يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الخميس، 30 مارس 2023

النصيحة الإيمانية في فضيحة بيان عوار الملة النصرانية {من ج1 والمقدمة الي ج4.}

النصيحة الإيمانية في فضيحة بيان عوار الملة النصرانية {عدل العنوان بواسطة المدون}

محتوي الكتاب الفهرسي

1.مقدمة المؤلف 1.

2. الفصل الأول في مذاهب النصارى واعتقادهم

3.الفصل الثاني في دعاويهم وتناقض كلامهم واختلاف أقوالهم | الفصل الثالث فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية، وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات | الفصل الرابع في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد من التوراة والإنجيل

أول الكتاب

النصيحة الإيمانية في فضيحة بيان عوار الملة النصرانية

مقدمة المؤلف

الفصل الأول في مذاهب النصارى واعتقادهم.

الفصل الثاني في دعاويهم وتناقض كلامهم واختلاف أقوالهم.

الفصل الثالث فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية، وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات.

الفصل الرابع في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين – من التوراة والإنجيل

=======================

مقدمة المؤلف

الحمد لله الذي فضل دين الإسلام على سائر الأديان وجعله دينا قيما لا نسخ يعتريه إلى آخر الزمان، وأرشدنا فيه لما يرضيه من أعمال البدن والجنان، وجلى فيه وحدانيته بأوضح تبيان وأقوم برهان، فشهدت العقول السليمة والأفئدة المستقيمة أنه واحد وأحد، ليس له ثان، وأنه الحي القيوم الدائم، و { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ }. يهدي من يشاء للتوحيد والعرفان، ويضل من يشاء فيجعله من ذوي الجحود والكفران. وهو العادل في أقضيته { لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ } و { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }، أحمده على نعمة الإسلام والإيمان وأشكره وأسأله من كرمه الإيمان. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، المنزه عن الضد والند والشريك والأعوان، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله، أرسله الله رحمه للعالمين وجعله خاتم النبيين وسيد المرسلين وناسخا لشرائع الأنبياء المتقدمين بأوضح الحجج وأعظم البراهين، وأنزل عليه القرآن وهداه للإيمان واختار له أشرف الأديان، فظهرت بذلك معجزاته واتضحت بالحق بيناته، فبين السنن والأحكام وقدر قواعد دين الإسلام، فطوبى لمن وفق لاتباع شريعته والاقتداء بدينه وسننه.

والعبد الضعيف الفقير إلى رحمه ربه المستغفر من ذنبه اللائذ بكرم الله، نصر بن يحيى بن عيسى أبي سعيد المتطبب، عفا الله عنه، كان كما قال النبي : « كل مولود يولد على فطرة الإسلام، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه ». [1]

وإنني نشأت على ملة أبوي متبعا لدينهما ومقتفيا لطريقهما إلى أن شملتني ألطاف الله تعالى ورحمته وعمتني أياديه ورأفته، فوفقني الله للإخلاص في توحيده والخلاص من غضبه ووعيده، وأرشدني إلى ما ينجي من هول يوم الميعاد، وصرفني عن طريق الشك والإلحاد ودلني على الهدى فقصدته وهداني إلى الصواب فاتبعته: { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } فعدلت عن الضلال ونبذت ذلك المحال ونزهت الله تعالى عما يقول المبطلون ويعتقده المحلدون، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا: { مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ }، وشهدت بما الله شهد جل جلاله وتقدست أسماؤه، حيث قال عز من قائل: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ }، { وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ }، وأقررت أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت وهو حي لا يموت أبدا، بيده الخير وهو على كل شيء قدير. { هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } { ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } { وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ } { أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } { سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا } { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا } { آَمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آَمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ } { أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه ونبييه الذي أنقذ به من الضلالة وخلص به من الجهالة، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.

وحيث أنقذني الله من الشريعة التي نسخت والملة التي طمست وشرفني بدين الإسلام واتباع شريعة سيد الأنام صلى الله عليه وسلم وعلى آله الكرام وأصحابه مصابيح الظلام؛ أحببت أن أذكر نبذا من أحوال النصارى واختلاف مذاهبهم وآرائهم واعتقاداتهم وضلالهم، أو ما أورد كل صاحب مذهب منهم في معنى الاتحاد والأب والابن والروح القدس، وما تضمنته أناجيلهم عن حال المسيح ابن مريم من حين ولد إلى أن أخذته اليهود وما فعلوا به، وكم كانت الأناجيل وكم هي الآن، وأذكر اتخاذهم الصلبان وتعظيمهم لها وسجودهم للصور وحال قرابينهم وكيف اتخذوها.

وسميت هذه الرسالة: ( النصيحة الإيمانية في فضيحة الملة النصرانية ). وجعلتها مختصرة توضح عقيدتهم وتكشف سريرتهم وتظهر أمرهم وتثبيت كفرهم، إذا وقف عليها منهم من عرف أخبار القدماء وفهم أقوال العلماء وما نقل عن الماضين من شرح أصول الدين ومذاهب المسلمين علم أنه قد سلك مناهج الأغرار وتبع آثار الأغيار. { أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ } { لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }. ليس لاعتقادهم أصل يعوّل عليه ولا برهان يستند إليه، قد اقتدوا بقوم لا يعقلون واغتروا بجهال لا يفقهون. { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ }.

فمن أراد تحقيق أحوالهم وكشف أفعالهم فلينظر إلى علمائهم الموجودين ومشائخهم المتزهدين ورهبانهم المتعبدين ومن حبس نفسه عن اللذات ومنعها من الشهوات، وليجعل ما يشاهده منهم قياسا على ما سمعه عنهم، فإنه دليل على الذي لا نراهم [ من ] الذي نرى، فإنه يجدهم أضعف تأويلا وأضل سبيلا، كلهم قد ضل وأضل كما قال الله عز وجل: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا * أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا * ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا }

وأنا أستغفر الله عز وجل وأتوب إليه مما كنت أعتقده، وأعتمد عليه وأسأله أن يسبل علي رداء عفوه ورحمته ويشملني بلطفه ورأفته، وأن يقيل عثرتي ويقبل توبتي، فإنه مجيب الدعوات ومقيل العثرات { وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ } فلقد عمت في تيار بحر الضلالة وركضت في ميدان الجهالة وشاركت الجاحدين في أفعالهم والمشركين في أقوالهم والكافرين في ضلالهم ووافقت الملحدين في إلحادهم والمجرمين في كفرهم وعنادهم، واعتمدت ما يعتمدونه من شد الزنار [2] والشرك بالله الواحد القهار والوقوف بين يدي الصور والصلبان واتباع أوامر الأساقفة والرهبان والشمامسة ذوي الإفك والبهتان، وتلاوة الأناجيل بالألحان وتناول البرسان [3] والقربان، والدخول إلى بيت المذبح في كل أوان، وموافقتهم في فساد توحيد الله عز وجل من القول بالأقانيم الثلاثة وغيرها مما تضمنته الشريعة النصرانية، ووضع الاحتجاجات التي لا يليق ذكرها، تعالى الله عما يقول الكافرون ويعتقده المشركون علوا كبيرا، { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا }

وقد جعلت هذه الرسالة مشتملة على أربعة فصول:

الفصل الأول في مذاهب النصارى واعتقادهم.

الفصل الثاني في دعاويهم وتناقض كلامهم واختلاف أقوالهم.

الفصل الثالث فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية، وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات.

الفصل الرابع في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه أجمعين – من التوراة والإنجيل

هامش

رواه أحمد والبخاري ولفظه عنده: « ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ...»

ما يلبسه المجوسي والنصراني ويشده على وسطه.

«أقراص تخبز وتحمل إلى البيعة وتثرد في الخمر وتؤكل تقربا»

=====

الفصل الأول

في مذاهب النصارى واعتقادهم

يقولون إن الله – سبحانه وتعالى – جوهر واحد وثلاثة أقانيم: أقنوم الأب وأقنوم الابن وأقنوم روح القدس. وأنها واحدة في الجوهر مختلفة الأقانيم. وقال بعضهم إنها أشخاص وذوات. وقال بعضهم إنها خواص. وقال بعضهم إنها صفات.

وقال بعضهم إن أقنوم الأب هو الذات، وأقنوم الابن هو الكلمة وهي العلم وأنها لم تزل متولدة من الأب لا على سبيل التناسل بل كتولد ضياء الشمس من الشمس، وأن أقنوم روح القدس هو الحياة وأنها لم تزل فايضة بين الأب والابن.

والأقنوم عندهم هو الشخص.

مذاهب النصارى

والنصارى ثلاثة مذاهب: اليعقوبية والملكية والنسطورية.

[اليعقوبية]

أما اليعقوبية فإنهم فرق كثيرة، وهم يقولون إن المسيح – عليه السلام – طبيعة واحدة من طبيعتين: إحداهما طبيعة اللاهوت والأخرى طبيعة الناسوت؛ [1] فإن هاتين الطبيعتين تركتبا كما تركبت النفس مع البدن واتحدتا فصارتا إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وإلها واحدا؛ وإن هذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله، وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين. ومنهم من يقول إنه بمعنى الممازجة، فصار منها شيء ثالث كما تمتزج النار بالفحمة فيصير منها جمرة، والجمرة ليست نارا خالصة ولا فحمة خالصة، وهذا موافق لما في تسبيحة إيمانهم [2] من قولهم: « نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا » ولذلك قالوا: المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين.

ويقولون [3]: إن مريم ولدت الله عز وجل وأنه تألم وصلت متجسدا ودقت المسامير في يديه ورجليه ومات ودُفن وقامن من بين الأموات بعد ثلاثة أيام وصعد إلى السماء.

[النسطورية]

أما النسطورية فإنهم فرقة واحدة، وظاهر قولهم أن الاتحاد على معنى المساكبة وأن الكلمة جعلته محلا ادرعته ادراعا، وكذلك قالوا إن المسيح جوهران وأقنومان. وقال بعضهم إن الاتحاد وقع به كما اتحد نقش الفص بالشمع وصورة الوجه بالمرآة من غير أن يكون قد انتقل النقش من الفص إلى الشمع أو الوجه إلى المرآة. وقال بعضهم: اتحاد الكلمة هي أن ظهرت على يديه بإظهار المعجزات عليه.

وقالوا أيضا: إن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة وإن طبيعة اللاهوت التي للمسيح هي غير طبيعة الناسوت، وإن طبيعة اللاهوت لما اتحدت بالناسوت وبالكلمة صارت الطبيعتان بجهة واحدة وإرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزد بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بذلك إلها وإنسانا، وهو إله بجوهر اللاهوت الذي لا يزيد ولا ينقص، وهو إنسان بجوهر الناسوت القابل للزيادة والنقصان.

وقالوا إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط منذ اتحد بناسوته.

[الملكية]

وأما الملكية [4]، وهم الروم وغيرهم، فيقولون: إن الابن الأزلي الذي هو الكلمة، وإن الكلمة هي الحائلة والمصورة والمفصلة للمعاني التي بها يكون التعقل، ليس هي الكلمة الصوتية ولا النطق الجرمي، تجسد من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس وركب في ذلك الجسد نفسا كاملا بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وإنه صار إنسانا بالنفس والجسد اللذين هما من جوهر الناسوت، وإلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان، وهو الناسوت، مثل إبراهيم وداود عليهما السلام. وهو شخص واحد لم يزد عدده، وطبيعتان، ولكل واحد من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بالاهوتية مشيئة الأب والروح القدس، وله بناسوته مشيئة إبراهيم وداود.

وقالوا إن مريم ولدت إلها وإن المسيح هو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، والناسوت مات. وقالوا إن الله لم يمت، وإن الذي ولدته مريم مات بجوهر ناسوته وله مشيئة اللاهوت والناسوت، وهو شخص واحد، لا نقول شخصين لئلا يلزمنا القول بأربعة أقانيم. [5] فأتوا من القول أيضا بمثل ما أتت به اليعقوبية في ولادة مريم الله - عز وعلا وتنزه عما يقوله المبطلون.

وقالوا إن المسيح اسم لا يشك كافة النصارى أنه واقع على اللاهوت والناسوت، والناسوت مات، وإن الله لم يمت. فكيف يكون ميتا لم يمت؟ وقائما قاعدا في حال واحد؟ وهل في المقالتين إلا ما اختلفوا فيه من الطبائع؟ فهذه جملة قولهم وخلاصته.

فصل في مناقشة عقائدهم ودحضها

أما من قال إن الأقانيم ذوات وآلهة قديمة، فقوله مردود بما يبطل به من قال بأزيد من قديم واحد. ولا يخلو أن تكون الآلهة الثلاثة متساوية في العلم والقدرة والحكمة أو متفاضلين، فيعلم بعضهم أو يقدر على أجناس لا يقدر عليها الآخر. فإن تساووا كان ما زاد عن الواحد فضلا غير محتاج إليه. ومن تبصر مقالتهم لا يجيز أن يكون في الحوادث – فضلا عن القدماء – ما لا معنى في وجوده. وإن تفاضلوا كان المفضول ناقصا، ولا يسوغ إدخال النقص على الآلهة.

وقولهم في تسبيحة إيمانهم "إن الابن من جوهر أبيه" وإذا كان الأب والابن قد اشتركا في أمر جوهري عمهما عموم طبيعته، فبم انفصل أحدهما عن الآخر؟

لا يخلو أن يقولوا انفصل؛ فلا فرق بين الأب والابن ولم كان الأب مولدا بأولى أن يكون الابن مولدا للأب؟

وإن قالوا انفصل بفصال؛ أثبتوا التركيب لكل واحد منهما، وهم يأبون ذلك، ولا يلزمنا نحن مثل ذلك لأنا لا نقول إن الباري – سبحانه وتعالى – من جنس شيء آخر فيحتاج إذا انفصل عن ذلك الشيء كان مركبا، وإذا جاز أن يتولد عن الأب ذات فيما لم يزل، مثل تولد ضياء الشمس عن الشمس، ولا يكون متقدما عنه بزمان، جاز أن يكون العالم بأسره متولدا عن الأب على هذه الجهة، وفي ذلك قدم العالم والاستغناء عن تولد ابن ليخلق العالم كما قالوا في تسبيحة إيمانهم: « الذي بيده أتقنت العوالم كلها، وليس بمصنوع، إله حق من إله حق، من جوهر أبيه ».

وأما من قال إن الأقانيم خواص وصفات، فإنهم إذا قالوا إنها ثلاث صفات لا بد لها من موصوف، وفي ذلك قدم أربعة.

وأما قولهم في الاتحاد فهو أشنع المذاهب وأفحشها، ولو أن قوما أسبلوا قناع الخزي على وجوههم بفحش مذاهبهم لكان النصارى في قولهم بالاتحاد.

فاليعقوبية إذا قالوا إن المسيح جوهر من جوهرين وأقنوم من أقنومين لا يخلو أن يقولوا إن أحدهما أبطل الآخر وأخرجه عما كان عليه عند الاتحاد أو كان واحد منهما بحاله لم يتغير ولم يبطل الآخر، فإن قالوا إن كل واحد منهما لم يتغير عما كان عليه خرجوا عن قولهم إلى قول النسطورية في أنهما باقيان بحالهما جوهران وأقنوما بعد الاتحاد. وإن قالوا أحدهما قد غير الآخر وأبطله، كانوا قد أقروا ببطلان الإله ولزمهم أن يكون المسيح لا قديما ولا محدثا ولا إلها ولا غير إله، إذا كان كل واحد منهما قد خرج عما كان عليه إلى مشابهة الآخر، والعيان شاهد بأن ناسوت المسيح كان على ما كان عليه ناسوت غيره من الناس.

وإن قالوا إن اللاهوت أبطل الناسوت، كان العيان يبطل قولهم. فإن ناسوت المسيح مثل ناسوت غيره في الجسمية واللحمية.

وإن قالوا الناسوت أبطل اللاهوت، لزمهم أن يكون المحدث يبطل القديم، ولئن جاز ها جاز أن يبطل الأب المحدث.

وأما النسطورية في قولهم "إن المسيح جوهران وأقنومان" لا يخلو أن يقولوا إن الجوهرين قديمان أو محدثان أو أحدهما قديم والآخر محدث. فإن كانا قديمين فقد أثبتوا قديما رابعا هو ناسوت المسيح؛ وإن كانا محدثين كانوا قد قالوا بحدوث الابن الأزلي وعبدوا ما ليس بإله لأنهم يعبدون المسيح. وإن قالوا أحدهما قديم والآخر محدث، كانوا قد عبدوا القديم والمحدث لأنهم يعبدون المسيح وهو عندهم مجموع الجوهرين القديم والحادث.

وقولهم إن الابن اتحد بعيسى دون الأب على سبيل الممازجة والمساكبة لا يتم إلا مع كون الأب والابن ذاتين غيرين، وقد تقدم الكلام عليهم إذ قالوا بالذوات الثلاث، وعليهم شاهد من أنفسهم لا يمكنهم دفعه.

إن شريعة إيمانهم التي ألفها رؤساؤهم من البطاركة والمطارنة والأساقفة والأحبار في دينهم وأهل العلم منهم في حضرة الملك قسطنطينوس عند اجتماعهم من آفاق الأرض بمدينة قسطنطينة لما جمعهم لأجل عمل الإنجيل وكانوا ثلاثة مائة وثمانية عشر نفرا يدل على أنهم أرادوا بالأقانيم الذوات وأن التسبيحة أنطقتهم بها روح القدس، وهم الذين لم يختلف جماعتهم عند اختفلافهم في المقالات فيها ولا يتم لهم قربان إلا بها على هذا النسق الذي أبينه في تسبيحاتهم وهو: نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد أيشوع المسيح ابن الله بكر الخلائق كلها وليس بمصنوع، [ إله حق من إله حق، ] من جوهر أبيه الذي بيده أتقنت العوالم كلها وخلق كل شيء، ومن أجلنا معشر الناس ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا، وحُبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب في أيام تيطيوس وبيلاطوس ودُفن وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء، ونؤمن بروح القدس الواحد روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا وبجماعة قديسية سليحية جاثليقية وبقيامة أبداننا والحياة الدائمة إلى أبد الآبدين.

فهذا اعتقاد جميع فرق النصارى، لا يختلفون في شيء منه أبدا وكلهم متفقون على هذا الإيمان ويبذلون فيه المهج وإخراج الأنفس دونه، وقد اعترفوا جميعهم بأن الرب المسيح الذي صفته على ما تقدم شرحه أنه [ الإله ] الحق نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا وحبل به وولد من مريم البتول وتألم وصلب. فانظروا ما في هذا الاعتقاد من التناقض وكم قد جمع من أنواع الفساد والبطلان. قولهم "نؤمن بالله الأب مالك كل شيء صانع ما يرى وما لا يرى" قد أثبتوا أن الابن الذي يعنونه المسيح مملوك مصنوع لأنه شيء [ من ] الأشياء، فهو مملوك. [6] ولا يخلو أن يكون مما يرى أو مما لا يرى، فهو مصنوع. [7] ثم نقضوا ذلك بقولهم "وبالرب الواحد يشوع المسيح بكر الخلائق كلها الذي ولد من أبيه قبل العوالم كلها". فهذا لا يعقل إلا إذا تقدمه زمان. ثم قالوا "وليس بمصنوع [ إله حق من إله حق ]" فهل في التناقض أبين من هذا – أن يقولوا مولود، وهو في معنى مفعول: مصنوع ليس بمصنوع! ثم قالوا من جوهر أبيه، وقد تقدم الكلام على أنه من جوهره. ثم قالوا "بيده أتقنت العوالم وخلق كل شيء" فهذا يلزم منه أن يكون مثلا للأب لأنهم قالوا في الأب: "صانع ما يرى وما لا يرى" وقالوا في الابن "خالق كل شيء، وهو من جوهر أبيه" فهذا يوجب التماثل من قبل الجوهر والأفعال. ومع التماثل وعدم الاتصال فما الذي أوجب كون هذا أبًا؟ فهل يستحسن عاقل أن يبقى على اعتقاد مثل هذه الأباطيل والخرافات والتناقضات أو يتبع من هذا قدر عقولهم وعلومهم واعتقاداتهم ومذاهبهم؟

الحمد لله الذي خلصني من دين هذا عقل أربابه، [8] تارة يعترفون أن مريم ولدت المسيح وهو الجامع لللاهوت والناسوت ويقولون إنه مات، فهل وقعت الولادة والموت وسائر الأفعال التي ذكر النصارى أنها فعلت بالمسيح إلا عليه؟ فكيف يصح لذي عقل عبادة المولود من امرأة بشرية قد مات ونالته العلل والآفات؟

فإن قلتم إن المصلوب هو الله عز وجل، فمريم على قولكم ولدت [ الله ]. وإن قلتم ولدت إنسانا، فإن المقتول المصلوب هو إنسان؛ ففي ذلك أجمع بطلان شريعة إيمانكم، فاختاروا أي القولين شئتم فإن فيه نقض دينكم.

وقد يجب على ذوي العقول أن يزجرهم عقلهم عن عبادة ’إله‘ ولدته امرأة بشرية آدمية ثم مكث على وجه الأرض ثلاثين سنة تجري عليه الأحكام كالآدميين من غذاء وتربية وصحة وسقم وأمن وخوف وتعلم وتعليم. ما يسعكم أن تدعوا أنه كان منه في حال من تلك الأحوال من أسباب اللاهوتية شيء، ولا مخرج له من أحوال الآدميين كلها في حاجاتهم وتصرفاتهم وضروراتهم ومهنهم ومحنهم. ثم إنه أحدث بعد هذه المدة الطويلة ما أحدثه من أمر الله تبارك وتعالى، والنبوات والآيات الباهرة المعجبة بقوة الله. وقد كان لغيره من الأنبياء مثلها بل ما هو أعلا منها. وكانت مدته في ذلك أقل من ثلاثين سنة ثم انقضى أمره كما تصفون أنه انقضى، وتنسبون إليه من حبس وضرب وقذف وتغلب. ولسوف أورد ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى، كما حكي في الأناجيل.

فهل تقبل العقول ما يقولون إن إلها نال عباده منه ما يذكرون أنه نيل منه؟

فإن قلتم إن ذلك حل بالجسم، فإن القياس لا يحتمل ذلك ما شرحناه في معنى اتحاد اللاهوت به. أفليس قد وقع بجسم اتحدت اللاهوتية به وحلت الروح فيه وقد انتخبه الله على ما تصفون لخلاص الخلق وفوض إليه القضاء بين العباد في اليوم الذي تجتمع فيه الأولون والآخرون للحساب؟

وقد رويتم أن أقواما تعرضوا للتوابيت التي فيها صلحاؤكم فجفت أيديهم. فهل نال أحد من الجزع والهلع والقلق والتضرع إلى الله تعالى في إزالة ما حل به مثل ما حكيتموه في الأناجيل أنه ناله؟

وقد وجدنا في قصص القديسين والشهداء أنه نال جماعة كثيرة يطول ذكرهم من الجور والعذاب الشديد والقتل والحرق والنشر بالمناشير والطحن وتقطيع الأعضاء من الجمل، ما فعل بأشموني وأولادها السبعة، مما لم يسمع أحد بمثله. ونال خلقا كثيرا من تلاميذه أيضا عذاب عظيم لما كان الملوك المجاورون لهم يسومونهم إياه لإرجاعهم من دينهم إلى الكفر الذي كان أولئك عليه، ولم يهربوا من الموت. وقد كان يمكنهم الهرب والاستتار. وما أظهروا في حال من تلك الأحوال جزعا ولا هلعا، وهم بعض الآدميين. ولا سألوا أن يخفف عنهم ما كانوا فيه من العذاب.

[تقديسهم الصليب]

ثم إنكم تتخذون الصليب من المعادن أو النباتات وتعظمونه كتعظيم المسيح وتضعونه في قبلتكم على منبر عال وتحته الثياب الفاخرة وفي خدمته جماعة من الكهنة قد كشفوا رؤسهم ولبسوا الطيلسانات وشدوا أواسطهم بالزنانير ومعهم البخور والشمع المشعول وهم يهللون بأعلى أصواتهم، وينقاد إلى خدمته الجماعات على تلك الحال أيضا ويقبلون الأرض بين يديه ويلثمونه.

[الصور والتماثيل]

ثم إنكم تتخذون الصور من المعادن وغيرها وتجعلونها في بيوتكم وبيوت عباداتكم وتعطونها أوفى حظ ونصيب من الإكرام والإعزاز الاحترام. وما رأينا أعجب من حال من يقف قدام ما تعمله الأيادي ويسأله قضاء حوائجه ونجاح أموره! ومع هذا تجحدون أنكم عباد الأوثان والأصنام.

[القربان]

ثم إنكم على اختلاف اعتقاداتكم تتقربون في كل يوم أحد وفي كل عيد بقربان تتخذونه من دقيق الحنطة وتعجنونه بالماء والزيت وتخبزونه، ويكون الصانع الذي صنعه مكشوف الرأس مشدود الوسط بالزنار ويتلو أشياء من مزامير داود النبي عليه السلام. وتتخذون شيئا من الخمور وشيئا من الخبز وتضعونه في بيت البيعة وتسمونه المذبح. وهو عندكم بمنزلة بيت المقدس لا يدخله إلا الكهنة منكم – لا غير – وهو متأهبون ورؤسهم مكشوفة، فيضعونه على دكة في ذلك البيت ويضعون على تلك الدكة الصور والصلبان والأناجيل. ثم يقف جماعة من الكهنة بالبخور والشمع المشعول يقدسونه بأرفع الأصوات ثم يقسمونه على الشعب. ويزعمون أن الخبز لحم المسيح والخمر دمه، وما يتخلف منه ولم يقدس فهو جسد مريم عليها السلام.

هامش

اللاهوت من إله بمعنى الإلوهية وكونه إلها على زعمهم، والناسوت من ناس أي إنسانيته وكونه بشرا.

أي قانون إيمانهم ويسمونها أيضا الأمانة.

أي اليعقوبية.

أو الملكانية، الذين على مذهب ملك أي إمبراطور الروم.

لأن معنى أقنوم شخص.

عبد

مخلوق

أصحابه

====

الفصل الثاني

في تناقض كلامهم ودعاويهم واختلاف أقوالهم

قالوا إن الاتحاد لم يكن على سبيل ممازجة ولا مساكبة، كاتحاد نقش الفص في الشمع وصورة الوجه في المرآة.

يقال لهم: أليس الاتحاد في الكلمة؟

فإن قالوا نعم، وهو أن يثبت معناها والعلم بها في نفس المسيح؛

قيل: قد ثبت في نفسه وفي نفس الأنبياء، وبغير معنى الأب والابن والروح القدس، فيجب أن تكون الأقانيم الثلاثة متحدة بالمسيح وبالأنبياء وغيرهم. ثم كيف يصح من المسيح الأفعال الإلهية من اختراع الأجسام من أجل أنه عرف الكلمة، فإن المعرفة بمخترع الإجسام لا تستثني اختراع الأجسام.

وإن قالوا: معنى اتحاد الكلمة به هو أن تحل بمثلها، فحصلت له كلمة مثلها؛ فلم يخل أن يقولوا إن المسيح علم ما علِمه الله عز وجل جميعه أو علم بعض ما علمه. فإن قالوا بعض ما علمه الله، فغيره من الأنبياء قد علم بعض ما علمه الله. فإن قالوا علم جميع ما علِمه الله، فالإنجيل الذي بيدهم الآن على خلاف قولهم هذا لأنه يحكي أن المسيح سئل عن القيامة فقال: « إن هذا لا يعرفه الملائكة ولا الابن، وإنما يعرفه الأب وحده »، [1] فحكم بأن الابن لا يعلم جميع ما يعلمه الأب، مع أن العلم بالأشياء لا يصحح الأفعال الإلهية.

وأما من قال إن معنى الاتحاد أن ظهرت الكلمة بالتدبير على يديه وإظهار المعجزات عليه، فيلزمهم أن لا تكون المعجزات من فعله وهو يأبون ذلك. ويلزمهم أن تكون الكلمة قد اتحدت بكل من ظهرت المعجزات عليه، إذا كانت المعدزات الدالة على الكلمة ظاهرة على أيديهم، ولا يليق هذا بما في التسبيحة من أن الابن تجسد وصار إنسانا وحبل به وولد وقتل وصلب وصعد وجلس عن يمين أبيه.

وأما الشبهة التي وقعت لقوم منهم في قولهم إن المسيح فعل أفعالا إلهية وأفعالا إنسانية، فلذلك قالوا إن للجوهر الإنساني نسبا وقسطا.

والجواب أن الأفعال الإلهية ظهرت عليه ولم يكن هو الفاعل لها، كما ظهرت على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فالمظهر هو الله عز وجل دونهم، وإن نسبت إليهم لظهورها على أيديهم. وقيل إن موسى عليه السلام فلق البحر وقلب العصا حية، وكما لم يدل ذلك على أن في موسى ذاتا إلهية فكذلك ما ظهر على يد المسيح عليه السلام.

ويحكون عن المسيح عليه السلام أنه قال: "أنا بأبي وابي بي". وقالوا هذا من الحجة على الاتحاد وليس كذلك. فقد قال يوحنا في الإصحاح السادس عشر من إنجيله أن المسيح تضرع إلى الله في تلاميذه وقال: "يا أيها الأب القدوس، احفظهم باسمك الذي أعطيتني ليكونوا هم أيضا شيئا واحدا، وكما أنك أرسلتني فكذلك أرسلهم، فأنا بهم وأنت بي." ومعنى ذلك: أنك معي كما أني مع تلاميذي وأنك أرسلتني إلى الخلق لأدعو إليك وكذلك أرسلتهم إلى عبادك. لو لم يكن كما قلنا لكان معناه على قولهم أن الله بالمسيح بمعنى أن قوامه به، وهذا كفر لأن قوام كل شيء بالله يوجب التداخل والامتزاج، وهو أن يكون الله في المسيح والمسيح في الله، وأن يكون تلامذته متداخلين فيه وهو متداخل في تلامذته، وهذا ظاهر الفساد.

وحكوا عن المسيح أنه قال: "لا يصعد إلى السماء إلا من نزل من السماء".

وهذا الكلام له وجوه في التأويل، منها أن المراد به أن الملائكة التي تصعد إلى السماء هي التي نزلت من السماء. ووجه آخر أنه لا يصعد إلى السماء من أعمال الناس إلا ما كان زكيا مأخوذا عن الوحي والتنزيل. ولو كان كما زعموا وصح ما أوردوا وأخذوا بظاهر ما حكوا، فقد صعد إلى السماء فيما يزعمون غيره ولم يكونوا نزلوا من السماء، وهم أخنوخ وإلياس. فهم في ذلك بين أمرين: إما إبطال الخبر وتكذيب من نقله أو القبول له وتأويله على غير ما أوردوه، ويلزمهم على ذلك أن يكون قد صعد إلى السماء جملة المسيح، أعني جسمه مع لاهوته على قولهم، والناسوت لم ينزل من السماء، فقد صعد إلى السماء من لم ينزل منها.

وحكي عن المسيح أنه قال: "إن إبراهيم تشوق إلى أن يرى يومي هذا، فقد رآني وابتهج بي، من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا". وهذا مما يحتجون به في إبطال وحدانية الله سبحانه وتعالى.

وهذا إن صح عن المسيح فله في التأويل مساغ، وهو أن يكون إبراهيم أعلمه الله تعالى ذلك، وقد يعبر عن العلم بالرؤية ويقال رأيت بمعنى علمت. وجاء في الخبر أن اليهود أنكرت هذا القول على المسيح فقالت: إنك لم تبلغ بعد أربعين وتزعم أنك رآك إبراهيم؟ فقال المسيح: نعم أقول لكم هذا حق، ثم وصل الكلام فقال: من قبل أن يكون إبراهيم كنت أنا؟ فجعله استفهاما وليس بخبر، كأنه لما قال إن هذا هو الحق على الوجه الذي أولته ونفى ما ظنوا أن يكون من رآه من طريق المعاينة والمشاهدة بهذا التوبيخ الذي خرج مخرج الاستفهام ولم يفهم لليهود ونفروا منه فانصرف من بينهم.

ومما يؤكد ما قلناه أن متى قال في إنجيله: « كان مولد أيشوع المسيح بن داود بن إبراهيم » [2] فإن [ ابن ] إبراهيم لا يكون قبل أبيه. ثم كيف يصح أن يكون قبله على قولهم وهو في هذه الحالة لحم ودم، ولم يكن عندهم قبل إبراهيم لحم ولا دم؟ ولو قالوا ذلك نقضوا تسبيحة إيمانهم أنه تجسد من مريم بعد نزوله، ففي هذا كفاية.

[اختلاف الإنجيليين]

وقد اختلفت التلامذة الأربعة الذين جمعوا الإنجيل وزادوا ونقصوا. فمن ذلك ما ذكره يوحنا إن أول آية أظهرها المسيح بقرية قاطبا الجليل – أنه كان في دعوة فحول الماء شرابا. ولم يذكر هذه الآية أصحابه الثلاثة، فإن هم كانوا قد تركوا ذكرها لأنهم غابوا عنها ولم يكن عندهم من اليقظة والعناية بأمر المسيح وأخباره ما يدعوهم إلى المسألة عنها. وما يؤمنكم أن يكونوا قد غابوا عما هو أعظم وأهم من هذه؟ فكيف يخفى خبر مثل هذه الآية على أمثالهم، بل على بلدانهم، فضلا عن الغرباء والأصحاب؟ وإن جاز على مثلهم هذا الغلط فلعل يوحنا قد أسقط وغلط وغاب مثل غيبتهم، فضاعت أمور وسقطت سنن ونسيت فرائض؛ وأن يوحنا ذكر ما لا يقبله هؤلاء الثلاثة ولا صدقوا به فتحرجوا من ذكره، فيكون هذا طعنا فيه. ومن ذلك أن يوحنا وحده ذكر أن المسيح قام وغسل أقدام تلامذته ومسحها بمنديل كان مشدودا في وسطه،[3] وأمرهم أن يقتدوا به في التواضع والبر. ولم يذكر هؤلاء الثلاثة. ومثل هذا إذا كان في مثل المسيح بحضرة جماعة حوارييه لا يكون مستورا ولا يختص بعلمه واحد دون آخر، بل يتسامع به الناس ويخبر الشاهد الغائب، لأنها سنة أمر بها في التواضع، فقد ضيعوا ذكرها أو لم يصح عندهم الخبر، فيكون طعنا في يوحنا.

ومنها أن يوحنا التلميذ ذكر في الإصحاح الأول أن المسيح أتى [ يوحنا المعمدان ] فيمن كان يأتيه من بني إسرائيل للانصباغ على يده، فلما وقع بصره على المسيح قال: هذا خروف الله الذي تحمل خطايا العالم، وهو الذي قلت إنه يأتي بعدي، وهو أقوى مني، وإني لا أستحق أن أحل مقعد خفيه، وهو الذي في يده المحرقة، ويبقى مدره فيجمع الحنطة في إهابه ويحرق الأتبان بالنار التي لا تطفأ، وهو الذي قلت إنه متقدم لي. [4]

وخالفه في ذلك صاحباه متى ولوقا، وأما مرقس فإنه لم يذكر ذلك البتة.

وأما متى فقال في إنجيله إن يحيى بن زكريا حين رأى المسيح قال له: "إني محتاج إلى أن أنصبغ على يديك، وها أنت قد جئتني لذلك" [5] وقال يحيى بن زكريا أيضا: "إن الذي يجيء بعدي أقوى مني" [6] والمسيح لم يجئ بعده بل معه. فالذي عناه بذلك غير المسيح، بل المراد به النبي محمد . وأنه بعد ذلك أرسل إلى المسيح مع تلامذته وقال: أنت الذي تجيء أو نتوقع غيرك؟ [7] فهذا خلاف ما قاله يوحنا. ولئن كان ثلاثة ألفوا ذكر ذلك، وفيه أعظم القوة وآكد الحجة، فما يؤمن أن يكونوا ألفوا ما هو أكثر وأهم منه؟

وفي كلام يحيى معان حسنة، منها أن المسيح يحرق الأتبان بالنار – يعني الفجار – وهو خلاف ما يعتقده النصارى من أن الخطيئة ارتفعت بمجيئه. ومنها أن أكثر ما قيل في المسيح أنه أقوى مني، فهكذا يقول مثل يحيى من الخاشعين الصالحين.

ومن ذلك أن الإنجيل ينسب يوسف النجار الذي كان خطيب مريم. فقال متى إن يوسف بن يعقوب بن مايان. [8] وقال لوقا إن المسيح كان يُظن أنه ابن يوسف بن هاد بن مطث. [9] وهذا خلاف بين وفساد ظاهر. ثم قول لوقا إن المسيح كان يظن أنه ابن يوسف: شك منه، وقبيح بمثله أن ينسب المسيح إلى ما يظن به الجهال أنه مولود من أب ولا يرفع قدره عن ذلك.

ولو ذكرت التخاليط التي ذكرها كل واحد منهم واختلافهم وتناقضهم لطال الكلام.

ولقد حرفوا كتبهم وأفسدوا معانيها وأسقطوا حجج الله سبحانه وتعالى عليهم منها، حتى أنهم يعظمون مثل غريغورس ويقولون إنه يتكلم بروح القدس، وهو القائل في خطبته عن مولد المسيح: إن الذي لا يتألم ولا يضطجع صار مضطجعا، والذي لا يحس صار محسوسا، والذي لا يحد صار محدودا، وصار الخالق مخلوقا. وقال إن من لم يقل إن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله.

[أم المسيح]

ولأصل أم المسيح عندكم وجوه. منها البشرى التي أتى بها جبريل على ما ثبت في إنجيلكم لمريم حين بشرها وقال: « السلام عليك أيتها الممتلئة نعما، ربنا معك أيتها المباركة في النساء. » فلما رأته مريم ذعرت منه فقال لها: « لا ترهبي يا مريم، فقد فزت بنعمة من ربك، منها أنك تحبلين وتلدين ابنا وتسمينه يسوع، ويكون كبيرا ويسمى ابن الله العلي، ويعطيه الله الرب كرسي أبيه داود، ويكون ملكا على آل يعقوب إلى الأبد. » [10] قالت مريم: أنى يكون لي ولد، ولم يمسسني بشر؟ قال لها الملك: إن روح القدس يأتيك وقوة العلي تحلك، من أجل ذلك يكون الولد الذي يولد منك قديسا، ويسمى ابن الله العلي.

فلم نر الملك قال لها إن الذي تلدين هو خالق وهو الرب كما سميتموه، بل أزال الشك في ذلك بأن قال: إن الله يعطيه كرسي أبيه داود ويصطفيه ويكرمه، وأن داود أبوه وأنه يسمى ابن الله. وما قال أيضا إنه يكون ملكا على الأرض، وإنما جعل الملك على بني إسرائيل فقط.

[معنى ابن الله في كلامهم]

وقد علمتم أن من سمي ابن الله كثيرون لا يحصون. فمن ذلك إقراركم جميعا أنكم أبناء الله بالمحبة، وقول المسيح « أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم » [11] في عدة مواضع من الإنجيل. ثم تسمية الله تعالى يعقوبَ وغيره بنيه خصوصا. [12]

فالسبيل في المسيح إذا لم يلحقوه في هذا الاسم بالجمهور أن يجري في هذه التسمية مجرى الجماعة الذين اختصوا بها من الأنبياء والأبرار.

ونسب الملك إياه إلى أن أباه داود، وحلول روح القدس عليه على الجهة التي قالها متى التلميذ للشعب في الإنجيل « لستم أنتم تتكلمون، بل روح أبيكم » [13] فأخبر بأن الروح تحل في القوم أجمعين تتكلم فيهم.

وقال الملك أيضا في بشارته لمريم بالمسيح: « إنه يكون ملكا على آل يعقوب. » فخص آل يعقوب بالملكية عليهم دون غيرهم من الناس، ولم يقل إنه يكون إلها للخلائق.

ومعنى قول جبريل « ربنا معك » مثل قول الله عز وجل لموسى وغيره من الأنبياء « إني معكم »، وقوله تعالى ليوشع بن نون: « إني أكون معك كما كنت مع موسى عبدي. » [14]

ومنه النداء الذي أسمعه الله تعالى ليحيى بن زكريا من السماء في المسيح وشهادة يحيى له. فإن متى قال في إنجيله إن المسيح لما خرج من الأردن فتحت له السماء ونظر يحيى إلى روح القدس قد نزلت على المسيح كهيئة حمامة وسمع نداء من السماء أن هذا هو ابني الحبيب الذي اصطفيته. [15]

وقد علمنا وعلمتم أن المصطفى مفعول، والمفعول مخلوق. ولم يستنكف المسيح من الاعتراف بذلك في كل كلامه، وما زال يقول « إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم » وكل ما يصحح أنه عبد مرسل مربوب مبعوث بأمور، يودي ما سمع ويفعل ما حد له.

وقد وجدنا المسيح احتاج إلى أن يكمل بره بمعمودية يحيى فصار إليه ذلك، وسأله إياه – وليس مرتبة المقوصد دون مرتبة القاصد الراغب – وقال لوقا التلميذ في إنجيله: إن يحيى المعمدان أرسل إلى المسيح بعد أن عمده وسأله: هل أنت الذي يجيء أو نتوقع غير؟ فكان جواب المسيح لرسله: ارجعوا وأخبروه بما ترون، في حال عميان يبصرون وزمنى ينهضون وصم يسمعون، وطوبى لمن لم يغتر أو يزل في أمري. [16]

فوجدنا يحيى - مع محله وجلالة قدره عند الله تعالى، ثم ما شهد به المسيح له أنه ما قامت النساء عن مثله [17] - قد شك فيه واحتاج أن يسأله عن شأنه. ثم لم يكن من جواب المسيح له شيء مما تصفونه من الربوبية ولا قال إني خالقك وخالق كل شيء كما في شريعة إيمانكم، بل حذر من الغلط في أمره والاغترار به. ولا كان من قوله أكثر من ذكر ما أظهره بنبوته من هذه الآيات التي لم يسبقه إلى مثلها أكثر الأنبياء، وما رأينا يحيى زاد في وصفه إياه لما ذكر – مع تشككه في أمره وحاجته إلى مسألته عن حاله – على أن قال إنه أقوى مني وإني لا أستحق أن أحل مقعد خفيه، ولم يقل إنه خالقي. وقد يقول الرجل الخير فيمن هو دونه مثل الذي قال يحيى فيه تواضعا لله وخشوعا، كما قال المسيح في يحيى إنه ما قامت النساء عن مثله.

فقد كذبتم يا معشر النصارى ما أتت به الرسل والنبوات في أمر عيسى، وهو أصل دينكم الذي وقع ثناؤكم عليه، وجعلتم لأنفسكم شريعة غيرها. وثل الذي عقد هذه الشريعة لكم مثل من آمن بنبوة رجل يتبرأ من النبوة، لأن المسيح يقول إنه مربوب مبعوث. [18] وجبريل يقول إنه مكرم مصطفى وأن أباه داود وأن الله جعله ملكا على آل يعقوب. وينادي مناد من السماء بمثل ذلك. ويشهد يحيى وغيره أنه معطى وأن الله معطيه. وتقولون أنتم بل هو رازق النعم وواهبها. وهو يقول إن الله أرسله، وأنتم تقولون بل هو الذي نزل لخلاصنا، وتعتقدون أن سبب نزوله من السماء أنه أراد أن يخلصكم ويحتمل الخطيئة ويربط الشيطان. وقد وجدنا الخلاص لم يقع والخطيئة قائمة، ولم يزل الشيطان أعتى مما كان، لم يربط، بل سلطه الله عليه على ما تقولون فحصره في الجبل أربعين يوما يمتحنه. فقال في بعض أحواله معه: إن كنت ابن الله فقل لهذه الصخور تصير خبزا، فقال له المسيح مجيبا: إنه مكتوب أن حياة الإنسان لا تكون بالخبز بل بكلمة تخرج من الله. ثم سافر الشيطان إلى بيت المقدس وأقامه على قرن الهيكل وقال له: إن كنت ابن الله فارمِ بنفسك من ههنا، فإنه مكتوب أن الملائكة توكل بك لئلا تتغير رجلك. فقال عيسى: ومكتوب أيضا أن لا يجرب الرب إلهك. ثم سافر إلى جبل عال فأراه جميع ممالك الدنيا وزخارفها وقال له: إن خررت على وجهك ساجدا لي جعلت هذا الذي ترى كله لك، فقال المسيح: اعرف أيها الشيطان أنه مكتوب: اسجد للرب إلهك ولا تعبد شيئا سواه. [19] ثم بعث الله ملكا اقتلع العدو من مكانه ورمى به في البحر، وأطلق الله سبيل المسيح.

أفلا يعلم من كان في عقله أدنى مسكة أن هذا الفعل لا يكون من شيطان إلى إله؟ ولو كان إلها لأزاله عن نفسه قبل أن يربطه عن خليقته. فهذه الأمور إذا كانت تأملها ذو لب وبحث جيدا لعلم كثرة اختلافها وشدة نقضها واضطرابها.

ثم إنكم تعتقدون أن الابن الأزلي اتحد بالمسيح فصار بجهة واحدة، لم يفارقه قط منذ اتحد. وقد مكث على ذلك في بطن أمه مدة الحمل ثم اغتذى باللبن، وتناول بعد ذلك الأغذية حتى بلغ ثلاثين سنة لا تظهر فيه آية للربوبية، ولم يكن بينه وبين نظرائه من الآدميين فرق، ولا سطع منه نور ولا حفت به الملائكة بالتهليل ولا ظهر منه في البعث [20] بعد ذلك فوق ما كان من الأنبياء قبله. فقد كلم الله تعالى موسى عليه السلام قبله من العوسجة وأشرق ما حولها، وكلمه في طور سيناء فاضطرم في الجبل النيران، وألبس وجهه النور الساطق حتى كان إذا جلس مع بني إسرائيل بعد ذلك يتبرقع [21] لأنهم كانوا لا يستطيعون النظر إليه. [22] ثم سأل موسى ربه لما قرب منه فقال: { قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ } فقال له تقدست أسماؤه: { لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا } فلما أفاق استقال ربه فتاب عليه. وتجلى مجد الله تعالى لجماعة من الأنبياء فرأوا حول مجده ربوات الملائكة.

فإذا كان المسيح هو الأزلي الخالق أو كان متحدا به، فكيف لم تظهر منه آيات باهرات أجلّ من آيات الأنبياء مثل المشي على هون [23] في الهواء والاضطجاع على أكناف [24] الرياح والاستغناء عن المآكل والمشارب وإحراق من قرب منه من الشياطين ومنع الآدميين من نفسه وما فعلوا على زعمكم بجسمه ليعلم الناس أنه خالقهم أو أنه هيكل الخالق؟

ثم إنكم تقولون إن الابن الأزلي إنما سمي ابن الله لأنه تولد من الأب وظهر منه. فلم نقف على معنى ذلك، لأن شريعة إيمانكم تقول إن الروح تخرج من الأب أيضا. فإن كان الأمر على ما تقولون فالروح ابن لأنها تخرج عن الله عز وجل، وإلا فما الفرق بينهما؟

وقولكم أيضا إن الابن تجسد من روح القدس؛ فما كانت حاجة الابن إلى الروح وهي في قولكم مثله؟ والابن إذًا دون الروح وليس كمثله، فإن الأزلي لا ينفصل عن الأزلي لكونه مثله. وإن كان المسيح من روح القدس كما قال جبريل لمريم، فلم سميتموه "كلمة الله وابنه" ولم تسموه روحه؟ وإنما قال لها جبريل إن الذي تلدينه من روح القدس، والروح غير الابن، فلم تثلثون وتقولون الأب والابن وروح القدس؟

ووجدت النسطورية يقولون: إن لله علما وحكمة هما الابن، وحياةً هي الروح قديمين، ولعلمه وحياته ذات كذات الله، وذلك أن علم الله له علم وحياة. ولحياته التي هي روح علم وحياة؛ وإن الله الأب لما رأى استعلاء العدو على خلقه وتلون الأنبياء عند مناداته أرسل إليه ابنه الفرد وحبيبه وجعله فداء ووقاية للناس أجمعين؛ وإن ابنه نزل من السماء وتجسد من روح القدس وصار إنسانا ثم ولد ونشأ وعاش ثلاثين سنة يتقلب بين بني إسرائيل كواحد منهم، يصلي في كنائسهم ويستن بسننهم، لا يدعي دينا غير دينهم ولا ينتحل رسالة ولا نبوة، حتى انقضت تلك السنوات، فأظهر الدعوة وجاء بالآيات الباهرة والبراهين المشهورة، فأنكرته اليهود وصلبته وقتلته – على ما تزعمون – ثم قلتم صعد إلى السماء، وكفرتم من خالف. ثم لم تلبثوا أن خالفتم وقلتم: جوهران وأقنومان، جوهر قديم وجوهر حديث، ولكل جوهر أقنوم على حاله، فهو واحد يقوم بثلاثة معان، والثلاثة لها معنى واحد، كالشمس التي هي شيء واحد ولها ثلاثة معان: القرص والحر والنور.

فكان معنى قولكم هذا أن المسيح مولود ولكنه ليس مفعولا به. وهو مبعوث مرسل إليكم تستحيون أن تسموه رسولا إذا كنتم لا تفرقون بين الله تعالى ونبيه في شيء من الأشياء.

وأقبلتم على الملكية واليعقوبية بالتكفير والطعن لقولهم إن الله والمسيح شيء واحد، ثم قدمتم المسيح على الله وبدأتم به في التحميد ورفعتم إليه تهاليلكم ورغائبكم في أوقات القرابين، وهي أجل صلواتكم وأفضل محافلكم، فإنه يقوم الإمام منكم على مذبح من مذابحكم – وأهله مرعبون يتوقعون نزول روح القدس بزعمكم من السماء بدعائه – فيفتح دعاءه ويقول: لتتم علينا وعليكم نعمة يسوع المسيح ومحبة الله الأب وبروح القدس إلى دهر الداهرين. ثم يختم صوته بمثل ذلك. فهذا تصريح بالشرك وتصغير لعظمة الله وعزته أن جعلتم النعم والمواهب لمن دونه، ومن هو معطى من عند الله قولكم، وجعلتم بعد المسيح محبة ولروحه مشاركة. وعبتم على اليعقوبية قولهم "إن مريم ولدت الله" وفي شريعة إيمانكم التي ذكرناها وأجمعتم عليها أن المسيح إله حق وأنه ولد من مريم؛ فما الذي تنكرونه من قولهم إن المقتول المصلوب هو الله؟ وفي شريعة إيمانكم تقولون "نؤمن بالرب المسيح الذي ولد من مريم وتألم وصلب على عهد الملك وقبر وقام في اليوم الثالث" فهذا قولكم مثل قولهم.

وما يخلو أمر المسيح من أن يكون إما إلها أو إنسانا. فإن كان إلها فإما أن يكون هو واجب الوجود الرب المعبود أو إله آخر غيره، فقد حصل الإشراك. وإن كان إنسانا فلم نسبتموه إلى الربوبية أو الإلوهية؟ فأي القولين اخترتم ففيه نقض شريعتكم.

وعبتم على الملكية قولهم إنه ليس للمسيح إلا أقنوم واحد لأنه الخالق الأزلي، شيئا واحدا لا فرق بينهما. وقلتم بأن له أقنومين لكل جوهر أقنوم على حاله، ثم رجعتم إلى مثل قولهم وقلتم إن المسيح وإن كان مخلوقا مبعوثا فإنه هيكل ابن الله الأزلي ونحن لا نفرق بينهما. فإذا كان الأمر على مثل هذا فلم تنقمون عليهم؟ وما معنى الافتراق وقد رجعتم في الاتحاد إلى مثل قولهم؟ فإن كانت الشريعة حقا عندكم فالقول ما قال يعقوب. [25]

وقد وجدنا القوم الذين ألفوها لكم قد صححوا أن يسوع المسيح هو ابن الله وهو بكر الخلائق وهو الذي ولد من مريم، وليس بمصنوع، إله حق من إله، وهو إله حق من جوهر أبيه، وهو الذين أتقن العوالم وخلق كل شيء على يديه، وهو الذي نزل لخلاصكم فتجسد وحملته مريم وولدته وصلب. فمن أنكر قول اليعقوبية لزمه أن ينكر هذه الشريعة التي تشهد بصحة قولهم ويلعن [26] من ألفها. وإنما أخذت تلك الطائفة كلمات - ذكروا أنهم ذكروها في الإنجيل - مشكلات تأولت فيها ما وقع بهواها وتركت كل ما في الإنجيل من الكلام البين الواضح الذي يشهد بعبودية المسيح وشهادته بذلك على نفسه وشهادة تلامذته عليه بذلك. [27]

[التشبيه بالشمس]

وأما احتجاجكم بالشمس، وأنها هي شيء واحد لها ثلاثة معان، وتشبيهكم ما تقولونه من الثلاثة أقانيم بها؛ فإن ذلك تمويه منكم لا يصح. لأن نور الشمس لا يحد بحد الشمس، وكذلك حرها لا يحد بحدها، إذا كان حد الشمس جسما مستنيرا مضيئا مسخنا دائرا في وسط الأفلاك دورانا دائما. [28] ولا يتهيأ أن يقال نورها وحرها جسم مستنير مضيء مسخن دائم الدوران. ولو كان نورها وحرها شمسا حقا من شمس حق من جوهر الشمس، كما قالت شريعتكم "إنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه"، لكان ما قلتم له مثلا. ولكن هذا القياس لا يقع عليه والحجة فيه باطلة.

وقلتم إن المسيح نزل من السماء فأبطل بنزوله الموت والآثام.

وهذا من العجب، وأعجب منه من قبِله. ولا أستقبح أن تعقد ديانة اللهَ على مثل هذا المحال ويدعو الناس إليها، وما هو ببعيد ممن عقد ما هو أمحل وأبطل منها. لأنه إن كان الخطيئة بطلت بمجيئه فالذين قتلوه إذا غير مأثومين ولا خاطئين - لأنه لا خاطئ بعد مجيئه ولا خطيئة. وكذلك الذين قتلوا حوارييه وأحرقوا أسفاره غير خاطئين. وكذلك من تراه من جماعتكم منذ ذلك الدهر إلى الآن يقتل ويسرق ويزني ويكذب ويرتكب كل ما نهي عنه غير خاطئين!

[الصلب]

وتقولون إن بصلبوت [29] المسيح بطل الموت وانطفأت فتن الشيطان واندرست.

فأي خطيئة بطلت وأي فتنة للشيطان انطفأت وأي أمر كان الناس عليه قبل مجيئه من المحارم والآثام تغير حاله؟

وإذا كنتم قد قبلتم هذا المحال الظاهر الذي لا يخفى على الصبيان، فأنتم لما هو أعظم من المحال أقبل، وأناجيلكم تكذب هذا القول حيث يقول المسيح فيها: « ما أكثر من يقول لي يوم القيامة: يا سيدنا، أليس باسمك أخرجنا الشياطين؟ فأقول: اغربوا عني يا أيها الفجرة الفارون، فما أعرفكم قط. » [30]

فهذا خلاف قول علمائكم فيما وضعوه لكم.

وقول المسيح عليه السلام: إني جامع الناس يوم القيامة عن ميمنتي وميسرتي وقائل لأهل الميسرة: إني جعت فلم تطعموني وعطشت فلم تسقوني وكنت غريبا فلم تؤوني ومحبوسا فلم تزوروني ومريضا فلم تعودوني، فاذهبوا إلى النارد المعدة لكم قبل تأسيس الدنيا. وأقول لأهل الميمنة: فعلتم عكس هذه الأشياء فاذهبوا إلى النعيم المعد لكم قبل تأسيس الدنيا. [31]

فهل أدخل أولئك النار إلا خطاياهم التي ارتكبوها؟ وهل صار هؤلاء إلى النعيم إلا بأعمالهم الجميلة التي قدموها بتوفيق الله إياهم؟ فمن قال إن الخطيئة قد بطلت فقد خالف قول المسيح، وهو من الكاذبين. فكيف تنسبونه إلى الربوبية وتنحلونه اللاهوتية وتجعلونه خالق الخلق أجمعين وإلههم؟

فما الحجة عندكم في ذلك؟ وهل نطقت كتب النبوات أو قال هو عن نفسه أو قال أحد تلاميذه والناقلون عنه - الذين هم عماد دينكم ومن أخذتم الشرائع والسنن عنهم ومن كتب الإنجيل أو بينه؟ بل قد أفصح في كل الأناجيل – في كلامه ومخاطبته ووصاياه – بأنه عبد مثلكم مربوب معكم ومرسل من عند ربه وربكم. وحكى مثل ذلك مِن أمره تلاميذه وحواريوه، فتأولتم في ذلك أنه أخرج كلامه على معنى الناسوت. ولو كان كما زعمتم لأفصح عن نفسه بأنه الله [32] كما أفصح بأنه عبد، لكنه ما ادعى ذلك ولا دعا إليه ولا ادعته كتب الأنبياء قبله ولا كتب تلاميذه ولا أوجبه كلام جبريل الذي أداه إلى مريم ولا قول يحيى بن زكريا الذي عمده.

هامش

مرقس 13: 32

متى 1: 1

يوحنا 13: 4-5

ر يوحنا 1: 6-36

متى 3: 14

متى 3: 11

متى 11: 2-3

متى 1: 15-16

لوقا 3: 23

لوقا 1: 28-38

يوحنا 20: 17

مثل الخروج 4: 22 « هكذا يقول الرب: إسرائيل ابني البكر. » وفي المزمور 2: 7 قيل لداود « أنت ابني، أنا اليوم ولدتك. » وفي متى 5: 9 « طوبى لصانعي السلام لأنهم يدعون أبناء الله. » وينظر الرد الجميل لإلهية عيسى بصريح الإنجيل للغزالي.

ر لوقا 12: 12

يوشع 3: 7

متى 3: 13-16 ومرقس 1: 10-11 ولوقا 9: 35

لوقا 7: 20-34

متى 11: 11

تقدم قول المسيح في يوحنا 20: 17 عن الله إنه إلهه وإلههم « إلهي وإلهكم »، وفي يوحنا 17: 3 « وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته. »

ر متى 4 ولوقا 4

أي أثناء بعثته

يغطي وجهه

الخروج 34: 33

الهون السكينة والوقار

الكنف الجانب

يعني يعقوب البراذعي الذي تنسب إليه طائفة اليعقوبية النصرانية.

من عادة المجامع المسكونية التي انعقدت لتأليف أو تنقيح عقائدهم أن تلعن من خالفها

ينظر كتاب ابن تيمية الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح وكتاب إظهار الحق لرحمة الله الهندي.

التمويه ناتج عن الخلط المقصود أو جهل الفرق بين الذات وبين صفاتها وآثارها وأفعالها.

أي بصلبه على زعمهم

متى 7: 22-23

ر متى 25: 34-44

في نسخة: إله.

==

الفصل الثالث

فيما ذكروه من معجزات المسيح عليه السلام وادعائهم فيه الألوهية وذكر ما كان لغيره من الأنبياء من المعجزات

المسيح عليه السلام ما ادعى الربوبية ولا الألوهية. فإن كنتم مستدلين على ربوبيته بأنه أحيى الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ومشى على الماء وصعد إلى السماء وصير الماء خمرا وكثر القليل، فيجب أن تنظروا إلى كل من فعل مثل هذه الأمور فتجعلونه ربا وإلها.

[إحياء الموتى]

فإن كتاب سفر الملوك يتضمن أن إلياس أحيى ابن الأرملة، [1] واليسع أحيى ابن الإسرائيلية، [2] وأن حزقيال أخيى خلقا كثيرا. ولم يكن أحد من هؤلاء بإحيائه الموتى إلها.

[الإبراء]

وأما إبراء الأكمه فإن التوراة تخبر أن يوسف أبرأ عين أبيه يعقوب بعد أن ذهبت، [3] وموسى طرح العصا فصارت حية [4] لها عينان تبصر بهما، [ وضرب الرمال فصارت لكل واحدة منهن عينان، ] ولم يكن واحد منهما بذلك إلها.

أما إبراؤه الأبرص فإن كتاب سفر الملوك يخبر أن رجلا من عظماء الروم اسمه نعمان برص، فرحل من بلده قاصدا اليسع ليبرئه، فوقف على بابه أياما فلم يؤذن له في الدخول إليه، وأخبر اليسع به فقال لرجل من أصحابه: اخرج إلى هذا الرجل وقل له: انغمس في الأردن سبع مرات، فمضى وفعل ذلك فذهب عنه البرص، ورجع إلى بلدته فتبعه خادم اليسع وأوهمه أن اليسع وجه به إليه يطلب منه مالا، فسر بذلك ودفع إليه شيئا كثيرا، فرجع وأخفى ذلك عن اليسع فقال له: تبعت النعمان وأومته عني كذا وكذا وأخذت منه مالا وأخفيته في موضع كذا، وحيث قد فعلت ذلك فليصر برصه عليك وعلى نسلك، فبرص الخادم في الحال. فهذا اليسع أبرأ أبرصَ، وأبرص صحيحا. وهو أعظم مما فعل المسيح، ولم يكن في فعله إلها.

[المشي على الماء]

وأما قولكم إنه مشى على الماء، فإن كتاب سفر الملوك أيضا يخبر أن إلياس صار إلى الأردن ومعه تلميذه اليسع، فأخذ عمامته وضرب بها الأردن فاستيبس حتى مشى عليه، ثم صعد إلى السماء على فرس من نور واليسع يراه، ودفع عمامته إلى اليسع فلما رجع إليه، إلى الأردن، ضرب الماء فاستيبس له حتى مشى عليه. [5] ولم يكن واحد فيهما بمشيه على الماء إلها.

[تحويل الماء خمرا]

وأما قولكم إنه صير الماء خمرا، فكتاب سفر الملوك أيضا يخبر أن اليسع نزل بامرأة إسرائيلية فأضافته وأحسنت إليه، فلما أراد الانصراف قال لها: هل لك من حاجة؟ فقال له: يا نبي الله، إن [ على ] زوجي دينا قد فدحه، [6] فإن رأيت أن تدعو الله لنا أن يقضي ديننا فافعل، فقال لها: اجمعي كل ما عندك من آنية واجمعي من جيرانك كل ما قدرت عليه من آنيتهم، ففعلت ثم أمرها أن تملأ تلك الأواني ماء ثم قال لها: اتركيه ليلتك هذه على حاله، ومضى من عندها فأصبحت المرأة فوجدت الماء زيتا، [7] فباعوه وقضوا دينهم وعاشوا بما تخلف معهم مدة. وتحويل الماء زيتا أبدع من تحويله خمرا. ولم يكن اليسع بذلك إلها.

[تكثير الخبز]

وقولكم إن المسيح كثر القليل حتى أكل خلق كثير من أرغفة يسيرة. فإن كتاب سفر الملوك أيضا يخبر أن إلياس نزل بامرأة أرملة وكان القحط قد عم الناس وأجدبت الأرض ومات الخلق ضرا، وكان إلياس في جيش فقال للمرأة: هل عندك طعام؟ فقالت: والله ما عندي إلا كف من دقيق أردت أن أخبزه لطفل لي، وقد أيقنا بالهلاك لما الناس فيه من القحط، فقال: أحضريه فلا بأس عليك، فأتت به فبارك عليه، فمكث عندها ثلاث سنين وستة أشهر تأكل منه هي وأهل بلدتها بعد أن أكل إلياس وجيشه حتى فرج الله عن الناس. [8] فقد فعل إلياس أكثر مما فعل المسيح لأن إلياس كثر القليل فأدامه، والمسيح كثر القليل في وقت واحد. ولم يكن إلياس فيما فعله إلها.

[المعجزات والآيات من الله]

فإن قلتم إن هؤلاء الأنبياء ليس لهم صنع في هذه الأفعال وإن الصنع والقدرة لله عز وجل وهو أجراها على أيديهم، فقد صدقتم. وكذلك المسيح ليس له صنع فيما ظهر على يديه من الأعاجيب إذا كان الله أظهر ذلك. وهكذا قال المسيح في نفسه في الأنجيل: إنني لا أستطيع أن أصنع شيئا إلا بأمر الله. [9] فما الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء وما الحجة في ذلك؟

فإن قلتم إن الأنبياء كانوا إذا أرادوا أن يظهر الله على أيديهم شيئا تضرعوا إلى الله ودعوا وأقروا له بالربوبية وشهدوا على أنفسهم بالعبودية، والمسيح لم يكن كذلك.

قلنا ما كان سبيله إلا سبيلهم. وقد كان يدعو الله ويتضرع ويعترف بربويته ويقر له بالعبودية. والإنجيل يتضمن أن المسيح لما أراد أن يحيي رجلا يقال له عازر قال: إنني أدعوك كما كنت أدعوك من قبل فتستجيب لي، وأنا أدعوك لأجل هؤلاء الحضور ليعلموا أنك أرسلتني وفي كل وقت تجيبني. [10]

وقال وهو على الخشبة: « إيل إيل لما نشتو قلال » معناه: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ [11] وقال: « يا أبتاه اغفر لهم ما يعملون فإنهم لا يدرون ما يصنعون » [12] وقال أيضا: « يا أبي إن شئت فلتعرني هذه الكأس، ولكن ليس كما أريد أنا، فلتكن مشيئتك » [13] وقال أيضا: « لا أستطيع أن أصنع شيئا ولا أفكر فيه إلا باسم إلهي. » [14] « لا ينبغي للعبد أن يكون أعظم من سيده ولا الرسول يكون أعظم من مرسله. » [15]

وقال: إن الله – تبارك وتعالى – لم يلد ولم يولد، ولم يأكل ولم يشرب ولم ينم، ولم يراه أحد من خلقه، [16] ولا رآه أحد إلا مات.

والمسيح قد أكل وشرب وولد ورآه الناس فما ماتوا من رؤيته. وقد لبث فيهم ثلاثا وثلاثين سنة.

وقال في إنجيل يوحنا: إنكم متى دفعتم ابن البشر فحينئذ تعلمون أني أنا هو، وشيء من قبل نفسي لا أفعل، لكن كل شيء أعمله هو الذي علمني أبي. [17] وقال في موضع آخر: « من عند الله أرسلت معلما » [18] وقال لأصحابه: « اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته وبيته وأقاربه » [19]

وأخبر الإنجيل أن امرأة رأت المسيح فقالت له: أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ فقال لها المسيح: صدقت، طوبى لك أيتها المرأة. [20] وقال لتلاميذه: كما بعثني أبي، كذلك أبعثكم. [21]

فاعترف أنه نبي وأنه عبد مألوه مربوب مبعوث لا يستطيع أن يفعل شيئا ولا يفكر فيه إلا باسم الله عز وجل. وقال لتلاميذه إن من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فإنما يقبل من أرسلني. [22] وبين في غير موضع أنه نبي مرسل وأن سبيله مع الله سبيل سائر الأنبياء معه.

وقال متى التلميذ في إنجيله يستشهد على المسيح بنبوءة أشعيا عن الله عز وجل: « هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت نفسي إليه. أنا واضع روحي عليه ويدعو الأمم إلى الحق. » [23]

فما يحتاج إلى حجة أوضح من هذا القول الذي جعلتموه حجة لكم. وقد أوضح الله أمره وسماه عبدا وأعلم أنه يضع عليه روح ويؤيده بها كما أيد سائر الأنبياء بالروح فأظهروا الآيات المذكورة عندهم. وهذا القول يوافق ما بشر به الملك مريم حين ظهر لها.

وقال يوحنا التلميذ في الإنجيل عن المسيح: « إن كلامي الذي تسمعون هو كلام الذي أرسلني » [24] وقال في هذا الموضع: « إن أبي أجل وأعظم مني » [25] وقال أيضا: « كما أمرني أبي أفعل » [26] و «أنا الكرم وأبي الفلاح » [27] وقال يوحنا: كما أن للأب حياة في جوهره فكذلك للابن حياة في أقنومه. [28] فالمعطي خلاف المعطى لا محالة. والفاعل خلاف المفعول به. وقال المسيح في إنجيل يوحنا: « إني لو كنت أنا الشاهد لنفسي على صحة دعواي لكانت شهادتي باطلة، لكن غيري يشهد لي وأنا أشهد لنفسي أيضا، ويشهد لي أبي الذي أرسلني » [29]

وقال المسيح لبني إسرائيل: « تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله؟ » [30] وقال في الرجل الذي أقامه من الموتى: « يا أبي، أشكرك على إجابتك دعواي وأعترف لك بذلك. » [31] فأي تضرع وأي إقرار بالرسالة والطلب للإجابة من الله أشد من هذا؟

وقال المسيح في بعض مخاطبته لليهود وقد نسبوه إلى الجنون: « أنا لست بمجنون، ولكني أكرم أبي ولا أحب مدح نفسي بل مدح أبي لأني أعرفه. ولو قلت أبي لا أعرفه كنت كذابا مثلكم، بل أعرفه وأتمسك بأمره. » [32]

وقال شمعون الصفا رئيس الحواريين في الفصل الثاني من قصصهم: « يا رجال بني إسرائيل، اسمعوا مقالتي بأن يسوع الناصري ظهر لكم من عند الله بالقوة والأيد والعجائب التي أجراها الله تعالى على يديه وأنكم أسلمتموه وقتلتموه فأقام الله تعالى يسوع هذا من بين الأموات. » [33]

فأي شهادة أبين وأوضح من هذا القول وهو أوثق التلاميذ عندكم، يخبر كما ترون بأن المسيح رجل وأنه جاء من عند الله وأن الآيات التي ظهرت منه بأمر الله أجراها على يديه وأن الذي بعثه من بين الأموات هو الله عز وجل؟

وقال أيضا في هذا الموضع: « اعلموا أن الله جعل يسوع الذي قبلتموه أنتم ربا ومسيحا » [34] فهذا القول يزيل تأويل من يتأول أن الله جعله ربا ومسيحا؛ والمجعول مخلوق مفعول. وقد سمى الله تعالى يوسف ربا، [35] وأنه بيع بثمن بخس ودخل تحت العبودية.

وقال لوقا في إنجيله إن المسيح عرض لعملوقا ولوقا تلميذيه في الطريق وهما محزونان، فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونان؟ فقالا: كأنك أنت وحدك في بيت المقدس غريب إذ كنت لا تعلم بما حدث في هذه الأيام من أمر يسوع الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا في فعله وقوله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه [36] – على قولهم. فهذا قول لوقا في إنجيله.

وقال داود في الزبور عن الله تعالى في حق المسيح: « أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، سلني أعطك » [37] فقوله "ولدتك" دليل على أنه محدث غير قديم، وكل محدث فهو مخلوق. ثم أكد ذلك بقوله "اليوم" فحد اليوم حدا لولادته وأزال الشك في أنه كان قبل ذلك. ودل بقوله "سلني أعطك" على أنه كان محتاجا إلى المسألة غير مستغن عن العطية.

فهذا قول الله في حق المسيح، وقول المسيح عن نفسه وإقرار تلاميذه وما قد سطروخ في الأناجيل. وكل الأقاويل تدل على أنه نبي مرسل مخلوق مبعوث مأمور وأن الله أيده بروحه كما أيد سائر الأنبياء.

وأنتم تركتم هذه الأقاويل التي في حق المسيح وحدتم عنها، وعقدتم دينكم على بدع ابتدعها أولكم تؤدي إلى الشرك والضلال.

[سيرة المسيح من الأناجيل]

ثم مع أنكم تصفون المسيح بالألوهية قد حكيتم عنه في أناجيلكم مثل هذه الحكايات وأن مريم حبلت به فلما قربت ولادتها أخذها خطيبها يوسف النجار، وأنه كان ابن عمها، وانتزح إلى قرية تسمى بيت لحم. وأنها وضعته بتلك القرية ودرجته في قمط وجعلته في معلف وختى على السنّة العبرية لسبعة أيام خلون من مولده وتربى وقعد في المكتب وقرأ الكتب. فلما بلغ من العمر ثلاثين سنة ظهرت دعوته وأخذ في قول العجائب وعمل المعجزات – من إحياء الموتى وإبراء الأكمه وإقامة الزمنى وفتح أعين العميان – وذلك مدة ثلاثين سنة. وأن اليهود أرشوا أحد تلامذته وهو يهوذا ثلاثين مثقالا من المال وأن يهوذا أسلمه إليهم وأنهم أخذوه في أيام تيطيوس وبيلاطوس الملكين وكتفوه وأوثقوه وجلدوه وحملوه إلى هيرودس القاضي. وأنه سأله عن أشياء كثيرة من حاله فلم يجبه عن شيء منها. وألبسه ثياب القرمز والأرجوان وأهانه هو وغلمانه. ودنا أناس منه وبصقوا في وجهه وطرقا له ولكموا فكيه وغطوا وجهه. وكانوا يقولون له: أيها المسيح ابن الله، بين لنا من ضربك. وأنهم حملوه إلى فيلاطوس وهو مغطى الوجه مكتوف وهم يسخرون منه. ثم جلده أصحاب القاضي بالدرر وأخذوه إلى الملك وتركوا على رأسه إكليلا من عوسج وتركوا قصبة في يمينه. وبينما هم يلهون به ويضحكون منه ويفترون عليه خروا له سجدا استهزاء به ويقولون له: السلام عليك يا ملك اليهود، ويبصقون على وجهه. وأخذوا القصبة من يمينه ودقوا بها على رأسه وكانوا يقولون: هذا ملك بني إسرائيل. وعروه وأخذوا ثياب القرمز التي كانت عليه وصلبوه مع لصين من فاعلي الشر أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله. ودقوا المسامير في يديه ورجليه وضربوا جنبه بالحربة. وكان المجتازون يفترون عليه ويقولون له: يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام، خلص نفسك إن كنت ابن الله وانزل من الصليب. وكانوا يقولون له: من يحيي الموتى ويبرئ من الأمراض لا يقدر أن ينجي نفسه! إن كنت المسيح خلص نفسك لنؤمن بك. وأن أصحاب الشرط أخذوا خلا ومرا وكانوا يسقونه منه على رأس قصبة في قطعة إسفنج. وكان اللصان المصلوبان معه يعيرانه. ثم إن أصحاب الشر جاؤا ليكسروا سوقهم ليموتوا لئلا يدخل السبت، وبدأوا في كسر ساقي اللصين. وأن المسيح قال: أنا عطشان، فغمس أحد أصحاب الشرطة تلك القطعة الإسفنج في الخل والمر وأدناها إلى فمه فصاح بصوت عال: يا أبي، بيدك أضع روحي. ولما قال ذلك طأطأ رأسه ومات.

وإن رجلا من مدينة يهوذا اسمه يوسف ورجلا آخر اسمه نيقاديموس دخلا إلى فيلاطوس والتمسا منه جسد المسيح، وأنهما أخذا الجسد وأحضرا صبرا ومرا وحنطاه ودرجاه في الأكفان وقبراه. وفي ليلة الأحد يقولون إنه قام من بين الأموات واجتمع بوالدته مريم واجتمع بتلاميذه. وأنه صعد إلى السماء بعد أربعين يوما.

وزعمتم أن تلاميذه شكوا فيه عند قيامه بعد موته وما عرفوه بوجهه، وأن بعضهم سأله أن يريه موضع المسامير التي سمر بها جسده فوضع أيديهم عليها كما يزعمون، وإنما كانت غيبته عنهم ثلاثة أيام كما ذكرتم. وحكيتم في أناجيلكم أن المسيح كان في الليلة التي أخذ فيها يصلي ويسجد ويبكي في صلاته ويقول بالعبري: « إلهي إلهي لماذا تركتني » ثم قال لتلاميذه: « ضاقت نفسي حتى الموت » وقال لهم: اثبتوا ههنا. وغاب عنهم بمقدار رمية حجر وخر على ركبته وسقط على وجهه. وكان يقول: « يا أبتاه، ألا ما أعرتني هذه الكاس » وقال أيضا: « أيها الأب، إن أبك فلتجرن هذه الساعة » وجاء إلى تلاميذه فوجدهم نوما. وأنه قال لشمعون الصفا: نمتم ولم تقدروا أن تسهروا معي ساعة واحدة، انتبهوا وصلوا لئلا تدخلوا التجارب، وصار عرقه كعبيط الدم. وكان يقول لتلاميذه: طوبى لمن سهر معي وشاركني في ألمي. وقال لهم: اصعدوا فقد قرب وقتي. ثم إنه غاب عنهم وصلى، فلما فرغ من صلاته عاد إلى تلاميذه فوجدهم قد هجعوا فقال لهم: ارقدوا الآن فقد بلغت الغاية ووفت الساعة وهاهو ابن البشر يسلم بأيدي الخطأ، قوموا ننطلق. فبينما هو يتكلم وافى يهوذا أحد تلاميذه وقبله المسيح في فمه وكان معه جمع كثير بنفاطات ومشاعل وسيوف وعصى من قبل عظماء الكهنة والكتاب ومشايخ الشعب. فأخذوا المسيح وفعلوا به كل قبيح كما تقدم شرحه على ما نقل من أناجيلكم.

فكيف تنسبون المسيح إلى الألوهية وتحكون عنه مثل الحكايات؟

تقولون إنه بقي مدة الحمل في أحشاء مريم واغتذى بدم طمثها ورضع لبنها وأكل وشرب وغاط، وأخذته اليهود وفعلت به مما يأنف الإنسان ذكره، وإنه سجد وصلى وتضرع وبكى. فإلى من أشار عند قوله لوالدته بعد قيامه على ما تزعمون: أمضي إلى إخوتي وقوله: « إني صاعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم » ثم تسميته في غير موضع بابن البشر. وليس من حق الإله أن يصلي ويخضع ويذل ويمتهن ويعذب بكل نوع من أنواع العذاب ويتألم ويدخل عليه الأذى ويلحقه التغيير ويحويه حيز. وهذه جميعها من صفات البشر وليس من صفات من يدعى له بالألوهية.

ولقد حسن في هذا الموضع ذكر قول بعض الشعراء: [38]

عجيبا للمسيح بين أناس ** وإلى خير والد نسبوه

أسلمته إلى اليهود النصارى ** وأقروا بأنهم صلبوه

فإذا كان ما تقولون حقا ** ليت شعري فأين كان أبوه

ويقولون إن المسيح إله كامل وإنسان كامل. فتارة يجعلونه إلها وتارة إنسانا. ومنكم من يقول إنه إله تأنس كاليعاقبة. ومنكم من يقول إنه إنسان تأله كالنساطرة. ويجري بينكم في ذلك مشاجرات، وكل منكم يكفر صاحبه ويستجيز قتله. [39]

ومما استدل به إليا الجاثليق [40] على إثبات لاهوت المسيح وناسوته قول شمعون الصفا « أنت المسيح ابن الله الحي » كلمة دالة على اللاهوت والناسوت معا، لأن اسم المسيح واقع على ماسح وممسوح، مثل اسم الإنسان الواقع على نفس وبدن. فالنفس والبدن شخص كامل. وقال فطروس: [41] إن الله جعل ربا ومسيحا لهذا يسوع الذي صلبتم وأنه قام من بين الأموات بعد ثلاثة أيام وأنه ارتضع لبنا وتربى وأدرج في القمط وختن. فأبان أنه إنسان، ونزل الملك وقال يوم ولادته: لقد ولد لكم اليوم المخلص الذي هو الرب المسيح في مدينة داود، فبين أنه إله، حتى اصطبغ من يوحنا المعمدان، فأبان أنه إنسان. ونادى الأب من السماء: هذا ابني الحبيب الذي به ارتضيت، فبين أنه إله. وصام وجاع وهرب من الشيطان، فبان أنه إنسان. وأشبع من أرغفة يسيرة ألوفا كثيرة وفضل منهم ما حملوه في جفان عدة، فبين أنه إله. كان يطوف المدن والقرى ويقول: توبوا فقد اقترب ملكوت السماء. فأوضح أنه إنسان. شفى المرضى وطهر البرص وفتح أعين الكمه وأحيى الموتى، فبين أنه إله. ونام في السفينة وأيقظه التلاميذ، فأوضح أنه إنسان. وأنبأ شمعون الصفا بما أسره في قلبه، فبين أنه إله. ووقف على البئر واستراح من نصب الطريق وطلب الماء من السامرية، فأوضح أنه إنسان. أخبر السامرية بأسرارها، فبين أنه إله. سعى إلى بيت نوارس ماشيا، فأوضخ أنه إنسان. أحيا ابنته بعد موتها، فأوضح أنه إله. ورفع يديه إلى السماء وقال بصوت عال: يا لاعازر هلم إلى خارج، فقام لاعازر من قبره، لكونه إلها. رد أذن العبد التي قطعها شمعون إلى مكانها، فبين أنه إله. وكفن بالأكفان وختم ودفن وختم اليهود عليه، فأوضح أنه إنسان. قام في اليوم الثالث وظهر للتلاميذ وقال له توما: آمنت بك ربي.

ولو أتيت بجميع ما زعموا لطال الكلام وأفضى إلى الضجر. وإذا كانت الشهادات منه في نفسه ومن الأنبياء عليه ومن تلاميذه كما سبق ذكره، وما تشهد به كتبكم، فما الحجة فيما تدعونه له ومن أي جهة تأخذون ذلك؟ وإذا تأملتم ما بينته تأمل إنصاف من أنفسكم علمتم أنه قول لا يحتمل أن يتأول فيه للناسوت شيء دون اللاهوت.

[البنوة]

فإن قلتم إنه ثبت للمسيح البنوة بقوله أبي. قلنا إن كان الإنجيل نزل على هذه الألفاظ ولم يبدل ولم يغير، فإن اللغة قد أجازت أن يسمى الولي [42] ابنا، وقد سماكم جميعا بنيه وأنتم لستم في مثل حاله. ومن ذلك أن الله تعالى قال لإسرائيل في التوراة: أنت بكري. [43] وقال لداود في الزبور: أنت ابني وحبيبي. [44] وقال المسيح للحواريين: أريد أن أذهب إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم. [45] فسمى الحواريين أبناء الله، وأقر بأن له إلها هو الله. ومن كان له إله فليس بإله كما تقولون.

فإن زعمتم أن المسيح إنما استحق اللاهوتية بأن الله سماه ابنا وإلا فما الفرق؟ وقلتم إن داود وإسرائيل ونظراءهما إنما سموا أبناء الله على وجه الرحمة من الله لهم والمسيح ابن الله على الحقيقة. [46] قلنا: هل يجوز لمعارض يعارضكم أن يقول ما تنكرون: أن يكون إسرائيل وداود أبناء الله بالحقيقة والمسيح ابن رحمة؟ وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن الفرق بين المسيح وسائر الأنبياء من قبل أنه جاء إلى مقعد وقال له: قم فقد غفرت لك فقام الرجل، ولم يدع الله في ذلك الوقت. قلنا: إن إلياس أمر السماء أن تمطر ولم يدع الله في ذلك الوقت، وكذلك اليسع أمر النعمان الرومي أن ينغمس في الأردن ليذهب البرص الذي كان به من غير دعاء ولا تضرع، فذهب.

وقد وجدنا في الإنجيل أن المسيح تضرع وصلى وبكى في صلاته خصوصا في الليلة التي أخذته اليهود على زعمكم. وقال في الإنجيل: يا أبي أشكرك على إجابتك دعائي، وأعلم أنك في كل وقت تجيب دعوتي، لكن أسألك من أجل هذه الجماعة ليوقنوا أنك أرسلتني.

فإن قلتم إن الغفران من الله وإن المسيح قال لبعض بني إسرائيل: قم فقد غفرت لك. فقد قال تعالى في التوراة لموسى: واخرج أنت وشعبك الذين أخرجت من مصر وأنا أجعل لكم ملكا يغفر ذنوبكم. فإن زعمتم أن المسيح إله لأنه غفر ذنب المقععد الملك إذا إله لأنه يغفر ذنوب بين إسرائيل، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن الأنبياء قد تنبأت على ألوهية المسيح، فقد قال أشعياء: « العذراء تحمل وتلد ابنا ويدعى اسمه عمايوئيل – تفسيره: معنا إلهنا » قلنا لكم: إن هذه استعارة، وإن كان الله المتفرد بمعنى الألوهية. وقد قال عز وجل في التوراة لموسى: « قد جعلتك لهارون إلها وجعلته لك نبيا » [47] وقال في موضع آخر: « قد جعلتك يا موسى إلها لفرعون » [48]

فإن قلتم جعله إلها على معنى الربانية، قلنا: وكذلك قول أشعيا في المسيح إنه إله لأمته على هذا المعنى، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن المسيح قال في الإنجيل: من رآني فقد رأى أبي وأنا وأبي شيء واحد. قلنا: إن قوله "أنا وأبي شيء واحد" إنما يريد به أن قبولكم لأمري هو قبولكم لأمر الله، كما يقول رسول الرجل: أنا ومن أرسلني واحد، وكقول الوكيل: أنا ومن وكلني واحد، لأنه يقوم في ذلك مقامه ويتكلم بحجته ويطالب بحقوقه. وكذلك قوله "من رآني فقد رأى أفعال أبي".

فإن قلتم إن المسيح قال في الإنجيل: "أنا قبل إبراهيم" من جهة الألوهية. قلنا: إن سليمان بن داود يقول في حكمته: "أنا قبل الدنيا، وكنت مع الله حيث مد الأرض." [49] هذا قوله. وقد أعطي من طاعة الجن والأنس والطير والوحش ما لم يعطه المسيح وما تهيأ له، ولا لأحد أن يقول فيه إنه إله. وما قال إنه قبل الدنيا بالألوهية.

وقال داود في الزبور: ذكرتك يا رب من البدء. فإن قلتم: إن كلام سليمان بن داود متأول لأنه من ولد إسرائيل وليس يجوز أن يكون قبل الدنيا؛ وكذلك قول المسيح "أنا قبل إبراهيم" كلام متأول لأنه من ولد إبراهيم ولا يجوز أن يكون قبل إبراهيم. فإن تأولتم تأولنا. وإن تعلقتم بظاهر الخبر في المسيح تعلقنا بظاهر الخبر في سليمان وداود، وإلا فما الفرق؟

فإن قلتم إن تلاميذ المسيح كانوا يعملون الآيات باسم المسيح. قلنا: قد قال الله ليحيى بن زكريا: « قد أيدتك بروح القدس وبقوة إلياس » وهي قوة تفعل الآيات، فأضاف القوة إلى إلياس.

وإن زعمتم أن المسيح إله لأنه فعلت الآيات باسمه، فما الفرق بينكم وبين من قال إن إلياس إله لأنه بقوته فعلت الآيات؟

فإن قلتم إن الخشبة التي صلب عليه المسيح بزعمكم ألقيت على قبر ميت فعاش وإن هذا دليل على أنه إله. قلنا: ما الفرق بينكم وبين من قال إن اليسع إله واحتج بأن كتاب سفر الملوك يخبر أن رجلا مات فحمله أهله إلى المقبرة فرأوا عدوا لهم يريد أنفسهم فطرحوا الميت وبادروا إلى المدينة، وكان الموضع الذي ألقوا عليه الميت قبر اليسع، فلما أصاب الميت تراب قبر اليسع عاش ومشى إلى المدينة. فإن زعمتم أن المسح إله لأن الخشبة التي ذكرتم أنه صلب عليها ألصقت بقبر ميت فعاش فاليسع إله لأن تراب قبره لصق بميت فعاش.

فإن قلتم إن المسيح كان من غير فحل. قلنا: قد كان ذلك، وليس هو مما يوجب الألوهية ولا الربوبية له. لأن القدرة في ذلك للخالق عز وجل لا للمخلوق. كما أن حواء أم البشر خلقت من فحل بلا أنثى، وخلق أنثى من ذكر أعجب من خلق ذكر من أنثى بغير فحل، وأعجب من ذلك خلقه آدم من تراب.

وهذه الأسباب التي ذكرناها هي الأسباب التي تتعلقون بها في إنجيلكم للمسيح بالربوبية وإضافتكم له الألوهية، قد ذكرناها على حقائقها عندكم وما هو في الكتب التي في أيديكم، وهي التوراة والزبور وكتب الأنبياء والإنجيل.

[المسيح لا يعلم كل شيء]

وقال المسيح في محكم الإنجيل لما سأله تلامذته عن الساعة والقيامة: « إن ذلك اليوم وتلك الساعة لا يعرفه أحد ولا الملائكة المقربون ولا الابن، ولكن يعرفه الأب وحده. » [50]

فهذا يدل على إقراره بأنه منقوص العلم وأن الله أعلم منه. وشهادته واضحة بأنه لا يعلم كما يعلمه الله، بل ما علمه وأطلعه على معرفته. وهذا ليس كما تصفون من الربوبية وأنه الله.

[لا صالح إلا الله]

وقد خاطبه رجل فقال له: أيها الخيّر، فقال المسيح: « لم تسمني خيرا؟ ليس الخير إلا الله وحده. » [51]

[المشيئة]

وقال في الإنجيل: « لم آت لأعمل بمشيئتي ولكن بمشيئة من أرسلني. » [52]

ولو كان له مشيئة لاهوتية كما تقولون لما قال هذا القول الذي يبطل دعواكم فيه.

وتدعون أن المسيح كلمة الله وأن قوة الله غير نائية منه ولا معرضة عنه وتستشهدون عليه في الإنجيل بقوله إنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه ويدين الناس يوم القيامة ويجازيهم بأعمالهم ويتولى الحكم بينهم وأن الله منحه ذلك، إذ كان لا يراه أحد من خلقه في الدنيا ولا في الآخرة.

فإن كان هذا الحال للحكومة يوم الدين، القاعد عن يمين أبيه وهو شخص قائم لا يشك فيه، هو الجسد الذي كان في الأرض، المتوجه به الربوبية، فقد فصلتم بين الله وبينه وبعضتموه باجتماعهما في السماء شخصين متباينين أحدهما عن يمين صاحبه. وهذا شرك وكفر بالله تعالى. وإن كان خاليا من الألوهية وهي الكلمة وقد عادت إلى الله تعالى كما بدأت منه، فقد زال عنه حكم الربوبية التي تنحلونه إياها.

ثم إنكم تعبرون عن الباري عز وجل بالأقانيم الثلاثة وتقولون إنه جوهر واحد وهو اللاهوتية.

فمن أين أخذتم هذا الاعتقاد؟ ومن أمركم به؟ وفي أي كتاب نزل؟ وأي نبي تنبأ به؟ وأي قول قاله المسيح حتى استدللتم به على هذا المعنى حتى تدعونه فيه؟ وهل بنيتم إلا على قول التلميذ عن المسيح أنه قال لتلامذته حين أراد أن يفارقهم: اذهبوا فعمدوا باسم الأب والابن والروح القدس.

وهذا الكلام إن كان صحيحا فيحتمل أن يكون قد ذهب فيه بجميع الألفاظ: أن يجتمع له بركة الله وبركة نبيه المسيح وبركة روح القدس التي يؤيد بها الأنبياء والرسل. وأنتم إذا دعا أحدكم للآخر قال له: صلاة فلان القدس تكون معك. وإذا كان أحدكم عند أحد الآباء مثل جاثليق وممران أو أسقف وأراد أن يدعو له يقول له: صلي علي. ومعنى الصلاة الدعاء. واسم فلان النبي أو فلان الصالح الذي هو يعينك على أمورك.

ويجوز أن يكون المسيح ذهب فيه إلى ما هو أعلم به. فكيف حكمتم بأنه ذهب إلى هذه الأسماء لما أضافها إلى الله تعالى صارت إلهية؟ وجعلتم له أسماء وهي الأقانيم الثلاثة. وقد عبرتم في لغتكم أن الأقنوم الشخصُ. فكيف استخرجتم ما أشركتموه بالباري تعالى ذكره عما تصفون بالتأويل الذي لا يصح. وقد تقدم القول في هذا المعنى بما فيه كفاية.

وإذا قلتم أقانيم، وكل أقنوم بذاته. فلا بد أن تعترفوا ضرورة بأن كل أقنوم منها سميع بصير عليم حكيم منفرد بذاته، كما تقولون في المسيح إنه جالس عن يمين أبيه. منذ أنكم أخذتم الأقنومين اللذين أخذتموهما مع الله من جهة أن الله حكيم حي، فحكمته الكلمة وهي المسيح، وحياته روح القدس. وهذه صفات من صفات الله مثلها كثير، لأنه يقال حكيم عليم سميع بصير حي قدير، كذلك ربنا تعالى. وإن كانت صفاتنا لا تبلغ كنه مجده إلا للتمثيل لعظمته وعزته وجلاله وعلو صفاته التي هي معناه وليس لسواه، جعلتموها أقانيم لكل واحد من الحياة والحكمة شخص له من الصفات مثل الذي له، وما فيها أقنوم له صفة.

ويحتمل على قياس قولكم أن تكون صفته مثله. وإذا كانت هذه الأقانيم الثلاثة عندكم آلهة، وكل صفة للإله من جوهره، فيجب أن تكون كل صفة لكل واحد من الثلاثة أقانيم، إذ كان من جوهره. فيتسع الأمر حتى لا يكون له غاية.

وإذا قلتم بثلاثة أقانيم وأنها في السماء من جوهر قديم. فيلزمكم الإقرار بثلاثة آلهة لأن الأقانيم يومأ إليها ويقع الحد عليها. وإذا كانت كذلك فسبيلها سبيل الأشخاص، فبماذا تحتجون؟

وتذكرون في بعض احتجاجكم أنها ثلاثة ترجع إلى واحد غير مبعضة ولا منفصلة. وتشبهونها في اجتماعها وظهور ما يظهر منها بالشمس. وعقدتم شريعة إيمانكم على أن المسيح إله وإنسان متحدين وأنه يصعد إلى السماء ويجلس عن يمين أبيه. والجالس عن يمين أبيه يكون منفصلا منه. فكيف يصح على هذا القول قياس أو عقد دين؟ تارة تقولون مجتمع، وتارة منفصل. ولما كان الله لم يزل حيا عالما قادرا علمنا أنه حي بنفسه عالم بنفسه قادر بنفسه لا يحتاج إلى ما يكون به حيا قادرا. وبذلك تثبتت له الوحدانية وانتفى عنه العدد من التثليث وغيره.

[مسيح الله]

وأوضح ما جاء في أمر المسيح ما قاله متى التلميذ « إنه لما جاء يسوع إلى أرض قيسارية قال لتلاميذه: ماذا يقول الناس في ابن البشر؟ قالوا: منهم من يقول إنك يوحنا المعمدان، ومنهم من يقول إنك أرميا أو أحد الأنبياء. فقال لهم يسوع: أنتم ماذا تقولون؟ فقال شمعون الصفا – وهو رأس التلاميذ – أنت المسيح ابن الله الحي. فقال المسيح: طوبى لك يا شمعان بن يونان، إنه لم يطلعك على هذا لحم ولا دم، ولكن الذي في السماء. [53]

وحكى لوقا في إنجيله هذا الخبر وقال إن شمعان قال له: أنت مسيح الله [54] – ولم يقل ابن الله – وقال المسيح إن شمعون الصفا لم ينطق به لكن بما أوحى الله في قلبه. ولم يدفعكم قط عن أنه مسيح ولا عن أنه كما تقولون في لغتكم – أنه ابن الله بالرحمة والصفوة مع الاختلاف الواقع في قول التلميذين.

وقد شهد المسيح على نفسه في عدة مواضع من الإنجيل أنه ابن البشر. وتكرر قوله لتلاميذه إن الله إلهي وإلهكم وأبي وأبيكم. [55]

فنقول: إن الله تعالى اختصه بهذا الاسم على سبيل الاصطفاء والمحبة مثل يعقوب وإسرائيل. وقال عز من قائل: أنت ابني بكري. فهذا يثبت به البنوة ولا يوجب له ألوهية، إذ كان الله تعالى قد أشرك في هذا الاسم غيره. وأنتم إذا افتتحتم صلاتكم تقولون: أبونا السماوي تقدس اسمك، ليأت ملكوتك، أعطنا قوتنا يوما يوما. [56] فلم تجعلوه كما جعل نفسه، وهو لم يدع ذلك ولم يرض به. وقد قال كما تقدم ذكره لما سئل عن علم الساعة إن ذلك شيء لا يعلمه أحد من الخلق ولا الملائكة ولا الابن أيضا – وأشار إلى نفسه – ولا يعلمه إلا الله وحده. [57] وكما قال للرجل الذي قال له: أيها المعلم الصالح، أي الأعمال خير لي حتى يكون لي حياة إلى يوم القيامة؟ فقال له: « لم تقول لي صالحا؟ ليس صالح إلا الله وحده » [58] فاعترف لله أنه واحد لا شريك له. وقوله للمرأة التي قالت له: أنت ذلك النبي الذي كنا ننتظر مجيئه؟ طوبى لك أيتها المرأة. وقوله للشيطان لما سامه أن يلقي نفسه من رأس الهيكل: « أمرنا أن لا نجرب الرب إلهك » [59] ثم سامه أن يسجد له فقال: « أمرنا أن لا نسجد إلا لله وحده ولا نعبد شيئا سواه » [60] ثم صلاته لله في سائر الأوقات – آخرها في الليلة التي أخذته اليهود فيها [61] – فإذا كان إلها كما زعمتم، لمن كان يصلي ويسجد؟

ثم قول الجموع الذين كانوا معه لما دخل أورشليم – وهي مدينة بيت المقدس – على الأتان، لمن كان يسأل عن أمره لما ارتجت المدينة بهم: هذا يسوع الناصري، النبي الذي من ناصرة. [62]

ثم قوله في الإنجيل: « اخرجوا بنا من هذه المدينة، فإن النبي لا يجل في مدينته وبيته وأقاربه » [63] ثم قول تلاميذه « إنه رجل نبي أتى من عند الله بالأيد والقوة » [64]

وقوله في الإنجيل لما جاءته أم زبدي مع ابنيها وكان من تلاميذه: ما تريدين؟ قالت: أريد أن تجلس ابني أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك في ملكوتك. فقال لها: ليس إلي ذلك، ولكن لمن أسعد من أبي. [65]

فهذه الشواهد كلها من كتبكم وما رضيتم قوله في نفسه ولا قول تلاميذه فيه ولا قول من أثنى عليه من الأنبياء ولا قول جموعة لمن سألهم عنه من مخالفيهم ولا ما ثبت في إنجيلكم الذي هو إمامكم وحجتكم. فتركتم ذلك كله وأخذتم بآراء قوم من رؤسائكم تأولوا ما تأولوه لكم مع علمكم بأنهم قد اختلفوا أيضا في الرأي. فبينوا لنا حجتكم في ذلك وهيهات من حجة.

ثم قول المسيح عليه السلام لتلاميذه على لسان لوقا الإنجيلي: « أنتم المقيمون معي في آلامي، فإني أعدكم كما وعدني أبي لتأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي » [66]

فبين أن الله وعده أن يجعله في ملكوت السماء يأكل ويشرب مع تلاميذه على مائدة. وهذا ما لا يسعكم فيه الشك، وهو مخالف لقولكم فيما يصير إليه من الأكل والشرب والنعيم هناك. وليس الأكل والشرب من طباع إله ولا رب يعبد.

ثم قوله عليه السلام لشمعون حين أتته الجموع لأخذه: « لا تظن أني لست قادرا على أن أطلب من أبي فيقيم لي اثنتي عشر جندا من الملائكة أو أكثر، ولكن كيف يتم ما نطقت به الكتب وأنه هكذا ينبغي أن يكون » [67]

ولم يقل إنني قادر على أن أدفعهم عن نفسي ولا أن آمر الملائكة أن يمنعوهم مني، كما يقول من له القدرة والأمر.

ثم إنكم تقولون إن المسيح مولود من أبيه أزلي. ويجب على المدعي بقول أن يثبت الحجة ويعلم أنه مطالب بإيضاحها وبرهانها، لا سيما في هذا الخطب الجليل الذي لا يجب أن يقع التلاعب به. والويل لمن تأول فيه تأويلا لا أصل له ولا حقيقة، فإنه يهلك نفسه وعوالم من الناس معه ممن يتبع قوله.

فإن كان الأمر على ما تقولون "أزليا" على ما في شريعة إيمانكم، فليس بمولود، وإن كان مولودا فليس بأزلي لأن اسم الأزلية إنما يقع على من لا أول له ولا آخر. ومعنى المولود أنه حادث مفعول، فله أول. فكيف قلتم ما كان فيه بطلان شريعة إيمانكم؟ وإذا كان الأب قديما فالابن قديم مثله، وإن كان الأب خالقا فالابن أيضا خالق. وشريعة إيمانكم تشهد بذلك في قولها إنه خالق الخلائق كلها وإنه نزل لخلاصكم. ومن قدر على ذلك لم يكن إلا خالقا قادرا. وهذه المعاني تبطل اسم الأبوة والبنوة. وفي بطلانها [ بطلان ] شريعة إيمانكم التي تقول إنه ولد من أبيه. فإذا كان الأب والابن متكافئين في القدم والقدرة، فأي فضل وسلطان للأب على الابن حتى أمره ونهاه فصار الأب باعثا والابن مبعوثا تابعا مطيعا؟

ومما يشهد بصحة قولنا ويبطل ما تأوله رؤساكم في عبودية المسيح أن متى التلميذ حين بنى إنجيله وأسس القول فيه، أول ما ابتدأ به أنه قال: « كتاب ولادة عيسى المسيح الابن لداود فالابن لإبراهيم. ولقد ولد إبراهيم إسحاق وولد إسحاق يعقوب » ونسبه إلى من كان منه على الصحة. ولم يقل إنه ابن الله ولا أنه إله من إله كما تقولون في شريعة إيمانكم.

ومما يصحح قولنا ويؤكده قول جبريل لمريم عليها السلام في مخاطبته إياها إنه ابن داود، على ما في الإنجيل. فأي حجة في إبطال تأويلكم أوضح من هذا؟

وقلتم في شريعة إيمانكم إن المسيح بكر الخلائق. فإن كنتم ذهبتم في ذلك إلى أنه على نحو ما يسمى أول ولد للرجل، فجائز وهو محقق لقولنا في خلقه وعبوديته. وإن كنتم أردتم بذكر البكر أنه أول قديم، فلسنا نعرف للبكر معنى في لغة من اللغات إلا الأول من الأولاد. وبكر الخلائق لا يكون إلا منهم [68] كما أن بكر الرجل والمرأة لا يكون إلا من جنسهما. ومن المحال أن يقال بكر ولد آدم ملَك. وكذلك من المحال أن بكر المصنوعات ليس بمصنوع، وبكر الخلائق ليس بمخلوق. وقد قال الله تعالى في التوراة: « ابني بكر آل إسرائيل » فهل يوجب لآل إسرائيل الألوهية بهذا القول؟

ومن آكد الحجج في المسيح إقراركم أنه بكر الخلائق وأنه الابن الأزلي، ثم الذي وقعتم فيه من الخلف بينكم وكل فرقة منكم تكفر الأخرى. وغيركم من الملل إنما اختلفوا في فروع الدين وشرائعه، مثل اختلاف اليهود في أعيادهم وسيرهم، واختلاف المسلمين في القدر، فمنهم من قال به ومنهم من دفعه. وفي تفضيل قوم من أصحاب محمد على نظرائهم بعد اتفاق جماعتهم على إلههم ومعبودهم وأنه واحد لا شريك له ولا ولد، خالق الخلق كلهم، ثم على نبيهم محمد وعلى القرآن المجيد وأنه كتاب الله المنزل على نبيه – لا يختلفون في ذلك. فإذا صح اتفاقهم على هذه الأصول كان ما سواه سهلا لا يقع معه كفر ولا يبطل به دين. وإنما البلاء العظيم الاختلاف في المعبود.

ولو أن قوما لم يعرفوا لهم غلها ولا ربا وعرض عليهم دين النصرانية لوجب أن يتوقفوا عنه إذ كان أهله لم يتفقوا على شيء منه، ودل اختلاف مقالاتهم ومبانيها في كتبهم على باطله.

[تبديل وتحريف الأناجيل]

ثم إنكم تقولون إن الأناجيل التي بيدكم لم تبدل ولم تحرف ولا غير شيء منها ولا زيد فيها ولا نقص منها. وقد جاء في تفسير الأناجيل لإليا بن ملكون الجاثليق – وهذا الرجل من أكبر أحباركم لا يسع أحد منكم جحود فضله وغزارة علمه وله من المصنفات في مذهبكم ما يشهد بحذقه – أن التلاميذ الاثني عشر والحواريين وعدتهم اثنان وسبعون نفرا، أن كل واحد منهم علم إنجيلا، وبقوا على ذلك إلى أيام قسطنطينوس، وأن هذا الملك لما رأى اضطراب حال النصارى واختلاف أناجيلهم وأن كل واحد من التلاميذ والحواريين قد أتى في إنجيله بشيء لم يأت به الآخر وكل منهم قد انقاد له جمع كثير والفتن بين النصارى قائمة وكل فرقة تكذب الفرقة الأخرى وتكفر اعتقادهم، أمر في جميع ممالك النصارى بإحضار البطاركة والجثالقة والأحبار من أقاصي البلدان، وأن يحضروا أناجيلهم. وكان عدة الجماعة الذين حضروا ثلاثمائة وثمانية عشر نفرا، وأنهم أحضروا من الأناجيل ما عجزوا عن حمله، وأن الملك قسطنطينوس أمرهم أن يقتصروا من تلك الأناجيل على إنجيل واحد وأنهم امتثلوا أمر الملك ودخلوا تحت طاعته لما رأوا في ذلك من المصلحة لسكون الفتن الثائرة بينهم وحقن دمائهم، واقتصروا على هذه الأناجيل الأربعة التي بأيديهم وهي لمتى ومرقس ولوقا ويوحنا، وأسقطوا الباقي. فإن كانت تلك الأناجيل التي أسقطوها غير صحيحة وهي كذب، فهذه الأربعة الأخرى تكون كذبا مثلها.

[إخوة المسيح]

ثم إنكم اختلفتم في إخوة المسيح، وقد جاء في تفسير الأناجيل أن المسيح كان له أربعة إخوة، وهم موسى وشمعون ويهوذا ويوحنا، وثلاث أخوات. فمنكم من قال إنهم أولاد مريم عليها السلام من يوسف النجار، وأنهم أتوا بعد ولادة المسيح عليه السلام. واستدلوا على ذلك بما نطقت به الأناجيل، وهو أن جبريل عليه السلام تراءى ليوسف خطيب مريم وقال له: خذ خطيبتك مريم واصعد إلى الجبل ولا تباشرها حتى تلد ابنها البكر. ومنهم من قال إن يوسف النجار تزوج امرأة أخرى وكان اسمها أيضا مريم وأولد منها هذه الأولاد، وبينما هم يتحاورون في ذلك إذا بصبي يقال له موانيس وأنه قال: حاشا الجسد الذي حل فيه جسد المسيح المخلص أن يحل فيه جسد آخر، وقد كان أمامهم صورة مريم في جدار وأن تلك الصورة نطقت، وقالت صدقت بفم الذهب. فسمي ذلك الصبي بفم الذهب، وقصته مشهورة. وانقطع الكلام وجزموا بما نطقت به تلك الصورة.

هامش

الملوك الأول 18: 17-24

الملوك الثاني 4: 8-37

التكوين 46: 4

الخروج 4: 3

ر الملوك الثاني 2

فدحه الدين أي أثقله

الملوك الثاني 4: 1-7

الملوك الأول 17: 11-16

ر يوحنا 6: 38-40

ر يوحنا 11: 39-48

متى 27: 46 ومرقس 15: 34

فالله من يغفر الذنوب. لوقا 23: 34

فسلم المشيئة إلى الله. متى 26: 42

يوحنا 5: 30

يوحنا 13: 16

ر يوحنا 1: 18

ر يوحنا 8: 28

ر يوحنا 7: 16

فوصف نفسه بأنه نبي. مرقس 3: 5

ر يوحنا 4: 25-26

يوحنا 20: 21

مرقس 9: 37

فجعل المسيح عبدا لله. متى 12: 18

ر يوحنا 12: 44

يوحنا 14: 28

ر يوحنا 5: 30، 10: 25، 10: 32

يوحنا 15: 1

ر يوحنا 5: 26

ر يوحنا 5: 31، 8: 18

يوحنا 8: 40

ر يوحنا 11: 41

ر يوحنا 5: 18-23، 7: 28-29

أعمال 2: 22-24

أعمال 2: 36

تكوين 45: 9

لوقا 24: 15-20

المزمور 2: 7-8

المعري

ينظر كتاب التاريخ المجموع لابن البطريق.

لعله مطران نصيبين إيليا النصيبني بن شينا 399 – 440.

ترجم له ابن العبري.

العبد

الخروج 4: 22

مزمور 2: 7

يوحنا 20: 17

ترجيح بلا مرجح.

ر الخروج 4: 16

الخروج 7: 1

ر أمثال 8: 23-30

متى 24: 36 ومرقس 13: 32

متى 19: 16-17 ومرقس 10: 17-18 ولوقا 18: 18-19

يوحنا 5: 30

فالله في السماء وليس على الأرض. متى 16: 13-17

لوقا 9: 20 ومرقس 8: 28

يوحنا 20: 17

متى 6: 9 ولوقا 11: 2

مرقس 13: 32

متى 19: 17

متى 4: 7

متى 4: 10

متى 26: 39

متى 21: 11

متى 13: 57

لوقا 24: 19

متى 20: 20 مرقس 10: 35

لوقا 22: 28-30

متى 26: 53

أي أنه مخلوق ليس بخالق

=======

الفصل الرابع

في الدلائل على نبوة سيد المرسلين وخاتم النبيين محمد - صلى الله عليه وسلم وعلى آله أجمعين – من التوراة والإنجيل وغيرهما

زعمتم أن المسيح عليه السلام أخبر أن لا نبي بعده. وقلتم إن محمدا جاء بالسيف دون المعجزات، وأنه لم يأت بآية مثل من تقدمه من الأنبياء، بل بكلام لا يصح أن يكون معجزا؛ والله عز وجل يقول: { قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }

وقلتم أن لا أحد من الأنبياء بشر به. وهذا غلط منكم، وليس من شرط صحة نبوة النبي أن يتقدمه نبي فيخبر أنه سيجيء نبي، فإن ذلك يلزم منه أن من صدق بنبي من الأنبياء ولم يتقدم نبي عليه يبشر بمجيئه فقد ضل. فمن أخبر عن موسى وعن أشعيا وأروميا وغيرهم من الأنبياء عليهم السلام؟

وقولكم إنه لا نبي بعد المسيح، فكتبكم تدل على خلاف ذلك. ولكن الذي أوقع ذلك في قلوبكم قد غشكم. وكيف تقولون هذا وتسمون الحواريين بعد المسيح رسلا، وتسمون بولس الرسول.

[البارقليط]

وقد قال المسيح في الإنجيل: « أنا ذاهب إلى أبي وأبيكم وربي وربكم، ليبعث لكم البارقليط الذي يأتيكم بالتأويل، وذلك أنه يأخذ من الذي أخزت، وهو روح الحق الذي لا يتكلم من قبل نفسه، إنما يتكلم كما يقال له يقول. وكل شيء أعد لكم يخبركم به. » [1]

فقد دل قول المسيح أنه يأتي بعده غيره، بخلاف ما تزعمون.

وقال المسيح عليه السلام في إنجيل يوحنا في الفصل الخامس عشر: « إن البارقليط الذي يرسله أبي باسمي، هو يعلمكم كل شيء. » [2]

والبارقليط الذي أرسله الله عز وجل بعد المسيح مصدقا للمسيح هو الذي علم الناس كل شيء لم يكونوا علموا به من قبل. ولم يكن في أصحاب المسيح من علم الناس شيئا غير الذي علمهم المسيح عليه السلام.

وقال أيضا في الفصل السادس عشر من إنجيل يوحنا: « إن البارقليط لم يجئكم ما لم أذهب، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئا، لكنه يسوسكم بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب. » [3]

وقال أيضا: « إني سائل أبي يرسل إليكم بارقليطا آخر يكون معكم إلى الأبد. » [4]

ومعنى قوله "أن يرسله باسمي" أن حقيقة البارقليط: الرسول. والمسيح معناه الرسول أيضا.

[السيف والآيات]

وأما قولكم إن محمدا جاء بالسيف دون الحجة والمعجزة، فهذا قول من لم يعرف الأخبار والسير ولم يقف على ما تقدم من الآثار. فالنبي كان يتيما فقيرا إلى أن أكرمه الله عز وجل بالرسالة، فدعا الناس إلى الله ثلاثة عشر سنة، وهو في أول أمره كان وحده، ثم في قل من أصحابه يسعى بين أحياء العرب ويقول: قولوا لا إله إلا الله محمد رسول الله تملكوا بها العرب وتدين لكم العجم. فمنهم من يسخر به ومنهم من لا يلتفت إليه ومنهم من يمسك عنه، حتى أظهر الله تعالى الإسلام وقوي أمره وهاجر إلى المدينة، ثم أمر بالقتال بعد ظهور المعجزة وقيام الحدة ووضوح الدلالة. وما شهر سيفا إلا بعد الإنذار والإعذار، فمن خالفه بعد ذلك وعانده قوتل حتى ظهر أمر الله وهم كارهون.

وقلتم أتى بكلام لا يصح أن يكون معجزة. فهل قدر أحد من العرب مع كثرتهم وفصاحتهم على الإتيان بمثله أو بمثل سورة منه؟ فإنه إذا تأمله العاقل المنصف لم يجد لعجمي ولا لعربي كتابا جمع من التوحيد والثناء على الله تعالى تقدست أسماؤه والتصديق بالرسل والحث على عمل الصالحات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترغيب في الجنة والتحذير من النار مثله ولا يقاربه.

وإذا تأملت التوراة فإنك تجد أكثرها أنساب بني إسرائيل وسيرهم من مصر وحطهم وترحالهم وأسماء المنازل التي نزلوها. وفيها مع ذلك سنن وشرائع وأحكام.

والإنجيل الذي في أيديكم فإن جله أخبار المسيح عليه السلام ومولده وتصرفه وآداب مواعظه، وليس فيه من السنن والشرائع والأخبار إلا اليسير.

وكتاب أشعيا وأرميا وغيرهما من الأنبياء، فجلها لعن بني إسرائيل وذكر ما أعد لهم من الخزي وإزالة النعم، وأشياء قد قيل فيها إنها محرفة. ومثل قول حزقيال إن الله أمره أن يحلق رأسه ولحيته بسيف صارم حاد. [5] ومثل قول يوشع إن الله أمره أن يتزوج امرأة مشهورة بالزنا فولدت له اثنين، وأمره أن يسمي أحدهما "لا أرحم" والآخر "ليس من حزبي" قالوا ليعلم بنو إسرائيل أني لا أرحمهم ولا أعتدهم حزبي. [6]

فهل يوجد في الفرقان شيء يشبه هذا أو يقاربه؟ بل هو منسوخ [7] بالتوحيد والتمجيد والسنن والشرائع والوعد والوعيد والبشارات والتي تليق بالله سبحانه وتعالى وبسط الأمل والغفران وقبول التوبة وكل ما تستريح إليه الآمال. وهو كما وصفه المتكلم به جل جلاله بقوله: { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ }

[بشارة جبال فاران]

ثم قول الله عز وجل في التوراة: « جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستنار واستعلن من جبال فاران، وعن يمينه ربوات القديسين، فمنحهم العز وحببهم إلى الشعوب ودعا لهم بالبركة. » [8]

وهذه نبوءة تنبه على موسى وعيسى ومحمد ، لأن الله تعالى أنزل التوراة على موسى في طور سيناء، والإنجيل على عيسى في جبل ساعير وهو بالشام، وأنزل القرآن على محمد في جبال فاران، وهي بالحجاز. وفاران أحد العمالقة السبعة الذين اقتسموا الأرض، فجعلوا لفاران الحجاز.

[بشارة بنبي من إخوة بني إسرائيل]

وفي الفصل الحادي عشر من السفر الخامس من التوراة عن موسى عليه السلام: « إن الرب إلهكم يقيم لكم نبيا مثلي، من بينكم ومن إخوتكم. » [9]

وفي هذا الفصل أن الرب قال لموسى: « إني مقيم لهم نبيا مثلك من بين إخوتهم، وأيما رجل لم يسمع كلماتي التي يؤديها عني ذلك الرجل باسمي أنتقم منه. » [10]

وهذا يدل على أن النبي الذي يقام لا يكون من بين إسرائيل. لأن من خاطب قوما فقال لهم إني إقيم من إخوتكم رجلا، استفيد من ذلك أنه ليس من أنفسهم. كما أن من قال لبني أمية إنه سيكون من إخوتكم إمام، عُقل منه أنه لا يكون من بني أمية. وكل نبي بعث بعد موسى لم يكن من إخوتهم. والنبي من إخوتهم لأنه من ولد إسماعيل. وإسماعيل هو أخو إسحاق. ولو كانت هذه البشارة لنبي من بني إسرائيل لم يكن لها معنى لأن الله تعالى قد بعث بعد موسى خلقا كثيرا من الأنبياء من بني إسرائيل. واليهود تعتقد أنه لا يجيء من بني إسرائيل بعد موسى مثل موسى. [11] وهذا يدل على أن البشارة لنبي من غيرهم. فهذا تصريح باسم النبي محمد .

وفي الفصل الثالث والعشرين من التوراة: « اسمعي أيتها الجزائر وتفهمي يا أيها الأمم، إن الرب أهاب بي من بعيد وذكر اسمي وأنا في الرحم وجعل لساني كالسيف الصارم وأنا في البطن، وحاطني بظل يمينه وجعلني في كنانته كالسهم المختار، وقال لي إنك عبدي، وصرت محمدا عند الرب، وبإلهي حولي وقوتي. » [12]

فإن أنكر منكر اسم محمد في هذا الكلام، فليكن محمودا. [13] ولن يجد إلى غير ذلك من الدعاوى سبيلا. ولو ذكرت جميع ما في كتب الأنبياء من ذلك لطال الكلام وحصل الضجر والملل من القارئ والسامع. [14]

لكنني أقول – تعجبا منكم يا ذوي العقول الضعيفة – كيف تعتقدون الألوهية في إنسان لا يقدر على تخليص نفسه من الأعداء ولا إنقاذها من البلاء حين ظفروا به كما قلتم وفعلوا معه ما ذكرتم؟ فمن لا يملك لنفسه نفعا ولا من الأعداء منعا كيف يكون إلها قادرا كما تزعمون وسيدا متمكنا كما تتوهمون؟ فأين قدرته أيها الغافلون وأين تمكنه أيها المبطلون؟ بئس والله ما تعتقدون. إنما أنتم في طغيانكم تعمهون. حدتم عن الرشاد وسلكتم طريق العناد وكفرتم بالرحمن واتبعتم سنن الشيطان. فإنهم الذين غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذابا عظيما.

لو كان فيكم رجل عليم له عقل سليم لتفكر في أمر النبيين وبحث عن أصول الدين حتى يقف على اليقين، لعرف أن الدين عند الله الإسلام وأن شريعة محمد سيد الأنام هي الشريعة الواضحة وميزان أمته هي الميزان الراجحة. لكن غلب عليكم الجهل واحتجبت عنكم طريقة العقل، فعميت أبصاركم ووهنت أحلامكم.

{ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ }

ولقد بان لكم الحق فأنكرتموه وصح لكم الصدق فدفعتموه، وجحدتم ما تعلمون وعدلتم عما تعرفون.

{ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ } { فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ }

فلو كشف الله عن أبصاركم لعلمتم أنكم من القوم الظالمين ولما جحدتم نبوة سيدنا محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين، ولا كذبتم برسالته وأنكرتم حجته. ولو فحصتم عما أتى به من المعجزات والبراهين والآيات لعلمتم ما جهلتم واتضح لكم ما أنكرتم وانكشف لكم ما لبسه عليكم الذين أخذتم عنهم دينكم وظهر لكم غلطهم وفساد اعتقادهم وخلافهم وعنادهم، ولم يخف عليكم أنهم ضلوا وأضلوا، ولشهدت عقولكم بصدق محمد وآمنتم بما أنزل عليه من القرآن وما أظهره من العجائب والبرهان حتى ظهر دينه على كل الأديان ودحض كل زور وبهتان.

ودلائل آياته أوضح من فلق الصبح، ولكن جهلكم يحملكم على دفعها وجحودها ومنعها حتى رضيتم دينكم الضعيف فأذلكم واتبعتم الهوى فأضلكم، فأنتم كما قال عز من قائل:

{ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ } { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآَيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا }

هذا وقد اختصرت من أحوال النصارى ولخصت في فساد اعتقاداتهم وضعف دينهم ما يستدل به على وهنهم. وهذه الخلاصة كافية تغني عن الإطالة ولا تدعو إلى الملالة. وأنا أحمد الله على حسن توفيقه وما عرفني من نفسه وألهمني من شكره ودلني عليه من الإخلاص في توحيده وجنبني من الإلحاد والشك في أمره حمدا لا منتهى له ولا غاية لحده. وأثني عليه ثناء يكون وصلة إلى طاعته وعفوه وسببا إلى رضوانه وذريعة إلى مغفرته وطريقا إلى جنته وخفيرا من نقمته وحاجزا عن معصيته وهاديا إلى الاعتراف بوحدانيته وتنزيهه عن الشركاء والأنداد والأمثال والأولاد – تقدست أسماؤه وتظاهرت آلاؤه ولا إله إلا هو، واحد فرد صمد، لا شريك له، { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ } { هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }

{ رَبَّنَا آَمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ }

{ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ }

{ لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ }

{ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }

وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وخاتم النبيين وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين والتابعين لهم إلى يوم الدين. آمين.

هامش

ر يوحنا 15: 26-27، 16: 12-14

يوحنا 15: 26-27

يوحنا 16: 12-13

يوحنا 16: 14

حزقيال 5: 1 وما بعده

هوشع 1: 2-6

أي نسخته مملوءة، مكتوب بالمذكور

التثنية 33: 2-3

التثنية 18: 15

التثنية 18: 18-19

التثنية 34: 10

ترجمة علي بن ربن الطبري في كتابه الدين والدولة. ينظر أشعياء 49: 1-3

أي إن لم تكن ترجمة الكلمة كذلك.

ينظر إظهار الحق لرحمة الله الهندي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...