم العذراء، وهي جارية طاهرة، مختارة من نسل داود، اصطفاها الله لهذا التدبير من نساء العالمين وطهرها بروح القدس، روحه الجوهرية، التي جعلها أهلا لحلول كلمة الله الجوهرية بها، فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها بمسرة الأب ومؤازرة روح القدس خلقا جديدا).

فيقال: إن الكتب دلت على أن المسيح تجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء البتول، وهكذا هو في الأمانة التي لهم، وبهذا أخبر القرآن حيث أخبر في غير موضع، أنه نفخ في مريم من روحه مع إخباره أنه أرسل إليها روحه.

قال تعالى: واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا قال إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغيا قال كذلك قال ربك هو علي هين ولنجعله آية للناس ورحمة منا وكان أمرا مقضيا فحملته فانتبذت به مكانا قصيا فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا.

وقال تعالى: والتي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين

وقال تعالى: ومريم ابنت عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدقت بكلمات ربها وكتبه وكانت من القانتين

فالكتب الإلهية يصدق بعضها بعضا.

لكن دعواكم أن روح القدس، روح الله الجوهرية؛ (أي حياته القديمة الأزلية) - أمر مخالف لجميع كتب الله وأنبيائه.

فلم يفسر أحد منهم روح القدس بصفة الله، لا جوهرية ولا غير جوهرية، ولا قديمة ولا غير قديمة، ولا أرادوا بذلك حياة الله.

فقولكم هذا تبديل لكلام الله وكلام أنبيائه ورسله، كما أنكم في قولكم: إن كلمة الله أو علمه أو حياته مولودة منه، وإن صفته القديمة الأزلية هي ابنه - مما حرفتم فيه كلام الأنبياء، فلم يرد أحد منهم هذا المعنى بهذا اللفظ قط، ولم يطلق في جميع الكتب التي عندكم لفظ الابن المولود إلا على محدث مخلوق لا على شيء قديم أزلي، لا موصوف ولا صفة ولا علم، ولا كلام ولا حكمة، ولا غير ذلك.

وكل ولادة في الكتب الإلهية التي عندكم وغيرها، فهي ولادة حادثة زمانية، وكل مولود، فهو محدث مخلوق زماني، ليس في الكتب ولادة قديمة أزلية ولا مولود قديم أزلي، كما أنكم ذكرتم ذلك في أمانتكم وغيرها.

فلو كان ما ذكرتموه ممكنا في العقول، لم يجز أن تجعلوه موجودا واقعا، وتقولوا: الأنبياء أرادوا ذلك، إلا أن يكونوا بينوا أن ذلك مرادهم.

فإذا كان كلامهم صريحا في أنهم لم يريدوا ذلك، والمعقول الصريح يناقض ذلك، كان ما قلتموه كذبا على الله وعلى أنبيائه ورسله ومسيحه، وكان باطلا في المعقول، وكنتم ممن قيل فيه: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير.

ثم يقال: أنتم قلتم: (إن الكلمة الخالقة هبطت فالتحمت من مريم، واحتجبت بإنسان مخلوق خلقته لنفسها)، وقلتم: (إن مريم حملت بالإله الخالق وولدته الذي هو الابن).

فإذا جوزتم أن تكون مريم هي أما للخالق الذي هو الابن حملته وولدته - فلم لا يجوز أن تكون زوجة للخالق الذي هو الأب مع أن الخالق التحم من مريم؟ وقد قلتم: لم يكن الله بلا كلمته ولا روحه قط، ولا كانت الكلمة برية منه قط، ولا من روحه الخالقة ولا من جوهره.

فجعلتم الروح خالقة، والله الذي هو الأب خالقا، والمسيح قد تجسد من الروح الخالقة ومن مريم، فكما أن مريم أمه، فالروح الخالقة بمنزلة أبيه.

وأيضا فمريم لها اتصال بالأب وبروح القدس، وكلاهما أب للمسيح على ما ذكرتموه.

فإذا كانت مريم متصلة بكل واحد ممن جعلتموه أبا للمسيح، وقلتم: إن الخالق التحم من مريم، فهذا أبلغ ما يكون من جعل الخالق زوج مريم.

ومهما فسرتم به اتحاد اللاهوت بناسوت المسيح المخلوق منها، كان تفسير التحام اللاهوت بناسوت مريم حتى يصير زوجا لمريم أولى وأحرى، وليس في ذلك نقص ولا عيب إلا وفي كون اللاهوت ابن مريم، ما هو أبلغ منه في النقص والعيب.

ومعلوم أن أم الإنسان أعلى قدرا عنده من زوجته، وأن تسلطه على زوجته أعظم منه على أمه، فإن الرجل مالك للزوجة، قوام عليها، والمرأة أسيرة عند زوجها، بخلاف أمه.

فإذا جعلتم اللاهوت الخالق القديم الأزلي ابنا لناسوت مريم بحكم الاتحاد مع كونه خالقا لها بلاهوته وابنا لها بناسوته، ولم يكن هذا ممتنعا عندكم ولا قبيحا، فأن تكون مريم صاحبة له وزوجة وامرأة بحكم الالتحام بالناسوت أولى وأحرى.

وإن كان هذا ممتنعا وقبيحا، فذاك أشد امتناعا وقبحا.

ولهذا ذهب طوائف من النصارى إلى أن مريم امرأة الله وزوجته، وقالوا أبلغ من ذلك حتى ذكروا شهوته للنكاح.

ولقد قال بعض أكابر عقلاء الملوك ممن كان نصرانيا: إنهم كانوا إذا نبهوا على قولهم: إن عيسى ابن الله، لم يفهم من ذلك إلا أن الله أحبل أمه وولدت له المسيح ابنه، كما يحبل الرجل المرأة وتلد له الولد، فيكون قد انفصل من الله جزء في مريم بعد أن نكحها، وذلك الجزء الذي من الله ومن مريم ولدته مريم كما تلد المرأة الولد الذي منها ومن زوجها، وقد قالت الجن المؤمنون: وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، فنزهوه عن هذا وهذا، وهؤلاء الجن المؤمنون أكمل عقلا ودينا من هؤلاء النصارى.

وقال تعالى: بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم.

فقوله: (أنى يكون له ولد)، تقديره من أين يكون له ولد؟ فـ (أنى) في اللغة بمعنى: من أين ذلك؟ وهذا استفهام إنكار.

فبين سبحانه أنه يمتنع أن يكون له ولد، ولم تكن له صاحبة مع أنه خالق كل شيء، وأن هذا الولد يمتنع أن يكون، وأن هذا الامتناع مستقر في صريح المعقول.

ثم إذا كانت الكلمة التي هي الخالق المخلوق به قد حلت في جوف مريم والتحمت من مريم، وخلقت منها إنسانا هو المسيح خلقته لنفسها واحتجبت به واتحدت به، فهل كان خلقها لهذا الإنسان قبل الاتحاد والاحتجاب، أم حين ذلك؟

فإنه بعد ذلك ظاهر الامتناع، محال أنها بعد الاحتجاب به والاتحاد خلقته، بل لا بد أن تكون خلقته قبله أو معه.

فإن كان معه، لزم كون المخلوق متحدا بالخالق دائما، لم تمر عليه لحظة إلا وهو متحد به.

فإذا أمكن أن يقارن المخلوق خالقه - وعندهم أنه أقام تسعة أشهر حملا كعامة الناس، وقد ذكر ذلك سعيد بن البطريق هذا - فإذا كان كذلك، كان الرب متحدا بالمضغة والجماد الذي لا روح فيه.

وإذا جاز عليه هذا، جاز أن يتحد بسائر الجمادات، وهذا على قول الأكثرين الذين يقولون: إن الروح إنما نفخت فيه بعد أربعة أشهر، ومن قال: إنها نفخت فيه من حين أخذ الجسد من مريم، وهذا يشبه قول جمهور النصارى الذين يقولون: إن المسيح مات وصلب وفارقته الروح الناطقة المنفوخة فيه، والإله المتحد به لم يفارقه أبدا، فإنهم يقولون: إنه من حين اتحد بناسوت المسيح لم يفارقه، بل هو الآن متحد به، وهو في السماء قاعد عن يمين أبيه، وذلك القاعد هو الخالق القديم، والأب هو الإله الخالق القديم الأزلي، وهما مع ذلك إله واحد.

والمقصود هنا أنهم يقولون باتحاد اللاهوت بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت إلى أن قام من قبره، فعادت الروح إليه، وحينئذ لم يظهر من تلك المضغة شيء من العجائب.

وهم يستدلون على إلهية المسيح بالعجائب، مع أنه كان الإله متحدا به قبل أن يظهر العجائب، وحينئذ فلا يلزم من عدم ظهور العجائب من شيء الجزم بأن الرب لم يتحد به مع إمكان الاتحاد.

ويلزم أن كل جامد وحي ظهرت منه العجائب أن يكون ذلك دليلا على أن الرب اتحد به.

وحينئذ فعباد العجل أعذر من النصارى، وإن كان من عباد الأصنام من يقول: إن الصنم خلق السماوات والأرض، فهو أعذر من النصارى؛ لأن ظهور العجائب من الحيوان الأعجم والجماد أعظم من ظهورها من الإنسان الناطق، لا سيما الأنبياء والرسل، فإن الأنبياء والرسل معروفون بظهور العجائب على أيديهم، فإذا ظهرت على يد من يقول: إني نبي مرسل، كانت دليلا على نبوته لا على إلهيته.

والمسيح كان يقول: إني نبي مرسل، كما ذكر ذلك في الإنجيل في غير موضع، فأما الحيوان الأعجم والجماد، فلا يجوز أن يكون نبيا.

فإن جاز الاتحاد بالمضغة والجسم المقبور الذي لا روح فيه، فاتحاده بالعجل وبالصنم أولى، وحينئذ فخوار العجل عجيب منه.

فاستدلال عباد العجل بذلك على أنه إله، خير من استدلال النصارى على إلهية المضغة إن قدر ظهور شيء من العجائب التي قد يستدلون بها.

وإن كانت تلك لا تدل إلا على نبوته صلى الله عليه وسلم تسليما.

الوجه التاسع: قوله: (فاحتجبت الكلمة الخالقة بإنسان مخلوق خلقته لنفسها)، وقوله: (فكانت مسكنا في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم).

يقال لهم أولا: من أين لك أن روح الإنسان ألطف من جميع المخلوقات، وأنها ألطف من الملائكة والروح الذي قال الله فيه: يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وأنها ألطف من الروح التي نفخ في آدم منه بقوله: ونفخت فيه من روحي وبتقدير أن تكون ألطف، فأنت لا تقول: إن الاحتجاب والاتحاد كان بروح الإنسان مجردة، بل بالجسد الناسوتي الدموي الغليظ، وتقول: (إن الخالق التحم من مريم العذراء) فتجعل الخالق قد التحم من لحم مريم، ومن رحمها الذي هو لحم ودم، وهذه أجساد كثيفة، بل جمهورهم يقول: إنه اتحد بجسد لا روح فيه قبل النفخ وبعد الموت وقبل أن يقوم من قبره.

وحينئذ فقولك: (فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه للطفها عن جميع ما لطف من الخلائق كلهم) - وصف ممنوع، والتعليل به باطل، فإنه لو كان مسكنا للطفه، لم يجز أن يسكن إلا في الروح اللطيفة، فلما أثبت اتحادا بالجسد الكثيف، بطل قولك: (إنه اتحد بالإنسان للطفه).

الوجه العاشر: قولكم: (واعلم أنه لا يرى شيئ من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق، ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلط منه).

يقال لهم: إما أن يكون الله لما اتحد بالمسيح عندكم قد رآه الناس وعاينوه، أو لم يره أحد.

فإن قلتم: قد رآه الناس وعاينوه، فهذا مخالف للحس والشرع والعقل.

أما الحس، فإن أحدا ممن رأى المسيح لم ير شيئا يتميز به المسيح عن غيره من البشر غير العجائب التي ظهرت على غيره، منها ما هو أعظم مما ظهر عليه، ولم ير إلا بدن المسيح الظاهر، لم ير باطنه، لا قلبه ولا كبده ولا طحاله، فضلا عن أن يرى روحه، فضلا عن أن يرى الملائكة الذين يوحون إليه، فضلا عن أن يرى الله، إن قدر أنه كان متحدا به أو حالا فيه.

فدعوى المدعي أن من رأى المسيح فقد رأى الله عيانا ببصره - في غاية المباهتة والمكابرة والكذب، لو قدر أن الله حال فيه، أو متحد به.

فإنه من المعلوم أن الملائكة تنزل على المسيح وغيره وتتصل بأرواحهم، والناس لا يرون الملائكة، بل الجن تدخل في بني آدم والناس لا يرونهم، وإنما يرون جسد المصروع.

وكل إنسان معه قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن، وهو نفسه لا يرى ذلك، ولا يراه من حوله.

وتحضره الملائكة وقت الموت ولا يراهم من حوله مع أنه هو يراهم، قال تعالى: فلولا إذا بلغت الحلقوم وأنتم حينئذ تنظرون ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون فلولا إن كنتم غير مدينين ترجعونها إن كنتم صادقين. فإذا كانت هذه المخلوقات التي اتفق أهل الملل على اقترانها بالإنسان واتصالها بهم، وأن رؤيتها ممكنة - لا يراها الناس، فكيف يقال: إن المسيح الذي لم ير الناس منه إلا ما رأوه من أمثاله من الرسل كإبراهيم وموسى، ولم يكن له قط شيء يتميز به عن جنس الرسل، فكيف يقال: إن الذين رأوه، رأوا الله عيانا بأبصارهم؟

وأما الشرع، فموسى والمسيح وغيرهما من الأنبياء أخبروا أن أحدا لا يرى الله في الدنيا.

وأما العقل، فإن رؤية بعض ملائكة الله، أو بعض الجن - يظهر لرائيها من الدلائل والأحوال ما يطول وصفه، فكيف بمن رأى الله؟

والذين رأوا المسيح لم يكن حالهم إلا كحال سائر من رأى الرسل، منهم الكافر به المكذب له، ومنهم المؤمن به المصدق له، بل هم يذكرون من إهانة ناسوته ما لا يعرف عن نظرائه من الرسل، مثل ضربه، والبصاق في وجهه، ووضع الشوك على رأسه، وصلبه، وغير ذلك.

وأيضا فمعلوم أن من رأى الله إما أن يعرف أنه الله، أو لا يعرف.

فإن عرف أنه رأى الله، كان الذين رأوا المسيح قد علموا أنه الله، ولو علموا ذلك لحصل لهم من الاضطراب ما يقصر عنه الخطاب.

وإن كانوا لم يعرفوه، فهذا في غاية الامتناع، حيث صار رب العالمين لا يميز بينه وبين غيره من مخلوقاته، بل يكون كواحد منهم، ويميز بينه وبينهم، ولا يعرف الرائي أن هذا هو الله.

ولوازم هذا القول الفاسدة كثيرة جدا.

وإن قالوا: إن الله لم ير لما اتحد بالمسيح، وإنما رئي جسد المسيح الذي احتجب به الله. فقولهم بعد ذلك: (واعلم أنه لا يرى شيء من لطيف الخلق إلا في غليظ الخلق، ولا يرى ما هو لطيف من اللطيف إلا مع ما هو أغلظ منه) - كلام لا فائدة فيه. إذ كان هذا مثلا ضربوه لله ليبينوا أنه يرى.

فإذا سلموا أنه لم ير، لم يكن في هذا المثل فائدة، بل كان هذا استدلالا على شيء يعلمون أنه باطل.

وأيضا فما ذكروه من أن اللطيف لا يرى إلا في الغليظ - باطل، فإن اللطيف كروح الإنسان لا ترى في الدنيا، وإن علم وجودها وأحس الإنسان بروحه وصفاتها، فرؤيتها بالبصر غير هذا. يبين ذلك:

الوجه الحادي عشر: قولهم: (وإنا وجدنا روح الإنسان العاقلة الكلمانية - يعنون النفس الناطقة - ألطف من لطيف الخلق)، فلذلك كانت أولى خلق الله بحجاب الله، فكانت له حجابا، وكانت النفس الدموية لها حجابا والجسد الغليظ حجابا.

فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة نفس الإنسان الكاملة لجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية، وصارت كلمة الله بقوامها قواما لتثليث الناسوت التي كمل جوهرها بتقويم قوام كلمة الله إياها؛ لأنها لم تخلق، ولم تك شيئا إلا بقول من كلمة الله الذي خلقها وقومها، لا من شيء سبق قبل ذلك في بطن مريم، ولا من سبب كان لها من غير ذلك غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي.

فيقال لهم: هذا الكلام يقتضي أن الخالق احتجب بالنفس الناطقة، والنفس الناطقة احتجبت بالبدن.

وأنتم تصرحون بأن نفس الكلمة التي هي الخالق، وهي الله عندكم، التي خلقت لنفسها إنسانا احتجبت به، وقلتم: هو إنسان تام بجسده ونفسه الدموية، وروحه الكلمانية، أي نفسه الناطقة التي هي صورة الله في الإنسان وشبهه، فكانت مسكنا لله في حلوله واحتجابه.

فصرحتم بأن البدن مع الروح مسكن لله في حلوله واحتجابه، وأنه هو الذي خلق ذلك البدن والروح، وقلتم: إن هذه الكلمة الخالقة المحتجبة التي قلتم: إنها الله، التحمت من مريم العذراء.

فإذا كان الله الخالق قد التحم من مريم العذراء، فمعلوم أن ذلك قبل نفخ النفس الناطقة التي سميتموها الروح الكلمانية في المسيح.

وإذا كان الخالق تعالى قد التحم بجسد لا روح فيه، والتحامه به أبلغ من حلوله فيه، ثم اتخذ الجسد حجابا قبل نفخ الروح الكلمانية فيه، فكيف يقال: إنما حل في الروح لا في البدن، وهو قد التحم بالبدن واتخذ منه جزءا مسكنا له وحجابا قبل أن ينفخ فيه الروح الكلمانية؟

وقلتم أيضا: فعلى هذا خالطت كلمة الله الخالقة لنفس الإنسان الكاملة بجسدها ودمها وروحها العاقلة الكلمانية.

وهذا تصريح بأن الخالق خالط الإنسان بجسده ودمه وروحه.

فكيف تقولون: إنما احتجبت بالروح اللطيفة، مع تصريحكم بأن الخالق اختلط بالجسد والدم.

وهذا أيضا يناقض قول من قال: إنه اتحد به اتحادا بريا من الاختلاط.

فقد صرحتم هنا أنه اختلط به، وسيأتي نظائر هذا في كلامهم يصرحون فيه باختلاط اللاهوت بالناسوت.

الوجه الثاني عشر: قولكم: (غير قوام الكلمة الخالقة الذي هو أحد التثليث الإلهي، فذلك القوام معدود معروف مع الناس، لما ضم إليه وخلقه له التحم به من جوهر الإنسان، فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد قوام لكلمة الله الخالقة واحد في التثليث بجوهر لاهوته، واحد من الناس بجوهر ناسوته، وليس باثنين، ولكن واحد مع الأب والروح، وهو إياه واحد مع الناس جميعا بجوهرين مختلفين، من جوهر اللاهوت الخالق، وجوهر الناسوت المخلوق، بتوحيد القوام الواحد قوام الكلمة، التي هي الابن المولود من الله من قبل كل الدهور، وهو إياه المولود من مريم العذراء في آخر الزمان من غير مفارقة من الأب، ولا من روح القدس.

فيقال: في هذا الكلام، بل فيما تقدم ذكره، ما يطول تعداده ووصفه من التناقض والفساد، والكلام الباطل، والكلام الذي تكلم به قائله، وهو لا يتصور ما يقول مع سوء التعبير عنه، كقوله: (وهو إياه)،

فيضع الضمير المنفصل موضع المتصل، ويعطف أحدهما على الآخر بلا واو عطف، إلى أمثال ذلك مما يطول ذكر معانيه، وذلك أن قولهم في نفسه باطل لا حقيقة له، وهم لم يتصوروا معنى معقولا ثم عبروا عنه حتى يقال: قصروا في التعبير، بل هم في ضلال وجهل لا يتصورون معقولا، ولا يعرفون ما يقولون، بل ولا لهم اعتقاد يثبتون عليه في المسيح، بل مهما قالوه من بدعهم كان باطلا، وكانوا هم معترفون بأنهم لا يفقهون ما يقولون.

لهذا يقولون: (هذا فوق العقل). ويقولون: (قد اتحد به بشر لا يدرك)، فما لا يدرك وما هو فوق العقل، ليس لأحد أن يعتقده ولا يقوله برأيه.

لكن إذا أخبرت الرسل الصادقون بما يعجز عقل الإنسان عنه، علم صدقهم، وإن نقل عنهم ناقل ما يعلم بصريح العقل بطلانه، علم أنه يكذب عليهم، إما في اللفظ والمعنى، وإما في أحدهما.

وأما إذا كان هو يقول القول الذي يذكر أنه علم صحته، أو أنه فسر به كلام الأنبياء، وهو لا يتصور ما يقوله، ولا يفقهه، فهذا قائل على الله وعلى رسله ما لا يعلم، وهذا قد ارتكب أعظم المحرمات، قال تعالى: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

وقال تعالى عن الشيطان: إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون.

وقال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيرا لكم إنما الله إله واحد سبحانه أن يكون له ولد له ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعا فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا.

وقد اتفق أهل الملل على أن القول على الله بغير علم حرام، والله - سبحانه - نهاهم أن يقولوا على الله إلا الحق، فكان هذا نهيا أن يقولوا الباطل، سواء علموا أنه باطل، أو لم يعلموا.

فإنهم إن لم يعلموا أنه باطل، فلم يعلموا أنه حق أيضا، إذ الباطل يمتنع أن يعلم أنه حق، وإن اعتقد معتقد اعتقادا فاسدا أنه حق، فذلك ليس بعلم، فلا تقولوا على الله ما لا تعلمون.

وإن علموا أنه باطل فهو أجدر أن لا يقولوه.

وعامة النصارى ضلال لا يعلمون أن ما يقولونه حق، بل يقولون على الله ما لا يعلمون.

والمقصود أن الباطل في كلامهم كثير، كقولهم: (فهو بتوحيد ذلك القوام الواحد - قوام لكلمة الله الخالقة).

والمسيح عندهم اسم للاهوت والناسوت جميعا، اسم للخالق والمخلوق، وأحدهما متحد بالآخر، فهو بتوحيد ذلك القوام، قوام لكلمة الله الخالقة.

وسواء أريد بذلك أن الناسوت واللاهوت قوام للاهوت، أو أن الناسوت قوام للاهوت، وهم يمثلون ذلك بالروح والجسد والنار والحديد، فيكون كما لو قيل: إن الجسد والروح، أو الجسد - قوام للروح، أو النار والحديد، أو الحديد - قوام للنار.

فيقال: الخالق الأزلي الذي لم يزل ولا يزال، هل يكون المحدث المخلوق قواما له؟ فيكون المخلوق المصنوع المحدث المفتقر إلى الله من كل وجه - قواما للخالق الغني عنه من كل وجه؟ وهل هذا إلا من أظهر الدور الممتنع؟

فإنه من المعلوم بصريح العقل واتفاق العقلاء، أن المخلوق لا قوام له إلا بالخالق، فإن كان الخالق قوامه بالمخلوق، لزم أن يكون كل من الخالق والمخلوق قوامه بالآخر، فيكون كل منهما محتاجا إلى الآخر، إذ ما كان قوام الشيء به، فإنه محتاج إليه. وهذا مع كونه يقتضي أن الخالق يحتاج إلى مخلوقه وهو من الكفر الواضح، فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل، وهذا لازم للنصارى، سواء قالوا بالاتحاد، أو بالحلول بلا اتحاد، وإن كانت فرقهم الثلاث يقولون بنوع من الاتحاد، فإنه مع الاتحاد كل من المتحدين لا بد له من الآخر، فهو محتاج إليه كما يمثلون به في الروح مع البدن، والنار مع الحديد.

فإن الروح التي في البدن محتاجة إلى البدن، كما أن النار في الحديد محتاجة إلى الحديد.

وكذلك الحلول، فإن كل حال محتاج إلى محلول فيه، وهو من الكفر الواضح، فإنه يظهر امتناعه بصريح العقل.

فإن ذلك المخلوق إن قدر أنه موجود بنفسه قديم أزلي، فليس هو مخلوقا، ومع هذا فيمتنع أن يكون كل من القديمين الأزليين محتاجا إلى الآخر، سواء قدر أنه فاعل له، أو تمام الفاعل له، أو كان مفتقرا إليه بوجه من الوجوه؛ لأنه إذا كان مفتقرا إليه بوجه من الوجوه، لم يكن موجودا إلا به.

فإن الموجود لا يكون موجودا إلا بوجود لوازمه، ولا يتم وجوده إلا به، فكل ما قدر أنه محتاج إليه لم يكن موجودا إلا به.

فإذا كان كل من القديمين محتاجا إلى الآخر، لزم أن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما به تتم حاجة الآخر، وأن لا يكون هذا موجودا إلا بخلق ذلك ما به تتم حاجة الآخر.

والخالق لا يكون خالقا حتى يكون موجودا، ولا يكون موجودا إلا بلوازم وجوده، فيلزم أن لا يكون هذا موجودا حتى يجعله الآخر موجودا، ولا يكون ذاك موجودا حتى يجعله الآخر موجودا، إذ كان جعله لما لم يتم به وجوده يتوقف وجوده عليه، فلا يكون موجودا إلا به، فلا فرق بين أن يحتاج أحدهما إلى الآخر في وجوده، أو فيما لا يتم وجوده إلا به، وهذا هو الدور القبلي الممتنع باتفاق العقلاء.

وأما الدور المعي، وهو أنه لا يوجد هذا إلا مع هذا، ولا هذا إلا مع هذا، كالأبوة مع البنوة، وكصفات الرب بعضها مع بعض، وصفاته مع ذاته، فإنه لا يكون عالما إلا مع كونه قادرا، ولا يكون عالما قادرا إلا مع كونه حيا، ولا يكون حيا إلا مع كونه عالما قادرا، ولا تكون صفاته موجودة إلا بذاته، ولا ذاته موجودة إلا بصفاته، فهذا جائز في المخلوقين اللذين يفتقران إلى الخالق الذي يحدثهما جميعا، كالأبوة والبنوة، وجائز في الرب الملازم لصفاته تعالى.

وأما إذا قدر قديمان أزليان ربان فاعلان، امتنع أن يكون أحدهما محتاجا إلى الآخر، إذ كان وجوده لا يتم إلا بما يحتاج وجوده إليه، ولا يكون فاعلا لشيء إن لم يتم وجوده، فيمتنع مع نقص كل منهما عن تمام وجوده، أن يكون فاعلا لغيره تمام وجود ذلك الغير، ولهذا لم يقل بهذا أحد من الأمم.

ولكن الذي قاله النصارى، إنهم جعلوا قوام الخالق تعالى بالمخلوق.

فيقال لهم: هذا أيضا ممتنع في صريح العقل أعظم من امتناع قيام كل من الخالقين بالآخر، وإن كان هذا أيضا ممتنعا، فإن المخلوق مفتقر في جميع أموره إلى الخالق، فيمتنع مع فقره في وجوده وتمام وجوده إلى الخالق أن يكون قوام الخالق به؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون مقيما له، وأن يكون تمام وجوده به، فيكون المخلوق لا وجود لشيء منه إلا بالخالق.

فالقدر الذي يقال: إنه يقيم به الخالق - هو من الخالق، والخالق خالقه وخالق كل مخلوق، فلا وجود له ولا قيام إلا بالخالق، فكيف يكون به قيام الخالق؟

وليس هذا كالجوهر وأعراضه اللازمة، أو كالمادة والصورة عند من يزعم أن الصورة جوهر إذا كانا متلازمين، فإن هذا من باب الدور المعي، كالنبوة مع الأبوة، وهذا جائز كما تقدم، إذ كان الخالق لهما جميعا هو الله.

وأما مع كون كل منهما هو الخالق، فهو ممتنع، ومع كون أحدهما خالقا والآخر مخلوقا، فهو أشد امتناعا.

والرب تعالى غني عن كل ما سواه من كل وجه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه، وهذا معنى اسمه " الصمد "، فإن الصمد الذي يصمد إليه كل شيء؛ لافتقاره إليه، وهو غني عن كل شيء، لا يصمد إلى شيء، ولا يسأله شيئا - سبحانه وتعالى - فكيف يكون قوامه بشيء من المخلوقات؟

وهذا الاتحاد الخاص من النصارى يشبه - من بعض الوجوه - قول أهل الوحدة والاتحاد العام، الذين يقولون كما يقوله ابن عربي صاحب " الفصوص " و " الفتوحات المكية ": إن أعيان المخلوقات ثابتة في العدم، ووجود الحق فاض عليها، فهي مفتقرة إليه من حيث الوجود المشترك العام، وهو وجوده، وهو مفتقر إليها من حيث الأعيان الثابتة في العدم، وهو ما يختص به كل عين عين، فيجعل كل واحد من الخالق والمخلوق مفتقر إلى الآخر.

ويقولون: الوجود واحد، ثم يثبتون تعدد الأعيان، ويقولون: هي مظاهر ومجال.

فإن كان المظهر والمجلى غير الظاهر، فقد ثبت التعدد، وإن كان هو إياه، فلا تعدد، فلهذا يضطرون إلى التناقض كما يضطر إليه النصارى، حيث يثبتون الوحدة مع الكثرة، وينشدون: (فيعبدني وأعبده ويحمدني وأحمده). وهؤلاء بنوا قولهم على أصلين فاسدين.

أحدهما: أن أعيان الممكنات ثابتة في العدم، كقول من يقول من أهل الكلام: إن المعدوم شيء ثابت في العدم، وهذا القول فاسد عند جماهير العقلاء.

وإنما حقيقة الأمر، أن المعدوم يراد إيجاده ويتصور، ويخبر به، ويكتب قبل وجوده، فله وجود في العلم والقول والخط، وأما في الخارج فلا وجود له.

والوجود هو الثبوت، فلا ثبوت له في الوجود العيني الخارجي، وإنما ثبوته في العلم؛ أي يعلمه العالم قبل وجوده.

والأصل الثاني: أنهم جعلوا نفس وجود رب العالمين الخالق القديم الأزلي الواجب بنفسه، هو نفس وجود المربوب المصنوع الممكن، كما قال ابن عربي: ومن عرف ما قررناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزه هو الخلق المشبه. فالأمر للخالق هو المخلوق، والأمر المخلوق هو الخالق، كل ذلك من عين واحدة، لا بل هو العين الواحدة، وهو العيون الكثيرة، وهو: (يا أبت افعل ما تؤمر). إلى أن قال: وما ذبح سوى نفسه: وما نكح سوى نفسه.

وقال: ومن أسمائه الحسنى العلي، على من يكون عليا، وما هو إلا هو؟ أو عن ماذا يكون عليا، وما ثم إلا هو؟ فعلوه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات، فالمسمى محدثات هي العلية لذاتها وليست إلا هو.

وقد نقل عن أبي سعيد الخراز أنه قيل له: بماذا عرفت ربك؟

قال: بجمعه بين الأضداد، وقرأ قوله: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

أراد بذلك أنه مجتمع في حقه - سبحانه - ما يتضاد في حق غيره، فإن المخلوق لا يكون أولا آخرا باطنا ظاهرا.

وقد ثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه كان يقول: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، فجاء هذا الملحد وفسر قول أبي سعيد بأن المخلوق هو الخالق، فقال: قال أبو سعيد، وهو وجه من وجوه الحق، ولسان من ألسنته، ينطق عن نفسه بأن الله لا يعرف إلا بجمعه بين الأضداد في الحكم عليه بها، فهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، فهو عين ما ظهر وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثم من يراه غيره، وما ثم من باطن عنه سواه، فهو ظاهر لنفسه باطن عن نفسه، وهو المسمى أبو سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات، ولهذا قال بعض النصارى لمن يقول مثل هذا ويحكيه عن شيوخه ويقول: إنه مسلم (أنتم كفرتمونا لأجل أن قلنا: إن الله هو المسيح، وشيوخكم يقولون: إن الله هو أبو سعيد الخراز، والمسيح خير من أبي سعيد).

وهؤلاء يجيبون النصارى بجواب يتبين به أنهم أعظم إلحادا من النصارى.

فيقولون للنصارى: (أنتم خصصتموه بالمسيح، ونحن نقول: هو وجود كل شيء، لا نخص المسيح.

ولهذا قال بعضهم لأحذق هؤلاء " التلمساني " الملقب بالعفيف: أنت نصيري. فقال: نصير جزء مني. فإن النصيرية أتباع أبي شعيب " محمد بن نصير " يقولون في علي بن أبي طالب نظير ما يقوله النصارى في المسيح، كذلك سائر الغلاة في علي، أو في أحد من أهل بيته، أو في الإسماعيليةبني عبيد المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر، كالحاكم وغيره، أو في الحلاج، أو في بعض من الشيوخ الذين يقولون في واحد من هؤلاء باتحاد اللاهوت به أو حلوله فيه، نظير ما تقوله النصارى في المسيح.

وهؤلاء يقولون بأن الحلول والاتحاد محدث، وأن القديم حل أو اتحد بالمحدث، بعد أن لم يكونا متحدين.

وأما أولئك فيقولون بالوحدة المطلقة، فمحققوهم يقولون: إنه وجود كل شيء، لا يقولون باتحاد وجودين، ولا بحلول أحدهما بالآخر.

بل قد يقولون: إن الوجود هو ثبوت وجود الحق وثبوت الأشياء، اتحدا، وكل منهما مفتقر إلى الآخر.

فالحق إذا ظهر كان عبدا، والعبد إذا بطن كان ربا.

ويقولون: إذا حصل لك التجلي الذاتي، وهو هذا، لم تضرك عبادة الأوثان ولا غيرها، بل يصرحون بأنه عين الأوثان والأنداد، وأن أحدا لم يعبد غيره، كما يقول ابن عربي مصوبا لقوم نوح الكفار: ومكروا مكرا كبارا، قال: لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية (ادعوا إلى الله) فهذا عين المكر، فأجابوه (مكرا) كما دعاهم (مكرا) فقالوا في مكرهم: لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا إذا تركوهم جهلوا عن الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء.

فإن للحق في كل معبود وجها، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله، كما قال في المحمديين: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه.؛ أي حكم فما حكم الله بشيء إلا وقع. فالعارف يعرف من عبد، وفي أي صورة ظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصور الروحانية، فما عبد غير الله في كل معبود.

وصوب هذا الملحد فرعون في قوله: أنا ربكم الأعلى.

قال: ولما كان فرعون في منصب التحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف وإن جار في العرف الناموسي، لذلك قال: أنا ربكم الأعلى.؛ أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم بما أعطيته في الظاهر من الحكم فيكم.

قال: ولما علمت السحرة صدق فرعون فيما قاله لم ينكروه، وأقروا له بذلك وقالوا له: إنما تقضي هذه الحياة الدنيا. فاقض ما أنت قاض. فالدولة لك.

قال: فصح قول فرعون: أنا ربكم الأعلى. وإن كان فرعون عين الحق.

وصوب أيضا أهل العجل في عبادتهم العجل، وزعم أن موسى رضي بذلك، فقال: ولما كان موسى أعلم بالأمر من هارون لعلمه بأن الله قضى أن لا نعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، كان عتبه على هارون لإنكاره وعدم اتساعه، فإن العارف من يرى الحق في كل شيء، بل من يراه عين كل شيء.

ومن هؤلاء طائفة لا يقولون بثبوت الأعيان في العدم، بل يقولون: ما ثم وجود إلا وجود الحق.

لكن يفرقون بين المطلق والمعين، فيقولون: هو الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة، كالحيوانية الثابتة في كل حيوان، والإنسانية الثابتة في كل إنسان، وهذا الذي يسمى الكلي الطبيعي.

ويسمون هذا الوجود: الإحاطة، فيقولون: هو الوجود المطلق، إما بشرط الإطلاق عن كل قيد، وهذا يسمى الكلي العقلي.

وهذا عند عامة العقلاء لا يوجد إلا في الذهن لا في الخارج، ولكن يحكى عن شيعة " أفلاطون " أنهم أثبتوا هذه الكليات المجردة عن الأعيان في الخارج، وقالوا: إنها قديمة أزلية إنسانية مطلقة، وحيوانية مطلقة، ويسمونها المثل الأفلاطونية، والمثل المعلقة.

وقد رد ذلك عليهم إخوانهم " أرسطو " وشيعته وجماهير العقلاء، وبينوا أن هذه إنما هي متصورة في الأذهان لا موجودة في الأعيان، كما يتصور الذهن عددا مطلقا ومقادير مطلقة، كالنقطة والخط والسطح والجسم التعليمي، ونحو ذلك مما يتصوره الذهن، وليس من ذلك شيء في الموجودات الثابتة في الخارج.

وهذا المطلق بشرط الإطلاق، يظن هؤلاء ثبوته في الخارج، وقد يسمونه الإحاطة، وهو الوجود المجرد عن جميع القيود، ثم بعده الوجود المطلق لا بشرط، وهو العام المنقسم إلى واجب وممكن، إلى قديم وحادث ونحو ذلك، كانقسام الحيوان إلى ناطق وأعجم.

وهذا المطلق لا بشرط يوجد في الخارج، فإن الاسم المفرد يصدق عليه فيقال: هذا حيوان، هذا إنسان، وإن كان الاسم العام شاملا لأنواعه وأشخاصه، لكن لا يوجد في الخارج إلا مقيدا معينا.

ومن قال: إنه يوجد في الخارج كليا، فقد غلط، فإن الكلي لا يكون كليا قط إلا في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا شيء معين، إذا تصور منع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه، ولكن العقل يأخذ القدر المشترك الكلي بين المعينات، فيكون كليا مشتركا في الأذهان.

وهؤلاء يجعلون الوجود الواجب هذا، وقد يجعلونه بعد هذا، فيقولون: هذا فرق الواجب.

وهذا الوجود الكلي إذا قيل: إنه لا يوجد في الخارج إلا معينا فلا موجود في الخارج سوى الموجودات المعينة المشخصة بما فيها من الصفات القائمة بها.

وإن قدر وجوده في الخارج، فهو إما جزء من المعينات، وإما صفة لها.

فعلى الأول، لا يكون في الخارج موجود هو رب الموجودات المعينة.

وعلى الثاني، يكون رب الموجودات جزءها أو صفة لها.

ومعلوم بصريح العقل أن صفة الشيء القائمة به لا تخلق الموصوف وأن جزء الشيء لا يخلق الشيء، بل جزء الشيء جزء من الشيء.

فإذا كان هو الخالق للجملة، كان خالقا لنفسه، وكان بعض الشيء خالقا لكله.

ومن هؤلاء من يقول: إن الرب في العالم كالزبد في اللبن، والدهن في السمسم ونحو ذلك، فيجعلونه جزءا من العالم المخلوق. ونفس تصور هذا يكفي في العلم بفساده.

لكن هؤلاء يقولون لمن تبعهم: إن لم تترك العقل والنقل، لم يحصل لك التحقيق والتجلي الذي حصل لنا. ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل.

فقلت لبعضهم: إن الأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - أكمل الناس كشفا، وهم يخبرون بما يعجز عقول الناس عن معرفته، لا بما يعرف في عقولهم أنه باطل، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول.

فمن دونهم إذا أخبر عن شهود وكشف، يعلم بصريح العقل بطلانه - علم أن كشفه باطل.

وأما إن كان لم يعلم بطلانه، فهذا قد يمكن فيه إصابته، وقد يمكن خطؤه؛ لأن غير الأنبياء ليس بمعصوم.

وهؤلاء سمعوا باسم الله وقصدوا عبادته ومعرفته، فوقفوا على أثره في مصنوعاته، فظنوا أنه هو كمن سمع بالشمس، فلما أن رأى الشعاع المنبسط في الهواء والأرض، ظن أن ذلك هو الشمس، ولم يصعد بصره وبصيرته إلى الشمس التي في السماء.

وكذلك هؤلاء لم تصمد بصائر قلوبهم إلى رب العالمين، الذي فوق كل شيء المباين لمخلوقاته.

وسر ذلك، أنهم يشهدون بقلوبهم وجودا مطلقا بسيطا ليس له اسم خاص، كالحي والعليم والقدير. ولا له صفة، ولا يتميز فيه شيء عن شيء، وهذا هو الوجود المشترك.

لكن هذا الشهود هو في نفوسهم، لا حقيقة له في الخارج، وكثير ممن يخاطبهم لا يتصور ما يشهدونه، فيظنون أنه لم يفهم ما شهدوه.

وقد خاطبت غير واحد منهم، وبينت له أن هذا الذي يشهدونه هو في الذهن، وبتقدير أن يكون موجودا في الخارج، فهو صفة للموجودات، أو جزء منها، ويظنون مع ظنهم أنه موجود في الخارج، أنه لم يبق في الخارج غير ما شهدوه، فإنهم يغيبون عن الحس الذي يدرك المعينات، ويغيبون عقولهم عن تصورها، حتى لا يميزوا بين موجود وموجود، ويقولون: الحس فيه تفرقة، ثم يشهدون هذا الوجود المطلق مع عزلهم الحس، فيظنون أن هذا المطلق هو نفس المعينات، وأنه ما بقي موجودا أصلا.

فيقال لهم: لو قدر أن الوجود الكلي ثابت في الخارج كليا، وأنكم شهدتم ذلك، فمعلوم عند كل عاقل أن وجود الكلي المشترك لا يناقض وجود المعين المختص.

فالحيوانية والإنسانية المشتركة المطلقة، لا تناقض أعيان الحيوان وأعيان الإنسان، وحينئذ فثبوت أعيان الموجودات حاصل في الخارج.

وهب أنكم غبتم عن هذا ولم تشهدوه، فالغيبة عن شهود الشيء لا يوجب عدمه في نفسه.

فإذا لم يشهد العبد الشيء، أو لم يرده، أو لم يعلمه، أو لم يخطر بقلبه، أو فني عن شهوده، أو اصطلم، أو غاب، لم يلزم من ذلك أن يكون الشيء صار في نفسه معدوما فانيا لا حقيقة له، بل الفرق ثابت بين أن يعدم الشيء في نفسه ويفنى ويتلاشى، وبين أن يعدم شهود الإنسان له وذكره ومعرفته.

وهؤلاء - من ضلالهم - يظنون أنه إذا فني شهودهم للموجودات، كانت فانية في أنفسها، فلم يكن موجودا إلا ما تخيلوه من الوجود المطلق.

ويقولون: الكثرة والتفرقة في الحس، فإذا فني شهود القلب عن الحس، لم يبق تفرقة ولا كثرة، ويظنون أن شهود الحس حينئذ خطأ، والعقل هو الذي يشهد الكليات والمطلقات دون الحس، فإذا أبطلوا ما شهده الحس، لم يبق معهم إلا الوجود الكلي.

ثم يظنون مع ذلك أنه هو الله، فيبقى الرب عندهم وهما وخيالا في نفوسهم، لا حقيقة له في الخارج، كما قال بعض حذاقهم وهو التستري صاحب ابن سبعين: (وهمك هو بتشخيص ما تحته شيء) وقال: ترى الوجود واحدا وأنت ذاك وليس عليك زائد ما ثم سواك وقلت لبعض حذاقهم: هب أن هذا الوجود المطلق ثابت في الخارج، وأنه عين الموجودات المشهودة، فمن أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض وكل شيء؟ فاعترف بذلك وقال: هذا ما فيه حيلة.

والحس الباطن أو الظاهر إن لم يقترن به العقل الذي يميز بين المحسوس وغيره، وإلا دخل فيه من الغلط من جنس ما يدخل على النائم والممرور والمبرسم وغيرهم ممن يحكم بمجرد الحس الذي لا عقل معه.

والبهائم قد تكون أهدى من هؤلاء، كما قال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون.

وهؤلاء يصرحون برفض السمع والعقل فدخلوا في قوله: أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا. ويلزمون أنفسهم الغيبة عن العقل والحس الظاهر والشرع، فلهذا يقول أحذقهم التلمساني:

فقل لحسك غب وجدا وذب طربا فيها وقل لزوال العقل لا تزل

واصمت إلى أن تراها فيك ناطقة فإن وجدت لسانا قائلا فقل

وهؤلاء لبسط الكلام عليهم موضع آخر.

والمقصود هنا أن النصارى زعموا أن اللاهوت محتاج إلى ما اتحد به من الناسوت، وهؤلاء زعموا أن رب العالمين محتاج إلى كل ما سواه من الأعيان الثابتة في العدم.

فإن كل من قال: إن رب العالمين اتحد بغيره فكل من المتحدين مفتقر إلى الآخر، مع استحالة كل منهما، وتغير حقيقته، ولا كذلك الحلول المعقول، فإن الحلول لا يعقل إلا إذا كان الحال قائما بالمحل محتاج إليه، سواء أريد بذلك حلول الصفات والأعراض في الموصوفات والجواهر، أو أريد به حلول الأعيان.

فإن كون أحد الجسمين محلا للآخر، كحلول الماء في الظرف، هو يوجب افتقاره إليه.

وما يحل في قلوب المؤمنين من معرفة الرب والإيمان به، هو قائم بقلوبهم محتاج إليه وكذلك ما يثبته الفلاسفة من الهيولى والصورة، ويقولون: إن الهيولى محل للصورة، ويعترفون - مع ذلك - بأن الصورة محتاجة إلى الهيولى.

والقائلون بوحدة الوجود، قد يجعلون الخالق مع المخلوقات كالصورة مع الهيولى، كما يشير إليه ابن سبعين ويقول: هو في الماء ماء، وفي النار نار، وفي كل شيء بصورة ذلك الشيء، كما قد بسط الكلام على هؤلاء في مواضع غير هذا الكتاب.

وإذا قالوا: إن الرب حل في المسيح كما حل في غيره، وهو الحلول الموجود في كلام داود عندهم، حيث قالوا: أنت تحل في قلوب القديسين، فقد عرف أن هذا حلول الإيمان به ومعرفته وهداه ونوره والمثال العلمي، كما قد بسط في موضع آخر، ولهذا يسمى ظهورا والشعاع الحال على الأرض والهواء عرض قائم بذلك، وهو مفتقر إلى الأرض والهواء.

والرسل - صلوات الله عليهم - أخبروا بأن الله فوق العالم بعبارات متنوعة، تارة يقولون: هو العلي وهو الأعلى، وتارة يقولون: هو في السماء، كقوله: أم أمنتم من في السماء أن يرسل عليكم حاصبا.

وليس مرادهم بذلك أن الله في جوف السماوات، أو أن الله يحصره شيء من المخلوقات، بل كلام الرسل كله يصدق بعضه بعضا، كما قال تعالى: سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. وقد قال تعالى: هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم.

وثبت في الصحيح عن النبي ﷺ أنه قال: (أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، فأخبر أنه لا يكون شيء فوقه.

ولهذا قال غير واحد من أئمة السلف: إنه ينزل إلى السماء الدنيا، ولا يخلو العرش منه، فلا يصير تحت المخلوقات وفي جوفها قط، بل العلو عليها صفة لازمة له حيث وجد مخلوق، فلا يكون الرب إلا عاليا عليه.

وقول الرسل: (في السماء) أي في العلو، ليس مرادهم أنه في جوف الأفلاك، بل السماء العلو، وهو إذا كان فوق العرش، فهو العلي الأعلى وليس هناك مخلوق حتى يكون الرب محصورا في شيء من المخلوقات، ولا هو في جهة موجودة، بل ليس موجودا إلا الخالق والمخلوق، والخالق بائن عن مخلوقاته، عال عليها، فليس هو في مخلوق أصلا، سواء سمي ذلك المخلوق جهة، أو لم يسم جهة.

ومن قال: إنه في جهة موجودة تعلو عليه أو تحيط به أو يحتاج إليها بوجه من الوجوه، فهو مخطئ.

كما أن من قال: ليس فوق السماوات رب، ولا على العرش إله، ومحمد لم يعرج به إلى ربه، ولا تصعد الملائكة إليه، ولا تنزل الكتب منه، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو إلى شيء - فهو أيضا مخطئ.

ومن سمى ما فوق العالم جهة، وجعل العدم المحض جهة، وقال هو في جهة - بهذا المعنى - أي هو نفسه فوق كل شيء؛ فهذا معنى صحيح.

ومن نفى هذا المعنى بقوله: ليس في جهة فقد أخطأ.

بل طريق الاعتصام أن ما أثبته الرسل لله، أثبت له، وما نفته الرسل عن الله، نفي عنه.

والألفاظ التي لم تنطق الرسل فيها بنفي ولا إثبات، كلفظ الجهة والحيز ونحو ذلك، لا يطلق نفيا ولا إثباتا إلا بعد بيان المراد.

فمن أراد بما أثبت معنى صحيحا، فقد أصاب في المعنى، وإن كان في اللفظ خطأ.

ومن أراد بما نفاه معنى صحيحا، فقد أصاب في المعنى، وإن كان في لفظه خطأ.

وأما من أثبت بلفظه حقا وباطلا، أو نفى بلفظه حقا وباطلا، فكلاهما مصيب فيما عناه من الحق، مخطئ فيما عناه من الباطل، قد لبس الحق بالباطل، وجمع في كلامه حقا وباطلا.

والأنبياء كلهم متطابقون على أنه في العلو.

وفي القرآن والسنة ما يقارب ألف دليل على ذلك، وفي كلام الأنبياء المتقدمين ما لا يحصى.

فصل

قال سعيد بن البطريق: وذلك مثل ما أن الشعاع المولود من عين الشمس الذي يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا، وفي بيت من البيوت يكون فيه ضياء بنوره من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا؛ لأنه لم ينقطع من العين ولا من الضوء، فكذلك سكن الله في الناسوت من غير أن يفارقه الأب، فهو مع الناسوت، وهو مع الأب وروح القدس حقا.

فيقال: هذا التمثيل لو قدر أنه صحيح، فإنما يشبه من بعض الوجوه قول من يقول: إنه بذاته في كل مكان، كشعاع الشمس الذي يظهر في الهواء والأرض.

وأما النصارى فإنهم يخصونه بناسوت المسيح دون سائر النواسيت، ولو مثل بهذا من يقول: إنه بذاته في كل مكان - لكان باطلا، فكيف النصارى؟ فإن الضوء إنما يكون في الهواء وسطوح الأرض، لا يكون تحت السقوف والغيران وباطن الأرض.

ثم هذا التمثيل باطل من وجوه:

أحدها: أن الشعاع ليس متولدا من جرم الشمس، ولا شعاع النار متولد من جرم النار، بل هو حادث بائن عن جرم الشمس، ولكنها سبب في حصوله.

ولهذا يشبه به العلم الحاصل في قلب المتعلم بسبب تعلم العلم من غير أن يكون من ذات علم العالم.

ولهذا يشبه علم العالم بالسراج الذي يقتبس كل أحد من نوره، وهو لم ينقص.

بخلاف تولد المولود عن والده، فإنه متولد عن عينه.

والشعاع القائم بالهواء والأرض، ليس هو قائما بذات الشمس والنار، بل هو عرض قائم بمحل آخر، والعرض الواحد لا يكون في محلين.

والنصارى يقولون: إن الكلمة التي هي علم الله أو حكمته، متولدة منه، وهي قديمة أزلية، والصفة قائمة بالموصوف، فالصفة مثل ما يقوم بذات الشمس من استدارة وضوء، فذاك صفة لها، وهو غير الشعاع القائم بالهواء، فإن ذاك بائن عنها، فكيف يجعل هذا هو هذا.

فإن قالوا: نحن مقصودنا أن حكمة الله وعلمه ونوره أنزله إلى المسيح وأفاضه على المسيح، كما يفيض الشعاع عن الشمس.

قيل لهم: فهذا قدر مشترك بين المسيح وسائر الأنبياء، فلا اختصاص للمسيح بذلك.

الوجه الثاني: قولهم: الذي يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا، وفي بيت من البيوت يكون فيه حقا من غير مقارنة لعين الشمس التي تولد منها حقا.

فيقال لهم: الشعاع الذي بين السماء والأرض هو الضوء وهو النور.

فقولكم: إن الشعاع يملأ ضوءه ما بين السماء والأرض نورا، يقتضي أنه شعاع وضوء شعاع، ونور حدث عن ذلك، وهذا غلط، بل ليس هنا إلا جرم الشمس التي في السماء وشعاعها، وهو الضوء والنور الذي ما بين السماء والأرض.

الثالث: قولكم: (من غير مفارقة عين الشمس) يقتضي أن هذا الشعاع هو نفس ما قام بالشمس، وهذا مكابرة للحس والعقل، بل الشعاع الذي قام بالهواء والأرض عرض لم يقم بالشمس فقط. وكل شعاع بقعة، فليس هو عين الشعاع الذي في البقعة الأخرى، وإن كان هو نظيره ومثله، وجنس الشعاع يجمعهما، كما أن شعاع هذا السراج، ليس هو شعاع هذا السراج، وإن قدر اختلاطهما حتى يقوى الضوء، ولا حركة هذا الهواء هي حركة هذا الهواء، ونظائر ذلك متعددة.

الرابع: قولكم: (كذلك الله سكن في الناسوت من غير أن يفارقه الأب) تمثيل باطل. فإن الشمس نفسها لم تكن في الهواء والأرض، وإنما سكن شعاعها. فوزانه أن يقال: فكذلك سكن نور الله وبرهانه، وهداه وروحه.

وهذا إذا قلته، فهو منقول عن الأنبياء، تنطق كتبهم بأن نور الله وروحه وهداه في قلوب المؤمنين، لكن لا اختصاص للمسيح بذلك.

قال الله تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري.

قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلب المؤمن.

وفي الترمذي عن أبي سعيد، عن النبي ﷺ أنه قال: (اتقوا فراسة المؤمن، فإنه ينظر بنور الله، ثم قرأ قوله: إن في ذلك لآيات للمتوسمين.

الخامس: إنكم إذا جعلتم الله نفسه ساكنا في المسيح، فوزانه أن تكون الشمس نفسها ساكنة في موضع صغير من الأرض.

وهذا التمثيل يبطل قولكم: إن الله أعلى وأعظم وأجل وأكبر. والله أجل وأكبر وأعظم من كل شيء، والشمس آية من آياته ومخلوق من مخلوقاته، ومع هذا فلو قال قائل: إن الشمس سكنت في جوف امرأة وخرجت من فرج تلك المرأة، لكان كل عاقل يعلم فساد قوله، وينسبه إلى الجهل العظيم أو الجنون، وسواء قال: إن الشمس نفسها نزلت أو لم تنزل.

وأنتم تقولون: إن رب العالمين سكن في بطن مريم، ويقول أكثركم - كالملكية واليعقوبية -: إنه خرج من فرج مريم.

ولو قال قائل عما هو من أصغر مخلوقات الله، كوكب من الكواكب أو جبل من الجبال أو صخرة عظيمة: إن ذلك كان في بطن امرأة وخرج من فرجها - لضحك الناس من قوله، فكيف بمن يدعي مثل ذلك في رب العالمين؟

وإذا قالوا: إن الله نزل إلى السماء الدنيا، أو نزل إلى الطور وكلم موسى من العليقة أو في عمود الغمام، ونحو ذلك - فليس في شيء من ذلك أنه اتحد بمخلوق، لا سماء ولا طور ولا شجرة، ولا كان كلامه قائما بشيء مخلوق، لا شجرة ولا غيرها.

وعندهم أنه اتحد بالمسيح، وكان صوت المسيح القائم به، هو صوت رب العالمين بلا واسطة.

فصل: رد دعوى النصارى حلول كلمة الله في الناسوت كحلول الكتابة في القرطاس

قال سعيد بن البطريق: ومثلما أن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في قرطاس، فهي في القرطاس كلها حقا من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت، ولا يفارقها العقل الذي ولدها؛ لأن العقل بالكلمة يعرف؛ لأنها فيه، والكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في نفسها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به فكذلك كلمة الله كلها في الأب الذي ولدت منه، وكلها في نفسها وفي الروح، وكلها في الناسوت التي حلت فيها والتحمت به فيقال: هذا التمثيل حجة عليكم وعلى فساد قولكم، لا حجة لكم، وذلك يظهر بوجوه.

أحدها: أن يقال: إن كان حلول كلمة الله التي هي المسيح في الناسوت، مثل كتابة الكلام في القرطاس، فحينئذ يكون المسيح من جنس سائر كلام الله، كالتوراة وزبور داود والإنجيل والقرآن، وغير ذلك، فإن هذا كله كلام الله، وهو مكتوب في القراطيس باتفاق أهل الملل، بل الخلق كلهم متفقون على أن كلام كل متكلم يكتب في القراطيس، وقد قال تعالى في القرآن: بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ.

وقال تعالى: إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون. وقال: يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة وقال: كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة وقال تعالى: والطور وكتاب مسطور في رق منشور وإذا كانت الكلمة التي هي المسيح عندكم هكذا، فمعلوم أن كلام الله المكتوب في القراطيس ليس هو إلها خالقا، وهو كلام كثير لا ينحصر في كلمة ولا كلمتين.

ولو قال قائل: يا كلام الله اغفر لي وارحمني، أو يا توراة، أو يا إنجيل، أو يا قرآن اغفر لي وارحمني، كان قد تكلم بباطل عند جميع أهل الملل والعقلاء.

وأنتم تقولون: المسيح إله خالق، وهو يدعى ويعبد، فكيف تشبهونه بكلام الله المكتوب في القراطيس؟

الثاني: أن الكلام المكتوب صفة للمتكلم، يقوم به ويكتب في القراطيس عند سلف أهل الملل وجماهيرهم. وعند بعضهم، هو عرض مخلوق، يخلقه في غيره.

فالجميع متفقون على أن الكلام صفة تقوم بغيرها، ليس جوهرا قائما بنفسه.

والمسيح - عندكم - لاهوته جوهر قائم بنفسه، وهو إله حق من إله حق وهو - عندكم - إله تام وإنسان تام.

فكيف تجعلون الإله الذي هو عين قائمة بنفسها كالصفة التي لا تقوم إلا بغيرها؟

الثالث: قولكم: (إن كلمة الإنسان مولودة من عقله)، لو كان صحيحا فالتولد لا يكون إلا حادثا.

وأنتم تقولون: إن كلمة الله القديمة الأزلية متولدة منه قبل الدهور وتقولون - مع هذا -: هي إله.

وهذا كما أن بطلانه معلوم بصريح العقل، فهي بدعة وضلالة في الشرع، فإنه لم يسم أحد من الأنبياء شيئا من صفات الله ابنا له، ولا قال: إن صفته متولدة منه. ولفظ الابن لا يوجد عندكم عن الأنبياء إلا اسما لناسوت مخلوق، لا لصفة الله القديمة، فقد بدلتم كلام الأنبياء بهذا الافتراء.

الرابع: قولكم: (مولودة من عقله)، إن أردتم (بعقله) العين القائمة بنفسها التي يسميها قلبا وروحا ونفسا، أو نفسا ناطقة، فتلك إنما تقوم بها المعاني، وأما الألفاظ فإنما تقوم بفمه ولسانه.

وإن أردتم (بعقله) مصدر عقل يعقل عقلا، فالمصدر عرض قائم بالعقل، وهو عرض من جنس العلم والكلمة والعمل الصالح.

وإن أردتم بالعقل الغريزة التي في الإنسان، فهو أيضا عرض.

الخامس: أن تسميتكم تكلم الإنسان بالمعنى أو اللفظ تولدا، أمر اخترعتموه لا يعرف عن نبي من الأنبياء، ولا أمة من الأمم، ولا في لغة من اللغات.

وإنما ابتدعتم هذا لتقولوا: إذا كان كلام الإنسان متولدا منه، فكلام الله متولد منه.

ولم ينطق أحد من الأنبياء بأن كلام الله تولد منه، ولا أنه ابنه، ولا أن علمه تولد منه، ولا أنه ابنه.

السادس: قولكم: (إن كلمة الإنسان المولودة من عقله تكتب في القرطاس، فهي في القرطاس كلها حقا، من غير أن تفارق العقل الذي منه ولدت)، إلى قولكم: (الكلمة كلها في العقل الذي ولدها، وكلها في القرطاس الذي التحمت به) - مكابرة ظاهرة، معلومة الفساد بصريح العقل، فإن وجود الكلام في القلب واللسان، ليس هو عين وجوده مكتوبا في القرطاس، بل القائم بقلب المتكلم معان: طلب وخبر وعلم وإرادة، والقائم بنفسه حروف مؤلفة هي أصوات مقطعة، أو هي حدود أصوات مقطعة، وليس في قلب الإنسان ولا فمه مداد كالمداد الذي في القرطاس.

والكلام مكتوب في القرطاس باتفاق العقلاء، مع علمهم بأنه ليس في القرطاس علم وطلب وخبر قائم به، كما تقوم بقلوب المتكلم، ولا قام به أصوات مقطعة مؤلفة، ولا حروف كالأصوات القائمة بفم المتكلم، بل لفظ الحرف يقال على الحرف المكتوب: إما المداد المصور، وإما صورة المداد وشكله. ويقال على الحرف المنطوق: إما الصوت المقطع، وإما حد الصوت ومقطعه وصورته.

وكل عاقل يميز بحسه وعقله بين الصوت المسموع من المتكلم، وبين المداد المرئي بالبصر، ولا يقول عاقل: إن هذا هو هذا، ولا يقال: إن هذا وهذا هو نفس المعنى القائم بقلب المتكلم، فكيف تقولون: إن الكلمة في القرطاس كلها، وكلها في العقل الذي ولدها، وكلها في نفسها؟

السابع: أن حرف (في) التي يسميها النحاة ظرفا، يستعمل في كل موضع بالمعنى المناسب لذلك الموضع.

فإذا قيل: إن الطعم واللون والريح حال في الفاكهة، أو العلم والقدرة والكلام حال في المتكلم، فهذا معنى معقول.

وإذا قيل: إن هذا حال في داره، أو إن الماء حال في الظرف، فهذا معنى آخر.

فإن ذاك حلول صفة في موصوفها، وهذا حلول عين قائمة تسمى جسما وجوهرا في محلها. ومنه يقال لمكان القوم: المحلة، ويقال: فلان حل بالمكان الفلاني.

وإذا قيل: الشمس والقمر في الماء، أو في المرآة، أو وجه فلان في المرآة، أو كلام فلان في هذا القرطاس، فهذا له معنى يفهمه الناس، يعلمون أنه قد ظهرت الشمس والقمر والوجه في المرآة ورؤيت فيها، وأنه لم يحل بها ذات ذلك، وإنما حل فيها مثال شعاعي عند من يقول ذلك.

وكذلك الكلام إذا كتب في القرطاس، فالناس يعلمون أنه مكتوب فيه ومقروء فيه ومنظور فيه، ويقولون: نظرت في كلام فلان وقرأته، وتدبرته وفهمته ورأيته، ونحو ذلك، كما يقولون: رأيت وجهه في المرآة وتأملته ونحو ذلك.

وهم في ذلك كله صادقون يعلمون ما يقولون، ويعلمون أن نفس جرم الشمس والقمر والوجه لم يحل في المرآة، وأن نفس ما قام به من المعاني والأصوات لم تقم بالقرطاس، بل كانت المرآة واسطة في رؤية الوجه فهو المقصود بالرؤية، وكان القرطاس واسطة في معرفة الكلام، فهو المقصود بالرؤية، ويعلمون أن حاسة البصر باشرت ما في المرآة من الشعاع المنعكس، ولكن المقصود بالرؤية هو الشمس، وحاسة البصر باشرت ما في القرطاس من المداد المكتوب، ولكن المقصود بالرؤية هو الكلام المكتوب.

ويعلمون أن نفس المثال الذي في المرآة ليس هو الوجه، وأن نفس المداد المكتوب به ليس هو الكلام المكتوب، بل يفرقون بينهما، كما قال تعالى: قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا.

ففرق سبحانه بين الكلمات وبين المداد الذي يكتب به الكلمات. فكيف يقال: إن هذا هو هذا، وإن الكلمة في القرطاس كلها، وهي في المتكلم كلها؟

الثامن: أن الكلام له معنى في المتكلم يعبر عنه بلفظه، واللفظ يكتب في القرطاس، فالمكتوب في القرطاس هو اللفظ المطابق للمعنى، لا يكتب المعنى بدون كتابة اللفظ الذي كتب بالخط؛ ليعرف ما كتب.

فدعوى هؤلاء أن نفس المعنى الذي في القلب كله، هو في القرطاس كله - جعل لنفس المعنى هو الخط، وهذا باطل.

التاسع: أنه لا ريب أن كلام المتكلم يقال: إنه قائم به.

ويقال مع ذلك: إنه مكتوب في القرطاس، ويقال: هذا هو كلام فلان بعينه، وهذا هو ذاك، ونحو ذلك من العبارات التي تبين أن هذا المكتوب في القرطاس هو هذا الكلام الذي تكلم به المتكلم بعينه، لم يزد فيه ولم ينقص، لم يكتب كلام غيره.

ولا يريدون بذلك أن نفس الخط نفس الصوت، أو نفس المعنى، فإن هذا لا يقوله عاقل.

فإن قيل: ففي المسلمين من يقول: إن كلام الله القديم الأزلي، أو كلام الله الذي ليس بمخلوق، هو حال في الصدور والمصاحف من غير مفارقة.

ومن هؤلاء من يقول: إنه يسمع من الإنسان الصوت القديم، أو الصوت الذي ليس بمخلوق.

ومنهم من يقول: إن الحرف القديم أو الذي ليس بمخلوق، هو في القرطاس، وحكي عن بعضهم أنه يقول ذلك في المداد.

ومن هؤلاء من يقول: إن القديم حل في المصحف ونحو ذلك.

فتقول النصارى: نحن مثل هؤلاء.

قيل: الجواب من وجوه.

أحدها: أن المقصود بيان الحق الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، والرد على من خالف ذلك من النصارى وغيرهم.

ونحن لا ننكر أن في المنتسبين إلى الإسلام طوائفا منهم منافقون ملحدون وزنادقة، ومنهم جهال ومبتدعة، ومنهم من يقول مثل قول النصارى، ومنهم من يقول شرا منه، فالرد على هؤلاء كلهم، والعصمة ثابتة لكتاب الله وسنة رسوله.

وما اجتمع عليه عباده المؤمنون. فهذا لا يكون إلا حقا، وما تنازع فيه المسلمون، ففيه حق وباطل.

الوجه الثاني: أن يقال: هؤلاء الذين قالوا في القرآن ما قالوه، ليس قولهم مثل قول النصارى.

فإن النصارى جعلوا لله ولدا قديما أزليا سموه كلمة، وقالوا: إنه إله يخلق ويرزق، وإنه اتحد بالمسيح، فجعلوا المسيح - الذي هو الكلمة عندهم - إلها يخلق ويرزق.

وليس في طوائف المسلمين المعروفة من يقول: إن كلام الله إله يخلق ويرزق.

ولكن محمد وغيره من الرسل عليهم السلام بلغوا إلى الخلق كلام الله الذي تكلم به.

فكان الصحابة والتابعون لهم بإحسان على أن القرآن والتوراة والإنجيل وغير ذلك من كلام الله، هو كلام الله الذي تكلم به، وأن الله أنزله وأرسل به ملائكته، ليس هو مخلوقا بائنا عنه خلقه في غيره.

ويقولون: إن هذا القرآن هو كلام الله الذي بلغه رسوله، والمسلمون يقرءونه، ويسمع من القارئ كلام الله، لكن يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم، ويسمعونه من القارئ الذي يقرؤه بصوت نفسه، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ.

ويقولون: إن الله تكلم به وكلم به موسى، وإن موسى سمع نداء الله بأذنه، فكلمه الله بالصوت الذي سمعه موسى، كما بين ذلك في كتب الله القرآن والإنجيل والتوراة وغير ذلك.

فحدث بعد الصحابة وأكابر التابعين طائفة معطلة يقولون: إن الله لم يكلم موسى تكليما، ولم يتخذ إبراهيم خليلا، فقتل المسلمون مقدمهم " الجعد " وصار لهم مقدم يقال له " الجهم " فنسبت إليهم الجهمية، نفاة الأسماء والصفات.

تارة يقولون: إن الله لم يتكلم ولم يكلم موسى، وإنما أطلق ذلك مجازا.

وتارة يقولون: تكلم ويتكلم حقيقة، ولكن معنى ذلك أنه خلق كلاما في غيره، سمعه موسى، لا أنه نفسه قام به كلام، وهذا قول من يقوله من المعتزلة ونحوهم.

وزين هذا القول بعض ذوي الإمارة، فدعوا إليه مدة وأظهروه، وعاقبوا من خالفهم، ثم أطفئ ذلك، وأظهر ما كان عليه سلف الأمة، أن القرآن والتوراة والإنجيل كلام الله، تكلم هو به. منه بدا، ليس ببائن منه، وليس بمخلوق خلقه في غيره.

ولما أظهر الله هذا، والناس يتلون قول الله تعالى: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله صار بعض أهل الأهواء يقول: إنما سمع صوت القارئ، وصوته مخلوق، وهو كلام الله، فكلام الله مخلوق.

ولم يميز هذا بين أن يسمع الكلام من المتكلم به، كما سمعه موسى من الله بلا واسطة، وبين أن يسمع من المبلغ عنه.

ومعلوم أنه لو سمع كلام الأنبياء وغيرهم من المبلغين، لم يكن صوت المبلغ هو صوت المبلغ عنه، وإن كان الكلام كلام المبلغ عنه لا كلام المبلغ.

فكلام الله إذا سمع من المبلغين عنه، أولى أن يكون هو كلام الله لا كلام المبلغين، وإن بلغوه بأصواتهم.

فجاءت طائفة ثانية فقالوا: هذا المسموع ألفاظنا وأصواتنا، وكلامنا ليس هو كلام الله؛ لأن هذا مخلوق، وكلام الله ليس بمخلوق.

وكان مقصود هؤلاء، تحقيق أن كلام الله غير مخلوق، فوقعوا في إنكار أن يكون هذا القرآن كلام الله، ولم يهتدوا إلى أنه - وإن كان كلام الله، فهو كلام الله مبلغا عنه - ليس هو كلامه مسموعا منه، ولا يلزم - إذا كانت أفعال العباد وأصواتهم مخلوقة ليست هي كلام الله - أن يكون الكلام الذي يقرءونه بأفعالهم وأصواتهم كلامهم، ويكون مخلوقا ليس هو كلام الله.

وهؤلاء الذين قالوا: ليس هذا كلام الله، منهم من قال: هو حكاية لكلام الله، وطردوا ذلك في كل من بلغ كلام غيره أن يكون ما بلغه حكاية لكلام المبلغ عنه لا كلامه.

وأهل الحكاية منهم من يقول: إن كلام الرب يتضمن حروفا مؤلفة، إما قائما بذاته على قول بعضهم، أو مخلوقة في غيره على قول بعضهم، والقائم بذاته معنى واحد.

ومن هؤلاء من قال: الحكاية تماثل المحكي عنه، فلا نقول: هو حكاية، بل هو عبارة عنه، والتقدير عندهم فأجره حتى يسمع كلام عبارته أو حكايته.

فجاءت طائفة ثالثة فقالت: بل قد ثبت أن هذا المسموع كلام الله، وكلام الله ليس بمخلوق، وهذا المسموع هو الصوت، فالصوت غير مخلوق.

ثم من هؤلاء من قال: إنه قديم، ومنهم من قال: ليس بقديم، ومنهم من قال: يسمع صوت الرب والعبد، ومنهم من قال: إنما يسمع صوت الرب.

ثم منهم من قال: إنه قديم، ومنهم من قال: إنما يسمعه من العبد.

وهؤلاء منهم من قال: إن صوت الرب حل في العباد، فضاهوا النصارى.

ومنهم من قال: بل نقول: ظهر فيه من غير حلول. ومنهم من يقول: لا يطلق لا هذا ولا هذا.

وكل هذه الأقوال محدثة مبتدعة، لم يقل شيئا منها أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا إمام من أئمة المسلمين، كمالك والثوري، والأوزاعي، والليث بن سعد، وأبي حنيفة، وأبي يوسف، ومحمد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وابن عيينة وغيرهم.

بل هؤلاء كلهم متفقون على أن القرآن منزل غير مخلوق، وأن الله أرسل به جبريل، فنزل به جبريل على نبيه محمد ﷺ فبلغه محمد إلى الناس فقرأه الناس بحركاتهم وأصواتهم، وليس شيء من أفعال العباد وأصواتهم قديما ولا غير مخلوق، ولكن كلام الله غير مخلوق، ولم يكن السلف يقولون: القرآن قديم.

ولما أحدث الجهمية وموافقوهم من المعتزلة وغيرهم أنه مخلوق بائن من الله، قال السلف والأئمة: إنه كلام الله غير مخلوق.

ولم يقل أحد من السلف: إن الله تكلم بغير قدرته ومشيئته، ولا أنه معنى واحد قائم بالذات، ولا أنه تكلم بالقرآن أو التوراة أو الإنجيل في الأزل بحرف وصوت قديم، فحدث بعد ذلك طائفة فقالوا: إنه قديم.

ثم منهم من قال: القديم هو معنى واحد قائم بالذات، هو معنى جميع كلام الله.

وذلك المعنى إن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، والأمر والنهي والخبر صفات له لا أنواع له.

ومن هؤلاء من قال: بل هو قديم، وهو حروف، أو حروف وأصوات أزلية قديمة، وأنها هي التوراة والإنجيل والقرآن.

فقال الناس لهؤلاء: خالفتم الشرع والعقل في قولكم: إنه قديم، وابتدعتم بدعة لم يسبقكم إليها أحد من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين، وفررتم من محذور إلى محذور، كالمستجير من الرمضاء بالنار.

ثم قولكم: إنه معنى واحد - وهو مدلول جميع العبارات - مكابرة للعقل والشرع؛ فإنا نعلم بالاضطرار أنه ليس معنى آية الكرسي، هو معنى آية الدين، ولا معنى تبت يدا أبي لهب هو معنى سورة الإخلاص.

والتوراة إذا عربناها لم تصر هي القرآن العربي الذي جاء به محمد، وكذلك إذا ترجمنا القرآن بالعبرية، لم يكن هو توراة موسى.

وقول من قال منكم: إنه حروف، أو حروف وأصوات أزلية، ظاهر الفساد، فإن الحروف متعاقبة، فيسبق بعضها بعضا، والمسبوق بغيره لا يكون قديما لم يزل، والصوت المعين لا يبقى زمانين، فكيف يكون قديما أزليا؟

والسلف والأئمة لم يقل أحد منهم بقولكم، لكن قالوا: إن الله تكلم بالقرآن وغيره من الكتب المنزلة، وإن الله نادى موسى بصوت سمعه موسى بأذنه، كما دلت على ذلك النصوص.

ولم يقل أحد منهم: إن ذلك النداء الذي سمعه موسى قديم أزلي، ولكن قالوا: إن الله لم يزل متكلما إذا شاء وكيف شاء؛ لأن الكلام صفة كمال، لا صفة نقص، وإنما تكون صفة كمال إذا قام به، لا إذا كان مخلوقا بائنا عنه، فإن الموصوف - إلا بما قام به - لا يتصف بما هو بائن عنه، فلا يكون الموصوف حيا عالما قادرا متكلما رحيما مريدا بحياة قامت بغيره، ولا بعلم وقدرة قامت بغيره، ولا بكلام ورحمة وإرادة قامت بغيره.

والكلام بمشيئة المتكلم وقدرته أكمل ممن لا يكون بمشيئته وقدرته.

وأما كلام يقوم بذات المتكلم بلا مشيئته وقدرته، فإما أنه ممتنع أو هو صفة نقص، كما يدعى مثل ذلك في المصروع.

وإذا كان كمالا، فدوام الكمال له، وأنه لم يزل موصوفا بصفات الكمال أكمل من كونه صار متكلما بعد أن لم يكن، لو قدر أن هذا ممكن، فكيف إذا كان ممتنعا؟

وكان أئمة السنة والجماعة كلما ابتدع في الدين بدعة، أنكروها ولم يقروها، ولهذا حفظ الله دين الإسلام، فلا يزال في أمة محمد طائفة هادية مهدية ظاهرة منصورة.

بخلاف أهل الكتاب، فإن النصارى ابتدعوا بدعا خالفوا بها المسيح، وقهروا من خالفهم ممن كان متمسكا بشرع المسيح حتى لم يبق حين بعث الله محمدا من هو متمسك بدين المسيح، إلا بقايا من أهل الكتاب كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: (إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب).

فلما أظهر قوم من الولاة أن القرآن مخلوق، ودعوا الناس إلى ذلك، ثبت الله أئمة السنة وجمهور الأمة، فلم يوافقوهم، وكان المشار إليه من الأئمة إذ ذاك أحمد بن حنبل.

ثم بقي ذلك القول المحدث ظاهرا نحو أربع عشرة سنة، وأئمة الأمة وجمهورها ينكرونه، حتى جاء من الولاة من منع من إظهاره والقول به، فصار مخفيا كغيره من البدع، وشاع عند العامة والخاصة أن القرآن كلام الله غير مخلوق.

فأراد بعض الناس أن يجيب عن شبهة من قال: إن هذا الذي يقوم بنا مخلوق. فقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، ولكن ألفاظنا به مخلوقة، وتلاوتنا له مخلوقة.

وربما قالوا: هذا الذي نقرؤه مخلوق، أو هذا ليس هو كلام الله فقصدوا معنى صحيحا، وهو كون صفات العباد وأصواتهم وأفعالهم مخلوقة.

لكن غلطوا حيث أطلقوا القول، أو أفهموا الناس بأن هذا القرآن الذي يقرؤه المسلمون مخلوق، ولم يهتدوا إلى أنا إذا أشرنا إلى كلام متكلم قد بلغ عنه، فقلنا مثلا لما روي عن النبي ﷺ كقوله: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى): هذا كلام رسول الله ﷺ، أو لقول الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل: هذا كلام لبيد بن ربيعة، ونحو ذلك.

فإنا نشير إلى نفس الكلام معانيه ونظمه وحروفه، لا إلى ما يختص بالمبلغ من حركته وصوته، بل ولا صوت المبلغ عنه وفعله.

فإن كون الحي متحركا أو مصوتا قدر مشترك بين الناطق والأعجم، وليس هذا صفة له.

والكلام الذي يتميز به الناطق عن الأعجم، إنما يتميز بالمعاني القائمة به، وباللفظ المطابق لها من الحروف المنظومة بالأصوات المقطعة.

وهذا أمر يختص به المتكلم بالكلام، لا المبلغ عنه، فليس للمبلغ إلا تأدية ذلك.

ولهذا لو قال قائل لشعر لبيد: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" فقال: هذا شعري أو كلامي لكونه أنشده بصوته، لكذبه الناس.

ولو قال: هذا الذي أقوله مثل شعر لبيد، لكذبه الناس وقالوا: بل هو شعره نفسه، ولكن أديته بصوتك.

بخلاف ما إذا قال قائل قولا نظما أو نثرا، وقال آخر مثله، فإن الناس يقولون: هذا مثل قول فلان، كما قال تعالى: كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم وقال عن القرآن: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولهذا لو قال قارئ: أنا آتي بقرآن مثل قرآن محمد، وتلاه نفسه وقال: هذا مثله، لأنكر الناس ذلك وضحكوا منه وقالوا: هذا القرآن الذي جاء به هو، ليس هو كلام آخر مماثل له.

فإذا كان القرآن الذي يقرؤه المسلمون هو كلام الله الذي بلغه الرسول، لم يجز أن يقال: ليس هو بكلام الله، بل هو مثل له، أو حكاية عنه، أو عبارة.

وإذا كان معلوما إنما هو كلام الله، فقد تكلم الله به - سبحانه - لم يخلقه بائنا عنه، ولم يجز أن يقال لما هو كلامه: إنه مخلوق.

فإذا قيل عما يقرؤه المسلمون: إنه مخلوق، والمخلوق بائن عن الله، ليس هو كلامه، فقد جعل مخلوقا، ليس هو بكلام الله، فصار الأئمة يقولون: هذا كلام الله وهذا غير مخلوق، لا يشيرون بذلك إلى شيء من صفات المخلوق، بل إلى كلام الله الذي تكلم به وبلغه عنه رسوله.

والمبلغ إنما بلغه بصفات نفسه، والإشارة في مثل هذا يراد بها الكلام المبلغ، لا يراد بها ما به وقع التبليغ.

وقد يراد بهذا، الثاني، مع التقييد كما في مثل الاسم إذا قيل: عبدت الله ودعوت الله، فليس المراد أن المعبود المدعو، هو الاسم الذي هو اللفظ، بل المعبود المدعو هو المسمى باللفظ، فصار بعضهم يقول: الاسم هو غير المسمى، حتى قيل لبعضهم: أقول: دعوت الله، فقال: لا تقل هكذا، ولكن قل: دعوت المسمى بالله، وظن هذا الغالط أنك إذا قلت ذلك، فالمراد دعوت هذا اللفظ، ومثل هذا يرد عليه في اللفظ الثاني.

فما من شيء عبر عنه باسم، إلا والمراد بالاسم هو المسمى، فإن الأسماء لم تذكر إلا لبيان المسميات، لا أن الاسم نفسه هو ذات المسمى.

فمن قال: إن اللفظ والمعنى القائم بالقلب هو عين المسمى، فغلطه واضح.

ومن قال: إن المراد بالاسم في مثل قولك: دعوت الله، وعبدته، هو نفس اللفظ، فغلطه واضح، ولكن اشتبه على الطائفتين ما يراد بالاسم ونفس اللفظ.

كذلك أولئك اشتبه عليهم نفس كلام المتكلم المبلغ عنه الذي هو المقصود بلفظ المبلغ وكتابته بنفس صوت المبلغ ومداده.

والفرق بين هذا وهذا واضح عند عامة العقلاء.

وإذا كتب كاتب اسم الله في ورقة، ونطق باسم الله في خطابه، وقال قائل: أنا كافر بهذا ومؤمن بهذا، كان مفهوم كلامه أنه مؤمن أو كافر بالمسمى المراد باللفظ والخط، لا أنه يؤمن ويكفر بصوت أو مداد.

فكذلك من قال لما يسمعه من القراء ولما يكتب في المصاحف: إن هذا كلام الله.

أو قال لما يسمع من جميع المبلغين لكلام غيرهم، ولما يوجد في الكتب: هذا كلام زيد، فليس مرادهم ذلك الصوت والمداد، إنما هو المعنى واللفظ الذي بلغه زيد بصوته وكتب في القرطاس بالمداد.

فإذا قيل عن ذلك: إنه مخلوق، فقد قيل: إنه ليس كلام الله، ولم يتكلم به.

ومن قصد نفس الصوت أو المداد وقال: إنه مخلوق، فقد أصاب، كما أن من قصد نفس الصوت أو الخط وقال: ليس هذا هو كلام الله، بل هو مخلوق، فقد أصاب، لكن ينبغي أن يبين مراده بلفظ لا لبس فيه.

فلهذا كان الأئمة كأحمد بن حنبل وغيره، ينكرون على من أطلق القول بأن اللفظ بالقرآن مخلوق، أو غير مخلوق ويقولون: من قال: إنه مخلوق فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع، ومن قال: إنه مخلوق هنا، فقد يقولون: ليس هو كلام الله، وهذا خلاف المتواتر عن الرسول، وخلاف ما يعلم بمثل ذلك بصريح المعقول.

فإن الناس يعلمون - بعقولهم - أن من بلغ كلام غيره فالكلام كلام المبلغ عنه الذي قاله مبتديا آمرا بأمره مخبرا بخبره، لا كلام من قاله مبلغا عنه مؤديا.

ولهذاكان النبي ﷺ يقول في المواسم: (ألا رجل يحملني إلى قومه لأبلغ كلام ربي؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي) رواه أبو داود وغيره، عن جابر.

ولما أنزل الله تعالى: الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. قال بعض الكفار لأبي بكر الصديق: هذا كلامك أم كلام صاحبك؟ قال: ليس بكلامي ولا كلام صاحبي، ولكنه كلام الله.

فلهذا اشتد به إنكار أحمد بن حنبل وغيره من أئمة الإسلام، وبالغ قوم في الإنكار عليهم وقالوا: لفظنا بالقرآن غير مخلوق، وأطلقوا عبارات تتضمن وتشعر أن يكون شيء من صفات العباد غير مخلوقة، فأنكر ذلك أحمد وغيره، كما أنكر ذلك ابن المبارك، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وغير هؤلاء من أئمة السنة، وبينوا أن الورق والمداد وأصوات العباد وأفعالهم مخلوقة، وأن كلام الله الذي يحفظه العباد ويقرءونه ويكتبونه غير مخلوق.

فكلام أئمة السنة والجماعة كثير في هذا الباب، متفق غير مختلف، وكله صواب.

ولكن قد يبين بعضهم في بعض الأوقات ما لا يبينه غيره لحاجته في ذلك.

فمن ابتلي بمن يقول: ليس هذا كلام الله كالإمام أحمد، كان كلامه في ذم من يقول: هذا مخلوق، أكثر من ذمه لمن يقول: لفظي مخلوق.

ومن ابتلي بمن يجعل بعض صفات العباد غير مخلوق، كالبخاري صاحب الصحيح، كان كلامه في ذم من يجعل ذلك غير مخلوق، أكثر، مع نص أحمد والبخاري وغيرهما، على خطأ الطائفتين.

قال سعيد بن البطريق: وليس حلول كلمة الله الخالقة والتحامها بجوهر الناسوت - عن انتقال ولا تغير ولا احتيال من واحد من الجوهرين عن كثافة، فلا الإلهي احتال أن يكون إلها خالقا، ولا الناسي احتال عن أن يكون ناسيا مخلوقا.

والاحتيال والتغير، إنما يلزم الخلطة إذا كانت من خلقين ثقيلين غليظين، مثل الماء والخمر، أو الماء والعسل، أو السمن والعسل، والذهب والورق والنحاس والرصاص، وما أشبه ذلك؛ لأن كله ثقيل غليظ، وكل ثقل تخالطه ثقلة - لا محالة - يلزمه التغير حتى يصير إلى ما كانت عليه الأثقال، فلا الخمر خمرا، ولا الماء ماء بعد اختلاطهما، ولكنهما احتالا جميعا عن جوهرهما، فصار إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه، ولا أحدهما خالص من الفساد والاحتيال عن حاله.

فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ، لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال، مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا، أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت؛ أي استحالت عن جوهرها أن تكون نفسا تعرفها بفعالها، ولا الجسد تغير ولا احتال عن حاله وأفعاله، ومثل ما كان تخالط النار والحديد فيلتحمان جميعا فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار قد تغيرت إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع، ولا الحديدة تغيرت واحتالت إلى أن تكون نارا تحرق، فكذلك تفعل كل خلطة مؤلفة من شيئين مختلفين أحدهما روحاني لطيف، والآخر ثقلي غليظ، مثل النفس والجسد والنار والحديد، ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة، فهي لا تتغير ولا تحتال عن نورها ونقائها وضوئها، مع مخالطتها كل سواد وسخ، ونتن ونجس.

قال: والخلطة تكون على ثلاثة أوجه:

أحدها: خلطة باختلاط من الطبيعتين الثقيلتين واحتيالهما وفسادهما، مثل خلطة الخمر والماء، والخل والعسل، والذهب والورق والرصاص والنحاس، فإن في ذلك كله وما أشبهه، احتيالا وفسادا؛ لأن مزاج الخمر والماء، ليس بخمر ولا ماء؛ لاحتيال كل واحد منهما عن طبعه واختلاطهما بفسادهما وتغيرهما عن حالهما.

وكذلك خلطة الخل والعسل، قد صارت لا خلا ولا عسلا؛ لاحتيال كل واحد منهما، وخلطة الذهب والورق على مثل ذلك صارت على غير صحة لا من الذهب ولا من الورق، وخلطة الورق والنحاس على غير صحة، لا من الورق ولا من النحاس، فهذا وجه من الوجوه الثلاثة.

والوجه الثاني: خلطة افتراق من الطبيعتين الثقيلتين، وقد تعرف من تلك الخلطة كل واحدة من الطبيعتين ثابتة في الأخرى بقوامها ووجهها، مثل الزيت والماء في قنديل واحد، ومثل الكتان والقز في ثوب واحد منسوج بكتان مضلع بقز، ومثل صنم نحاس رأسه من ذهب، وما أشبه ذلك مما لا ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين والقوامين، مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة؛ لأن طبيعة القلة فخار، قوامها قلة، وليس بينهما وبين الماء خلطة، بل أشد الفرقة.

وكذلك الماء والزيت، لولا أن وعاء القنديل الذي هما فيه ضمهما ما اجتمعا.

وكذلك الكتان والقز، ليس بينهما خلطة، وإن كانا في ثوب واحد، ولا بين الذهب والنحاس ولم يسبكا خلطة، وإن جمعها صنم واحد.

فهاتان الخلطتان لا تكونا أبدا إلا في أثقال جسمانيات غليظة.

فإن التحم بعضهما ببعض مثلما يذاب الذهب والنحاس ويفرغان جميعا، وقعت في وجه خلطة الاحتيال والفساد؛ لأن تلك النقرة ليست بذهب صحيح، ولا بنحاس صحيح.

فإن لم تلحم وألزم بعضها بعضا، مثل طوق يكون من نحاس وذهب، وقعت من وجه خلطة الافتراق التي لا يحق لها أن تسمى خلطة.

وفي هذين الوجهين وقع " نسطورس " وأشياعه فلزموا خلطة الاحتيال والفساد، فزعموا أن الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية اختلطا في المسيح الواحد، فهو ذو قوام واحد بطبيعة واحدة مختلطة من طبيعتين مختلفتين إلهية وناسية، فأقروا أنهما قد احتالا، والاحتيال فساد.

وألزموا على هذا القول الكافر طبيعة الله المصائب والموت، وصيروا المسيح لا إلها صحيحا ولا إنسانا، مثل الذهب والنحاس.

فنسطورس وأشياعه لزموا خلطة الفرقة والانقطاع، فزعموا أن المسيح الواحد ذو طبيعتين مختلفتين، الإلهية وناسية، وذو قوامين معروفين، إلهي وناسي، فصيروا الفرقة خلطة، كالطوق الملون نصفين أحدهما ذهب والآخر نحاس، والثوب المبطن ظاهره خز وباطنه قطن، ليس بينهما خلطة في طبيعة ولا قوام.

وليس لهم على هذا أن يؤمنوا بمسيح واحد؛ لأن الطوق الملون طوقان، والثوب المبطن ثوبان.

فالمسيح - مثل ذلك - مسيحان، واحد إلهي بطبيعته وقوامه، مثل قضيب الذهب في الطوق الملون، ومثل ظهارة الخز في الثوب المبطن.

والآخر ناسي، مثل قضيب النحاس في الطوق، وبطانة القطن في الثوب.

والعجب كل العجب، كيف لم يفصل أهل الخلاف والشقاق بين الصنفين كليهما؟ ولم يفهموا أن هاتين الخلقتين أنهما خلقتان ذواتا أثقال جسمانية غليظة، ليس فيهما شيء من الخلق الروحاني اللطيف الخفيف، ولذلك لا تقدر الأثقال الغليظة على الخروج من هذين الوجهين من وجوه الخلطة؛ لأنهما إن اختلطا خلطة ملتحمة ممتزجة، صارت إلى احتيال وفساد، وإن قامت على حالها، لا تلتحم ولا يمتزج بعضها ببعض، فهي على وجه خلطة الافتراق، ومنقطعة بعضها من بعض، وإن جمعها صنم واحد أو ثوب واحد، فليس يوجد لشيء من الأثقال الجسمانية وجه خلطة سوى هذين الوجهين أبدا، إما فساد وإما انقطاع، إلا أن تكون الخلطة في اثنين أحدهما ثقيل جسماني، والآخر لطيف روحاني، فإن ذلك هو.

الوجه الثالث من الخلطة: وهي خلطة الحلول بلا اختلاط ولا احتيال، ولا فساد ولا فرقة ولا انقطاع، لكنها نفاذ الطبيعة الروحانية في الطبيعة الثقيلة السفلية، حتى تنتشر في جميعها وتحل بكلها، فلا يبقى موضع من الطبيعة الثقيلة السفلية خلوا من الطبيعة الروحانية، ولا احتيال من الثقيلة الجسمانية عن طبيعتها الغليظة الثقيلة، ولا تغيير ولا فساد لإحداهما، مثل خلطة النفس والجسد، ومثل خلطة النار والحديد في قوام جمرة واحدة، فهي جمرة واحدة بالقوام من طبيعة نار ملتحمة مخالطة لطبيعة الحديدة بلا فرقة من انقطاع، ولا تخليط احتيال وفساد، وقد انتشرت النار في جميع الحديدة، ولبستها، وأنالت النار الحديدة من قوامها وقوتها حتى أنارت الحديدة وأحرقت، ولم تنل النار من ضعف الحديدة شيئا من السواد ولا البرودة. فعلى هذا الوجه من الخلطة دبرت كلمة الله الخالقة خلطتها للطبيعة البشرية. فهو مسيح واحد ابن الله الوحيد المولود من الأب قبل الأدهار كلها، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود ليس بمخلوق من سوس أبيه وجوهره وطبيعته، وهو إياه من مريم العذراء المولود منها في آخر الزمان بقوام واحد، قوام ابن الله الوحيد الجامع للطبيعتين كلتيهما، الإلهية التي لم تزل في البدء قبل كل بدء، والناسية التي كونت في آخر الزمان المقوم بالقوام الأزلي. فهو مسيح واحد بقوام واحد أزلي، ذو طبيعتين إلهية لم تزل، وناسية خلقها له والتحم بها من مريم العذراء، فقوامه ذلك قوام الطبيعة الإلهية والطبيعة الناسية، جامعا لهما بلا اختلاط ولا فساد، ولا فرقة انقطاع، لم يزل قوام الطبيعة الإلهية، ثم هو قوام الطبيعة الناسية، قد خلقها وكونها وقومها بقوامه الذي لم يزل يقيم إلا به، ولم يعرف إلا له.

والجواب عن هذا الكلام - بعد أن يقال: إنه تناقض، فجعل هذا تارة اختلاطا، وتارة يقول: ليس هو اختلاطا - أن يقال:

إنه أولا قد يجعل هذا الحلول والالتحام اختلاطا، ويقول: إنه لا يكون فيه استحالة ولا تغير، ويقول: الاستحالة والتغيير إنما يلزم الخلطة، إذا كانت من خلقين غليظين، كالماء والخمر، فأما إذا كانت من لطيف وكثيف، لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال - أي استحالة - ويقول: والخلطة تكون على ثلاثة أوجه: ثم يقول: أحدهما كالخمر والماء، والثاني كالزيت والماء، والكتان والقز، ثم يقول: وما أشبه ذلك مما ينبغي أن يسمى خلطة مع افتراق الطبيعتين، فيجعله من أقسام الخلطة، ثم يقول: ولا ينبغي أن يسمى خلطة.

وليس المقصود المنازعات اللفظية، بل يقول: دعواه أن أحد نوعي الاختلاط يكون عن تغير واستحالة، بخلاف النوع الآخر الذي هو اختلاط لطيف وغليظ - دعوى ممنوعة، ولم يقم عليها دليلا، بل يقول: هي باطلة، بل لا يكون الاختلاط بين شيئين إلا مع تغير واستحالة.

وما ذكره من الأمثال والشواهد، فهي حجة عليه؛ لقوله: (فأما إذا كانت الخلطة من خلق لطيف وخلق غليظ، لم يخالط تلك الخلطة تغير ولا احتيال، مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا، أحدهما ملتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واحتالت عن جوهرها، أن تكون نفسا تعرفها بفعالها، ولا الجسد تغير واستحال عن حاله وفعاله.

فيقال: هذا قول باطل ظاهر البطلان لكل من تصوره، فإن الجسد إذا خلا عن النفس، مثل ما يكون قبل نفخ الروح فيه، وما يكون بعد مفارقة الروح له بالموت، بل آدم أبو البشر، خلق من تراب وماء، وصار صلصالا كالفخار، ثم نفخت فيه الروح، فصار جسدا هو لحم وعظم وعصب ودم.

فهل يقول عاقل: إن جسد آدم قبل النفس وبعدها على صفة واحدة لم يتغير ولم تستحل، وذريته من بعده يخلق أحدهم من نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، فيكون جسدا ميتا، ثم ينفخ فيه الروح فيصير الجسد حيا بعد أن كان ميتا؟

وأي تغيير أعظم من انتقال الجسد من الموت إلى الحياة؟

ومعلوم بالحس والعقل الفرق بين الحي والميت، كما قال تعالى: وما يستوي الأحياء ولا الأموات والجسد إذا لم ينفخ فيه الروح، فهو موات ليس له حس ولا حركة إرادية، ولا يسمع ولا يبصر، ولا ينطق ولا يعقل، ولا يبطش ولا يأكل ولا يشرب، ولا يمني ولا ينكح، ولا يتفكر ولا يحب ولا يبغض، ولا يشتهي ولا يغضب.

فإذا اتصلت به النفس، تغيرت أحواله واستحالت صفاته، وصار حساسا متحركا بالإرادة، فكيف يقال مثل خلطة النفس والجسد إنسانا واحدا، أحدهما يلتحم بالآخر من غير أن تكون النفس تغيرت واستحالت عن جوهرها، أن تكون نفسا يعرفها بفعالها، ولا الجسد تغير ولا استحال عن حاله وأفعاله؟

فهل يقول عاقل يتصور ما يقول: إن الجسد كان حاله وفعاله مع مفارقة النفس له، كحاله وفعاله مع مخالطتها له؟

وهل يقول عاقل: إن الجسد بعد موته ومفارقة النفس له، حاله وفعاله كحاله وفعاله إذا كانت النفس مختلطة به، وهو إذا مات كالجماد لا يسمع ولا يبصر، ولا ينطق ولا يبطش ولا يمشي، قد جمد دمه واسود، ولم يبق سائلا، وتغير سحنته ولونه، وتغير الجسد بالحياة بعد الموت، وبالموت بعد الحياة - من أعظم التغيرات والاستحالات؟

وكذلك النفس، فإن النفس - عند اتصالها بالبدن - تلتذ بلذته، وتتألم بألمه.

فإذا أكل البدن وشرب، ونكح واشتم، التذت النفس، وإذا ضرب البدن وصفع، وأهين وحط الشوك على رأسه، وبصق في وجهه، تألمت النفس بذلك.

فإذا شبهوا اتحاد الرب بالمسيح باتحاد النفس بالبدن، وهم يقولون: إن المسيح وكل أحد إذا ضرب وصفع وصلب فتألم بدنه، تألمت نفسه أيضا.

فإن كان الألم مع نفس المسيح وجسده، كالنفس مع الجسد، وجب أن يكون الرب يتألم بتألم الناسوت، ويجوع بجوعه ويشبع بشبعه، فإن ألم الجوع ولذة الشبع يحصل للنفس إذا جاع البدن وشبع.

وأيضا فالمسيح عندهم إله تام، وإنسان تام، والإله إله قبل الاتحاد، والإنسان إنسان قبل الاتحاد.

فهم يقولون: إنهما بعد الاتحاد إله تام كما كان، وإنسان تام كما كان.

فنظير هذا، أن يكون الإنسان المركب من بدن ونفس، نفسا تامة وبدنا تاما، وأن تكون الحديدة المحماة، حديدا تاما ونارا تامة، وهو باطل، بل الإنسان مركب من نفس وبدن، والإنسان اسم لمجموع، ليس الإنسان روحا والإنسان بدنا.

فلو كان الاتحاد حقا، لوجب أن يقال: إن المسيح نصفه لاهوت، ونصفه ناسوت، وهو مركب من هذا وهذا.

ولا يقال: إن المسيح نفسه إنسان تام، والمسيح نفسه إله تام، فإن تصور هذا القول على الوجه التام يوجب العلم الضروري، حيث جعلوا المسيح الذي هو المبتدأ، الموضوع المخبر عنه المحكوم عليه، هو إنسان تام وإله تام، يوجب أن يكون نفس الإنسان هو نفس الإله.

ولو قيل هذا في مخلوقين، فقيل: نفس الملك نفس البشر، لكان ظاهر البطلان، فكيف إذا قيل في رب العالمين؟ لا سيما وكثير من النصارى لا يقولون: إن جسد المسيح مخلوق، بل يصفون الجميع بالإلهية، وهذا مقتضى قول أئمتهم القائلين: إن المسيح إله تام، لكنهم تناقضوا فقالوا مع ذلك: وهو إنسان تام، فكأنهم قالوا: هو الخالق ليس هو الخالق، هو مخلوق ليس هو مخلوق، فجمعوا بين النقيضين، وهذا حقيقة قول النصارى، لا سيما واتحاد اللاهوت بناسوت المسيح عندهم اتحاد لازم، لم يفارقه البتة، فيكون ذلك أبلغ من الاتحاد العارض، ومن أن الرب كان متحدا بجسد لا روح فيه، ثم بالجسد مع نفخ الروح فيه، ثم بالجسد بعد مفارقة الروح له، وحيث دفن في القبر ووضع التراب عليه.

ومعلوم أن الإنسان إذا كانت فيه النفس وجعلت في التراب معه، تألمت النفس ألما شديدا، ثم تفارق البدن.

ومن العجائب أنهم يقولون: إن المسيح صلب ومات، ففارقته النفس الناطقة، وصار الجسد لا روح فيه، واللاهوت - مع هذا - متحد لم يفارقه وهو في القبر، واللاهوت متحد به، فيجعلون اتحاده به أبلغ من اتحاد النفس بالبدن.

والنفس عند اتصالها بالبدن تتغير وتتبدل صفاتها وأحوالها، ويصير لها من الصفات والأفعال ما لم يكن بدون البدن، وعند مفارقة البدن، تتغير صفاتها وأفعالها.

فإن كان تمثيلهم مطابقا، لزم أن يكون الرب قد تغيرت أوصافه وأفعاله، لما اختلط بالمسيح، كما تتغير صفات النفس وأفعالها، ويكون الرب قبل هذا الاختلاط كالنفس المجردة التي لم تقترن ببدن.

وأيضا فالنفس والبدن شريكان في الأعمال الصالحة والفاسدة، لهما الثواب وعليهما العقاب، والثواب والعقاب على النفس أكمل منه على البدن، فإن كان الرب كذلك، كان جميع ما يفعله المسيح باختياره فعل الرب، كما أن جميع ما يفعله البدن باختيار فعل النفس عن التي تخاطب بالأمر والنهي، فيقال لها: كلي واشربي وانكحي، ولا تأكلي ولا تشربي ولا تنكحي.

فإن كان الرب مع الناسوت كذلك، كان الرب هو المأمور والمنهي بما يأمر به المسيح، وكان الرب هو المصلي الصائم العابد الداعي، وبطل قولهم: يخلق ويرزق بلاهوته، ويأكل ويعبد بناسوته.

فإن النفس والبدن لما اتحدا، كانت جميع الأفعال الاختيارية للنفس والبدن، فإذا صلى الإنسان وصام ودعا، فالنفس والبدن يوصفان بذلك جميعا، بل النفس أخص بذلك، وكذلك إذا أمر أو نهى، فكلاهما موصوف بذلك، وكذلك إذا ضرب، فألم الضرب يصل إليهما كما تصل إليهما لذة الأكل والجماع.

بل أبلغ من ذلك، أن الجني إذا دخل في الإنسي وصرعه وتكلم على لسانه، فإن الإنسي يتغير، حتى يبقى الصوت والكلام الذي يسمع منه، ليس هو صوته وكلامه المعروف.

وإذا ضرب بدن الإنسي، فإن الجني يتألم بالضرب ويصيح ويصرخ، ويخرج منه ألم الضرب، كما قد جرب الناس من ذلك ما لا يحصى، ونحن قد فعلنا من ذلك ما يطول وصفه.

فإذا كان الجني تتغير صفاته وأحواله لحلوله في الإنسي، فكيف بنفس الإنسان؟

وعندهم اتحاد اللاهوت بالناسوت أتم وأكمل من اتحاد النفس بالجسد.

فهل يقول عاقل - مع هذا الاتحاد -: إنهما جوهران، لكل منهما أفعال اختيارية، لا يشركه الآخر فيها.

ويقولون - مع قولهم بالاتحاد -: إن الذي كان يصلي ويصوم، ويدعو ويتضرع، ويتكلم ويتألم، ويضرب ويصلب، هو نظير البدن، والذي كان يأمر وينهى، ويخلق ويرزق، هو نظير النفس.

هذا مع قولهم: إن مريم ولدت اللاهوت مع الناسوت، وأنه اتحد به مع كونه حيا وقبل حياته وعند مماته، والجسد في ذلك كله كسائر أجساد الآدميين، لم يظهر فيه شيء من خصائص الرب أصلا، بل ولا بعد إتيانه بالآيات، فإن تلك كان يجري مثلها وأعظم منها على يد الأنبياء، فهذا أقرب أمثالهم وقد ظهر فساده.

وأبعد منه وأشد فسادا، تمثيلهم ذلك بالنار والحديد. ومعلوم عند كل من له خبرة، أن النار إذا اتصلت بشيء من الأجسام الحيوانية والنباتية والمعدنية، مثل جسد الإنسان وغيره، ومثل الخشب والقصب والقطن وغيره، ومثل الحديد والذهب والفضة، فإنها تغير ذلك الجسد وتبدل صفاته عما كانت، فتحرقه، أو تذيبه، أو تلينه، والنار المختلطة به لا تبقى نارا محضة، بل تستحيل وتتغير أيضا.

فقول هؤلاء: ومثل ما تختلط النار والحديد، فيلتحمان جميعا، فيكونان جمرة واحدة من غير أن تكون النار تغيرت، إلى أن تكون حديدة ثقيلة تشج وتقطع، ولا الحديدة تغيرت واستحالت إلى أن تكون نارا تحرق)، كلام باطل ملبس، فإن الجمرة ليست حديدة محضة، ولا نارا محضة، بل نوعا ثالثا.

وقوله: (لم تتغير النار إلى أن تصير حديدة، ولا الحديدة إلى أن تصير نارا) - تلبيس.

فإن الاختلاط لا يتضمن الاستحالة والتغير، كاختلاط الكثيفين الذي سلمه مثل الماء والخمر، والماء والعسل، والسمن والعسل، والذهب والورق، والنحاس والرصاص، قد قال فيه: إنه لا الخمر خمر، ولا الماء ماء بعد اختلاطهما، ولكنهما استحالا جميعا عن جوهرهما، فصارا إلى أمر متغير ليس هو أحدهما بعينه، ولا أحدهما خالصا من الفساد والاستحالة عن حاله.

فيقال له: فهذا الذي سلمت فيه الفساد والاستحالة، لم يصر الخمر فيه ماء، ولا الماء فيه خمرا، فكذلك مورد النزاع إذا لم تصر النار حديدة، ولا الحديدة نارا، لم ينفعك هذا النفي، ولم يكن هذا مانعا من الاستحالة إلى نوع ثالث، ومن الاستحالة والفساد كما ذكرته في اختلاط الكثيفين، فإنه معلوم أن ما خالطته النار واتحدت به، غيرته وأحالته وأفسدت صورته الأولى، والنار الملتحمة به ليست نارا محضة.

ومعلوم أيضا أن الجمرة التي ضربتها مثلا للمسيح فقلت: إن الله وعيسى اتحدا كاتحاد النار والحديد، حتى صارا جمرة، فمعلوم أن الجمرة إذا ضربت بالمطرقة، أو وضعت في الماء، أو مدت، فإن هذه الأفعال تقع بالمجموع، لا تقع على حديدة بلا نار، ولا نار بلا حديدة.

فيلزم من ذلك أن يكون ما حل بالمسيح من ضرب وبصاق في الوجه، ووضع الشوك على الرأس، ومن أكل وشرب وعبادة، ومن مشي وركوب، ومن حمل وولادة، وغير ذلك مما حل بالمسيح، ومن موت، إما متقدم وإما متأخر إذا نزل إلى الأرض، ومن صلب - على قولهم - أن يكون جميع ذلك حل بالمسيح الذي هو عندهم إله تام، وإنسان تام، من غير فرق بين لاهوته ولا ناسوته، كما يكون ما يحل بجمرة النار، من حمل ووضع وطرق بالمطرقة ومد، وتصوير بشكل مخصوص وإلقاء في الماء، وغير ذلك حال بمجموع الجمرة، لا يقول عاقل: إن ذلك يحل بالحديد دون النار، بل هو حال بالجمرة المستحيلة من حديدة ونار، ومن خشبة ونار، وليست حديدة محضة،

ولا نارا محضة، ولا مجموع حديد محض، ونار محضة، بل جوهر ثالث مستحيل من حديد ونار، كسائر ما يستحيل بالاتحاد والاختلاط إلى حقيقة ثالثة.

فلا فرق بين الشيئين إذا اتحدا واختلطا وصارا شيئا واحدا من أن يكونا كثيفين، أو يكون أحدهما كثيفا والآخر لطيفا، لا بد في ذلك كله أن يحصل لكل منهما من التغير والاستحالة ما يوجب الاتحاد، وأن يكون المتحد المختلط المركب منهما شيئا ثالثا، ليس هو أحدهما فقط، ولا هو مجموع كل منهما على حاله.

فقولهم: (إنه مع الاتحاد إنسان تام وإله تام)، كلام فاسد معلوم الفساد بصريح العقل.

وكلما ضربوا له مثلا، كان المثل حجة على فساد قولهم، بل مع الاتحاد ليس بإنسان تام ولا إله تام، لكنه شيء ثالث مركب من إنسان استحال وتغير، وإله استحال وتغير.

وإذا كان كل من هذين باطلا - بل إنسانية المسيح باقية تامة، كما كانت لم تستحل ولم تتغير، ورب العالمين باق بصفات كماله، لم يستحل ولم يتصف بشيء من خصائص المخلوقات، ولا استحال عما كان عليه قبل ذلك - كان قولهم ظاهر الفساد.

فهذا مثلهم الثاني الذي ضربوه لله، حيث شبهوا المسيح أو الله مع الإنسان بالنفس مع الجسد، وشبهوه بالنار مع الحديد، وهذا المثل أشد فسادا وأظهر.

وأما المثل الثالث - وهو تمثيل ذلك بالشمس مع الماء والطين -: فهو أشد فسادا، فإنهم قالوا كما تقدم: (ومثل الشمس المخالطة للماء والطين وكل رطوبة وحمأة، فهي لا تتغير ولا تستحيل عن نورها وبقائها وضوئها، مع مخالطتها كل سواد ووسخ ونتن ونجس).

فيقال: أما جرم الشمس الذي في السماء فلم يخالط شيئا من الماء والطين، ولا اتحد به ولا حل فيه بوجه من الوجوه، بل بينهما من البعد ما لا يقدر قدره إلا الله، والله تعالى أجل وأعظم وأبعد من مخالطة الإنسان من الشمس للماء والطين.

فإذا كانت الشمس نفسها لم تتحد، ولم تختلط ولا حلت في الماء والطين، بل ولا بغيرها من المخلوقات، فرب العالمين أولى أن ينزه عن الاتحاد والاختلاط والحلول بشيء من المخلوقات.

ولكن شعاع الشمس حل بالماء والطين والهواء وغير ذلك مما يقوم به الشعاع، كما يحل شعاع النار في الأرض والحيطان، وإن كان نفس جرم النار القائم بنفسه الذي في ذبالة المصباح هو جوهر قائم بنفسه، لم تحل ذاته في شيء من تلك المواضع.

ولفظ الضياء والنور ونحو ذلك، يراد به الشيء بنفسه المستنير، كالشمس والقمر وكالنار، قال تعالى: هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقال: وجعلنا سراجا وهاجا وسمى سبحانه الشمس سراجا وضياء؛ لأن فيها مع الإنارة والإشراق تسخينا وإحراقا، فهي بالنار أشبه بخلاف القمر، فإنه ليس فيه مع الإنارة تسخينا، فلهذا قال: جعل الشمس ضياء والقمر نورا.

والمقصود هنا، أن لفظ الضياء والنور ونحو ذلك يراد به الشيء المستنير المضيء القائم بنفسه، كالشمس والقمر والنار، ويراد به الشعاع الذي يحصل بسبب ذلك في الهواء والأرض، وهذا الثاني عرض قائم بغيره ليس هو الأول، ولا صفة قائمة بالأول، ولكنه حادث بسببه.

فالشعاع الذي هو الضوء والنور الحاصل على الماء والطين والهواء وغير ذلك، هو عرض قائم بغيره، وليس هو متحدا به البتة.

فهذا المثل لو ضربته النسطورية الذين يقولون: (إن الناسوت واللاهوت جوهران بطبيعتين، حل أحدهما بالآخر)، لكان تمثيلا باطلا، فإن الشمس لم تحل بغيرها، ولا صارت مشيئتها ومشيئة غيرها

واحدة كما تقوله النسطورية، بل شعاعها حل بغيره، والشعاع حادث وكائن عنها.

فإذا قيل: إن ما يكون عن الرب من نوره وروح قدسه وهداه وكلامه ومعرفته، يحل بقلوب أنبيائه والمؤمنين من عباده، ومثل ذلك بحلول الشعاع بالأرض - كان أقرب إلى العقول، ولهذا قال تعالى: الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلوب المؤمنين بهذا.

وكذلك إذا قيل: نوره أو هداه أو كلامه، وسمى ذلك روحا، يحل في قلوب المؤمنين، فهو بهذا الاعتبار، والله قد سمى ذلك روحا فقال تعالى: وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم. وقال تعالى: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده. وقال تعالى: أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه

وما جاء في الكتب المتقدمة من أن روح الله أو روح القدس يحل في الأنبياء والمؤمنين، فهو حق بهذا الاعتبار.

وإذا قيل: كلام الله يحل في قلوب القارئين، فهو حق بهذا الاعتبار.

وأما نفس ما يقوم بالرب، فلا يتصور أن يقوم هو نفسه بغير الرب، بل ما يقوم بالمخلوق من الصفات والأعراض، يمتنع أن يقوم هو نفسه بغيره.

فيمتنع في صفات الشمس القائمة بها من شكلها واستدارتها، وما قام بها من نور أو غيره أن يقوم بغيرها، وكذلك ما قام بجرم النار من حرارة وضوء، فلا يقوم بغيرها، بل إذا جاورت النار هواء أو غير هواء، حصل في ذلك المحل سخونة أخرى غير السخونة القائمة بنفس النار تسخن الهواء الذي يجاورها، كما تسخن القدر الذي يوقد تحتها النار فيسخن، ثم يسخن الماء الذي فيها مع أن سخونة النار باقية فيها، وسخونة القدر باقية فيها، وسخونة الماء سخونة أخرى حصلت في الماء ليست واحدة من تينك، وإن كانت حادثة عنها، وجنس السخونة يجمع ذلك كله.

ولهذا ذكر الإمام أحمد عن السلف أنهم كرهوا أن يتكلم أحد في حلول كلام الله في العباد بنفي أو إثبات، فإن لفظ " الحلول " لفظ مجمل يراد به معنى باطل، ويراد به معنى حق.

وقد جاء في كلام الأنبياء لفظ " الحلول " بالمعنى الصحيح، فتأوله من في قلبه زيغ، كالنصارى وأشباههم على المعنى الباطل، وقابلهم آخرون أنكروا هذا الاسم بجميع معانيه، وكلا الأمرين باطل.

وقد قدمنا أن الناس يقولون: أنت في قلبي، أو ساكن في قلبي، وأنت حال في قلبي، ونحو ذلك، وهم لا يريدون أن ذاته حلت فيه، ولكن يريدون أن تصوره وتمثله وحبه وذكره حل في قلبه، كما تقدم نظائر ذلك.

والمقصود هنا أن النسطورية لو شبهوا ما يدعونه من اتحاد وحلول بالشعاع مع الطين، كان تمثيلهم باطلا، فكيف بالملكية الذين هم أعظم باطلا وضلالا؟ فقولهم: (ومثل الشمس المخالطة للطين والماء وكل رطوبة وحمأة)، تمثيل باطل من وجوه:

منها: أن الشمس نفسها لم تتحد ولم تحل بغيرها، بل ذلك شعاعها.

ومنها: أن الشعاع نفسه لم يتحد بالماء والطين، ولكن حل به وقام به.

ومنها: أن ذلك عام في المخلوقات من وجه، وبعباده المؤمنين من وجه لا يختص المسيح به، فالمخلوقات كلها مشتركة في أن الله خلقها بمشيئته وقدرته، وأنه لا قوام لها إلا به، فلا حول ولا قوة إلا به، وهي كلها مفتقرة إليه محتاجة إليه مع غناه عنها، ولهذا كانت من آيات ربوبيته وشواهد إلهيته.

ومن سماها مظاهر ومجالي، بمعنى أن ذاته نفسها تظهر فيها، فهو مفتر على الله، ومن أراد بذلك أنه أظهر بها مشيئته وقدرته وعلمه وحكمته، فأراد بالمظاهر والمجالي ما يراد بالدلائل والشواهد، فقد أصاب.

وكذلك إذا قال: هي آثاره ومقتضى أسمائه وصفاته.

وأما المؤمنون، فإن الإيمان بالله ومعرفته ومحبته ونوره وهداه يحل في قلوبهم، وهو المثل الأعلى والمثال العلمي، فلا اختصاص للمسيح بهذا، وكذلك كلامه في قلوب عباده المؤمنين، لا اختصاص للمسيح بذلك.

ومنها: أن الشعاع لم يخالط الماء والطين، ولا يخالط شيئا من الأعيان ولا ينفذ فيه ولا يتحد به، بل يكون على سطحه الظاهر فقط، لكن الشعاع يسخن ما يحل فيه، فإذا سخن ذلك، سخن جوفه بالمجاورة، كما يسخن الماء بسخونة القدر من غير أن تكون النار خالطت القدر ولا الماء.

فأين هذا من قولهم: (إن رب العالمين اتحد بابن امرأة، فصار إلها تاما وإنسانا تاما)؟

وهل يقول عاقل: إن الماء والطين صار شعاعا تاما، وطينا تاما؟ بل الطين طين، لكن أثر الشعاع فيه بتجفيفه، لم يتحد به الشعاع، ولا نفذ فيه، ولا حل في باطنه.

فهذا المثل أبعد عن مذهبهم من تمثيلهم بالنار مع الحديد، ومن تمثيلهم بالنفس مع الجسد، فإن هناك اتصالا بباطن الحديد والبدن، وهنا لم يتصل الشعاع إلا بظاهر الطين وغيره.

وأيضا فالنفس جوهر قائم بنفسه، والشعاع عرض، وكذلك النار جوهر، فالشمس هنا لم تتحد ولم تحل بالطين، بل شعاعها، بل ولا يوصف الطين باتحاده بالشعاع، ولا باختلاط الشعاع بباطنه، ولا بحلول الشمس نفسها فيه.

وحينئذ فقول القائل: (إن الشمس لم تتغير، ولم تستحل عن نورها ونقائها وضوئها مع مخالطتها كل وسخ ونتن ونجس)، إن أريد به نفس الشمس أو صفاتها القائمة بها، فتلك لم تتحد بغيرها ولا حلت فيه ولا قامت بغيرها.

فإذا كانت الشمس كذلك - ولله المثل الأعلى - فهو أولى أن لا يتحد بغيره ولا يحل فيه ولا يقوم به.

وإن أريد شعاعها، فشعاها ليس هو الشمس، فلا ينفعهم التمثيل به، فإنهم يقولون: إن الله نفسه اتحد بالمسيح، والمسيح - عندهم - هو رب العالمين مع أنه إنسان تام، فهو - عندهم - إله تام، إنسان تام، والطين ليس بشعاع تام، ولا طين تام، والشعاع نفسه لا يخالط شيئا، ولكن يقوم به، وقيام العرض بالمحل غير مخالطته له، فإن المخالطة تكون باختلاط كل من الأمرين بالآخر، كاختلاط الماء بالطين ونحو ذلك.

وأما ما يقوم بالسطح الظاهر فيقال: إنه مخالط بجميع الأجزاء، فلا يقال للشعاع الذي على الجبال والبحر: إنه مخالط لجميع الجبال والبحر، ولا لشعاع النار: إنه مخالط للحيطان وداخل للأرض، وقد تقدم أنهم قسموا هذا الباب ثلاثة أقسام:

أحدها: اختلاط أحد الشيئين بالآخر، كالماء والخمر.

والثاني: اتصال من غير اختلاط، كالماء والزيت، والإناء الذي بعضه فضة وبعضه ذهب، وقالوا: إن هذا لا ينبغي أن يسمى اختلاطا مع افتراق الطبيعتين والقوامين، مثل ما لا ينبغي أن يكون بين الماء والقلة التي هو فيها خلطة؛ لأن طبيعة الفخار ليس بينها وبين الماء خلطة.

وهذا الفرق موجود في الشعاع والطين، بل بينهما من الفرق أشد مما بين الماء والقلة، فإن الماء جرم قائم بنفسه، وهذا عرض قائم بغيره، والجسم بالجسم أشبه من الجسم بالعرض.

والإله عندهم مخالط لجميع ناسوت المسيح، لم يخل جزء منه من اتحاد الإله به، فأين هذا من هذا؟

وإذا قيل: إن الشعاع لم يستحل عن نوره ونقائه وضوئه مع مخالطته كل سواد ووسخ ونتن ونجس، لم يكن مثلا يطابقه مع أنه لم يخالط الشعاع غيره.

ثم يقال: إن أراد بما لم يتغير نفس الشعاع القائم بالمحل، فهذا ممنوع، فإن الشعاع يتغير بتغير محله، فيرى في الأحمر أحمر، وفي الأسود أسود، وفي الأزرق أزرق، حتى إن الزجاج المختلف الألوان إذا صار مطرحا للشعاع، ظهر الشعاع متلونا بتلون الزجاج، فيرى أحمر وأزرق وأصفر.

وقد ضرب أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود، وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق - لله أمثالا باطلة شرا من أمثال النصارى، ولهم مثل السوء، ولله المثل الأعلى، وكان مما ضربوه لله من الأمثال أن شبهوه بالشعاع في الزجاج.

فالأعيان الثابتة في العدم - عندهم - هي الممكنات، ووجود الحق قاض عليها، فشبهوا وجوده بالشعاع، وأعيانهم بالزجاج، وهذا باطل من وجوه:

منها: أن القول بأن أعيان الممكنات ثابتة في العدم - قول باطل.

ومنها: أن قولهم: إن وجود الخالق هو عين وجود المخلوق، هو أيضا باطل.

ومنها: أن حلول الشعاع بالزجاج يقتضي حلول أحدهما بالآخر، وهم ينكرون الحلول، ويقولون: الوجود واحد.

ومنها: أن الشعاع الذي على نفس الزجاج، ليس وجوده وجود الزجاج، وعندهم وجود الرب وجود الممكنات.

ومنها: أن الشعاع الحال بهذا الزجاج، ليس هو بعينه ذلك الشعاع الحال بالزجاج الآخر، وإن كان نظيره، وهؤلاء عندهم أن الوجود واحد بالعين لا يتعدد.

ومنها: أن الشعاع عرض مفتقر إلى الزجاج، فهو مفتقر إليه افتقار العرض إلى محله، فيلزم إذا مثلوا به الرب أن يكون الرب مفتقرا إلى كل ما سواه مع غنى كل ما سواه عنه، وهذا قلب كل حقيقة، وأعظم كفر بالخالق تعالى فإنه - سبحانه - الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه.

وكل من قال بحلول الله في شيء من المخلوقات من النصارى وغيرهم، يلزمهم أن يكون مفتقرا إلى ما حل فيه، فإنه لا حقيقة للحلول إلا هذا.

ولهذا كان ما حل بقلوب المؤمنين من الإيمان والهدى والنور والمعرفة مفتقرا إلى قلوب المؤمنين، ولا يقوم إلا بها.

وجميع الصور الذهنية القائمة بالأذهان مفتقرة إلى الأذهان، لا تقوم إلا بها، والشعاع مفتقر إلى محله، لا يقوم إلا به، وهكذا سائر النظائر.

وهؤلاء الذين شابهوا النصارى وزادوا عليهم من الكفر بقولهم: إن وجود الخالق وجود كل مخلوق، وإنه قائم بأعيان الممكنات يقولون: إنه مفتقر إلى الأعيان في وجوده، وهي مفتقرة إليه في ثباتها، فيجعلون الخالق محتاجا إلى كل مخلوق، والمخلوق محتاجا إلى الخالق، ويصرحون بذلك، كما يصرح بعض النصارى، بأن اللاهوت محتاج إلى الناسوت، والناسوت محتاج إلى اللاهوت.

ومعلوم أن الله غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فقير إليه من كل وجه، فهو الصمد المستغني عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه.

فمن قال: إنه مفتقر إلى مخلوق بوجه ما، فهو كاذب مفتر كافر، فكيف بمن قال: إنه مفتقر إلى كل شيء؟

والمثل الذي ضربوه له، يقتضي أن يكون مفتقرا إلى غيره، وغيره مستغن عنه، كالمثل الذي ضربه النصارى له، لما مثلوه بشعاع الشمس مع محله، فإن محل الشعاع مستغن عن الشعاع، والشعاع مفتقر إلى محله.

فمقتضى هذا التمثيل، أن الإله محتاج إلى الإنسان، والإنسان مستغن عن الله، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا. تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا

فصل: بيان أن عامة دين النصارى لم يؤخذ عن المسيح بل هو من ابتداع طوائف منهم

وهذا الذي قد ذكره هذا البترك " سعيد بن البطريق " المعظم عند النصارى، المحب لهم، المتعصب لهم في أخبارهم التي بين بها أحوالهم في دينهم، معظما لدينهم، مع ما في بعض الأخبار من زيادة فيها تحسين لما فعلوه، وكثير من الناس ينكر ذلك ويكذبه، مثل ما ذكره من ظهور الصليب، ومن مناظرة " أريوس " وغير ذلك، فإن كثيرا من الناس يخالفه فيما ذكر. ويذكر أن أمر ظهور الصليب كان بتدليس وتلبيس وحيلة ومكر. ويذكر أن " أريوس " لم يقل قط: إن المسيح خالق.

ولكن المقصود أنه إذا صدق هذا فيما ذكره، فإنه بين أن عامة الدين الذي عليه النصارى، ليس مأخوذا عن المسيح، بل هو مما ابتدعه طائفة منهم، وخالفهم في ذلك آخرون، وأنه كان بينهم من العداوة والاختلاف في إيمانهم وشرائعهم ما يصدق قوله تعالى: ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون

والنصارى يقرون بما ذكره هذا البترك أن أول ملك أظهر دين النصارى هو " قسطنطين "، وذلك بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، وهو نصف الفترة التي بين المسيح ومحمد - صلى الله عليهما وسلم -، فإنها كانت ستمائة سنة أو ستمائة وعشرين.

وإذا كان النصارى مقرين بأن ما هم عليه من الإيمان صنعه طائفة منهم مع مخالفة آخرين لهم فيه ليس منقولا عن المسيح، وكذلك ما هم عليه من تحليل ما حرمه الله ورسوله، وكذلك قتال من خالف دينه وقتل من حرم الخنزير، مع أن شريعة الإنجيل تخالف هذا، وكذلك الختان، وكذلك تعظيم الصليب.

وقد ذكروا مستندهم في ذلك أن " قسطنطين " رأى صورة صليب كواكب.

ومعلوم أن هذا لا يصلح أن ينبني عليه شريعة، فإن مثل هذا يحصل للمشركين عباد الأصنام والكواكب ما هو أعظم منه، وبمثل هذا بدل دين الرسل وأشرك الناس بربهم، وعبدوا الأوثان، فإن الشيطان يخيل هذا وأعظم منه.

وكذلك الإزار الذي رآه من رآه، والصوت الذي سمعه، هل يجوز لعاقل أن يغير شرع الله الذي بعثت به رسله، بمثل هذا الصوت والخيال الذي يحصل للمشركين عباد الكواكب والأصنام ما هو أعظم منه؟ مع أن هذا الذي ذكروه عن " بطرس " رئيس الحواريين، ليس فيه تحليل كل ما حرم، بل قال: (ما طهره الله فلا تنجسه) وما نجسه الله في التوراة، فقد نجسه ولم يطهره، إلا أن ينسخه المسيح. والحواري لم يبح لهم الخنزير وسائر المحرمات إن كان قوله معصوما، كما يظنون.

والمسيح لم يحل كل ما حرمه الله في التوراة، وإنما أحل بعض ما حرم عليهم، ولهذا كان هذا من الأوصاف المؤثرة في قتال النصارى، كما قال تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون

وقد ذكر من لعن بعض طوائف النصارى لبعض في مجامعهم السبعة وغير مجامعهم ما يطول وصفه، ويصدق قوله تعالى: فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة

وحينئذ فقول هؤلاء: (من خالفنا لعناه) كلام لا فائدة فيه، فإن كل طائفة منهم لاعنة ملعونة. فليس في لعنتهم لمن خالفهم إحقاق حق ولا إبطال باطل، وإنما يحق الحق بالبراهين والآيات التي جاءت بها الرسل، كما قال تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين ءامنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

وقد تقدم ما ذكره " سعيد بن البطريق " من أخبارهم، أنه كان يأتي البترك العظيم منهم إلى كنيسة مبنية لصنم من الأصنام يعبده المشركون، فيحتال حتى يجعلهم يعبدون مكان الصنم مخلوقا أعظم منه، كملك من الملائكة أو نبي من الأنبياء، كما كان بالإسكندرية للمشركين كنيسة فيها صنم اسمه " ميكائيل " فجعلها النصارى كنيسة باسم " ميكائيل الملك " وصاروا يعبدون الملك بعد أن كانوا يعبدون الصنم ويذبحون له.

وهذا نقل لهم من الشرك بمخلوق إلى الشرك بمخلوق أعلى منه، أولئك كانوا يبنون الهياكل ويجعلون فيها الأصنام بأسماء الكواكب، كالشمس والزهرة وغير ذلك. فنقلهم المبتدعون من النصارى إلى عبادة بعض الملائكة، أو بعض الأنبياء.

ولهذا قال تعالى: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ولا يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابا أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون.

وقال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دونه فلا يملكون كشف الضر عنكم ولا تحويلا أولئك الذين يدعون يبتغون إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب ويرجون رحمته ويخافون عذابه إن عذاب ربك كان محذورا.

فصل: بيان أن ما نقله المؤلف عن الحسن بن أيوب وابن البطريق يفند أن في المسيح طبيعتين

وقد حصل بما ذكرناه الجواب عن قولهم: (وعلى هذا المثال نقول: في السيد المسيح طبيعتان: طبيعة لاهوتية التي هي طبيعة كلمة الله وروحه، وطبيعة ناسوتية التي أخذت من مريم العذراء واتحدت به).

وعرف أن هذا قول من أقوال النصارى، وأن لهم أقوالا أخر تناقض هذا.

وكل فريق منهم يكفر الآخر، إذ كانوا ليسوا على مقالة تلقوها عن المسيح والحواريين، بل هي مقالات ابتدعها من ابتدعها منهم، فضلوا بها وأضلوا، كما قال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل

فذكر سبحانه أنهم أضلوا من قبل مبعث محمد ﷺ.

والنصارى أمة يلزمهم الضلال الذي أصله الجهل.

ولا يوجد قط من هو نصراني باطنا وظاهرا إلا وهو ضال جاهل بمعبوده وبأصل دينه، لا يعرف من يعبد ولا بماذا يعبد، مع اجتهاد من يجتهد منهم في العبادة والزهد، ومكارم الأخلاق.

ثم يقال على هؤلاء: قولهم: (طبيعتان) ويقولون أيضا: (له مشيئتان) ويقولون أيضا: (إنه شخص لم يزد عدده) فإنهم يقولون: (إنهما اتحدا) كما ذكروه في كتابهم هذا، لا يقولون بشخصين؛ لئلا يلزمهم القول بأربعة أقانيم.

ومنهم من يقول: (هما جوهران)، ومنهم من يقول: (جوهر واحد).

فإن قالوا: (هو جوهر واحد)، صار قولهم من جنس قول اليعقوبية، لا سيما وهم يقولون: (إن مريم ولدت اللاهوت والناسوت، وإن المسيح اسم يجمع اللاهوت والناسوت، وهو إله تام، وإنسان تام).

فإذا كان جوهرا واحدا، لزم من ذلك أن يكون اللاهوت قد استحال وتغير، وكذلك الناسوت، فإن الاثنين إذا صارا شيئا واحدا، فذلك الشيء الثالث ليس هو إنسانا محضا، ولا إلها محضا، بل اجتمعت فيه الإنسانية والإلهية، مع أنه قد كان الإنسان والإله اثنين متباينين، وهما في اصطلاحهم جوهران، فإذا صار الجوهران جوهرا واحدا لا جوهرين، فقد لزم ضرورة أن يكون هذا الثالث ليس هو إلها محضا، ولا إنسانا محضا، ولا جوهران إنسانا وإلها، فإن هذين جوهران لا جوهر واحد، بل هو شيء ثالث اختلط وامتزج واستحال من هذا وهذا، فتبدلت حقيقة اللاهوت وحقيقة الناسوت، حتى صار هذا الجوهر الثالث الذي ليس لاهوتا محضا، ولا ناسوتا محضا - كسائر ما يعرف من الاتحاد.

فإن كل اثنين اتحدا فصارا جوهرا واحدا، فلا بد في ذلك من الاستحالة، كما في اتحاد الماء واللبن والخمر وسائر ما يختلط بالماء، بخلاف الماء والزيت، فإنهما جوهران كما كانا، لكن الزيت لاصق بالماء وطفا عليه لم يتحد به، ومثل اختلاط النار والحديد، فإن الحديد استحال عما كان، ولهذا إذا برد عاد إلى ما كان، وهكذا اتحاد الهواء مع الماء والتراب، حتى يصير بخارا أو غبارا وأمثال ذلك.

وفي الجملة، فجميع ما يعرفه الناس من الاتحاد إذا صار الاثنان واحدا وارتفعت الثنوية، فلا بد من استحالة الاثنين.

وإذا قيل: فيه طبيعة الاثنين ومشيئة الاثنين، كما في الماء واللبن قوة الماء وقوة اللبن.

قيل: لا بد - مع ذلك - أن تتغير كل قوة عما كانت عليه فتنكسر الأخرى، كما يعرف في سائر صور الاتحاد؛ إذا اتحد هذا مع هذا كسر كل منهما قوة الآخر عما كانت عليه.

كما إذا اتحد الماء البارد بالماء الحار، انكسرت قوة الحر وقوة البرد عما كانت، فيبقى المتحد مرتبة متوسطة بين البرد المحض والحر المحض.

وكذلك الماء واللبن وسائر صور الاتحاد.

وعلى هذا، فيجب إذا اتحد أن تتغير قوة اللاهوت وطبيعته ومشيئته عما كانت، وتنكسر قوة الناسوت وطبيعته ومشيئته عما كانت عليه، ويبقى هذا المتحد ممتزجا من لاهوت وناسوت، وذلك يستلزم نقص اللاهوت عما كان، وبطلان كماله، كما أنه يوجب من كمال الناسوت ما لم يكن.

فكل ما يصفون به الناسوت من اتحاد اللاهوت به، فهو مستلزم من نقص اللاهوت وسلب كماله الذي يختص به وبطلان صفاته التامة - بحسب ما حصل له من ذلك الناسوت بحكم الاتحاد، وإلا فإن كان اللاهوت كما كان، فلا اتحاد بوجه من الوجوه، بل الناسوت كما كان.

ثم هما اثنان لم يتحد أحدهما بصاحبه، ولا صارا شيئا واحدا.

وأيضا فمع كون الجوهر واحدا، يجب أن تكون مشيئته واحدة وطبيعته واحدة، فإنه لو كان مشيئتين، لكان محل إحدى المشيئتين، إن كان هو محل الأخرى مع تضاد موجب المشيئتين، لزم اجتماع الضدين في محل واحد.

فإن الإرادة الناسوتية تطلب الأكل والشرب، وأن تعبد وتصوم وتصلي.

واللاهوتية، توجب امتناعه من إرادة هذه الأشياء.

وإرادته أن يخلق ويرزق ويدبر العالم. والناسوتية تمتنع من هذه الإرادة.

فإذا قامت الإرادتان والكراهتان بمحل واحد، لزم أن يكون ذلك الجوهر الموصوف بهذا وهذا مريدا للشيء ممتنعا من إرادته غير مريد له كارها للشيء غير كاره له، وذلك جمع بين النقيضين من وجوه متعددة.

ويمتنع أن يقوم بالموصوف الواحد إرادتان جازمتان بالشيء ونقيضه، أو كراهتان جازمتان للشيء أو نقيضه، والفعل لا يقع إلا بإرادة جازمة مع القدرة، فاللاهوت ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ومتى شاء شيئا مشيئة جازمة، فإنه على ما شاء قادر.

والناسوت لا يفعل شيئا من خصائص البشرية حتى يريد ذلك إرادة جازمة.

والناسوت يمتنع أن يريد إرادة اللاهوت ويكره ذلك، فيصير الشيء الواحد مريدا للشيء إرادة جازمة، قادرا عليه ليس مريدا له إرادة جازمة، بل هو عاجز عنه.

ويلزم أيضا إذا كانا جوهرا واحدا وقد ولد، وصفع وضرب وصلب ومات وتألم، أن يكون نفس اللاهوت ضرب وصلب ومات وتألم، كما تقوله اليعقوبية، وهذا لازم لجميع النصارى وهو موجب عقيدة إيمانهم.

فإن قالوا: بل هما جوهران مع كونهما عندهم شخصا واحدا لا تعدد فيه، كما يقوله من يقوله من الملكية، كان هذا كلاما متناقضا، فإن الشخص الواحد الذي لا تعدد فيه جوهر واحد، ولهذا حد بأنه جسم.

وإن شبهوا ذلك بالنفس مع الجسد لزمهم المحدود.

فإن الإنسان كما يقال فيه: إنه شخص واحد، يقال: إنه جوهر واحد بما بينهما من الاتحاد، ولهذا يحد بأنه جسم حساس تام متحرك بالإرادة ناطق، هذا يتناول جسده وروحه، وللنفس والبدن مشيئة واحدة.

ومتى شاء الإنسان الفعل مشيئة جازمة مع قدرته عليه فعله، ولم يكن معه جوهر آخر له مشيئة غير مشيئته.

فإذا شبهوا اتحاد اللاهوت بالناسوت بهذا، لزمهم أن يكونا جوهرا واحدا ومشيئة واحدة، وهذا قول اليعقوبية.

ولهذا تألم النفس بما يحدث في الجسد من الآلام، ويتألم الجسم الذي هو القلب الصنوبري، بما يحدث في النفس من الآلام.

فإذا تألمت النفس، تألم قلب الجسد وغير قلب الجسد، وكذلك إذا تألم الجسد وإذا صفع الجسد، وصلب وبصق في وجهه، ووضع الشوك عليه، وتألم ومات، كان ذلك كله حالا بالنفس ونالها منه إهانة الصفع وألم النزع ما ينالها، كما يسلمون لله أنه حل بنفس المسيح وبدنه، فإنهم لا يتنازعون أن الإله حل ببدن المسيح ونفسه، وإنما يتنازعون في اللاهوت، مع أن النفس مفارقة للبدن بالموت.

واللاهوت عندهم لم يفارق الناسوت بالموت، بل صعد إلى السماء.

والمسيح الذي هو إله تام وإنسان تام يقعد عن يمين أبيه، وكذلك يجيء يوم القيامة.

وأيضا فالبدن إذا كانت فيه النفس، تتغير صفاته وأحكامه، وتختلف أحواله باجتماعها وافتراقها، والنفس إذا كانت في البدن تختلف صفاتها وأحكامها.

فيلزم أن يكون ناسوت المسيح مخالفا في الصفات والأحكام لسائر النواسيت، وأن يكون اللاهوت لما اتحد به تغيرت صفاته وأحكامه، وهذا هو الاستحالة والتغير والتبدل للصفات، مع أن ناسوت المسيح كان من جنس نواسيت البشر، لم يظهر عليه إلا ما ظهر مثله على غيره، بل ظهر على غيره من خوارق العادات أكثر مما ظهر عليه.

وبالجملة، فأي مثل ضربوه للاتحاد، كان حجة عليهم وظهر به فساد قولهم.

وإن قالوا: هذا أمر لا يعقل، بل هو فوق العقول، كان الجواب من وجهين:

أحدهما: أنه يجب الفرق بين ما يعلم العقل بطلانه وامتناعه، وبين ما يعجز العقل عن تصوره ومعرفته.

فالأول: من محالات العقول، والثاني من محارات العقول، والرسل يخبرون بالثاني.

وأما الأول: فلا يقوله إلا كاذب، ولو جاز أن يقول هذا، لجاز أن يقال: إن الجسم الواحد يكون أبيض أسود في حال واحدة، وإنه بعينه يكون في مكانين، وإن الشيء الواحد يكون موجودا معدوما في حال واحدة، وأمثال ذلك مما يعلم العقل امتناعه.

وقول النصارى مما يعلم بصريح العقل أنه باطل، ليس هو مما يعجز عن تصوره.

يوضح هذا، أنه لو قال قائل في مريم أم المسيح: (امرأة الله وزوجته)، وأنه نكحها نكاحا عقليا، كما يقولون: إن المسيح ولده ولادة عقلية، لم يكن هذا القول أفسد في العقل من قولهم في المسيح، كما قد بسطناه في موضعه، وهم يكفرون من يقول ذلك، ويحتجون بالعقل على فساده.

وإذا قال: (هذا فوق العقل) لم يقبلوه، وكذلك كل طائفة من طوائفهم احتجت على الأخرى بالعقل، وإذا قالوا: (قولنا فوق العقل) لم يقبلوا هذا الجواب.

فإن كان هذا جوابا صحيحا، فيجب أن لا يبحث في شيء من الإلهيات بالعقل، بل يقول كل مبطل ما شاء من الباطل، ويقول: كلامي فوق العقل، كما يقول أصحاب الحلول والاتحاد والوحدة الذين يقولون: إن وجود الخالق وجود المخلوق، ويقولون: إن هذا فوق العقل، وإنه يعلم بالذوق لا بالسمع ولا بالعقل.

الوجه الثاني: أن يقال: ما يعجز العقل عن تصوره إذا أخبرت به الأنبياء عليهم السلام قبل منهم؛ لأنهم يعلمون ما يعجز غيرهم من معرفته.

وهذه الأقوال لم يقل الأنبياء شيئا منها، بل نفس فرق النصارى قالوها بآرائهم، وزعموا أنهم استنبطوها من بعض ألفاظ الكتب.

فيقال لمن قالها منهم: أنت تتصور ما تقول، أم لا تتصوره وتفهمه وتعقله؟

فإن قال: لا أتصور ما أقول ولا أفقهه ولا أعقله، قيل له: فقد قلت على الله ما لا تعلم، وقفوت ما ليس لك به علم.

ومن أعظم القبائح المحرمة في جميع الشرائع، أن يقول الإنسان برأيه على الله قولا لا يتصوره ولا يفهمه.

وجميع العقلاء يعلمون أن من قال قولا وهو لا يتصوره ولا يفقهه، فإن قوله مردود عليه غير مقبول منه، وإن قوله من الباطل المذموم.

وإن قال قائلهم: إني أفقه ما أقول وأتصوره وأعقله، قيل له: بينه لغيرك حتى يفقهه ويعقله ويتصوره، ولا تقل هو فوق العقل، بل هو قول قد عقلته وفقهته، وهذا تقسيم لا محيد لهم عنه.

فإنهم إن كانوا يفقهون ما يقولون ويعقلونه، لزم أن يكون معقولا.

وإن كانوا لا يفقهونه ولا يعقلونه، لزم أنهم قالوا على الله ما لا يفقهونه ولا يعقلونه قولا برأيهم وعقلهم، لا نقلا لألفاظ الأنبياء، فإن من نقل ألفاظ الأنبياء الثابتة عنهم، لم يكن عليه أن يفقه ويعقل ما يقول.

ولهذا قال النبي ﷺ (نضر الله امرءا سمع منا حديثا فبلغه إلى من لم يسمعه، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه). فقد يحفظ الرجل كلاما فيبلغه غيره وهو لا يفقه معناه ولا يعقله.

فمن نقل لفظ التوراة أو الإنجيل أو القرآن أو ألفاظ سائر الأنبياء، لم نطالبه ببيان معناه.

بخلاف من ادعى أنه فهم ما قاله الأنبياء، وعبر عن ذلك بعبارة أخرى، فإنه يقال له: إن كنت فهمت ما قالوه، فهو معنى واحد عبروا عنه بعبارة وعبرت عنه بعبارة أخرى كالترجمان، فهذا يعقل ما يقول ويفقهه.

وإن قال: إني لم أفهم كلامهم، أو لم أفهم ما قلته، فقد اعترف بجهله وضلاله، وأنه من الذين لم يفهموا كلام الأنبياء عليهم السلام ولم يفقهوا ما قالوه هم.

فلو قالوا: لم نفهم كلام الأنبياء وسكتوا، لكانوا أسوة أمثالهم من الجهال بمعاني كلام الأنبياء.

وأما إذا وضعوا عبارة وكلاما ابتدعوه، وأمروا الناس باعتقاده، وقالوا: هذا هو الإيمان والتوحيد، وقالوا: إنا مع هذا لا نتصور ما قلناه ولا نفقهه ولا نعقله، فهؤلاء من الذين يقولون على الله ما لا يعلمون، ويفترون على الله وعلى كتب الله وأنبياء الله بغير علم، بل يقولون الكذب المفترى والكفر الواضح، ويقولون مع ذلك: إنا لا نعقله، وهذا حال النصارى بلا ريب.

وهذا الموضع غلط فيه طائفتان من الناس: غالية غلت في المعقولات حتى جعلت ما ليس معقولا من المعقول، وقدمته على الحس ونصوص الرسول. وطائفة جفت عنه، فردت المعقولات الصريحة وقدمت عليها ما ظنته من السمعيات والحسيات.

وهكذا الناس في السمعيات نوعان، وكذلك هم في الحسيات الباطنة والظاهرة نوعان.

فيجب أن يعلم أن الحق لا ينقض بعضه بعضا، بل يصدق بعضه بعضا. بخلاف الباطل، فإنه مختلف متناقض، كما قال تعالى في المخالفين للرسل: والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك

وإن ما علم بمعقول صريح، لا يخالفه قط، لا خبر صحيح ولا حس صحيح.

وكذلك ما علم بالسمع الصحيح، لا يعارضه عقل ولا حس.

وكذلك ما علم بالحس الصحيح، لا يناقضه خبر ولا معقول.

والمقصود هنا، الكلام مع من يعارض المعقولات بسمع أو حس.

فنقول: لفظ (المعقول) يراد به المعقول الصريح الذي يعرفه الناس بفطرهم التي فطروا عليها، من غير أن يتلقاه بعضهم عن بعض، كما يعلمون تماثل المتماثلين واختلاف المختلفين - أعني اختلاف التنوع، لا اختلاف التضاد والتباين - فإن لفظ (الاختلاف) يراد به هذا وهذا.

وهذه المعقولات في العلميات والعمليات، هي التي ذم الله من خالفها بقوله: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير وقوله: أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو آذان يسمعون بها

وأما ما يسميه بعض الناس (معقولات) ويخالفه فيه كثير من العقلاء، مثل القول بتماثل الأجسام وبقاء الأعراض، وأن الأجسام مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، أو من المادة والصورة، وأن ما لا يتناهى من الأمور المتعاقبة شيئا بعد شيء، يمتنع وجوده إما في الماضي والمستقبل، أو في الماضي فقط، أو أن الكليات موجودة في الخارج جواهر قائمة بأنفسها، أو أن لنا دهرا أو مادة هي جوهر عقلي قائم بنفسه، أو أنه يمكن وجود جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه، ونحو ذلك مما يعده من يعده من النظار أنه عقليات

وينازعهم فيه آخرون.

فليس هذا هو العقليات التي لا يجب لأجلها رد الحس والسمع، وتبنى عليها علوم بني آدم، بل المعقولات الصحيحة الدقيقة الخفية، ترد إلى معقولات بديهية أولية، بخلاف العقليات الصريحة، مثل كون الجسم الواحد لا يكون في مكانين في وقت واحد معا، فإن هذا معلوم بفطرة الله التي فطر الناس عليها.

فإذا جاء في الحس أو الخبر الصحيح ما يظن أنه يخالف ذلك، مثل أن يرى الشخص الواحد في عرفات وهو في بلده لم يبرح، أو يرى قاعدا في مكانه وهو في مكان آخر، أو يرى أنه أغاث من استغاث به، أو جاء طائرا في الهواء مع العلم بأنه في مكانه لم يتغير منه، فهذا إنما هو جني تصور بصورة ذلك الشخص، ليس هو نفسه، فهذا يشبهه ليس هو إياه.

والحسيات إن لم يميز بينها بالعقل، وإلا فالحس يغلط كثيرا، فكذلك من ادعى فيما حصل له من المكاشفة والمخاطبة أمرا يخالف صريح العقل يعلم أنه غالط فيه، كمن قال من القائلين بوحدة الوجود: (إني أشهد بباطني وجودا مطلقا مجردا عن الأسماء والصفات، لا اختصاص فيه ولا قيد البتة) فلا يتنازع في هذا، كما قد ينازعه بعض الناس.

لكن يقال له: من أين لك أن هذا هو رب العالمين الذي خلق السماوات والأرض؟ فإن كون ما شهدته بقلبك هو الله، أمر لا يدرك بحس القلب، وإذا ادعيت أنه حصل لك في الكشف ما يناقض صريح العقل، علم أنك غالط، كما قال شيخ هؤلاء الملاحدة التلمساني:

يا صاحبي أنت تنهاني وتأمرني والوجد أصدق نهاء وأمار

فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمى عن العيان إلى أوهام أخبار

وعين ما أنت تدعوني إليه إذا حققت فيه تراه النهي يا جار

فيقال له: وجدك وذوقك لم يفدك إلا شهود وجود مطلق بسيط، لكن من أين لك أن هذا هو رب العالمين؟ بل من أين لك أن هذا ثابت في الخارج عن نفسك كليا مطلقا مجردا؟ بل إنما تشهده كليا مطلقا مجردا في نفسك. ولست تعلم بحس ولا عقل ولا خبر أن هذا هو في الخارج.

كما أن النائم إذا شهد حسه الباطن أشياء لم يكن معه يقين أن هذا في الخارج. فإذا عاد إليه عقله علم أن هذا كان في خياله في المنام.

وكذلك السكران وغيره ممن يضعف عقله، فهذا يشهد بحسه الباطن أو الظاهر أشياء، وقد ضعف عقله عن كنه ذلك لما ورد عليه، وإذا ثاب إليه عقله، علم أن ما شهده كان في نفسه وخياله، لا في الخارج عن ذلك.

فكل من أخبر بما يخالف صحيح المنقول أو صريح المعقول يعلم أنه وقع له غلط، وإن كان صادقا فيما يشهده في الحس الباطن أو الظاهر، لكن الغلط وقع في ظنه الفاسد المخالف لصريح العقل لا في مجرد الحس، فإن الحس ليس فيه علم بنفي أو إثبات.

فمن رأى شخصا، فليس في الحس إلا رؤيته.

وأما كونه زيدا أو عمرا، فهذا لا بد فيه من عقل يميز بين هذا وهذا، ولهذا كان الصغير والمجنون والبهيم والسكران والنائم ونحوهم - لهم حس، ولكن لعدم العقل لا يميزون أن هذا المشهود هو كذا أم كذا، بل قد يظنون ظنونا غير مطابقة.

قال تعالى: والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب.

فالظمآن يرى أن ما ظنه ماء، ولم يكن ماء لاشتباهه بالماء، والحس لم يغلط، لكن غلط عقله.

والأنبياء - صلوات الله عليهم وسلامه - معصومون، لا يقولون على الله إلا الحق، ولا ينقلون عنه إلا الصدق.

فمن ادعى في أخبارهم ما يناقض صريح المعقول، كان كاذبا، بل لا بد أن يكون ذلك المعقول ليس بصريح، أو ذلك المنقول ليس بصحيح.

فما علم يقينا أنهم أخبروا به، يمتنع أن يكون في العقل ما يناقضه.

وما علم يقينا أن العقل حكم به، يمتنع أن يكون في أخبارهم ما يناقضه.

وقول أهل الاتحاد من النصارى وغيرهم - سواء ادعوا الاتحاد العام أو الخاص - قد علم بصريح العقل بطلانه، فيمتنع أن يخبر به نبي من الأنبياء، بل الأنبياء - عليهم السلام - قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته، لا بما يعلم العقل بطلانه، فيخبرون بمحارات العقول لا بمحالات العقول.

ومن سوى الأنبياء ليس معصوما، فقد يغلط ويحصل له في كشفه وحسه وذوقه وشهوده أمور يظن فيها ظنونا كاذبة.

فإذا أخبر مثل هذا بشيء - علم بطلانه بصريح العقل - علم أنه غالط.

وإذا أخبر غير الأنبياء بما يعجز عقل كثير من الناس عن معرفته، لم يلزم أن يكون صادقا ولا كاذبا، بل لا نحكم بصدقه ولا كذبه إلا بدليل؛ لاحتمال أن يكون غالطا واحتمال أن يكون قد علم ما يعجز غيره عن معرفته.

وإذا قال القول المعلوم فساده بصريح العقل من ليس بنبي، وقال: إن هذا فوق العقل، أو هذا وراء طور العقل والنقل، أو هذا لا نعرفه إن لم نترك العقل والنقل، أو قال:

هم معشر حلوا النظام وأحرقوا ال سياج فلا فرض لديهم ولا نفل

مجانين إلا أن سر جنونهم عزيز على أبوابه يسجد العقل

قيل: وهذا يمتنع أن يقوله نبي، أو ينقله صادق عن نبي، فإن أقوال الأنبياء لا تناقض العقل الصريح، فكيف يقبل هذا ممن ليس بنبي؟

وإن قال كما يقوله النصارى أو غيرهم: إن هذا دل عليه كلام الأنبياء أو فهمناه من كلام الأنبياء.

قيل لهم: الكلام في معاني الألفاظ التي نطقت بها الأنبياء شيء، والكلام الذي فهمتموه عنهم شيء آخر.

ولو قدر أن ما ذكرتموه أنتم أو غيركم، فهمتموه من كلام الأنبياء ليس مخالفا لصريح العقل، لم نجزم بأن قائل ذلك يتصور ما قال، بل قد يكون فهم من كلامهم ما لم يريدوه.

فكيف إذا كان هو نفسه لم يتصور ما قال؟ بل هم معترفون بأنه غير معقول له، وهو لا يفهمه، فكيف إذا كان الذي قاله معلوم الفساد بصريح العقل؟

فهذه ثلاث مقدمات لو فهمه، ثم قال: إني فهمت كلامه، لم يكن فهمه حجة.

فكيف إذا قال: إني لم أفهمه، وإن هذا فوق طور العقل؟ ولو قال هذا لم يكن قوله حجة، ولم يجب تصديقه من أن الأنبياء عنوا بكلامهم المعنى الذي اعترف أنه فوق طور العقل، فكيف إذا عرف أن ذلك المعنى باطل يمتنع أن يقوله عاقل لا نبي ولا غير نبي؟

فصل: الجواب عن شبه النصارى في إقرار المسلمين في الصفات وأنه لا يقتضي التشبيه والتجسيم

قال الحاكي عنهم: فقلت لهم: إنهم يقولون لنا: إذا كان اعتقادكم في الباري تعالى أنه واحد، فما حملكم على أن تقولوا: أب وابن وروح قدس، فتوهمون السامعين أنكم تعتقدون في الله ثلاثة أشخاص مركبة، أو ثلاثة آلهة، أو ثلاثة أجزاء، وأن له ابنا، ويظن من لا يعرف اعتقادكم أنكم تريدون بذلك ابن المباضعة والتناسل، فتطرقون على أنفسكم تهمة أنتم منها بريئون؟

قالوا: وهم أيضا، لما كان اعتقادهم في الباري جلت عظمته أنه غير ذي جسم، وغير ذي جوارح وأعضاء، وغير محصور في مكان، فما حملهم على أن يقولوا: إن له عينين يبصر بهما، ويدين يبسطهما، وساقا، ووجها يوليه إلى كل مكان، وجنبا، وأنه يأتي في ظلل من الغمام، فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وذو أعضاء وجوارح، وأنه ينتقل من مكان إلى مكان في ظلل من الغمام، فيظن من لا يعرف اعتقادهم أنهم يجسمون الباري، حتى إن قوما منهم اعتقدوا ذلك واتخذوه مذهبا، ومن لم يتحقق اعتقادهم يتهمهم بما هم بريئون منه.

قال: فقلت لهم: إنهم يقولون: إن العلة في قولهم هذا، أن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب، وأنه يأتي في ظلل من الغمام، فهو أن القرآن نطق به، وأن ذلك غير ظاهر اللفظ، وكل من يحمل ذلك على ظاهر اللفظ ويعتقد أن الله له عينان ويدان ووجه وجنب وجوارح وأعضاء، وأن ذاته تنتقل، فهم يلعنونه ويكفرونه، فإذا كفروا من يعتقد هذا، فليس لمخالفيهم أن يلزموهم هذا بعد أن لا يعتقدوه.

قالوا: وكذلك نحن أيضا النصارى، العلة في قولنا: إن الله ثلاثة أقانيم: أب، وابن، وروح قدس، أن الإنجيل نطق به، والمراد بالأقانيم: غير الأشخاص المركبة والأجزاء والأبعاض وغير ذلك مما يقتضي الشرك والتكثير، وبالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح أو تناسل، أو جماع أو مباضعة. وكل من يعتقد أن الثلاثة أقانيم ثلاثة آلهة مختلفة، أو ثلاثة آلهة متفقة، أو ثلاثة أجسام مؤلفة، أو ثلاثة أجزاء متفرقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة، أو أعراض، أو قوى، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه، أو بنوة نكاح، أو تناسل، أو مباضعة، أو جماع، أو ولادة زوجة، أو من بعض الأجسام، أو من بعض الملائكة، أو من بعض المخلوقين، فنحن نلعنه ونكفره ونجرمه. وإذا لعنا أو كفرنا من يعتقد ذلك، فليس لمخالفينا أن يلزمونا بعد أن لا نعتقده، وإن ألزمونا الشرك والتشبيه لأجل قولنا: أب وابن وروح قدس؛ لأن ظاهر ذلك يقتضي التكثير والتشبيه، ألزمناهم أيضا - نحن - التجسيم والتشبيه لقولهم: إن الله له عينان ويدان ووجه وساق وجنب، وأن ذاته تنتقل من مكان إلى مكان، وأنه استوى على العرش من بعد أن لم يكن عليه، وغير ذلك مما يقتضي ظاهره التجسيم والتشبيه.

والجواب من وجوه:

أحدها: أن يقال: من آمن بما جاءت به الرسل وقال ما قالوه من غير تحريف للفظه ولا معناه، فهذا لا إنكار عليه، بخلاف من ابتدع أقوالا لم تقلها الرسل، بل هي تخالف ما قالوه، وحرف ما قالوه، إما لفظا ومعنى، وإما معنى فقط، فهذا يستحق الإنكار عليه باتفاق الطوائف.

وأصل دين المسلمين أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه في كتبه، وبما وصفته به رسله، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يثبتون له تعالى ما أثبته لنفسه، وينفون عنه ما نفاه عن نفسه، ويتبعون في ذلك أقوال رسله، ويجتنبون ما خالف أقوال الرسل، كما قال تعالى: سبحان ربك رب العزة عما يصفون - أي عما يصفه الكفار المخالفون للرسل - وسلام على المرسلين - لسلامة ما قالوه من النقص والعيب - والحمد لله رب العالمين.

فالرسل وصفوا الله بصفات الكمال، ونزهوه عن النقائص المناقضة للكمال، ونزهوه عن أن يكون له مثل في شيء من صفات الكمال، وأثبتوا له صفات الكمال على وجه التفصيل، ونفوا عنه التمثيل، فأتوا بإثبات مفصل ونفي مجمل.

فمن نفى عنه ما أثبته لنفسه من الصفات، كان معطلا، ومن جعلها مثل صفات المخلوقين، كان ممثلا، والمعطل يعبد عدما، والممثل يعبد صنما.

وقد قال تعالى: ليس كمثله شيء وهو رد على الممثلة، وهو السميع البصير وهو رد على المعطلة.

فوصفته الرسل بأنه حي منزه عن الموت، عليم منزه عن الجهل، قدير قوي عزيز منزه عن العجز والضعف والذل واللغوب، سميع بصير منزه عن الصم والعمى، غني منزه عن الفقر، جواد منزه عن البخل، حكيم حليم منزه عن السفه، صادق منزه عن الكذب، إلى سائر صفات الكمال، مثل وصفه بأنه ودود رحيم لطيف، وقد قال تعالى: قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.

فالصمد، اسم يتضمن إثبات صفات الكمال ونفي النقائص، وهو العليم الكامل في علمه، القدير الكامل في قدرته، الحكيم الكامل في حكمته.

ولنا مصنف مبسوط في تفسير هذه السورة، وآخر في بيان أنها تعادل ثلث القرآن، وذكرنا كلام علماء المسلمين من الصحابة والتابعين في معنى " الصمد " وأن عامة ما قالوه حق، كقول من قال منهم: (إن الصمد الذي لا جوف له) ومن قال منهم: (إنه السيد الذي انتهى سؤدده) كما قيل: (إنه المستغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه محتاج إليه) وكما قيل: (إنه العليم الكامل في علمه، والقدير الكامل في قدرته) إلى سائر صفات الكمال.

وذكر تعالى في هذه السورة، أنه أحد ليس له كفوا أحد، فنفى بذلك أن يكون شيئا من الأشياء له كفوا، وبين أنه أحد لا نظير له.

وقال في آية أخرى: فاعبده واصطبر لعبادته هل تعلم له سميا وقال: ليس كمثله شيء وقال: فلا تضربوا لله الأمثال وقال: فلا تجعلوا لله أندادا

وما ورد في القرآن والسنة من إثبات صفات الله، فقد ورد في التوراة وغيرها من كتب الله مثل ذلك. فهو أمر اتفقت عليه الرسل، وأهل الكتاب في ذلك كالمسلمين.

وإذا كان كذلك، فهم في أمانتهم لم يقولوا ما قاله المسيح والأنبياء، بل ابتدعوا اعتقادا لا يوجد في كلام الأنبياء، فليس في كلام الأنبياء لا المسيح ولا غيره ذكر أقانيم لله، لا ثلاثة ولا أكثر، ولا إثبات ثلاث صفات، ولا تسمية شيء من صفات الله ابنا لله ولا ربا، ولا تسمية حياته روحا، ولا أن لله ابنا هو إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، وأنه خالق كما أن الله خالق، إلى غير ذلك من الأقوال المتضمنة لأنواع من الكفر، لم تنقل عن نبي من الأنبياء.

فقالوا في شريعة إيمانهم: نؤمن بالله الأب، مالك كل شيء، صانع ما يرى وما لايرى، وهذا حق.

ثم قالوا: وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله الواحد، بكر الخلايق كلها، مولود ليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه، نور من نور، مساو للأب في الجوهر الذي بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء، الذي من أجلنا - معشر الناس - ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من روح القدس، ومن مريم العذراء البتول، وصار إنسانا، وحبل به وولد من مريم البتول، وتألم وصلب ودفن، وقام في اليوم الثالث، كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء، وجلس عن يمين أبيه وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بروح القدس المحيي، وروح الحق المنبثق من أبيه، أو الذي خرج من أبيه روح محييه.

فأين في كلام الأنبياء أن شيئا من صفات الله أو من مخلوقاته يقال فيه: إنه أقنوم، وإنه حق من إله حق، من جوهر أبيه، وإنه مساو لله في الجوهر، وإنه خالق خلق كل شيء، وإنه قعد عن يمين الله فوق العرش، وإنه الذي يقضي بين الناس يوم القيامة؟

وأين في كلام الأنبياء أن لله ولدا قديما أزليا؟

ومن الذي سمى كلام الله أو علمه أو حكمته - مولودا له أو ابنا له، أو شيئا من صفاته مولودا له أو ابنا له؟

ومن الذي قال من الأنبياء: إنه مولود، وهو - مع ذلك - قديم أزلي؟

وأين في كلامهم أن لله أقنوما ثالثا هو حياته، ويسمى بروح القدس، وأنه أيضا رب حي محي.

فلو كان النصارى آمنوا بنصوص الأنبياء، كما آمن المؤمنون، لم يكن عليهم ملام.

ومن اعترض على نصوص الأنبياء، كان لفساد فهمه ونقص معرفته.

ولكنهم ابتدعوا أقوالا وعقائد ليست منصوصة عن أحد من الأنبياء عليهم السلام وفيها كفر ظاهر وتناقض بين.

فلو قدر أنهم أرادوا بها معنى صحيحا، لم يكن لأحد أن يبتدع كلاما لم يأت به نبي يدل على الكفر المتناقض الذي يخالف الشرع والعقل، ويقول: إني أردت به معنى صحيحا، من غير أن يكون لفظه دالا على ذلك، فكيف والمراد الذي يفسرون به كلامهم فاسد متناقض كما تقدم؟

فهم ابتدعوا أقوالا منكرة وفسروها بتفسير منكر، فكان الرد عليهم من كل واحد من الوجهين، وهم - في ذلك - نظير بعض ملاحدة المسلمين الذين يعتقدون إلهية بعض أهل البيت، أو بعض المشايخ، ويصفون الله بصفات لم ينطق بها كتاب، وهؤلاء ملحدون عند المسلمين.

بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسله، الذين آمنوا بما قالت الأنبياء، ولم يبتدعوا أقوالا لم يأت بها الأنبياء، وجعلوها أصل دينهم.

الوجه الثاني: أن يقال: ما ذكرتموه عن المسلمين كذب ظاهر عليهم.

فهذا النظم الذي ذكروه ليس هو في القرآن، ولا في الحديث، ولا يعرف عالم مشهور من علماء المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائفهم، يطلقون العبارة التي حكوها عن المسلمين، حيث قالوا عنهم: (إنهم يقولون: إن لله عينين يبصر بهما، ويدين يبسطهما، وساقا ووجها يوليه إلى كل مكان، وجنبا).

ولكن هؤلاء ركبوا من ألفاظ القرآن بسوء تصرفهم وفهمهم، تركيبا زعموا أن المسلمين يطلقونه.

وليس في القرآن ما يدل ظاهره على ما ذكروه، فإن الله تعالى قال في كتابه: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء

واليهود أرادوا بقولهم: (يد الله مغلولة) أنه بخيل، فكذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد لا يبخل، فأخبر أن يديه مبسوطتان، كما قال: ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا

فبسط اليدين المراد به الجواد والعطاء، ليس المراد ما توهموه من بسط مجرد.

ولما كان العطاء باليد يكون ببسطها، صار من المعروف في اللغة التعبير ببسط اليد عن العطاء.

فلما قالت اليهود: (يد الله مغلولة) وأرادوا بذلك أنه بخيل، كذبهم الله في ذلك، وبين أنه جواد ماجد.

وإثبات اليدين له موجود في التوراة وسائر النبوات، كما هو موجود في القرآن.

فلم يكن في هذا شيء يخالف ما جاءت به الرسل، ولا ما يناقض العقل، وقد قال تعالى لإبليس: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي

فأخبر أنه خلق آدم بيديه، وجاءت الأحاديث الصحيحة توافق ذلك.

وأما لفظ (العينين)، فليس هو في القرآن، ولكن جاء في حديث.

وذكر الأشعري عن أهل السنة والحديث أنهم يقولون: إن لله عينين.

ولكن الذي جاء في القرآن: ولتصنع على عيني، واصنع الفلك بأعيننا ووحينا، وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا.

وأما قولهم: (له وجه يوليه إلى كل مكان) فليس هذا في القرآن ولكن في القرآن: كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، وقوله: كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون وقوله: ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله

وهذا قد قال فيه طائفة من السلف: فثم قبلة الله؛ أي فثم جهة الله، والجهة كالوعد والعدة، والوزن والزنة.

والمراد بوجه الله وجهة الله - الوجه، والجهة والوجهة الذي لله يستقبل في الصلاة، كما قال في أول الآية: ولله المشرق والمغرب ثم قال: فأينما تولوا فثم وجه الله

كما قال تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم

فإذا كان لله المشرق والمغرب، ولكل وجهة هو موليها وقوله: (موليها)؛ أي متوليها أو مستقبلها، فهذا كقوله: فأينما تولوا فثم وجه الله أي فأينما تستقبلوا فثم وجه الله. وقد قيل: إنه يدل على صفة الله، لكن يدل على أن ثم وجه لله، وأن العباد أينما يولون فثم وجه الله، فهم الذين يولون ويستقبلون، لا أنه هو يولي وجهه إلى كل مكان، فهذا تحريف منهم للفظ القرآن عن معناه وكذب على المسلمين.

ومن قال بالقول الثاني من المسلمين، فإن ذلك يقتضي أن الله محيط بالعالم كله، كما قد بسطت هذه الأمور في غير هذا الموضع.

إذ المقصود هنا بيان ضلال هؤلاء في دينهم فيما ابتدعوا من الكفر والتثليث والاتحاد، دون الذين آمنوا بالله ورسله، وما أخبرت به الرسل عن الله تبارك وتعالى.

وأما قولهم: (وجنب) فإنه لا يعرف عالم مشهور عند المسلمين، ولا طائفة مشهورة من طوائف المسلمين، أثبتوا لله جنبا نظير جنب الإنسان، وهذا اللفظ جاء في القرآن في قوله: أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله

فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها ما ليس بصفة له باتفاق الخلق، كقوله: (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله) بل وكذلك (روح الله) عند سلف المسلمين وأئمتهم وجمهورهم.

ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له وليس بصفة لغيره، مثل كلام الله وعلم الله، ويد الله ونحو ذلك، كان صفة له.

وفي القرآن ما يبين أنه ليس المراد بالجنب ما هو نظير جنب الإنسان فإنه قال: أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله

والتفريط ليس في شيء من صفات الله - عز وجل -.

والإنسان إذا قال: فلان قد فرط في جنب فلان أو جانبه، لا يريد به أن التفريط وقع في شيء من نفس ذلك الشخص، بل يريد به أنه فرط في جهته وفي حقه.

فإذا كان هذا اللفظ إذا أضيف إلى المخلوق لا يكون ظاهره أن التفريط في نفس جنب الإنسان المتصل بأضلاعه، بل ذلك التفريط لم يلاصقه، فكيف يظن أن ظاهره في حق الله - أن التفريط كان في ذاته؟

وجنب الشيء وجانبه، قد يراد به منتهاه وحده، ويسمى جنب الإنسان جنبا بهذا الاعتبار، قال تعالى: تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا وقال تعالى: الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم

وقال النبي ﷺ لعمران بن حصين: (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب).

وإذا قدر أن الإضافة هنا تتضمن صفة الله، كان الكلام في هذا كالكلام في سائر ما يضاف إليه تعالى من الصفات، وفي التوراة من ذلك نظير ما في القرآن.

وهذا يتبين بالوجه الثالث: وهو أن يقال ما في القرآن والحديث عن النبي ﷺ من وصف الله بهذه الصفات التي يسميها بعض الناس تجسيما، هو مثل ما في التوراة وسائر كتب الأنبياء، وهذا الذي في التوراة وكتب الأنبياء ليس مما أحدثه أهل الكتاب.

ولو كانوا هم ابتدعوا ذلك، ووصفوا الخالق بما يمتنع عليه من التجسيم، لكان النبي ﷺ ذمهم على ذلك، كما ذمهم على ما وصفوه به من النقائص في مثل قوله تعالى: لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء وقوله: وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وقال تعالى: ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب

فنفى عنه اللغوب الذي يظن في لفظ الاستراحة الذي في التوراة، فإن فيها أن الله خلق العالم في ستة أيام، ثم استراح في يوم السبت، [102] فظن بعض الناس أنه تعب فاستراح.

ثم من علماء المسلمين من قال: إن هذا اللفظ حرفوا معناه دون لفظه، وهذا لفظ التوراة المنزلة. قاله ابن قتيبة وغيره، وقالوا معناه: ثم ترك الخلق، فعبر عن ذلك بلفظ استراح.

ومنهم من قال: بل حرفوا لفظه، كما قال أبو بكر الأنباري وغيره.

وقالوا: ليس هذا لفظ التوراة المنزلة، وأما ما في التوراة من إثبات الصفات، فلم ينكر النبي ﷺ شيئا من ذلك، بل كان علماء اليهود إذا ذكروا شيئا من ذلك يقرهم عليه ويصدقهم عليه، كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود، أن حبرا من اليهود جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: (يا محمد إن الله عز وجل يوم القيامة يحمل السماوات على إصبع، والأرض على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك). قال: فضحك النبي ﷺ حتى بدت نواجذه تعجبا وتصديقا لقول الحبر، ثم قرأ: وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه الآية.

وفي التوراة: " إن الله كتب التوراة بإصبعه ".

وإذا ثبت أن مثل هذه النصوص في التوراة والكتب المتقدمة باتفاق أهل الكتاب وبما يشهد على ذلك من أخبار الرسول بنظير ذلك وترك إنكاره لما في التوراة، وتصديقه على ما كانوا يذكرونه من ذلك - لم يكن المسلمون مختصين بذكر ما سموه تجسيما، بل يلزم أهل الكتاب اليهود والنصارى من ذلك نظير ما يلزم المسلمين.

وقد افترق أهل الكتاب في ذلك كما افترق فيه المسلمون، منهم الغالي في النفي والتعطيل، ومنهم الغالي في التشبيه والتمثيل.

والمسلمون أئمتهم وجمهورهم مقتصدون بين التعطيل والتمثيل، وكذلك طائفة من أهل الكتاب.

والمقصود أنه إذا كانت هذه الصفات قد جاءت في الكتب الإلهية، التوراة وغيرها، كما جاءت في القرآن، لم يكن للمسلمين بذلك اختصاص.

ولم يجز للنصارى أن يجعلوا ذلك نظير ما اختصوا به من التثليث والاتحاد، فإن ذلك مختص بهم.

وهذه الصفات قد اشترك فيها أهل الملل الثلاث؛ لأن التثليث والاتحاد ليس منصوصا عن أحد من الأنبياء عليهم السلام وهذه الصفات منصوصة في القرآن والتوراة وغيرهما من كتب الأنبياء، فكيف يجوز تشبيه هذا بهذا؟

الوجه الرابع: قولهم: (فيوهمون السامعين أن الله ذو جسم وأعضاء وجوارح) - كلام باطل؛ وذلك أن الله سمى نفسه وصفاته بأسماء، وسمى بعض عباده وصفات عباده بأسماء هي في حقهم نظير تلك الأسماء في حقه سبحانه وتعالى.

فسمى نفسه حيا، كقوله: الله لا إله إلا هو الحي القيوم الآية. وتوكل على الحي الذي لا يموت وسمى بعض عباده حيا، كقوله: يخرج الحي من الميت، مع العلم بأنه ليس الحي كالحي؛ وسمى نفسه عليما، كقوله: إن ربك حكيم عليم. وسمى بعض عباده عليما، كقوله: وبشروه بغلام عليم، مع العلم بأنه ليس العليم كالعليم؛ وسمى نفسه حليما، بقوله: والله غني حليم وسمى بعض عباده حليما، بقوله: فبشرناه بغلام حليم؛ وسمى نفسه رءوفا رحيما، بقوله: إن الله بالناس لرءوف رحيم، وسمى بعض عباده رءوفا رحيما، بقوله: بالمؤمنين رءوف رحيم، وليس الرءوف كالرءوف، ولا الرحيم كالرحيم.

وكذلك سمى نفسه ملكا جبارا متكبرا عزيزا، وسمى بعض عباده ملكا، وبعضهم عزيزا، وبعضهم جبارا متكبرا، وليس هو في ذلك مماثلا لخلقه.

وكذلك سمى بعض صفاته علما وقوة وأيدا، وقدرة ورحمة وغضبا، ورضى ويدا وغير ذلك، وسمى بعض صفات عباده بذلك، وليس علمه كعلمهم، ولا قدرته كقدرتهم، ولا رحمته وغضبه كرحمتهم وغضبهم، ولا يده كأيديهم.

وكذلك ما أخبر به عن نفسه من استوائه على العرش، ومجيئه في ظلل من الغمام، وغير ذلك من هذا الباب، ليس استواؤه كاستوائهم، ولا مجيئه كمجيئهم.

وهذه المعاني التي تضاف إلى الخالق تارة وإلى المخلوق أخرى، تذكر على ثلاثة أوجه:

تارة تقيد بالإضافة إلى الخالق أو بإضافته إليها، كقوله تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه الآية. إن الله هو الرزاق ذو القوة

وتارة تتقيد بالمخلوق كقوله: شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم.

وتارة تطلق مجردة.

فإذا قيدت بالخالق، لم تدل على شيء من خصائص المخلوقين.

فإذا قيل: علم الله وقدرته واستواؤه ومجيئه ويده ونحو ذلك، كانت هذه الإضافة توجب ما يختص به الرب الخالق، وتمنع أن يدخل فيها ما يختص به المخلوق.

وكذلك إذا قيل: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك كانت هذه الإضافة توجب ما يختص بالعبد وتمنع أن يدخل في ذلك ما يختص بالرب - عز وجل -.

وإذا جرد اللفظ عن القيود فذكر بوصف العموم والإطلاق، تناول الأمرين كسائر الألفاظ التي تطلق على الخالق والمخلوق.

وهذه للناس فيها أقوال.

قيل: إنها حقيقة في الخالق، مجاز في المخلوق، كقول أبي العباس الناشئ.

وقيل: بالعكس كقول غلاة الجهمية والباطنية والفلاسفة.

وقيل: حقيقة فيهما، وهو قول الجمهور.

ثم قيل: هي مشتركة اشتراكا لفظيا، وقيل: متواطئة وهو قول الجمهور.

ثم من جعل المشككة نوعا من المتواطئة لم يمتنع - عنده - إذا قيل: مشككة، أن تكون متواطئة، ومن جعل ذلك نوعا آخر جعلها مشككة لا متواطئة.

وهذا نزاع لفظي، فإن المتواطئة التواطؤ العام، يدخل فيها المشككة.

إذ المراد بالمشككة، ما يتفاضل معانيها في مواردها، كلفظ الأبيض الذي يقال على البياض الشديد، كبياض الثلج، والخفيف كبياض العاج، والشديد أولى به.

ومعلوم أن مسمى البياض في اللغة لا يختص بالشديد دون الخفيف، فكان اللفظ دالا على ما به الاشتراك، وهو المعنى العام الكلي، وهو متواطئ بهذا الاعتبار، وهو باعتبار التفاضل يسمى مشككا.

وأما إذا أريد بالتواطؤ، ما تستوي معانيه، كانت المشككة نوعا آخر.

لكن تخصيص لفظ المتواطئة بهذا عرف حادث، وهو خطأ أيضا.

فإن عامة المعاني العامة تتفاضل، والتماثل فيها في جميع مواردها، بحيث لا تتفاضل في شيء من مواردها، إما قليل وإما معدوم.

فلو لم تكن هذه الأسماء متواطئة بل مشككة، كان عامة الأسماء الكلية غير متواطئة، وهذا مبسوط في موضع آخر.

والمقصود هنا أن الله - سبحانه وتعالى - إذا أضاف إلى نفسه ما أضافه إضافة يختص بها، وتمنع أن يدخل فيها شيء من خصائص المخلوقين، وقد قال مع ذلك: إنه (ليس كمثله شيء) وإنه (لم يكن له كفوا أحد) وأنكر أن يكون له سمي، كان من فهم من هذه ما يختص به المخلوق - قد أتي من سوء فهمه ونقص عقله، لا من قصور في بيان الله ورسوله، ولا فرق في ذلك بين صفة وصفة.

فمن فهم من علم الله ما يختص به المخلوق من أنه عرض محدث باضطرار أو اكتساب، فمن نفسه أتي، وليس في قولنا: علم الله - ما يدل على ذلك.

وكذلك من فهم من قوله: بل يداه مبسوطتان الآية. ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي، ما يختص به المخلوق من جوارحه وأعضائه، فمن نفسه أتي، فليس في ظاهر هذا اللفظ ما يدل على ما يختص به المخلوق كما في سائر الصفات.

وكذلك إذا قال: ثم استوى على العرش. من فهم من ذلك ما يختص بالمخلوق، كما يفهم من قوله: فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك، فمن نفسه أتي، فإن ظاهر اللفظ يدل على استواء يضاف إلى الله - عز وجل - كما يدل في تلك الآية على استواء يضاف إلى العبد.

وإذا كان المستوي ليس مماثلا للمستوي، لم يكن الاستواء مماثلا للاستواء. فإذا كان العبد فقيرا إلى ما استوى عليه، يحتاج إلى حمله. وكان الرب - عز وجل - غنيا عن كل ما سواه والعرش وما سواه فقيرا إليه، وهو الذي يحمل العرش وحملة العرش، لم يلزم إذا كان الفقير محتاجا إلى ما استوى عليه أن يكون الغني عن كل شيء وكل شيء محتاج إليه - محتاجا إلى ما استوى عليه.

وليس في ظاهر كلام الله - عز وجل - ما يدل على ما يختص به المخلوق من حاجة إلى حامل وغير ذلك، بل توهم هذا من سوء الفهم، لا من دلالة اللفظ.

لكن إذا تخيل المتخيل في نفسه أن الله مثله، تخيل أن يكون استواؤه كاستوائه، وإذا عرف أن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، علم أن استواءه ليس كاستوائه، ومجيئه كمجيئه، كما أن علمه وقدرته ورضاه وغضبه، ليس كعلمه وقدرته ورضاه وغضبه.

وما بين الأسماء من المعنى العام الكلي كما بين قولنا: حي وحي، وعالم وعالم. وهذا المعنى العام الكلي المشترك لا يوجد عاما كليا مشتركا إلا في العلم والذهن، وإلا فالذي في الخارج أمر يختص بالموصوف.

فصفات الرب - عز وجل - مختصة به، وصفات المخلوق مختصة به، ليس بينهما اشتراك ولا بين مخلوق ومخلوق.

الوجه الخامس: قولهم: (لما كان اعتقادهم في الباري جلت قدرته أنه غير ذي جسم) استعمال منهم للفظ الجسم في القدر والغلظ، لا في ذي القدر والغلظ، وهذا أحد موردي استعماله، وهو الأشهر في لغة العامة، فيقولون: هذا الثوب له جسم، وهذا ليس له جسم؛ أي هذا له غلظ وكثافة دون هذا.

ولكن النظار أكثر ما يستعملون لفظ الجسم في نفس ذي القدر، فيقولون للقائم بنفسه ذي القدر: إنه جسم. وهذا اللفظ لما كثر استعماله في كلام النظار، تفرقوا في معانيه لغة وعقلا وشرعا، تفرقا ضل به كثير من الناس، فإن هذا اللفظ أصله في اللغة هو الجسد.

قال غير واحد من أهل اللغة، كالأصمعي وأبي زيد وغيرهما: الجسم هو الجسد.

وهذا إنما يستعمله أهل اللغة فيما كان غليظا كثيفا، فلا يسمون الهواء جسما ولا جسدا، ويسمون بدن الإنسان جسدا.

وقد تقدم أن الجسم يراد به نفس الجسد، ويراد به قدر الجسد وغلظه، قال تعالى: وزاده بسطة في العلم والجسم وقال تعالى: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة. وقد يراد به هذا وهذا.

ثم إن أهل النظر استعملوا لفظ " الجسد " في أعم من معناه في اللغة، كما فعلوا مثل ذلك في لفظ " الجوهر " ولفظ " العرض " ولفظ " الوجود " ولفظ " الذات " وغير ذلك.

فاستعملوا لفظ " الجسم " فيما يقوم بنفسه وتمكن الإشارة إليه الحسية المختلفة.

ثم تنازعوا نزاعا عقليا فيما يشار إليه، كالهواء والنار والتراب والماء وغير ذلك، هل هو مركب من الجواهر المنفردة التي لا تقبل القسمة، أو من المادة والصورة، أو ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا، على ثلاثة أقوال قد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع.

فمن اعترف أنها مركبة من هذا أو هذا، يلزمه - إذا قال: إن الله جسم - أن يكون الله مركبا من هذا أو هذا.

ولهذا قالوا: إن هذا باطل وأوجبوا - على أصلهم - نفي مسمى هذا الاسم، وهذا هو المشهور عند هؤلاء.

ومن اعتقد أنه ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا، قال: يلزمني إذا قلت: هو جسم أن يكون مركبا.

فمن هؤلاء من أطلق عليه لفظ " الجسم "، وأراد به القائم بنفسه أو الموجود، كما أطلق هؤلاء لفظ الجوهر، وقالوا: أردنا بالجوهر القائم بنفسه. وكما قال هؤلاء: ليس في الوجود إلا جوهر أو عرض.

فإن الوجود إما قائم بنفسه، وهو الجوهر، أو بغيره، وهو العرض، والجوهر أشرف القسمين.

وقال الآخرون: ليس في الوجود إلا قائم بنفسه، وهو الجسم أو قائم بغيره، وهو العرض، والجسم أشرف القسمين. وقال: فما سماه أولئك جوهرا، سماه أولئك جسما، وكلاهما ليست تسميته لغوية ولا شرعية.

وإذا قال هؤلاء: هو جوهر لا كالجواهر، كما يقال: هو شيء لا كالأشياء.

قال أولئك: هو جسم لا كالأجسام، كما يقال: هو شيء لا كالأشياء.

وإذا قال هؤلاء: الجوهر ينقسم إلى كثيف ولطيف، قال أولئك: والجسم ينقسم إلى لطيف وكثيف.

والمقصود هنا، أن هؤلاء الذين نزهوه عما يمتنع عليه من مماثلة المخلوقين، وسموه جسما - نزاعهم مع النفاة قد يكون لفظيا، كنزاع النصارى في لفظ " الجوهر "، وقد يكون عقليا، كنزاعهم في المشار إليه، هل هو مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، أو لا من هذا ولا من هذا.

ومن قال من القائلين بأنه جسم، فيقول: إنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فهؤلاء مذمومون لفظا ومعنى عند جماهير المسلمين وغيرهم، وإن كان النصارى وغيرهم يعجزون عن الرد على هؤلاء، إذ كان ما يعتمدون عليه في تنزيه الله عن خصائص الأجسام طرقا ضعيفة لا تثبت على المعيار العقلي، كما قد بسط في موضع آخر.

بخلاف من كان نزاعه لفظيا، فهذا يذم إما لغة وإما لغة وشرعا؛ لكونه أطلق لفظا لم يأذن به الشرع، أو استعمله في خلاف معناه اللغوي، كما قد يذم النافي لمثل ذلك لغة وشرعا، إذا كان معناه صحيحا.

وأما من كان من النفاة أو المثبتة نفى حقا أو أثبت باطلا، فهذا مذموم ذما معنويا شرعا وعقلا.

وأما الشرع، فالرسل وأتباعهم الذين من أمة موسى وعيسى ومحمد ﷺ، لم يقولوا: إن الله جسم، ولا إنه ليس بجسم، ولا إنه جوهر، ولا إنه ليس بجوهر.

لكن النزاع اللغوي والعقلي والشرعي في هذه الأسماء، هو مما أحدث في الملل الثلاث بعد انقراض الصدر الأول من هؤلاء وهؤلاء وهؤلاء.

والذي اتفقت عليه الرسل وأتباعهم، ما جاء به القرآن والتوراة من أن الله موصوف بصفات الكمال، وأنه ليس كمثله شيء، فلا تمثل صفاته بصفات المخلوقين، مع إثبات ما أثبته لنفسه من الصفات، ولا يدخل في صفاته ما ليس منها، ويخرج منها ما هو داخل فيها.

إذا تبين هذا، فالمسلمون لما كان اعتقادهم بأن الله تعالى موصوف بما وصف به نفسه، وأنه ليس كمثله شيء، وكان ما أثبتوه له من الصفات مما جاءت به الرسل، لم يكن عليهم ملام؛ لأنهم أثبتوا ما أثبته الرسل، ونفوا ما نفته الرسل، فكان في هذا النفي ما ينفي الوهم الباطل.

بخلاف من أثبت أمورا لم تأت بها الرسل، وضم إليها ما يؤكد المعنى الباطل لا ما ينفيه، وكان مما نفوا عنه أنه ليس بجسم مركب من الجواهر المنفردة، ولا من المادة والصورة.

أما على أحد قولي النظار بل أظهرهما، فإن ما سواه من الموجودات القائمة بأنفسها، ليس مركبا لا من هذا ولا من هذا.

فهو سبحانه أحق بتنزيهه عن مثل هذا، إذ كل نقص نفي عن المخلوق، فالخالق أحق بتنزيهه منه.

وأما على القول الآخر، فتارة يقولون: لأن المركب من الجواهر المنفردة يمكن افتراق أجزائه، وذلك ممتنع في حق الله تعالى، وتارة يقولون: لأنه مفتقر إلى أجزائه، وذلك ممتنع في حق الله تعالى، إذ جزؤه غيره، والمفتقر إلى غيره لا يكون واجبا بنفسه قديما أزليا، كما قد بسط الكلام على هذه الأمور في موضع آخر.

ثم منهم من لا يطلق من النفي والإثبات إلا الألفاظ الشرعية، فكما لا يقول: هو جسم وجوهر، لا يقول: ليس بجسم ولا جوهر.

ومنهم من يطلق هذه الألفاظ، وهؤلاء منهم من ينفيها، ومنهم من يثبتها.

وكل من الطائفتين قد يدخل في ذلك ما يوافق الشرع، وقد يدخل في ذلك ما يخالف الشرع.

وكل من الطائفتين يدعي النظر العقلي أو اللغوي، وربما اعتصم بعضهم بما يظنه دليلا شرعيا.

والغالب عليهم أنهم لا يعتصمون في ذلك بشرع، إذ لم يكن في ذلك شرع، وإنما يتكلفون تغيير اللغة التي بعث بها الرسول، ثم يحملون ألفاظه على ما ابتدعوه من اللغة، كما فعلته النصارى في حمل كلام الأنبياء على ما ابتدعوه من اللغة.

فإن الأنبياء لم يسموا علم الله وحياته ابنا، وروح قدس، ولا ربا، فسمى النصارى علمه وحياته ابنا، وروح قدس، وربا، ثم حملوا كلام الأنبياء على ذلك.

كذلك طائفة من أهل الكلام كان السلف يسمونهم الجهمية، أحدثوا تسمية الواحد والأحد ونحوهما لما لا يشار إليه ويميز الحس منه شيئا عن شيء، وهذا خلاف اللغة، فإن أهل اللغة يسمون بالواحد والوحيد والأحد في النفي لما يشار إليه ويميز الحس منه شيئا من شيء، قال تعالى: ذرني ومن خلقت وحيدا فسمى الإنسان وحيدا، وقال تعالى: وإن كانت واحدة فلها النصف فسمى المرأة واحدة، وما أمرنا إلا واحدة وقال: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله فسمى المستجير وهو الإنسان أحدا.

وكذلك قوله تعالى: ولم يكن له كفوا أحد فنفى أن يكون أحد كفوا له.

فلو كان ما يشار إليه لا يسمى أحدا، لم يكن قد نزهه عن مماثلة المخلوقات له، فإن المشهود من المخلوقات كلها يشار إليها، فإن لم يدخل في أحد، لم يكن قد نزه نفسه عن مماثلتها.

فهؤلاء لما أحدثوا أن مسمى الأحد والواحد لا يكون مشارا إليه، قالوا: والرب قد سمى نفسه أحدا وواحدا، فيجب أن لا يكون مشارا إليه.

ولغة الرسول التي خاطب بها الناس لم تكن موافقة لما ابتدعوه من اللغة.

وكذلك الذين قالوا: " هو جسم " غيروا اللغة، وجعلوا الجسم اسما لما يشار إليه، أو لكل موجود، ولكل قائم بنفسه.

ثم قالوا: هو موجود، أو قائم بنفسه، أو مشار إليه، فيكون جسما ولا يوجد في اللغة اسم الجسم، لا لهذا، ولا لهذا، ولا لهذا.

وقالوا: لا يلزم من كونه مشارا إليه أن يكون مركبا من الجواهر المفردة، ولا من المادة والصورة.

وقال أولئك: بل يلزم أن كل مركب، يسمى في اللغة جسما، فيلزم أن يسمى جسما، إذا قلنا: هو مشار إليه، أو يرى بالأبصار، أو متصفا بصفات تقوم به.

وليس ما ذكروه عن اللغة بمستقيم، فإن أهل اللغة لا يعنون بالجسم المركب، بل الجسم عندهم هو الجسد، ولا يسمون الهواء جسما.

إذا تبين هذا، فتمثيل هؤلاء النصارى باطل، على قول كل طائفة من طوائف المسلمين.

فمنهم من يقول: الجسم - في اللغة - هو المركب، والله ليس بمركب، فليس بجسم. لا يقولون بما ذكروه من أن الله له وجه يوليه إلى كل مكان، وجنب ونحو ذلك.

وكذلك من قال: إن الله ليس بمركب، وسماه جسما، بمعنى أنه قائم بنفسه، أو لم يسمه جسما، لا يقول بذلك أيضا، ومن حكى عنه يثبت له خصائص الأجسام المركبة، فهؤلاء إن أطلقوا ما نفاه، فلا حجة للنصارى عليهم، وإن لم يطلقوه، فحجتهم أبعد.

فقد تبين أنه ليس لهم حجة على أفسد الناس قولا في التجسيم، فضلا عن غيرهم.

الوجه السادس: أن يقال لهؤلاء النصارى: إما أن تعنوا بلفظ الجسم المعنى اللغوي وهو الجسد، وإما أن تعنوا به المعنى الاصطلاحي عند أهل الكلام، كالمشار إليه مثلا.

فإن عنيتم الأول، لم يلزم من نفي ذلك نفي ما ذكرتموه من الصفات لا سيما وأنتم تقولون: إنه جوهر، وقسمتم الجوهر إلى لطيف وكثيف.

فإذا كان الكثيف هو الجسم، واللطيف جوهر ليس بجسم، لم يمتنع على مثل هذا أن يكون له ما يناسبه من الصفات كالملائكة، فإن الملائكة لا يمتنع وصفها بذلك، وإن لم تكن أجساما على هذا الاصطلاح، بل هي جواهر روحانية، وكذلك روح الإنسان التي تخرج منه، لا يمتنع وصفها بما يناسبها من ذلك، وإن كانت ليست بجسم على هذا التقدير.

فتبين أن نفي مسمى الجسم اللغوي عن الشيء، لا يمتنع اتصافه بما ذكر من الصفات وأمثالها.

وإن عنيتم بالجسم القائم بنفسه أو المشار إليه، لم يمتنع - عندكم - أن يكون جسما، فإنكم سميتموه جوهرا، وعنيتم القائم بنفسه.

فإن قام الدليل على أن كل قائم بنفسه يشار إليه، كان أيضا مشارا إليه.

وإن قام دليل على أنه قائم بنفسه لا يشار إليه، كان جوهرا وجسما عند من يفسر الجسم بالقائم بنفسه، ومن فسره بالمشار إليه لم يسم عنده جسما، فتبين أنه على - أصلكم - لا يمتنع أن يسمى جسما مع تسميتكم له جوهرا، إلا إذا ثبت أن من الموجودات ما هو جوهر قائم بنفسه لا يشار إليه، وهذا لم يقيموا عليه دليلا، وليس هذا قول أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى، وإنما هو قول طائفة من الفلاسفة، وقليل من أهل الملل وافقوهم.

ثم يقال لكم: أنتم قلتم: إنه حي ناطق، وله حياة ونطق، بل زدتم على ذلك حتى جعلتموه أقانيم ثلاثة.

ومعلوم أن الحياة والنطق لا تعقل إلا صفة قائمة بموصوف، ولا يعلم موصوف بالحياة والنطق إلا ما هو مشار إليه، بل ما هو جسم كالإنسان.

فإن جاز لكم أن تثبتوا هذه الأعراض في غير جسم، جاز لغيركم أن يثبت المجيء واليد ونحو ذلك لغير الجسم.

وإن قلتم: هذا لا يعقل إلا لجسم، قيل لكم: وذلك لا يعقل إلا لجسم، فإن رجعتم إلى الشاهد، كان حجة عليكم، وإن جاز لكم أن تثبتوا في الغائب حكما على خلاف الشاهد، جاز لغيركم، وحينئذ فلا تناقض بين ما نفاه المسلمون وأثبتموه، لو كان ما ذكرتموه عنهم من النفي والإثبات حقا على وجهه، فكيف وقد وقع التحريف في الطرفين؟

الوجه السابع: أن يقال: غاية مقصودكم أن تقولوا: إن المسلمين لما أطلقوا ألفاظا ظاهرها كفر عندهم، لمجيء النص بها، وهم لا يعتقدون ظاهر مدلولها، كذلك نحن أطلقنا هذه الألفاظ التي ظاهرها كفر، لمجيء النص بها، ونحن لا نعتقد مدلولها.

فيقال لكم: أولا: إن ما أطلقه المسلمون من نصوص الصفات أطلقتموه أنتم، كما وردت به التوراة، فهذا مشترك بينكم وبينهم، وما اختصصتم به من التثليث، والاتحاد لم يشركوكم فيه.

ثم يقال ثانيا: إن المسلمين أطلقوا ألفاظ النصوص، وأنتم أطلقتم ألفاظا لم يرد بها نص.

والمسلمون قرنوا تلك الألفاظ بما جاءت به النصوص من نفي التمثيل.

وأنتم لم تقرنوا بألفاظكم ما ينفي ما أثبتموه من التثليث والاتحاد.

والمسلمون لم يعتقدوا معنى باطلا.

وأنتم اعتقدتم من التثليث في الأقانيم والاتحاد ما هو معنى باطل.

والمسلمون لم يسموا صفات الله بأسماء أحدثوا تسمية الصفات بها وحملوا كلام الرسل عليها.

وأنتم أحدثتم لصفات الله أسماء سميتموه أنتم بها لم تسمعه الرسل، وحملتم كلام الرسل عليها.

والمسلمون لم يعدلوا عن النصوص الكثيرة المحكمة البينة الواضحة إلى ألفاظ قليلة متشابهة.

وأنتم عدلتم عن هذا إلى هذا.

والمسلمون لم يضعوا لهم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.

وأنتم وضعتم شريعة اعتقاد غير ما جاءت به الرسل.

والمسلمون لم يقولوا قولا لا يعقل.

وأنتم قلتم قولا لا يعقل.

والمسلمون لم يتناقضوا، فيجعلوا الإله واحدا ويجعلونه اثنين، بل ثلاثة، وأنتم تناقضتم.

فهذه الفروق وغيرها مما يبين فساد تشبيهكم أنفسكم بالمسلمين.

الوجه الثامن: قولكم: وكذلك - نحن النصارى - العلة في قولنا: (إن الله ثلاثة أقانيم، أب، وابن، وروح قدس، أن الإنجيل نطق به.

فيقال لكم: هذا باطل، فإنه لم ينطق لا الإنجيل ولا شيء من النبوات بأن الله ثلاثة أقانيم، ولا خص أحد من الأنبياء الرب بثلاث صفات دون غيرها، ولا قال المسيح ولا غيره: إن الله هو الأب والابن وروح القدس، ولا إن له أقنوما هو الابن، وأقنوما هو روح القدس، ولا قال: إن الابن كلمته أو علمه أو حكمته أو نطقه، وإن روح القدس حياته، ولا سمى شيئا من صفاته ابنا ولا ولدا، ولا قال عن شيء من صفات الرب إنه مولود، ولا جعل القديم الأزلي مولودا، ولا قال لا عن قديم ولا مخلوق، إنه إله حق من إله حق، ولا قال عن صفات الله إنها آلهة، وإن الكلمة إله والروح إله، ولا قال إن الله اتحد لا بذاته ولا بصفاته بشيء من البشر، بل هذا كله مما ابتدعتموه وخرجتم به عن الشرع والعقل، فخالفتم الكتب المنزلة والعقول الصريحة، وكنتم ممن قيل فيهم: وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير

فإنكم أنتم الذين سميتم نطق الله ابنا، وقلتم: سميناه ابنا؛ لأنه تولد منه كما يتولد الكلام من العقل، فكان ينبغي أيضا أن تسموا حياته ابنا؛ لأنها منبثقة منه ومتولدة عنه أيضا، إذ لا فرق بين علم الرب وحياته.

فعلمه لازم له وحياته لازمة له، فلماذا جعلتم هذا ابنا دون هذا.

وقلتم: إنه مولود من الله، وإنه قديم أزلي، وأنتم تعترفون بأن أحدا من الأنبياء لم يسم علم الله ولا كلامه ولا حكمته مولودا منه.

والذي يعقله الخلق في المولود الذي يولد من غيره، كما يتولد العلم والكلام من نفس الإنسان، أنه حادث فيه أو منفصل عنه، لا يعقل أنه قائم به، وأنه متولد منه قديم أزلي.

ثم قلتم في أمانتكم، إنه تجسم من روح القدس، أو منه ومن مريم.

وهو إنما تجسم عندكم من الكلمة التي سميتموها الابن دون روح القدس.

وإن كان تجسم من روح القدس، فيكون هو روح القدس لا يكون هو الكلمة التي هي الابن.

ثم تقولون: هو كلمة الله وروحه، فيكون حينئذ أقنومين، أقنوم الكلمة وأقنوم الروح، وإنما هو عندكم أقنوم واحد.

فهذا تناقض وحيرة، تجعلونه الابن الذي هو الكلمة، وهو أقنوم الكلمة فقط

وتقولون: تجسم من روح القدس، ولا تقولون: إنه تجسم من الكلمة.

وتقولون: هو كلمة الله وروحه، والكلمة والروح أقنومان.

ولا تقولون: إنه أقنومان، بل أقنوم واحد.

وتقولون: إنه خالق العالم، والخالق هو الأب وتقولون: ليس هو الأب، وتقولون: إله حق من إله حق، وتقولون: إله واحد ساوى الأب في الجوهر.

وتقولون: ليس له مثل، وليس شيء من هذا في كلام أحد من الأنبياء، فكيف تشبهون أنفسكم بمن اتبع نصوص الأنبياء، ولم يحرفها؟

وغاية ما عندكم ما وجد في إنجيل " متى " دون سائر الأناجيل من أن المسيح قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن والروح القدس).

وأنتم قد عرفتم في كلام المسيح وغيره من الأنبياء أنهم يريدون بالابن صفة الله، لا كلامه ولا علمه ولا حكمته.

ولا يريدون بالابن: إله حق من إله حق، ولا مولود قديم أزلي، بل يريدون به وليه، وهو ناسوت لا لاهوت، كيعقوب والحواريين.

ولا يريدون بروح القدس نفس حياة الله، ولا يريدون به أنه رب حي، وإنما يريدون بها الملك أو ما ينزله الله على قلوب أنبيائه وأصفيائه من الهدى والتأييد ونحو ذلك.

فروح القدس يكون عندكم وعند المسلمين في الأنبياء وغيرهم، كما كانت في داود وغيره وكانت في الحواريين.

فلو قدر أن لفظ الابن وجد في كلام المسيح مستعملا تارة في كلمة الله، وتارة في وليه الناسوت، وروح القدس مستعملا تارة في حياته، وتارة فيما ينزله على قلوب أنبيائه - كان جزمكم بأنه أراد بذلك هنا صفات الله جزما باطلا.

فما وصف به المسيح من أنه ابن الله، ومن أن روح القدس فيه - قد وصف به غيره من الأنبياء والصالحين.

فإن كان الابن وروح القدس صفتين لله، وجب أن يكون غير المسيح لاهوتا وناسوتا كالمسيح، إذ الذي حل في المسيح حل في غيره.

ثم جزمكم بأن هذه الصفات أقانيم، وأنه ليس لله صفات ذاتية أو جوهرية أو نحو ذلك إلا هذه الثلاثة، ثم تفرقتم في الثلاثة، هل المراد بالأقانيم الوجود والعلم والحياة، أو الحكمة والكلام، أو النطق بدل لفظ العلم، أو المراد الوجود والعلم والقدرة، بدل الحياة، أو المراد الوجود والحياة والقدرة، أو المراد الوجود مع الحياة والعلم والقدرة؟ إلى أقوال أخرى يطول أمرها.

فيا ليت شعري، ما الذي أراد المسيح بلفظ الأب والابن وروح القدس من هذه الأمور التي اختلفتم فيها، لو كان مراده ما ادعيتموه من الأقانيم؟

والأقانيم - لفظا ومعنى - لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء، بل قيل فيها: إنها لفظة رومية، يفسرونها تارة بالأصل، وتارة بالشخص، وتارة بالذات مع الصفة، ويفسرونها تارة بالخاصة، وتارة بالصفة.

فهلا تركتم كلام المسيح على حاله، ولم تحرفوه هذه التحريفات.

ولقد أحسن بعض الفضلاء إذ قال: لو سألت نصرانيا وابنه وابن ابنه عما يعتقدونه، لأخبرك كل واحد بعقيدة تخالف عقيدة الآخر، إذ كان أصل اعتقادهم جهلا وضلالا، ليس معهم علم لا نقل ولا عقل، فهم كما قال الله تعالى: ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير

وليس معهم بما اعتقدوه من التثليث والاتحاد علم، بوجه من الوجوه فضلا عما هو أخص من ذلك، وهو علم يهتدون به، فليسوا بمهتدين فضلا عما هو أخص من الهدى وهو " كتاب منير " فليس معهم به كتاب منير.

ولو تكلمتم بهذا الكلام، وقلتم: لا نفهم معناه أو ظاهره باطل، وله تأويل مقبول، كما حكيتموه عمن تشبهتم به من المسلمين من أنه يقوله في الصفات - لكان هذا أقرب إلى القياس.

فكيف والأمر بعكس ما ذكرتم؟

وذلك يتبين بالوجه التاسع: وهو أنكم إنما ضللتم بعدولكم عن صريح كلام الأنبياء وظاهره، إلى ما تأولتموه عليه من التأويلات التي لا يدل عليها لفظه، لا نصا ولا ظاهرا، فعدلتم عن المحكم واتبعتم المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

فلو تمسكتم بظاهر هذا الكلام، لم تضلوا، فإن الابن ظاهره في كلام الأنبياء، لا يراد به شيء من صفات الله، بل يراد به وليه وحبيبه ونحو ذلك، وروح القدس يراد به صفته، بل يراد به وحيه وملكه ونحو ذلك، فعدلتم عن ظاهر اللفظ ومفهومه إلى معنى لا يدل عليه اللفظ البتة، فكيف تدعون أنكم اتبعتم نصوص الأنبياء؟

الوجه العاشر: أنكم بالغتم في ذم المسيح وإنجيله، كما بالغتم في سب الله وشتمه، وإن كنتم لا تعلمون أن ذلك ذم، فلم ترضوا أن تجعلوا ظاهر كلام المسيح ما أنتم عليه من الكفر حتى جعلتم ظاهره كفرا لا ترضونه، مثل ثلاثة آلهة متفقة أو متفرقة، أو ثلاثة أجسام مؤلفة، أو ثلاثة أجزاء مفرقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة.

فهذا ونحوه هو الذي ادعيتم أنه ظاهر كلام المسيح .

وأنتم لا تقولون بهذا الظاهر، بل تكفرون قائله، كما يكفر المسلمون من يقول بالظاهر الذي هو التجسيم والتمثيل.

وهذا ما يتضمن أن كلام المسيح ظاهر في إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أشخاص مؤلفة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وثلاثة أشخاص مركبة.

كما زعمتم أن ظاهر القرآن التجسيم، وأنكم عدلتم عن هذا الظاهر إلى إثبات الأقانيم الثلاثة التي جعلتم فيها كلمة الله هي ابنه، وهو جوهر خالق يساويه في الجوهر، وأن المسيح هو هذا الابن المساوي للأب في الجوهر خالق العالمين، وديان يوم الدين والجالس فوق العرش عن يمين الرب، وأنه إله حق من إله حق، والروح أيضا إله ثالث، والآلهة الثلاثة إله واحد.

وهذا الذي ذكرتموه فيه من عيب المسيح وذمه ما ينتصر الله به للمسيح، وممن افترى عليه منكم ومن غيركم.

فإن المسيح على قولكم - لم يفصح لكم بأمانة تعتقدونها، ولا بتوحيد تعرفون به ربكم - عز وجل -، بل تكلم بما ظاهره إثبات ثلاثة آلهة، وثلاثة أجسام مركبة، وثلاثة أجزاء متفرقة، وأنكم أنتم أصلحتم ذلك حتى جعلتموه ثلاثة أقانيم، ووضعتم تلك الأمانة المخالفة لعقول ذوي العقول، ولكل كتاب جاء به رسول، مع أن المسيح لم ينطق بتثليث قط، ولا باتحاد، ولا بما يدل على ذلك.

وعمدتم على ما نقله " متى " عنه دون الثلاثة أنه قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس).

وهذا الكلام ظاهر، بل نصه حجة على خلاف قولكم، وأنه أراد بالابن نفسه، وهو الناسوت، ولم يرد به صفة الله، وأراد بروح القدس ما أيده الله به، أو روح القدس الذي نفخ في أمه حتى حبلت به، لم يرد به صفة الله تعالى.

فتأولتم كلامه على خلاف ظاهره، تأويلا يخالف صريح المعقول وصحيح المنقول، فكيف تدعون أنكم تمسكتم بظاهر كلامه؟

ولما كان قول النصارى في التثليث متناقضا في نفسه لا حقيقة له، صار مجرد تصوره التام كافيا في العلم بفساده من غير احتياج إلى دليل، وإن كانت الأدلة تظهر بفساده.

ولهذا سلك طائفة من العلماء في الكلام معهم هذا المسلك، وهو أن مجرد تصور مذهبهم كاف في العلم بفساده، فإنه غير معقول.

وقالوا: إن النصارى ناقضت في اللفظ وأحالت في المعنى، فلا يجوز أن يعتقد ما يدعون انتحاله لتناقضه.

وذلك أنهم يزعمون أن الثلاثة واحد، والواحد ثلاثة، وهذا لا يصح اعتقاده؛ لأنه لا يجوز أن يعتقد المعتقد في شيء أنه ثلاثة، مع اعتقاده فيه أنه واحد؛ لأن ذلك متضاد.

وإذا كان ذلك كذلك، فليس يخلو من أن يعتقد أنه ثلاثة، أو أنه واحد.

وليس يحتاج أن يعرف بدليل بطلان قول من ادعى أن الواحد ثلاثة، وأن الثلاثة واحد؛ لأن ذلك لا يعقل.

وهو كمن ادعى في الشيء أنه موجود معدوم، أو قديم محدث، أو في الجسم أنه قائم قاعد، متحرك ساكن.

وإذا كان كذلك، فتناقضه أظهر من أن يحتاج فيه إلى دلالة.

وإذا قال النصارى: إنه أحدي الذات ثلاثي الصفات.

قيل: لو اقتصرتم على قولكم: إنه واحد له صفات متعددة، لم ينكر ذلك عليكم جمهور المسلمين، بل ينكرون تخصيص الصفات بثلاث، فإن هذا باطل من وجوه متعددة:

منها: أن الأب عندكم هو الجوهر ليس هو صفة، فلا يكون له صفة إلا الحياة والعلم، فيكون جوهرا واحدا له أقنومان، وأنتم جعلتم ثلاثة أقانيم.

ومنها: أن صفات الرب لا تنحصر في العلم والحياة، بل هو موصوف بالقدرة وغيرها.

ومنها: أنكم تارة تفسرون روح القدس بالحياة، وتارة بالقدرة، وتارة بالوجود.

وتفسرون الكلمة تارة بالعلم، وتارة بالحكمة، وتارة بالكلام.

فبطلان قولكم في إثبات ثلاث صفات، كثير وأنتم مع هذا تجعلون كل واحدة منها إلها. فتجعلون الحياة إلها، والعلم إلها، وهذا باطل.

وأما من لم يثبت الصفات من المسلمين وغيرهم، فيردون عليكم من وجوه أخرى كقول بعضهم: إذا قيل: ألستم تقولون: إن الأبعاض الكثيرة تكون إنسانا واحدا، والآحاد الكثيرة عشرة واحدة، والأجسام الكثيرة دارا واحدة ومدينة واحدة، وما جرى هذا المجرى مما هو أكثر من أن يحصى، وأظهر من أن يخفى.

فكيف عبتم ذلك من النصارى؟ ولم أنكرتم أن يكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا؟

قيل: إن قولنا: إنسان واحد، ودار واحدة، وعشرة واحدة، وما يجري هذا المجرى، أسماء تنبئ عن الجمل لا عن آحاد.

وإذا قلنا: إنسان واحد، فكأنا قلنا: جملة واحدة، وكذلك إذا قلنا: عشرة واحدة، لا أنا نثبته واحدا في الحقيقة.

كيف ونحن نقول: إن أبعاض الإنسان متغايرة، فكل بعض منها غير سائرها، وكذلك كل واحد من العشرة غير سائرها؟

فنحن وإن قلنا: إنسان واحد، فلسنا نثبته شيئا واحدا في نفسه، ولو أثبتنا ذلك، لتناقضنا مناقضة النصارى، وإنما قلنا: هي جملة واحدة، ولو قالت النصارى مثل ذلك، لم تتناقض، حتى يزعموا أنها ثلاثة أشياء جملة واحدة.

فيكون مرادهم في ذلك بوصفهم الأقانيم الثلاثة، بأنها جوهر واحد مما نريد بقولنا: الأبعاض الكثيرة - أنه إنسان واحد.

فيكون وصفهم لها بأنها جوهر، إنما ينبئ أنها جملة، وليس هذا مما يذهبون إليه، ولا يعتقدونه ولا يجعلون له معنى؛ لأنهم لا يعطون حقيقة التثليث، فيثبتون الأقانيم الثلاثة متغايرة، ولا حقيقة التوحيد، فيثبتون القديم واحدا ليس باثنين ولا أكثر من ذلك.

وإذا كان ذلك كذلك، فما قالوه هو شيء لا يعقل، ولا يصلح اعتقاده، ويمكن أن يعارضوا على قولهم بكل حال.

فيقال لهم: إذا جاز عندكم أن تكون ثلاثة أقانيم جوهرا واحدا، فلم لا يجوز أن تكون ثلاثة آلهة جوهرا واحدا، وثلاثة فاعلين جوهرا واحدا، وثلاثة أغيار جوهرا واحدا، وثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وثلاثة قادرين جوهرا واحدا، وكل ثلاثة أشياء جوهرا واحدا، وكل ما يجري هذا المجرى من المعارضة؟ فلا يجدون فصلا.

الوجه الحادي عشر: أن غلاة المجسمة الذين يكفرهم المسلمون أحسن حالا منكم شرعا وعقلا، وهم أقل مخالفة للشرع والعقل منكم.

فإذا كان هؤلاء خيرا منكم، فكيف تشبهون أنفسكم بمن هو خير من هؤلاء من أهل السنة من المسلمين الذين لا يقولون لا بتمثيل ولا بتعطيل.

وبيان ذلك أن التوراة والإنجيل وسائر كتب الله، وغير ذلك مما هو مأثور عن الأنبياء فيه نصوص كثيرة صريحة ظاهرة واضحة في وحدانية الله، وأنه لا إله غيره، وهو مسمى فيها بالأسماء الحسنى، موصوف بالصفات العلى، وأن كل ما سواه مخلوق له، ليس فيه تثليث ولا اتحاد الخالق بشيء من المخلوقات، لا المسيح ولا غيره.

وفيها ألفاظ قليلة مشكلة متشابهة، وهي - مع ذلك - لا تدل على ما ذكرتموه من التثليث والاتحاد، لا نصا ولا ظاهرا، ولكن بعضها يحتمل بعض ما قلتم، وليس فيها شيء يحتمل جميع ما قلتم، فضلا عن أن يكون ظاهرا فيه أو نصا، بل بعضها يحتمل بعض قولكم.

فأخذتم ذلك المحتمل وضممتم إليه من الكفر الصريح والتناقض القبيح ما صيرتموه أمانة لكم؛ (أي عقيدة إيمان لكم).

ولو كانت كلها تحتمل جميع ما قلتم، لم يجز العدول عن النص والظاهر إلى المحتمل، ولو كان بعضها ظاهرا فيما قلتم، لم يجز العدول عن النصوص الصريحة إلى الظاهر المحتمل.

ولو قدر أن فيها نصوصا صريحة قد عارضتها نصوص أخرى صريحة، لكان الواجب أن ينظروا بنور الله الذي أيد به عباده المؤمنين، فيتبعون أحسن ما أنزل الله، وهو المعنى الذي يوافق صريح المعقول وسائر كتب الله، وذلك النص الآخر إن فهموا تفسيره، وإلا فوضوا معناه إلى الله تعالى إن كان ثابتا عن الأنبياء.

وهؤلاء عدلوا عما يعلم بصريح المعقول، وعما يعلم بنصوص الأنبياء الكثيرة، إلى ما يحتمله بعض الألفاظ لموافقته لهواهم، فلم يتبعوا: إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى

وأما كفار المجسمة، فهؤلاء أعذر وأقل كفرا من النصارى، فإن هؤلاء يقولون كما يقوله معهم النفاة: إن ظواهر جميع الكتب هو التجسيم.

ففي التوراة والقرآن من الآيات التي ظاهرها التجسيم ما لا يحصى.

وليس فيها نص بما يقوله النفاة من أن الله ليس بداخل العالم ولا خارجه، ولا متصل به ولا منفصل عنه، ولا هو فوق العرش، ولا يشار إليه، ولا يصعد إليه شيء، ولا ينزل منه شيء، ولا يقرب منه شيء، ولا يدنو من شيء، ولا يدنو إليه شيء، إلى نحو ذلك من النفي الذي يقوله نفاة الصفات.

فمعلوم أنه ليس في الكتب الإلهية لا التوراة ولا الإنجيل ولا الزبور ولا القرآن ولا غير ذلك من النبوات - من هذا حرف واحد، وكلها مملوءة مما يقول هؤلاء: إنه تجسيم.

فيقول هؤلاء: نحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نعدل عنها إلى غيرها، ولم نجد في نصوصهم نصا محكما صريحا بالنفي الذي يقوله نفاة الصفات.

ووجدنا نصوصهم كلها بالإثبات الذي يقولون: إنه تجسيم.

فكان على قولنا وقولهم نصوص الأنبياء ظاهرة في التجسيم، وليس لهم نص يناقض ذلك، فاتبعنا نصوصهم، وكل من عارض إثبات الصفات، لم يعارضها بنصوص صريحة عن الأنبياء، لكن بحجج عقلية.

فيقول هؤلاء: إن النصارى خالفوا صريح المعقول، وصريح كلام الأنبياء، واتبعوا قليلا من متشابه كلامهم، ونحن اتبعنا نصوص الأنبياء، ولم نخالف شيئا من صريح نصوصهم، ولكن مخالفنا يقول: إنا خالفنا العقل.

ونحن ننازعه في ذلك، وندعي أن العقل معنا لا علينا، وأن ما يدعيه من المعقولات التي تعارض كلام الأنبياء فهي باطلة.

أو يقولون: نحن والنصارى متفقون على أنا لا نعارض كلام الأنبياء بالشبه العقلية، لكن نحن اتبعنا كلامهم المحكم الظاهر الكثير، الذين لا مخالف له من كلامهم.

وهم خالفوا كلامهم الكثير المحكم، واتبعوا قليلا من المتشابه.

ويقول الغلاة من هؤلاء الذين يكفرهم أئمة المسلمين وجمهورهم الذي يحكي عنهم: أن الله ينزل إلى الأرض عشية عرفة، فيعانق المشاة ويصافح الركبان، وأنه يتمشى في الأرض، يكون موطئ أقدامه مروجا، ونحو ذلك.

ليس هذا القول بأعجب من قول النصارى الذين يقولون: إنه هو المسيح، وأن اللاهوت والناسوت اتحدا.

فنحن نقول أيضا: إنه حل في بعض الأجساد المخلوقة، كما يقوله النصارى.

أو نقول: إنه تجسد كما تتجسد الملائكة والجن، وهذا أقرب من قول النصارى: إنه اتحد بجسم المسيح.

فإنا قد عهدنا اللطائف من الملائكة تتصور في صورة بشرية، ولم نعهد ملكا صار هو والبشر شيئا واحدا.

فإذا لم يجز أن يتحد الملك بالبشر، فكيف يجوز أن يتحد رب الخلائق كلهم بالبشر؟

قالوا: وقد يحل الجني في بدن الإنسي ويتكلم على لسانه، إلا أنهما جوهران ومشيئتان وطبيعتان، ليس بينهما اتحاد، لكنه دخل فيه وتكلم على لسانه.

والنصارى يقولون: إن رب العالمين اتحد بالبشر، فمنهم من يقول: جوهر واحد، ومنهم من يقول: شخص واحد وأقنوم واحد، ومنهم من يقول: مشيئة واحدة، فلابد لكل منهم من نوع اتحاد، وهذا أبعد من حلول الجني في الإنسي، فإذا كان ما يقولونه ممتنعا في الجن والملائكة، فكيف برب العالمين؟

ومن غلاة المجسمة اليهود، من يحكىعنه أنه قال: (إن الله بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، وأنه ندم حتى عض يده وجرى منه الدم)، وهذا كفر واضح صريح، ولكن يقولون: قولنا خير من قول النصارى، فإن النصارى يقولون: (إنه أخذ وضرب بالسياط وبصق في وجهه، ووضع الشوك على رأسه كالتاج، وصلب بين لصين، وفعل به من أقبح ما يفعل باللصوص قطاع الطرق.

وقد صرح كثير منهم بأن هذا فعل باللاهوت والناسوت جميعا.

وشريعة إيمانهم تدل على ذلك، وهو لازم لمن أنكر ذلك منهم، فإنه مع القول بالاتحاد الذي لا بد لطوائفهم الثلاثة منه، يمتنع أن تحل هذه العقوبات في هذا دون ذاك، فلا يمكن أن يحل في الناسوت دون اللاهوت، فإن هذا إنما يتصور إذا كان اثنين، ومن قال بالاتحاد، امتنع عنده أن يكون هناك اثنان.

وفي الجملة، فالنصارى المثلثة، إما أن يصرحوا بالاتحاد من كل وجه كاليعقوبية، وهؤلاء يصرحون بأن الآلآم حلت باللاهوت.

وإما أن يقولوا بالاتحاد من وجه كقول الملكية: إنهما شخص واحد، وقول النسطورية: هما مشيئة واحدة.

وحينئذ فما قالوه من التعدد الذي يوجب المباينة، وأنه لا يتصف أحدهما بما يتصف به الآخر، ولا يحل به ما حل به، فيكون متناقضا لهذا.

فأحسن أحوالهم أن يتناقضوا في الاتحاد، كما تناقضوا في التثليث، وهذا حقيقة قول خيار هؤلاء يتكلمون بالكفر وبما يناقضه، وبالتوحيد وبما يناقضه.

ومعلوم أن ما يفعله بنفسه من ندم وبكاء وحزن، هو دون ما يفعله أعداؤه به من ضرب وصفع وجعل الشوك على رأسه، وصلبه بين لصين، وأن استغاثته بمن يخلصه من ذلك أشد نقصا من ندمه وحزنه.

وإن قالوا: فعل هذا حتى يعلم عباده التشبه به - أمكن أولئك المجسمة الكفرة أن يقولوا: بكى وندم وعض يده ندما حتى جرى الدم، حتى يعلم عباده التوبة من الذنوب.

ففي الجملة، ما قال قوم من أهل الملل قولا في الله، إلا وقول النصارى أقبح منه.

ولهذا، كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول: لا ترحموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر، ولهذا يعظم الله فريتهم على الله في القرآن أشد من تعظيم افتراء غيرهم كقوله: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا.

وفي الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (يقول الله - عز وجل - كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، فأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته).

ورواه البخاري عن ابن عباس عن النبي ﷺ قال: (قال الله - عز وجل -: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي، فزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان، وأما شتمه إياي فقوله: لي ولد، فسبحاني أن أتخذ صاحبة ولا ولدا).

وفي الصحيحين عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ: (ما أحد أصبر على أذى سمعه من الله - عز وجل - إنه يشرك به ويجعل له ند وهو يعافيهم ويرزقهم ويدفع عنهم).

الوجه الثاني عشر: أن كل من يعتقد في التجسيم ما يعتقد، يمكنه أن يقول كما يقوله النصارى، فإن النصارى عمدوا إلى ما هو جسد من جنس سائر أجساد بني آدم، قالوا: إنه إله تام وإنسان تام، وليس فيه من الإلهية شيء، فما بقي مع هذا يمتنع أن يعتقد في نظائره ما يعتقد فيه.

فلو قال القائل: إن موسى بن عمران كان هو الله، لم يكن هذا أبعد من قول النصارى، فإن معجزات موسى كانت أعظم وانتصاره على عدوه أظهر، وقد سماه الله في التوراة إلها لهارون ولفرعون.

فإذا قيل فيه ما قالوه في المسيح: إنه أظهر المعجز بلاهوته، وأظهر العبودية بناسوته، لم يكن بطلان هذا أظهر من بطلان قول النصارى، بل متى جوزوا اتحاد اللاهوت بالناسوت، لم يمكنهم دفع ذلك عن أحد ممن يدعى فيه إلا بدليل خاص، بل إذا قيل لهم حل في كثير من الأنبياء والقداديس، لم يمكنهم نفي ذلك.

وإذا قالوا: لم يخبر بذلك أحد، ولم يبشر به نبي، أو هذا غير معلوم.

قيل لهم: غاية هذا كله، أنكم لا تعلمون ذلك، ولم يقم عندكم دليل عليه، وعدم العلم ليس علما بالعدم، فعدم علمكم وعدم علم غيركم بالشيء، ليس علما بعدم ذلك الشيء.

وكذلك عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول عليه، فإن كل ما خلقه الله دليل عليه، ثم إذا عدم ذلك لم يلزم عدم الخالق، فلا يجوز نفي الشيء لعدم الدليل الدال عليه، إلا أن يكون عدم الدليل مستلزما لعدمه، كالأمور التي تتوفر الهمم على نقلها، إذا لم ينقل علم انتفاؤها.

والمقصود أنكم - مع العدم - يمكنكم النفي العام عن غير المسيح لعدم الدليل الدال عليه، فإنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول في نفس الأمر، لا سيما وهو كان متحدا بالمسيح عندهم أكثر من ثلاثين سنة، ومع هذا فكان يخفي نفسه ولا يظهر إلا العبودية.

فإذا قيل لهم: هكذا كان متحدا بغيره من الأنبياء والصالحين، ولكن أخفى نفسه لحكمة له في ذلك، أو أظهر على نفسه بعض خواص عباده، أو أظهر لطائفة لم ينقل إلينا خبرهم ونحو ذلك، لم يمكن مع تصديق النصارى فيما يدعونه الجزم بكذب هؤلاء، بل من جوز قول النصارى، جوز أن يكون متحدا بغير ذلك من الأجسام، فيجعل كثيرا من الأجسام المخلوقة هي رب العالمين، إذ كانت ليس هو متحدا بها في نفس الأمر.

فإذا اعتقدوا الاتحاد فيها، كما اعتقدته النصارى في المسيح، لم يكن ثم إله في الحقيقة إلا ذلك الجسم الناسوتي المخلوق.

لكن ظن الضال أنه رب العالمين، كما ظن عباد العجل أن العجل إله موسى. فإذا جاز أن يتحد الرب - عز وجل - ببعض الأجسام، لم ينكر على أصحاب العجل إذا جوزوا أن يكون رب العالمين اتحد بالعجل، وقد رأوا منه نوع خرق عادة. فليس للنصارى أن ينكروا على عباد العجل ولا عباد شيء من الأصنام إذا أمكن أن يكون الرب - عز وجل - حل فيها عندهم إن لم يقيموا دليلا على أن الرب لم يحل في ذلك.

فإذا قيل: إن موسى أنكر على عباد العجل.

قيل: نعم. وموسى ينكر على كل من عبد شيئا من المخلوقات، حتى لو عبد أحد الشجرة التي كلمه الله منها لأنكر عليه، فإنكاره على النصارى أعظم.

وموسى لم يقل قط: إن الله يتحد بشيء مع المخلوقات ويحل فيه، بل أخبر من عظمة الله - عز وجل - بما يناقض ذلك.

ففي التوراة من نهيه عن عبادة ما سوى الله ومن تعظيم أمره وعقوبة المشركين به، وبما أخبر به من صفات الله - عز وجل - ما يناقض قول النصارى.

ولهذا كان من تدبر التوراة وغيرها من كلام الأنبياء عليهم السلام من النصارى، تبين له أن دينهم يناقض دين الأنبياء كلهم، وأن ما هم عليه من التثليث والاتحاد والشرك، لم يبعث به أحد من الأنبياء عليهم السلام.

وما يفعلونه من دعاء المخلوقين كالملائكة، أو كالأنبياء والصالحين الذين ماتوا، مثل دعائهم مريم وغيرها، وطلبهم من الأموات الشفاعة لهم عند الله - لم يبعث به أحد من الأنبياء، فكيف وقد صوروا تماثيلهم ليكون تذكيرا لهم بأصحابها، ويدعون تلك الصور؟

وإن قصدوا دعاء أصحابها، فهم إذا صرحوا بدعاء أصحابها وطلبوا منهم الشفاعة وهم موتى وغائبون، كانوا مشركين.

فكيف إذا كان الدعاء في الظاهر لتماثيلهم المصورة، وهذا مما يعترف حذاق علمائهم بأنه مخالف لدين الأنبياء كلهم.

ولهذا وقع بينهم تنازع في اتخاذ الصور في الكنائس لما ابتدعه بعضهم، كما هو مذكور في أخبارهم، ولم يأت من ابتدع ذلك بحجة شرعية.

والمجسمة يعتقدون أن الله قديم أزلي، وأنه عظيم جدا، لا يقولون: إنه متحد بشيء من الأجسام المخلوقة، ولا يحل فيها. فمن قال باتحاده وحلوله فيها، كان قوله شرا من قول هؤلاء المجسمة.

كما أن المتفلسفة الذين يقولون بأن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة بنفسها أولها علة تتشبه بها كما يقوله " أرسطو " وذووه، أو يثبتون لها علة فاعلة، لم تزل مقارنة لها، كما يقوله " ابن سينا " وأمثاله.

وهؤلاء قولهم شر من قول اليهود والنصارى ومشركي العرب الذين يثبتون للسموات والأرض خالقا خلقها بمشيئته وقدرته.

ولو قال من قال منهم: إن ذلك جسم فغايته أن يثبت جسما قديما أزليا موصوفا بصفات الكمال. فمن أثبت جسما قديما أزليا ليس موصوفا بصفات الكمال، كان قوله شرا من قول هذا.

فتبين أن المجسمة الذين يثبتون جسما قديما أزليا واجب الوجود بنفسه عالما بكل شيء قادرا على كل شيء مع قولهم: إنه تحله الحوادث وتقوم به الحركة والسكون - خير من قول الفلاسفة الذين يقولون: إن الأفلاك أجسام قديمة أزلية واجبة الوجود بنفسها، كما يقوله " أرسطو " وذووه، وخير من النصارى أيضا.

الوجه الثالث عشر: قولهم: من قال: ثلاثة آلهة مختلفة أو متفقة، أو ثلاثة أشخاص مركبة، أو غير ذلك مما يقتضي الاشتراك والتكثير والتبعيض والتشبيه - فنحن نلعنه ونكفره.

فيقال لهم: وأنتم أيضا تلعنون من قال: إن المسيح ليس هو إله حق من إله حق، ولا هو مساوي الأب في الجوهر، ومن قال: إنه ليس بخالق، ومن قال: إنه ليس بجالس عن يمين أبيه، ومن قال أيضا: إن روح القدس ليس برب حق محي، ومن قال: إنه ليس ثلاثة أقانيم.

وتلعنون أيضا مع قولكم إنه الخالق من قال: إنه الأب، والأب هو الخالق، فتلعنون من قال: هو الأب الخالق، ومن قال: ليس هو الخالق، فتجمعون بين النقيضين.

فتلعنون من جرد التوحيد بلا شرك ولا تثليث، ومن أثبت التثليث مع انفصال كل واحد عن الآخر، وتجمعون بين النقيضين.

فمن أثبت أحدهما منفكا عن الآخر لعنتموه، كمن قال: عندي واحد ثلاثة.

فمن قال: هو واحد ليس بثلاثة - كذبه، ومن قال: هو ثلاثة ليس واحدا - كذبه.

ومن قال: عندي شيء موجود معدوم، فمن قال: هو موجود ليس بمعدوم - كذبه، ومن قال: معدوم ليس بموجود - كذبه.

ومن قال: عندي شيء هو حي ميت، هو عالم جاهل، هو قادر عاجز، فمن قال: هو حي ليس بميت - كذبه، ومن قال: هو ميت ليس بحي - كذبه.

فهكذا أنتم تجمعون بين قولين متناقضين، أحدهما حق والآخر باطل.

فمن قال الحق ونفى الباطل لعنتموه، ومن قال الباطل ونفى الحق لعنتموه.

وأنتم تشبهون الملاحدة من الجهمية والفلاسفة والباطنية الذين يسلبون عنه النقيضين، أو يمتنعون عن إثبات أحد النقيضين، فيقولون: لا نقول هو حي ولا ليس بحي، ولا هو عالم ولا ليس بعالم، ولا قادر ولا ليس بقادر.

بل منهم من يقول: لا نقول: هو موجود ولا معدوم، ولا نقول هو شيء ولا نقول ليس بشيء.

ومنهم من يقول: ليس بحي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز.

ومنهم من يقول: لا نطلق لا هذا ولا هذا.

فيقال لهم: رفع النقيضين كجمع النقيضين، والامتناع عن إثبات أحد النقيضين، كالامتناع عن نفي أحد النقيضين.

وكذلك من وصفه بأنه موجود واجب الوجود لذاته، ثم وصفه بصفات تستلزم عدمه، فقد جمع بين النقيضين.

وكل قول يتضمن جمع النقيضين وإثبات الشيء ونفيه، أو رفع النقيضين الإثبات والنفي - فهو باطل.

والنصارى في هذا الباب من أبلغ الناس تناقضا يقولون الشيء ويقولون بما يناقضه، ويلعنون من قال هذا ومن قال هذا.

وأيضا فكل طائفة منكم تلعن الأخرى، فإن أهل الأمانة تلعن الأريوسية وغيرهم من طوائف النصارى، وهم يلعنونكم وكل من فرقكم الثلاثة، النسطورية، واليعقوبية، والملكية، تلعن الطائفتين الأخريين.

فأنتم واليعقوبية تلعنون من يقول: إن مريم لم تلد إلها، ويقولون: إن مريم ولدت إنسانا تاما إلها تاما.

وأنتم والنسطورية تلعنون من قال: إنهما جوهر واحد بمشيئة واحدة وطبيعة واحدة.

ومن قال: إن اللاهوت تألم مع قولكم: إن اللاهوت مولود من مريم، ومع قولكم: المسيح الذي ولدته مريم مات وصلب، وفي أقوالكم من العجائب المتناقضة التي توجب أنكم ملعونون، ما يطول وصفه، فما منكم من أحد إلا وهو لاعن ملعون، فلعنكم من قال بهذه المقالات، لا يوجب أنكم على الحق، بل يوجب أن يكون من جملة الملعونين عندكم كطائفة من طوائفكم. والنصارى طوائف كثيرون مختلفون اختلافا كثيرا.

والطوائف الثلاثة المشهورة في الأزمان المتأخرة منهم - بعض طوائفهم، وإلا فهم طوائف كثيرون مختلفون في التثليث والاتحاد.

وتجد كل صنف منهم أو غيرهم في مقالاتهم يحكي أقوالا غير الأقوال التي حكاها الآخرون.

ومن أجل من جمع أخبارهم عندهم، سعيد بن البطريق بترك الإسكندرية في أثناء المائة الرابعة من دولة الإسلام، وقد بحث لهم بحثا استقصى فيه - بزعمه - نصر مذهبهم، وهو ملكي، وقد ذكرت كلامه في غير هذا الموضع.

وفيهم من يقول: إن مريم زوجة الله، وفيهم من يجعلها إلها آخر كالمسيح.

وفيهم من يثبت أن المسيح ابن الله، الولادة المعقولة المعروفة من الحيوان.

والأمانة التي جعلوها عقيدتهم وأصل إيمانهم في زمن " قسطنطين " بعد المسيح بأكثر من ثلاثمائة سنة، هي وغيرها من أقوالهم الظاهرة تدل على هذه الأمور المنكرة القبيحة دلالة بينة.

لكن علماؤهم يتأولونها بتأويلات تناقض مدلولها، مع فساد تلك المعاني التي يحملونها عليها عقلا وشرعا.

وليست تلك ألفاظ الأنبياء حتى يقال: حكمهم في ذلك حكم سائر الطوائف من المسلمين وغيرهم، الذين يقولون ما يرونه متشابها من كلام الأنبياء، ويقولون: إن الأنبياء تكلموا بما لا يعرف أحد معناه، أو إنهم خاطبوا الجمهور بما أرادوا به تفهيمهم أمورا ينتفعون بها، وإن كان ذلك كذبا باطلا في نفس الأمر.

فإن هؤلاء الطوائف، وإن كان فيهم من الضلال والجهل ما قد بسط في غير هذا الموضع، فقد فعلوا ذلك في ألفاظ الأنبياء التي لها حرمة النبوة.

بخلاف النصارى فإنهم وضعوا عقيدة وشريعة، ليست ألفاظها منقولة عن أحد من الأنبياء.

الوجه الرابع عشر: قولهم: ويراد بالأب والابن غير أبوة وبنوة نكاح، ومن أراد ولادة زوجة لعناه.

فيقال: لفظ الولادة المعروفة، إنما يكون من أصلين، وإنما يكون بانفصال جزء من الأصلين، وإنما يكون بحدوث المولود سواء أريد ولادة الحيوان أو غيرها، كما تتولد النار من بين الزنادين، فإذا قدح أحدهما بالآخر، خرج منهما جزء لطيف، فاستحال نارا، ثم سقط على الحراق.

وقد توسع بعض الناس في الولادة حتى عبر به عما يحدث عن الشيء، وإن لم يكن بانفصال جزء منه، كتولد الشعاع عن النار والشمس وغيرها؛ لأن هذا يحدث بشيئين أحدهما ما يصدر عنه من الشمس والنار، والثاني المحل القابل له الذي ينعكس عليه، وهو الجرم المقابل له الذي يقوم به الشعاع.

فأما ما يحدث عن شيء واحد، فلا يعرف أنه يسمى ولادة إن قدر وجود ذلك، وكذلك لا يعرف ما يلزم الشيء الواحد أنه يسمى ولدا.

فأما ما يقوم بالموصوف من صفاته اللازمة له، فهذا أبعد شيء عن أن يسمى هذا الملزوم ولادة، بل لا تكون الولادة إلا عن أصلين.

وكل من قال: إن لله ولدا، لزمه أن يكون له صاحبة بأي وجه فسر الولادة، وأن يكون له ولد حادث، ولهذا قال تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم. فاستفهم تعالى استفهام إنكار، ليبين امتناع أن يكون له ولد، إذ لم تكن له صاحبة، فإن الولد لا يكون إلا من أصلين، وهذا مما ينبغي أن يتفطن له، فإن جعل ما يلزم الشيء الواحد متولدا عنه لا يعرف، لا سيما صفاته القائمة به اللازمة له، كعلمه وحياته، لا سيما الصفات القديمة الأزلية اللازمة لذات رب العالمين الذي لم يزل ولا يزال موصوفا بها، فإن صفات العبد اللازمة له، كحياته وقدرته ونحو ذلك، ليست متولدة عنه عند جميع العقلاء.

ولا يقول عاقل يعقل ما يقول: إن لون السماء وقدرها متولد عنها، ولا إن قدر الشمس وضوءها القائم بها اللازم لها متولد عنها، ولا يقول أحد: إن حرارة النار وضوءها القائم بها متولد عنها.

وإنما يقال: إن قيل فيما ليس بقائم بها، بل قائم بغيرها، أو فيما هو حادث بعد أن لم يكن، كالشعاع القائم بالأرض والحيطان، وهذا ليس بقائم بها، بل قائم بغيرها، هو حادث متولد عن أصلين لا عن أصل واحد.

فأما صفات المخلوق القائمة به اللازمة له، فلا يقول أحد من العقلاء: إنها متولدة عنه.

والنصارى يزعمون أن كلمة الله التي يفسرونها بعلمه أو حكمته، وروح القدس التي يفسرونها بحياته وقدرته - هي صفة له قديمة أزلية، لم يزل ولا يزال موصوفا بها.

ويقولون - مع ذلك -: إن الكلمة هي مولودة منه، فيجعلون علمه القديم الأزلي متولدا عنه، ولا يجعلون حياته القديمة الأزلية متولدة عنه.

وقد أصابوا في أنهم لم يجعلوا حياته متولدة عنه، لكن ظهر بذلك بعض مناقضاتهم وضلالهم، فإنه أنواع كثيرة، فإنه إن كانت صفة الموصوف القديمة اللازمة لذاته يقال: إنها ابنه وولده ومتولد عنه، ونحو ذلك، فتكون حياته أيضا ابنه وولده ومتولدا عنه، وإن لم يكن كذلك، فلا يكون علمه ابنه ولا ولده ولا متولدا عنه.

وأبلغ من ذلك أن روح القدس المنفصلة عنه القائمة بالأنبياء والصديقين، يقولون إنها ولده ولا إنها متولدة عنه، بل يخصون ذلك بالكلمة، فلا ينقلون عن أحد من الأنبياء أنه سمى شيئا من صفات الله ابنا ولا ولدا، ولا قال: إن علم الله أو كلامه أو حكمته ولده أو ابنه، أو هو متولد عنه.

فعلم أن القوم في غاية التناقض في المعاني والألفاظ، وأنهم مخالفون للكتب الإلهية كلها، ولما فطر الله عليه عباده من المعقولات التي يسمونها نواميس عقلية، ومخالفون لجميع لغات الآدميين، وهذا مما يظهر به فساد تمثيلهم، فإنهم قالوا: تولدت الكلمة عنه، كما تولد الكلمة والحكمة فينا عن العقل.

فيقال لهم: لو قدر أن الأنبياء سموا ذلك تولدا، فما يتولد فينا حادث بعد أن لم يكن، وحدوثه يتسبب من فعلنا وقدرتنا ومشيئتنا.

فأما صفاتنا اللازمة لنا، التي لا اختيار لنا في اتصافنا بها، ولم نزل متصفين بها، فلا يقول عاقل: إنها متولدة فينا وعنا.

وأنتم تجعلون صفة الله القديمة اللازمة له التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، متولدة عنه.

فلو قدر أن ما ذكرتموه من التولد العقلي أمر معروف في اللغة والعقل والشرع، لم يكن لكم أن تجعلوا علم الله وحكمته التي فسرتم بها كلمته ابنا له ومولودا منه، لم يزل مولودا منه؛ لأن هذا باطل عقلا وشرعا ولغة.

أما العقل، فإن صفة الموصوف اللازمة له - وإن كان مخلوقا - ليست متولدة عنه، فكيف الصفة القديمة للموصوف القديم؟

ولو جاز هذا، جاز أن يجعل ما كان لازما لغيره ولدا له ومولودا منه، فيجعل كيفيات الأشياء وكمياتها متولدة عنها وأمثالها.

ويقال: إن طول الجسم وعرضه وعمقه متولد عنه، وإن حياة الحي متولدة عنه، وإن القوى والطبايع التي جعلها الله في المخلوقات متولدة عنها.

وأما الشرع، فإن هذا لو كان متولدا وهو في بعض اللغات يسمى ولدا، لم يجز أن يحمل على ذلك كلام الأنبياء، إلا أن يكون في لغتهم يسمى ولدا.

وكل من نظر في كتب الأنبياء من علماء النصارى وغيرهم، لم يجد أحدا من الأنبياء يسمي علم الله وكلمته وحياته ولدا له، ولا ابنا له، ولا قال: إن ذلك يتولد عنه.

فقولهم عن المسيح: عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس: إنه أراد بالابن كلمة الله القديمة الأزلية، وإنها متولدة منه، وإنه أراد بروح القدس حياة الله القديمة الأزلية - كذب محض على المسيح لا يوجد قط في كلامه ولا كلام غيره من الأنبياء أنهم سموا علم الله وحكمته، ولا شيئا من صفاته القائمة به ابنا، ولا سموا حياته روح القدس.

وأما اللغة، فإن هذا التعبير الذي ذكروا - وهو تسمية صفات الموصوف اللازمة له ولدا وابنا ومتولدا - لا يعرف في لغات بني آدم المعروفة.

وقد يتبنى الرجل ولد غيره فيتخذه ولدا ويجعله بمنزلة الولد، وإن لم يكن متولدا عنه، كما كانت تفعله أهل الجاهلية من العرب وغيرهم، ولهذا نزه الله تعالى نفسه عن الولادة وعن اتخاذ الولد فقال تعالى: ألا إنهم من إفكهم ليقولون ولد الله وإنهم لكاذبون وقال تعالى: وجعلوا لله شركاء الجن وخلقهم وخرقوا له بنين وبنات بغير علم سبحانه وتعالى عما يصفون بديع السماوات والأرض أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم. وقال تعالى: لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد

وأما اتخاذ الولد، ففي مواضع متعددة، كقوله تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك وقوله تعالى: وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون. وقوله: وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين. وقوله: ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض وقوله: لو أراد الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء

وأهل الكتاب يذكرون أن في كتبهم تسمية عباد الله الصالحين ابنا، وتسمية الله أبا، وتسمية المصطفين أبناء، وهذا إذا كان ثابتا عن الأنبياء، فإنهم لا يعنون به إلا معنى صحيحا

واللفظ قد يكون له في لغة معنى، وله في لغة أخرى معنى غير ذلك، والمراد بهذا الولد والابن لا ينافي كونه مخلوقا مربوبا عبدا لله - عز وجل -.

وأما تسمية شيء من صفات الله ابنا أو ولدا، فهذا لا يعرف عن أحد من الأنبياء، ولا الأمم أهل اللغات سوى مبتدعة النصارى. ولم يبق للتولد إلا معنيان: أحدهما: أن ينفصل عنه جزء، والثاني: أن يحدث عنه شيء، إما باختياره، وإما بغير اختياره وقدرته، كحدوث الشعاع عن النار والشمس.

وكل من الأمرين لا يكون إلا عن أصلين، ولا بد أن يكون حادثا، لا يكون من صفاته اللازمة له، فيمتنع أن يتولد عنه شيء إن لم يكن معه أصل آخر يتولد عنهما.

والتولد عنه بغير قدرته ومشيئته، ممتنع عند أهل الملل، المسلمين واليهود والنصارى وسائر الأمم، سوى طائفة من المتفلسفة يقولون: إنه موجب بذاته مستلزما لما يصدر عنه، فهؤلاء قولهم يناسب هذا التولد.

والنصارى تكفر هؤلاء، لكن قد ضاهوهم في القول، كما قال تعالى: وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون.

وهذا قاله طائفة من اليهود، وهو معروف عن شخص يقال له فنحاص بن عازورا وأتباعه.

قال أبو محمد بن حزم: والصدوقية طائفة من اليهود نسبوا إلى رجل يقال له صدوق، وهم يقولون - من بين سائر اليهود -: إن العزير ابن الله، وكانوا بجهة اليمن.

ولكن المتفلسفة الذين يقولون بصدور العقول والأفلاك عنه، وإن سمي ذلك تولدا، فهم يجعلون ولده منفصلا عنه، لكن يثبتون ولدا قديما أزليا صدر عنه بغير اختياره، ويجعلون الشيء الواحد متولدا عنه.

وسائر الطوائف الذين أثبتوا لله ولدا، جعلوه حادثا منفصلا عنه.

فأما جعل صفته القائمة به ولدا له ومولودا، فهذا لا يعرف عن غير النصارى، فإذا أثبتوا له ولدا وابنا غير مخلوق، والصفة القائمة به اللازمة له، لم تتولد عنه ولا تسمى ابنا ولا ولدا عند أحد من الأنبياء وغيرهم - تعين أن يكون الولد إما جزءا منفصلا عنه، وإما معلولا له صادرا عنه بغير قدرته ومشيئته، وأي القولين قالوه فهم فيه كفار مضاهئون لقول الذين كفروا من قبل.

وبعض علمائهم، وإن أنكر ذلك، لكنهم يقولون ما يستلزم ذلك ويشبهونه بالشعاع من الشمس، ويقولون عن الروح: هو منبثق من الله خارج منه.

وهذا كله يناسب الولادة التي هي خروج شيء منه، أو حدوث شيء عنه بغير اختياره ومشيئته، ولا بد له - مع ذلك - من محل يقوم به، فإن الشعاع لا يقوم إلا بالأرض.

والأمر المنبثق الخارج من غيره، إما أن يكون جوهرا قائما بنفسه، أو صفة قائمة بغيرها.

فإن كان جوهرا، فقد انفصل من الرب جزء.

وإن كان عرضا، فلا بد له من محل، فيكون متولدا عن أصلين.

وتشبيههم بتولد الكلام عن العقل تشبيه باطل، فإن ذلك يحصل بقدرة الإنسان ومشيئته، وهو حادث بعد أن لم يكن.

هذا إذا عرف أن ما يقوم بقلب الإنسان من علم وحكمة، يقال: إنه يتولد عنه، ويقال: إنه ابنه، مع أن هذا أمر غير معروف في اللغات، ولو كان معروفا في لغة بعض الأمم، لم يجز أن يفسر به كلام الأنبياء، إن لم يكن معروفا في لغتهم.

وأما ما يدعونه، فإنهم يقولون: إن الكلمة لازمة لذات الله أزلا وأبدا، وهي مولودة منه، مع أنها غير مصنوعة، فهذا كلام متناقض باطل من وجوه.

فإن المتولد عن الشيء لا يتولد إلا عنه وعن غيره، وأما الشيء الواحد فلا يتولد عنه وحده شيء، وأيضا فإن ما تولد عن غيره لم يكن حادثا، وأما الصفة القديمة اللازمة لذات الرب فليست مولودة له، ولا متولدة عنه، بل هي قائمة به لازمة لذاته.

وأيضا، فإن المولود اسم مفعول، يقال: ولده يلده فهو مولود، وهذا لا يقال إلا في الحادث المتجدد، فإنه مفعول فعل الوالد.

والقديم الأزلي لا يكون مفعولا مولودا.

وأيضا فتسمية الصفة القديمة الأزلية مولودا وابنا، لا يوجد في كلام أحد من الأنبياء عليهم السلام.

فهب أن هذا مما يسوغ لنا في اللغة أن نقوله، لكن لا يجوز أن نحدث لغة غير لغة الأنبياء، ونحمل كلام الأنبياء عليها، فإن هذا كذب عليهم.

وهكذا تفعل النصارى وأمثالهم من أهل التحريف بكلام الأنبياء، يحدثون لهم لغة مخالفة للغة الأنبياء، ويحملون كلام الأنبياء عليه.

مثال ذلك أن الأنبياء أخبروا بأن الله إله واحد، وكفروا من أثبت إلهين اثنين، وأمروا بالتوحيد ودعوا إليه، وحرموا الشرك وكفروا أهله، وأخبروا أن الله واحد أحد، وكان مرادهم بذلك توحيده، وأنه لا يجوز أن يعبد إلا الله، وأنه لا يستحق العبادة إلا هو، ليس مقصودهم بذلك نفي صفاته.

فلم يقصدوا بلفظ " الأحد والواحد " أنه ليس له علم ولا قدرة ولا شيء من الصفات.

فجاء طائفة من أهل البدع، ففسروا لفظ اسم " الواحد والأحد " بما جعلوه اصطلاحا لهم، فقالوا: الواحد الذي ليس فيه تركيب ولا ينقسم، ولو كان له صفات لكان مركبا، ولو قامت به الصفات لكان جسما، والجسم مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، فلا يكون أحدا ولا واحدا.

فيقال: هذا الذي قالوه، لو قدر أنه صحيح في العقل واللغة، فليس هو لغة الأنبياء التي خاطبوا بها الخلق، فكيف إذا لم يكن هذا الواحد من لغة أحد من الأمم؟

بل جميع الأمم تسمي ما قام به الصفات واحدا، بل يسمونه وحيدا، وقد يسمونه في غير الإثبات أحدا، كقوله: وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله وقوله: ذرني ومن خلقت وحيدا وأمثال ذلك.

وأما البحث العقلي في هذا، فقد بسطناه في غير هذا الموضع، وبينا أن ما يسميه هؤلاء المتفلسفة تركيبا، كقولهم: إن الشيء مركب من وجود وماهية، وقولهم: إن الأنواع مركبة من الأجناس والفصول، هو باطل عند جميع جمهور العقلاء.

وليس في الخارج إلا ذات متصفة بصفات، ليس في الخارج وجود القائم بنفسه، وماهية أخرى غير هذا الشيء الموجود القائم بنفسه مثلا.

ولكن قد يعنى بلفظ " ماهية " ما يتصور في الأذهان، وبالوجود ما يوجد في الأعيان، وحينئذ فهذه الماهية غير هذا الموجود، وحينئذ فيقال: هذه الماهية غير هذا الوجود.

وكذلك قولهم: إن الإنسان الموجود في الخارج مركب من الجنس والفصل، فإن الإنسان الموجود هو ذات متصفة بصفات هو وغيره من الموجودات.

ولكن يتصور في الذهن ما هو مركب من الحيوان والناطق، كما يتصور ما هو مركب من الحيوان والضاحك، وهذا تركيب ذهني لا تركيب في الخارج، وقد بسط هذا في غير هذا الموضع.

وتبين أن ما جعلوه من الصفات داخلا في الماهية، وما جعلوه خارجا عنها لازما لها، وما هو مجموع أجزاء الماهية، يرجع عند التحقيق إلى ما هو مدلول عليه بالتضمن والالتزام والمطابقة.

ومن ذلك تركيب الجسم من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة.

وأكثر العقلاء ينكرون تركيب الجسم من هذا وهذا، كما قد بسط في موضع آخر.

والمقصود هنا، أن كلام الأنبياء لا يجوز أن يحمل إلا على لغتهم التي من عادتهم أن يخاطبوا بها الناس، لا يجوز أن يحدث لغة غير لغتهم، ويحمل كلامهم عليها.

بل إذا كان لبعض الناس - عادة ولغة - يخاطب بها أصحابه، وقدر أن ذلك يجوز له، فليس له أن يحمل ذلك، لغة النبي، ويحمل كلام النبي على ذلك.

ومن هذا إخبار الأنبياء بأن الله يقول ويتكلم وينادي ويناجي، وأنه قال كذا وتكلم بكذا، ونادى موسى ونحو ذلك.

والمعروف في لغتهم ولغة سائر الأمم، أن المتكلم من قام به الكلام، وإن كان متكلما بقدرته ومشيئته، لا يعرف في لغتهم أن المتكلم من أحدث كلاما منفصلا عنه، ولا أن المتكلم من قام به الكلام بدون قدرته ومشيئته.

فليس لأحد - إذا جعل اسم المتكلم لمن يحدث كلاما بائنا عنه، أو من قام به بدون قدرته ومشيئته - أن يحمل كلام الأنبياء على هذا.

بل المتكلم - عند الإطلاق - من تكلم بقدرته ومشيئته، مع قيام الكلام به.

وهذا هو المعروف في لغة الأنبياء وسائر الأمم عند الإطلاق، ونظائر هذا متعددة.

فمن فسر كلام الأنبياء بغير لغتهم المعروفة، فهم ممن بدل كلامهم وحرفه، والنصارى من هؤلاء.

وكذلك اسم العادل والظالم ونحوهما، فإن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم أن العادل من قام به العدل وفعل العدل بمشيئته وقدرته.

والظالم من قام به الظلم، وفعله بقدرته ومشيئته، لا يسمون من لم يقم به الظلم، ولكن قام بغيره، لكون قد جعل ذلك فاعلا له، ولا يسمون من لم يفعل الظلم - ولكن فعله غيره فيه - ظالما.

فمن جعل الظالم والكافر والفاسق من لم يفعل شيئا من ذلك ولكن فعله غيره فيه، أو جعل الظالم من لم يقم به ظلم فعله، ولكن جعل غيره متصفا به ظالما - فقد خرج عن المعروف من كلام الأنبياء وغيرهم.

وأبلغ من ذلك أن المحدث والحادث في لغة جميع الأمم، لا يسمى به إلا ما كان بعد أن لم يكن، والمخلوق أبلغ من المحدث والحادث.

فليس لأحد - إذا أحدث اصطلاحا سمى به القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا، ولكنه زعم أنه معلول لغيره، فسماه محدثا بهذا الاعتبار - أن يقول: أنا أحمل كلام الأنبياء الذي أخبروا به، أن السماوات والأرض وما بينهما مخلوق أو مصنوع أو معقول أو محدث أو نحو ذلك من العبارات - على أن مرادهم بذلك أنه معلول، مع كونه قديما أزليا لم يزل.

وأما لفظ " القديم " فهو في اللغة المشهورة التي خاطبنا بها الأنبياء، يراد به ما كان متقدما على غيره تقدما زمانيا، سواء سبقه عدم أو لم يسبقه، كما قال تعالى: حتى عاد كالعرجون القديم وقال تعالى: تالله إنك لفي ضلالك القديم وقال " الخليل ": أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين

فلهذا كان القديم الأزلي الذي لم يزل موجودا، ولم يسبقه عدم - أحق باسم القديم من غيره.

وليس لأحد أن يجعل القديم والمتقدم اسما لما قارن غيره في الزمان لزعمه أنه متقدم عليه بالعلة، ويقول: إنه متقدم على غيره وسابق له بهذا الاعتبار، وإن ذلك المعلول متأخر عنه بهذا الاعتبار، ثم يحمل ما جاء من كلام الأنبياء وأتباع الأنبياء وعموم الخلق على هذا الاصطلاح لو كان حقا، فكيف إذا كان باطلا.

وما ذكره من التقدم والسبق والتأخر بغير الزمان، أمر غير موجود ولا معقول ولا يعرف في الوجود من فعل شيئا، وكان علة فاعلة له إلا وهو متقدم عليه سابق له، ليس مقارنا له في الزمان ألبتة، بل متقدم عليه تقدما زمانيا.

وكل من يعرف أنه سبب أو علة فاعلة، فإنه متقدم على مسببه ومعلوله، لكن قد يكون متصلا به ليس بينهما زمان آخر.

فيقال: ليس هذا متأخرا عن هذا؛ أي هو متصل به ليس بينهما فصل.

ويقال: ليس ذلك متقدما على هذا؛ أي ليس بينهما زمان، بل هو متصل به، إذ قد يراد بلفظ التقدم هذا، كقول النبي ﷺ: (الجنازة متبوعة، وليست بتابعة، ليس منها من تقدمها)؛ أي من كان قد تقدمها، حتى لم يكن قريبا منها، لم يكن تابعا لها، كما جاء في الحديث الآخر: (الراكب خلف الجنازة، والماشي أمامها ووراءها، وعن يمينها ويسارها، قريبا منها) رواه أبو داود وغيره، وهو أبين حديث

روي في هذا الباب في هذا الحكم، ومنه قوله تعالى: ولا الليل سابق النهار أي لا يتقدم عليه، بحيث يكون بينهما انفصال، بل كل منهما متصل بالآخر.

والمقصود هنا أن معرفة اللغة التي خاطبنا بها الأنبياء وحمل كلامهم عليها - أمر واجب متعين، ومن سلك غير هذا المسلك، فقد حرف كلامهم عن مواضعه، وكذب عليهم وافترى.

ومثل هذا التحريف والتبديل قد اتفق المسلمون واليهود والنصارى على أنه وقع فيه خلق كثير من أهل الكتب الثلاثة، وأن التوراة والإنجيل حرفا بهذا الاعتبار، وكذلك القرآن حرفه أهل الإلحاد والبدع بهذا الاعتبار.

فأهل الكتاب نقلوا عن الأنبياء أنهم تكلموا بلفظ الأب والابن ومرادهم - عندهم - بالأب: الرب، وبالابن: المصطفى المختار المحبوب.

ولم ينقل أحد منهم عن الأنبياء أنهم سموا شيئا من صفات الله ابنا، ولا قالوا عن شيء من صفاته: إنه تولد عنه، ولا إنه مولود له.

فإذا وجد في كلام المسيح أنه قال: (عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس) ثم فسروا الابن بصفة الله القديمة الأزلية، كان هذا كذبا بينا على المسيح، حيث لم يكن في لغته أن لفظ الابن يراد به صفة الله القديمة الأزلية.

وكذلك إذا لم يكن في كلام الأنبياء أن حياة الله تسمى روح القدس، وإنما يريدون بروح القدس ما ينزله الله - تبارك وتعالى - على الأنبياء والصالحين ويؤيدهم، كان تفسير قول المسيح: " روح القدس ": إنه أراد حياة الله - كذبا على المسيح.

وهذا من بعض الوجوه أفسد من قول بعض المتفلسفة: إن العقول والنفوس والأفلاك معلولة له متولدة عنه، لازمة له أزلا وأبدا، وإن كان هذا أيضا باطلا في صريح العقل، كما هو كفر بما أخبرت به الأنبياء، كما قد بسط في موضع آخر، فإنه لا يصدر شيء عن فاعل الأشياء بعد شيء لا يتصور أن يكون المفعول مقارنا للفاعل لا يتأخر عنه، ولا يكون التولد إلا عن أصلين.

والواحد من كل وجه الذي ليس له صفة ثبوتية، لا وجود له، ولو كان له وجود لم يصدر عنه وحده شيء، كما قد بسط الكلام على ذلك في مواضع أخر.

ومما يوضح ذلك، أن خواص النصارى وعلماءهم - مع تجويزهم أن يقال: إن المسيح ابن الله - يلزمهم أن تكون مريم صاحبة الله وامرأته، كما قال ذلك من يغلو منهم، ومنهم من يجعل مريم إلها مع الله، كما جعل المسيح إلها.

فإن قالوا بذلك، جعلوا لله صاحبة وولدا، وجعلوا المسيح ابن مريم وأمه إلهين من دون الله، كما فعل ذلك من فعله منهم.

فإنهم يعبدون مريم ويدعونها بما يدعون به الله - سبحانه - والمسيح، ويجعلونها إلها كما يجعلون المسيح إلها، فيقولون: يا والدة الإله، اغفري لنا وارحمينا، ونحو ذلك، فيطلبون منها ما يطلبونه من الله - عز وجل -.

ومنهم من يقول عن مريم: إنها صاحبة الله - سبحانه وتعالى -.

وبيان لزوم ذلك أن المسيح - عندهم - إنسان تام وإله تام، ناسوت ولاهوت، فناسوته من مريم، ولاهوته الكلمة القديمة الأزلية، وهي الخالق عندهم.

فالمسيح بين أصلين، ناسوت ولاهوت، فإذا كان الأب هو الله - عندهم - والكلمة المولودة عن الأب ابن الله، فمعلوم أن اللاهوت لما التحم بالناسوت ليصير منهما المسيح ازدوج به وقارنه، وهذا معنى الزوجية.

فكما أنهم قالوا: إن الولادة عقلية لا حسية، فكذلك الازدواج والنكاح عقلي لا حسي، فإن اللاهوت - على قولهم - ازدوج بناسوت مريم ونكحها نكاحا عقليا، وخلق المسيح من هذا و هذا.

وهم يقولون في الأمانة: إن المسيح تجسد من مريم ومن روح القدس.

فإن فسروا روح القدس بجبريل - كما يقوله المسلمون – فهو الحق، وبطل قولهم لكنهم يقولون: روح القدس هو الأقنوم الثالث، كما يقولون في الكلمة وهو اللاهوت عندهم.

فهم قد ذكروا أنه تجسد من الناسوت واللاهوت، فيلزمهم على هذا أن يكون المسيح هو الابن، وهو روح القدس، فيكون أقنومين، لا أقنوما واحدا، وقد تقدم تناقضهم في هذا.

والمقصود هنا، أنهم إذا قالوا: إن الرب أو بعض صفاته اتحد بما خلق من مريم، فلا بد أن يحصل له اتصال بمريم قبل اتصاله بما خلق منها، وذلك هو معنى النكاح والازدواج.

وعند جمهور النصارى أن مريم ولدت اللاهوت كما ولدت الناسوت، وهي أم اللاهوت، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله.

واللاهوت الذي ولدته مريم هو - عندهم - رب العالمين، واللاهوت اتحد بالناسوت عندهم، من حين خلق الناسوت في بطن مريم، لم يحدث بعد الولادة.

فإذا جاز أن يكون لرب العالمين عندهم أم ولدته بوجه من الوجوه، فإمكان أن يكون له صاحبة وزوجة أولى وأحرى، وليس في ذلك ما يحيله العقل والشرع إلا وهو لكونها أما للاهوت أشد إحالة.

فإن جاز أن يكون للاهوت أم والأم أصل، فلأن يكون له صاحبة هي زوجة ونظير - أقرب وأولى، فإن من المعلوم أن ولد ذلك الشيء، وهو المتفرع المتولد عنه، أنقص بالنسبة إليه من نظيره.

فإذا قالوا: إن لرب العالمين ولدا اتحد بالناسوت هو نظيره المساوي له في الجوهر، وقالوا: إن الناسوت أم هذا المسيح الذي

هو الله وهو ابن الله، وقالوا: إن الناسوت مريم، ولد اللاهوت، كما ولد الناسوت، ولم يكن هذا عيبا ينزه الرب عنه، فلأن يجعلوا له أم هذا الولد الذي حبلت به واتحد به اللاهوت وهو منها، وولدت اللاهوت - صاحبة وزوجة للأب، أولى وأحرى، وإلا فكيف تلد ابنه الذي هو اللاهوت ولا تكون صاحبته وامرأته؟

وهم يقولون: نحن سمينا علمه مولودا عنه؛ لكونه تولد عنه تولد الكلمة عن العقل، وهذا الولد اتحد بالناسوت فسمينا المجموع ولدا.

وبهذا يفرقون بين كون المسيح ابنا وغيره من الأنبياء يسمى ابنا.

فإنهم يقولون: هؤلاء أبناء بالوضع، والمسيح ابن بالطبع؛ أي أولئك سموا أبناء بمشيئة الرب وقدرته؛ لأنه اصطفاهم، والكلمة التي جعلوها متحدة بالمسيح، هي عندهم متولدة عن الله تولدا قديما أزليا، لا يتعلق بمشيئته وقدرته، ولهذا قالوا: مولود غير مصنوع، فإن القديم الأزلي - مع كونه قائما بذاته - لا يكون مصنوعا عند أحد من العقلاء، ولا القائلين بقدم العالم.

فإذا كانت الكلمة اتحدت بالمسيح المخلوق من مريم والتحمت به، فإذا قيل - مع ذلك -: إن القديم مس المحدث أو لاصقه أو باشره، كان أيسر من هذا كله.

والمسيح ولد ولادة حادثة عندهم، غير الولادة القديمة التي للكلمة، فيلزم أن تكون مريم قد صارت زوجة وامرأة، بل نكحت نكاحا حادثا يناسب تلك الولادة المحدثة، قال تعالى: أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة وخلق كل شيء وهو بكل شيء عليم ولهذا كان الحلول أسهل من الاتحاد.

فمن قال: إنه حل في جسد المسيح وماسه وباشره، كما يحل الماء في اللبن، كان أهون ممن يقول: إنه اتحد به والتحم به.

فإذا قيل: إن مريم امرأة القديم وصاحبته وزوجته، كان ما في هذا من إثبات مباشرته لها ومماسته لها واتصاله بها.

ومهما قدر من اتصال الزوج بزوجته، أهون مما قالوه من اتحاد القديم بالمحدث، ومصيره إياه، إما جوهرا واحدا، وإما شخصا واحدا، وإما مشيئة واحدة.

ولهذا كان كل عاقل يعلم أن النكاح الحسي أسهل من الولادة الحسية.

فالذكر من الحيوان إذا نكح الأنثى، فإنما مس الذكر للأنثى، لم تصر الأنثى متولدة عنه. فإذا جوزوا أن يكون للرب القديم الأزلي ما يتولد عنه ويتحد به، وهو محدث مخلوق، فلأن يكون له ما يمسه أولى وأحرى.

وإذا قالوا: إن المسيح إنما كان ابنا؛ لأن الكلمة القديمة التي هي ابن، اتحدت به قبل، فقد يسمى الناسوت الذي اتحد به القديم ابنا عندكم، باسم القديم وجعلتموه إلها خالقا، فما المانع من جعل أم ذلك الناسوت الذي جعلتموه ابن الله، صاحبة لله وزوجة، باعتبار أن القديم الأزلي حصل منه ومنها ما هو ابن القديم الأزلي؟

الوجه الخامس عشر: أن يقال: لفظ الابن وروح القدس، قد جاء في حق غير المسيح - عندكم - حتى الحواريين عندكم يقولون: إن المسيح قال لهم: (إن الله أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم)، ويقولون: إن روح القدس تحل فيهم.

وفيما عندكم من التوراة أن الرب قال لموسى: (اذهب إلى فرعون، فقل له: يقول لك الرب: إسرائيل ابني بكري، أرسله يعبدني، فإن أبيت أن ترسل ابني بكري، قتلت ابنك بكرك. فلما لم يرسل فرعون بني إسرائيل كما قال الله، قتل الله أبكار فرعون وقومه من بكر فرعون الجالس على السرير، إلى الأول من أولاد الآدميين، إلى ولد الحيوان إليهم).

فهذه التوراة تسمي بني إسرائيل كلهم أبناء الله وأبكاره، وتسمي

أبناء أهل مصر أبناء فرعون، فتوسع بتسمية سخال الحيوان أولاد المالك للحيوان.

وفي مزامير داود يقول: (أنت ابني، سلني أعطك). وفي الإنجيل يقول عن المسيح: (أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم، وإلهي وإلهكم)، وقال: (إذا صليتم فقولوا: يا أبانا الذي في السماء، قدوس اسمك، افعل بنا كذا وكذا).

ويقولون عن القديسين: إن روح القدس يحل فيهم، وكذلك حلت في داود وغيره من الأنبياء، بل عندهم: إن الله يحل في الصديقين كلهم.

فإن كان الابن وروح القدس، يقتضي اتحاد اللاهوت بالناسوت، وجب أن يكون كل من الحواريين لاهوتا وناسوتا، وكذلك الأنبياء، فيكون النبي لاهوتا وناسوتا؛ لأنه قد سمي عندكم ابن الله، ونطقت فيه روح القدس، لا سيما وأنتم قلتم في الأمانة: إنه روح ممجد مسجود له، ناطق في الأنبياء.

فإن كان هذا يوجب حلول اللاهوت في الناسوت أو اتحاده، لزم أن يكون غير المسيح من الأنبياء، بل والحواريين، بل وأبناء إسرائيل - لاهوتا وناسوتا، إذ كان الذي جعلتموه اللاهوت حل بغير المسيح واتحد به، أو سكن فيه، أو احتجب به، أو ما قلتم من الألفاظ التي استدللتم بها على أن اللاهوت حل في المسيح، كلفظ الابن وروح القدس - موجود عندكم في غير حق المسيح.

والمعجزات التي احتججتم بها للمسيح، قد وجدت لغير المسيح.

ولو قدر أن المسيح أفضل من بعض أولئك، فلا ريب أن المسيح أفضل من جمهور الأنبياء، أفضل من داود وسليمان وأصحاب النبوات الموجودة عندكم، وأفضل من الحواريين.

لكن مزيد الفضل يقتضي الفضيلة في النبوة والرسالة، كفضيلة إبراهيم وموسى ومحمد - صلوات الله عليهم وسلامه -، وذلك لا يقتضي خروجه عن جنس الرسل، كما قال تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنى يؤفكون وقال تعالى: وقال المسيح يابني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة.

وجماع هذا الجواب: أن ما يوصف به المسيح عندهم من كونه ابن الله، وكون الله حل فيه، أو ظهر أو سكن، وكون روح القدس أو روح الله حلت فيه، وكونه مسيحا - كل ذلك موجود عندهم في حق غير المسيح.

فليس للمسيح اختصاص بشيء من هذه الألفاظ، وإنما يوجد اختصاصه بلفظ الكلمة، وكونه تجسد من روح القدس، وهذا هو الذي خصه به القرآن، فإن الله قال: إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.

وفي الصحيحين عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ أنه قال: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه - أدخله الله الجنة على ما كان من عمل) فهذا الذي خصه به القرآن، هو الذي خصته الكتب المتقدمة، إذ كان القرآن مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه.

وأما سائر ما يوصف به ويدعون اختصاصه به من كونه ابنا لله وكونه مسيحا، فغيره أيضا في كتب الله يسمى ابنا لله ومسيحا، ولذلك ما يذكر من الألفاظ التي يحتجون بها على الحلول، مثل كون الرب ظهر فيه أو حل أو سكن، فإن هذه الألفاظ موجودة عندهم في حق غير المسيح بخلاف لفظ الاتحاد، فإنه لا يوجد عندهم عن الأنبياء لا في حق المسيح ولا غيره، كما لا يوجد عندهم عن الأنبياء لفظ " الأقانيم " ولا لفظ " التثليث " ولا " اللاهوت " و " الناسوت " ولا تسمية الله جوهرا، بل هذا كله مما ابتدعوه، كما ابتدعوا أيضا تسمية صفات الله ابنا وروح القدس، فهم ابتدعوا ألفاظا لم ينطق بها الأنبياء، أثبتوا لها معاني وابتدعوا استعمال ألفاظ الأنبياء في غير مرادهم، وحملوا مرادهم عليها.

والألفاظ المتشابهة التي يحتجون بها على اتحاد اللاهوت بالناسوت موجودة - عندهم - في حق غير المسيح.

فليس للمسيح خاصة في كلام الأنبياء، توجب أن يكون هو الله أو ابن الله، وتلك الألفاظ قد عرف - باتفاقهم واتفاق المسلمين -، أن المراد بها حلول الإيمان بالله ومعرفته وهداه ونوره ومثاله العلمي في قلوب عباده الصالحين، كما قد بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع وقد تقدم.

ومن قال من ضلال المسلمين: (إن الرب يتحد أو يحل في الأنبياء والأولياء، وإن هذا من السر الذي لا يباح به، فقوله من جنس قول النصارى في المسيح، وهذا كثير في كلام كثير من المشايخ والمدعين للمعرفة والتحقيق والتوحيد، فيجعلون توحيد العارفين أن يصير الموحد هو الموحد، ومنهم من يقول: إن الله يحل في قلب العارف ويتكلم بلسانه، كما يتكلم الجني على لسان المصروع، ويقول الأول:

ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد

توحيد من ينطق عن نعته عارية أبطلها الواحد

توحيده إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد

ومن هؤلاء من يقول: إن هذا هو السر الذي باح به الحلاج وغيره، وهذا عندهم من الأسرار التي يكتمها العارفون، فلا يبوحون بها إلا لخواصهم.

ومنهم من يقول: إنما قتل الحلاج؛ لأنه باح بهذا السر وينشدون:

من باح بالسر كان القتل شيمته بين الرجال ولم يؤخذ له ثار

وأمثال ذلك.

وهؤلاء في دعواهم الاتحاد والحلول بغير المسيح، شر من النصارى.

فإن المسيح - صلوات الله عليه - أفضل من كل من ليس بنبي، بل هو أفضل من جماهير الأنبياء والمرسلين.

فإذا كان من ادعى أن اللاهوت اتحد به كافرا، فكيف بمن ادعى ذلك فيمن هو دونه؟

وهذا الاتحاد الخاص غير الاتحاد والحلول العام لقول الذين يقولون إنه حال بذاته في كل مكان، أو متحد بكل شيء.

وغلاة هؤلاء ومحققوهم يقولون: إنه عين الوجود، والوجود واحد.

فيجعلون الوجود الخالق القديم الواجب، هو عين وجود المخلوق المحدث الممكن.

وهؤلاء مثل ابن عربي الطائي، وصاحبه الصدر القونوي، وصاحبه العفيف التلمساني، وابن سبعين، وصاحبه الششتري، وعبد الله البلياني وعامر البصري وطوائف غير هؤلاء.

وهؤلاء يقولون: إن النصارى إنما كفروا لأنهم خصوا ذلك بالمسيح.

وحقيقة قول هؤلاء هو جحد الخالق وتعطيله، كما قال فرعون: وما رب العالمين وقال: ما علمت لكم من إله غيري

فإن فرعون ما كان ينكر هذا الوجود المشهود، لكن ينكر أن له صانعا مباينا له خلقه، وهؤلاء موافقون لفرعون في ذلك.

لكن فرعون أظهر الجحود والإنكار، فلم يقل " الوجود المخلوق هو الخالق ".

وهؤلاء ظنوا أنهم يقرون بالخالق، وأن الوجود المخلوق هو الخالق، وقد بسط الكلام على هؤلاء في آخر هذا الكتاب.

وهؤلاء لهم شعر نظموا قصائد على مذهبهم، كابن الفارض في قصيدته المسماة " بنظم السلوك " حيث يقول:

لها صلواتي بالمقام أقيمها وأشهد فيها أنها لي صلت

كلانا مصل واحد ساجد إلى حقيقته بالجمع في كل سجدة

وما كان لي صلى سواي ولم تكن صلاتي لغيري في أدا كل ركعة

إلى أن قال:

وما زلت إياها وإياي لم تزل ولا فرق بل ذاتي لذاتي أحبت

وقوله:

إلي رسولا كنت مني مرسلا وذاتي بآياتي علي استدلت

فإن دعيت كنت المجيب وإن أكن منادى أجابت من دعاني ولبت

وقد رفعت ياء المخاطب بيننا وفي رفعها عن فرقة الفرق رفعتي

إلى أمثال هذه الأبيات.

وكذلك ابن إسرائيل في شعره قطعة من هذا كقوله:

وما أنت غير الكون بل أنت عينه ويفهم هذا السر من هو ذائق

والتلمساني الملقب بالعفيف، كان من أفجر الناس، وكان أحذق هؤلاء الملاحدة.

ولما قرئ عليه كتاب " فصوص الحكم " لابن عربي قيل له: هذا الكلام يخالف القرآن، قال: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا. فقيل له: إذا كان الوجود واحدا، فلماذا تحرم علي أمي وتباح لي امرأتي؟ فقال: الجميع عندنا حلال، ولكن هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.

وكلام هؤلاء كله متناقض ينقض بعضه بعضا.

فإن قوله: (هؤلاء المحجوبون) وقوله: (قلنا حرام عليكم)، يقتضي الفرق بينه وبين المحجوبين، وبين المخاطب والمخاطب، وهذا يناقض وحدة الوجود.

وإذا قالوا: (هذه مظاهر للحق ومجال) فإن كان الظاهر غير المظهر، والمجلى غير المتجلي، فقد ثبت التعدد، وأن في الوجود اثنين ظاهرا ومظهرا، وإن جعلوهما واحدا، فقد بطل جوابهم

هامش

الخروج 31: 17

الخروج 20: 19

الخروج 34: 29

كما في رؤيا بطرس ورسالة شيث العظيم الثانية.

ذكره في فهرست النديم الذي توفي نحو 377 بقوله: "وله من الكتب كتاب إلى أخيه علي بن أيوب في الرد على النصارى وتبيين فساد مقالتهم وتثبيت النبوة."

متى 11: 11

متى 3: 17، مرقس 9: 7، لوقا 3: 22

متى 11: 2-5، لوقا 7: 19-23

لوقا 1: 28-35

انظر متى 5: 9

لوقا 20: 17

الخروج 4: 22، مزمور 2: 7

متى 10: 20

يوشع 3: 7

يوحنا 20: 17

لوقا 7: 19-23

متى 3: 11، مرقس 1: 7، لوقا 3: 16، يوحنا 1: 27

متى 4: 1-10

ينظر الخروج 33: 20

ينظر مزمور 76: 7-8

مزمور 114

متى 7: 21-22

متى 25: 31-46

لوقا 24: 19، يوحنا 3: 2

2 الملوك 4: 32-35

1 الملوك 17: 21-22

حزقيال 37

الخروج 4: 3

الخروج 8: 16

2 الملوك 5

2 الملوك 2: 8

2 الملوك 11-14

2 الملوك 4

2 الملوك 17: 11-15

انظر يوحنا 11: 41

متى 27: 46، مرقس 15: 34

لوقا 32: 34

متى 11: 25

متى 26: 39

يوحنا 14: 28

يوحنا 5: 30

يوحنا 13: 16. مرقس 9: 37. يوحنا 17: 23

انظر الخروج 33: 21، يوحنا 1: 18

يوحنا 8: 28

انظر يوحنا 12: 49

مرقس 6: 4. يوحنا 4: 43-44

يوحنا 4: 19، 25-26

يوحنا 20: 21

متى 10: 39-40

متى 12: 18

يوحنا 14: 24

يوحنا 15: 1

يوحنا 5: 26

يوحنا 8: 18

يوحنا 8: 40

يوحنا 11: 42

يوحنا 8: 48-55

مزموز 110: 1-4

التكوين 14: 18

الأعمال 2: 22-24

الأعمال 2: 36

مزمور 105: 17-21

لوقا 24: 15-20

مزمور 8: 4-6

مزمور 2: 7-8

الخروج 4: 22

انظر مزمور 2: 7

انظر الخروج 32: 34

التكوين 19: 2

الخروج 7: 1

الخروج 4: 16

المزمور 82: 6

انظر الأمثال 8: 25

انظر لوقا 1: 15-17

متى 24: 36، مرقس 13: 32

متى 19: 16-17، مرقس 10: 16-17، لوقا 18: 18-19

يوحنا 6: 38

متى 16: 13-17

لوقا 9: 18-20، مرقس 8: 27-29

ينظر الخروج 4: 22

ينظر يوحنا 4: 19-25

متى 4: 7

متى 4: 10

متى 26: 39، 42، مرقس 14: 36، لوقا 22: 42

متى 21: 11

متى 13: 57، مرقس 6: 4، يوحنا 4: 44

متى 12: 39-41، لوقا 11: 29-32

مزمور 8: 5، رسالة العبرانيين 2: 9

متى 14: 22-31

متى 17: 15-20

متى 21: 46

متى 20: 20-23، ونظيره مرقس 10: 35-45

لوقا 22: 28-30

متى 26: 53-54

متى 1:1

التكوين 6: 2

مزمور 45: 7

مزمور 132: 10

يوحنا 17: 11

متى 17: 22

كولوس 4: 14

التثنية 33: 2




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...