يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الجمعة، 31 مارس 2023

مج 2.إحياء علوم الدين الي قبل اسرار الزكاة


بسم الله الرحمن الرحيم

كتاب قواعد العقائد

وفيه أربعة فصول

======

الفصل الأول

في ترجمة عقيدة أهل السنة في كلمتي الشهادة

التي هي أحد مباني الإسلام

فنقول وبالله التوفيق: الحمد لله المبدىء المعيد الفعال لما يريد ذي العرش المجيد والبطش الشديد الهادي صفوة العبيد إلى المنهج الرشيد والمسلك السديد المنعم عليهم بعد شهادة التوحيد بحراسة عقائدهم عن ظلمات التشكيك والترديد السالك بهم إلى اتباع رسوله المصطفى واقتفاء آثار صحبه الأكرمين المكرمين بالتأييد والتسديد المتجلي لهم في ذاته وأفعاله بمحاسن أوصافه التي لا يدركها إلا من ألقى السمع وهو شهيد المعرف إياهم أنه في ذاته واحد لا شريك له فرد لا مثيل له صمد لا ضد له منفرد لا ند له وأنه واحد قديم لا أول له أزلي لا بداية له مستمر الوجود لا آخر له أبدي لا نهاية له قيوم لا انقطاع له لم يزل ولا يزال موصوفاً بنعوت الجلال لا يقضى عليه بالانقضاء والانفصال بتصرم الآباد وانقراض الآجال بل "هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم".

التنزيه: وأنه ليس بجسم مصور ولا جوهر محدود مقدر وأنه لا يماثل والأجسام ولا التقدير ولا في قبول الانقسام وأنه ليس بجوهر ولا تحله الجواهر ولا بعرض ولا تحله الأعراض بل لا يماثل موجوداً ولا يماثله موجود "ليس كمثله شيء" ولا هو مثل شيء. وأنه لا يحده المقدار ولا تحويه الأقطار ولا تحيط به الجهات ولا تكتنفه الأرضون ولا السموات. وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله وبالمعنى الذي أراده استواء منزهاً عن المماسة والاستقرار والتمكن والحلول والانتقال لا يحمله العرش بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته ومقهورون في قبضته. وهو فوق العرش والسماء وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قرباً إلى العرش والسماء كما لا تزيده بعداً عن الأرض والثرى بل هو رفيع الدرجات عن العرش والسماء كما أنه رفيع الدرجات عن الأرض والثرى. وهو مع ذلك قريب من كل موجود وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد "وهو على كل شيء شهيد" إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام وأنه لا يحل في شيء ولا يحل فيه شيء تعالى عن أن يحويه مكان كما تقدس عن أن يحده زمان بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان. وأنه بائن عن خلقه بصفاته ليس في ذاته سواه ولا في سواه ذاته وأنه مقدس عن التغير والانتقال لا تحله الحوادث ولا تعتريه العوارض بل لا يزال في نعوت جلاله منزهاً عن الزوال وفي صفات كماله مستغنياً عن زيادة الاستكمال. وأنه في ذاته معلوم الوجود بالعقول مرئي الذات بالأبصار نعمة منه ولطفاً بالأبرار في دار القرار وإتماماً منه للنعيم بالنظر إلى وجهه الكريم.

الحياة والقدرة: وأنه تعالى حي قادر جبار قاهر لا يعتريه قصور ولا عجز ولا تأخذه سنة ولا نوم ولا يعارضه فناء ولا موت وأنه ذو الملك والملكوت والعزة والجبروت له السلطان والقهر والخلق والأمر والسموات مطويات بيمينه والخلائق مقهورون في قبضته. وأنه المنفرد بالخلق والاختراع المتوحد بالإيجاد والإبداع خلق الخلق وأعمالهم وقدر أرزاقهم وآجالهم لا يشذ عن قبضته مقدور ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور، لا تحصى مقدوراته ولا تتباهى معلوماته.

العلم: وأنه عالم بجميع المعلومات محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى السموات وأنه عالم لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ويدرك حركة الذر في جو الهواء ويعلم السر وأخفى، ويطلع على هواجس الضمائر وحركات الخوطر وخفيات السرائر بعلم قديم أزلي لم يزل موصوفاً به في أزل الآزال لا بعلم متجدد حاصل في ذاته بالحلول والانتقال.

الإرادة: وأنه تعالى مريد للكائنات مدبر للحادثات فلا يجري في الملك والملكوت قليل أو كثير صغير أو كبير خير أو شر نفع أو ضر إيمان أو كفر عرفان أو نكر فوز أو خسران زيادة أو نقصان طاعة أو عصيان إلا بقضائه وقدره وحكمته ومشيئته. فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن لا يخرج عن مشيئته لفتة ناظر ولا فلتة خاطر بل هو المبدىء المعيد الفعال لما يريد لا راد لأمره ولا معقب لقضائه ولا مهرب لعبد عن معصيته إلا بتوفيقه ورحمته. ولا قوة له على طاعته إلا بمشيئته وإرادته فلو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك، وأن إرادته قائمة بذاته في جملة صفاته لم يزل كذلك موصوفاً بها مريداً في أزله لوجود الأشياء في أوقاتها التي قدرها فوجدت في أوقاتها كما أراده في أزله من غير تقدم ولا تأخر بل وقعت على وفق علمه وإرادته من غير تبدل ولا تغير. دبر الأمور لا بترتيب أفكار ولا تربص زمان فلذلك لم يشغله شأن عن شأن.

السمع والبصر: وأنه تعالى سميع بصير يسمع ويرى ولا يعرب عن سمعه مسموع وإن خفي. ولا يغيب عن رؤيته مرئي وإن دق. ولا يحجب سمعه بعد ولا يدفع رؤيته ظلام. يرى من غير حدقة وأجفان ويسمع من غير أصمخة وآذان كما يعلم بغير قلب ويبطش بغير جارحة ويخلق بغير آلة إذ لا تشبه صفاته صفات الخلق كما لا تشبه ذاته ذوات الخلق.

الكلام: وأنه تعالى متكلم آمر ناه واعد متوعد بكلام أزلي قديم قائم بذاته لا يشبه كلام الخلق فليس بصوت يحدث من انسلال هواه أو اصطكاك أجرام ولا بحرف ينقطع بإطباق شفة أو تحريك لسان. وأن القرآن والتوراة والإنجيل والزبور كتبه المنزلة على رسله عليهم السلام. وأن القرآن مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف محفوظ في القلوب وأنه مع ذلك قديم قائم بذات الله تعالى لا يقبل الانفصال والافتراق بالانتقال إلى القلوب والأوراق، وأن موسى ﷺ سمع كلام الله بغير صوت ولا حرف، كما يرى الأبرار ذات الله تعالى في الآخرة من غير جوهر ولا عرض. وغذا كانت له هذه الصفات كان حياً عالماً قادراً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً بالحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر والكلام لا بمجرد الذات.

الأفعال: وأنه سبحانه وتعالى لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعله وفائض من عدله على أحسن الوجوه وأكملها وأتمها وأعدلها وأنه حكيم في أفعاله عادل في أقضيته لا يقاس عدله بعدل العباد إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره. ولا يتصور الظلم من الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً، فكل ما سواه من إنس وجن وملك وشيطان وسماء وارض وحيوان ونبات وجماد وجوهر وعرض ومدرك ومحسوس حادث اخترعه بقدرته بعد العدم اختراعاً وأنشأه إنشاء بعد أن لم يكن شيئاً إذ كان موجوداً وحده ولم يكن معه غيره فأحدث الخلق بعد ذلك إظهاراً لقدرته وتحقيقاً لما سبق من إرادته ولما حق في الأزل من كلمته لا لافتقاره إليه وحاجته. وأنه متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب ومتطول بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم، فله الفضل والإحسان والنعمة والامتنان إذ كان قادراً على أن يصب على عباده أنواع العذاب ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب ولو فعل ذلك لكان منه عدلاً ولم يكن منه قبيحاً ولا ظلماً. وأنه عز وجل يثبت عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له إذ لا يجب عليه لأحد فعل ولا يتصور منه ظلم ولا يجب لأحد عليه حق. وأن حقه في الطاعات وجب على الخلق بإيجابه على ألسنة أنبيائه عليهم السلام لا بمجرد العقل ولكنه بعث الرسل وأظهر صدقهم بالمعجزات الظاهرة فبلغوا أمره ونهيه ووعده ووعيده فوجب على الخلق تصديقهم فيما جاءوا به.

معنى الكلمة الثانية وهي الشهادة للرسل بالرسالة وأنه بعث النبي الأمي القرشي محمداً ﷺ برسالته إلى كافة العرب والعجم والجن والإنس فنسخ بشريعته الشرائع إلا ما قرره منها. وفضله على سائر الأنبياء وجعله سيد البشر. ومنع كمال الإيمان بشهادة التوحيد وهو قول لا إله إلا الله ما لم تقترن بها شهادة الرسول وهو قولك "محمد رسول الله" وألزم الخلق تصديقه في جميع ما أخبر عنه من أمور الدنيا والآخرة. وأنه لا يتقبل إيمان عبد يؤمن بما أخبر به بعد الموت وأوله: سؤال منكر ونكير وهما شخصان مهيبان هائلان يقعدان العبد في قبره سوياً ذا روح وجسد فيسألانه عن التوحيد والرسالة ويقولان له: من ربك وما دينك ومن نبيك? وهما فتانا القبر وسؤالهما أول فتنة بعد الموت. وأن يؤمن بعذاب القبر وأنه حق وحكمه عدل على الجسم والروح على ما يشاء. وأن يؤمن بالميزان ذي الكفتين واللسان وصفته في العظم أنه مثل طبقات السموات والأرض توزن الأعمال بقدرة الله تعالى، والصنج يومئذ مثاقيل الذر والخردل تحقيقاً لتمام العدل، وتوضع صحائف الحسنات في صورة حسنة في كفة النور فيثقل بها الميزان على قدر درجاتها عند الله بفضل الله وتطرح صحائف السيئات في صورة قبيحة في كفة الظلمة فيخف بها الميزان بعدل الله. وأن يؤمن بأن الصراط حق وهو جسر ممدود على متن جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة تزل عليه أقدام الكافرين بحكم الله سبحانه فتهوي بهم إلى النار وتثبت عليه أقدام المؤمنين بفضل الله فيساقون إلى دار القرار. وأن يؤمن بالحوض المورود حوض محمد ﷺ يشرب منه المؤمنون قبل دخول الجنة وبعد جواز الصراط من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً عرضه مسيرة شهر ماؤه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل حوله أباريق عددها بعدد نجوم السماء فيه ميزابان يصبان فيه من الكوثر. وأن يؤمن بالحساب وتفاوت الناس فيه إلى مناقش في الحساب وإلى مسامح فيه وغلى من يدخل الجنة بغير حساب وهم المقربون فيسأل الله تعالى من يشاء من الأنبياء عن تبليغ الرسالة ومن شاء من الكفار عن تكذيب المرسلين ويسأل المبتدعة عن السنة ويسأل المسلمين عن الأعمال. وأن يؤمن بإخراج الموحدين من النار بعد الانتقام حتى لا يبقى في جهنم موحد بفضل الله تعالى فلا يخلد في النار موحد. وأن يؤمن بشفاعة الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء ثم سائر المؤمنين على حسب جاهه ومنزلته عند الله تعالى ومن بقي من المؤمنين ولم يكن له شفيع أخرج بفضل الله عز وجل فلا يخلد في النار مؤمن بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان. وأن يعتقد فضل الصحابة رضي الله عنهم وترتيبهم وأن أفضل الناس بعد النبي ﷺ: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم. وأن يحسن الظن بجميع الصحابة ويثني عليهم كما أثنى الله عز وجل ورسوله ﷺ عليهم أجمعين فكل ذلك مما وردت به الأخبار وشهدت به الآثار فمن اعتقد جميع ذلك موقناً به كان من أهل الحق وعصابة السنة وفارق رهط الضلال وحزب البدعة. فنسأل الله كمال اليقين وحسن الثبات في الدين لنا ولكافة المسلمين برحمته إنه أرحم الراحمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى.

============

الفصل الثاني

في وجه التدريج إلى الإرشاد وترتيب درجات الاعتقاد

اعلم أن ما ذكرناه في ترجمة العقيدة ينبغي أن يقدم إلى الصبي في أول نشوه ليحفظه حفظاً ثم لا يزال ينكشف له معناه في كبره شيئاً فشيئاً؛ فابتداؤه الحفظ ثم الفهم ثم الاعتقاد والإيقان والتصديق به، وذلك مما يحصل في الصبي بغير برهان. فمن فضل الله سبحانه على قلب الإنسان أن شرحه في أول نشوه للإيمان من غير حاجة إلى حجة وبرهان، وكيف ينكر ذلك وجميع عقائد العوام مباديها التلقين المجرد والتقليد المحض? نعم يكون الاعتقاد الحاصل بمجرد التقليد غير خال عن نوع من الضعف في الابتداء على معنى أنه يقبل الإزالة بنقيضه لو ألقي إليه فلابد من تقويته وإثباته في نفس الصبي والعامي حتى يترسخ ولا يتزلزل. وليس الطريق في تقويته وإثباته إن يعلم صنعة الجدل والكلام بل يشتغل بتلاوة القرآن وتفسيره وقراءة الحديث ومعانيه. ويشتغل بوظائف العبادات فلا يزال اعتقاده يزداد رسوخاً بما يقرع سمعه من أدلة القرآن وحججه وبما يرد عليه من شواهد الأحاديث وفوائدها وبما يسطع عليه من أنوار العبادات ووظائفها وبما يسري إليه من مشاهدة الصالحين ومجالستهم وسيماهم وسماعههم وهيآتهم في الخضوع لله عز وجل والخوف منه والاستكانة له فيكون أول التلقين كإلقاء بذر في الصدر، وتكون هذه الأسباب كالسقي والتربية له حتى ينمو ذلك البذر يقوى ويرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء. وينبغي أن يحرس سمعه من الجدل والكلام غاية الحراسة فإن ما يشوشه الجدل أكثر مما يمهده وما يفسده أكثر مما يصلحه بل تقويته بالجدل تضاهي ضرب الشجرة بالمدقة من الحديد رجاء تقويتها بأن تكثر أجزاؤها وربما يفتتها ذلك ويفسدها وهو الأغلب. والمشاهدة تكفيك في هذا بياناً فناهيك بالعيان برهاناً. فقس عقيدة أهل الصلاح والتقى من عوام الناس بعقيدة المتكلمين والمجادلين فترى اعتقاد العامي في الثبات كالطود الشامخ لا تحركه الدواهي والصواعق وعقيدة المتكلم الحارس اعتقاده بتقسيمات الجدل كخيط مرسل في الهواء تفيئه الرياح مرة هكذا ومرة هكذا إلا من سمع منهم دليل الاعتقاد فتلقفه تقليداً كما تلقف نفس الاعتقاد تقليداً؛ إذ لا فرق في التقليد بين تعليم الدليل أو تعلم المدلول فتلقين الدليل شيء والاستدلال بالنظر شيء آخر بعيد عنه. ثم الصبي إذا وقع نشوه على هذه العقيدة إن اشتغل بكسب الدنيا لم ينفتح له غيرها ولكنه يسلم في الآخرة باعتقاد أهل الحق، إذ لم يكلف الشرع أجلاف العرب أكثر من التصديق الجازم بظاهر هذه العقائد، فأما البحث والتفتيش وتكلف نظم الأدلة فلم يكلفوه أصلاً. وإن أراد أن يكون من سالكي طريق الآخرة وساعده التوفيق حتى اشتغل بالعمل ولازم التقوى ونهى النفس عن الهوى واشتغل بالرياضة والمجاهدة انفتحت له أبواب من الهداية تكشف عن حقائق هذه العقيدة بنور إلهي يقذف في قلبه بسبب المجاهدة تحقيقاً لوعده عز وجل إذ قال "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين" وهو الجوهر النفيس الذي هو غاية إيمان الصديقين والمقربين، وإليه الإشارة بالسر الذي وقر في صدر أبي بكر الصديق رضي الله عنه حيث فضل به الخلق. وانكشاف ذلك السر بل تلك الأسرار له درجات بحسب درجات المجاهدة ودرجات الباطن في النظافة والطهارة عما سوى الله تعالى وفي الاستضاءة بنور اليقين وذلك كتفاوت الخلق في اسرار الطب والفقه وسائر العلوم إذ يختلف ذلك باختلاف الاجتهاد واختلاف الفطرة في الذكاء والفطنة وكما لا تنحصر تلك الدرجات فكذلك هذه مسألة فإن قلت: تعلم الجدل والكلام مذموم كتعلم النجوم أو هو مباح أو مندوب إليه? فاعلم أن الناس في هذا غلواً وإسرافاً في أطراف فمن قائل إنه بدعة أو حرام وأن العبد إن لقي الله عز وجل بكل ذنب سوى الشرك خير له من أن يلقاه بالكلام، ومن قائل إنه واجب وفرض إما على الكفاية أو على الأعيان وأنه أفضل الأعمال وأعلى القربات فإنه تحقيق لعلم التوحيد ونضال عن دين الله تعالى. وإلى التحريم ذهب الشافعي ومالك وأحمد بن حنبل وسفيان وجميع أهل الحديث من السلف.

قال ابن عبد الأعلى رحمه الله سمعت الشافعي رضي الله عنه يوم ناظر حفصاً الفرد - وكان من متكلمي المعتزلة - يقول: لأن يلقى الله عز وجل العبد بكل ذنب ما خلا الشرك بالله خير من أن يلقاه بشيء من علم الكلام ولقد سمعت من حفص كلاماً لا أقدر أن أحكيه، وقال أيضاً: قد اطلعت من أهل الكلام على شيء ما ظننته قط ولأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام. وحكى الكرابيسي "أن الشافعي رضي الله عنه سئل عن شيء من الكلام فغضب، وقال: سل عن هذا حفصاً الفرد وأصحابه، أخزاهم الله، ولما مرض الشافعي رضي الله عنه دخل عليه حفص الفرد فقال له: من أنا? فقال: حفص الفرد، لا حفظك الله ولا رعاك حتى تتوب مما أنت فيه. وقال أيضاً لو علم الناس ما في الكلام من الأهواء لفروا منه فرارهم من الأسد? وقال أيضاً إذا سمعت الرجل يقول الاسم هو المسمى أو غير المسمى? فاشهد بأنه من أهل الكلام ولا دين له. قال الزعفراني: قال الشافعي حكمي في أصحاب الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في القبائل والعشائر ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام? وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب الكلام أبداًن ولا تكاد ترى أحداً نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل، وبالغ في ذمه حتى هجر الحارث المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتاباً في الرد على المبتدعة وقال له: ويحك ألست تحكي بدعتهم أولاً ثم ترد عليهم ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكر في تلك الشبهات فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث! وقال أحمد رحمه الله: علماء الكلام زنادقة. وقال مالك رحمه الله: أرأيت إن جاءه من هو أجدل منه أيدع دينه كل يوم لدين جديد? يعني أن أقوال المتجادلين تتفاوت. وقال مالك رحمه الله أيضاً: لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء؛ فقال بعض أصحابه - في تأويله - أنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا. وقال أبو يوسف: من طلب العلم بالكلام تزندق. وقال الحسن: لا تجادلوا أهل الأهواء ولا تجالسوهم ولا تسمعوا منهم، وقد اتفق أهل الحديث من السلف على هذا. ولا ينحصر ما نقل عنهم من التشديدات فيه وقالوا ما سكت عنه الصحابة - مع أنهم أعرف بالحقائق وأفصح بترتيب الألفاظ من غيرهم - إلا لعلمهم بما يتولد منه من الشر.

ولذلك قال النبي ﷺ "هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون" أي المتعقمون في البحث والاستقصاء. واحتجوا أيضاً بأن ذلك لو كان من الدين لكان ذلك أهم ما يأمر به رسول الله ﷺ ويعلم طريقه ويثني عليه وعلى أربابه، فقد علمهم الاستنجاء" وندبهم إلى علم الفرائض وأثنى عليهم ونهاهم عن الكلام في القدر وقال أمسكوا عن القدر. وعلى هذا استمر الصحابة رضي الله عنهم فالزيادة على الأستاذ طغيان وظلم. وهم الأستاذون والقدوة ونحن الأتباع والتلامذة. وأما الفرقة الأخرى فاحتجوا بأن قالوا: إن المحذور من الكلام إن كان هو لفظ الجوهر والعرض وهذه الاصطلاحات الغريبة التي تعهدها الصحابة رضي الله عنهم فالأمر فيه قريب، إذا ما من علم غلا وقد أحدث فيه اصطلاحات لأجل التفهيم كالحديث والتفسير ولو عرض عليهم عبارة النقض والكسر والتركيب والتعدية وفساد الوضع إلى جميع الأسئلة التي تورد على القياس لما كانوا يفقهونه. فإحداث عبارة للدلالة بها على مقصود صحيح كإحداث آنية على هيئة جديدة لاستعمالها في مباح، وإن كان المحذور هو المعنى فنحن لا نعني به إلا معرفة الدليل على حدوث العالم ووحدانية الخالق وصفاته كما جاء في الشرع فمن أين تحرم معرفة الله تعالى بالدليل، وإن كان المحذور هو التشعب والتعصب والعداوة والبغضاء وما يفضي إليه الكلام فذلك محرم ويجب الاحتراز عنه كما أن الكبر والعجب والرياء وطلب الرياسة مما يفضي إليه علم الحديث والتفسير والفقه وهو محرم يجب الاحتراز عنه ولكن لا يمنع من العلم لأجل أدائه إليه وكيف يكون ذكر الحجة والمطالبة بها والبحث عنها محظوراً وقد قال الله تعالى "قل هاتوا برهانكم" وقال عز وجل "ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة" وقال تعالى "هل عندكم من سلطان بهذا" أي حجة وبرهان وقال تعالى "قل فالله الحجة البالغة" وقال تعالى "ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه - إلى قوله - فبهت الذي كفر" إذ ذكر سبحانه احتجاج إبراهيم ومجادلته وإفحامه خصمه في معرض الثناء عليه وقال عز وجل "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه" وقال تعالى "قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا" وقال تعالى في قصة فرعون "وما رب العالمين - إلى قوله - أولوا جئتك بشيء مبين" وعلى الجملة فالقرآن من أوله إلى آخره محاجة مع الكفار فعمدة أدلة المتكلمين في التوحيد قوله تعالى "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وفي النبوة "وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله" وفي البعث "قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" إلى غير ذلك من الآيات والأدلة.

ولم تزل الرسل صلوات الله عليهم يحاجون المنكرين ويجادلونهم قال تعالى "وجادلهم بالتي هي أحسن" فالصحابة رضي الله عنهم أيضاً كانوا يحاجون المنكرين ويجادلون ولكن عند الحاجة. وكانت الحاجة إليه قليلة في زمانهم وأول من سن دعوة المبتدعة بالمجادلة إلى الحق: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، إذ بعث ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج فكلمهم فقال: ما تنقمون على إمامكم? قالوا: قاتل ولم يسب ولم يغنم، فقال: ذلك في قتال الكفار! أرأيتم لو سببت عائشة رضي الله عنها في سهم أحدكم أكنتم تستحلون منها ما تستحلون من ملككم وهي أمكم في نص الكتاب? فقالوا: لا، فرجع منهم إلى الطاعة بمجادلته ألفان. وروي أن الحسن ناظر قدرياً فرجع عن القدر. وناظر علي بن أبي طالب كرم الله وجهه رجلاً من القدرية. وناظر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يزيد بن عميرة في الإيمان، قال عبد الله: لو قلت إني مؤمن لقلت إني في الجنة? فقال له يزيد بن عميرة: يا صاحب رسول الله هذه زلة منك وهل الإيمان إلا أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث والميزان وتقيم الصلاة والصوم والزكاة? ولنا ذنوب لو نعلم أنها تغفر لنا لعلمنا أننا من أهل الجنة، فمن أجل ذلك نقول إنا مؤمنون ولا نقول إنا من أهل الجنة. فقال ابن مسعود صدقت والله إنها مني زلة، فينبغي أن يقال كان خوضهم فيه قليلاً لا كثيراً وقصيراً لا طويلاً وعند الحاجة لا بطريق التصنيف والتدريس واتخاذه صناعة، فيقال أما قلة خوضهم فيه فإنه كان لقلة الحاجة إذا لم تكن البدعة تظهر في ذلك الزمان، وأما القصر فقد كان الغاية في إفحام الخصم واعترافه وانكشاف الحق وإزالة الشبهة، فلو طال إشكال الخصم أو لجاجه لطال لا محالة إلزامهم. وما كانوا يقدرون قدر الحاجة بميزان ولا مكيال بعد الشروع فيها "وأما عدم تصديهم للتدريس والتصنيف فيه فهكذا كان دأبهم في الفقه والتفسير والحديث أيضاً، فإن جاز تصنيف الفقه ووضع الصور النادرة التي لا تتفق إلا على الندور إما إدخار اليوم وقوعها وإن كان نادراً أو تشحيذاً للخواطر فنحن أيضاً نرتب طرق المجادلة لتوقع وقوع الحاجة بثوران شبهة أو هيجان مبتدع أو لتشحيذ أو لادخار الحجة حتى لا يعجز عنها عند الحاجة على البديهة والارتجال، كمن يعد السلاح قبل القتال ليوم القتال فهذا ما يمكن أن يذكر للفريقين. فإن قلت: فما المختار عندك فيه? فاعلم أن الحق فيه أن إطلاق القول بذمه في كل حال أو بحمده في كل حال خطأ بل لابد فيه من تفصيل. فاعلم أولاً أن الشيء قد يحرم لذاته كالخمر والميتة وأعني بقولي لذاته أن علة تحريمه وصف في ذاته وهو الإسكار والموت. وهذا إذا سئلنا عنه أطلقنا القول بأنه حرام ولا يلتفت إلا إباحة الميتة عند الاضطرار وإباحة تجرع الخمر إذا غص الإنسان بلقمة ولم يجد ما يسيغها سوى الخمر وإلى ما يحرم لغيره كالبيع على بيع أخيك المسلم في وقت الخيار والبيع وقت النداء، وكأكل الطين فإنه يحرم لما فيه من الإضرار وهذا ينقسم إلى ما يضر قليله وكثيره فيطلق القول عليه بأنه حرام كالسم الذي يقتل قليله وكثيره، وإلى ما يضر عند الكثرة فيطلق القول عليه بالإباحة كالعسل فإن كثيره يضر بالمجرور، وكأكل الطين.

وكأن إطلاق التحريم على الطين والخمر والتحليل على العسل التفات إلى أغلب الأحوال؛ فإن تصدى شيء تقابلت فيه الأحوال فالأولى والأبعد عن الالتباس أن يفصل فنعود إلى علم الكلام ونقول: إن فيه منفعة وفيه مضرة، فهو باعتبار منفعته في وقت الانتفاع حلال أو مندوب إليه أو واجب كما يقتضيه الحال، وهو باعتبار مضرته في وقت الاستضرار ومحله حرام أما مضرته فإثارة الشبهات وتحريك العقائد وإزالتها عن الجزم والتصميم فذلك مما يحصل في الابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ويختلف فيه الإشخاص، فهذا ضرره في الاعتقاد الحق. وله ضرر آخر في تأكيد اعتقاد المبدعة للبدعة وتثبيته في صدورهم بحيث تنبعث دواعيهم ويشتد حرصهم على الإصرار عليه ولكن هذا الضرر بواسطة التعب الذي يثور من الجدل ولذلك ترى المبتدع العامي يمكن أن يزول اعتقاده باللطف في أسرع زمان إلا إذا كان نشؤه في بلد يظهر فيها الجدل والتعصب فإنه لو اجتمع عليه الأولون والآخرون لم يقدروا على نزع البدعة من صدره بل الهوى والتعصب وبغض خصوم المجادلين وفرقة المخالفين يستولي على قلبه ويمنعه من إدراك الحق حتى لو قيل له: هل تريد أن يكشف الله تعالى لك الغطاء ويعرفك بالعيان أن الحق مع خصمك لكره ذلك خيفة من أن يفرح به خصمه? وهذا هو الداء العضال الذي استطار في البلاد والعباد وهو نوع فساد أثاره المجادلون بالتعصب فهذا ضرره. وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ما هي عليه وهيهات فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ولعل التخبيط والتضليل فيه أكثر من الكشف والتعريف، وهذا إذا سمعته من محدث أو حشوي ربما خطر ببالك أن الناس أعداء ما جهلوا فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة وبعد التغلغل فيه إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخر تناسب نوع الكلام وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود. ولعمري لا ينفك الكلام عن كشف وتعريف وإيضاح لبعض الأمور ولكن على الندور في أمور جلية تكاد تفهم قبل التعمق في صنعة الكلام بل منفعته شيء واحد وهو حراسة العقيدة التي ترجمناها على العوام وحفظها عن تشويشات المبتدعة بأنواع الجدل فإن العامي ضعيف يستفزه جدل المبتدع وإن كان فاسداً، ومعارضة الفاسد بالفاسد تدفعه.

والناس متعبدون بهذه العقيدة التي قدمناها غذ ورد الشرع بها لما فيها من صلاح دينهم ودنياهم وأجمع السلف الصالح عليها والعلماء يتعبدون بحفظها على العوام من تلبيسات المبتدعة كما تعبد السلاطين بحفظ أموالهم عن تهجمات الظلمة والغصاب وإذا وقعت الإحاطة بضرره ومنفعته فينبغي أن يكون كالطبيب الحاذق في استعمال الدواء الخطر إذ لا يضعه إلا في موضعه وذلك في وقت الحاجة وعلى قدر الحاجة. وتفصيله أن العوام المشتغلين بالحرف والصناعات يجب أن يتركوا على سلامة عقائدهم التي اعتقدوها مهما تلقنوا الاعتقاد الحق الذي ذكرناه فإن تعليمهم الكلام ضرر محض في حقهم إذ ربما يثير لهم شكاً ويزلزل عليهم الاعتقاد ولا يمكن القيام بعد ذلك بالإصلاح. وأما العامي المعتقد للبدعة فينبغي أن يدعى إلى الحق بالتلطف لا بالتعصب وبالكلام اللطيف المقنع للنفس المؤثر في القلب القريب من سياق أدلة القرآن والحديث الممزوج بفن من الوعظ والتحذير فإن ذلك أنفع من الجدال الموضوع على شرط المتكلمين؛ إذ العامي إذا سمع ذلك اعتقد أنه نوع صنعة من الجدل تعلمها المتكلم ليستدرج الناس إلى اعتقاده فإن عجز عن اجلواب قدر أن المجادلين مع أهل مذهبه أيضاً يقدرون على دفعه. فالجدل مع هذا ومع الأول حرام وكذلك مع من وقع في شك إذ يجب إزالته باللطف والوعظ والأدلة القريبة المقبولة البعيدة عن تعمق الكلام. واستقصاء الجدل إنما ينفع في موضع واحد وهو أن يفرض عامي اعتقد البدعة بنوع جدله سمعه فيقابل ذلك الجدل بمثله فيعود إلى اعتقاد الحق وذلك فيمن ظهر له من الأنس بالمجادلة ما يمنعه عن القناعة بالمواعظ والتحذيرات العامية فقد انتهى هذا إلى حالة لا يشفيه منها إلا دواء الجدل فجار أن يلقى إليه. وأما في بلاد تقل فيها البدعة ولا تختلف فيها المذاهب فيقتصر فيها على ترجمة الاعتقاد الذي ذكرناه ولا يتعرض للأدلة ويتربص وقوع شبهة فإن وقعت ذكر بقدر الحاجة فإن كانت البدعة شائعة وكان يخاف على الصبيان أن يخدعوا فلا بأس أن يعلموا القدر الذي أودعناه كتاب الرسالة القدسية ليكون ذلك سبباً لدفع تأثير مجادلات المبتدعة إن وقعت إليهم وهذا مقدار مختصر وقد أودعناه هذا الكتاب لاختصاره فإن كان فيه ذكاء وتنبه بذكائه لموضع سؤال أو ثارت في نفسه شبهة فقد بدت العلة المحذورة وظهر الداء فلا بأس أن يرقى منه إلى القدر الذي ذكرناه في كتاب الاقتصاد في الاعتقاد - وهو قدر خمسين ورقة - وليس فيه خروج عن النظر في قواعد العقائد إلى غير ذلك من مباحث المتكلمين. فإن اقنعه ذلك كف عنه وإن لم يقنعه ذلك فقد صارت العلة مزمنة والداء غالباً والمرض سارياً فليتلطف به الطبيب بقدر إمكانه وينتظر قضاء الله تعالى فيه إلى أن ينكشف له الحق بتنبيه من الله سبحانه أو يستمر على الشك والشبهة إلى ما قدر له فالقدر الذي يحويه ذلك الكتاب وجنسه من المصنفات هو الذي يرجى نفعه. فأما الخارج منه فقسمان؛ أحدهما: بحث عن غير قواعد العقائد كالبحث عن الاعتمادات وعن الأكوان وعن الإدراكات وعن الخوض في الرؤية هل لها ضد يسمى المنع أو العمى? وإن كان فذلك واحد هو منع عن جميع ما لا يرى أو ثبت لكل مرئي يمكن رؤيته منع بحسب عدده إلى غير ذلك من الترهات المضلات. والقسم الثاني: زيادة تقرير لتلك الأدلة في غير تلك القواعد وزيادة أسئلة وأجوبة وذلك أيضاً استقصاء لا يزيد إلا ضلالاً وجهلاً في حق من لم يقنعه ذلك القدر فرب كلام يزيده الإطناب والتقرير غموضاً. ولو قال قائل: البحث عن حكم الإدراكات والاعتمادات فيه فائدة تشحيذ الخواطر. والخاطر آلة الدين كالسيف آل الجهاد فلا بأس بتشحيذه كان كقوله لعب الشطرنج يشحذ الخاطر فهو من الدين أيضاً وذلك هوس فإن الخاطر يتشحذ بسائر علوم الشرع ولا يخاف فيها مضرة فقد عرفت بهذا القدر المذموم والقدر المحمود من الكلام والحال التي يذم فيها والحال التي يحمد فيها والشخص الذي ينتفع به والشخص الذي لا ينتفع به.

فإن قلت: مهما اعترفت بالحاجة إليه في دفع المبتدعة والآن قد ثارت البدع وعمت البلوى وأرهقت الحاجة فلابد أن يصير القيام بهذا العلم من فروض الكفايات كالقيام بحراسة الأموال وسائر الحقوق كالقضاء والولاية وغيرهما? وما لم يشتغل العلماء بنشر ذلك والتدريس فيه والبحث عنه لا يدوم ولو ترك بالكلية لاندرس وليس في مجرد الطباع كفاية لحل شبه المبتدعة ما لم يتعلم فينبغي أن يكون التدريس فيه والبحث عنه أيضاً من فروض الكفايات بخلاف زمن الصحابة رضي الله عنهم فإن الحاجة ما كانت ماسة إليه. فاعلم أن الحق أنه لابد في كل بلد من قائم بهذا العلم مستقل يدفع شبه المبتدعة التي ثارت في تلك البلدة وذلك يدوم بالتعليم ولكن ليس من الصواب تدريسه على العموم كتدريس الفقه والتفسير فإن هذا مثل الدواء والفقه مثل الغذاء وضرر الغذاء لا يحذر وضرر الدواء محذور لما ذكرنا فيه من أنواع الضرر. فالعالم الذي ينبغي أن يخصص بتعليم هذا العلم من فيه ثلاث خصال؛ إحداها: التجرد للعلم والحرص عليه، فإن المحترف يمنعه الشغل عن الاستتمام وإزالة الشكوك إذا عرضت. الثانية: الذكاء والفطنة والفصاحة فإن البليد لا ينتفع بفهمه والفدم لا ينتفع بحجاجه فيخاف عليه من ضرر الكلام ولا يرجى فيه نفعه. الثالثة: أن يكون في طبعه الصلاح والديانة والتقوى ولا تكون الشهوات غالبة عليه فإن الفاسق بأدنى شبهة ينخلع عن الدين فإن ذلك يحل عنه الحجر ويرفع للسد الذي بينه وبين الملاذ فلا يحرص على إزالة الشبهة بل يغتنمها ليتخلص من أعباء التكليف فيكون ما يفسده مثل هذا المتعلم أكثر مما يصلحه. وإذا عرفت هذه الانقسامات اتضح لك أن هذه الحجة المحمودة في الكلام إنما هي من جنس حجج القرآن من الكلمات اللطيفة المؤثرة في القلوب المقنعة للنفوس دون التغلغل في التقسيمات والتدقيقات التي لا يفهمها أكثر الناس وإذا فهموها اعتقدوا أنها شعوذة وصناعة تعلمها صاحبها للتلبيس، فإذا قابله مثله في الصنعة قاومه. وعرفت أن الشافعي وكافة السلف إنما منعوا عن الخوض فيه والتجرد له لما فيه من الضرر الذي نبهنا عليه. وأن ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما من مناظرة الخوارج وما نقل عن علي رضي الله عنه من المناظرة في القدر وغيره كان من الكلام الجلي الظاهر وفي محل الحاجة وذلك محمود في كل حال. نعم قد تختلف الأعصار في كثرة الحاجة وقلتها فلا يبعد أن يختلف الحكم لذلك فهذا حكم العقيدة التي تعبد الخلق بها حكم طريق النضال عنها وحفظها فأما إزالة الشبهة وكشف الحقائق ومعرفة الأشياء على ما هي عليه وإدراك الأسرار التي يترجمها ظاهر ألفاظ هذه العقيدة فلا مفتاح له إلا المجاهدة وقمع الشهوات والإقبال بالكلية على الله تعالى وملازمة الفكر الصافي عن شوائب المجادلات وهي رحمة من الله عز وجل تفيض على من يتعرض لنفحاتها بقدر الرزق وبحسب التعرض وبحسب قبول المحل وطهارة القلب وذلك البحر الذي لا يدرك غوره ولايبلغ ساحله مسألة فإن قلت: هذا الكلام يشير إلى أن هذه العلوم لها ظواهر وأسرار وبعضها جلي يبدو أولاً وبعضها خفي يتضح بالمجاهدة والرياضة والطلب الحثيث والفكر الصافي والسر الخالي عن كل شيء من أشغال الدنيا سوى المطلوب وهذا يكاد يكون مخالفاً للشرع إذ ليس للشرع ظاهر وباطن وسر وعلن بل الظاهر والباطن والسر والعلن واحد فيه? فاعلم أن انقسام هذه العلوم إلى خفية وجلية لا ينكرها ذو بصيرة وإنما ينكرها القاصرون الذي تلقفوا في أوائل الصبا شيئاً وجمدوا عليه فلم يكن لهم ترق إلى شأو العلا ومقامات العلماء والأولياء وذلك ظاهر من أدلة الشرع قال ﷺ "إن للقرآن ظاهراً وباطناً وحداً ومطلقعاً" وقال علي رضي الله عنه - وأشار إلى صدره - إن ههنا علوماً جمة لو وجدت لها حملة. وقال ﷺ "نحن معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم" وقال ﷺ "ما حدث أحد قوماً بحديث لم تبلغه عقولهم إلا كان فتنة عليهم" وقال الله تعالى "وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون" وقال ﷺ "إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العالمون بالله تعالى" الحدث إلى آخره كما أوردناه في كتاب العلم. وقال ﷺ "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً" فليت شعري إن لم يكن ذلك سراً منع من إفشائه لقصور الأفهام عن إدراكه أو لمعنى آخر فلم لم يذكره لهم ولاشك أنهم كانوا يصدقونه لو ذكره لهم? وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله عز وجل "الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن" لو ذكرت تفسيره لرجمتموني. وفي لفظ آخر: لقلتم إنه كافر، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: حفظت من رسول الله ﷺ "ما فضلكم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولكن بسر وقر في صدره" رضي الله عنه ولا شك في أن ذلك السر كان متعلقاً بقواعد الدين غير خارج منها وما كان من قواعد الدين لم يكن خافياً بظواهره على غيره، وقال سهل التستري رضي الله عنه: للعالم ثلاثة علوم: علم ظاهر يبذله لأهل الظاهر وعلم باطن لا يسعه إظهاره إلا لأهله وعلم هو بينه وبين الله تعالى لا يظهره لأحد. وقال بعض العارفين: إفشاء سر الربوبية كفر. وقال بعضهم: للربوبية سر لو أظهر لبطلت النبوة، وللنبوة سر لو كشف لبطل العلم، وللعلماء بالله سر لو أظهروه لبطلت الأحكام، وهذا القائل إن لم يرد بذلك بطلان النبوة في حق الضعفاء لقصور فهمهم فما ذكره ليس بحق بل الصحيح أنه لا تناقض فيه وأن الكامل من لا يطفي نور معرفته نور ورعه، وملاك الورع النبوة مسألة فإن قلت: هذه الآيات والأخبار يتطرق إليها تأويلات فبين لنا كفيفة اختلاف الظاهر والباطن فإن الباطن إن كان مناقضاً للظاهر ففيه إبطال الشرع، وهو قول من قال: إن الحقيقة خلاف الشريعة وهو كفر لأن الشريعة عبارة عن الظاهر والحقيقة عبارة عن الباطن وإن كان لا يناقضه ولا يخالفه فهو هو فيزول به الانقسام ولا يكون للشرع سر لا يفشى بل يكون الخفي والجلي واحد? فاعلم أن هذا السؤال يحرك خطباً عظيماً وينجر إلى علوم المكاشفة ويخرج عن مقصود علم المعاملة وهو غرض هذه الكتب فإن العقائد التي ذكرناها من أعمال القلوب وقد تعبدنا بتلقينها بالقبول والتصديق بعقد القلب عليها لا بأن يتوصل إلى أن ينكشف لنا حقائقها فإن ذلك لم يكلف به كافة الخلق ولولا أنه من الأعمال لما أوردناه في هذا الكتاب، ولولا أنه عمل ظاهر القلب لا عمل باطنه لما أوردناه في الشطر الأول من الكتاب وإنما الكشف الحقيقي هو صفة سر القلب وباطنه ولكن إذا انجر الكلام إلى تحريك خيال في مناقضة الظاهر للباطن فلابد من كلام وجيز في حله. فمن قال: إن الحقيقة تخالف الشريعة أو الباطن يناقض الظاهر فهو إلى الكفر أقرب منه إلى الإيمان بل الأسرار التي يختص بها المقربون بدركها ولا يشاركهم الأكثرون في علمها ويمتنعون عن إفشائها إليهم ترجع إلى خمسة أقسام: القسم الأول: أن يكون الشيء في نفسه دقيقاً تكل أكثر الأفهام عن دركه فيختص بدركه الخواص وعليهم أن لا يفشوه إلى غير أهله فيصير ذلك فتنة عليهم حيث تقصر أفهامهم عن الدرك. وإخفاء سر الروح وكف رسول الله ﷺ عن بيانه من هذا القسم فإن حقيقته بما تكل الأفهام عن دركه وتقصر الأوهام عن تصور كنهه. ولا تظنن أن ذلك لم يكن مكشوفاً لرسول الله ﷺ فإن من لم يعرف الروح فكأنه لم يعرف نفسه ومن لم يعرف نفسه فكيف يعرف ربه سبحانه? ولا يبعد أن يكون ذلك مكشوفاً لبعض الأولياء والعلماء وإن لم يكونوا أنبياء ولكنهم يتأدبون بآداب الشرع فيسكتون عما سكت عنه بل في صفات الله عز وجل من الخفايا ما تقصر أفهام الجماهير عن دركه ولم يذكر رسول الله ﷺ منها إلا الظواهر للأفهام من العلم والقدرة وغيرهما حتى فهمها الخلق بنوع مناسبة توهموها إلى علمهم وقدرتهم إذ كان لهم من الأوصاف ما يسمى علماً وقدرة فيتوهمون ذلك بنوع مقايسة. ولو ذكر من صفاته ما ليس للخلق مما يناسبه بعض المناسبة شيء لم يفهموه، بل لذة الجماع إذا ذكرت للصبي أو العنين لم يفهمها إلا بمناسبة إلى لذة المطعوم الذي يدركه ولا يكون ذلك فهماً علىالتحقق. والمخالفة بين علم الله تعالى وقدرته وعلم الخلق وقدرتهم أكثر من المخالفة بين لذة الجماع والأكل. وبالجملة فلا يدرك الإنسان إلا نفسه وصفات نفسه مما هي حاضرة له في الحال أو مما كانت له من قبل ثم بالمقايسة إليه يفهم ذلك لغيره ثم قد يصدق بأن بينهما تفاوتاً في الشرف والكمال فليس في قوة البشر إلا أن يثبت لله تعالى ما هو ثابت لنفسه من الفعل والعلم والقدرة وغيرها من الصفات مع التصديق بأن ذلك أكمل وأشرف فيكون معظم تحريمه على صفات نفسه لا على ما اختص الرب تعالى به من الجلال. ولذلك قال ﷺ "لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وليس المعنى أني أعجز عن التعبير عما أدركته بل هو اعتراف بالقصور عن إدراك كنه جلاله. ولذلك قال بعضهم: ما عرف الله بالحقيقة سوى الله عز وجل. وقال الصديق رضي الله عنه: الحمد لله الذي لم يجعل للخلق سبيلاً إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته. ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط ولنرجع إلى الغرض وهو أن أحد الأقسام ما تكل الأفهام عن إدراكه ومن جملته الروح ومن جملته بعض صفات الله تعالى. ولعل الإشارة إلى مثله في قوله ﷺ "إن لله سبحانه وتعالى سبعين حجاباً من نور لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه كل من أدركه بصره" القسم الثاني: من الخفيات التي تمتنع الأنبياء والصديقون عن ذكرها ما هو مفهوم في نفسه لا يكل الفهم عنه لكن ذكره يضر بأكثر المستمعين ولا يضر بالأنبياء والصديقين. وسر القدر الذي منع أهل العلم من إفشائه من هذا القسم، فلا يبعد أن يكون ذكر بعض الحقائق مضراً ببعض الخلق كما يضر نور الشمس بأبصار الخفافيش وكما تضر رياح الورد بالجعل، وكيف يبعد هذا وقولنا إن الكفر والزنا والمعاصي والشرور كله بقضاء الله تعالى وإرادته ومشيئته حق في نفسه وقد أضر سماعه بقوله إذ أوهم ذلك عندهم أنه دلالة على السفه ونقيض الحكمة والرضا بالقبيح والظلم? وقد ألحد ابن الراوندي وطائفة من المخذولين بمثل ذلك. وكذلك سر القدر لو أفشي لأوهم عند أكثر الخلق عجزاً إذ تقصر أفهامهم عن إدراك ما يزيل ذلك الوهم عنهم، ولو قال قائل: إن القيامة لو ذكر ميقاتها وأنها بعد ألف سنة أو أكثر أو أقل لكان مفهوماً ولكن لم يذكر لمصلحة العباد وخوفاً من الضرر فلعل المدة إليها بعيدة فيطول الأمد، وإذا استبطأت النفوس وقت العقاب قل اكتراثها ولعلها كانت قريبة في علم الله سبحانه ولو ذكرت لعظم الخوف وأعرض الناس عن الأعمال وخربت الدنيا، فهذا المعنى لو اتجه وصح فيكون مثالاً لهذا القسم

القسم الثالث: أن يكون الشيء بحيث لو ذكر صريحاً لفهم ولم يكن فيه ضرر ولكن يكنى عنه على سبيل الاستعارة والرمز ليكون وقعه في قلب المستمع أغلب وله مصلحة في أن يعظم وقت ذلك الأمر في قلبه، كما لو قال قائل؛ رأيت فلاناً يقلد الدر في أعناق الخنازير؛ فكنى به عن إفشاء العلم وبث الحكمة إلى غير أهلها فالمستمع قد يسبق إلى فهمه ظاهر اللفظ، والمحقق إذا نظر وعلم أن ذلك الإنسان لم يكن معه در ولا كان في موضعه خنزير تفطن لدرك السر والباطن فيتفاوت الناس في ذلك، ومن هذا قال الشاعر:

رجلان خياط وآخر حائك

متقابلان على السماك الأعزل

لا زال ينسج ذاك خرقة مدبر

ويخيط صاحبه ثياب المقبل

فإنه عبر عن سبب سماوي في الإقبال والإدبار برجلين صانعين وهذا النوع يرجع إلى التعبير عن المعنى بالصورة التي تتضمن عين المعنى أو مثله، ومنه قوله ﷺ "إن المسجد لينزوي من النخامة كما تنزوي الجلدة على النار" وأنت ترى أن ساحة المسجد لا تنقبض بالنخامة، ومعناه أن روح المسجد كونه معظماً ورمي النخامة فيه تحقير له فيضاد معنى المسجدية مضادة النار لاتصال أجزاء الجلدة، وكذلك قوله ﷺ "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول رأسه رأس حمار" وذلك من حيث الصورة لم يكن قط ولا يكون؛ ولكن من حيث المعنى هو كائن إذ رأس الحمار لم يكن بحقيقته لكونه وشكله بل بخاصيته وهي البلادة والحمق، ومن رفع رأسه قبل الإمام فقد صار رأسه رأس حمار في معنى البلادة والحمق وهو المقصود دون الشكل الذي هو قالب المعنى. إذ من غاية الحمق أن يجمع بين الاقتداء وبين التقدم فإنهما متناقضان. وإنما يعرف أن هذا السر على خلاف الظاهر إما بدليل عقلي أو شرعي، أما العقلي فأن يكون حمله على الظاهر غير ممكن كقوله ﷺ "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" إذ لو فتشنا عن قلوب المؤمنين لم نجد فيها أصابع فعلم أنها كناية عن القدرة التي هي سر الأصابع وروحها الخفي، وكنى بالأصابع عن القدرة لأن ذلك أعظم وقعاً في تفهم تمام الاقتدار. ومن هذا القبيل في كنايته عن الاقتدار قوله تعالى "إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون" فإن ظاهره ممتنع إذ قوله "كن" إن كان خطاباً للشيء قبل وجوده فهو محال إذا المعدوم لا يفهم الخطاب حتى يمثل وإن كان بعد الوجود فهو مستغن عن التكوين. ولكن لما كانت هذه الكناية أوقع في النفوس في تفهيم غاية الاقتدار عدل إليها وأما المدرك بالشرع فهو أن يكون إجراؤه على الظاهر ممكناً ولكنه يروا أنه أريد به غير الظاهر كما ورد في تفسير قوله تعالى "أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها" الآية أن معنى الماء ههنا هو القرآن ومعنى الأودية هي القلوب وأن بعضها احتملت شيئاً كثيراً وبعضها قليلاً وبعضها لم يحتمل. والزبد مثل الكفر والنفاق فإنه وإن ظهر وطفا على رأس الماء فإنه لا يثبت والهداية التي تنفع الناس تمكث. وفي هذا القسم تعمق جماعة فأولوا ما ورد في الآخرة من الميزان والصراط وغيرهما وهو بدعة إذ لم ينقل ذلك بطريق الرواية وإجراؤه على الظاهر غير محال فيجب إجراؤه على الظاهر. القسم الرابع: أن يدرك الإنسان الشيء جملة ثم يدركه تفصيلاً بالتحقيق والذوق بأن يصير حالاً ملابساً له فيتفاوت العلمان ويكون الأول كالقشر والثاني كاللباب، والأول كالظاهر والثاني كالباطن. وذلك كما يتمثل للإنسان في عينه في الظلمة أو على البعد فيحصل له نوع علم فإذا رآه بالقرب أو بعد زوال الظلام أدرك تفرقة بينهما، ولا يكون الأخير ضد الأول بل هو استكمال له. فكذلك العلم والإيمان والتصديق، إذ قد يصدق الإنسان بوجود العشق والمرض والموت قبل وقوعه ولكن تحققه به عند الوقوع أكمل من تحققه قبل الوقوع بل للإنسان في الشهوة والعشق وسائر الأحوال ثلاثة أحوال متفاوتة وإدراكات متباينة، الأول: تصديقه بوجوده قبل وقوعه. والثاني. عند وقوعه. والثالث: بعد تصرمه. فإن تحققك بالجوع بعد زواله يخالف التحقيق قبل الزوال وكذلك من علوم الدين ما يصير ذوقاً فيكمل فيكون ذلك كالباطن بالإضافة إلى ما قبل ذلك، ففرق بين علم المريض بالصحة وبين علم الصحيح بها. ففي هذه الأقسام الأربعة تتفاوت الخلق وليس في شيء منها باطن يناقض الظاهر بل يتممه ويكمله كما يتمم اللب القشر والسلام. الخامس: أن يعبر بلسان المقال عن لسان الحال فالقاصر الفهم يقف على الظاهر ويعتقده نطقاً، والبصير بالحقائق يدرك السر فيه وهذا كقول القائل: قال الجدار للوتد لم تشقني? قال: سل من يدقني فلم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي? فهذا تعبير عن لسان الحال بلسان المقال، ومن هذا قوله تعالى "ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين فالبليد يفتقر في فهمه إلى أن يقدر لهما حياة وعقلاً وفهماً للخطاب وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان "أتينا طائعين" والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال وأنه إنباء عن كونهما مسخرتين بالضرورة ومضطرتين إلى التسخير. ومن هذا قوله تعالى "وإن من شيء إلا يسبح بحمده" فالبليد يفتقر فيه إلى أن يقدر للجمادات حياة وعقلاً ونطقاً بصوت وحرف حتى يقول "سبحان الله" ليتحقق تسبيحه. والبصير يعلم أنه ما أريد به نطق اللسان بل كونه مسبحاً بوجوده ومقدساً بذاته وشاهداً بوحدانية الله سبحانه كما يقال: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد وكما يقال: هذه الصنعة المحكمة تشهد لصانعها بحسن التدبير وكمال العلم لا بمعنى أنها تقول أشهد بالقول ولكن بالذات والحال. وكذلك ما من شيء إلا وهو محتاج في نفسه إلى موجد يوجده ويبقيه ويديم أوصافه ويردده في أطواره فهو بحاجته يشهد لخالقه بالتقديس يدرك شهادته ذوو البصائر دون الجامدين على الظواهر. ولذلك قال تعالى "ولكن لا تفقهون تسبيحهم" وأما القاصرون فلا يفقهون أصلاً وأما المقربون والعلماء الراسخون فلا يفقهون كنهه وكماله إذ لكل شيء شهادات شتى على تقديس الله سبحانه وتسبيحه، ويدرك كل واحد بقدر عقله وبصيرته، وتعداد تلك الشهادات لا يليق بعلم المعاملة. فهذا الفن أيضاً مما يتفاوت أرباب الظواهر وأرباب البصائر في علمه وتظهر به مفارقة الباطن للظاهر. وفي هذا المقام لأرباب المقامات إسراف واقتصاد فمن مسرف في رفع الظواهر انتهى إلى تغيير جميع الظواهر والبراهين أو أكثرها حتى حملوا قوله تعالى "وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم" وقوله تعالى "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء" وكذلك المخاطبات التي يجري من منكر ونكير وفي الميزان والصراط والحساب ومناظرات أهل النار وأهل الجنة في قولهم "أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله" زعموا أن ذلك كله بلسان الحال. وغلا آخرون في حسم الباب منهم أحمد بن حنبل رضي الله عنه حتى منع تأويل قوله "كن فيكون" وزعموا أن ذلك خطاب بحرف وصوت يوجد من الله تعالى في كل لحظة بعدد كون مكون حتى سمعت بعض أصحابه يقول؛ إنه حسم باب التأويل إلا لثلاثة ألفاظ قوله ﷺ "الحجر الأسود يمين الله في أرضه" وقوله ﷺ "قلب المؤمنين بين أصبعين من أصابع الرحمن" وقوله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن" ومال إلى حسم الباب أرباب الظواهر. والظن بأحمد بن حنبل رضي الله عنه أنه علم أن الاستواء ليس هو الاستقرار والنزول ليس هو الانتقال ولكنه منع من التأويل حسماً للباب ورعاية لصلاح الخلق. فإنه إذا فتح الباب اتسع الخرق وخرج الأمر عن الضبط وجاوز حد الاقتصاد إذ حد ما جاوز الاقتصاد لا ينضبط فلا بأس بهذا الزجر ويشهد له سيرة السلف فإنهم كانوا يقولون: أمروها كما جاءت "حتى قال مالك رحمه الله لما سئل عن الاستواه: الاستواء معلوم والكيفية مجهولة والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة. وذهبت طائفة إلى الاقتصاد وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه وتركوا ما يتعلق بالآخرة على ظواهرها ومنعوا التأويل فيه وهم الأشعرية. وزاد المعتزلة عليهم حتى أولوا من صفاته تعالى الرؤية وأولوا كونه سميعاً بصيراً وأولوا المعراج وزعموا أنه لم يكن بالجسد وأولوا عذاب القبر والميزان والصراط وجملة من أحكام الآخرة، ولكن أقروا بحشر الأجساد وبالجنة واشتمالها على المأكولات والمشمومات والمنكوحات والملاذ المحسوسة، وبالنار واشتمالها على جسم محسوس يحرق بحرق الجلود ويذيب الشحوم. ومن ترقيهم إلى هذا الحد زاد الفلاسفة فأولوا كل ما ورد في الآخرة وردوه إلى آلام عقلية وروحانية ولذات عقلية وأنكروا حشر الأجساد وقالوا ببقاء النفوس وأنها تكون إما معذبة وإما منعمة بعذاب ونعيم لا يدرك بالحس وهؤلاء هم المسرفون. وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع، ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قروره وما خالف أولوه. فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم ولا يتعين له موقف. والألبق بالمقتصر على السمع المجرد: مقام أحمد بن حنبل رحمه الله. والآن فكشف الغطاء عن حد الاقتصاد في هذه الأمور داخل في علم المكاشفة والقول فيه يطول فلا نخوض فيه؛ والغرض بيان موافقة الباطن الظاهر وأنه غير مخالف له فقد انكشف بهذه الأقسام الخمسة أمور كثيرة. وإذا رأينا أن نقتصر بكافة العوام على ترجمة العقيدة التي حررناها وأنهم لا يكلفون غير ذلك في الدرجة الأولى إلا إذا كان خوف تشويش لشيوع البدعة فيرقى في الدرجة الثانية إلى عقيدة فيها لوامع من الأدلة مختصرة من غير تعمق. فلنورد في هذا الكتاب تلك اللوامع ولنقتصر فيها على ما حررناه لأهل القدس وسميناه الرسالة القدسية في قواعد العقائد وهي مودعة في هذا الفصل الثالث من هذا الكتاب.

==============

الفصل الثالث

في لوامع الأدلة للعقيدة

التي ترجمناها بالقدس فنقول

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي ميز عصابة السنة بأنواراليقين وآثر رهط الحق بالهداية إلى دعائم الدين وجنبهم زيغ الزائغين وضلال الملحدين ووفقهم للاقتداء بسيد المرسلين وسددهم للتأسي بصحبة الأكرمين ويسر لهم اقتفاء آثار السلف الصالحين حتى اعتصموا من مقتضيات العقول بالحبل المتين ومن سير الأولين وعقائدهم بالمنهج المبين، فجمعوا بالقول بين نتائج العقول وقضايا الشرع المنقول، وتحققوا أن النطق بما تعبدوا به من قول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ليس له طائل ولا محصول إن لم تتحقق الإحاطة بما تدور عليه هذه الشهادة من الأقطاب والأصول، وعرفوا أن كلمتي الشهادة على إيجازها تتضمن إثبات ذات الإله وإثبات صفاته وإثبات أفعاله وإثبات صدق الرسول، وعلموا أن بناء الإيمان على هذه الأركان وهي أربعة ويدور كل ركن منها على عشرة أصول الركن الأول في معرفة ذات الله تعالى ومداره على عشرة أصول: وهي العلم بوجود الله تعالى وقدمه وبقائه وأنه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض وأنه سبحانه ليس مختصاً بجهة ولا مستقراً على مكان وأنه يرى وأنه واحد الركن الثاني في صفاته ويشتمل على عشرة أصول: وهو العلم بكونه حياً عالماً قادراً مريداً سميعاً بصيراً متكلماً منزهاً عن حلول الحوادث وأنه قديم الكلام والعلم والإرادة الركن الثالث في أفعاله تعالى ومداره على عشرة أصول: وهي أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى وأنها متكتسبة للعباد وأنه مرادة لله تعالى وأنه متفضل بالخلق والاختراع وأن له تعالى تكليف ما لا يطاق، وأن له إيلام البريء ولا يجب عليه رعاية الأصلح، وأنه لا واجب إلا بالشرع وأن بعثه الأنبياء جائز وأن نبوة نبينا محمد ﷺ ثابتة مؤيدة بالمعجزة الركن الرابع في السمعيات ومداره على عشرة أصول: وهي إثبات الحشر والنشر وسؤال منكر ونكير وعذاب القبر والميزان والصراط وخلق الجنة والنار وأحكام الإمامة وأن فضل الصحابة على حسب ترتيبهم وشروط الإمامة.

فأما الركن الأول من أركان الإيمان

في معرفة ذات الله سبحانه وتعالى

وأن الله تعالى واحد ومداره على عشرة أصول

الأصل الأول معرفة وجوده تعالى وأول ما يستضاء به من الأنوار ويسلك من طريق الاعتبار ما أرشد إليه القرآن فليس بعد بيان الله سبحانه بيان وقد قال تعالى "ألم نجعل الأرض مهاداً والجبال أوتاداً وخلقناكم أزواجاً وجعلنا نومكم سباتاً وجعلنا الليل لباساً وجعلنا النهار معاشاً وبنينا فوقكم سبعاً شداداً وجعلنا سراجاً وهاجاً وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً لنخرج به حباً ونباتاً وجنات ألفافاً" وقال تعالى "إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون" وقال تعالى "ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً وجعل القمر فيهن نوراً وجعل الشمس سراجاً والله أنبتكم من الأرض نباتاً ثم يعيدكم فيها ويخرجكم إخراجاً" وقال تعالى "أفرأيتم ما تمنون ءأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون" إلى قوله "للموقين" فليس يخفى على من معه أدنى مسكة من عقل إذا تأمل بأدنى فكرة مضمون هذه الآيات وأدار نظره على عجائب خلق الله في الأرض والسموات وبدائع فطرة الحيوان والنبات أن هذا الأمر العجيب والترتيب المحكم لا يستغني عن صانع يدبره وفاعل يحكمه ويقدره؛ بل تكاد فطرة النفوس تشهد بكونها مقهورة تحت تسخيره ومصرفة بمقتضى تدبيره. ولذلك قال الله تعالى "أفي الله شك فاطر السموات والأرض" ولهذا بعث الأنبياء صلوات الله عليهم لدعوة الخلق إلى التوحيد ليقولوا "لا إله إلا الله" وما أمروا أن يقولوا لنا إله وللعالم إله. فإن ذلك كان مجبولاً في فطرة عقولهم من مبدإ نشوهم وفي عنفوان شبابهم. ولذلك قال عز وجل "ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله" وقال تعالى "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم" فإذاً في فطرة الإنسان وشواهد القرآن ما يغني عن إقامة البرهان. ولكنا على سبيل الاستظهار والاقتداء بالعلماء النظار نقول: من بدائة العقول أن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب يحدثه، والعالم حادث فإذاً لا يستغني في حدوثه عن سبب. أما قولنا "إن الحادث لا يستغني في حدوثه عن سبب" فجلي فإن كل حادث مختص بوقت يجوز في العقل تقدير تقديمه وتأخيره فاختصاصه بوقته دون ما قبله وما بعده يفتقر بالضرورة إلى المخصص وأما قولنا "العالم حادث" فبرهانه أن أجسام العالم لا تخلو عن الحركة والكون وهما حادثان وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. ففي هذا البرهان ثلاث دعاوى؛ الأولى: قولنا إن الأجسام لا تخلو عن الحركة والسكون وهذه مدركة بالبديهة والاضطرار فلا يحتاج فيها إلى تأمل وافتكار فإن من عقل جسماً لا ساكناً ولا متحركاً كان لمتن الجهل راكباً وعن نهج العقل ناكباً. الثانية: قولنا إنهما حادثان ويدل على ذلك تعاقبهما ووجود البعض منهما بعد البعض وذلك مشاهدة في جميع الأجسام ما شوهد منها وما لم يشاهد فما من ساكن إلا والعقل قاض بجواز حركته وما من متحرك إلا والعقل قاض بجواز سكونه فالطارىء منهما حادث لطريانه والسابق حادث لعدمه؛ لأنه لو ثبت قدمه لاستحال عدمه - على ما سيأتي بيانه وبرهانه في إثبات بقاء الصانع تعالى وتقدس - الثالثة: قولنا ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث وبرهانه أنه لو لم يكن كذلك لكان قبل كل حادث حوادث لا أول لها ولو لم تنقض تلك الحوادث بجملتها لا تنتهي النوبة إلى وجود الحادث الحاضر في الحال وانقضاء ما لا نهاية له محال، ولأنه لو كان للفلك دورات لا نهاية لها لكان لا يخلو عددها عن أن تكون شفعاً أو وتراً أو شفعاً ووتراً جميعاً أو لا شفعاً ولا وتراً، ومحال أن يكون شفعاً ووتراً جميعاً أو لا شفعاً ولا وتراً. فإن ذلك جمع بين النفي والإثبات؛ إذ في إثبات أحدهما نفي الآخر وفي نفي أحدهما إثبات الآخر. ومحال أن يكون شفعاً لأن الشفع يصير وتراً بزيادة واحد. وكيف يعوز ما لا نهاية له: واحد? ومحال أن يكون وتراً إذ الوتر يصير شفعاً بواحد فكيف يعوزها واحد مع أنه لا نهاية لأعدادها. ومحال أن يكون لا شفعاً ولا وتراً إذ له نهاية. فتحصل من هذا أن العالم لا يخلو عن الحوادث. وما لا يخلو عن الحوادث فهو إذن حادث وإذا ثبت حدوثه كان افتقاره إلى المحدث من المدركات بالضرورة الأصل الثاني العلم بأن الله تعالى قديم لم يزل، أزلي ليس لوجوده أول بل هو أول كل شيء وقبل كل ميت وحي. وبرهانه أنه لو كان حادثاً ولم يكن قديماً لافتقر هو أيضاً إلى محدث وافتقر محدثه إلى محدث وتسلسل ذلك إلى ما لا نهاية، وما تسلسل لم يتحصل أو ينتهي إلى محدث قديم هو الأول وذلك هو المطلوب الذي سميناه صانع العالم ومبدئه وبارئه ومحدثه ومبدعه الأصل الثالث العلم بأنه تعالى مع كونه أزلياً أبدياً ليس لوجوده آخر فهو الأول والآخر والظاهر والباطن لأن ما ثبت قدمه استحال عدمه، وبرهانه أنه لو انعدم لكان لا يخلو إما أن ينعدم بنفسه أو بمعدم يضاده ولو جاز أن ينعدم شيء يتصور دوامه لجاز أن يوجد شيء يتصور عدمه بنفسه فكما يحتاج طريان الوجود إلى سبب فكذلك يحتاج طريان العدم إلى سبب. وباطل أن ينعدم بمعدم يضاده لأن ذلك المعدم لو كان قديماً لما تصور الوجود معه. وقد ظهر بالأصلين السابقين وجوده وقدمه فكيف كان وجوده في القدم ومعه ضده? فإن كان الضد المعدم حادثاً كان محالاً؛ إذ ليس الحادث في مضادته للقديم حتى يقطع وجوده بأولى من القديم في مضادته للحادث حتى يدفع وجوده، بل الدفع أهون من القطع والقديم أقوى وأولى من الحادث الأصل الرابع العلم بأنه تعالى ليس بجوهر يتحيز بل يتعالى ويتقدس عن مناسبة الحيز. وبرهانه أن كل جوهر متحيز فهو مختص بحيزه ولا يخلو من أن يكون ساكناً فيه أو متحركاً عنه، فلا يخلو عن الحركة أو السكون وهما حادثان، وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. ولو تصور جوهر متحيز قديم لكان يعقل قدم جواهر العالم فإن سماه مسم جوهراً ولم يرد به المتحيز كان مخطئاً من حيث اللفظ لا من حيث المعنى الأصل الخامس العلم بأنه تعالى ليس بجسم مؤلف من جواهر. إذ الجسم عبارة عن المؤلف من الجواهر، وإذا بطل كونه جوهراً مخصوصاً بحيز بطل كونه جسماً لأن كل جسم مختص بحيز ومركب من جوهر فالجوهر يستحيل خلوه عن الافتراق والاجتماع والحركة والسكون والهيئة والمقدار وهذه سمات الحدوث. ولو جاز أن يعتقد أن صانع العالم جسم لجاز أن يعتقد الإلهية للشمس والقمر أو لشيء آخر من أقسام الأجسام. فإن تجاسر متجاسر على تسميته تعالى جسماً من غير إرادة التأليف من الجواهر كان ذلك غلطاً في الاسم مع الإصابة في نفي معنى الجسم الأصل السادس العلم بأنه تعالى ليس بعرض قائم بجسم أو حال في محل لأن العرض ما يحل في الجسم، فكل جسم حادث لا محالة ويكون محدثه موجوداً قبله. فكيف يكون حالاً في الجسم وقد كان موجوداً في الأزل وحده وما معه غيره، ثم أحدث الأجسام والأعراض بعده? ولأنه عالم قادر مريد خالق - كما سيأتي بيانه - وهذه الأوصاف تستحيل على الأعراض بل لا تعقل إلا لموجود قائم بنفسه مستقل بذاته. وقد تحصل من هذه الأصول أنه موجود قائم بنفسه ليس بجوهر ولا جسم ولا عرض. وأن العالم كله جواهر وأعراض وأجسام فإذا لايشبه شيئاً ولا يشبهه شيء بل هو الحي القيوم الذي ليس كمثله شيء وأنى يشبه المخلوق خالقه والمقدور مقدره والمصور مصوره. والأجسام والأعراض كلها من خلقه وصنعه فاستحال القضاء عليها بمماثلته ومشابهته الأصل السابع العلم بأن الله تعالى منزه الذات عن الاختصاص بالجهات فإن الجهة إما فوق وإما أسفل وإما يمين وإما شمال أو قدام أو خلف، وهذه الجهات هو الذي خلقها وأحدثها بواسطة خلق الإنسان إذ خلق له طرفين أحدهما يعتمد على الأرض ويسمى رجلاً، والآخر يقابله ويسمى رأساً. فحدث اسم الفوق لما يلي جهة الرأس واسم السفل لما يلي جهة الرجل حتى إن النملة التي تدب منكسة تحت السقف تنقلب جهة الفوق في حقها تحتاً وإن كان في حقنا فوقاً. وخلق للإنسان اليدين وإحداهما أقوى من الأخرى في الغالب فحدث اسم اليمين للأقوى واسم الشمال لما يقابله وتسمى الجهة التي تلي اليمين يميناً والأخرى شمالاً، وخلق له جانبين يبصر من أحدهما ويتحرك إليه فحدث اسم القدام للجهة التي يتقدم إليها بالحركة واسم الخلف لما يقابلها، فالجهات حادثة بحدوث الإنسان ولو لم يخلق الإنسان بهذه الخلقة بل خلق مستديراً كالكرة لم يكن لهذه الجهات وجود ألبتة. فكيف كان في الأزل مختصاً بجهة والجهة حادثة? وكيف صار مختصاً بجهة بعد أن لم يكن له? أبأن خلق العالم فوقه ويتعالى عن أن يكون له فوق إذ تعالى أن يكون له رأس والفوق عبارة عما يكون جهة الرأس أو خلق العالم تحته فتعالى عن أن يكون له تحت إذ تعالى عن أن يكون له رجل والتحت عبارة عما يلي جهة الرجل؛ وكل ذلك مما يستحيل في العقل ولأن المعقول من كونه مختصاً بجهة أنه مختص بحيز اختصاص الجواهر أو مختص بالجواهر اختصاص العرض وقد ظهر استحالة كونه جوهراً أو عرضاً فاستحال كونه مختصاً بالجهة؛ وإن أريد بالجهة غير هذين المعنيين كان غلطاً في الاسم مع المساعدة على المعنى ولأنه لو كان فوق العالم لكان محاذياً له، وكل محاذ لجسم فإما أن يكون مثله أو أصغر منه أو أكبر وكل ذلك تقدير محوج بالضرورة إلى مقدر ويتعالى عنه الخالق الواحد المدبر، فأما رفع الأيدي عند السؤال إلى جهة السماء فهو لأنها قبلة الدعاء. وفيه أيضاً إشارة إلى ما هو وصف للمدعو من الجلال والكبرياء تنبيهاً بقصد جهة العلو على صفة المجد والعلاء فإنه تعالى فوق كل موجود بالقهر والاستيلاء الأصل الثامن العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد الله تعالى بالاستواء وهو الذي لا ينافي وصف الكبرياء ولا يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء وهو الذي أريد بالاستواء إلى السماء حيث قال في القرآن "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" وليس ذلك إلا بطريق القهر والاستيلاء كما قال الشاعر: قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق واضطر أهل الحق إلى هذا التأويل كما التأويل كما اضطر أهل الباطن إلى تأويل قوله تعالى "وهو معكم أينما كنتم" إذ حمل ذلك بالاتفاق على الإحاطة والعلم، وحمل قوله ﷺ "قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" على القدرة والقوة، وحمل قوله ﷺ "الحجر الأسود يمين الله في أرضه" على التشريف والإكرام لأنه لو ترك على ظاهره للزم منه المحال فكذا الاستواء لو ترك على الاستقرار والتمكن لزم منه كون المتمكن جسماً مماساً للعرش إما مثله أو أكبر منه أو أصغر وذلك محال، وما يؤدي إلى المحال فهو محال الأصل التاسع العلم بأنه تعالى مع كونه منزهاً عن الصورة والمقدار مقدساً عن الجهات والأقطار مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة دار القرار لقوله تعالى "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة" ولا يرى في الدنيا تصديقاً لقوله عز وجل "لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار" ولقوله تعالى في خطاب موسى عليه السلام "لن تراني" وليت شعري كيف عرف المعتزل من صفات رب الأرباب ما جهله موسى عليه السلام? وكيف سأل موسى عليه السلام الرؤية مع كونها محالاً? ولعل الجهل بذوي البدع والأهواء من الجهلة الأغبياء أولى من الجهل بالأنبياء صلوات الله عليهم، وأما وجه إجراء آية الرؤية على الظاهر فهو أنه غير مؤد إلى المحال، فإن الرؤية نوع كشف وعلم إلا أنه أتم وأوضح من العلم فإذا جاز تعلق العلم به وليس في جهة جاز تعلق الرؤية به وليس بجهة، وكما يجوز أن يرى الله تعالى الخلق وليس في مقابلتهم جاز أن يراه الخلق من غير مقابلة، وكما جاز أن يعلم من غير كيفية وصورة جاز أن يرى كذلك الأصل العاشر العلم بأن الله عز وجل واحد لا شريك له فرد لا ند له انفرد بالخلق والإبداع واستند بالإيجاد والاختراع لا مثل له يساهمه ويساويه ولا ضد له فينازعه ويناويه: وبرهانه قوله تعالى "لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا" وبيانه أنه لو كان اثنين وأراد أحدهما أمراً فالثاني إن كان مضطراً إلى مساعدته كان هذا الثاني مقهوراً عاجزاً ولم يكن إلهاً قادراً، وإن كان قادراً على مخالفته ومدافعته كان الثاني قوياً قاهراً والأول ضعيفاً قاصراً ولم يكن إلهاً قادراً

الركن الثاني

العلم بصفات الله تعالى

ومداره على عشرة أصول

الأصل الأول العلم بأن صانع العالم قادر وأنه تعالى في قوله "وهو على كل شيء قدير" صادق لأن العالم محكم في صنعته مرتب في خلقته ومن رأى ثوباً من ديباج حسن النسج والتأليف متناسب التطريز والتطريف ثم توهم صدور نسجه عن ميت لا استطاعة له أو عن إنسان لا قدرة له كان منخلعاً عن غريزة العقل ومنخرطاً في سلك أهل الغباوة والجهل الأصل الثاني العلم بأنه تعالى عالم بجميع الموجودات ومحيط بكل المخلوقات "لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء" صادق في قوله "وهو بكل شيء عليم" ومرشد إلى صدقه بقوله تعالى "ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" أرشدك إلى الاستدلال بالخلق على العلم بأنك لا تستريب في دلالة الخلق اللطيف والصنع المزين بالترتيب ولو في الشيء الحقير الضعيف على علم الصانع بكيفية الترتيب والترصيف فما ذكره الله سبحانه هو المنتهى في الهداية والتعريف الأصل الثالث العلم بكونه عز وجل وحيا فإن من ثبت علمه وقدرته ثبت بالضرورة حياته ولو تصور قادر وعالم فاعل مدبر دون أن يكون حيا لجاز أن يشك في حياة الحيوانات عند ترددها في الحركات والسكنات بل في حياة أرباب الحرف والصناعات وذلك انغماس في غمرة الجهالات والضلالات الأصل الرابع العلم بكونه تعالى مريداً لأفعاله فلا موجود إلا وهو مستند إلى مشيئته وصادر عن إرادته فهو المبدىء المعيد والفعال لما يريد وكيف لا يكون مريداً وكل فعل صدر منه أمكن أن يصدر منه ضده? وما لا ضد له أمكن أن يصدر منه ذلك بعينه قبله أو بعده. والقدرة تناسب الضدين والوقتين مناسبة واحدة فلابد من إرادة صارفة للقدرة إلى أحد المقدورين. ولو أغنى العلم عن الإرادة في تخصيص المعلوم حتى يقال إنما وجد في الوقت الذي سبق بوجوده لجاز أن يغني عن القدرة حتى يقال وجد بغير قدرة لأنه سبق العلم بوجوده فيه الأصل الخامس العلم بأنه تعالى سميع بصير لا يعزب عن رؤيته هواجس الضمير وخفايا الوهم والتفكير ولا يشذ عن سمعه صوت دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء على الصخرة الصماء: وكيف لا يكون سميعاً بصيراً والسمع والبصر كمال لا محالة وليس بنقص? فكيف يكون المخلوق أكمل من الخالق والمصنوع أسنى وأتم من الصانع? وكيف تعتدل القسمة مهما وقع النقص في جهته والكمال في خلقه وصنعته أو كيف تستقيم حجة إبراهيم ﷺ على أبيه إذ كان يعبد الأصنام جهلاً وغياً فقال له "لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً" ولو انقلب ذلك عليه في معبوده لأضحت حجته داحضة ودلالته ساقطة ولم يصدق قوله تعالى "وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه" وكما عقل كونه فاعلاً بلا جارحة وعالماً بلا قلب ودماغ فليعقل كونه بصيراً بلا حدقة وسميعاً بلا اذن إذ لا فرق بينهما الأصل السادس أنه سبحانه وتعالى متكلم بكلام وهو وصف قائم بذاته ليس بصوت ولا حرف بل لا يشبه كلامه كلام غيره كما لا يشبه وجوده وجود غيره. والكلام بالحقيقة كلام النفس وإنما الأصوات قطعت حروفاً للدلالات كما يدل عليها تارة بالحركات والإشارات وكيف التبس هذا على طائفة من الأغبياء ولم يلتبس على جهلة الشعراء حيث قال قائلهم: إن الكلام لفي الفؤاد وإنـمـا جعل اللسان على الفؤاد دليلا ومن لم يعقله عقله ولا نهاه نهاه عن أن يقول: لساني حادث ولكن ما يحدث فيه بقدرتي الحادثة قديم، فاقطع عن عقلة طمعك وكف عن خطابه لسانك. ومن لم يفهم أن القديم عبارة عما ليس قبله شيء. وأن الباء قبل السين في قولك بسم الله فلا يكون السين المتأخر عن الباء قديماً فنزه عن الالتفات إليه قلبك فلله سبحانه سر في إبعاد بعض العباد "ومن يضلل الله فما له من هاد" ومن استبعد أن يسمع موسى عليه السلام في الدنيا كلاماً ليس بصوت ولا حرف فليستنكر أن يرى في الآخرة موجوداً ليس بجسم ولا لون: وإن عقل أن يرى ما ليس بلون ولا جسم ولا قدر ولا كمية وهو إلى الآن لم ير غيره فليعقل في حاسة السمع ما عقله في حاسة البصر. وإن عقل أن يكون له علم واحد هو علم بجميع الموجودات فليعقل صفة واحدة للذات هو كلام بجميع ما دل عليه من العبارات. وإن عقل كون السموات السبع وكون الجنة والنار مكتوبة في ورقة صغيرة ومحفوظة في مقدار ذرة من القلب وأن كل ذلك مرئي في مقدار عدسة من الحدقة من غير أن تحل ذات السموات والأرض والجنة والنار في الحدقة والقلب والورقة فليعقل كون الكلام مقروءاً بالألسنة محفوظاً في القلوب مكتوباً في المصاحف من غير حلول ذات الكلام فيها إذ لو حلت بكتاب الله ذات الكلام في الورق لحل ذات الله تعالى بكتابة اسمه في الورق وحلت ذات النار بكتابه اسمها في الورق ولاحترق الأصل السابع أن الكلام القائم بنفسه قديم وكذا جميع صفاته إذ يستحيل أن يكون محلاً للحوادث داخلاً تحت التغير بل يجب للصفات من نعوت القدم ما يجب للذات فلا تعتريه التغيرات ولا تحله الحادثات بل لم يزل في قدمه موصوفاً بمحامد الصفات ولا يزال في أبده كذلك منزهاً عن تغير الحالات لأن ما كان محل الحوادث لا يخلو عنها وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. وإنما ثبت نعت الحدوث للأجسام من حيث تعرضها للتغير وتقلب الأوصاف فكيف يكون خالقها مشاركاً لها في قبول التغير? وينبني على هذا أن كلامه قديم قائم بذاته وإنما الحادث هي الأصوات الدالة عليه، وكما عقل قيام طلب التعلم وإرادته بذات الوالد للولد قبل أن يخلق ولده حتى إذا خلق ولده وعقل وخلق الله علماً متعلقاً بما في قلب أبيه من الطلب صار مأموراً بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه ودام وجوده إلى وقت معرفة ولده له فليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل "اخلع نعليك" بذات الله ومصير موسى عليه السلام مخاطباً به بعد وجوده إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب وسمع لذلك الكلام القديم الأصل الثامن أن علمه قديم فلم يزل عالماً بذاته وصفاته وما يحدثه من مخلوقاته. ومهما حدثت المخلوقات لم يحدث له علم بها بل حصلت مكشوفة له بالعلم الأزلي إذ لو خلق لنا علم به بقدوم زيد عند طلوع الشمس ودام ذلك العلم تقديراً حتى طلعت الشمس لكان قدوم زيد عند طلوع الشمس معلوماً لنا بذلك العلم من غير تجدد علم آخر. فهكذا ينبغي أن يفهم قدم علم الله تعالى الأصل التاسع أن إرادته قديمة وهي في القدم تعلقت بإحداث الحوادث في أوقاتها اللائقة بها على وفق سبق العلم الأزلي إذ لو كانت حادثة لصار محل الحوادث، ولو حدثت في غير ذاته لم يكن هو مريداً لها كما لا تكون أنت متحركاً بحركة ليست في ذاتك وكيفما قدرت فيفتقر حدوثها إلى إرادة أخرى، وكذلك الإرادة الأخرى تفتقر إلى أخرى ويتسلسل الأمر إلى غير نهاية، ولو جاز أن يحدث إرادة بغير إرادة لجاز أن يحدث العالم بغير إرادة الأصل العاشر أن الله تعالى عالم بعلم، حي بحياة، قادر بقدرة، ومريد بإرادة، ومتكلم بكلام، وسميع بسمع، وبصير ببصر، وله هذه الأوصاف من هذه الصفات القديمة. وقول القائل: عالم بلا علم كقوله: غني بلا مال وعلم بلا عالم وعالم بلا معلوم، فإن العلم والمعلوم والعالم متلازمة كالقتل والمقتول والقاتل، وكما لا يتصور قاتل بلا قتل ولا قتيل ولا يتصور قتيل بلا قاتل ولا قتل كذلك لا يتصور عالم بلا علم ولا علم بلا معلوم ولا معلوم بلا عالم بل هذه الثلاثة متلازمة في العقل لا ينفك بعض منها عن البعض فمن جوز انفكاك العلام عن العلم فليجوز انفكاكه عن المعلوم وانفكاك العلم عن العالم إذ لا فرق بين هذه الأوصاف.

الركن الثالث

العلم بأفعال الله تعالى

ومداره على عشرة أصول

الأصل الأول العلم بأن كل حادث في العالم فهو فعله وخلقه واختراعه لا خالق له سواه ولا محدث له إلا إياه. خلق الخلق وصنعهم وأوجد قدرتهم وحركتهم فجميع أفعاله عبادة مخلوقة له ومتعلقة بقدرته تصديقاً له في قوله تعالى "الله خالق كل شيء" وفي قوله تعالى "والله خلقكم وما تعملون" وفي قوله تعالى "وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" أمر العباد بالحرز في أقوالهم وأفعالهم وإسرارهم وإضمارهم لعلمه بموارد أفعالهم. واستدل على العلم بالخلق، وكيف لا يكون خالقاً لفعل العبد وقدرته تامة لا قصور فيها وهي متعلقة بحركة أبدان العباد والحركات متماثلة وتعلق القدرة بها لذاتها فما الذي يقصر تعلقها عن بعض الحركات دون البعض مع تماثلها? أو كيف يكون الحيوان مستبداً بالاختراع ويصدر من العنكبوت والنحل وسائر الحيوانات من لطائف الصناعات ما يتحير فيه عقول ذوي الألباب فكيف انفردت هي باختراعها دون رب الأرباب وهي غير عالمة بتفصيل ما يصدر منها من الاكتساب? هيهات هيهات! ذلت المخلوقات وتفرد بالملك والملكوت جبار الأرض والسموات الأصل الثاني أن انفراد الله سبحانه باختراع حركات العباد لا يخرجها عن كونها مقدورة للعباد على سبيل الاكتساب بل الله تعالى خلق القدرة والمقدور جميعاً وخلق الاختيار والمختار جميعاً.

فأما القدرة فوصف للعبد وخلق للرب سبحانه وليست بكسب له. وأما الحركة فخلق للرب تعالى ووصف للعبد وكسب له فإنها خلقت مقدورة بقدرة هي وصفه وكانت للحركة نسبة إلى صفة أخرى تسمى قدرة فتسمى باعتبار تلك النسبة كسباً" وكيف تكون جبراً محضاً وهو بالضرورة يدرك التفرقة بين الحركة المقدورة والرعدة الضرورية? أو كيف يكون خلقاً للعبد وهو لا يحيط علماً بتفاصيل أجزاء الحركات المكتسبة وأعدادها وإذا يطل الطرفان لم يبق إلا الاقتصاد في الاعتقاد وهو أنها مقدورة بقدرة الله تعالى اختراعاً وبقدرة العبد على وجه آخر من التعليق يعبر عنه بالاكتساب. وليس من ضرورة تعلق القدرة بالمقدور أن يكون بالاختراع فقط؛ إذ قدرة الله تعالى في الأزل قد كانت متعلقة بالعالم ولم يكن الاختراع حاصلاً بها وهي عند الاختراع متعلقة به نوعاً آخر من التعلق فيه يظهر أن تعلق القدرة ليس مخصوصاً بحصول المقدور بها الأصل الثالث أن فعل العبد وإن كان كسباً للعبد فلا يخرج عن كونه مراداً لله سبحانه. فلا يجري في الملك والملكوت طرفة عين ولا لفتة خاطر ولا فلتة ناظر إلا بقضاء الله وقدرته وبإرادته ومشيئته. ومنه الشر والخير والنفع والضر والإسلام والكفر والعرفان والنكر والفوز والخسران والغواية والرشد والطاعة والعصيان والشرك والإيمان لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه يضل من يشاء ويهدي من يشاء "لا يسئل عما يفعل وهم يسألون" ويدل عليه من النقل قول الأمة قاطبة "ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن"وقول الله عز وجل "أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً" وقوله تعالى "ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها" ويدل عليه من جهة العقل أن المعاصي والجرئام إن كان الله يكرهها ولا يريدها وإنما هي جارية على وفق إرادة العدو إبليس لعنه الله مع أنه عدو لله سبحانه، والجاري على وفق إرادة العدو أكثر من الجاري على وفق إرادته تعالى فليت شعري كيفي يستجيز المسلم أن يرد ملك الجبار ذي الجلال والإكرام إلى رتبة لو ردت إليها رياسة زعيم ضيعة لاستنكف منها؛ إذ لو كان ما يستمر لعدو الزعيم في القرية أكثر مما يستقيم له لاستنكف من زعامته وتبرأ عن ولايته. والمعصية هي الغالبة على الخلق وكل ذلك جار عند المبتدعة على خلاف إرادة الحق تعالى وهذا غاية الضعف والعجز، تعالى رب الأرباب عن قول الظالمين علواً كبيراً. ثم مهما ظهر أن أفعال العباد مخلوقة لله صح أنها مرادة له. فإن قيل: فكيف ينهى عما يريد ويأمر بما لا يريد? قلنا: الأمر غير الإرادة. ولذلك إذا ضرب السيد عبده فعاتبه السلطان عليه فاعتذر بتمرد عبده عليه فكذبه السلطان - فأراد إظهار حجته بأن يأمر العبد بفعل ويخالفه بين يديه - فقال له: أسرج هذه الدابة بمشهد من السلطان، فهو يأمره بما لا يريد امتثاله، ولو لم يكن آمراً لما كان عذره عند السلطان ممهداً، ولو كان مريداً لامتثاله لكان مريداً لهلاك نفسه وهو محال الأصل الرابع أن الله تعالى متفضل بالخلق والاختراع ومتطول بتكليف العباد ولم يكن الخلق والتكليف واجباً عليه. وقالت المعتزلة وجب عليه ذلك لما فيه من مصلحة العباد وهو محال؛ إذ هو الموجب والآمر والناهي وكيف يتهدف لإيجاب أو يتعرض للزوم وخطاب? والمراد بالواجب أحد أمرين: إما الفعل الذي في تركه ضرر إما آجل؛ كما يقال يجب على العبد أن يطيع الله حتى لا يعذبه في الآخرة بالنار، أو ضرر عاجل: كما يقال يجب على العطشان أن يشرب حتى لا يموت. وإما أن يراد به الذي يؤدي عدمه إلى محال كما يقال وجود المعلوم واجب إذ عدمه يؤدي إلى محال وهو أن يصير العلم جهلاً، فإن أراد الخصم بأن الخلق واجب على الله بالمعنى الأول فقد عرضه للضرر وإن أراد به المعنى الثاني فهو مسلم؛ إذ بعد سبق العلم لابد من وجود المعلوم وإن أراد به معنى ثالثاً فهو غير مفهوم. وقوله "يجب لمصلحة عباده" كلام فاسد فإنه إذا لم يتضرر بترك مصلحة العباد لم يكن للوجوب في حقه معنى. ثم إن مصلحة العباد في أن يخلقهم في الجنة فأما أن يخلقهم في دار البلايا ويعرضهم للخطايا ثم يهدفهم لخطر العقاب وهول العرض والحساب فما في ذلك غبطة عند ذوي الألباب الأصل الخامس أنه يجوز على الله سبحانه أن يكلف الخلق ما لا يطيقونه - خلافاً للمعتزلة - ولو لم يجز ذلك لاستحال سؤال دفعه وقد سألوا ذلك فقالوا "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" ولأن الله تعالى أخبر نبيه ﷺ بأن أبا جهل لا يصدقه، ثم أمره بأن يأمره بأن يصدقه في جميع أقواله وكان من جملة أقواله أنه لا يصدقه، فكيف يصدقه في أنه لا يصدقه وهل هذا إلا محال وجوده? الأصل السادس أن لله عز وجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ومن غير ثواب لا حق خلافاً للمعتزلة - لأنه متصرف في ملكه ولا يتصور أن يعدو تصرفه ملكه، والظلم هو عبارة عن التصرف في ملك الغير بغير إذنه وهو محال على الله تعالى فإنه لا يصادف لغيره ملكاً حتى يكون تصرفه فيه ظلماً: ويدل على جواز ذلك وجوده فإن ذبح البهائم إيلام لها وما صب عليها من أنواع العذاب من جهة الآدميين لم يتقدمها جريمة. فإن قيل: إن الله تعالى يحشرها ويجازيها على قدر ما قاسته من الآلام ويجب ذلك على الله سبحانه? فقول: من زعم أنه يجب على الله إحياء كل نملة وطئت وكل بقة عركت حتى يثيبها على آلامها فقد خرج عن الشرع والعقل؛ إذ يقال وصف الثواب والحشر بكونه واجباً عليه إن كان المراد به أن يتضرر بتركه فهو محال، وإن أريد به غيره فقد سبق أنه غير مفهوم إذ خرج عن المعاني المذكورة للواجب الأصل السابع أنه تعالى يفعل بعباده ما يشاء فلا يجب عليه رعاية الأصلح لعباده لما ذكرناه من أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بل لا يعقل في حقه الوجوب فإنه "لا يسأل عما يفعل وهم يسألون" وليت شعري بما يجيب المعتزلي في قوله "إن الأصلح واجب عليه" في مسألة نعرضها عليه: وهو أن يفرض مناظرة في الآخرة بين صبي وبين بالغ ماتا مسلمين فإن الله سبحانه يزيد في درجات البالغ ويفضله على الصبي لأنه تعب بالإيمان والطاعات بعد البلوغ، ويجب عليه ذلك - عند المعتزلي - فلو قال الصبي: يا رب لم رفعت منزلته علي فيقول: لأنه بلغ واجتهد في الطاعات، ويقول الصبي: أنت أمتني في الصبا فكان يجب عليك أن تديم حياتي حتى أبلغ فأجتهد "فقد عدلت عن العدل في التفضل عليه بطول العمر له دوني فلم فضلته? فيقول الله تعالى: لأني علمت أنك لو بلغت لأشركت أو عصيت فكان الأصلح لك الموت في الصبا - هذا عذر المعتزلي عن الله عز وجل - وعند هذا ينادى الكفار من دركات لظى ويقولون: يا رب أما علمت أننا إذا بلغنا أشركنا فهلا أمتنا في الصبا فإنا رضينا بما دون منزلة الصبي المسلم? فبماذا يجاب عن ذلك وهل يجب عند هذا إلا القطع بأن الأمور الإلهية تتعالى بحكم الجلال عن أن توزن بميزان أهل الاعتزال?. فإن قيل: مهما قدر على رعاية الأصلح للعباد ثم سلط عليهم أسباب العذاب كان ذلك قبحاً لا يليق بالحكمة? قلنا: القبح ما لا يوافق الغرض حتى إنه قد يكون الشيء قبيحاً عند شخص حسناً عند غيره إذا وافق غرض أحدهما دون الآخر حتى يستقبح قتل الشخص أولياؤه ويستحسنه أعداؤه. فإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الباري سبحانه فهو محال إذ لا غرض له فلا يتصور منه قبح كما لا يتصور منه ظلم إذ لا يتصور منه التصرف في ملك الغير. وإن أريد بالقبيح ما لا يوافق غرض الغير فلم قلتم إن ذلك عليه محال? وهل هذا إلا مجرد تشه يشهد بخلافه ما قد فرضناه من مخاصمة أهل النار? ثم الحكيم معناه العالم بحقائق الأشياء القادر على إحكام فعلها على وفق إرادته وهذا من أين يوجب رعاية الأصلح? وأما الحكيم منا يراعي الأصلح نظراً لنفسه ليستفيد به في الدنيا ثناه وفي الآخرة ثواباً أو يدفع به عن نفسه آفة. وكل ذلك محال على الله سبحانه وتعالى الأصل الثامن أن معرفة الله سبحانه وطاعته واجبة بإيجاب الله تعالى وشرعه لا بالعقل - خلافاً للمعتزلة - لأن العقل وإن أوجب الطاعة فلا يخلو إما أن يوجبها لغير فائدة وهو محال فإن العقل لا يوجب العبث، وإما أن يوجبها لفائدة وغرض وذلك لا يخلو إما أن يرجع إلى المعبود وذلك محل في حقه تعالى فإنه يتقدس عن الأغراض والفوائد بل الكفر، والإيمان والطاعة والعصيان في حقه تعالى سيان، وإما أن يرجع ذلك إلى غرض العبد وهو أيضاً محال لأنه لا غرض له في الحال بل يتعب به وينصرف عن الشهوات لسببه وليس في المآل إلا الثواب والعقاب. ومن أين يعلم أن الله تعالى يثيب على المعصية والطاعة ولا يعاقب عليهما مع أن الطاعة والمعصية في حقه يتساويان، إذ ليس له إلى أحدهما ميل ولا به لأحدهما اختصاص وإنما عرف تمييز ذلك بالشرع، ولقد زل من أخذ هذا من المقايسة بين الخالق والمخلوق حيث يفرق بين الشكر والكفران لما له من الارتياح والاهتزاز والتلذذ بأحدهما دون الآخر. فإن قيل: فإذا لم يجب النظر والمعرفة إلا بالشرع والشرع لا يستقر ما لم ينظر المكلف فيه؛ فإذا قال المكلف للنبي: إن العقل ليس يوجب على النظر والشرع لا يثبت عندي إلا بالنظر ولست أقدم على النظر، أدى ذلك إلى إفحام الرسول ﷺ? قلنا: هذا يضاهي قول القائل للواقف في موضع من المواضع إن وراءك سبعاً ضارياً فإن لم تبرح عن المكان قتلك وإن التفت وراءك ونظرت عرفت صدقي، فيقول الواقف لا يثبت صدقك ما لم ألتفت ورائي ولا ألتفت ورائي، ولا أنظر ما لم يثبت صدقك؛ فيدل هذا على حماقة هذا القائل وتهدفه للهلاك ولا ضرر فيه على الهادي المرشد؛ فكذلك النبي ﷺ يقول "إن وراءكم الموت ودونه السباع الضارية والنيران المحرقة إن لم تأخذوا منها حذركم وتعرفوا لي صدقي بالالتفات إلى معجزتي وإلا هلكتم، فمن التفت عرف واحترز ونجا ومن لم يلتفت وأصر هلك وتردى ولا ضرر على إن هلك الناس كلهم أجمعون، وإنما على البلاغ المبين" فالشرع يعرف وجود السباع الضارية بعد الموت. والعقل يفيد فهم كلامه والإحاطة بإمكان ما يقوله في المستقبل. والطبع يستحث على الحذر من الضرر، ومعنى كون الشيء واجباً أن في تركه ضرراً، ومعنى كون الشرع موجباً أنه معرف للضرر المتوقع فإن العقل لا يهدي إلى التهدف للضرر بعد الموت عند اتباع الشهوات، فهذا معنى الشرع والعقل وتأثيرهما في تقدير الواجب، ولولا خوف العقاب على ترك ما أمر به لم يكن الوجوب ثابتاً، إذ لا معنى للواجب إلا ما يرتبط بتركه ضرر في الآخرة الأصل التاسع أنه ليس يستحيل بعثه الأنبياء عليهم السلام - خلافاً للبراهمة - حيث قالوا: لا فائدة في بعثتهم إذ في العقل مندوحة عنهم لأن العقل لا يهدي إلى الأفعال المنجية في الآخرة كما لا يهدي إلى الأدوية المفيدة للصحة، فحاجة الخلق إلى الأنبياء كحاجتهم إلى الأطباء ولكن يعرف صدق الطبيب بالتجربة ويعرف صدق النبي بالمعجزة. الأصل العاشر أن الله سبحانه قد أرسل محمداً ﷺ خاتماً للنبيين وناسخاً لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين? وأيده بالمعجزات الظاهرة والآيات الباهرة كانشقاق القمر وتسبيح الحصى وإنطاق العجماء وما تفجر من بين أصابعه من الماء. ومن آياته الظاهرة التي تحدى بها - مع كافة العرب - القرآن العظيم فإنهم مع تمييزهم بالفصاحة والبلاغة تهدفوا لسبه ونهيه وقتله وإخراجه - كما أخبر الله عز وجل - عنهم ولم يقدروا على معارضته بمثل القرآن، إذ لم يكن في قدرة البشر الجمع بين جزالة القرآن ونظمه، هذا مع ما فيه من أخبار الأولين مع كونه أمياً غير ممارس للكتب والإنباء عن الغيب في أمور تحقق صدقه فيها في الاستقبال كقوله تعالى "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين" وكقوله "ألم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين" ووجه دلالة المعجزة على صدق الرسل أن كل ما عجز عنه البشر لم يكن إلا فعلاً لله تعالى. فمهما كان مقروناً بتحدي النبي ﷺ ينزل منزلة قوله "صدقت" وذلك مثل القائل بين يدي الملك المدعي على رعيته أنه رسول الملك إليهم فإنه مهما قال لذلك إن كنت صادقاً فقم على سريرك ثلاثاً واقعد - على خلاف عادتك - ففعل الملك ذلك حصل للحاضرين علم ضروري بأن ذلك نازل منزلة قوله "صدقت"

الركن الرابع

في السمعيات وتصديقه ﷺ

فيما أخبر عنه ومداره على عشرة أصول

الأصل الأول الحشر والنشر وقد ورد بهما الشرع وهو حق والتصديق بهما واجب لأنه في العقل ممكن؛ ومعناه الإعادة بعد الإفناء وذلك مقدور لله تعالى كابتدا الإنشاء قال الله تعالى "قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة" فاستدل بالابتداء على الإعادة وقال عز وجل "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" والإعادة ابتداء ثان فهو ممكن كالابتداء الأول الأصل الثاني سؤال منكر ونكير وقد وردت به الأخبار فيجب التصديق به لأنه ممكن إذ ليس يستدعي إلا إعادة الحياة إلى جزء من الأجزاء الذي به فهم الخطاب وذلك ممكن في نفسه ولا يدفع ذلك ما يشاهد من سكون أجزاء الميت وعدم سماعنا للسؤال له، فإن النائم ساكن بظاهره ويدرك بباطنه من الآلام واللذات ما يحس بتأثيره عند التنبه، وقد كان رسول الله ﷺ يسمع كلام جبريل عليه السلام ويشاهده ومن حوله لا يسمعونه ولا يرونه ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء فإذا لم يخلق لهم السمع والرؤية لم يدركوه الأصل الثالث عذاب القبر وقد ورد الشرع به قال الله تعالى "النار يعرضون عليها غدواً وعشياً ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب" واشتهر عن رسول الله ﷺ والسلف الصالح الاستعاذة من عذاب القبر وهو ممكن فيجب التصديق به ولا يمنع من التصديق به تفرق أجزاء الميت في بطون السباع وحواصل الطيور؛ فإن المدرك لألم العذاب من الحيوان أجزاء مخصوصة يقدر الله تعالى على إعادة الإدراك إليها الأصل الرابع الميزان وهو حق قال الله تعالى "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة" وقال تعالى "فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون، ومن خفت موازينه" الآية ووجهها أن الله تعالى يحدث في صحائف الأعمال وزناً بحسب درجات الأعمال عند الله تعالى فتصير مقادير أعمال العباد معلومة للعباد حتى يظهر لهم العدل في العقاب أو الفضل في العفو وتضعيف الثواب الأصل الخامس الصراط وهو جسر ممدود على متن جهنم أرق من الشعرة وأحد من السيف قال الله تعالى "فاهدوهم إلى صراط الجحيم وقفوهم إنهم مسئولون" وهذا ممكن فيجب التصديق به فإن القادر على أن يطير الطير في الهواء قادر على أن يسير الإنسان على الصراط الأصل السادس أن الجنة والنار مخلوقتان قال الله تعالى "وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين" فقوله تعالى "أعدت" دليل على أنها مخلوقة فيجب إجراؤه على الظاهر إذ لا استحالة فيه، ولا يقال لا فائدة في خلقهما قبل يوم الجزاء لأن الله تعالى "لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون" الأصل السابع أن الإمام الحق بعد رسول الله ﷺ أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ولم يكن نص رسول الله ﷺ على إمام أصلاً؛ إذ لو كن لكان أولى بالظهور من نصبه آحاد الولاة والأمراء على الجنود في البلاد ولم يخف ذلك فكيف خفي هذا? وإن ظهر فكيف اندرس حتى لم ينقل إلينا? فلم يكن أبو بكر إماماً إلا بالاختيار والبيعة وأما تقدير النص على غيره فهو نسبة للصحابة كلهم إلى مخالفة رسول الله ﷺ وخرق الإجماع، وذلك مما لا يستجرىء على اختراعه إلا الروافض، واعتاد أهل السنة تزكية جميع الصحابة والثناء عليهم كما أثنى الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ. وما جرى بين معاوية وعلي رضي الله عنهما كان مبنياً على الاجتهاد لا منازعة من معاوية في الإمامة؛ إذ ظن علي رضي الله عنه أن تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها فرأى التأخير أصوب، وظن معاوية أن تأخير أمرهم مع عظم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمة ويعرض الدماء للسفك. وقد قال أفاضل العلماء: كل مجتهد مصيب. وقال قائلون: المصيب واحد ولم يذهب إلى تخطئة على ذو تحصيل أصلاً الأصل الثامن أن فضل الصحابة رضي الله عنهم على تربيتهم في الخلافة إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله ﷺ. وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة وإنما يدرك دقائق الفضل والترتيب فيه المشاهدون للوحي والتنزيل بقرائن الأحوال ودقائق التفصيل، فلولا فهمهم ذلك لما رتبوا الأمر كذلك إذ كانوا لا تأخذهم في الله لومة لائم ولا يصرفهم عن الحق صارف. الأصل التاسع أن شرائط الإمامة بعد الإسلام والتكليف خمسة: الذكورة والورع والعلم والكفاية ونسبة قريش؛ لقوله ﷺ "الأئمة من قريش" وإذا اجتمع عدد من الموصوفين بهذه الصفات فالإمام من انعقدت له البيعة من أكثر الخلق، والمخالف للأكثر باغ يجب رده إلى الانقياد إلى الحق الأصل العاشر أنه لو تعذر وجود الورع والعلم فيمن يتصدى للإمامة وكان في صرفه إثارة فتنة لا تطاق حكمنا بانعقاد إمامته، لأنا بين أن نحرك فتنة بالاستبدال، فما يلقى المسلمون فيه من الضرر يزيد على ما يفوتهم من نقصان هذه الشروط التي أثبتت لمزية المصلحة فلا يهدم أصل المصلحة شغفاً بمزاياها كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً وبين أن نحكم بخلو البلاد عن الإمام وبفساد الأقضية وذلك محال. ونحن نقضي بنفوذ قضاء أهل البغي في بلادهم لمسيس حاجتهم فكيف لا نقضي بصحة الإمامة عند الحاجة والضرورة? فهذه الأركان الأربعة الحاوية للأصول الأربعين هي قواعد العقائد فمن اعتقدها كان موافقاً لأهل السنة ومبايناً لرهط البدعة. فالله تعالى يسددنا بتوفيقه ويهدينا إلى الحق وتحقيقه بمنه وسعة جوده وفضله، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وكل عبد مصطفى

==================

الفصل الرابع

من قواعد العقائد

في الإيمان والإسلام وما بينهما من الاتصال

وما يتطرق إليه من الزيادة والنقصان ووجه استثناء السلف فيه وفيه ثلاث مسائل

مسألة اختلفوا في أن الإسلام هو الإيمان أو غيره وإن كان غيره فهل هو منفصل عنه يوجد دونه أو مرتبط به يلازمه? فقيل إنهما شيء واحد وقيل إنهما شيئان لا يتواصلان وقيل إنهما شيئان ولكن يرتبط أحدهما بالآخر. وقد أورد أبو طالب المكي في هذا كلاماً شديد الاضطراب كثير التطويل فلنهجم الآن على التصريح بالحق من غير تعريج على نقل ما لا تحصيل له، فنقول في هذا ثلاثة مباحث: بحث عن موجب اللفظين في اللغة، وبحث عن المراد بهما في إطلاق الشرع، وبحث عن حكمهما في الدنيا والآخرة، والبحث الأول لغوي، والثاني تفسيري، والثالث فقهي شرعي. البحث الأول: في موجب اللغة؛ والحق فيه أن الإيمان عبارة عن التصديق؛ قال الله تعالى "وما أنت بمؤمن لنا" أي؛ بمصدق، والإسلام عبارة عن التسليم والاستسلام بالإذعان والانقياد وترك التمرد والإباء والعناد، وللتصديق محل خاص وهو القلب، واللسان ترجمان. وأما التسليم فإنه عام في القلب واللسان والجوارح فإن كل تصديق بالقلب فهو تسليم وترك الإباء والجحود وكذلك الاعتراف باللسان وكذلك الطاعة والانقياد بالجوارح. فموجب اللغة أن الإسلام أعم والإيمان أخص فكان الإيمان عبارة عن أشرف أجزاء الإسلام؛ فإذن كل تصديق تسليم وليس كل تسليم تصديقاً. البحث الثاني: عن إطلاق الشرع؛ والحق فيه أن الشرع قد ورد باستعمالهما على سبيل الترادف والتوارد وورد على سبيل الاختلاف وورد على سبيل التداخل، أما الترادف ففي قوله تعالى "فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" ولم يكن بالاتفاق إلا بيت واحد وقال تعالى "يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين" وقال ﷺ "بني الإسلام على خمس" وسئل رسول الله ﷺ مرة عن الإيمان فأجاب بهذه الخمس وأما الاختلاف فقوله تعالى "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" ومعناه استسلمنا في الظاهر، فأراد بالإيمان ههنا التصديق بالقلب فقط وبالإسلام الاستسلام ظاهراً باللسان والجوارح، وفي حديث جبرائيل عليه السلام لما سأله عن الإيمان فقال "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشره، فقال: فما الإسلام? فأجاب بذكر الخصال الخمس" فعبر بالإسلام عن تسليم الظاهر بالقول والعمل. وفي الحديث عن سعد أنه ﷺ "أعطى رجلاً عطاء ولم يعط الآخر؛ فقال له سعد: يا رسول الله تركت فلاناً لم تعطه وهو مؤمن? فقال ﷺ أو مسلم فأعاد عليه فأعاد رسول الله ﷺ" وأما التداخل فما روى أيضاً أنه سئل "فقيل أي الأعمال أفضل? فقال ﷺ: الإسلام، فقال: أي الإسلام أفضل، فقال ﷺ: الإيمان" وهذا دليل على الاختلاف وعلى التداخل وهو أوفق الاستعمالات في اللغة لأن الإيمان عمل من الأعمال وهو أفضلها، والإسلام هو تسليم إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح وأفضلها الذي بالقلب وهو التصديق الذي يسمى إيماناً والاستعمال لهما على سبيل الاختلاف وعلى سبيل التداخل وعلى سبيل الترادف كله غير خارج عن طريق التجوز في اللغة.

أما الاختلاف فهو أن يجعل الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب فقط وهو موافق للغة، والإسلام عبارة عن التسليم ظاهراً وهو أيضاً موافق للغة فإن التسليم ببعض محال التسليم ينطلق عليه اسم التسليم، فليس من شرط حصول الإسلام عموم المعنى لكل محل يمكن أن يوجد المعنى فيه فإن من لمس غيره ببعض بدنه يسمى لامساً وإن لم يستغرق جميع بدنه، فإطلاق اسم الإسلام على التسليم الظاهر عند عدم تسليم الباطن مطابق للسان وعلى هذا الوجه جرى قوله تعالى "قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا" وقوله ﷺ في حديث سعد أو مسلم لأنه فضل أحدهما على الآخر، ويريد بالاختلاف تفاضل المسميين. وأما التداخل فموافق أيضاً للغة في خصوص الإيمان وهو أن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والقول والعمل جميعاً، والإيمان عبارة عن بعض ما دخل في الإسلام وهو التصديق بالقلب وهو الذي عنيناه بالتداخل وهو موافق للغة في خصوص الإيمان وعموم الإسلام للكل، وعلى هذا خرج قوله الإيمان في جواب قول السائل أي الإسلام أفضل لأنه جعل الإيمان خصوصاً من الإسلام فأدخله فيه، وأما استعماله فيه على سبيل الترادف بأن يجعل الإسلام عبارة عن التسليم بالقلب والظاهر جميعاً فإن كل ذلك تسليم وكذا الإيمان ويكون التصرف في الإيمان على الخصوص بتعميمه وإدخال الظاهر في معناه وهو جائز لأن تسليم الظاهر بالقول والعمل ثمرة تصديق الباطن ونتيجته، وقد يطلق اسم الشجر ويراد به الشجر مع ثمره على سبيل التسامح فيصير بهذا القدر من التعيمم مرادفاً لاسم الإسلام ومطابقاً له فلا يزيد عليه ولا ينقص؛ وعليه خرج قوله "فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين" البحث الثالث: عن الحكم الشرعي. والإسلام والإيمان حكمان أخروي ودنيوي. أما الأخروي فهو الإخراج من النار ومنع التخليد إذ قال رسول الله ﷺ "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وقد اختلفوا في أن هذا الحكم على ماذا يترتب? وعبروا عنه بأن الإيمان ماذا هو? فمن قائل إنه مجرد العقد ومن قائل يقول إنه عقد بالقلب وشهادة باللسان ومن قائل يزيد ثالثاً وهو العمل بالأركان، ونحن نكشف الغطاء عنه ونقول من جمع بين هذه الثلاثة فلا خلاف في أن مستقره الجنة وهذه درجة. الدرجة الثانية: أن يوجد اثنان وبعض الثالث - وهو القول والعقد وبعض الأعمال - ولكن ارتكب صاحبه كبيرة أو بعض الكبائر؛ فعند هذا قالت المعتزلة: خرج بهذا عن الإيمان ولم يدخل في الكفر بل اسمه فاسق وهو على منزلة بين المنزلتين وهو مخلد في النار؛ وهذا باطل كما سنذكره الدرجة الثالثة: أن يوجد التصديق بالقلب والشهادة باللسان دون الأعمال بالجوارح، وقد اختلفوا في حكمه، فقال أبو طالب المكي: العمل بالجوارح من الإيمان ولا يتم دونه وادعى الإجماع فيه واستدل بأدلة تشعر بنقيض غرضه كقوله تعالى "الذين آمنوا وعملوا الصالحات" إذ هذا يدل على أن العمل وراء الإيمان لا من نفس الإيمان وإلا فيكون العمل في حكم المعاد? والعجب أنه ادعى الإجماع في هذا وهو مع ذلك ينقل قوله ﷺ "لا يكفر أحد إلا بعد جحوده لما أقر به" وينكر على المعتزلة قولهم بالتخليد في النار بسبب الكبائر؛ والقائل بهذا قائل بنفس مذهب المعتزلة؛ إذ يقال له من صدق بقلبه وشهد بلسانه ومات في الحال فهل هو في الجنة? فلابد أن يقول نعم، وفيه حكم بوجود الإيمان دون العمل، فنزيد ونقول لو بقي حياً حتى دخل عليه وقت صلاة واحدة فتركها ثم مات أو زنى ثم مات، فهل يخلد في النار? فإن قال نعم فهو مراد المعتزلة، وإن قال لا فهو تصريح بأن العمل ليس ركناً من نفس الإيمان ولا شرطاً في وجوده ولا في استحقاق الجنة به، وإن قال أردت به أن يعيش مدة طويلة ولا يصلي ولا يقدم على شيء من الأعمال الشرعية، فنقول فما ضبط تلك المدة وما عدد تلك الطاعات التي بتركها يبطل الإيمان وما عدد الكبائر التي بارتكابها يبطل الإيمان? وهذا لا يمكن التحكم بتقديره ولم يصر إليه صائر أصلاً. الدرجة الرابعة: أن يوجد التصديق بالقلب قبل أن ينطق باللسان أو يشتغل بالأعمال ومات فهل نقول مات مؤمناً بينه وبين الله تعالى: وهذا مما اختلف فيه ومن شرط القول لتمام الإيمان يقول هذا مات قبل الإيمان وهو فاسد إذ قال ﷺ "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" وهذا قلبه طافح بالإيمان فكيف يخلد في النار? ولم يشترط في حديث جبريل عليه السلام للإيمان إلا التصديق بالله تعالى وملائكته وكتبه واليوم الآخر كما سبق. الدرجة الخامسة: أن يصدق بالقلب ويساعده من العمر مهلة النطق بكلمتي الشهادة وعلم وجوبها ولكنه لم ينطق بها فيحتمل أن يجعل امتناعه عن النطق كامتناعه عن الصلاة، ونقول هو مؤمن غير مخلد في النار، والإيمان هو التصديق المحض واللسان ترجمان الإيمان فلا بد أن يكون الإيمان موجوداً بتمامه قبل اللسان حتى يترجمه اللسان وهذا هو الأظهر؛ إذ لا مستند إلا اتباع موجب الألفاظ ووضع اللسان أن الإيمان هو عبارة عن التصديق بالقلب. وقد قال ﷺ "يخرج من كان في قلبه مثقال ذرة" ولا ينعدم الإيمان من القلب بالسكوت عن النطق الواجب كما لا ينعدم بالسكوت عن الفعل الواجب، وقال قائلون: القول ركن إذ ليس كلمتا الشهادة إخباراً عن القلب بل هو إنشاء عقد آخر وابتداء شهادة والتزام والأول أظهر، وقد غلا في هذا طائفة المرجئة فقالوا هذا لا يدخل النار أصلاً وقالوا إن المؤمن وإن عصى فلا يدخل النار وسنبطل ذلك عليهم. الدرجة السادسة أن يقول بلسانه "لا إله إلا الله محمد رسول الله" ولكن لم يصدق بقلبه فلا نشك في أن هذا في حكم الآخرة من الكفار وأنه مخلد في النار، ولا نشك في أنه في حكم الدنيا للذي يتعلق بالأئمة والولاة من المسلمين لأن قلبه لا يطلع عليه، وعلينا أن نظن به أنه ما قاله بلسانه إلا وهو منطو عليه في قلبه وإنما نشك في أمر ثالث وهو الحكم الدنيوي فيما بينه وبين الله تعالى، وذلك بأن يموت له في الحال قريب مسلم ثم يصدق بعد ذلك بقلبه ثم يستفتي ويقول كنت غير مصدق بالقلب حالة الموت والميراث الآن في يدي فهل يحل لي بيني وبين الله تعالى? أو نكح مسلمة ثم صدق بقلبه هل تلزمه إعادة النكاح? هذا محل نظر فيحتمل أن يقال أحكام الدنيا منوطة بالقول الظاهر ظاهراً وباطناً ويحتمل أن يقال تناط بالظاهر في حق غيره لأن باطنه غير ظاهر لغيره وباطنه ظاهر له في نفسه بينه وبين الله تعالى، والأظهر والعلم عند الله تعالى أنه لا يحل له ذلك الميراث ويلزمه إعادة النكاح ولذلك كان حذيفة رضي الله عنه لا يحضر جنازة من يموت من المنافقين وعمر رضي الله عنه كان يراعي ذلك منه فلا يحضر إذا لم يحضر حذيفة رضي الله عنه، والصلاة فعل ظاهر في الدنيا وإن كانت من العبادات. والتوقي عن الحرام أيضاً من جملة ما يجب لله كالصلاة لقوله ﷺ "طلب الحلال فريضة بعد فريضة" وليس هذا مناقضاً لقولنا إن الإرث حكم الإسلام وهو الاستسلام بل الاستسلام التام هو ما يشمل الظاهر والباطن، وهذه مباحث فقهية ظنية تبنى على ظواهر الألفاظ والعمومات والأقيسة فلا ينبغي أن يظن القاصر في العلوم أن المطلوب فيه القطع من حيث جرت العادة بإيراده في فن الكلام الذي يطلب فيه القطع فما أفلح من نظر إلى العادات والمراسم في العلوم. فإن قلت: فما شبهة المعتزلة والمرجئة وما حجة بطلان قولهم? فأقول شبهتهم عمومات القرآن؛ أما المرجئة فقالوا لا يدخل المؤمن النار وإن أتى بكل المعاصي لقوله عز وجل "فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً" ولقوله سبحانه وتعالى "والذين آمنوا بالله ورسوله أولئك هم الصديقون" الآية ولقوله تعالى "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها - إلى قوله - فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء" فقوله "كلما ألقي فيها فوج" عام فينبغي أن يكون من ألقي في النار مكذباً ولقوله تعالى "لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى" وهذا حصر وإثبات ونفي ولقوله تعالى "من جاء بالحسنة فله خير منها وهم من فزع يومئذ آمنون" فالإيمان رأس الحسنات ولقوله تعالى "والله يحب المحسنين" وقال تعالى "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" ولا حجة لهم في ذلك فإنه حيث ذكر الإيمان في هذه الآيات أريد به الإيمان مع العمل إذ بينا أن الإيمان قد يطلق ويراد به الإسلام وهو الموافقة بالقلب والقول والعمل، ودليل هذا التأويل أخبار كثيرة في معاقبة العاصين ومقادير العقاب وقوله ﷺ "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" فكيف يخرج إذا لم يدخل? ومن القرآن قوله تعالى "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" والاستثناء بالمشيئة يدل على الانقسام وقوله تعالى "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها" وتخصيصه بالكفر تحكم وقوله تعالى "ألا إن الظالمين في عذاب مقيم" وقال تعالى "ومن جاء بالسيئة فكبت وجوههم في النار" فهذه العمومات في معارضة عموماتهم ولابد من تسليط التخصص والتأويل على الجانبين لأن الأخبار مصرحة بأن العصاة يعذبون بل قوله تعالى "وإن منكم إلا واردها" كالصريح في أن ذلك لابد منه للكل إذ لا يخلو مؤمن عن ذنب يرتكبه وقوله تعالى "لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى" أراد به من جماعة مخصوصين أو أراد بالأشقى شخصاً معيناً أيضاً وقوله تعالى "كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها" أي فوج من الكفار، وتخصيص العمومات قريب. ومن هذه الآية وقع للأشعري وطائفة من المتكلمين إنكار صيغ العموم وأن هذه الألفاظ يتوقف فيها إلى ظهور قرينة تدل على معناها. وأما المعتزلة فشبهتهم قوله تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" وقوله تعالى "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات" وقوله تعالى "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً" ثم قال "ثم ننجي الذين اتقوا" وقوله تعالى "ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم" وكل آية ذكر الله عز وجل العمل الصالح فيها مقروناً بالإيمان وقوله تعالى "ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاءه جهنم خالداً فيها" وهذه العمومات أيضاً مخصوصة بدليل قوله تعالى "ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فينبغي فينبغي أن تبقى له مشيئة في مغفرة ما سوى الشرك. وكذلك قوله عليه السلام "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وقوله تعالى "إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً" وقوله تعالى "إن الله لا يضيع أجر المحسنين" فكيف يضيع أجر أصل الإيمان وجميع الطاعات بمعصية واحدة? وقوله تعالى "ومن يقتل مؤمناً متعمداً" أي لإيمانه وقد ورد على مثل هذا السبب. فإن قلت: فقد مال الاختيار إلى أن الإيمان حاصل دون العمل. وقد اشتهر عن السلف قولهم: الإيمان عقد وقول وعمل؛ فما معناه? قلنا. لا يبعد أن يعد العمل من الإيمان لأنه مكمل له ومتمم كما يقال الرأس واليدان من الإنسان ومعلوم أنه يخرج عن كونه إنساناً بعدم الرأس ولا يخرج عنه بكونه مقطوع اليد وكذلك يقال التسبيحات والتكبيرات من الصلاة وإن كانت لا تبطل بفقدهها فالتصديق بالقلب من الإيمان كالرأس من وجود الإنسان إذ ينعدم بعدمه وبقية الطاعات. كالأطراف بعضها أعلى من بعض وقد قال ﷺ "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" والصحابة رضي الله عنهم ما اعتقدوا مذهب المعتزلة في الخروج عن الإيمان بالزنا ولكن معناه غير مؤمن حقاً إيماناً تاماً كاملاً كما يقال للعاجز المقطوع الأطراف هذا ليس بإنسان أي ليس له الكمال الذي هو وراء حقيقة الإنسانية

مسألة فإن قلت: فقد اتفق السلف على أن الإيمان يزيد وينقص - يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية - فإذا كان التصديق هو الإيمان فلا يتصور فيه زيادة ولا نقصان? فأقول: السلف هم الشهود العدول وما لأحد عن قولهم عدول فما ذكروه حق وإنما الشأن في فهمه، وفيه دليل على أن العمل ليس من أجزاء الإيمان وأركان وجوده بل هو مزيد عليه يزيد به والزائد موجود والناقص موجود والشيء لا يزيد بذاته، فلا يجوز أن يقال الإنسان يزيد برأسه بل يقال يزيد بلحيته وسمنه، ولا يجوز أن يقال الصلاة تزيد بالركوع والسجود بل تزيد بالآداب والسنن فهذا تصريح بأن الإيمان له وجود ثم بعد الوجود يختلف حاله بالزيادة والنقصان. فإن قلت: فالإشكال قائم في أن التصديق كيف يزيد وينقص وهو خصلة واحدة? فأقول: إذا تركنا المداهنة ولم نكترث بتشغيب من تشغب وكشفنا الغطاء ارتفع الإشكال فنقول: الإيمان اسم مشترك يطلق من ثلاثة أوجه الأول: أنه يطلق للتصديق بالقلب على سبيل الاعتقاد والتقليد من غير كشف وانشراح صدور وهو إيمان العوام بل إيمان الخلق كلهم إلا الخواص، وهذا الاعتقاد عقدة عن القلب تارة تشتد وتقوى وتارة تضعف وتسترخي كالعقدة على الخيط مثلاً. ولا تستبعد هذا واعتبره باليهودي وصلابته في عقيدته التي لا يمكن نزوعه عنها بتخويف وتحذير ولا بتخييل ووعظ ولا تحقيق وبرهان وكذلك النصراني والمبتدعة وفيهم من يمكن تشكيكه بأدنى كلام ويمكن استنزاله عن اعتقاده بأدنى استمالة أو تخويف مع أنه غير شاك في عقده كالأول ولكنهما متفاوتان في شدة التصميم. وهذا موجود في الاعتقاد الحق أيضاً والعمل يؤثر في نماء هذا التصميم وزيادته كما يؤثر سقي الماء في نماء الأشجار ولذلك قال الله تعالى "فزادتهم إيماناً" وقال تعالى "ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم" وقال ﷺ فيما يروى في بعض الأخبار "الإيمان يزيد وينقص" وذلك بتأثير الطاعات في القلب وهذا لا يدركه إلا من راقب أحوال نفسه في أوقات المواظبة على العبادة والتجرد لها بحضور القلب مع أوقات الفتور وإدراك التفاوت في السكون إلى عقائد الإيمان في هذه الأحوال حتى يزيد عقده استعصاء على من يريد حله بالتشكيك بل من يعتقد في اليتيم معنى الرحمة إذا عمل بموجب اعتقاده فمسح رأسه وتلطف به أدرك من باطنه تأكيد الرحمة وتضاعفها بسبب العمل: وكذلك معتقد التواضع إذا عمل بموجبه عملاً مقبلاً أو ساجداً لغيره أحس من قلبه بالتواضع عند إقدامه على الخدمة. وهكذا جميع صفات القلب تصدر منها أعمال الجوارح ثم يعود أثر الأعمال عليها فيؤكدها ويزيدها، وسيأتي هذا في ربع المنجيات والمهلكات عند بيان وجه تعلق الباطن بالظاهر والأعمال بالعقائد والقلوب فإن ذلك من جنس تعلق الملك بالملكوت وأعني بالملك عالم الشهادة المدرك بالحواس وبالملكوت عالم الغيب المدرك بنور البصيرة والقلب من عالم الملكوت والأعضاء وأعمالها من عالم الملك. ولطف الارتباط ودقته بين العالمين انتهى إلى حد ظن بعض الناس اتحاد أحدهما بالآخر وظن آخرون أنه لا عالم إلا عالم الشهادة وهو هذه الأجسام المحسوسة. ومن أدرك الأمرين وأدرك تعددهما ثم ارتباطهما عبر عنه فقال:

رق الزجاج ورقت الخمر

وتشابها فتشاكل الأمر

فكأنما خمر ولا قدح

وكأنما قدح ولا خمر

ولنرجع إلى المقصود فإن هذا العلم خارج عن علم المعاملة ولكن بين العلمين أيضاً اتصال وارتباط فلذلك ترى علوم المكاشفة تتسلق كل ساعة على علوم المعاملة إلى أن تنكشف عنها بالتكليف فهذا وجه زيادة الإيمان بالطاعة بموجب هذا الإطلاق، ولهذا قال علي كرم الله وجهه: إن الإيمان ليبدو لمعة بيضاء فإذا عمل العبد الصالحات نمت فزادت حتى يبيض القلب كله وإن النفاق ليبدو نكتة سوداء فإذا انتهك الحرمات نمت وزادت حتى يسود القلب كله فيطبع عليه فذلك هو الختم وتلا قوله تعالى "كلا بل ران على قلوبهم" الآية. الإطلاق الثاني: أن يراد به التصديق والعمل جميعاً كما قال ﷺ "الإيمان بضع وسبعون باباً" وقال ﷺ "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن" وإذا دخل العمل في مقتضى لفظ الإيمان لم تخف زيادته ونقصانه وهل يؤثر ذلك في زيادة الإيمان الذي هو مجرد التصديق? هذا فيه نظر وقد أشرنا إلى أنه يؤثر فيه. الإطلاق الثالث: أن يراد به التصديق اليقيني على سبيل الكشف وانشراح الصدر والمشاهدة بنور البصيرة وهذا أبعد الأقسام عن قبول الزيادة ولكني أقول الأمر اليقيني الذي لا شك فيه تختلف طمأنينة النفس إليه فليس طمأنينة النفس إلى أن الاثنين أكثر من الواحد كطمأنينتها إلى أن العالم مصنوع حادث وإن كان شك في واحد منهما فإن اليقينيات تختلف في درجات الإيضاح ودرجات طمأنينة النفس إليها، وقد تعرضنا لهذا في فصل اليقين من كتاب العلم في باب علامات علماء الآخرة فلا حاجة إلى الإعادة. وقد ظهر في جميع الإطلاقات على ما قالوه من زيادة الإيمان ونقصانه حق وكيف وفي الأخبار "أنه يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان" وفي بعض المواضع في خبر آخر "مثقال دينار" فأي معنى لاختلاف مقاديره إن كان ما في القلب لا يتفاوت?

مسألة فإن قلت: ما وجه السلف "أنا مؤمن إن شاء الله" والاستثناء شك والشك في الإيمان كفر وقد كانوا كلهم يمتنعون عن جزم الجواب بالإيمان ويحترزون عنه. فقال سفيان الثوري رحمه الله، من قال أنا مؤمن عند الله فهو من الكذابين ومن قال أنا مؤمن حقاً فهو بدعة، فكيف يكون كاذباً وهو يعلم أنه مؤمن في نفسه ومن كان مؤمناً في نفسه كان مؤمناً عند الله? كما أن من كان طويلاً وسخياً في نفسه وعلم ذلك كان كذلك عند الله وكذا من كان مسروراً أو حزيناً أو سميعاً أو بصيراً، ولو قيل للإنسان هل أنت حيوان: لم يحسن أن يقول أنا حيوان إن شاء الله. ولما قال سفيان ذلك قيل له فماذا تقول? قال: قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وأي فرق بين أن يقول آمنا بالله وما أنزل إلينا وبين أن يقول أنا مؤمن? وقيل للحسن: أمؤمن أنت? فقال إن شاء الله، فقيل له: لم تستثني يا أبا سعيد في الإيمان? فقال أخاف أن أقول نعم فيقول الله سبحانه كذبت يا حسن فتحق علي الكلمة. وكان يقول: ما يؤمنني أن يكون الله سبحانه قد اطلع علي في بعض ما يكره فمقتني وقال اذهب لا قبلت لك عملاً؛ فأنا أعمل في غير معمل. وقال إبراهيم بن أدهم: إذا قيل لك أمؤمن أنت? فقل لا إله إلا الله وقال مرة: قل أنا لا أشك في الإيمان وسؤالك إياي بدعة. وقيل لعلقمة: أمؤمن أنت? قال: أرجو إن شاء الله. وقال الثوري: نحن مؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وما ندري ما نحن عند الله تعالى? فما معنى هذه الاستثناءات? فالجواب: أن هذا الاستثناء صحيح وله أربعة أوجه؛ وجهان مستندان إلى الشك لا في أصل الإيمان ولكن في خاتمته أو كماله، ووجهان لا يستندان إلى الشك. الوجه الأول - الذي لا يستند إلى معارضة الشك: الاحتراز من الجزم خيفة ما فيه من تزكية النفس قال الله تعالى "فلا تزكوا أنفسكم" وقال "ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" وقال تعالى "انظر كيف يفترون على الله الكذب" وقيل لحكيم: ما الصدق القبيح: فقال: ثناء المرء على نفسه. والإيمان من أعلى صفات المجد والجزم تزكية مطلقة وصغية الاستثناء كأنها ثقل من عرف التزكية، كما يقال للإنسان أنت طبيب أو فقيه أو مفسر? فيقول: نعم إن شاء الله، لا في معرض التشكيك ولكن لإخراج نفسه عن تزكية نفسه فالصيغة صيغة الترديد والتضعيف لنفس الخبر ومعناه التضعيف لللازم من لوازم الخبر وهو التزكية. وبهذا التأويل لو سئل عن وصف ذم لم يحسن الاستثناء. الوجه الثاني: التأدب بذكر الله تعالى في كل حال وإحالة الأمور كلها إلى مشيئة الله سبحانه فقد أدب الله سبحانه نبيه ﷺ فقال تعالى "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله" ثم لم يقتصر على ذلك فيما لا يشك فيه بل قال تعالى "لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين" وكان الله سبحانه عالماً بأنهم يدخلون لا محالة وأنه شاءه ولكن المقصود تعليمه ذلك فتأدب رسول الله ﷺ في ما كان يخبر عنه معلوماً كان أو مشكوكاً حتى قال ﷺ لما دخل المقابر "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون" واللحوق بهم غير مشكوك فيه ولكن مقتضى الأدب ذكر الله تعالى وربط الأمور به. وهذه الصيغة دالة عليه حتى صار بعرف الاستعمال عبارة عن إظهار الرغبة والتمني، فإذا قيل لك إن فلاناً يموت سريعاً فتقول إن شاء الله فيفهم منه رغبتك لا تشكك، وإذا قيل لك فلان سيزول مرضه ويصح فتقول إن شاء الله بمعنى الرغبة فقد صارت الكلمة معدولة عن معنى التشكيك إلى معنى الرغبة وكذلك العدول إلى معنى التأدب لذكر الله تعالى كيف كان الأمر: الوجه الثالث: مستنده الشك ومعناه أنا مؤمن حقاً إن شاء الله، إذ قال الله تعالى لقوم مخصوصين بأعيانهم "أولئك هم المؤمنون حقاً" فانقسموا إلى قسمين ويرجع هذا إلى الشك في كمال الإيمان لا في أصله، وكل إنسان شاك في كمال إيمانه وذلك ليس بكفر، والشك في كمال الإيمان حق من وجهين؛ أحدهما: من حيث إن النفاق يزيل كمال الإيمان وهو خفي لا تتحقق البراءة منه. والثاني: أنه يكمل بأعمال الطاعات ولا يدري وجودها على الكمال: أما العمل فقد قال الله تعالى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" فيكون الشك في هذا الصدق وكذلك قال الله تعالى "ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين" فشرط عشرين وصفاً كالوفاء بالعهد والصبر على الشدائد. ثم قال تعالى "أولئك الذين صدقوا" وقد قال تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" وقال تعالى "لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل" الآية وقد قال تعالى "هم درجات عند الله" وقال ﷺ "الإيمان عريان ولباسه التقوى" الحديث وقال ﷺ "الإيمان بضع وسبعون باباً أدناها إماطة الأذى عن الطريق" فهذا ما يدل على ارتباط كمال الإيمان بالأعمال وأما ارتباطه بالبراءة عن النفاق والشرك الخفي فقوله ﷺ "أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صام وصلى وزعم أنه مؤمن: من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر" وفي بعض الروايات "وإذا عاهد غدر" وفي حديث أبي سعيد الخدري "القلوب أربعة: قلب أجرد وفيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء العذب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلب عليه حكم له بها" وفي لفظ آخر "غلبت عليه ذهبت به" وقال عليه السلام "أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها" وفي حديث "الشرك أخفى في أمتى من دبيب النمل على الصفا" وقال حذيفة رضي الله عنه "كان الرجل يتكلم بالكلمة على عهد رسول الله ﷺ يصير بها منافقاً إلى أن يموت وإني لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات" وقال بعض العلماء: أقرب الناس من النفاق من يرى أنه بريء من النفاق. وقال حذيفة: المنافقون اليوم أكثر منهم على عهد النبي ﷺ فكانوا إذ ذاك يخفونه وهم اليوم يظهرونه وهذا النفاق يضاد صدق الإيمان وكماله وهو خفي وأبعد الناس منه من يتخوفه وأقربهم منه من يرى أنه بريء منه. فقد قيل للحسن البصري: يقولون أن لا نفاق اليوم فقال يا أخي لو هلك المنافقون لاستوحشتم في الطريق. وقال هو أو غيره: لو نبتت للمنافقين أذناب ما قدرنا أن نطأ على الأرض بأقدامنها وسمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يتعرض للحجاج فقال: أرأيت لو كان حاضراً يسمع أكنت تتكلم فيه? فقال: لا، فقال: كنا نعد هذا نفاقاً على عهد رسول الله ﷺ" وقال ﷺ "من كان ذا لسانين في الدنيا جعله الله ذا لسانين في الآخرة" وقال أيضاً ﷺ "شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه ويأتي هؤلاء بوجه" وقيل للحسن: إن قوماً ما يقولون إنا لا نخاف النفاق، فقال: والله لأن أكون أعلم أني بريء من النفاق أحب إلي من تلاع الأرض ذهباً. وقال الحسن: إن من النفاق اختلاف اللسان والقلب، والسر والعلانية، والمدخل والمخرج. وقال رجل لحذيفة رضي الله عنه: إني أخاف أن أكون منافقاً، فقال: لو كنت منافقاً ما خفت النفاق إن المنافق من أمن النفاق. وقال ابن أبي مليكة: أدركت ثلاثن ومائة - وفي رواية خمسين ومائة - من أصحاب النبي ﷺ كلهم يخافون النفاق. وروي "أن رسول الله ﷺ كان جالساً في جماعة من أصحابه فذكروا رجلاً وأكثروا الثناء عليه فبينا هم كذلك إذ طلع عليهم الرجل ووجهه يقطر ماء من أثر الوضوء وقد علق نعله بيده وبين عينيه أثر السجود فقالوا: يا رسول الله هو هذا الرجل الذي وصفناه، فقال ﷺ: أرى على وجهه سفعة من الشيطان، فجاء الرجل حتى سلم وجلس مع القوم فقال النبي ﷺ: نشدتك الله هل حدثت نفسك حين أشرفت على القوم أنه ليس فيهم خير منك? فقال: اللهم نعم" فقال ﷺ في دعائه "اللهم إني أستغفرك لما علمت ولما لم أعلم، فقيل له: أتخاف يا رسول الله? فقال: وما يؤمنني والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء! وقد قال سبحانه "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون"، قيل في التفسير: عملوا أعمالاً ظنوا أنها حسنات فكانت في كفة السيئات. وقال سري السقطي: لو أن إنساناً دخل بستاناً فيه من جميع الأشجار عليها من جميع الطيور فخاطبه كل طير منها بلغة؛ فقال: السلام عليك يا ولي الله، فسكنت نفسه إلى ذلك كان أسيراً في يديها فهذه الأخبار والآثار تعرفك خطر الأمر بسبب دقائق النفاق والشرك الخفي وأنه لا يؤمن منه حتى كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأل حذيفة عن نفسه وأنه هل ذكر في المنافقين? وقال أبو سليمان الداراني: سمعت من بعض الأمراء شيئاً فأردت أن أنكره فخفت أن يأمر بقتلي ولم أخف من الموت ولكن خشيت أن يعرض لقلبي التزين للخلق عند خروج روحي فكففت. وهذا من النفاق الذي يضاد حقيقة الإيمان وصدقه وكماله وصفاءه لا أصله. فالنفاق نفاقان، أحدهما: يخرج من الدين ويلحق بالكافرين ويسلك في زمرة المخلدين في النار. والثاني: يفضي بصاحبه إلى النار مدة أو ينقص من درجات عليين ويحط من رتبة الصديقين وذلك مشكوك فيه ولذلك حسن الاستثناء فيه. وأصل هذا النفاق تفاوت بين السر والعلانية، والأمن من مكر الله، والعجب، وأمور أخر لا يخلو عنها إلا الصديقون. الوجه الرابع: وهو أيضاً مستند إلى الشك وذلك من خوف الخاتمة فإنه لا يدري أيسلم له الإيمان عند الموت أم لا? فإن ختم له بالكفر حبط عمله السابق لأنه موقوف على سلامة الآخر، ولو سئل الصائم ضحوة النهار عن صحة صومه فقال: أنا صائم قطعاً، فلو أفطر في أثناء نهاره بعد ذلك لتبين كذبه إذ كانت الصحة موقوفة على التمام إلى غروب الشمس من آخر النهار. وكما أن النهار ميقات تمام الصوم فالعمر ميقات تمام صحة الإيمان ووصفه بالصحة قبل آخره بناء على الاستصحاب وهو مشكوك فيه، والعاقبة مخوفة ولأجلها كان بكاء أكثر الخائفين لأجل أنها ثمرة القضية السابقة والمشيئة الأزلية التي لا تظهر إلا بظهور المقضي به ولا مطلع عليه لأحد من البشر، فخوف الخاتمة كخوف السابقة وربما يظهر في الحال ما سبقت الكلمة بنقيضه، فمن الذي يدري أنه من الذين سبقت لهم من الله الحسنى? وقيل في معنى قوله تعالى "وجاءت سكرة الموت بالحق" أي بالسابقة يعني أظهرتها. وقال بعض السلف: إنما يوزن من الأعمال خواتيمها. وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يحلف بالله ما من أحد يأمن أن يسلب إيمانه إلا سلبه. وقيل من الذنوب ذنوب عقوبتها سوء الخاتمة نعوذ بالله من ذلك. وقيل هي عقوبات دعوى الولاية والكرامة بالافتراء. وقال بعض العارفين: لو عرضت علي الشهادة عند باب الدار والموت على التوحيد عند باب الحجرة لاخترت الموت على التوحيد عند باب الحجرة لأني لا أدري ما يعرض لقلبي من التغيير عن التوحيد إلى باب الدار? وقال بعضهم: لو عرفت واحداً بالتوحيد خمسين سنة ثم حال بيني وبينه سارية ومات لم أحكم أنه مات على التوحيد. وفي الحديث "من قال أنا مؤمن فهو كافر ومن قال أنا عالم فهو جاهل" وقيل في قوله تعالى "وتمت كلمات ربك صدقاً وعدلاً" صدقاً لمن مات على الإيمان وعدلاً لمن مات على الشرك وقد قال تعالى "ولله عاقبة الأمور" فمهما كان الشك بهذه المثابة كان الاستثناء واجباً لأن الإيمان عبارة عما يفيد الجنة كما أن الصوم عبارة عما يبرىء الذمة. وما فسد قبل الغروب لا يبرىء الذمة فيخرج عن كونه صوماً فكذلك الإيمان بل لا يبعد أن يسأل عن الصوم الماضي الذي لا يشك فيه بعد الفراغ منه فيقال أصمت بالأمس? فيقول نعم إن شاء الله تعالى إذ الصوم الحقيقي هو المقبول والمقبول غائب عنه لا يطلع عليه إلا الله تعالى فمن هذا حسن الاستثناء في جميع أعمال البر ويكون ذلك شكا في القبول، إذ يمنع منا لقبول بعد جريان ظاهر شروط الصحة أسباب خفيفة لا يطلع عليها إلا رب الأرباب جل جلاله فيحسن الشك فيه. فهذه وجوه حسن الاستثناء في الجواب عن الإيمان وهي آخر ما نختم به "كتاب قواعد العقائد" تم الكتاب بحمد الله تعالى وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى.

======

كتاب أسرار الطهارة

وهو الكتاب الثالث من ربع العبادات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تلطف بعباده فتعبدهم بالنظافة، وأفاض على قلوبهم تزكية لسرائرهم أنواره وألطافه، وأعد لظواهرهم تطهيراً لها الماء المخصوص بالرقة واللطافة، وصلى الله على النبي محمد المستغرق بنور الهدى أطراف العالم وأكنافه، وعلى آله الطيبين الطاهرين صلاة تنجينا بركاتها يوم المخافة، وتنتصب جنة بيننا وبين كل آفة. أما بعد. فقد قال النبي ﷺ "بني الدين على النظافة" وقال ﷺ "مفتاح الصلاة الطهور" وقال الله تعالى "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" وقال النبي ﷺ "الطهور نصف الإيمان" وقال الله تعالى "ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم" فتفطن ذوو البصائر بهذه الظواهر أن أهم الأمور تطهير السرائر إذ يبعد أن يكون المراد بقوله ﷺ "الطهور نصف الإيمان" عمارة الظاهر بالتنظيف بإفاضة الماء وإلقائه وتخريب الباطن وإبقائه مشحوناً بالأخباث والأقذار هيهات هيهات! والطهارة لها أربع مراتب المرتبة الأولى تطهير الظاهر عن الأحداث وعن الأخباث والفضلات المرتبة الثانية تطهير الجوارح عن الجرائم والآثام المرتبة الثالثة تطهير القلب عن الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة المرتبة الرابعة تطهير السر عما سوى الله تعالى وهي طهارة الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقين، والطهارة في كل رتبة نصف العمل الذي فيها فإن الغاية القصوى في عمل السر أن ينكشف له جلال الله تعالى وعظمته ولن تحل معرفة الله تعالى بالحقيقة في السر ما لم يرتحل ما سوى الله تعالى عنه. ولذلك قال الله عز وجل "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" لأنهما لا يجتمعان في قلب "وما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه" وأما عمل القلب فالعناية القصوى عمارته بالأخلاق المحمودة والعقائد المشروعة ولن يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها من العقائد الفاسدة والرذائل الممقوتة، فتطهيره أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني فكان الطهور شطر الإيمان بهذا المعنى، وكذلك تطهير الجوارح عن المناهي أحد الشطرين وهو الشطر الأول الذي هو شرط في الثاني، فتطهيره أحد الشطرين وهو الشرط الأول وعمارتها بالطاعات الشطر الثاني فهذه مقامات الإيمان ولكل مقام طبقة ولن ينال العبد الطبقة العالية إلا أن يجاوز الطبقة السافلة، فلا يصل إلى طهارة السر عن الصفات المذمومة وعمارته بالمحمودة ما لم يفرغ من طهارة القلب عن الخلق المذموم وعمارته بالخلق المحمود، ولن يصل إلى ذلك من لم يفرغ عن طهارة الجوارح عن المناهي وعمارتها بالطاعات، وكلما عز المطلوب وشرف صعب مسلكه وطال طريقه وكثرت عقباته فلا تظن أن هذا الأمر يدرك وينال بالهوينى، نعم من عميت بصيرته عن تفاوت هذه الطبقات لم يفهم من مراتب الطهارة إلا الدرجة الأخيرة التي هي كالقشرة الأخيرة الظاهرة بالإضافة إلى اللب المطلوب، فصار يمعن فيها ويستقصى في مجاريها ويستوعب جميع أوقاته في الاستنجاء وغسل الثياب وتنظيف الظاهر وطلب المياه الجارية الكثيرة ظناً منه بحكم الوسوسة وتخيل العقل أن الطهارة المطلوبة الشريفة هي هذه فقط وجهالة بسيرة الأولين واستغراقهم جميع الهم والفكر في تطهير القلب وتساهلهم في أمر الظاهر، حتى إن عمر رضي الله عنه مع علو منصبه توضأ من ماء في جرة نصرانية، وحتى إنهم ما كانوا يغسلون اليد من الدسومات والأطعمة بل كانوا يمسحون أصابعهم بأخمص أقدامهم وعدوا الأشنان من البدع المحدثة، ولقد كانوا يصلون على الأرض في المساجد ويمشون حفاة في الطرقات، ومن كان لا يجعل بينه وبين الأرض حاجزاً في مضجعه كان من أكابرهم، وكانوا يقتصرون على الجارة في الاستنجاء. وقال أبو هريرة وغيره من أهل الصفة: "كنا نأكل الشواء فتقام الصلاة فندخل أصابعنا في الحصى ثم نفركها بالتراب ونكبر" وقال عمر رضي الله عنه: "ما كنا نعرف الأشنان في عرص رسول الله ﷺ وإنما كانت مناديلنا بطون أرجلنا كنا إذا أكلنا الغمر مسحنا بها" ويقال أول ما ظهر من البدع بعد رسول الله ﷺ أربع: المناخل والأشنان والموائد والشبع. فكانت عنايتهم كلها بنظافة الباطن حتى قال بعضهم: الصلاة في النعلين أفضل "لأن رسول الله ﷺ لما نزع نعليه في صلاته بإخبار جبريل عليه السلام له أن بهما نجاسة وخلع الناس نعالهم قال ﷺ لم خلعتم نعالكم"? وقال النخعي في الذين يخلعون نعالهم "وددت لو أن محتاجاً جاء إليها فأخذها" منكراً لخلع النعال. فهكذا كان تساهلهم في هذه الأمور بل كانوا يمشون في طين الشوارع حفاة ويجلسون عليها ويصلون في المساجد على الأرض، ويأكلون من دقيق البر والشعير وهو يداس بالدواب وتبول عليه، ولا يحترزون من عرق الإبل والخيل مع كثرة تمرغها في النجاسات، ولم ينقل قط عن أحد منهم سؤال في دقائق النجاسات فهكذا كان تساهلهم فيها. وقد انتهت النوبة الآن إلى طائفة يسمون الرعونة نظافة فيقولون هو مبنى الدين فأكثر أوقاتهم في تزيينهم الظواهر، كفعل الماشطة بعروسها والباطن خراب مشحون بخبائث الكبر والعجب والجهل والرياء والنفاق ولا يستنكرون ذلك ولا يتعجبون منه! ولو اقتصر مقتصر على الاستنجاء بالحجر أو مشى على الأرض حافياً أو صلى على الأرض أو على بواري المسجد من غير سجادة مفروشة أو مشى على الفرش من غير غلاف للقدم من أدم أو توضأ من آنية عجوز أو رجل غير متقشف أقاموا عليه القيامة وشدوا عليه النكير ولقيوه بالقذر وأخرجوه من زمرتهم واستنكفوا عن مؤاكلته ومخالطته. فسموا البذاذة التي هي من الإيمان قذارة والرعونة نظافة فانظر كيف صار المنكر معروفاً والمعروف منكراً! وكيف اندرس من الدين رسمه كما اندرس حقيقته وعلمه. فإن قلت: أفتقول إن هذه العادات التي أحدثها الصوفية في هيئاتهم ونظافتهم من المحظورات أو المنكرات? فأقول حاش لله أن أطلق القول فيه من غير تفصيل ولكني أقول إن هذا التنظيف والتكلف وإعداد الأواني والآلات واستعمال غلاف القدم والإزار المقنع به لدفع الغبار وغير ذلك من هذه الأسباب إن وقع النظر إلى ذاتها على سبيل التجرد فهي من المباحات وقد يقترن بها أحوال ونيات تلحقها تارة بالمعروفات وتارة بالمنكرات، فأما كونها مباحة في نفسها فلا يخفى أن صاحبها متصرف بها في ماله وبدنه وثيابه فيفعل بها ما يريد إذا لم يكن فيه إضاعة وإسراف، وأما مصيرها منكراً فبأن يجعل ذلك أصل الدين ويفسر به قوله ﷺ "بني الدين على النظافة" حتى ينكر به على من يتساهل فيه الأولين أو يكون القصد به تزيين الظاهر للخلق وتحسين موقع نظرهم، فإن ذلك هو الرياء المحظور فيصير منكراً بهذين الاعتبارين، أما كونه معروفاً فبأن يكون القصد منه الخير دون التزين وأن لا ينكر على من ترك ذلك ولا يؤخر بسببه الصلاة عن أوائل الأوقات ولا يشتغل به عن عمل هو أفضل منه أو عن علم أو غيره، فإذا لم يقترن به شيء من ذلك فهو مباح يمكن أن يجعل قربة بالنية ولكن لا يتيسر ذلك إلا للبطالين الذين لم يشتغلوا بصرف الأوقات فيه لاشتغلوا بنوم أو حديث فيما لا يعني فيصير شغلهم به أولى لأن الاشتغال بالطهارات يجدد ذكر الله تعالى وذكر العبادات فلا بأس به إذا لم يخرج إلى منكر أو إسراف. وأما أهل العلم والعمل فلا ينبغي أن يصرفوا من أوقاتهم إليه إلا قدر الحاجة فالزيادة عليه منكر في حقهم وتضييع العمر الذي هو أنفس الجواهر وأعزها في حق من قدر على الانتفاع به. ولا يتعجب من ذلك فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولا ينبغي للبطال أن يترك النظافة وينكر على المتصوفة ويزعم أنه يتشبه بالصحابة إذ التشبه بهم في أن لا يتفرغ إلا لما هو أهم منه، كما قيل لداود الطائي لم لا تسرح لحيتك? قال: إنذ إذن لفارغ. فلهذا لا أرى للعالم ولا للمتعلم ولا للعامل أن يضيع وقته في غسل الثياب إحترازاً من أن يلبس الثياب المقصورة وتوهماً بالقصار تقصيراً في الغسل؛ فقد كانوا في العصر الأول يصلون في الفراء المدبوغة ولم يعلم منهم من فرق بين المقصورة والمدبوغة في الطهارة والنجاسة، بل كانوا يجتنبون النجاسة إذا شاهدوها ولا يدققون نظرهم في استنباط الاحتمالات الدقيقة، بل كانوا يتأملون في دقائق الرياء والظلم حتى قال سفيان الثوري لرفيق كان يمشي معه فنظر إلى باب دار مرفوع معمور: لا تفعل ذلك فإن الناس لو لم ينظروا إليه لكان صاحبه لا يتعاطى هذا الإسراف. فالناظر إليه معين له على الإسراف. فكانوا يعدون جمام الذهن لاستنابط مثل هذه الدقائق لا في احتمالات النجاسة. فلو وجد العالم عامياً يتعاطى له غسل الثياب محتاطاً فهو أفضل فإنه بالإضافة إلى التساهل خير. وذلك العامي ينتفع بتعاطيه إذ يشغل نفسه الأمارة بالسوء بعمل المباح في نفسه فيمتنع عليه المعاصي في تلك الحال. والنفس إن لم تشغل بشيء شغلت صاحبها وإذا قصد به التقرب إلى العالم صار ذلك عنده من أفضل القربات. فوقت العالم أشرف من أن يصرفه إلى مثله فيبقى محفوظاً عليه، وأشرف وقت العامي أن يشتغل بمثله فيتوفر الخير عليه من الجوانب كلها. وليتفطن بهذا المثل لنظائره من الأعمال وترتيب فضائلها ووجه تقديم البعض منها على بعض، فتدقيق الحساب في حفظ لحظات العمر بصرفها إلى الأفضل أهم من التدقيق في أمور الدنيا بحذافيرها. وإذا عرفت هذه المقدمة واستبنت أن الطهارة لها أربع مراتب. فاعلم أنا في هذا الكتاب لسنا نتكلم إلا في المرتبة الرابعة وهي نظافة الظاهر لأنا في الشطر الأول من الكتاب لا نتعرض قصداً إلا للظواهر. فنقول طهارة الظاهر ثلاثة أقسام: طهارة عن الخبث وطهارة عن الحدث وطهارة عن فضلات البدن، وهي التي تحصل بالقلم والاستحداد واستعمال النورة والختان وغيره.

=========

============

القسم الأول

في طهارة الخبث

والنظر فيه يتعلق بالمزال والمزال به والإزالة

الطرف الأول

في المزال

وهي النجاسة. والأعيان ثلاثة: جمادات وحيوانات وأجزاء حيوانات. أما الجمادات فطاهرة كلها إلا الخمر وكل منتبذ مسكر، والحيوانات طاهرة كلها إلا الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما. فإذا ماتت فكلها نجسة إلا خمسة: الآدمي والسمك والجراد ودود التفاح - وفي معناه كل ما يستحل من الأطعمة - وكل ما ليس له نفس سائلة كالذباب والخنفساء وغيرهما فلا ينجس الماء بوقوع شيء منها فيه. وأما أجزاء الحيوانات فقسمان، أحدهما: ما يقطع منه وحكمه حكم الميت. والشعر لا ينجس بالجز، والموت والعظم ينجس. الثاني: الرطوبات الخارجة من باطنه فكل ما ليس مستحيلاً ولا له مقر فهو طاهر كالدمع والعرق واللعاب والمخاط، وما له مقر وهو مستحي فنجس، إلا ما هو مادة الحيوان كالمني والبيض. والقيح والدم والروث والبول نجس من الحيوانات كلها. ولا يعفى عن شيء م هذه النجاسات قليلها وكثيرها إلا عن خمسة، الأول: أثر النجو بعد الاستجمار بالأحجار يعفى عنه ما لم يعد المخرج والثاني: طين الشوارع وغبار الروث في الطريق يعفى عنه مع تيقن النجاسة بقدر ما يتعذر الاحتراز عنه، وهو الذي لا ينسب المتلطلخ به إلى تفريط أو سقطة. الثالث: ما على أسفل الخف من نجاسة لا يخلو الطريق عنها فيعفى عنه بعد الدلك للحاجة: الرابع: دم البراغيث ما قل منه أو كثر إلا إذا جاوز حد العادة سواء كان في ثوبك أو في ثوب غيرك فلبسته. الخامس: دم البثرات وما ينفصل منها من قيح وصديد. ودلك ابن عمر رضي الله عنه بثرة على وجهه فخرج منها الدم وصلى ولم يغتسل. وفي معناه ما يترشح من لطخات الدماميل التي تدوم غالباً وكذلك أثر الفصد إلا ما يقع نادراً من خراج أو غيره فيلحق بدم الاستحاضة، ولا يكون في معنى البثرات التي لا يخلو الإنسان عنها في أحواله. ومسامحة الشرع في هذه النجاسات الخمس تعرفك أن أمر الطهارة على التساهل وما ابتدع فيها وسوسة لا أصل لها.

الطرف الثاني

في المزال به

وهو إما جامد وإما مائع؛ فحجر الاستنجاء وهو مطهر تطهير تخفيف بشرط أن يكون صلباً طاهراً منشفاً غير محترم، وأما المائعات فلا تزال النجاسات بشيء منها إلا الماء؛ ولا كل ماء بل الطاهر الذي لم يتفاحش تغيره بمخالطة ما يستغنى عنه. ويخرج الماء عن الطهارة بأن يتغير بملاقاة النجاسة طعمه أو لونه أو ريحه. فإن لم يتغير وكان قريباً من مائتين وخمسين منا - وهو خمسمائة رطل برطل العراق - لم ينجس لقوله ﷺ "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً" وإن كان دونه صار نجساً عند الشافعي رضي الله عنه هذا في الماء الراكد. وأما الماء الجاري إذا تغير بالنجاسة فالجرية المتغيرة نجسة دون ما فوقها وما تحتها لأن جريات الماء متفاصلات. وكذا النجاسة الجارية إذا جرت بمجرى الماء فالنجس موقعها من الماء وما عن يمينها وشمالها إذا تقاصر عن قلتين. وإن كان جري الماء أقوى من جري النجاسة فما فوق النجاسة طاهر وما سفل عنها فنجس وإن تباعد وكثر إلا إذا اجتمع في حوض قدر قلتين. وإذا اجتمع قلتان من ماء نجس طهر ولا يعود نجساً بالتفريق. هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه. وكنت أود أن يكون مذهبه كمذهب مالك رضي الله عنه في أن الماء وإن قل لا ينجس إلا بالتغير إذ الحاجة ماسة إليه ومثار الوسواس اشترط القلتين. ولأجله شق على الناس ذلك: وهو لعمري سبب المشقة ويعرفه من يجربه ويتأمله. ومما لا أشك فيه أن ذلك لو كان مشروطاً لكان أولى المواضع بتعسر الطهارة: مكة والمدينة؛ إذ لا يكثر فيهما المياه الجارية ولا الراكدة الكثيرة. ومن أول عصر رسول الله ﷺ إلى آخر عصر أصحابه لم تنقل واقعة في الطهارة ولا سؤال عن كيفية حفظ الماء عن النجاسات. وكانت أواني مياههم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات. وقد توضأ عمر رضي الله عنه بماء في جرة نصرانية، وهذا كالصريح في أنه لم يعول إلا على عدم تغير الماء وإلا فنجاسة النصرانية وإنائها غالبة تعلم بظن قريب، فإذا عسر القيام بهذا المذهب. وعدم وقوع السؤال في تلك الأعصار؛ دليل أول. وفعل عمر رضي الله عنه: دليل ثان. والدليل الثالث: إصغاء رسول الله ﷺ الإناء للهرة وعدم تغطية الأواني منها: بعد أن يرى أنها تأكل الفأرة ولم يكن في بلادهم حياض تلغ السنانير فيها وكانت لا تنزل الآبار والرابع: أن الشافعي رضي الله عنه نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير ونجسة إن تغيرت، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورد عليها أو بورودها عليه? وأي معنى لقول القائل إن قوة الورود تدفع النجاسة مع ان الورود لم يمنع مخالطة النجاسة? وإن أحيل ذلك على الحاجة فالحاجة أيضاً ماسة إلى هذا فلا فرق بين طرح الماء في إجانة فيها ثوب نجس أو طرح الثوب النجس في الإجانة وفيها ماء? وكل ذلك معتاد في غسل الثياب والأواني، والخامس: أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة، ولا خلاف في مذهب الشافعي رضي الله عنه إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير أنه يجوز التوضؤ به وإن كان قليلاً. وأي فرق بين الجاري والراكد? وليت شعري هل الحوالة على عدم التغير أولى أو على قوة الماء بسبب الجريان? ثم ما حد تلك القوة أتجري في المياه من الأواني على الأبدان وهي أيضاً جارية? ثم البول أشد اختلاطاً بالماء الجاري من نجاسة جامدة ثابتة إذا قضى بأن ما يجري عليها وإن لم يتغير نجس أن يجتمع في مستنقع قلتان، فأي فرق بين الجامد والمائع والماء واحد والاختلاط أشد من المجاورة? والسادس: أنه إذا وقع رطل من البول في قلتين ثم فرقتا فكل كوز يغترف منه طاهر، ومعلوم أن البول منتشر فيه وهو قليل وليت شعري هل تعليل طهارته بعدم التغير أولى أو بقوة الماء بعد انقطاع الكثرة وزوالها مع تحقق بقاء أجزاء النجاسة فيها? والسابع: أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ فيها المتقشفون ويغمسون الأيدي والأواني في تلك الحياض مع قلة الماء ومع العلم بأن الأيدي النجسة والطاهرة كانت تتوارد عليها. فهذه الأمور مع الحاجة الشديدة تقوى في النفس أنهم كانوا ينظرون إلى عدم التغير معولين على قوله ﷺ خلق الماء طهوراً لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو لونه أو ريحه وهذا فيه تحقيق، وهو أن طبع كل مائع أن يقلب إلى صفة نفسه كل ما يقع فيه وكان مغلوباً من جهته؛ فكما ترى الكلب يقع في المملحة فيستحيل ملحاً ويحكم بطهارته بصيرورته ملحاً وزوال صفة الكلبية عنه، فكذلك الخل يقع في الماء وكذا اللبن يقع فيه وهو قليل فتبطل صفته ويتصور بصفة الماء وينطبع بطبعه إلا إذا كثر وغلب وتعرف غلبته بغلبة طعمه أو لونه أو ريحه فهذا المعيار. وقد أشار الشرع إليه في الماء القوي على إزالة النجاسة وهو جدير بأن يعول عليه فيندفع به الحرج ويظهر به معنى كونه طهوراً إذ يغلب عليه فيطهره، كما صار كذلك فيما بعد القلتين وفي الغسالة وفي الماء الجاري وفي إصغاء الإناء للهرة ولا تظن ذلك عفواً إذ لو كان كذلك لكان كأثر الاستنجاء ودم البراغيث حتى يصير الماء الملاقي له نجساً ولا ينجس بالغسالة ولا بولوغ السنور في الماء القليل. وأما قوله ﷺ "لا يحمل خبثاً" فهو في نفسه مبهم فإنه يحمل إذا تغير. فإن قيل. أراد به إذا لم يتغير فيمكن أن يقال إنه أراد به أنه في الغالب لا يتغير بالنجاسات المعتادة? ثم هو تمسك بالمفهوم فيما إذا يبلغ قلتين، وترك المفهوم بأقل من ألأدلة التي ذكرناها ممكن وقوله "لا يحمل خبثاً" ظاهره نفي الحمل أي يقلبه إلى صفة نفسه، كما يقال للملحة لا تحمل كلباً ولا غيره أي ينقلب، وذلك لأن الناس قد يستنجون في المياه القليلة وفي الغدران ويغمسون الأواني النجسة فيها ثم يترددون في أنها تغيرت تغيراً مؤثراً أم لا? فتبين أنه إذا كان قلتين لا يتغير بهذه النجاسة المعتادة. فإن قلت: فقد قال النبي ﷺ "لا يحمل خبثاً" ومهما كثرت حملها فهذا ينقلب عليك فإنها مهما كثرة حملها حكماً كما حملها حساً. فلابد من التخصيص بالنجاسات المعتادة على المذهبين جميعاً. وعلى الجملة فميلي في أمور النجاسات المعتادة إلى التساهل فهما من سيرة الأولين وحسماً لمادة الوسواس وبذلك أفتيت بالطهارة فيما وقع الخلاف فيه في مثل هذه المسائل.

الطرف الثالث

في كيفية الإزالة

والنجاسة إن كانت حكمية وهي التي لها جرم محسوس فيكفي إجراء الماء على جميع مواردها، وإن كانت عينية فلابد من إزالة العين، وبقاء الطعم يدل على بقاء العين وكذا بقاء اللون إلا فيما يلتصق به فهو معفو عنه بعد الحت والقرص. أما الرائحة فبقاؤها يدل على بقاء العين ولا يعفى عنها إلا إذا كان الشيء له رائحة فائحة بعسر إزالتها فالدلك والعصر مرات متواليات يقوم مقام الحت والقرص في اللون، والمزيل للوسواس أن يعلم أن الأشياء خلقت طاهرة بيقين فما لا يشاهد عليه نجاسة ولا يعلمها يقيناً يصلي معه، ولا ينبغي أن يتوصل بالاستنباط إلى تقدير النجاسات.

======

القسم الثاني

طهارة الأحداث ومنها الوضوء والغسل

والتيمم ويتقدمها الاستنجاء

فلنورد كيفيتها على الترتيب مع آدابها وسننها مبتدئين بسبب الوضوء وآداب قضاء الحاجة إن شاء الله تعالى.

باب آداب قضاء الحاجة

ينبغي أن يبعد عن أعين الناظرين في الصحراء وأن يستتر بشيء إن وجده وأن لا يكشف عورته قبل الانتهاء إلى موضع الجلوس وأن لا يستقبل الشمس والقمر وأن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها إلى إذا كن في بناء، والعدول أيضاً عنها في البناء أحب وإن استتر في الصحراء براحلته جاز وكذلك بذيله، وأن يتقي الجلوي في متحدث الناس وأن لا يبول في الماء الراكد ولا تحت الشجرة المثمرة ولا في الجحر، وأن يتقي الموضع الصلب ومهاب الرياح في البول استنزاهاً من رشاشه وأن يتكىء في جلوسه على الرجل اليسرى وإن كان في بنيان يقدم الرجل اليسرى في الدخول واليمنى في الخروج ولا يبول قائماً. قالت عائشة رضي الله عنها "من حدثكم أن النبي ﷺ كان يبول قائماً فلا تصدقوه" وقال عمر رضي الله عنه "رآني رسول الله ﷺ وأنا أبول قائماً فقال: يا عمر لا تبل قائماً" قال عمر: فما بلت قائماً بعد، وفيه رخصة إذ روى حذيفة رضي الله عنه "أنه عليه الصلاة والسلام بال قائماً فأتيته بوضوء فتوضأ ومسح على خفيه" ولا يبول في المغتسل قال ﷺ "عامة الوسواس منه" وقال ابن المبارك: قد وسع في البول في المغتس إذا جرى الماء عليه ذكره الترمذي وقال عليه الصلاة والسلام "لا يبولن أحدكم في مستجمه ثم يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس منه" وقال ابن المبارك: إن كان الماء جارياً فلا باس به ولا يستصحب شيئاً عليه اسم الله تعالى أو رسوله ﷺ، ولا يدخل بيت الماء حاسر الرأس. وأن يقول عند الدخول "بسم الله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم" وعند الخروج "الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأبقى علي ما ينفعني" ويكون ذلك خارجاً عن بيت الماء وأن يعد النبل قبل الجلوس وأن لا يستنجي بالماء في موضع الحاجة وأن يستبرىء من البول بالتنحنح والنثر - ثلاثاً - وإمرار اليد على أسفل القضيب ولا يكثر التفكير في الاستبراء فيتوسوس ويشق عليه الأمر وما يحس به من بلل فليقدر أنه بقية الماء. فإن كان يؤذيه ذلك فليرش عليه الماء حتى يقوى في نفسه ذلك ولا يتسلط عليه الشيطان بالوسواس. وفي الخبر أنه ﷺ فعله أعني رش الماء وقد كان أخفهم استبراء أفقههم فتدل الوسوسة فيه على قلة الفقه. وفي حديث سلمان رضي الله عنه "علمان رسول الله ﷺ كل شيء حتى الخراءة فأمرنا أن لا تستنجى بعظم ولا روث ونهانا أن نستقبل القبلة بغائط أو بول" وقال رجل لبعض الصحابة من الأعراب وقد خاصمه: لا أحسبك تحسن الخراء قال: بلى وأبيك إني لأحسنها وإني بها لحاذق أبعد الأثر وأعد المدر وأستقبل الشيح وأستدبر الريح وأقعي إقعاء الظبي وأجفل إجفال النعام - الشيح نبت طيب الرائحة بالبادية، والإقعاء ههنا أن يستوفز على صدور قدميه، والإجفال أن يرفع عجزه. ومن الرخصة أن يبول الإنسان قريباً من صاحبه مستتراً عنه فعل ذلك رسول الله ﷺ مع شدة حيائه ليبين للناس ذلك.

كيفية الاستنجاء

ثم يستنجي لمقعدته بثلاثة أحجار، فإن أنقى وإلا استعمل رابعاً، فإن أنقى وإلا استعمل خامساً لأن الإنقاء واجب والإيتار مستحب. قال عليه السلام "من استجمر فليوتر" ويأخذ الحجر بيساره ويضعه على مقدم المقعدة قبل موضع النجاسة ويمره بالمسح والإدارة إلى المؤخر، ويأخذ الثاني ويضعه على المؤخر كذك ويمره إلى المقدمة، ويأخذ الثالث فيديره حو المسربة إدارة فإن عسرت الإدارة ومسح من المقدمة إلى المؤخر أجزأه، ثم يأخذ حجراً كبيراً بيمينه والقضيب بيساره ويمسح الحجر بقضيبه ويحرك اليسار فيمسح ثلاثاً في ثلاثة مواضع أوفى ثلاثة أحجار أو في ثلاثة مواضع من جدار إلى أن لا يرى الرطوبة في محل المسح، فإن حصل ذلك بمرتين أتى بالثالثة، ووجب ذلك إن أراد الاقتصار على الحجر، وإن حصل بالرابعة استحب الخامسة للإيتار. ثم ينتقل من ذلك الموضع إلى موضع آخر ويستنجي بالماء بأن يفيضه باليمنى على محل النجو ويدلك باليسرى حتى لا يبقى أثر يدركه الكف بحس اللمس، ويدرك الاستقصاء فيه بالتعرض للباطن فإن ذلك منبع الوسواس، وليعلم أن كل ما لا يصل إليه الماء فهو باطن ولا يثبت حكم النجاسة للفضلات الباطنة ما لم تظهر، وكل ما هو ظاهر وثبت له حكم النجاسة فحد ظهوره أن يصل الماء إليه فيزيله ولا معنى للوسواس. ويقول عند الفراغ من الاستنجاء "اللهم طهر قلبي من النفاق وحصن فرجي من الفواحش" ويدلك يده بحائط أو بالأرض إزالة للرائحة إن بقيت. والجمع بين الماء والحجر مستحب فقد روى "أنه لما نزل قوله تعالى "فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين" قال رسول الله ﷺ لأهل قباء: ما هذه الطهارة التي أثنى الله بها عليكم، قالوا. كنا نجمع بين الماء والحجر".

كيفية الوضوء

إذا فرغ من الاستنجاء اشتغل بالوضوء فلم ير رسول الله ﷺ قط خارجاً من الغائط إلا توضأ ويبتدىء بالسواك فقد قال رسول الله ﷺ "إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك" فينبغي أن ينوي عند السواك تطهير فمه لقراءة القرآن وذكر الله تعالى في الصلاة وقال ﷺ "صلاة على أثر سؤالاً أفضل من خمس وسبعين صلاة بغير سواك" وقال ﷺ "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" وقال ﷺ "مالي أراكم تدخلون علي قلحاً استاكوا" أي صفر الأسنان وكان عليه الصلاة والسلام يستاك في الليلة مراراً" وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "لم يزل ﷺ يأمرنا بالسواك حتى ظننا أنه سينزل عليه فيه شيء" وقال عليه السلام "عليكم بالسواك فإنه مطهرة للفم ومرضاة للرب" وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: السواك يزيد في الحفظ ويذهب البلغم وكان أصحاب النبي ﷺ يروحون والسواك على آذانهم. وكيفيته: أن يستاك بخشب الأراك أو غيره من قضبان الأشجار مما يخشن ويزيل القلح ويستاك عرضاً وطولاً وإن اقتصر فعرضاً. ويستحب السواك عند كل صلاة وعند كل وضوء وإن لم يصل عقيبه وعند تغير النكهة بالنوم أو طول الأزم أو كل ما تكره رائحته، ثم عند الفراغ من السواك يجلس للوضوء مستقبل القبلة ويقول "بسم الله الرحمن الرحيم" قال ﷺ "لا وضوء لمن لم يسم الله تعالى" أي لا وضوء كامل. ويقول عند ذلك "أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك من الشؤم والهلكة" ثم ينوي رفع الحدث أو استباحة الصلاة ويستديم النية إلى غسل الوجه فإن نسيها عند الوجه لم يجزه، ثم يأخذ غرفة لفيه بيمينه فيتمضمض بها ثلاثاً ويغرغر بأن يرد الماء إلى الغلصمة إلا أن يكون صائماً فيرفق ويقول "اللهم أعني على تلاوة كتابك وكثرة الذكر لك" ثم يأخذ غرفة لأنفه ويستنشق ثلاثاً ويصعد الماء بالنفس إلى خياشيمه ويستنثر ما فيها ويقول في الاستنشاق "اللهم أوجد لي رائحة الجنة وأنت عني راض" وفي الاستنثار "اللهم إني أعوذ بك من روائح النار ومن سوء الدار" لأن الاستنشاق إيصال الاستنثار إزالة، ثم يغرف غرفة لوجهه فيغسله من مبدإ سطح الجبهة إلى منتهى ما يقبل من الذقن في الطول، ومن الأذن إلى الأذن في العرض، ولا يدخل في حد الوجه النزعتان اللتان على طرفي الجبينين فهما من الرأس، ويوصل الماء إلى موضع التحذيف وهو ما يعتاد النساء تنحية الشعر عنه وهو القدر الذي يقع في جانب الوجه، مهما وضع طرف الخيط على رأس الأذن والطرف الثاني على زاوية الجبين، ويوصل الماء إلى منابت الشعور الأربعة: الحاجبان والشاربان والعذاران والأهداب: لأنها خفيفة في الغالب. والعذاران هما ما يوازيان الأذنين من مبدإ اللحية. ويجب إيصال الماء إلى منابت اللحية الخفيفة أعني ما يقبل من الوجه وأما الكثيفة فلا، وحكم العنفقة حكم اللحية في الكثافة والخفة، ثم يفعل ذلك ثلاثاً ويفيض الماء على ظاهر ما استرسل من اللحية ويدخل الأصابع في محاجر العينين وموضع الرمص ومجتمع الكحل وينقيهما. فقد روي أنه عليه السلام فعل ذلك ويأمل عند ذلك خروج الخطايا من عينيه وكذلك عند كل عضو ويقول عنده "اللهم بيض وجهي بنورك يوم تبيض وجوه أوليائك ولا تسود وجهي بظلماتك يوم تسود وجوه أعدائك" ويخلل اللحية الكثيفة عند غسل الوجه فإنه مستحب، ثم يغسل يديه إلى مرفقيه ثلاثاً ويحرك الخاتم ويطيل الغرة ويرفع الماء إلى أعلى العضد فإنهم يحشرون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، كذلك ورد الخبر. قال عليه السلام "من استطاع أن يطيل غرته فليفعل" وروي أن الحلية تبلغ مواضع الوضوء ويبدأ باليمنى ويقول "اللهم أعطني كتابي بيميني وحاسبني حساباً يسيراً" ويقول عند غسل الشمال "اللهم إني أعوذ بك أن تعطيني كتابي بشمالي أو من وراء ظهري" ثم يستوعب رأسه بالمسح بأن يبل يديه ويلصق رءوس أصابع يديه اليمنى باليسرى ويضعهما على مقدمة الرأس ويمدهما إلى القفا ثم يردهما إلى المقدمة، وهذه مسحة واحدة، يفعل ذلك ثلاثاً ويقول "اللهم غثني برحمتك وأنزل علي من بركاتك وأظلني تحت ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك" ثم يمسح أذنيه ظاهرهما وباطنهما بماء جديد بأن يدخل مسبحتيه في صماخي أذنيه ويدير إبهاميه على

ظاهر أذنيه ثم يضع الكف على الأذنين استظهاراً، ويكرره ثلاثاً ويقول "اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه اللهم اسمعني منادي الجنة مع الأبرار" ثم يمسح رقبته بماء جديد لقوله ﷺ "مسح الرقبة أمان من الغل يوم القيامة" ويقول "اللهم فك رقبتي من النار وأعوذ بك من السلاسل والأغلال" ثم يغسل رجله اليمنى ثلاثاً ويخلل باليد اليسرى من أسفل أصابع الرجل اليمنى ويبدأ بالخنصر من الرجل اليمنى ويختم بالخنصر من الرجل اليسرى ويقول "اللهم ثبت قدمي على الصراط المستقيم يوم تزل الأقدام في النار" ويقول عند غسل اليسرى "أعوذ بك أن تزل قدمي عن الصراط يوم تزل فيه أقدام المنافقين" ويرفع الماء إلى أنصاف الساقين. فإذا فرغ رفع رأسه إلى السماء وقال "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي أستغفرك اللهم وأتوب إليك فاغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين واجعلني من عبادك الصالحين واجعلني عبداً صبوراً شكوراً واجعلني أذكرك كثيراً وأسبحك بكرة وأصيلاً" يقال: إن من قال هذا بعد الوضوء ختم على وضوئه بخاتم ورفع له تحت العرش فلم يزل يسبح الله تعالى ويقدسه ويكتب له ثواب ذلك إلى يوم القيامة. ويكره في الوضوء أمور: منها أن يزيد على الثلاث فمن زاد فقد ظلم، وأن يسرف في الماء "توضأ عليه السلام ثلاثاً وقال من زاد فقد ظلم وأساء" وقال "سيكون قوم من هذه الأمة يعتدون في الدعاء والطهور" ويقال: من وهن علم الرجل ولوعه بالماء في الطهور وقال إبراهيم بن أدهم: يقال إن أول ما يبتدىء الوسواس من قبل الطهور، وقال الحسن: إن شيطاناً يضحك بالناس في الوضوء يقال له الولهان. ويكره أن ينفض اليد فيرش الماء وأن يتكلم في أثناء الوضوء وأن يلطم وجهه بالماء لطماً. وكره قوم التنشيف وقالوا: الوضوء يوزن، قاله سعيد بن المسيب والزهري، لكن روى معاذ رضي الله عنه "أنه عليه السلام مسح وجهه بطرف ثوبه" وروت عائشة رضي الله عنها "أنه ﷺ كانت له منشفة" ولكن طعن في هذه الرواية عن عائشة. ويكره أن يتوضأ من إناء صفر وأن يتوضأ بالماء المشمس وذلك من جهة الطب. وقد روي عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما كراهية إناء الصفر: وقال بعضهم: أخرجت لشعبة ماء في إناء صفر فأبى أن يتوضأ منه. ونقل كراهية ذلك عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما. ومهما فرغ من وضوئه وأقبل على الصلاة فينبغي أن يخطر بباله أنه طهر ظاهره وهو موضع نظر الخلق أن يستحي من مناجاة الله تعالى من غير تطهير قلبه وهو موضع نظر الرب سبحانه. وليحقق طهارة القلب بالتوبة. والخلو عن الأخلاق المذمومة والتخلق بالأخلاق الحميدة أولى. وأن من يقتصر على طهارة الظاهر كمن يدعو ملكاً إلى بيته فتركه مشحوناً بالقاذورات واشتغل بتحصيص ظاهر الباب البراني من الدار. وما أجدر مثل هذا الرجل بالتعرض للمقت والبوار! والله سبحانه وتعالى أعلم.

فضيلة الوضوء

قال رسول الله ﷺ "من توضأ فأحسن الوضوء وصلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وفي لفظ آخر "ولم يسه فيهما غفر له ما تقدم من ذنبه" وقال ﷺ أيضاً "ألا أنبئكم بما يكفر الله به الخطايا ويرفع به الدرجات? إسباغ الوضوء على المكاره ونقل الأقدام إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلك الرباط - ثلاث مرات - " "وتوضأ ﷺ مرة مرة وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، وتوضأ مرتين مرتين وقال: من توضأ مرتين مرتين أتاه الله أجره مرتين، وتوضأ ثلاثاً ثلاثاً وقال: هذا وضوئي ووضوء الأنبياء من قبلي ووضوء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام" وقال ﷺ "من ذكر الله عند وضوئه طهر الله جسده كله ومن لم يذكر الله لم يطهر منه إلا ما أصاب الماء" وقال ﷺ "من توضأ على طهر كتب الله له به عشر حسنات" وقال ﷺ "الوضوء على الوضوء نور على نور" وهذا كله حث على تجديد الوضوء وقال عليه السلام "إذا توضأ العبد المسلم فتمضمض خرجت الخطايا من فيه فإذا استنثر خرجت الخطايا من أنفه فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من تحت أشفار عينيه فإذا غسل يديه خرجت الخطايا من يديه حتى تخرج من تحت أظفاره فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه وإذا غسل رجليه خرجت الخطايا من رجليه حتى تخرج من تحت أظفار رجليه ثم كان مشيه إلى المسجد وصلاته نافلة له" ويروى "إن الطاهر كالصائم" قال عليه الصلاة والسلام "من توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع طرفه إلى السماء فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء" وقال عمر رضي الله عنه: إن الوضوء الصالح يطرح عنك الشيطان. وقال مجاهد: من استطاع أن لا يبيت إلا طاهراً ذاكراً مستغفراً فليفعل فإن الأرواح تبعث على ما قبضت عليه.

كيفية الغسل

وهو أن يضع الإناء عن يمينه ثم يسمي الله تعالى ويغسل يديه ثلاثاً، ثم يستنجي كما وصفت لك ويزيل ما على بدنه من نجاسة إن كانت، ثم يتوضأ وضوءه للصلاة كما وصفنا إلا غسل القدمين فإنه يؤخرهما فإن غسلهما ثم وضعهما على الأرض كان إضاعة للماء، ثم يصب الماء على رأسه ثلاثاً، ثم على شقه الأيمن ثلاثاً، ثم على شقه الأيسر ثلاثاً، ثم يدلك ما أقبل من بدنه ويخلل شعر الرأس واللحية ويوصل الماء إلى منابت ما كثف منه أو خف، وليس على المرأة نقض للضفائر إلا إذا علمت أن الماء لا يصل إلى خلال الشعر، ويتعهد معاطف البدن وليتق أن يمس ذكره في أثناء ذلك فإن فعل ذلك فليعد الوضوء، وإن توضأ قبل الغسل فلا يعيده بعد الغسل. فهذه سنن الوضوء والغسل ذكرنا منها ما لا بد لسالك طريق الآخرة من علمه وعمله، وما عداه من المسائل التي يحتاج إليها في عوارض الأحوال فليرجع فيها إلى كتب الفقه. والواجب من جملة ما ذكرناه في الغسل أمران. النية واستيعاب البدن بالغسل. وفروض الوضوء. النية وغسل الوجه وغسل اليدين إلى المرفقين ومسح ما ينطلق عليه الاسم من الرأس وغسل الرجلين إلى الكعبين والترتيب. وأما الموالاة فليست بواجبة. والغسل الواجب بأربعة: بخروج المني والتقاء الختانين والحيض والنفاس، وما عداه من الأغسال سنة كغسل العيدين والجمعة والأعياد والإحرام والوقوف بعرفة ومزدلفة ولدخول مكة وثلاثة أغسال أيام التشريق ولطواف الوداع - على قول - والكافر إذا أسلم غير جنب والمجنون إذا أفاق لومن غسل ميتاً، فكل ذلك مستحب

كيفية التيمم

من تعذر عليه استعمال الماء - لفقده بعد الطلب أو بمانع له عن الوصول إليه من سبع أو حابس أو كان الماء الحاضر يحتاج إليه لعطشه أو لعطش رفيقه أو كان ملكاً لغيره ولم يبعه إلا بأكثر من ثم المثل أو كان به جراحة أو مرض وخاف من استعماله فساد العضو أو شدة الضنا - فينبغي أن يصبر حتى يدخل عليه وفت الفريضة، ثم يقصد صعيداً طيباً عليه تراب طاهر خالص لين بحيث يثور منه غبار، ويضرب عليه كفيه ضاماً بين أصابعه ويمسح بهما جميع وجهه مرة واحدة، وينوي عند ذلك استباحة الصلاة، ولا يكلف إيصال الغبار إلى ما تحت الشعور خفت أو كثفت، ويجتهد أن يستوعب بشرة وجهه بالغبار - ويحصل ذلك بالضربة الواحدة فإن عرض الوجه لا يزيد على عرض الكفين - ويكفي في الاستيعاب غالب الظن، ثم ينزع خاتمة ويضرب ضربة ثانية يفرج فيها بين أصابعه ثم يلصق ظهور يده اليمنى ببطون أصابع يده اليسرى - بحيث لا يجاوز أطراف الأنامل من إحدى الجهتين عرض المسبحة من الأخرى - ثم يمر يده اليسرى من حيث وضعها على ظاهر ساعده الأيمن إلى المرفق، ثم يقلب بطن كفه اليسرى على باطن ساعده الأيمن ويمرها إلى الكوع، ويمر بطن إبهامه اليسرى على ظاهر إبهامه اليمنى، ثم يفعل باليسرى كذلك. ثم يمسح كفيه ويخلل بين أصابعه، وغرض هذا التكليف تحصيل الاستيعاب إلى المرفقين بضربة واحدة فإن عسر عليه ذلك فلا بأس بأن يستوعب بضربتين وزيادة. وإذا صلى به الفرض فله أن ينتقل كيف شاء، فإن جمع بين فريضتين فينبغي أن يعيد التيمم للثانية. وهكذا يفرد كل فريضة بتيمم والله أعلم.

==============

3.

القسم الثالث من النظافة

التنظيف عن الفضلات الظاهرة

وهي نوعان أوساخ وأجزاء

النوع الأول

الأوساخ والرطوبات المترشحة

وهي ثمانية

الأول: ما يجتمع في شعر الرأس من الدرن والقمل فالتنظيف عنه مستحب بالغسل والترجيل والتدهين إزالة للشعث عنه "وكان ﷺ يدهن الشعر ويرجله غباً ويأمر به" ويقول عليه الصلاة والسلام: ادهنوا غباً وقال عليه الصلاة والسلام من كان له شعرة فليكرمها أي ليصنها عن الأوساخ" ودخل عليه رجل ثائر الرأس أشعث اللحية فقال: أما كان لهذا دهن يسكن به شعره ثم قال: يدخل أحدكم كأنه شيطان" الثاني ما يجتمع من الوسخ في معاطف الأذن، والمسح يزيل ما يظهر منه وما يجتمع في قعر الصماخ فينبغي أن ينظف برفق عند الخروج من الحمام فإن كثرة ذلك ربما تضر بالسمع. الثالث ما يجتمع في داخل الأنف من الرطوبات المنعقدة الملتصقة بجوانبه ويزيلها بالاستنشاق والاستنثار. الرابع ما يجتمع على الأسنان وطرف اللسان من القلح فيزيله السواك والمضمضة وقد ذكرناهما. الخامس ما يجتمع في اللحية من الوسخ والقمل إذا لم يتعهد ويستحب إزالة ذلك بالغسل والتسريح بالمشط. وفي الخبر المشهور أنه ﷺ "كان لا يفارقه المشط والمدرى والمرآة في سفر ولا حضر" وهي سنة العرب وفي خبر غريب "أنه ﷺ كان يسرح لحيته في اليوم مرتين"وكان ﷺ كث اللحية، وكذلك كان أبو بكر، وكان عثمان طويل اللحية رقيقها وكان على عريض اللحية قد ملأت ما بين منكبيه. وفي حديث أغرب منه قالت عائشة رضي الله عنها "اجتمع قوم بباب رسول الله ﷺ فخرج إليهم فرأيته يطلع في الحب يستوي من رأسه ولحيته فقلت أو تفعل ذلك يا رسول الله? فقال: نعم إن الله يحب من عبده أن يتجمل لإخوانه إذا خرج إليهم" والجاهل ربما يظن أن ذلك من حب التزين للناس قياساً على أخلاق غيره وتشبيهاً للملائكة بالحدادين وهيهات! فقد كان رسول الله ﷺ مأموراً بالدعوة وكان من وظائفه أن يسعى في تعظيم أمر نفسه في قلوبهم كيلا تزدريه نفوسهم ويحسن صورته في أعينهم كيلا تستصغره أعينهم فينفرهم ذلك ويتعلق المنافقون بذلك في تنفيرهم. وهذا القصد واجب على كل عالم تصدي لدعوة الخلق إلى الله عز وجل، وهو أن يراعي من ظاهره ما لا يوجب نفرة الناس عنه. والاعتماد في مثل هذه الأمور على النية فإنها أعمال في أنفسها تكتسب الأوصاف من المقصود، فالتزين على هذا القصد محبوب وترك الشعث في اللحية إظهاراً للزهد وقلة المبالاة بالنفس محذور وتركه شغلاً بما هو أهم منه محبوب. وهذه أحوال باطنة بين العبد وبين الله عز وجل. والناقد بصير والتلبيس غير رائج عليه بحال، وكم من جاهل يتعاطى هذه الأمور التفاتاً إلى الخلق وهو يلبس على نفسه وعلى غيره ويزعم أن قصده الخير، فترى جماعة من العلماء يلبسون الثياب الفاخرة ويزعمون أن قصدهم إرغام المبتدعة والمجادلين والتقرب إلى الله تعالى به. وهذا أمر ينكشف يوم تبلى السرائر، ويوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور؛ فعند ذلك تتميز السبيكة الخالصة من البهرجة فنعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر السادس وسخ لأنها كانت لا يحضرها المقراض في كل وقت فتجتمع فيها أوساخ؛ فوقت لهم رسول الله ﷺ قلم الأظفار ونتف الإبط وحلق العانة أربعين يوماً لكنه أمر رسول الله ﷺ بتنظيف ما تحت الأظفار وجاء في الأثر "أن النبي ﷺ استبطأ الوحي فلما هبط عليه جبريل عليه السلام قال له: كيف ننزل عليكم وأنتم لا تغسلون براجمكم ولا تنظفون رواجبكم وقلحاً لا تستاكون. مر أمتك بذلك" والاف وسخ الظفر، والتف وسخ الأذن وقوله عز وجل "فلا تقل لهما أف" تعبهما أي بما تحت الظفر من الوسخ، وقيل لا تتأذ بهما كما تتأذى بما تحت الظفر الثامن الدرن الذي يجتمع على جميع البدن برشح العرق وغبار الطريق، وذلك يزيله الحمام ولا بأس بدخول الحمام، دخل أصحاب رسول الله ﷺ حمامات اشام وقال بعضهم: نعم البيت بيت الحمام يطهر البدن ويذكر النار: روي ذلك عن أبي الدرداء وأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنهما. وقال بعضهم. بئس البيت بيت الحمام يبدي العورة ويذهب الحياء. فهذا تعرض لآفته وذاك تعرض لفائدته ولابأس بطلب فائدته عند الاحتراز من آفته. ولكن على داخل الحمام وظائف من السنن والواجبات، فعليه واجبان في عورته وواجبان في عورة غيره. أما الواجبان في عورته فهو أن يصونها عن نظر الغير ويصونها عن مس الغير فلا يتعاطى أمرها وإزالة وسخها إلا بيده، ويمنع الدلاك من مس الفخذ وما بين السرة إلى العانة، وفي إباحة مس ما ليس بسوءة لإزالة الوسخ احتمال، ولكن الأقيس التحريم إذ ألحق من السوأتين في التحريم بالنظر فكذلك ينبغي أن تكون بقية العورة أعني الفخذين. والواجبان في عورة الغير أن يغض بصر نفسه عنها وأن ينهى عن كشفها لأن النهي عن المنكر واجب، وعليه ذكر ذلك وليس عليه القبول ولا يسقط عنه وجوب الذكر إلا لخوف ضرب أو شتم أو ما يجري عليه مما هو حرام في نفسه، فليس عليه أن ينكر حراماً يرهق المنكر عليه إلى مباشرة حرام آخر. فأما قوله أعلم أن ذلك لا يفيد ولا يعمل به فهذا لا يكون عذراً بل لابد من الذكر، فلا يخلو قلب عن التأثر من سماع الإنكار واستشعار الاحتراز عند التعبير بالمعاصي وذلك يؤثر في تقبيح الأمر في عينه وتنفير نفسه فلا يجوز تركه، ولمثل هذا صار الحزم ترك دخول الحمام في هذه الأوقات إذ لا تخلو عن عورات مكشوفة لاسيما ما تحت السرة إلى ما فوق العانة؛ إذ الناس لا يعدونها عورة وقد ألحقها الشرع بالعورة وجعلها كالحريم لها ولهذا يستحب تخلية الحمام. وقال بشر بن الحرث: ما أعنف رجلاً لا يملك إلا درهماً دفعه ليخلي له الحمام. ورؤي ابن عمر رضي الله عنهما في الحمام ووجهه إلى الحائط وقد عصب عينيه بعصابة وقال بعضهم: لابأس بدخول الحمام ولكن بإزارين: إزار للعورة وإزار للرأس يتقنع به ويحفظ عينيه، وأما السنن فعشرة، فالأول: النية وهو أن لا يدخل لعاجل دنيا ولا عابثاً لأجل هوى بل يقصد به التنظف المحبوب تزيناً للصلاة، ثم يعطي الحمامي الأجرة قبل الدخول فإن ما يستوفيه مجهول وكذا ما ينتظره الحمامي، فتسليم الأجرة قبل الدخول دفع للجهالة من أحد العوضين وتطييب لنفسه، ثم يقدم رجله اليسرى عند الدخول ويقول بسم الله الرحمن الرحيم أعوذ بالله من الرجس النجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم" ثم يدخل وقت الخلوة أو يتكلف تخلية الحمام فإنه إن لم يكن في الحمام إلا أهل الدين والمحتاطين للعورات فالنظر إلى الأبدان مكشوفة فيه شائبة من قلة الحياء وهو مذكر للنظر في العورات، ثم لا يخلو الإنسان في الحركات عن انكشاف العورات بانعطاف في أطراف الإزار فيقع البصر على العورة من حيث لا يدري، ولأجله عصب ابن عمر رضي الله عنهما عينيه، ويغسل الجناحين عند الدخول ولا يعجل بدخول البيت الحار حتى يعرق في الأول، وأن لا يكثر صب الماء بل يقتصر على قدر الحاجة فإنه المأذون فيه بقرينة الحال والزيادة عليه لو علمه الحمامي لكرهه، لاسيما الماء الحار فله مئونة وفيه تعب وأن يتذكر حر النار بحرارة الحمام ويقدر نفسه محبوساً في البيت الحار ساعة ويقيسه إلى جهنم، فإنه أشبه بيت بجهنم: النار من تحت والظلام من فوق نعوذ بالله من ذلك، بل العاقل لا يغفل عن ذكر الآخرة في لحظة فإنها مصيره ومستقره فيكون له في كل ما يراه من ماء أو نار أو غيرهما عبرة وموعظة، فإن المرء ينظر بحسب همته. فإذا دخل بزاز ونجار وبناء وحائك داراً معمورة مفروشة فإذا تفقدتهم رأيت البزاز ينظر إلى الفرش يتأمل قيمتها والحائك ينظر إلى الثياب يتأمل نسجها والنجار ينظر إلى السقف يتأمل كيفية تركيبها والبناء ينظر إلى الحيطان يتأمل كيفية إحكامها واستقامتها. فكذلك سالك طرق الآخرة لا يرى من الأشياء شيئاً إلا ويكون له موعظة وذكرى للآخرة، بل لا ينظر إلى شيء إلا ويفتح الله عز وجل له طريق عبرة فإن نظر إلى سواد تذكر ظلمة اللحد وإن نظر إلى حية تذكر أفاعي جهنم وإن نظر إلى صورة قبيحة شنيعة تذكر منكراً ونكيراً والزبانية، وإن سمع صوتاً هائلاً تذكر نفخة الصور وإن رأى شيئاً حسناً تذكر نعيم الجنة وإن سمع كلمة رد أو قبول في سوق أو دار تذكر ما ينكشف من آخر أمره بعد الحساب من الرد والقبول وما أجدر أن يكون هذا هو الغالب على قلب العاقل إذ لا يصرفه عنه إلا مهمات الدنيا! فإذا نسب مدة المقام في الدنيا إلى مدة المقام في الآخرة استحقرها إن لم يكن ممن أغفل قلبه وأعميت بصيرته. ومن السنن: أن لا يسم عند الدخول وإن سلم عليه لم يجب بلفظ السلام بل يسكت إن أجاب غيره وإن أحب قال "عافاك الله" ولا بأس بأن يصافح الداخل ويقول "عافاك الله" لابتداء الكلام. ثم لا يكثر الكلام في الحمام ولا يقرأ القرآن إلا سراً ولا بأس بإظهار الاستعاذة من الشيطان ويكره دخول الحمام بين العشاءين وقريباً من الغروب فإن ذلك وقت انتشار الشياطين، ولابأس أن يدلكه غيره فقد نقل ذلك عن يوسف بن أسباط أوصى بأن يغسله إنسان لم يكن من أصحابه وقال: إنه دلكني في الحمام مرة فأردت أن أكافئه بما يفرح به وإنه ليفرح بذلك. ويدل على جوازه ما روى بعض الصحابة "أن رسول الله ﷺ نزل منزلاً في بعض أسفاره فنام على بطنه وعبد أسود يغمز ظهره فقلت: ما هذا يا رسول الله? فقال: إن الناقة تقحمت بي" ثم مهما فرغ من الحمام شكر الله عز وجل على هذه النعمة. فقد قيل الماء الحار في الشتاء من النعيم الذي يسأل عنه. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: الحمام من النعيم الذي أحدثوه. هذا من جهة الشرع. أما من جهة الطب فقد قيل: الحمام بعد النورة أمان من الجذام. وقيل؛ النورة في كل شهر مرة تطفىء المرة الصفراء وتنقي اللون وتزيد في الجماع. وقيل: بولة في الحمام قائماً في الشتاء أنفع من شربة دواء. وقيل: نومة في الصيف بعد الحمام تعدل شربة دواء. وغسل القدمين بماء بارد بعد الخروج من الحمام أمان من النقرس ويكره صب الماء البارد على الرأس عند الخروج وكذا شربه، هذا حكم الرجال: وأما النساء فقد قال ﷺ "لايحل للرجل أن يدخل حليلته الحمام" وفي البيت مستحم، والمشهور أنه حرام على الرجال دخول الحمام إلا بمئزر" وحرام على المرأة دخول الحمام إلا نفساء أو مريضة. ودخلت عائشة رضي الله عنها حماماً من سقم بها. فإن دخلت لضرورة فلا تدخل إلا بمئزر سابغ، ويكره للرجل أن يعطيها أجرة الحمام فيكون معيناً لها على المكروه.

النوع الثاني

فيما يحدث في البدن من الأجزاء

وهي ثمانية

الأول شعر الرأس ولابأس بحلقه لمن أراد التنظيف ولابأس بتركه لمن يدهنه ويرجله إلا إذا تركه قزعاً، أي قطعاً وهو دأب أهل الشطارة، أو أرسل الذوائب على هيئة أهل الشرف حيث صار ذلك شعاراً لهم فإنه إذا لم يكن شريفاً كان ذلك تلبيساً الثاني شعر الشارب وقد قال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "قصوا الشارب" وفي لفظ آخر "جزوا الشوارب" وفي لفظ آخر "حفوا الشوارب وأعفوا اللحى" أي اجعلوها حفاف الشفة أي حولها، وحفاف الشيء: حوله. ومنه "وترى الملائكة حافين من حول العرش" وفي لفظ آخر "احفوا" يدل على ما دون ذلك. وقال الله عز وجل "إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا" أي يستقصى عليكم، وأما الحلق فلم يرد. والإحفاء القريب من الحلق نقل عن الصحابة: نظر بعض التابعين إلى رجل أحفى شاربه فقال: ذكرتني أصحاب رسول الله ﷺ. وقال المغيرة بن شعبة "نظر إلي رسول الله ﷺ وقد طال شاربي فقال: تعال فقصه لي على سواك" ولابأس بترك سباليه وهما طرفا الشارب، فعل ذلك عمر وغيره لأن ذلك لا يستر الفم ولا يبقى فيه غمر الطعام إذ لا يصل إليه: وقوله ﷺ "اعفوا اللحى" أي كثروها وفي الخبر "إن اليهود يعفون شواربهم ويقصون لحاهم فخالفوهم" وكره بعض العلماء الحلق ورآه بدعة الثالث شعر الإبط ويستحب نتفه في كل أربعين يوماً مرة وذلك سهل على من تعود نتفه في الابتداء، فأما من تعود الحلق فيكفيه الحلق إذ في النتف تعذيب وإيلام، والمقصود النظافة وأن لا يجتمع الوسخ في خللها ويحصل ذلك بالحلق الرابع شعر العانة ويستحب إزالة ذلك إما بالحلق أو بالنورة ولا ينبغي أن تتأخر عن أربعين يوماً الخامس الأظفار وتقليمها مستحب لشناعة صورتها إذا طالت ولما يجتمع فيها من الوسخ قال رسول الله ﷺ "يا أبا هريرة أقلم أظفارك فإن الشيطان يقعد على ما طال منها" ولو كان تحت الظفر وسخ فلا يمنع ذلك صحة الوضوء لأنه لا يمنع وصول الماء ولأنه يتساهل فيه للحاجة لاسيما في أظفار الرجل وفي الأوساخ التي تجتمع على البراجم وظهور الأرجل والأيدي من العرب وأهل السواد، وكان رسول الله ﷺ يأمرهم بالقلم وينكر عليهم ما يرى تحت أظفارهم من الأوساخ ولم يأمرهم بإعادة الصلاة، ولو أمر به لكان فيه فائدة أخرى وهو التغليظ والزجر عن ذلك. ولم أر في الكتب خبراً مروياً في ترتيب قلم الأظفار ولكن سمعت "أنه ﷺ بدأ بمسبحته اليمنى وختم بإبهامه اليمنى وابتدأ في اليسرى بالخنصر إلى الإبهام" ولما تأملت في هذا خطر لي من المعنى ما يدل على أن الرواية فيه صحيحة إذ مثل هذا المعنى لا ينكشف ابتداء إلا بنور النبوة، وأما العالم ذو البصيرة فغايته أن يستنبطه من العقل بعد نقل الفعل إليه. فالذي لاح لي فيه والعلم عند الله سبحانه أنه لابد من قلب أظفار اليد والرجل، واليد أشرف من الرجل فيبدأ بها، ثم اليمنى أشرف من اليسرى فيبدأ بها، ثم على اليمنى خمسة أصابع والمسبحة أشرفها إذ هي المشيرة في كلمتي الشهادة من جملة الأصابع، ثم بعدها ينبغي أن يبتدىء بما على يمينها إذ الشرع يستحب إدارة الطهور وغيره على اليمين، وإن وضعت ظهر الكف على الأرض فالإبهام هو اليمين، وإن وضعت بطن الكف فالوسطى هي اليمنى، واليد إذا تركت بطبعها كان الكف مائلاً إلى جهة الأرض إذ جهة حركة اليمين إلى اليسار واستتمام الحركة إلى اليسار يجعل ظهر الكف عالياً فما يقتضيه الطبع أولى، ثم إذا وضعت الكف على الكف صارت الأصابع في حكم حلقة دائرة، فيقتضي ترتيب الدور الذهاب عن يمين المسبحة إلى أن يعود إلى المسبحة، فتقع البداءة بخنصر اليسرى والختم بإبهامها ويبقى إبهام اليمنى فيختم به التقليم. وإنما قدرت الكف موضوعة على الكف حتى تصير الأصابع كأشخاص في حلقة ليظهر ترتيبها. وتقدير ذلك أولى من تقدير وضع الكف على ظهر الكف أو وضع ظهر الكف على ظهر الكف فإن ذلك لا يقتضيه الطبع. وأما أصابع الرجل فالأولى عندي - إن لم يثبت فيها نقل - أن يبدأ بخنصر اليمنى ويختم بخنصر اليسرى كما في التخليل، فإن المعاني التي ذكرها في اليد لا تتجه ههنا إذ لا مسبحة في الرجل. وهذه الأصابع في حكم صف واحد ثابت على الأرض فيبدأ من جانب اليمنى فإن تقديرها حلقة بوضع الأخمص على الأخمص يأباه الطبع بخلاف اليدين. وهذه الدقائق في الترتيب تنكشف بنور النبوة في لحظة واحدة وإنما يطول التعب علينا. ثم لو سئلنا ابتداء عن الترتيب في ذلك ربما لم يخطر لنا. وإذا ذكرنا فعله ﷺ وترتيبه ربما تيسر نا مما عاينه ﷺ بشهادة الحكم وتنبيهه على المعنى استنباط المعنى، ولا تظنن أن أفعاله ﷺ في جميع حركاته كانت خارجة عن وزن وقانون وترتيب بل جميع الأمور الاختيارية التي ذكرناها يتردد فيها الفاعل بين قسمين أو أقسام كان لا يقدم على واحد معين بالاتفاق بل بمعنى يقتضي الإقدام والتقديم، فإن الاسترسال مهملاً - كما يتفق - سجية البهائم، وضبط الحركات بموازين المعاني سجية أولياء الله تعالى. وكلما كانت حركات الإنسان وخطراته إلى الضبط أقرب وعن الإهمال وتركه مدى أبعد: كانت مرتبته إلى رتبة الأنبياء والأولياء أكثر وكان قربه من الله عز وجل أظهر؛ إذ القريب من النبي ﷺ هو القريب من الله عز وجل والقريب من الله لابد أن يكون قريباً فالقريب من القريب قريب بالإضافة إلى غيره فنعوذ بالله أن يكون زمام حركاتنا وسكناتنا في يد الشيطان بواسطة الهوى. واعتبر في ضبط الحركات باكتحاله ﷺ "فإنه يكتحل في عينه اليمنى ثلاثاً وفي اليسرى اثنتين" فيبدأ باليمنى لشرفها. وتفاوته بين العينين لتكون الجملة وتراً، فإن للوتر فضلاً عن الزوج فإن الله سبحانه وتر يحب الوتر فلا ينبغي أن يخلو فعل العبد من مناسبة لوصف من أوصاف الله تعالى. ولذلك استحب الإيتار في الاستجمار. وإنما لم يقتصر على الثلاث وهو وتر لأن اليسرى لا يخصها إلا واحدة والغالب أن الواحدة لا تستوعب أصول الأجفان بالكحل، وإنما خصص اليمين بالثلاث لأن التفضيل لابد منه للإيتار واليمين أفضل فهي بالزيادة أحق. فإن قلت: فلم اقتصر على اثنين لليسرى وهي زوج? فالجواب أن ذلك ضرورة إذ لو جعل لكل واحدة وتر لكان المجموع زوجاً إذ الوتر مع الوتر زوج، ورعايته الإيتار في مجموع الفعل وهو في حكم الخصلة الواحدة أحب من رعايته في الآحاد. ولذلك أيضاً وجه وهو أن يكتحل في كل واحدة ثلاثاً على قياس الوضوء وقد نقل ذلك في الصحيح وهو الأولى. ولو ذهبت أستقصي دقائق ما راعاه ﷺ في حركاته لطال الأمر فقس بما سمعته ما لم تسمعه. واعلم أن العالم لا يكون وارثاً للنبي ﷺ إلا إذا اطلع على جميع معاني الشريعة حتى لا يكون بينه وبين النبي ﷺ إلا درجة واحدة وهي درجة النبوة، وهي الدرجة الفارقة بين الوارث والموروث، إذ الموروث هو الذي حصل المال له واشتغل بتحصيله واقتدر عليه والوارث هو الذي لم يحصل ولم يقدر عليه ولكن انتقل إليه وتلقاه منه بعد حصوله له، فأمثال هذه المعاني مع سهولة أمرها بالإضافة إلى الأغوار والأسرار لا يستقل بدركها ابتداء إلا الأنبياء ولا يستقل باستنباطها تلقياً بعد تنبيه الأنبياء عليها إلا العلماء الذين هم ورثة الأنبياء عليهم السلام السادس والسابع زيادة السرة وقلفة الحشفة؛ أما السرة فتقطع في أول الولادة وأما التطهير بالختان فعادة اليهود في اليوم السابع من الولادة ومخالفتهم بالتأخير إلى أن يثغر الولد أحب وأبعد عن الخطر قال ﷺ "الختان سنة للرجال ومكرمة للنساء" وينبغي أن لا يبالغ في خفض المرأة قال ﷺ لأم عطية وكانت تخفض "يا أم عطية أشمي ولا تنهكي فإنه أسرى للوجه وأحظى عند الزوج" أي أكثر لماء الوجه ودمه وأحسن في جماعها فانظر إلى جزالة لفظه ﷺ في الكتابة وإلى إشراق نور النبوة من مصالح الآخرة التي هي أهم مقاصد النبوة إلى مصالح الدنيا حتى انكشف له وهو أمي من هذا الأمر النازل قدره ما لو وقعت الغفلة عنه خيف ضرره فسبحان من أرسله رحمة للعالمين ليجمع لهم بيمن بعثته مصالح الدنيا والدين ﷺ الثامنة ما طال من اللحية وإنما أخرناها لنلحق بها ما في اللحية من السنن والبدع إذ هذا أقرب موضع يليق به ذكرها وقد اختلفوا فيما طال منها فقيل إن قبض الرجل على لحيته وأخذ ما فضل عن القبضة فلا بأس فقد فعله ابن عمر وجماعة من التابعين واستحسنه الشعبي وابن سيرين وكرهه الحسن وقتادة وقالا تركها عافية أحب لقوله ﷺ "اعفوا اللحا" والأمر في هذا قريب إن لم ينته إلى تقصيص اللحية وتدويرها من الجوانب فإن الطول المفرط قد يشوه الخلقة ويطلق ألسنة المغتابين بالنبذ إليه فلابأس بالاحتراز عنه على هذه النية. وقال النخعي عجبت لرجل عاقل طويل اللحية كيف لا يأخذ من لحيته ويجعها بين لحيتين فإن التوسط في كل شيء حسن، ولذلك قيل كلما طالت اللحية تشمر العقل.

فصل

وفي اللحية عشر خصال مكروهة وبعضها أشد كراهة من بعض؛ خضابها بالسواد وتبيضها بالكبريت ونتفها ونتف الشيب منها والنقصان منها والزياد وتسريحها تصنعاً لأجل الرياء وتركها شعثة إظهاراً للزهد والنظر إلى سوادها عجباً بالشباب وإلى بياضها تكبراً بعلو السن وخضابها بالحمرة والصفرة من غير نية تشبهاً بالصالحين. أما الأول وهو الخضاب بالسواد فهو منهي عنه لقوله ﷺ "خير شبابكم من تشبه بشيوخكم وشر شيوخكم من تشبه بشبابكم" والمراد بالتشبه بالشيوخ في الوقار لا في تبييض الشعر و "نهى عن الخضاب بالسواد وقال هو خضاب أهل النار" وفي لفظ آخر "الخضاب بالسواد خضاب الكفار" وتزوج رجل على عهد عمر رضي الله عنه وكان يخضب بالسواد فنصل خضابه وظهرت شيبته فرفعه أهل المرأة إلى عمر رضي الله عنه فرد نكاحه وأوجعه ضرباً وقال: غررت القوم بالشباب ولبست عليهم شيبتك ويقال أول من خضب بالسواد فرعون لعنه الله وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال "يكون في آخر الزمان قوم يخضبون بالسواد كحواصل الحمام لا يريحو رائحة الجنة" الثاني: الخضاب بالصفرة والحمرة وهو جائز تلبيساً للشيب على الكفار وفي الغزو والجهاد فإن لم يكن على هذه النية بل للتشبه بأهل الدين فهو مذموم وقد قال رسول الله ﷺ "الصفرة خضاب المسلمين والحمرة خضاب المؤمنين" وكانوا يخضبون بالحناء للحمرة وبالخلوق والكتم للصفرة، وخضب بعض العلماء بالسواد لأجل الغزو وذلك لابأس به إذا صحت النية ولم يكن فيه هوى وشهوة. الثالث: تبييضها بالكبريت استعجالاً لإظهار علو السن توصلاً إلى التوقير وقبول الشهادة والتصديق بالرواية عن الشيوخ وترفعاً عن الشباب وإظهاراً لكثرة العلم ظناً بأن كثرة الأيام تعطيه فضلاً وهيهات فلا يزيد كبر السن الجاهل إلا جهلاً فالعلم ثمرة العقل وهي غريزة ولا يؤثر الشيب فيها ومن كانت غريزته الحمق فطول المدة يؤكد حماقته وقد كان الشيوخ يقدمون الشباب بالعلم. كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقدم ابن عباس وهو حديث السن على أكابر الصحابة ويسأله دونهم. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما آتى الله عز وجل عبداً علماً إلا شاباً والخير كله في الشباب ثم تلا قوله عز وجل "قالوا سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم" وقوله تعالى "إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى" وقوله تعالى "وآتيناه الحكم صبياً" وكان أنس رضي الله عنه يقول "قبض رسول الله ﷺ وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء فقيل له يا أبا حمزة فقد أسن فقال لم يشنه الله بالشيب فقيل أهو شين فقال كلكم يكرهه" ويقال إن يحيى بن أكثم ولي القضاء وهو ابن إحدى وعشرين سنة فقال له رجل في مجلسه يريد أن يخجله بصغر سنه كم سن القاضي أيده الله فقال مثل سن عتاب بن أسيد حين ولاه رسول الله ﷺ إمارة مكة وقضاءها فأفحمه وروي عن مالك رحمه الله أنه قال قرأت في بعض الكتب لا تغرنكم اللحى فإن التيس له لحية وقال أبو عمرو بن العلاء إذا رأيت الرجل طويل القامة صغير الهامة عريض اللحية فاقض عليه بالحمق ولو كان أمية ابن عبد شمس وقال أيوب السختياني أدركت الشيخ ابن ثمانين سنة يتبع الغلام يتعلم منه. وقال علي بن الحسين من سبق فيه العلم قبلك فهو إمامك فيه وإن كان أصغر سناً منك، وقيل لأبي عمرو بن العلاء أيحسن من الشيخ أن يتعلم من الصغير فقال إن كان الجهل يقبح به فالتعلم يحسن به وقال يحيى بن معين لأحمد بن حنبل وقد رآه يمشي خلف بغلة الشافعي يا أبا عبد الله تركت حديث سفيان بعلوه وتمشي خلف بغلة هذا الفتى وتسمع منه فقال له أحمد لو عرفت لكنت تمشي من الجانب الآخر إن علم سفيان إن فاتني بعلو أدركته بنزول وإن عقل هذا الشاب إن فاتني لم أدركه بعلو ولا نزول الرابع نتف بياضها استنكافاً من الشيب "وقد نهى عليه السلام عن نتف الشيب وقال هو نور المؤمن" وهو في معنى الخضاب بالسواد وعلة الكراهية ما سبق والشيب نور الله تعالى والرغبة عنه رغبة عن النور الخامس نتفها أو نتف بعضها بحكم العبث والهوس وذلك مكروه ومشوه للخلقة ونتف الفنيكين بدعة وهما جانبا العنفقة. شهد عند عمر بن عبد العزيز رجل كان ينتف فنيكيه فرد شهادته ورد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وابن أبي ليلى قاضي المدينة شهادة من كان ينتف لحيته وأما نتفها في أول النبات تشبهاً بالمرد فمن المنكرات الكبار فإن اللحية زينة الرجال فإن لله ملائكة يقسمون والذي زين بني آدم باللحى وهو من تمام الخلق وبها يتميز الرجال عن النساء وقيل في غريب التأويل اللحية هي المراد بقوله تعالى "يزيد في الخلق ما يشاء" قال أصحاب الأحنف بن قيس وددنا أن نشتري للأحنف لحية ولو بعشرين ألفاً وقال شريح القاضي وددت أن لي لحية لو بعشرة آلاف وكيف تكره اللحية وفيها تعظيم الرجل والنظر إليه بعين العلم والوقار والرفع في المجالس وإقبال الوجوه إليه والتقديم على الجماعة ووقاية العرض? فإن من يشتم يعرض باللحية إن كان للمشتوم لحية وقد قيل إن أهل الجنة مرد إلا هرون أخا موسى صلى الله عليهما وسلم فإن له لحية إلى سرته تخصيصاً له وتفضيلاً السادس تقصيصها كالتعبية طاقة على طاقة للتزين للنساء والتصنع قال كعب: يكون في آخر الزمان أقوام يقصون لحاهم كذنب الحمامة ويعرقبون نعالهم كالمناجل أولئك لا خلاق لهم السابع الزيادة فيها وهو أن يزيد في شعر العارضين من الصدغين وهو من شعر الرأس حتى يجاوز عظم اللحى وينتهي إلى نصف الخد وذلك يباين هيئة أهل الصلاح. الثامن تسريحها لأجل الناس قال بشر: في اللحية شركان: تسريحها لأجل الناس وتركها متفتلة لإظهار الزهد. التاسع والعاشر النظر في سوادها أو في بياضها بعين العجب وذلك مذموم في جميع أجزاء البدن بل في جميع الأخلاق والأفعال على ما سيأتي بيانه فهذا ما أردنا أن نذكره من أنواع التزين والنظافة وقد حصل من ثلاثة أحاديث من سنن الجسد اثنتا عشرة خصلة خمس منها في الرأس وهي فرق شعر الرأس والمضمضة والاستنشاق وقص الشارب والسواك وثلاثة في اليد والرجل وهي القلم وغسل البراجم وتنظيف الرواجب وأربعة في الجسد هي نتف الإبط والاستحداد والختان والاستنجاء بالماء فقد وردت الأخبار بمجموع ذلك وإذا كان غرض هذا الكتاب التعرض للطهارة الظاهرة دون الباطنة فلنقتصر على هذا وليتحقق أن فضلات الباطن وأوساخه التي يجب التنظيف منها أكثر من أن تحصى وسيأتي تفصيلها في ربع المهلكات مع تعريف الطرق في إزالتها وتطهير القلب منها إن شاء الله عز وجل.

تم كتاب أسرار الطهارة بحمد الله تعالى وعونه. ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصلاة والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى كل عبد مصطفى.

================

إحياء علوم الدين

كتاب أسرار الصلاة ومهماتها

المؤلف: أبو حامد الغزالي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي غمر العباد بلطائفه، وعمر قلوبهم بأنوار الدين ووظائفه التي تنزل عن عرش الجلال إلى السماء الدنيا من درجات الرحمة إحدى عواطفه فارق الملوك مع التفرد بالجلال والكبرياء بترغيب الخلق في السؤال والدعاء فقال: هل من داع فأستجيب له وهل من مستغفر فأغفر له? وباين السلاطين بفتح الباب، ورفع الحجاب فرخص للعباد في المناجاة بالصلوات كيفما تقلبت بهم الحالات في الجماعات والخلوات ولم يقتصر على الرخصة بل تلطف بالترغيب والدعوة وغيره من ضعفاء الملوك لا يسمح بالخلوة إلا بعد تقديم الهدية والرشوة فسبحانه ما أعظم شأنه وأقوى سلطانه، وأتم لطفه، وأعم إحسانه؛ والصلاة على محمد نبيه المصطفى ووليه المجتبى وعلى آله وأصحابه مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى وسلم تسليماً. أما بعد: فإن الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، ورأس القربات، وغرة الطاعات؛ وقد استقصينا في فن الفقه - في بسيط المذهب ووسيطه ووجيزه - أصولها وفروعها، صارفين جمام العناية إلى تفاريعها النادرة. ووقائعها الشاذة لتكون خزانة للمفتي منها يستمد ومعولاً له إليها يفزع ويرجع. ونحن الآن في هذا الكتاب نقتصر على ما لابد للمريد منه من أعمالها الظاهرة وأسرارها اباطنة، وكاشفون من دقائق معانيها الخفية في معاني الخشوع والإخلاص والنية ما لم تجر العادة بذكره في فن الفقه؛ ومرتبون الكتاب على سبعة أبواب. الباب الأول: في فضائل الصلاة. الباب الثاني: في تفضيل الأعمال الظاهرة من الصلاة. الباب الثالث: في تفضيل الأعمال الباطنة منها. الباب الرابع: في الإمامة والقدوة. الباب الخامس: في صلاة الجمعة وأدابها. الباب السادس: في مسائل متفرقة تعم بها البلوى يحتاج المريد إلى معرفتها. الباب السابع: في التطوعات وغيرها.

=========

الباب الأول

في فضائل صلاة السجود والجماعة والأذان

وغيرها

فضيلة الأذان

قال ﷺ "ثلاثة يوم القيامة على كثيب من مسك أسود لا يهولهم حساب ولا ينالهم فزع حتى يفرغ مما بين الناس: رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله عز وجل وأم بقوم وهم به راضون؛ ورجل أذن في مسجد ودعا إلى الله عز وجل ابتغاء وجه الله؛ ورجل ابتلي بالرزق في الدنيا فلم يشغله ذلك عن عمل الآخرة" وقال ﷺ "لا يسمع نداء المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة" وقال ﷺ "يد الرحمن على رأس المؤذن حتى يفرغ من أذانه" وقيل في تفسير قوله عز وجل "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً" نزلت في المؤذنين، وقال ﷺ "إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن" وذلك مستحب إلا في الحيعلتين فإنه يقول فيهما: لا حول ولا قوة إلا بالله؛ وفي قوله قد قامت الصلاة أقامها الله وأدامها ما دامت السموات والأرض وفي التثويب صدقت وبررت ونصحت؛ وعند الفراغ يقول اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد. وقال سعيد بن المسيب من صلى بأرض فلاة صلى عن يمينه ملك وعن شماله ملك فإن أذن وأقام صلى وراء أمثال الجبال من الملائكة.

فضيلة المكتوبة

قال الله تعالى "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً" وقال ﷺ "خمس صلوات كتبهن الله على العباد فمن جاء بهن ولم يضيع منهن شيئاً استخفافاً بحقهن كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة" وقال ﷺ "مثلي الصلوات الخمس كمثل نهر عذب غمر بباب أحدكم يقتحم فيه كل يوم خمس مرات فما ترون ذلك يبقي من درنه قالوا لا شيء قال ﷺ فإن الصلوات الخمس تذهب الذنوب كما يذهب الماء الدرن" وقال ﷺ "إن الصلوات كفارة لما بينهن ما اجتنبت الكبائر" وقال ﷺ "بيننا وبين المنافقين شهود العتمة والصبح لا يستطيعونهما" وقال ﷺ "من لقي الله وهو مضيع للصلاة لم يعبأ الله بشيء من حسناته" وقال ﷺ "الصلاة عماد الدين فمن تركها فقدم هدم الدين" وسئل ﷺ "أي الأعمال أفضل فقال الصلاة لمواقيتها" وقال ﷺ "من حافظ على الخمس بإكمال طهورها ومواقيتها كانت له نوراً وبرهاناً يوم القيامة ومن ضيعها حشر مع فرعون وهامان" وقال ﷺ "مفتاح الجنة الصلاة" وقال "ما افترض الله على خلقه بعد التوحيد أحب إليه من الصلاة ولو كان شيء أحب إليه منها لتعبد به ملائكته فمنهم راكع ومنهم ساجد ومنهم قائم وقاعد" وقال النبي ﷺ "من ترك صلاة متعمداً فقد كفر" أي قارب أن ينخلع عن الإيمان بانحلال عروته وسقوط عماده كما يقال لمن قارب البلدة إنه بلغها ودخلها. وقال ﷺ "من ترك صلاة معتمداً فقد برىء من ذمة محمد عليه السلام" وقال أبو هريرة رضي الله عنه: من توضأ فأحسن وضوءه ثم خرج عامداً إلى الصلاة فإنه في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة وأنه يكتب له بإحدى خطوتيه حسنة وتمحى عنه بالأخرى سيئة فإذا سمع أحدكم الإقامة فلا ينبغي له أن يتأخر فإن أعظمكم أجراً أبعدكم داراً، قالوا لم يا أبا هريرة? قال: من أجل كثرة الخطا. ويروى "إن أول ما ينظر فيه من عمل العبد يوم القيامة الصلاة فإن وجدت تامة قبلت منه وسائر عمله وإن وجدت ناقصة ردت عليه وسائر عمله وقال ﷺ "يا أبا هريرة مر أهلك بالصلاة فإن الله يأتيك بالرزق من حيث لا تحتسب" وقال بعض العلماء: مثل المصلي مثل التاجر الذي لا يحصل له الربح حتى يخلص له رأس المال، وكذلك المصلي لا تقبل له نافلة حتى يؤدي الفريضة. وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول: إذا حضرت الصلاة قوموا إلى ناركم التي أوقدتموها فأطفئوها.

فضيلة إتمام الأركان

قال ﷺ "مثل الصلاة المكتوبة كمثل الميزان من أوفى استوفى" وقال يزيد الرقاشي "كانت صلاة رسول الله ﷺ مستوية كأنها موزونة" وقال ﷺ "إن الرجلين من أمتي ليقومان إلى الصلاة وركوعهما وسجودهما واحد وإن ما بين صلاتيهما ما بين السماء والأرض" وأشار إلى الخشوع وقال ﷺ "لا ينظر الله يوم القيامة إلى العبد لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده" وقال ﷺ "أما يخاف الذي يحول وجهه في الصلاة أن يحول الله وجهه وجه حمار" وقال ﷺ "من صلى صلاة لوقتها وأسبغ وضوءها وأتم ركوعها وسجودها وخشوعها عرجت وهي بيضاء مسفرة تقول حفظك الله كما حفظتني ومن صلى لغي وقتها ولم يسبغ وضوءها ولم يتم ركوعها ولا سجودها ولا خشوعها عرجت وهي سوداء مظلمة تقول ضيعك الله كما ضيعتني حتى إذا كانت حيث شاء الله لفت كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه" وقال ﷺ "أسوأ الناس سرقة الذي يسرق من صلاته" وقال ابن مسعود رضي الله عنه وسلمان رضي الله عنه: الصلاة مكيال فمن أوفى استوفى، ومن طفف فقد علم ما قاله الله في المطففين.

فضيلة الجماعة

قال ﷺ "صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة" وروى أبو هريرة أنه ﷺ فقد ناساً في بعض الصلوات فقال "لقد هممت أن آمر رجلاً يصلي بالناس ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فأحرق عليهم بيوتهم" وفي رواية أخرى "ثم أخالف إلى رجال يتخلفون عنها فآمر بهم فتحرق عليهم بيوتهم بحزم الحطب ولو علم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو مرماتين لشهدها" يعني صلاة العشاء. وقال عثمان رضي الله عنه مرفوعاً "من شهد العشاء فكأنما قام نصف ليلة ومن شهد الصبح فكأنما قال ليلة" وقال ﷺ "من صلى صلاة في جماعة فقد ملأ نحره عبادة" وقال سعيد بن المسيب: ما أذن مؤذن منذ عشرين سنة إلا وأنا في المسجد. وقال محمد بن واسع: ما أشتهي من الدنيا إلا ثلاثة: أخاً إنه إن تعوجت قومني وقوتاً من الرزق عفواً من غير تبعة وصلاة في جماعة يرفع عني سهوها ويكتب لي فضلها. وروي أن أبا عبيدة بن الجراح أم قوماً مرة فلما انصرف قال: مازال الشيطان بي آنفاً حتى أريت أن لي فضلاً عن غيري لا أؤم أبداً. وقال الحسن: لا تصلوا خلف رجل لا يختلف إلى العلماء. وقال النخعي: مثل الذي يؤم الناس بغير علم مثل الذي يكيل الماء في البحر لا يدري زيادته من نقصانه? وقال حاتم الأصم: فاتتني الصلاة في الجماعة فعزاني أبو إسحق الباري وحده، ولو مات لي ولد لعزاني أكثر من عشر آلاف لأن مصيبة الدين أهون عند الناس من مصيبة الناس. وقال ابن عباس رضي الله عنهما من سمع المنادي فلم يجب لم يرد خيراً لم يرد به خير. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: لأن تملأ أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يسمع النداء ثم لا يجيب. وروي أن ميمون بن مهران أتى المسجد فقيل له: إن الناس قد انصرفوا فقال "إنا لله وإنا إليه راجعون" لفضل هذه الصلاة أحب إلي من ولاية العراق. وقال ﷺ "من صلى أربعين يوماً الصلوات في جماعة لا تفوته فيها تكبيرة الإحرام كتب الله له براءتين: براءة من النفاق وبراءة من النار" ويقال إنه إذا كان يوم القيامة يحشر قوم وجوههم كالكوكب الدري فتقول لهم الملائكة: ما كانت أعمالكم? فيقولون: كنا إذا سمعنا الأذان قمنا إلى الطهارة لا يشغلنا غيرها ثم تحشر طائفة وجوههم كالأقمار فيقولون بعد السؤال: كنا نتوضأ قبل الوقت ثم تحشر طائفة وجوههم كالشمس فيقولون: كنا نسمع الأذان في المسجد. وروي أن السلف كانوا يعزون أنفسهم ثلاثة أيام إذا فاتتهم التكبيرة الأولى ويعزون سبعاً إذا فاتتهم الجماعة.

فضيلة السجود

قال رسول الله ﷺ "ما تقرب العبد إلى الله بشيء أفضل من سجود خفي" وقال رسول الله ﷺ "ما من مسلم يسجد لله سجدة إلا رفعه الله بها درجة وحط عنه بها سيئة" وروي "أن رجلاً قال لرسول الله ﷺ: ادع الله أن يجعلني من أهل شفاعتك وأن يرزقني مرافقتك في الجنة فقال ﷺ أعني بكثرة السجود" وقيل "إن أقرب ما يكون العبد من الله تعالى أن يكون ساجداً" وهو معنى قوله عز وجل "واسجد واقترب" وقال عز وجل "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" فقيل هو ما يلتصق بوجوههم من الأرض عند السجود وقيل هو نور الخشوع فإنه يشرق من الباطن على الظاهر، وهو الأصح وقيل هي الغرر التي تكون في وجوههم يوم القيامة من أثر الوضوء وقال ﷺ "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول يا ويلاه أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت أنا بالسجود فعصيت فلي النار" ويروى عن علي بن عبد الله بن عباس أنه كان يسجد في كل يوم ألف سجدة وكانوا يسمونه السجاد. ويروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كان لا يسجد إلا على التراب. وكان يوسف بن أسباط يقول: يا معشر الشباب بادروا بالصحة قبل المرض فما بقي أحد أحسده إلا رجل يتم ركوعه وسجوده وقد حيل بيني وبين ذلك. وقال سعيد بن جبير: ما آسى على شيء من الدنيا إلا على السجود. وقال عقبة بن مسلم: ما من خصلة في العبد أحب إلى الله عز وجل من رجل يحب لقاء الله عز وجل وما من ساعة العبد فيها أقرب إلى الله عز وجل منه حيث يخر ساجداً. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أقرب ما يكون العبد إلى الله عز وجل إذا سجد فأكثروا الدعاء عند ذلك.

فضيلة الخشوع

قال الله تعالى "وأقم الصلاة لذكري" وقال تعالى "ولا تكن من الغافلين" وقال عز وجل "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" قيل سكارى من كثرة الهم وقيل من حب الدنيا. وقال وهب: المراد به ظاهره ففيه تنبيه على سكر الدنيا إذ بين فيه العلة فقال "حتى تعلموا ما تقولون" وكم من مصل لم يشرب خمراً وهو لا يعلم ما يقول في صلاته. وقال النبي ﷺ "من صلى ركعتين لم يحدث نفسه فيهما بشيء من الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه" وقال ﷺ "إنما الصلاح تمسكن وتواضع وتضرع وتأوه وتنادم وتضع يديك فتقول اللهم اللهم فمن لم يفعل فهي خداج" وروي عن الله سبحانه في الكتب السالفة أنه قال "ليس كل مصل أتقبل صلاته إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ولم يتكبر على عبادي وأطعم الفقير الجائع لوجهي" وقال ﷺ "إنما فرضت الصلاة وأمر بالحج والطواف وأشعرت المناسك لإقامة ذكر الله تعالى فإذا لم يكن في قلبك للمذكور الذي هو المقصود والمبتغى علظمة ولا هيبة فما قيمة ذكرك" وقال ﷺ للذي أوصاه "وإذا صليت فصل صلاة مودع" أي مودع لنفسه مودع لهواه مودع لعمره سائر إلى مولاه كما قال عز وجل "يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه" وقال تعالى "واتقوا الله ويعلمكم الله" وقال تعالى "واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه" وقال ﷺ "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً" والصلاة مناجاة فكيف تكون مع الغفلة? وقال بكر بن عبد الله: يا ابن آدم إذا شئت أن تدخل على مولاك بغير إذن فتكلمه بلا ترجمان دخلت، قيل: وكيف ذلك? قال: تسبغ وضوءك وتدخل محرابك فإذا أنت قد دخلت على مولاك بغير إذن فتكلمه بغير ترجمان. وعن عائشة رضي الله عنها قالت "كان رسول الله ﷺ يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة فكأنه لم يعرفنا ولم نعرفه" اشتغالاً بعظمة الله عز وجل وقال ﷺ "لا ينظر الله إلى صلاة لا يحضر الرجل فيها قلبه مع بدنه" وكان إبراهيم الخليل إذا قام إلى الصلاة يسمع وجيب قلبه على ميلين. وكان سعيد التنوخي إذا صلى لم تنقطع الدموع من خديه على لحيته "ورأى رسول الله ﷺ رجلاً يعبث بلحيته في الصلاة فقال لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه" ويروى أن الحسن نظر إلى رجل يعبث بالحصى ويقول "اللهم زوجني الحور العين" فقال؛ بئس الخاطب أنت تخطب الحور العين وأنت تعبث بالحصى. وقيل لخلف بن أيوب: ألا يؤذيك الذباب في صلاتك فتطردها قال: لا أعود نفسي شيئاً يفسد على صلاتي، قيل له: وكيف تصبر على ذلك? قال: بلغني أن الفساق يصبرون تحت أسواط السلطان ليقال فلان صبور ويفتخرون بذلك فأنا قائم بين يدي ربي أفأتحرك لذبابة? ويروى عن مسلم بن يسار أنه كان إذا أراد الصلاة قال لأهله: تحدثوا أنتم فإني لست أسمعكم. ويروى عنه أنه كان يصلي يوماً في جامع البصرة فسقطت ناحية من المسجد فاجتمع الناس لذلك فلم يشعر به حتى انصرف من الصلاة. وكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه إذا حضر وقت الصلاة يتزلزل ويتلون وجهه فقيل له: ما لك يا أمير المؤمنين? فيقول جاء وقت أمانة عرضها الله على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملتها. ويروى عن علي بن الحسين أنه كان إذا توضأ اصفر لونه فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء? فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم? ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال "قال داود ﷺ في مناجاته: إلهي من يسكن بيتك وممن تتقبل الصلاة? فأوحى الله إليه: يا داود إنما يسكن بيتي وأقبل الصلاة منه من تواضع لعظمتي وقطع نهاره بذكري وكف نفسه عن الشهوات، من أجلي يطعم الجائع ويؤوي الغريب ويرحم المصاب فذلك الذي يضيء نوره في السموات كالشمس، إن دعاني لبيته وإن سألني أعطيته، أجعل له في الجهل حلماً وفي الغفلة ذكراً وفي الظلمة نوراً، وإنما مثله في الناس كالفردوس في أعلى الجنان لا تيبس أنهارها ولا تتغير ثمارها" ويروى عن حاتم الأصم رضي الله عنه أنه سئل عن صلاته فقال: إذا حانت الصلاة أسبغت الوضوء وأتيت الموضع الذي أريد الصلاة فيه فأقعد فيه حتى تجتمع جوارحي، ثم أقوم إلى صلاتي وأجعل الكعبة بين حاجبي والصراط تحت قدمي والجنة عن يميني والنار عن شمالي وملك الموت ورائي أظنها آخر صلاتي "ثم أقوم بين الرجاء والخوف وأكبر تكبيراً بتحقيق وأقرأ قراءة بترتيل وأركع ركوعاً بتواضع وأسجد سجوداً بتخشع وأقعد على الورك الأيسر وأفرش ظهر قدمها وأنصب القدم اليمنى على الإبهام وأتبعها الإخلاص، ثم لا أدري أقبلت مني أم لا? وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة والقلب ساه.

فضيلة المسجد وموضع الصلاة

قال الله عز وجل "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر" وقال ﷺ "من بنى لله مسجداً ولو كمفحص قطاة بنى الله له قصراً في الجنة" وقال ﷺ "من ألف المسجد ألفه الله تعالى" وقال ﷺ "إذا دخل أحدكم المسجد فليركع ركعتين قبل أن يجلس" وقال ﷺ "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" وقال ﷺ "الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه الذي يصلي فيه تقول: اللهم صل عليه اللهم ارحمه اللهم اغفر له ما لم يحدث أو يخرج من المسجد" وقال ﷺ "يأتي في آخر الزمان ناس من أمتي يأتون المساجد فيقعدون فيها حلقاً حلقاً ذكرهم الدنيا وحب الدنيا لا تجالسوهم فليس لله بهم حاجة" وقال ﷺ "قال الله عز وجل في بعض الكتب إن بيوتي في أرضي المساجد وإن زواري فيها عمارها فطوبى لعبد تطهر في بيته ثم زارني في بيتي فحق على المزور أن يكرم زائره" وقال ﷺ "إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان" وقال سعيد بن المسيب من جلس في المسجد فإنما يجالس ربه فما حقه أن يقول إلا خيراً. ويرى في الأثر أو الخبر "الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهائم الحشيش" وقال النخعي: كانوا يرون أن المشي في الليلة المظلمة إلى المسجد موجب للجنة: وقال أنس بن مالك: من أسرج في المسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يستغفرون له مادام في ذلك المسجد ضوءه. وقال علي كرم الله وجهه: إذا مات العبد يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء، ثم قرأ "فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين" وقال ابن عباس: تبكي عليه الأرض أربعين صباحاً. وقال عطاء الخراساني: ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة يذكر الله تعالى عليها بصلاة أو ذكر إلا افتخرت على ما حولها من البقاع واستبشرت بذكر الله عز وجل إلى منتهاها من سبع أرضين وما من عبد يقوم يصلي إلا تزخرفت له الأرض. ويقال: ما من منزل ينزل فيه قوم إلا أصبح ذلك المنزل يصلي عليهم أو يلعنهم.

==========

الباب الثاني

في كيفية الأعمال الظاهرة

ومن الصلاة والبداءة بالتكبير وما قبله

ينبغي للمصلي إذا فرغ من الوضوء والطهارة من الخبث في البدن والمكان والثياب وستر العورة من السرة إلى الركبة أن ينتصب قائماً متوجهاً إلى القبلة ويزواج بين قدميه ولايضمهما فإن ذلك مما كان يستدل به على فقه الرجل وقد "نهى ﷺ عن الصفن والصفد في الصلاة" والصفد هو اقتران القدمين معاً ومنه قوله تعالى "مقرنين في الأصفاد" والصفن هو رفع إحدى الرجلين ومنه قوله عز وجل "الصافنات الجياد" هذا ما يراعيه في رجليه عند القيام ويراعى في ركبتيه ومعقد نطاقه الانتصاب، وأما رأسه إن شاء تركه على استواء القيام وإن شاء أطرق والإطراق أقرب للخشوع وأغض للبصر وليكن بصره محصوراً على مصلاه الذي تصلي عليه، فإن لم يكن له مصلى فليقرب من جدار الحائط أو ليخط خطاً، فإن ذلك يقصر مسافة البصر ويمنع تفوق الفكر وليحجر على بصره أن يجاوز أطراف المصلى وحدود الخط? وليدم على هذا القيام كذلك إلى الركوع من غير التفات. هذا أدب القيام فإذا استوى قيامه واستقباله وإطراقه كذلك فليقرأ "قل أعوذ برب الناس" تحصناً به من الشيطان، ثم ليأت بالإقامة وإن كان يرجو حضور من يقتدي به فليؤذن أولاً ثم ليحضر النية وهو أن ينوي في الظهر مثلاً ويقول بقلبه: أؤدي فريضة الظهر لله، ليميزها بقوله أؤدى: عن القضاء وبالفريضة عن النفل، وبالظهر عن العصر وغيره، ولتكن معاني هذه الألفاظ حاضرة في قلبه فإنه هو النية، والألفاظ مذكرات وأسباب لحضورها. ويجتهد أن يستديم ذلك إلى آخر التكبير حتى لا يعزب فإذا حضر في قلبه ذلك فليرفع يديه إلى حذو منكبيه بعد إرسالهما بحيث يحاذي بكفيه منكبيه وبإبهاميه إلى القبلة ويبسط الأصابع ولا يقبضها، ولا يتكلف فيها تفريجاً ولا ضماً بل يتركها على مقتضى طبعها، إذ نقل في الأثر النشر والضم وهذا بينهما فهو أولى "وإذا استقرت اليدان في مقرهما ابتدأ التكبير مع إرسالهما وإحضار النية، ثم يضع اليدين على ما فوق السرة وتحت الصدر ويضع اليمنى على اليسى إكراماً لليمنى بأن تكون محمولة، وينشر المسبحة والوسطى من اليمنى على طول الساعد ويقبض بالإبهام والخنصر والبنصر على كوع اليسرى، وقد روي أن التكبير مع رفع اليدين ومع استقرارهما ومع الإرسال فكل ذلك لا حرج فيه وأراه بالإرسال أليق فإنه كلمة العقد، ووضع إحدى اليدين على الأخرى في صورة العقد ومبدؤه الإرسال وآخره الوضع. ومبدأ التكبير الألف وآخره الراء فيليق مراعاة التطابق بين الفعل والعقد، وأما رفع اليد فكالمقدمة لهذه البداية. ثم لا ينبغي أن يرفع يديه إلى قدام رفعاً عند التكبير ولا يردهما إلى خلف منكبيه ولا ينفضهما عن يمين وشمال نفضاً إذا فرغ من التكبير ويرسلهما إرسالاً خفيفاً رفيقاً ويستأنف وضع اليمين على الشمال بعد الإرسال، وفي بعض الروايات أنه ﷺ "كان إذا كبر أرسل يديه وإذا أراد أن يقرأ وضع اليمنى على اليسرى" فإن صح هذا فهو أولى مما ذكرناه. وأما التكبير فينبغي أن يضم الهاء من قوله "الله" ضمة خفيفة من غير مبالغة ولا يدخل بين الهاء والألف شبه الواو، وذلك ينساق إليه بالمبالغة: ولا يدخل بين باء أكبر ورائه ألفاً، كأنه يقول "أكبار" ويجزم راء التكبير ولا يضمها فهذه هيئة التكبير وما معه.

القراءة

ثم يبتدىء بدعاء الاستفتاح وحسن أن يقول عقب قوله الله أكبر "الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً وجهت وجهي - إلى قوله - وأنا من المسلمين" ثم يقول "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وجل ثناؤك ولا إله غيرك" ليكون جامعاً بين متفرقات ما ورد في الأخبار. وإن كان خلف الإمام اختصر إن لم يكن للإمام سكتة طويلة يقرأ فيها ثم يقول "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" ثم يقرأ الفاتحة يبتدىء فيها ب "بسم الله الرحمن الرحيم" بتمام تشديداتها وحروفها ويجتهد في الفرق بين الضاد والظاء ويقول "آمين" في آخر الفاتحة ويمدها مداً، ولا يصل "آمين" بقوله "ولا الضالين" وصلا. ويجهر بالقراءة في الصبح والمغرب والعشاء إلا أن يكون مأموماً، ويجهر بالتأمين. ثم يقرأ السورة أو قدر ثلاث آيات من القرآن فما فوقها، ولا يصل آخر السورة بتكبير الهوى بأن يفصل بينهما بقدر قوله "سبحان الله" ويقرأ في الصبح من السور الطوال من المفصل وفي المغرب من قصاره، وفي الظهر والعصر والعشاء نحو "والسماء ذات البروج" وما قاربها. وفي الصبح في السفر "قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد" وكذلك في ركعتي الفجر والطواف والتحية وهو في جميع ذلك مستديم للقيام ووضع اليدين كما وصفنا في أول الصلاة.

الركوع ولواحقه

ثم يركع ويراعى فيه أموراً وهو أن يكبر للركوع وأن يرفع يديه مع تكبيرة الركوع وأن يمد التكبير مداً إلى الانتهاء إلى الركوع وأن يضع راحتيه على ركبتيه في الركوع وأصابعه منشورة موجهة نحو القبلة على طول الساق وأن ينصب ركبتيه ولا يثنيهما وأن يمد ظهره مستوياً وأن يكون عنقه ورأسه مستويين مع ظهره كالصفيحة الواحدة لا يكون رأسه أخفض ولا أرفع وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه. وتضم المرأة مرفقيها إلى جنبيها. وأن يقول "سبحان ربي العظيم" ثلاثاً والزيادة إلى السبعة وإلى العشرة حسن، إن لم يكن إماماً، ثم يرتفع من الركوع إلى القيام ويرفع يديه ويقول "سمع الله لمن حمده" ويطمئن في الاعتدال ويقول "ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد" ولا يطول هذا القيام إلا في صلاة التسبيح والكسوف والصبح. ويقنت في الصبح في الركعة الثانية بالكلمات المأثورة قبل السجود.

السجود

ثم يهوي إلى السجود مكبراً فيضع ركبتيه على الأرض ويضع جبهته وأنفه وكفيه مكشوفة ويكبر عند الهوي ولا يرفع يديه في غير الركوع، وينبغي أن يكون أول ما يقع منه على الأرض ركبتاه وأن يضع بعدهما يديه ثم يضع بعدهما وجهه وأن يضع جبهته وأنفه على الأرض وأن يجافي مرفقيه عن جنبيه: ولا تفعل المرأة ذلك. وأن يفرج بين رجليه. ولا تفعل المرأة ذلك. وأن يكون في سجوده مخوياً على الأرض. ولا تكون المرأة مخوية. والتخوية: رفع البطن عن الفخذين والتفريج بين الركبتين. وأن يضع يديه على الأرض حذاء منكبيه ولا يفرح بين أصاعهما بل يضمهما ويضم الإبهام إليهما، وإن لم يضم الإبهام فلابأس، ولا يفترش ذراعيه على الأرض كما يفترش الكلب فإنه منهي عنه. وأن يقول "سبحان ربي الأعلى" ثلاثاً فإن زاد فحسن إلا أن يكون إماماً. ثم يرفع من السجود فيطمئن جالساً معتدلاً فيرفع رأسه مكبراً ويجلس على رجله اليسرى وينصب قدمه اليمنى ويضع يديه على فخذيه والأصابع منشورة ولا يتكلف ضمها ولا تفريجها. ويقول "رب اغفر لي وارحمني وارزقني وأهدني واجبرني وعافني واعف عني" ولا يطول هذه الجلسة إلا في سجود التسبيح. ويأتي بالسجدة الثانية كذلك ويستوي منها جالساً جلسة خفيفة للاستراحة في كل ركعة لا تشهد عقيبها. ثم يقوم فيضع اليد على الأرض ولا يقدم إحدى رجليه في حال الارتفاع ويمد التكبير حتى يستغرق ما بين وسط ارتفاعه من القعود إلى وسط ارتفاعه إلى القيام. بحيث تكون الهاء من قوله "الله" عند استوائه جالساً؛ وكاف "أكبر" عند اعتماده على اليد للقيام، وراء "أكبر" في وسط ارتفاعه إلى القيام ويبتدىء في وسط ارتفاعه إلى القيام حتى يقع التكبير في وسط انتقاله ولا يخلو عنه إلا طرفاه وهو أقرب إلى التعميم. ويصلي الركعة الثانية كالأولى ويعيد التعوذ كالابتداء.

التشهد

ثم يتشهد في الركعة الثانية التشهد الأول. ثم يصلي على رسول الله ﷺ وعلى آله ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى ويقبض أصابعه اليمنى إلا المسبحة، ولابأس بإرسال الإبهام أيضاً، ويشر بمسبحة يمناه وحدها عند قوله "إلا الله" لا عند قوله "لا إله" ويجلس في هذا التشهد على رجله اليسرى كما بين السجدتين. وفي التشهد الأخير يستكمل الدعاء المأثور بعد الصلاة على النبي ﷺ وسننه كسنن التشهد الأول لكن يجلس في الأخير على وركه الأيسر، لأنه ليس مستوفزاً للقيام بل هو مستقر، ويضجع رجله اليسرى خارجة من تحته وينصب اليمنى ويضع رأس الإبهام إلى جهة القبلة إن لم يشق عليه. ثم يقول "السلام عليكم ورحمة الله" ويلتفت يميناً بحيث يرى خده الأيمن من وراءه من الجانب اليمين ويلتفت شمالاً كذلك. ويسلم تسليمة ثانية وينوي الخروج من الصلاة بالسلام وينوي بالسلام من على يمينه الملائكة والمسلمين في الأولى، وينوي مثل ذلك في الثانية. ويجزم التسليم ولا يمده مداً فهو السنة. وهذه هيئة صلاة المنفرد، ويرفع صوته بالتكبيرات ولا يرفع صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه. وينوي الإمام الإمامة لينال الفضل فإن لم ينو صحت صلاة القوم إذا نووا الاقتداء ونالوا فضل الجماعة، ويسر بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد، ويجهر بالفاتحة والسورة في جميع الصبح وأولي العشاء والمغرب. وكذلك المنفرد. ويجهر بقوله "آمين" في الصلاة الجهرية وكذلك المأموم. ويقرن المأموم تأمينه بتأمين الإمام معاً لا تعقيباً. ويسكت الإمام سكتة عقيب الفاتحة ليثوب إليه نفسه ويقرأ المأموم الفاتحة في الجهرية في هذه السكتة ليتمكن من الاستماع عند قراءة الإمام. ولا يقرأ المأموم السور في الجهرية إلا إذا لم يسمع صوت الإمام. ويقول الإمام "سمع الله لمن حمده" عند رفع رأسه من الركوع وكذا المأموم. ولا يزيد الإمام على الثلاث في تسبيحات الركوع والسجود، ولا يزيد في التشهد الأول بعد قوله "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" ويقتصر في الركعتين الأخيرتين على الفاتحة ولا يطول على القوم ولا يزيد على دعائه في التشهد الأخير على قدر التشهد والصلاة على رسول الله ﷺ. وينوي عند السلام: السلام على القوم والملائكة. وينوي القوم بتسليمهم جوابه ويثبت الإمام ساعة حتى يفرغ الناس من السلام ويقبل على الناس بوجهه. والأولى أن يثبت إن كان خلف الرجال نساء لينصرفن قبلهن ولا يقوم واحد من القوم حتى يقوم. وينصرف الإمام حيث يشاء عن يمينه وشماله واليمين أحب إلي. ولا يخص الإمام نفسه بالدعاء في قنوت الصبح بل يقول "اللهم اهدنا" ويجهر به ويؤمن القوم ويرفعون أيديهم حذاء الصدور، ويمسح لوجه عند ختم الدعاء. لحديث نقل فيه، وإلا فالقياس أن لا يرفع اليد كما في آخر التشهد.

المنهيات

نهى رسول الله ﷺ عن الصفن في الصلاة والصفد وقد ذكرناهما وعن الإقعاء وعن السدل والكفت وعن الاختصار وعن الصلب وعن المواصلة وعن صلاة الحاقن والحاقب والحازق وعن صلاة الجائع والغضبان والمتلثم وهو ستر الوجه. أما الإقعاء: فهو عند أهل اللغة أن يجلس على وركيه وينصب ركبتيه ويجعل يديه على الأرض كالكلب. وعند أهل الحديث أن يجلس على ساقيه جاثياً وليس على الأرض منه إلا رءوس أصابع الرجلين والركبتين. وأما السدل: فمذهب أهل الحديث فيه أن يلتحف بثوبه ويدخل يديه من داخل فيركع ويسجد كذلك. وكان هذا فعل اليهود في صلاتهم فنهوا عن التشبه بهم. والقميص في معناه فلا ينبغي أن يركع ويسجد ويداه في بدن القميص. وقيل معناه أن يضع وسط الإزار على رأسه ويرسل طرفيه عن يمينه وشماله من غير أن يجعلهما على كتفيه. والأول أقرب. وأما الكف فهو أن يرفع ثيابه من بين يديه أو من خلفه إذا أراد السجود. وقد يكون الكف في شعر الرأس فلا يصلين وهو عاقص شعره والنهى للرجال. وفي الحديث "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء ولا أكفت شعراً ولا ثواباً" وكره أحمد بن حنبل رضي الله عنه أن يأتزر فوق القميص في الصلاة ورآه من الكفت، وأما الاختصار: فأن يضع يديه على خاصرتيه. وأما الصلب فأن يضع يديه على خاصرتيه في القيام ويجافي بين عضديه في القيام. وأما المواصلة: فهي خمسة؛ اثنان على الإمام أن لا يصل قراءته بتكبيرة الإحرام ولا ركوعه بقراءته واثنان على المأموم أن لا يصل تكبيرة الإحرام بتكبيرة الإمام ولا تسليمه بتسليمه، وواحدة بينهما أن لا يصل تسليمة الفرض بالتسليمة الثانية وليفصل بينهما وأما الحاقن: فمن البول، والحاقب: من الغائط. والحازق: صاحب الخف الضيق. فإن كل ذلك يمنع من الخشوع. وفي معاه الجائع والمهتم. وفهم نهي الجائع من قوله ﷺ "إذا حضر العشاء وأقيمت الصلاة فابدءوا بالعشاء إلا أن يضيق الوقت أو يكون ساكن القلب" وفي الخبر "لا يدخلن أحدكم الصلاة وهو مقطب ولا يصلين أحدكم وهو غضبان" وقال الحسن: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وفي الحديث "سبعة أشياء في الصلاة من الشيطان: الرعاف والنعاس والوسوسة والتثاؤب والحكام والالتفات والعبث بالشيء" وزاد بعضهم "السهو والشك" وقال بعض السلف: أربعة في الصلاة من الجفاء - الالتفات ومسح الوجه وتسوية الحصى وأن تصلي بطريق من يمر بين يديك "ونهى أيضاً عن أن يشبك أصابعه أو يفرقع أصابعه أو يستر وجهه أو يضع إحدى كفيه على الأخرى يدخلهما بين فخذيه في الركوع" وقال بعض الصحابة رضي الله عنهم: كنا نفعل ذلك فنهينا عنه. ويكره أيضاً أن ينفخ في الأرض عند السجود للتنظيف وأن يسوي الحصى بيده فإنها أفعال مستغنى عنها ولا يرفع إحدى قدميه فيضها على فخذه ولا يستند في قيامه إلى حائط فإن استند بحيث لوسل ذلك الحائط لسقط فالأظهر بطلان صلاته والله أعلم.

تمييز الفرائض والسنن

جملة ما ذكر يشتمل على فرائض وسنن وآداب وهيئات مما ينبغي لمريد طريق الآخرة أن يراعي جميعها. فالفرض من جملتها اثنتا عشرة خصلة: النية والتكبير والقيام والفاتحة، والانحناء في الركوع إلى أن تنال راحتاه ركبتيه مع الطمأنينة والاعتدال عنه قائماً، والسجود مع الطمأنينة ولا يجب وضع اليدين والاعتدال عنه قاعداً، والجلوس للتشهد الأخير والتشهد الأخير والصلاة على النبي ﷺ، والسلام الأول. فأمانية الخروج فلا تجب وما عدا هذا فليس بواجب بل هي سنن وهيئات فيها وفي الفرائض: أما السنن فمن الأفعال أربعة: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام وعند الهوي إلى الركوع وعند الارتفاع إلى القيام، والجلسة للتشهد الأول. فأما ما ذكرناه من كيفية نشر الأصابع وحد رفعها فهي هيئات تابعة لهذه السنة، والتورك والافتراش هيئات تابعة للجلسة والإطراق وترك الالتفات هيئات للقيام وتحسين صورته، وجلسة الاستراحة لم نعدها من أصول السنة في الأفعال لأنها كالتحسين لهيئة الارتفاع من السجود إلى القيام لأنها ليست مقصودة في نفسها ولذلك لم تفرد بذكر. وأما السنن من الأذكار فدعاء الاستفتاح ثم التعوذ ثم قوله "آمين" فإنه سنة مؤكدة ثم قراءة السورة ثم تكبيرات الانتقالات، ثم الذكر في الركوع والسجود والاعتدال عنهما، ثم التشهد الأول والصلاة فيه على النبي ﷺ، ثم الدعاء في آخر التشهد الأخير، ثم التسليمة الثانية وإن جمعناها في اسم السنة فلها درجات متفاوتة إذ تجبر أربعة منها بسجود السهو. وأما من الأفعال فواحدة: وهي الجلسة الأولى للتشهد الأول فإنها مؤثرة في ترتيب نظم الصلاة في أعين الناظرين حتى يعرف بها أنها رباعية أم لا? بخلاف رفع اليدين فإنه لا يؤثر في تغيير النظم فعبر عن ذلك بالبعض. وقيل الأبعاض تجبر بالسجود: وأما الأذكار فكلها لا تقتضي سجود السهو إلا ثلاثة: القنوت والتشهد الأول والصلاة على النبي ﷺ فيه، بخلاف تكبيرات الانتقالات وأذكار الركوع والسجود والاعتدال عنهما، لأن الركوع والسجود في صورتهما مخالفان للعادة ويحصل بهما معنى العبادة مع السكوت عن الأذكار وعن تكبيرات الانتقالات فعدم تلك الأذكار لا تغير صورة العبادة. وأما الجلسة للتشهد الأول ففعل معتاد وما زيدت إلا للتشهد فتركها ظاهر التأثير. وأما دعاء الاستفتاح والسورة فتركهما لا يؤثر مع أن القيام صار معموراً بالفاتحة ومميزاً عن العادة بها، وكذلك الدعاء في التشهد الأخير والقنوت أبعد ما يجبر بالسجود ولكن شرع مد الاعتدال في الصبح لأجله فكان كمد جلسة الاستراحة إذ صارت بالمد مع التشهد جلسة للتشهد الأول. فبقي هذا قياماً ممدوداً معتاداً ليس فيه ذكر واجب وفي الممدود احتراز عن غير الصبح وفي خلوه عن ذكر واجب احتراز عن أصل القيام في الصلاة. فإن قلت: تمييز السنن عن الفرائض معقول إذ تفوت الصحة بفوت الفرض دون السنة ويتوجه العقاب به دونها فأما تمييز سنة عن سنة والكل مأمور به على سبيل الاستحباب ولا عقاب في ترك الكل والثواب موجود على الكل فما معناه? فاعلم أن اشتراكهما في الثواب والعقاب والاستحباب لا يرفع تفاوتهما، ولنكشف ذلك لك بمثال: وهو أن الإنسان لا يكون إنساناً موجوداً كاملاً إلا بمعنى باطن وأعضاء ظاهرة، فالمعنى الباطن هو الحياة والروح، والظاهر أجسام أعضائه. ثم بعض تلك الأعضاء ينعدم الإنسان بعدمها كالقلب والكبد والدماغ، وكل عضو تفوت الحياة بفواته، وبعضها لا تفوت بها الحياة ولكن يفوت بها مقاصد الحياة كالعين واليد والرجل واللسان، وبعضها لا يفوت بها أصل الجمال ولكن كماله كاستقواس الحاجبين وسواد شعر اللحية والأهداب وتناسب خلقة الأعضاء وامتزاج الحمرة بالبياض في اللون فهذه درجات متفاوتة؛ فكذلك العبادة صورة صورها الشرع وتعبدنا باكتسابها فروحها وحياتها الباطنة الخشوع والنية وحضور القلب والإخلاص - كما سيأتي - ونحن الآن في أجزائها الظاهرة فالركوع والسجود والقيام وسائر الأركان تجري منها مجرى القلب والرأس والكبد إذ يفوت وجود الصلاة بفواتها. والسنن التي ذكرناها من رفع اليدين ودعاء الاستفتاح والتشهد الأول تجري منها مجرى اليدين والعينين والرجلين ولا تفوت الصحة بفواتها كما لا تفوت الحياة بفوات هذه الأعضاء ولكن يصير الشخص بسبب فواتها مشوه الخلقة مذموماً غير مرغوب فيه، فكذلك من اقتصر على أقل ما يجزي من الصلاة كان كمن أهدى إلى ملك من الملوك عبداً حياً مقطوع الأطراف. وأما الهيئات وهي ما وراء السنن فتجري مجرى أسباب الحسن من الحاجبين واللحية والأهداب وحسن اللون، وأما وظائف الأذكار في تلك السنن فهي مكملات للحسن كاستقواس الحاجبين واستدارة اللحية وغيرهما. فالصلاة عندك قربة وتحفة تتقرب بها إلى حضرة ملك الملوك كوصيفة يهيدها طالب القربة من السلاطين إليهم وهذه التحفة تعرض على الله عز وجل. ثم ترد عليك يوم العرض الأكبر فإليك الخيرة في تحسين صورتها وتقبيحها. فإن أحسنت فلنفسك وإن أسأت فعليها. ولا ينبغي أن يكون حظك من ممارسة الفقه أن يتميز لك السنة عن الفرض فلا يعلق بفهمك من أوصاف السنة إلا أنه يجوز تركها فتتركها فإن ذلك يضاهي قول الطبيب: إن فقء العين لا يبطل وجود الإنسان ولكن يخرجه عن أن يصدق رجاء المتقرب في قبول السلطان إذا أخرجه في معرض الهدية - فهكذا ينبغي أن تفهم مراتب السنن والهيئات والآداب، فكل صلاة لم يتم الإنسان ركوعها وسجودها فهي الخصم الأول على صاحبها تقول: ضيعك الله كما ضيعتني. فطالع الأخبار التي أوردناها في كمال أركان الصلاة ليظهر لك وقعها.

==============

الباب الثالث

في الشروط الباطنة من أعمال القلب

ولنذكر في هذا الباب ارتباط الصلاة بالخشوع وحضور القلب. ثم نذكر المعاني الباطنة وحدودها وأسبابها وعلاجها. ثم لنذكر تفصيل ما ينبغي أن يحضر في كل ركن من أركان الصلاة لتكون صالحة لزاد الآخرة.

بيان اشتراط الخشوع وحضور القلب

اعلم أن أدلة ذلك كثيرة فمن ذلك قوله تعالى "أقم الصلاة لذكري" وظاهر الأمر الوجوب، والغفلة عن تضاد الذكر فمن غفل في جميع صلاته كيف يكون مقيماً للصلاة لذكره? وقوله تعالى "ولا تكن من الغافلين" نهي وظاهره التحريم وقوله عز وجل "حتى تعلموا ما تقولون" تعليل لنهي السكران وهو مطرد في الغافل المستغرق الهم بالوسواس وأفكار الدنيا وقوله ﷺ "إنما الصلاة تمسكن وتواضع" حصر بالألف واللام وكلمة "إنما" للتحقيق والتوكيد، وقد فهم الفقهاء من قوله عليه السلام "إنما الشفعة فيما لم يقصر" الحصر والإثبات والنفي، وقوله ﷺ "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً" وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء والمنكر، وقال ﷺ "ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها" والتحقيق فيه أن المصلي مناج ربه عز وجل" كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة، وبيانه أن الزكاة إن غفل الإنسان عنها مثلاً فهي في نفسها مخالفة للشهوة شديدة على النفس، وكذا الصوم قاهر للقوى كاسر لسطوة الهوى الذي هو آلة للشيطان عدو الله، فلا يبعد أن يحصل منها مقصود مع الغفلة، وكذلك الحج أفعاله شاقة شديدة وفيه من المجاهدة ما يحصل به الإيلام كان القلب حاضراً مع أفعاله أو لم يكن? أما الصلاة فليس فيها إلا ذكر وقراءة وركوع وسجود وقيام وقعود، فأما الذكر فإنه مجاورة ومناجاة مع الله عز وجل فأما أن يكون المقصود مه كونه خطاباً ومحاورة أو المقصود منه الحروف والأصوات إمتحاناً للسان بالعلم كما تمتحن المعدة والفرج بالإمساك في الصوم، وكما يمتحن البدن بمشاق الحج، ويمتحن بمشقة إخراج الزكاة واقتطاع المال المعشوق. ولاشك أن هذا القسم باطل فإن تحريك اللسان بالهذيان ما أخفه على الغافل فليس فيه امتحان من حيث أنه عمل بل المقصود الحروف من حيث أنه نطق، ولا يكون نطقاً إلا إذا أعرب عما في الضمير ولا يكون معرباً إلا بحضور القلب، فأي سؤال في قوله "إهدنا الصراط المستقيم" إذا كان القلب غافلاً? وإذا لم يقصد كونه تضرعاً ودعاء فأي مشقة في تحريك اللسان به مع الغفلة لاسيما بعد الاعتياد? هذا حكم الأذكار بل أقول لو حلف الإنسان وقال: لأشكرن فلاناً وأثنى عليه وأسأله حاجة؛ ثم جرت الألفاظ الدالة على هذه المعاني على لسانه في النوم لم يبر في يمينه، ولو جرت على لسانه في ظلمة وذلك الإنسان حاضر وهو لا يعرف حضوره ولا يراه لا يصير باراً في يمينه إذ لا يكون كلامه خطاباً ونطقاً معه ما لم يكن هو حاضراً في قلبه، فلو كانت تجري هذه الكلمات على لسانه وهو حاضر إلا أنه في بياض النهار غافل لكونه مستغرق الهم بفكر من الأفكار ولم يكن له قصد توجيه الخطاب إليه عند نطقه لم يصر باراً في يمينه. ولاشك أن المقصود من القراءة والأذكار الحمد والثناء والتضرع والدعاء، والمخاطب هو الله عز وجل وقلبه بحجاب الغفلة محجوب عنه فلا يراه ولا يشاهده بل هو غافل عن المخاطب ولسانه يتحرك بحكم العادة فما أبعد هذا عن المقصود بالصلاة التي شرعت لتصقيل القلب وتجديد ذكر الله عز وجل ورسوخ عقد الإيمان به! هذا حكم القراءة والذكر. وبالجملة فهذه الخاصية لا سبيل إلى إنكارها في النطق وتمييزها عن الفعل. وأما الركوع والسجود فالمقصود بهما التعظيم قطعاً ولو جاز أن يكون معظماً لله عز وجل بفعله وهو غافل عنه لجاز أن يكون معظماً لصنم موضوع بين يديه وهو غافل عنه، أو يكون معظماً للحائط الذي بين يديه وهو غافل عنه، وإذا خرج عن كونه تعظيماً لم يبق إلا مجرد حركة الظهر والرأس وليس فيه من المشقة ما يقصد الامتحان به، ثم يجعله عماد الدين والفاصل بين الكفر والإسلام ويقدم على الحج وسائر العبادات ويجب القتل بسبب تركه على الخصوص، وما أرى أن هذه العظمة كلها للصلاة من حيث أعمالها الظاهرة إلا أن يضاف إليها مقصود المناجاة فإن ذلك يتقدم على الصوم والزكاة والحج وغيره بل الضحايا والقرابين التي هي مجاهدة للنفس بتنقيص المال قال الله تعالى "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" أي الصفة التي استولت على القلب حتى حملته على امتثال الأوامر هي المطلوبة فكيف الأمر في الصلاة ولا أرب في أفعالها? فهذا ما يدل من حيث المعنى على اشتراط حضور القلب. فإن قلت: إن حكمت ببطلان الصلاة وجعلت حضور القلب شرطاً في صحتها خالفت إجماع الفقهاء فإنهم لم يشترطوا إلا حضور القلب عند التكبير? فاعلم أنه قد تقدم في كتاب العلم: أن الفقهاء لا يتصرفون في الباطن ولا يشقون عن القلوب ولا في طريق الآخرة بل يبنون أحكام الدين على ظاهر أعمال الجوارح؛ وظاهر الأعمال كاف لسقوط القتل وتعزير السلطان؛ فأما أنه ينفع في الآخرة فليس هذا من حدود الفقه على أنه لا يمكن أن يدعى الإجماع. فقد نقل عن بشر بن الحارث فيما رواه عنه أبو طالب المكي عن سفيان الثوري أنه قال: من لم يخشع فسدت صلاته وروي عن الحسن أنه قال: كل صلاة لا يحضر فيها القلب فهي إلى العقوبة أسرع. وع معاذ بن جبل: من عرف من على يمينه وشماله متعمداً وهو في الصلاة فلا صلاة له. وروي أيضاً مسنداً قال رسول الله ﷺ "إن العبد لصلي الصلاة لا يكتب له سدسها ولا عشرها وإنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها" وهذا لو نقل عن غيره لجعل مذهباً فكيف لا يتمسك به? وقال عبد الواحد بن زيد: أجمعت العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها، فجعله إجماعاً، وما نقل من هذا الجنس عن الفقهاء المتورعين وعن علماء الآخرة أكثر من أن يحصى. والحق الرجوع إلى أدلة الشرع والأخبار، والآثار ظاهرة في هذا الشرط إلا أن مقام الفتوى في التكليف الظاهر يتقدر بقدر قصور الخلق. فلا يمكن أن يشترط على الناس إحضار القلب في جميع الصلاة فإن ذلك يعجز عنه كل البشر إلا الأقلين وإذا لم يمكن اشتراط الاستيعاب للضرورة فلا مرد له إلا أن يشترط منه ما يطلق عليه الاسم ولو في اللحظة الواحدة، وأولى اللحظات به لحظة التكبير فاقتصرنا على التكليف بذلك. ونحن مع ذلك نرجو أن لا يكون حال الغافل في جميع صلاته مثل حال التارك بالكلية. فإنه على الجملة أقدم على العمل ظاهراً وأحضر القلب لحظة. وكيف لا والذي صلى مع الحدث ناسياً صلاته باطلة عند الله تعالى ولكن له أجر ما بحسب فعله وعلى قدر قصوره وعذره، ومع هذا الرجاء فيخشى أن يكون حاله أشد من حال التارك وكيف لا والذي يحضر الخدمة ويتهاون بالحضرة ويتكلم بكلام الغافل المستحقر أشد حالاً من الذي يعرض عن الخدمة? وإذا تعارض أسباب الخوف والرجاء وصار الأمر محظراً في نفسه فإليك الخيرة بعده في الاحتياط والتساهل. ومع هذا فلا مطمع في مخالفة الفقهاء فيما أفتوا به من الصحة مع الغفلة فإن ذلك من ضرورة الفتوى - كما سبق التنبيه عليه - ومن عرف سر الصلاة علم أن الغفلة تضادها. ولكن قد ذكرنا في باب الفرق بين العلم الباطن والظاهر في كتاب قواعد العقائد أن قصور الخلق أحد الأسباب المانعة عن التصريح بكل ما ينكشف من أسرار الشرع. فلنقتصر على هذا القدر من البحث فإن فيه مقنعاً للمريد الطالب لطريق الآخرة. وأما المجادل المشغب فلسنا نقصد مخاطبته الآن وحاصل الكلام أن حضور القلب هو روح الصلاة وأن أقل ما يبقى به رمق الروح الحضور عند التكبير. فالنقصان منه هلاك وبقدر الزيادة عليه تنبسط الروح في أجزاء الصلاة. وكم من حي لا حراك به قريب من ميت? فصلاة الغافل في جميعها إلا عند التكبير كمثل حي لا حراك به نسأل الله حسن العون

بيان المعاني الباطنة التي تتم بها حياة الصلاة

إعلم أن هذه المعاني تكثر العبارات عنها ولكن يجمعها ست جمل وهي: حضور القلب والتفهم والتعظيم والهيبة والرجاء والحياء. فلنذكر تفاصيلها ثم أسبابها ثم العلاج في اكتسابها. أما التفاصيل : فالأول، حضور القلب ونعني به أن يفرغ القلب عن غير ما هو ملابس له ومتكلم به، فيكون العلم بالفعل والقول مقروناً بهما، ولا يكون الفكر جائلاً في غيرهما، ومهما انصرف في الفكر عن غير ما هو فيه وكان في قلبه ذكر لما هو فيه ولم يكن فيه غفلة عن كل شيء فقد حصل حضور القلب ولكن التفهم لمعنى الكلام أمر وراء حضور القلب، فربما يكون القلب حاضراً مع اللفظ ولا يكون حاضراً مع معنى اللفظ؛ فاشتمال القلب على العم بمعنى اللفظ هو الذي أردناه بالتفهم. وهذا مقام يتفاوت الناس فيه إذ ليس يشترك الناس في تفهم المعاني للقرآن والتسبيحات.. وكم من معان لطيفة يفهمها المصلي في أثناء الصلاة ولم يكن قد خطر بقلبه ذلك قبله? ومن هذا الوجه كانت الصلاة ناهية عن الفحشاء والمنكر، فإنها تفهم أموراً؛ تلك الأمور تمنع عن الفحشاء لا محالة. وأما التعظيم فهو أمر وراء حضور القلب والفهم إذ الرجل يخاطب عبده بكلام هو حاضر القلب فيه ومتفهم لمعناه ولا يكون معظماً له فالتعظيم زائد عليهما. وأما الهيبة فزائدة على التعظيم بل هي عبارة عن خوف منشؤه التعظيم لأن من لا يخاف لا يسمى هائباً، والمخافة من العقرب وسوء خلق العبد وما يجري مجراه من الأسباب الخسيسة لا تسمى مهابة، بل الخوف من السلطان المعظم يسمى مهابة، والهيبة وف مصدرها الإجلال. وأما الرجا فلا شك أنه زائد فكم من معظم ملكاً من الملوك يهابه أو يخاف سطوته ولكن لا يرجو مثوبته. والعبد ينبغي أن يكون راجياً بصلاته ثواب الله عز وجل كما أنه خائف بتقصيره عقاب الله عز وجل، وأما الحياء فهو زئد على الجملة لأن مستنده استشعار تقصير وتوهم ذنب ويتصور التعظيم والخوف والرجاء من غير حياء حيث لا يكون توهم تقصير وارتكاب ذنب. وأما أسباب هذه المعاني الستة فاعلم أن حضور القلب سببه الهمة فإن قلبك تابع همتك فلا يحضر إلا فيما يهمك. ومهما أهمك أمر حضر القلب فيه شاء أم أبى فهو مجبول على ذلك ومسخر فيه. والقلب إذا لم يحضر في الصلاة لم يكن متعطلاً بل جائلاً فيما الهمة مصروفة إليه من أمور الدنيا، فلا حيلة ولا علاج لإحضار القلب إلا بصرف الهمة إلى الصلاة، والهمة لا تنصرف إليها ما لم يتبين أن الغرض المطلوب منوط بها وذلك هو الإيمان والتصديق بأن الآخرة خير وأبقى وأن الصلاة وسيلة إليها، فإذا أضيف هذا إلى حقيقة العلم بحقارة الدنيا ومهماتها حصل من مجموعها حضور القلب في الصلاة، وبمثل هذه العلة يحضر قلبك إذا حضرت بين يدي بعض الأكابر ممن لا يقدر على مضرتك ومنفعتك، فإذا كان لا يحضر عند المناجاة مع ملك الملوك الذي بيده الملك والملكوت والنفع والضر فلا تظنن أن له سبباً سوى ضعف الإيمان فاجتهد الآن في تقوية الإيمان - وطريقه يستقصى في غير هذا الموضع - وأما التفهم فسبب بعد حضور القلب إدمان الفكر وصرف الذهن إلى إدراك المعنى وعلاجه ما هو علاج إحضار القلب مع الإقبال على الفكر والتشمر لدفع الخواطر. وعلاج دفع الخواطر الشاغلة قطع موادها أعني النزوع عن تلك الأسباب التي تنجذب الخواطر إليها، وما لم تنقطع تلك المواد لا تنصرف عنها الخواطر فمن أحب شيئاً أكثر من ذكره فذكر المحبوب يهجم على القلب بالضرورة، لذلك ترى أن من أحب غير الله لا تصفو له صلاة عن الخواطر. وأما التعظيم فهي حالة للقلب تتولد من معرفتين، إحداهما: معرفة جلال الله عز وجل وعظمته وهو من أصول الإيمان فإن من لا يعتقد عظمته لا تذعن النفس لتعظيمه. الثانية، معرفة حقارة النفس وخستها وكوها عبداً مسخراً مربوباً حتى يتولد من المعرفتين الاستكانة والانكسار والخشوع لله سبحانه فيعبر عنه بالتعظيم، وما لم تمتزج معرفة حقارة النفس بمعرفة جلال الله لا تنتظم حالة التعظيم والخشوع فإن المستغني عن غيره الآمن على نفسه يجوز أن يعرف من غيره صفات العظمة ولا يكون الخشوع والتعظيم حاله لأن القرينة الأخرى وهي معرفة حقارة النفس وحاجتها لم تقترن إليه، وأما الهيبة والخوف فحالة للنفس تتولد من المعرفة بقدرة الله وسطوته ونفوذ مشيئته فيه مع قلة المبالاة به، وأنه لو أهلك الأولين والآخرين لم ينقص من ملكه ذرة هذا مع مطالعة ما يجري على الأنبياء والأولياء من المصائب وأنواع البلاء مع القدرة على الدفع على خلاف ما يشاهد من ملوك الأرض. وبالجملة كلما زاد العلم بالله زادت الخشية والهيبة - وسيأتي أسباب ذلك في كتاب الخوف من ربع المنجيات - وأما الرجاء فسببه معرفة لطف الله عز وجل وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده الجنة بالصلاة، فإذا حصل اليقين بوعده والمعرفة بلطفه انبعث من مجموعهما الرجاء لا محالة: وأما الحياء فباستشعاره التقصير في العبادة وعلمه بالعجز عن القيام بعظيم حق الله عز وجل ويقوى ذلك بالمعرفة بعيوب النفس وآفاتها وقلة إخلاصها وخبث دخلتها وميلها إلى الحظ العاجل في جميع أفعالها مع العلم بعظيم ما يقتضيه جلال الله عز وجل والعلم بأنه مطلع على السر وخطرات القلب وإن دقت وخفيت، وهذه المعارف إذا حصلت يقيناً انبعث منها بالضرورة حالة تسمى الحياء فهذه أسباب هذه الصفات وكل ما طلب تحصيله فعلاجه إحضار سببه ففي معرفة السبب معرفة العلاج. ورابطة جميع هذه الأسباب الإيمان. واليقين أعني به هذه المعارف التي ذكرناها ومعنى كونها يقيناً انتفاء الشك واستيلاؤها على القلب، كما سبق في بيان اليقين من كتاب العلم - وبقدر اليقين يخشع القلب ولذلك قالت عائشة ﷺا "كان رسول الله ﷺ يحدثنا ونحدثه فإذا حضرت الصلاة كأنه لم يعرفنا ولم نعرفه" وقد روي أن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام "يا موسى إذا ذكرتني فاذكرني وأنت تنتفض أعضاؤك وكن عند ذكري خاشعاً مطمئناً وإذا ذكرتني فاجعل لسانك من وراء قلبك وإذا قمت بين يدي فقم قيام العبد الذليل وناجني بقلب وجل ولسان صادق" وروي أن الله تعالى أوحى إليه "قل لعصاة أمتك لا يذكروني فإني آليت على نفسي أن من ذكرني ذكرته فإذا ذكروني ذكرتهم باللعنة" هذا في عاص غير غافل في ذكره فكيف إذا اجتمعت الغفلة والعصيان? وباختلاف المعاني التي ذكرناها في القلوب انقسم الناس إلى غافل يتمم صلاته ولم يحضر قلبه في لحظة منها. وإلى من يتمم ولم يغب قلبه في لحظة بل ربما كان مستوعب الهم بها بحيث لا يحس بما يجري بين يديه. ولذلك لم يحس مسلم بن يسار بسقوط الاسطوانة في المسجد اجتمع الناس عليها. وبعضهم كان يحضر الجماعة مدة ولم يعرف قط من على يمينه ويساره. ووجيب قلب إبراهيم صلوات الله عليه وسلامه كان يسمع على ميلين. وجماعة كانت تصفر وجوههم وترتعد فرائصهم. وكل ذلك غير مستبعد فإن أضعافه مشاهد في همم أهل الدنيا وخوف ملوك الدنيا مع عجزهم وضعفهم وخساسة الحظوظ الحاصلة منهم حتى يدخل الواحد على ملك أو وزير ويحدثه بمهمته ثم يخرج، ولو سئل عمن حواليه أو عن ثوب الملك لكان لا يقدر على الإخبار عنه لاشتغال همه به عن ثوبه وعن الحاضرين حواليه "ولكل درجات مما عملوا" فحظ كل واحد من صلاته بقدر خوفه وخشوعه وتعظيمه فإن موقع نظر الله سبحانه القلوب دون ظاهر الحركات. ولذلك قال بعض الصحابة رضي الله عنهم: يحشر الناس يوم القيامة على مثال هيئتهم في الصلاة من الطمأنينة والهدوء ومن وجود النعيم بها واللذة، ولقد صدق فإنه يحشر كل على ما مات عليه ويموت على ما عاش عليه: ويراعى في ذلك حال قلبه لا حال شخصه فمن صفات القلوب تصاغ الصور في الدار الآخرة ولا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم، نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه

بيان الدواء النافع في حضور القلب

اعلم أن المؤمن لابد أن يكون معظماً لله عز وجل وخائفاً منه وراجياً له ومستحيياً من تقصيره فلا ينفك عن هذه الأحوال بعد إيمانه، وإن كانت قوتها بقدر قوة يقينه فانفكاكه عنها في الصلاة لا سبب له إلا تفرق الفكر وتقسيم الخاطر وغيبة القلب عن المناجاة والغفلة عن الصلاة. ولا يلهي عن الصلاة إلا الخواطر الواردة الشاغلة، فالدواء في إحضار القلب هو دفع تلك الخواطر ولا يدفع الشيء إلا بدفع سببه فلتعلم سببه. وسبب موارد الخواطر إما أن يكون أمراً خارجاً أو أمراً في ذاته باطناً. أما الخارج فما يقرع السمع أو يظهر للبصر فإن ذلك قد يختطف الهم حتى يتبعه ويتصرف فيه ثم تنجر منه الفكرة إلى غيره ويتسلسل، ويكون الإبصار سبباً للافتكار، ثم تصير بعض تلك الأفكار سبباً للبعض. ومن قويت نيته وعلت همته لم يلهه ما جرى على حواسه ولكن الضعيف لابد وأن يتفرق به فكره. وعلاجه قطع هذه الأسباب بأن يغض بصره أو يصلي في بيت مظلم أو لا يترك بين يديه ما يشغل حسه ويقرب من حائط عند صلاته حتى لا تتسع مسافة بصره، ويحترز من الصلاة على الشوارع وفي المواضع المنقوشة المصنوعة وعلى الفرش المصبوغة. ولذلك كان المتعبدون يتعبدون في بيت صغير مظلم سعته قدر السجود ليكون ذلك أجمع للهم. والأقوياء منهم كانوا يحضرون المساجد ويغضون البصر ولا يجاوزون به موضع السجود ويرون كمال الصلاة في أن لا يعرفوا من على يمينهم وشمالهم. وكان ابن عمر رضي الله عنهما لا يدع في موضع الصلاة مصحفاً ولا سيفاً إلا نزعه ولا كتاباً إلا محاه. وأما الأسباب الباطنة فهي أشد فإن من تشعبت به الهموم في أودية الدنيا لا ينحصر فكره في فن واحد بل لا يزال يطير من جانب إلى جانب وغض البصر لا يغنيه، فإن ما وقع في القلب من قبل كاف للشغل فهذا طريقه أن يرد النفس قهراً إلى فهم ما يقرؤه في الصلاة ويشغلها به عن غيره، ويعينه على ذلك أن يستعد له قبل التحريم بأن يحدد على نفسه ذكر الآخرة وموقف المناجاة وخطر المقام بين يدي الله سبحانه وهو المطلع ويفرغ قلبه قبل التحريم بالصلاة عما يهمه فلا يترك لنفسه شغلاً يلتفت إليه خاطره. قال رسول الله ﷺ لعثمان بن أبي شيبة "إني نسيت أن أقول لك أن تخمر القدر الذي في البيت" فإنه لا ينبغي أن يكون في البيت شيء يشغل الناس عن صلاتهم؛ فهذا طريق تسكين الأفكار. فإن كان لا يسكن هوائج أفكاره بهذا الدواء المسكن فلا ينجيه إلا المسهل الذي يقمع مادة الداء من أعماق العروق وهو أن ينظر في الأمور الصارفة الشاغلة عن إحضار القلب، ولاشك أنها تعود إلى مهماته وأنها إنما صارت مهمات لشهواته فيعاقب نفسه بالنزوع عن تلك الشهوات وقطع تلك العلائق، فكل ما يشغله عن صلاته فهو ضد دينه وجند إبليس عدوه فإمساكه أضر عليه من إخرجه فيتخلص منه بإخراجه كما روي أنه ﷺ "لما لبس الخميصة التي أتاه بها أبو جهم وعليها علم وصلى بها نزعها بعد صلاته، وقال ﷺ "اذهبوا بها إلى أبي جهم فإنها ألهتني آنفاً عن صلاتي وائتوني بأنبجانية أبي جهم". وأمر رسول الله ﷺ بتجديد شراك نعله ثم نظر إليه في صلاته إذ كان جديداً فأمر أن ينزع منها ويرد الشراك الخلق. "وكان ﷺ قد احتذى نعلاً فأعجبه حسنها فسجد وقال: تواضعت لربي عز وجل كي لا يمقتني" ثم خرج بها فدفعها إلى أول سائل لقيه، ثم أمر علياً رضي الله عنه أن يشتري له نعلين سبتيتين جرداوين فلبسهما. وكان ﷺ في يده خاتم م ذهب قبل الترحيم وكان على المنبر فرماه وقال شغلني هذا: نظرة إليه ونظرة إليكم وروي "أن أبا طلحة صلى في حائط وفيه شجر فأعجبه دبسي طار في الشجر يلتمس مخرجاً فأتبعه بصره ساعة ثم لم يدر كم صلى? فذكر لرسول الله ﷺ ما أصابه من الفتنة ثم قال: يا رسول الله هو صدقة فضعه حيث شئت". وعن رجل آخر أنه صلى في حائط له والنخل مطوقة بثمرها فنظر إليها فأعجبته ولم يدر كم صلى? فذكر ذلك لعثمان رضي الله عنه وقال: هو صدقة فاجعله في سبيل الله عز وجل فباعه عثمان بخمسين ألفاً. فكانوا يفعلون ذلك قطعاً لمادة الفكر وكفارة لما جرى من نقصان الصلاة وهذا هو الدواء القاطع لمادة العلة ولا يغني غيره. فأما ما ذكرناه من التلطف بالتسكين والرد إلى فهم الذكر فذلك ينفع في الشهوات الضعيفة والهمم التي لا تشغل إلا حواشي القلب. فأما الشهوة القوية المرهقة فلا ينفع فيها التسكين بل لا تزال تجاذبها وتجاذبك ثم تغلبك وتنقضي جميع صلاتك في شغل المجاذبة. ومثاله: رجل تحت شجرة أراد أن يصفو له فكره وكانت أصوات العصافير تشوش عليه، فلم يزل يطيرها بخشبة في يده ويعود إلى فكره فتعود العصافير فيعود إلى التنفير بالخشبة، فقيل له: إن هذا أسير السواني ولا ينقطع فإن أردت الخلاص فاقطع الشجرة. فكذلك شجرة الشهوات إذا تشعبت وتفرعت أغصانها انجذبت إليها الأفكار انجذاب العصافير إلى الأشجار وانجذاب الذباب إلى الأقذار والشغل يطول في دفعها فإن الذباب كلما ذب آب ولأجله سمي ذباباً. فكذلك الخواطر، وهذه الشهوات كثيرة وقلما يخلو العبد عنها ويجمعها أصل واحد وهو حب الدنيا، وذلك رأس كل خطيئة وأساس كل نقصان ومنبع كل فساد. ومن انطوى باطنه على حب الدنيا حتى مال إلى شيء منها لا ليتزود منها ولا ليستعين بها على الآخرة فلا يطمعن في أن تصفو له لذة المناجاة في الصلاة. فإن من فرح بالدنيا لا يفرح بالله سبحانه وبمناجاته. وهمة الرجل مع قرة عينه فإن كانت قرة عينه في الدنيا انصرف لا محالة إليها همه ولكن مع هذا فلا ينبغي أن يترك المجاهدة ورد القلب إلى الصلاة وتقليل الأسباب الشاغلة، فهذا هو الدواء المر ولمرارته استبشعته الطباع وبقيت العلة مزمنة وصار الداء عضالاً، حتى إن الأكابر اجتهدوا أن يصلوا ركعتين لا يحدثوا أنفسهم فيها بأمور الدنيا فعجزوا عن ذلك فإذن لا مطمع فيه لأمثالنا، وليته سلم لنا من الصلاة شطرها أو ثلثها من الوسواس لنكون ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً. وعلى الجملة فهمة الدنيا وهمة الآخرة في القلب مثل الماء الذي يصب في قدح مملوء بخل فبقدر ما يدخل فيه من الماء يخرج منه من الخل لا محالة ولا يجتمعان.

بيان تفصيل ما ينبغي أن يحضر في القلب

عند كل ركن وشرط - من أعمال الصلاة

فنقول: حقك إن كنت من المريدين للآخرة أن لا تغفل أولاً عن التنبيهات التي في شروط الصلاة وأركانها. أما الشروط السوابق فهي الأذان والطهارة وستر العورة واستقبال القبلة والانتصاب قائماً والنية. فإذا سمعت نداء المؤذن فأحضر في قلبك هول النداء يوم القيامة وتشمر بظاهرك وباطنك للإجابة والمسارعة؛ فإن المسارعين إلى هذا النداء هم الذين ينادون باللطف يوم العرض الأكبر فاعرض قلبك على هذا النداء فإن وجدته مملوءاً بالفرح والاستبشار مشحوناً بالرغبة إلى الابتدار فاعلم أنه يأتيك النداء بالبشرى والفوز يوم القضاء. ولذلك قال ﷺ "أرحنا يا بلال" أي أرحنا بها وبالنداء إليها إذ كان قرة عينه فيها ﷺ. وأما الطهارة فإذا أتيت بها في مكانك وهو ظرفك الأبعد ثم في ثيابك وهي غلافك الأقرب، ثم في بشرتك وهي قشرك الأدنى فلا تغفل عن لبك الذي هو ذاتك وهو قلبك فاجتهد له تطهيراً بالتوبة والندم على ما فرطت وتصميم العزم على الترك في المستقبل فطهر بها باطنك فإنه موضع نظر معبودك. وأما ستر العورة فاعلم أن معناه تغطية مقابح بدنك عن أبصار الخلق فإن ظاهر بدنك موقع لنظر الخلق فما بالك في عورات باطنك وفضائح سرائرك التي لا يطلع عليها إلا ربك عز وجل? فأحضر تلك الفضائح ببالك وطالب نفسك بسترها وتحقق أنه لا يستر عن عين الله سبحانه ساتر. وإنما يغفرها الندم والحياء والخوف فتستفيد بإحضارها في قلبك انبعاث جنود الخوف والحياء من مكامنهما فتدل بها بنفسك ويستكين تحت الخجلة قلبك وتقوم بين يدي الله عز وجل قيام العبد المجرم المسيء الآبق الذي ندم فرجع إلى مولاه ناكساً رأسه من الحياء والخوف.

وأما الاستقبال فهو صرف ظاهر وجهك عن سائر الجهات إلى جهة بيت الله تعالى، أفترى أن صرف القلب عن سائر الأمور إلى الله عز وجل ليس مطلوباً منك هيهات فلا مطلوب سواه. وإنما هذه الظواهر تحريكات للبواطن وضبط للجوارح وتسكين لها بالإثبات في جهة واحدة حتى لا تبيغ على القلب فإنها إذا بغت وظلمت في حركاتها والتفاتها إلى جهاتها استتبعت القلب وانقلبت به عن وجه الله عز وجل فليكن وجه قلبك مع وجه بدنك. فاعلم أنه كما لا يتوجه الوجه إلى جهة البيت إلا بالانصراف عن غيرها فلا ينصرف القلب إلى الله عز وجل إلا بالتفرغ عما سواه وقد قال ﷺ "إذا قام العبد إلى صلاته فكان هواه ووجهه وقلبه إلى الله عز وجل انصرف كيوم ولدته أمه" وأما الاعتدال قائماً فإنما هو مثول بالشخص والقلب بين يدي الله عز وجل، فليكن رأسك الذي هو أرفع أعضائك مطرقاً مطأطئاً متنكساً، وليكن وضع الرأس عن ارتفاعه تنبيهاً على إلزام القلب التواضع والتذلل والتبري عن الترؤس والتكبر، وليكن على ذكرك ههنا خطر القيام بين يدي الله عز وجل في هول المطلع عند العرض للسؤال. واعلم في الحال أنك قائم بين يدي الله عز وجل وهو مطلع عليك فقم بين يديه قيامك بين يدي بعض ملوك الزمان إن كنت تعجز عن معرفة كنه جلاله بل قدر في دوام قيامك في صلاتك أنك ملحوظ ومرقوب بعين كالئة من رجل صالح من أهلك أو ممن ترغب في أن يعرفك بالصلاح، فإنه تهدأ عند ذلك أطرافك وتخشع جوارحك وتسكن جميع أجزائك خيفة أن ينسبك ذلك العاجز المسكين إلى قلة الخشوع، وإذا أحسست من نفسك بالتماسك عند ملاحظة عبد مسكين فعاتب نفسك وقل لها: إنك تدعين معرفة الله وحبه أفلا تستحين من استجرائك عليه مع توقيرك عبداً من عباده أو تخشين الناس ولا تخشينه وهو أحق أن يخشى? ولذلك لما قال أبو هريرة "كيف الحياء من الله فقال ﷺ تستحي منه كما تستحي من الرجل الصالح من قومك" وروي "من أهلك" وأما النية فاعزم على إجابة الله عز وجل في امتثال أمره بالصلا وإتمامها والكف عن نواقضها ومفسداتها وإخلاص جميع ذلك لوجه الله سبحانه رجاء لثوابه وخوفاً من عقابه وطلباً للقربة منه متقلداً للمنة منه بإذنه إياك في المناجاة مع سوء أدبك وكثرة عصيانك، وعظم في نفسك قدر مناجاته وانظر من تناجي وكيف تناجي وبماذا تناجي? وعند هذا ينبغي أن يعرق جبينك من الخجل وترتعد فرائصك من الهيبة ويصفر وجهك من الخوف. وأما التكبير فإذا نطق به لسانك فينبغي أن لا يكذبه قلبك فإن كان في قلبك شيء هو أكبر من الله سبحانه فالله يشهد إنك لكاذب وإن كان الكلام صدقاً كما شهد على المنافقين في قولهم: إنه ﷺ رسول الله. فإن كان هواك أغلب عليك من أمر الله عز وجل فأنت أطوع له منك لله تعالى فقد اتخذته إلهك وكبرته فيوشك أن يكون قولك "الله أكبر" كلاماً باللسان المجرد وقد تخلف القلب عن مساعدته؛ وما أعظم الخطر في ذلك لولا التوبة والاستغفار وحسن الظن بكرم الله تعالى وعفوه.

وأما دعاء الاستفتاح فأول كلماته قولك "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" وليس المراد بالوجه الوجه الظاهر فإنك إنما وجهته إلى جهة القبلة والله سبحانه يتقدس عن أن تحده الجهات حتى تقبل بوجه بدنك عليه. وإنما وجه القلب هو الذي تتوجه به إلى فاطر السموات والأرض فانظر إليه أمتوجه هو إلى أمانيه وهمه في البيت والسوق متبع للشهوات أو مقبل على فاطر السموات? وإياك أن تكون أول مفاتحتك للمناجاة بالكذب والاختلاق. ولن ينصرف الوجه إلى الله تعالى إلا بانصرافه عما سواه فاجتهد في الحال في صرفه إليه وإن عجزت عنه على الدوام فليكن قولك في الحال صادقاً. وإذا قلت "حنيفاً مسلماً" فينبغي أن يخطر ببالك أن المسلم هو الذي سلم المسلمون من لسانه ويده فإن لم تكن كذلك كنت كاذباً فاجتهد في أن تعزم عليه في الاستقبال وتندم على ما سبق من الأحوال. وإذا قلت "وما أنا من المشركين" فأخطر ببالك الشرك الخفي فإن قوله تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" نزل فيمن يقصد بعبادته وجه الله وحمد الناس وكن حذراً مشفقاً من هذا الشرك، واستشعر الخجلة في قلبك إن وصفت نفسك بأنك لست من المشركين من غير براءة عن هذا الشرك فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه. وإذا قلت "محياي ومماتي لله" فاعلم أن هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيده وأنه إن صدر ممن رضاه غضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائماً للحال. وإذا قلت "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم" فاعلم أنه عدوك ومترصد لصرف قلبك عن الله عز وجل حسداً لك على مناجاتك مع الله عز وجل وسجودك له مع أنه لعن بسبب سجدة واحدة تركها ولم يوفق لها، وأن استعاذتك بالله سبحانه منه بترك ما يحبه وتبديله بما يحب الله عز وجل لا بمجرد قولك، فإن من قصده سبع أو عدو ليفرسه أو يقتله فقال: أعوذ منك بذلك الحصن الحصين وهو ثابت على مكانه، فإن ذلك لا ينفعه، بل لا يعيذه إلا تبديل المكان؛ فكذلك من يتبع الشهوات التي هي محاب الشيطان ومكاره الرحمن فلا يغنيه مجرد القول فليقترن قوله بالعزم على التعوذ بحصن الله عز وجل عن شر الشيطان وحصنه "لا إله إلا الله" إذ قال عز وجل فيما أخبر عنه نبينا ﷺ "لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي" والمتحصن به لا معبود له سوى الله سبحانه فأما من اتخذ إلهه هواه فهو في ميدان الشيطان لا في حصن الله عز وجل.

واعلم أن من مكايده أن يشغلك في صلاتك بذكر الآخرة وتدبير فعل الخيرات ليمنعك عن فهم ما تقرأ. فاعلم أن كل ما يشغلك عن فهم معاني قراءتك فهو وسواس فإن حركة اللسان غير مقصودة بل المقصود معانيها: فأما القراءة فالناس فيها ثلاثة، رجل يتحرك لسانه وقلبه غافل ورجل يتحرك لسانه وقلبه يتبع اللسان فيفهم ويسمع منه كأنه يسمعه من غيره وهي درجات أصحاب اليمين، ورجل يسبق قلبه إلى المعاني أولاً ثم يخدم اللسان القلب فيترجمه. ففرق بين أن يكون السان ترجمان القلب أو يكون معلم القلب والمقربون لسانهم ترجمان يتبع القلب ولا يتبعه القلب. وتفصيل ترجمة المعاني أنك إذا قلت "بسم الله الرحمن الرحيم" فانو به التبرك لابتداء القراءة لكلام الله سبحانه، وافهم أن الأمور كلها بالله سبحانه. وأن المراد بالاسم ههنا هو المسمى. وإذا كانت الأمور بالله سبحانه فلا جرم كان "الحمد لله" ومعناه أن الشكر لله إذ النعم من الله. ومن يرى من غير الله نعمة أو يقصد غير الله سبحانه بشكر لا من حيث إنه مسخر من الله عز وجل ففي تسميته وتحميده نقصان بقدر التفاته إلى غير الله تعالى. فإذا قلت "الرحمن الرحيم" فأحضر في قلبك جميع أنواع لطفه لتتضح لك رحمته فينبغث بها رجاؤك. ثم استثر من قلبك التعظيم والخوف بقولك "مالك يوم الدين" أما العظمة فلأنه لا ملك إلا له وأما الخوف فلهول يوم الجزاء والحساب الذي هو مالكه. ثم جدد الإخلاص بقولك "إياك نعبد" وجدد العجز والاحتياج والتبري من الحول والقوة بقولك و "إياك نستعين" وتحقق أنه ما تيسرت طاعتك إلا بإعانته وأن له المنة إذ وفقك لطاعته واستخدمك لعبادته وجعلك أهلاً لمناجاته. ولو حرمك التوفيق لكنت من المطرودين مع الشيطان اللعين.

ثم إذا فرغت من التعوذ ومن قولك "بسم الله الرحمن الرحيم" ومن التحميد ومن إظهار الحاجة إلى الإعانة مطلقاً فعين سؤالك ولا تطلب إلا أهم حاجاتك وقل "إهدا الصراط المستقيم" الذي يسوقنا إلى جوارك ويفضي بنا إلى مرضاتك. وزده شرحاً وتفصيلاً وتأكيداً واستشهاداً بالذين أفاض عليهم نعمة الهداية من النبيين والصدقين والشهداء والصالحين دون الذين غضب عليهم من الكفار والزائغين من اليهود والنصارى والصابئين ثم التمس الإجابة وقل "آمين" فإذا تلوت الفاتحة كذلك فيشبه أن تكون من الذين قال الله تعالى فيهم فيما أخبر عنه النبي ﷺ "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل" يقول العبد "الحمد لله رب العالمين" فيقول الله عز وجل: حمدني عبدي وأثنى علي. وهو معنى قوله "سمع الله لمن حمده... الحديث الخ" فلو لم يكن لك من صلاتك حظ سوى ذكر الله لك في جلاله وعظمته فناهيك بذلك غنيمة فكيف بما ترجوه من ثوابه وفضله? وكذلك ينبغي أن تفهم ما تقرؤه من السور - كما سيأتي في كتاب تلاوة القرآن - فلا تغفل عن أمره ونهيه ووعده ووعيده ومواعظه وأخبار أنبيائه وذكر مننه وإحسانه. ولكل واحد حق فالرجاء حق الوعد؛ والخوف حق الوعيد؛ والعزم حق الأمر والنهي؛ والاتعاظ حق الموعظة، والشكر حق ذكر المنة، والاعتبار حق إخبار الأنبياء. وروي أن زرارة بن أوفى لما انتهى إلى قوله تعالى "فإذا نقر في الناقور" خر ميتاً وكان إبراهيم النخعي إذا سمع قوله تعالى "إذا السماء انشقت" اضطرب حتى تضطرب أوصاله. وقال عبد الله بن واقد: رأيت ابن عمر يصلي مغلوباً عليه؛ وحق له أن يحترق قلبه بوعد سيده ووعيده فإنه عبد مذنب ذليل بين يدي جبار قاهر. وتكون هذه المعاني بحسب درجات الفهم ويكون الفهم بحسب وفور العلم وصفاء القلب. ودرجات ذلك لا تنحصر. والصلاة مفتاح القلوب فيها تنكشف أسرار الكلمات فهذا حق القراءة وهو حق الأذكار والتسبيحات أيضاً. ثم يراعي الهيبة في القراءة فيرتل ولا يسرد فإن ذلك أيسر للتأمل. ويفرق بين نغماته في آية الرحمة والعذاب والوعد والوعيد والتحميد والتعظيم والتمجيد. كان النخعي إذا مر بمثل قوله عز وجل "ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله" يخفض صوته كالمستحي عن أن يذكره بكل شيء لا يليق به. وروي أنه يقال لقارىء القرآن "اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا" وأما دوام القيام فإنه تنبيه على إقامة القلب مع الله عز وجل على نعت واحد من الحضور قال ﷺ "إن الله عز وجل مقبل على المصلي ما لم يلتفت" وكما تجب حراسة الرأس والعين عن الالتفات إلى الجهات فكذلك تجب حراسة السر عن الالتفات إلى غير الصلاة. فإذا التفت إلى غيره فذكره باطلاع الله عليه وبقبح التهاون بالمناجي عند غفلة المناجي ليعود إليه. وألزم لخشوع القلب فإن الخلاص عن الالتفات باطناً وظاهراً ثمرة الخشوع. ومهما خشع الباطن خشع الظاهر قال ﷺ وقد رأى رجلاً مصلياً يعبث بلحيته "أما هذا لو خشع قلبه لخشعت جوارحه" فإن الرعية بحكم الراعي. ولهذا ورد في الدعاء "اللهم أصلح الراعي والرعية" وهو القلب والجوارح. وكان الصديق رضي الله عنه في صلاته كأنه وتد. وابن الزبير رضي الله عنه كأنه عود. وبعضهم كان يسكن في ركوعه بحيث تقع العصافير عليه كأنه جماد، وكل ذلك يقتضيه الطبع بين يدي من يعظم من أبناء الدنيا فكيف لا يتقاضاه بين يدي ملك الملوك عند من يعرف ملك الملوك? وكل من يطمئن بين يدي غير الله عز وجل خاشعاً وتضطرب أطرافه بين يدي الله عابثاً فذلك لقصور معرفته عن جلال الله عز وجل وعن إطلاعه على سره وضميره. وقال عكرمة في قوله عز وجل "الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين" قال: قيامه وركوعه وسجوده وجلوسه. وأما الركوع والسجود فينبغي أن تجدد عندهما ذكر كبرياء الله سبحانه وترفع يديك مستجيراً بعفو الله عز وجل من عقابه بتجديد نية ومتبعاً سنة نبيه ﷺ. ثم تستأنف له ذلاً وتواضعاً بركوعك وتجتهد في ترقيق قلبك وتجديد خشوعك وتستشعر ذلك وعز مولاك واتضاعك وعلو ربك. وتستعين على تقرير ذلك في قلبك بلسانك فتسبح ربك وتشهد له بالعظمة وأنه أعظم من كل عظيم وتكرر ذلك على قلبك لتؤكده بالتكرار. ثم ترتفع من ركوعك راجياً أنه راحم لك ومؤكداً للرجاء في نفسك بقولك "سمع الله لمن حمده" أي أجاب لمن شكره. ثم تردف ذلك الشكر المتقاضي للمزيد فتقول "ربنا لك الحمد" وتكثر الحمد بقولك "ملء السموات وملء الأرض" ثم تهوي إلى السجود وهو أعلى درجات الاستكانة فتمكن أعز أعضائك وهو الوجه من أذل الأشياء وهو التراب. وإن أمكنك أنلا تجعل بينهما حائلاً فتسجد على الأرض فافعل فإنه أجلب للخشوع وأدل على الذل. وإذا وضعت نفسك موضع الذل فاعلم أنك وضعتها موضعها ورددت الفرع إلى أصله فإنك من التراب خلقت وإليه تعود فعند هذا جدد على قلبك عظمة الله وقل "سبحان ربي الأعلى" وأكده بالتكرار فإن الكرة الواحدة ضعيفة الأثر فإذا رق قلبك وظهر ذلك فلتصدق رجاءك في رحمة الله فإن رحمته تتسارع إلى الضعف والذل لا إلى التكبر والبطر فارفع رأسك مكبراً وسائلاً حاجتك وقائلاً "رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم" أو ما أردت من الدعاء. ثم أكد التواضع بالتكرار فعد إلى السجود ثانياً كذلك. وأما التشهد فإذا جلست له فاجلس متأدباً وصرح بأن جميع ما تدلي به من الصلوات والطيبات أي من الأخلاق الطاهرة لله. وكذلك الملك لله وهو معنى "التحيات" وأحضر في قلبك النبي ﷺ وشخصه الكريم وقل "سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته" وليصدق أملك في أنه يبلغه ويرد عليك ما هو أوفى منه. ثم تسلم على نفسك وعلى جميع عباد الله الصالحين. ثم تأمل أن يرد الله سبحانه عليك سلاماً وافياً بعدد عباده الصالحين. ثم تشهد له تعالى بالوحدانية ولمحمد نبيه ﷺ بالرسالة مجدداً عهد الله سبحانه بإعادة كلمتي الشهادة ومستأنفاً للتحصن بها. ثم ادع في آخر صلاتك بالدعاء المأثور مع التواضع والخشوع والضراعة والابتهال وصدق الرجاء بالإجابة. وأشرك في دعائك أبويك وسائر المؤمنين. واقصد عند التسليم السلام على الملائكة والحاضرين وانو ختم الصلاة به. واستشعر شكر الله سبحانه على توفيقه لإتمام هذه الطاعة. وتوهم أنك مودع لصلاتك هذه وأنك ربما لا تعيش لمثلها. وقال ﷺ للذي أوصاه "صل صلاة مودع" ثم أشعر قلبك الوجل والحياء من التقصير في الصلاة، وخف أن لا تقبل صلاتك وأن تكون ممقوتاً بذنب ظاهر أو باطن فترد صلاتك في وجهك، وترجو مع ذلك أن يقبلها بكرمه وفضله. كان يحيى بن وثاب إذا صلى مكث ما شاء الله تعرف عليه كآبة الصلاة. وكان إبراهيم يمكث بعد الصلاة ساعة كأنه مريض. فهذا تفصيل صلاة الخاشعين، الذين هم في صلاتهم خاشعون... والذين هم على صلواتهم يحافظون... والذين هم على صلاتهم دائمون. والذين هم يناجون الله على قدر استطاعتهم في العبودية فليعرض الإنسان نفسه على هذه الصلاة، فبالقدر الذي يسر له منه ينبغي أن يفرح وعلى ما يفوته ينبغي أن يتحسر وفي مداراة ذلك ينبغي أن يجتهد. وأما صلاة الغافلين فهي محظرة إلا أن يتغمده الله برحمته والرحمة واسعة والكرم فائض فنسأل الله أن يتغمدنا برحمته ويغمرنا بمغفرته إذ لا وسيلة لنا إلا الاعتراف بالعجز عن القيام بطاعته. واعلم ان تخليص الصلاة عن الآفات وإخلاصها لوجه الله عز وجل وأداءها بالشروط الباطنة التي ذكرناها من الخشوع والتعظيم والحياء سبب لحصول أنوار في القلب تكون تلك الأنوار مفاتيح علوم المكاشفة. فأولياء الله المكاشفون بملكوت السموات والأرض وأسرار الربوبية إنما يكاشفون في الصلاة لاسيما في السجود إذ يتقرب العبد من ربه عز وجل بالسجود. ولذلك قال تعالى "واسجد واقترب" وإنما تكون مكاشفة كل مصل على قدر صفائه عن كدورات الدنيا، ويختلف ذلك بالقوة والضعف والقلة والكثرة وبالجلاء والخفاء حتى ينكشف لبعضهم الشيء بعينه وينكشف لبعضهم الشيء بمثاله، كما كشف لبعضهم الدنيا في صورة جيفة والشيطان في صورة كلب جاثم عليها يدعو إليها. ويختلف أيضاً بما فيه المكاشفة فبعضهم ينكشف له من صفات الله تعالى وجلاله ولبعضهم من أفعاله ولبعضهم من دقائق علوم المعاملة. ويكون لتعين تلك المعاني في كل وقت أسباب خفية لا تحصى وأشدها مناسبة الهمة فإنها إذا كانت مصروفة إلى شيء معين كان ذلك أولى بالانكشاف ولما كانت هذه الأمور لا تتراءى إلا في المرائي الصقيلة وكانت المرآة صدئة فاحتجبت عنها الهداية لا لبخل من جهة المنعم بالهداية بل لخبث متراكم الصدإ على مصب الهداية تسارعت الألسنة إلى إنكار مثل ذلك، إذ الطبع مجبول على إنكار غير الحاضر، ولو كان للجنين عقل لأنكر إمكان وجود الإنسان في متسع الهواء، ولو كان للطفل تمييز ما ربما أنكر ما يزعم العقلاء إدراكه من ملكوت السموات والأرض، وهكذا الإنسان في كل طور يكاد ينكر ما بعده. ومن أنكر طور الولاية لزمه أن ينكر طور النبوة، وقد خلق الخلق أطواراً فلا ينبغي أن ينكر كل واحد ما وراء درجته، نعم لما طلبوا هذا من المجادلة والمباحثة المشوشة ولم يطلبوها من تصفية القلوب عما سوى الله عز وجل فقدوه فأنكروه. ومن لم يكن من أهل المكاشفة فلا أقل من أن يؤمن بالغيب ويصدق به إلى أن يشاهد بالتجربة ففي الخبر "إن العبد إذا قام في الصلاة رفع الله سبحانه الحجاب بينه وبين عبده وواجهه بوجهه وقامت الملائكة من لدن منكبيه إلى الهواء بصلاته ويؤمنون على دعائه - وإن المصلي لينثر عليه البر من عنان السماء إلى مفرق رأسه وينادي مناد: لو علم هذا المناجي ما التفت. وإن أبواب السماء تفتح للمصلين. وإن الله عز وجل يباهي ملائكته بعبده المصلي" ففتح أبواب السماء ومواجهة الله تعالى إياه بوجهه كناية عن الكشف الذي ذكرناه. وفي التوراة مكتوب: يا ابن آدم لا تعجز أن تقوم بين يدي مصلياً باكياً فأنا الله الذي اقتربت من قلبك وبالغيب رأيت نوري، قال: فكنا نرى أن تلك الرقة والبكاء والفتوح الذي يجده المصلي في قلبه من دنو الرب سبحانه من القلب. وإذا لم يكن هذا الدنو هو القرب بالمكان فلا معنى له إلا الدنو بالهداية والرحمة وكشف الحجاب. ويقال إن العبد إذا صلى ركعتين عجب منه عشرة صفوف من الملائكة كل صف منهم عشرة آلاف وباهى الله به مائة ألف ملك. وذلك أن العبد قد جمع في الصلاة بين القيام والقعود والركوع والسجود وقد فرق الله ذلك على أربعين ألف ملك، فالقائمون لا يركعون إلى يوم القيامة والساجدون لا يرفعون إلى يوم القيامة، وهكذا الراكعون والقاعدون، فإن ما رزق تعالى الملائكة من القرب والرتبة لازم مستمر على حال واحد لا يزيد ولا ينقص لذلك أخبر الله عنهم أنهم قالوا "وما منا إلا له مقام معلوم" وفارق الإنسان الملائكة في الترقي من درجة إلى درجة فإنه لا يزال يتقرب إلى الله تعالى فيستفيد مزيد قربه وباب المزيد مسدود على الملائكة عليهم السلام وليس لكل واحد إلا رتبته التي هي وقف عليه. وعبادته التي هو مشغول بها لا ينتقل إلى غيرها ولا يفتر عنها "لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون" ومفتاح مزيد الدرجات هي الصلوات. قال الله عز وجل "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون" فمدحهم بعد الإيمان بصلاة مخصوصة وهي المقرونة بالخشوع. ثم ختم أوصاف المفليحن بالصلاة أيضاً فقال تعالى "والذين هم على صلواتهم يحافظون" ثم قال تعالى في ثمرة تلك الصفات "أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون" فوصفهم بالفلاح أولاً وبوراثة الفردوس آخراً، وما عندي أن هذرمة اللسان مع غفلة القلب تنتهي إلى هذا الحد ولذلك قال الله عز وجل في أضدادهم "ما سلككم في سقر قالوا لم نك من المصلين" فالمصلون هم ورثة الفردوس وهم المشاهدون لنور الله تعالى والمتمتعون بقربه ودنوه من قلوبهم. نسأل الله أن يجعلنا منهم وأن يعيذنا من عقوبة من تزينت أقواله وقبحت أفعاله إنه الكريم المنان القديم الإحسان وصلى الله على كل عبد مصطفى.

حكايات وأخبار في صلاة الخاشعين

رضي الله عنهم

اعلم أن الخشوع ثمرة الإيمان ونتيجة اليقين الحاصل بجلال الله عز وجل ومن رزق ذلك فإنه يكون خاشعاً في الصلاة وفي غير الصلاة بل في خلوته وفي بيت المال عند الحاجة، فإن موجب الخشوع معرفة اطلاع الله تعالى على العبد ومعرفة جلاله ومعرفة تقصير العبد. فمن هذه المعارف يتولد الخشوع وليست مختصة بالصلاة ولذلك روى عن بعضهم أنه لم يرفع رأسه إلى السماء أربعين سنة حياء من الله سبحانه وخشوعاً له، وكان الربيع بن خيثم من شدة غضه لبصره وإطراقه يظن بعض الناس أنه أعمى، وكان يختلف إلى منزل ابن مسعود عشرين سنة فإذا رأته جاريته قالت لابن مسعود: صديقك الأعمى قد جاء، فكان يضحك ابن مسعود من قولها، وكان إذا دق الباب تخرج الجارية إليه فتراه مطرقاً غاضاً بصره، وكان ابن مسعود إذا نظر إليه يقول "وبشر المخبتين" أما والله لو رآك محمد ﷺ لفرح بك - وفي لفظ آخر: لأحبك وفي لفظ آخر: لضحك - ومشى ذات يوم مع ابن مسعود في الحدادين فلما نظر إلى الأكوار تنفخ وغلى النار تلتهب صعق وسقط مغشياً عليه إلى مثل الساعة التي صعق فيها ففاتته خمس صلوات وابن مسعود عند رأسه يقول: هذا والله هو الخوف. وكان الربيع يقول، ما دخلت في صلاة قط فأهمني فيها إلا ما أقول وما يقال لي، وكان عامر بن عبد الله من خاشعي المصلين وكان إذ صلى ربما ضربت ابنته بالدف وتحدث النساء بما يردن في البيت ولم يكن يسمع ذل ولا يعقله، وقيل له ذات يوم هل تحدثك نفسك في الصلاة بشيء? قال: نعم بوقوفي بين يدي الله عز وجل ومنصرفي إحدى الدارين، قيل: فهل تجد شيئاً مما نجد من أمور الدنيا? فقال: لأن تختلف الأسنة في أحب إلي من أن أجد في صلاتي ما تجدون وكان يقول: لو كشف الغطاء ما ازددت يقيناً. وقد كان مسلم بن يسار منهم، وقد نقلنا أنه لم يشعر بسقوط اسطوانة في المسجد وهو في الصلاة. وتأكل طرف من أطراف بعضهم واحتيج فيه إلى القطع فلم يمكن منه فقيل: إنه في الصلاة لا يحس بما يجري عليه؛ فقطع وهو في الصلاة. وقال بعضهم: الصلاة من الآخرة فإذا دخلت فيها خرجت من الدنيا وقيل لآخر: هل تحدث نفسك بشيء من الدنيا في الصلاة? فقال: لا في الصلاة ولا في غيرها. وسئل بعضهم هل تذكر في الصلاة شيئاً? فقال: وهل شيء أحب إلي من الصلاة فأذكره فيها? وكان أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: من فقه الرجل أن يبدأ بحاجته قبل دخوله في الصلاة ليدخل في الصلاة وقلبه فارغ. وكان بعضهم يخفف الصلاة خيفة الوسواس، وروي أن عمار بن ياسر صلى صلاة فأخفها فقيل له: خففت يا أبا اليقظان فقال: هل رأيتموني نقصت من حدودها شيئاً? قالوا: لا: قال: إني بادرت سهو الشيطان، إن رسول الله ﷺ قال "إن العبد ليصلي الصلاة لا يكتب له نصفها. ولا ثلثها ولا ربعها ولا خمسها ولا سدسها ولا عشرها" وكان يقول "إنما يكتب للعبد من صلاته ما عقل منها" ويقال إن طلحة والزبير وطائفة من الصحابة رضي الله عنهم كانوا أخف الناس صلاة، وقالوا نبادر بها وسوسة الشيطان. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال على المنبر: إن الرجل ليشيب عارضاه في الإسلام وما أكمل لله تعالى صلاة، قيل: وكيف ذلك? قال: لا يتم خشوعها وتواضعها وإقباله على الله عز وجل فيها: وسئل أبو العالية عن قوله تعالى "الذين هم عن صلاتهم ساهون" قال هو الذي يسهو في صلاته فلا يدري على كم ينصرف أعلى شفع أم على وتر? وقال الحسن: هو الذي يسهو عن وقت الصلاة حتى تخرج وقال بعضهم: هو الذي إن صلاها في أول الوقت لم يفرح وإن أخرها عن الوقت لم يحزن فلا يرى تعجيلها خيراً ولا تأخيرها إثماً، واعلم أن الصلاة قد يحسب بعضها ويكتب بعضها دون بعض كما دلت الأخبار عليه وإن كان الفقيه يقول: إن الصلاة في الصحة لا تتجزأ، ولكن ذلك له معنى آخر ذكرناه وهذا المعنى دلت عليه الأحاديث إذ ورد جبر نقصان الفرائض بالنوافل وفي الخبر "قال عيسى عليه السلام: يقول الله تعالى بالفرائض نجا مني عبدي وبالنوافل تقرب إلى عبدي" وقال النبي ﷺ "قال الله تعالى لا ينجو مني عبدي إلا بأداء ما افترضته عليه" وروي أن النبي ﷺ، صلى صلاة فترك من قراءتها آية فلما انفتل قال ماذا قرأت فسكت القوم؛ فسأل أبي بن كعب رضي الله عنه فقال: قرأت سورة كذا وتركت آية كذا فما ندري أنسخت أم رفعت?

فقال: أنت لها يا أبي، ثم أقبل على الآخرين فقال: ما بال أقوام يحضرون صلاتهم ويتمون صفوفهم ونبيهم بين أيديهم لا يدرون ما يتلو عليهم من كتاب ربهم? ألا إن بني إسرائيل كذا فعلوا فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن قل لقومك تحضروني أبدانكم وتعطوني ألسنتكم وتغيبون عني بقلوبكم باطل ما تذهبون إليه" وهذا يدل على أن استماع ما يقرأ الإمام وفهمه بدل عن قراءة السورة بنفسه: وقال بعضهم إن الرجل يسجد السجدة عنده أنه تقرب بها إلى الله عز وجل ولو قسمت ذنوبه في سجدته على أهل مدينته لهلكوا: قيل وكيف يكون ذلك? قال. يكون ساجداً عند الله وقلبه مصغ إلى هوى ومشاهد لباطل قد استولى عليه. فهذه صفة الخاشعين. فدلت هذه الحكايات والأخبار مع ما سبق على أن الأصل في الصلاة الخشوع وحضور القلب وأن مجرد الحركات مع الغفلة قليل الجدوى في المعاد والله أعلم. نسأل الله حسن التوفيق

======

الباب الرابع

في الإمامة والقدوة

وعلى الإمام وظائف قبل الصلاة

وفي القراءة وفي أركان الصلاة وبعد السلام

أما الوظائف التي هي قبل الصلاة فستة أولها أن لا يتقدم للإمامة على قوم يكرهونه فإن اختلفوا كان النظر إلى الأكثرين، فإن كان الأقلون هم أهل الخير والدين فالنظر إليهم أولى وفي الحديث "ثلاثة لا تجاوز صلاتهم رءوسهم: العبد الآبق وامرأة زوجها ساخط عليها وإمام أم قوماً وهم له كارهون" وكما ينهى عن تقدمه مع كراهيتهم فكذلك ينهى عن التقدمة إن كان وراءه من هو أفقه منه إلا إذا امتنع من هو أولى منه فله التقدم، فإن لم يكن شيء من ذلك فليتقدم مهما قدم وعرف من نفسه القيام بشروط الإمامة. ويكره عند ذلك المدافعة فقد قيل إن قوماً تدافعوا الإمامة بعد إقامة الصلاة فخسف بهم. وما روى من مدافعة الإمامة بين الصحابة رضي الله عنهم فسببه إيثارهم من رأوه أنه أولى بذلك أو أخوفهم على أنفسهم السهو وخطر ضمان صلاتهم، فإن الأئمة ضمناء وكأن من لم يتعود ذلك ربما يشتغل قلبه ويتشوش عليه الإخلاص في صلاته حياء من المقتدين لاسيما في جهره بالقراءة، فكان لاحتراز من احترز أسباب من هذا الجنس. الثانية إذا خير المرء بين الأذان والإمامة فينبغي أن يختار الإمامة فإن لكل واحد منهما فضلاً ولكن الجمع مكروه بل ينبغي أن يكون الإمام غير المؤذن، وإذا تعذر الجمع فالإمامة أولى. وقال قائلون: الأذان أولى لما نقلناه من فضيلة الأذان ولقوله ﷺ "الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن" فقالوا، فيها خطر الضمان. وقال ﷺ "الإمام أمين فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد فاسجدوا" وفي الحديث "فإن أتم فله ولهم وإن نقص فعليه لا عليهم" ولأنه ﷺ قال "اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين" والمغفرة أولى بالطلب فإن الرشد يراد للمغفرة وفي الخبر "من أم في مسجد سبع سنين وجبت له الجنة بلا حساب ومن أذن أربعين عاماً دخل الجنة بغير حساب" ولذلك نقل عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتدافعون الإمامة: والصحيح أن الإمامة أفضل إذ واظب عليها رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما والأئمة بعدهم. نعم فيها خطر الضمان والفضيلة مع الخطر كما أن رتبة الإمارة أفضل لقوله ﷺ "ليوم من سلطان عادل أفضل من عبادة سبعين سنة" ولكن فيها خطر ولذلك وجب تقديم الأفضل والأفقه فقد قال ﷺ "أئمتكم شفعاؤكم - أو قال وفدكم إلى الله - فإن أردتم أن تزكوا صلاتكم فقدموا خياركم" وقال بعض السلف. ليس بعد الأنبياء أفضل من العلماء ولا بعد العلماء أفضل من الأئمة المصلين لأن هؤلاء قاموا بين يدي الله عز وجل وبين خلقه هذا بالنبوة وهذا بالعلم وهذا بعماد الدين وهو الصلاة. وبهذه الحجة احتج الصحابة في تقديم أبي بكر الصديق رضي الله عنه وعنهم للخلافة، إذ قالوا نظرنا فإذا الصلاة عماد الدين فاخترنا لدنيانا من رضيه رسول الله ﷺ لديننا وما قدموا بلالاً احتجاجاً بأنه رضيه للأذان وما روي "أنه قال له رجل: يا رسول الله دلني على عمل أدخل به الجنة قال: كن مؤذناً، قال لا أستطيع، قال: كن إماماً، قال: لا أستطيع، فقال: صل بإزاء الإمام" فلعله ظن أنه لا يرضى بإمامته إذ الأذان إليه والإمامة إلى الجماعة وتقديمهم له. ثم بعد ذلك توهم أنه ربما يقدر عليها الثالثة أن يراعي الإمام أوقات الصلوات فيصلي في أوائلها ليدرك رضوان الله سبحانه ففضل أول الوقت على آخره كفضل الآخرة على الدنيا هكذا روي عن رسول الله ﷺ وفي الحديث "إن العبد ليصلي الصلاة في آخر وقتها ولم تفته، ولما فاته من أول وقتها خير لهمن الدنيا وما فيها" ولا ينبغي أن يؤخر الصلاة لانتظار كثرة الجماعة بل عليهم المبادرة لحيازة فضيلة أول الوقت فهي أفضل من كثرة الجماعة ومن تطويل السورة. وقد قيل كانوا إذا حضر اثنان في الجماعة لم ينتظروا الثالث، وإذا حضر أربعة في الجنازة لم ينتظروا الخامس "وقد تأخر رسول الله ﷺ عن صلاة الفجر وكانوا في سفر وإنما تأخر للطهارة فلم ينتظر وقدم عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم حتى فاتت رسول الله ﷺ ركعة فقام يقضيها. قال: فأشفقنا من ذلك، فقال رسول الله ﷺ "قد أحسنتم هكذا فافعلوا" وقد تأخر في صلاة الظهر فقدموا أبا بكر رضي الله عنه حتى جاء رسول الله ﷺ وهو في الصلاة فقام إلى جانبه" وليس على الإمام انتظار المؤذن وإنما على المؤذن انتظار الإمام للإقامة فإذا حضر فلا ينتظر غيره الرابعة أن يؤم مخلصاً لله عز وجل ومؤدياً أمانة الله تعالى في طهارته وجميع شروط صلاته.

أما الإخلاص فبأن لا يأخذ عليها أجرة فقد أمر رسول الله ﷺ عثمان بن أبي العاص الثقفي وقال "اتخذ مؤذناً لا يأخذ على الأذان أجراً" فالأذان طريق إلى الصلاة فهي أولى بأن لا يؤخذ عليها أجر، فإن أخذ رزقاً من مسجد قد وقف على من يقوم بإمامته أو من السلطان أو آحاد الناس فلا يحكم بتحريمه ولكنه مكروه. والكراهية في الفرائض أشد منها في التراويح "وتكون في أجرة له على مداومته على حضور الموضع ومراقبة مصالح المسجد في إقامة الجماعة لا على نفس الصلاة. وأما الأمانة فهي الطهارة باطناً عن الفسق والكبائر والإصرار على الصغائر فالمترشح للإمامة ينبغي أن يحترز عن ذلك بجهده فإنه كالوفد والشفيع للقوم فينبغي أن يكون خير القوم وكذا الطهارة ظاهراً عن الحدث والخبث فإنه لا يطلع عليه سواه، فإن تذكر في أثناء صلاته حدثاً أو خرج منه ريح فلا ينبغي أن يستحي بل يأخذ بيد من يقرب منه ويستخلفه "فقد ذكر رسول الله ﷺ الجنابة في أثناء الصلاة فاستخلف واغتسل ثم رجع ودخل في الصلاة" وقال سفيان: صل خلف كل بر وفاجر إلا مدمن خمر أو معلن بالفسوق أو عاق لوالديه أو صاحب بدعة أو عبد آبق الخامسة أن لا يكبر حتى تستوي الصفوف فليلتفت يميناً وشمالاً فإن رأى خللاً أمر بالتسوية. فيل كانوا يتحاذون بالمناكب ويتضامون بالكعاب. ولا يكبر حتى يفرغ المؤذن من الإقامة. والمؤذن يؤخر الإقامة عن الأذان بقدر استعداد الناس في الصلاة. ففي الخبر "ليتمهل المؤذن بين الأذان والإقامة بقدر ما يفرغ الآكل من طعامه والمعتصر من اعتصاره" وذلك لأنه نهى عن مدافعة الأخبثين وأمر بتقديم العشاء على العشاء طلباً لفراغ القلب السادسة أن يرفع صوته بتكبيرة الإحرام وسائر التكبيرات ولا يرفع المأموم صوته إلا بقدر ما يسمع نفسه. وينوي الإمام لينال الفضل فإن لم ينو صحت صلاته وصلاة القوة إذا نووا الاقتداء. ونالوا فضل القدوة وهو لا ينال فضل الإمامة، وليؤخر المأموم تكبيره عن تكبيرة الإمام فيبتدىء بعد فراغه والله أعلم. وأما وظائف القراءة فثلاثة أولها أن يسر بدعاء الاستفتاح والتعوذ كالمنفرد ويجهر بالفاتحة والسورة بعدها في جميع الصبح وأولي العشاء والمغرب وكذلك المنفرد. ويجهر بقوله "آمين" في الصلاة الجهرية وكذا المأموم ويقرن المأمون تأمينه بتأمين الإمام معاً لا تعقيباً ويجهر ب "بسم الله الرحمن الرحيم" والأخبار فيه متعارضة واختيار الشافعي رضي الله عنه الجهر الثانية أن يكون للإمام في القيام ثلاث سكتات هكذا رواه سمرة بن جندب وعمران بن الحصين عن رسول الله ﷺ؛ أولاهن: إذا كبر وهي الطولى منهن مقدار ما يقرأ من خلفه فاتحة الكتاب وذلك وقت قراءته لدعاء الاستفتاح فإنه لم يسكت يفوتهم الاستماع فيكون عليه ما نقص من صلاتهم، فإن لم يقرءوا الفاتحة في سكوته واشتغلوا بغيرها فذلك علية لا عليهم. السكنة الثانية: إذا فرغ من الفاتحة ليتم من يقرأ الفاتحة في السكتة الأولى فاتحته وهي كنصف السكتة الأولى. السكنة الثالثة: إذا فرغ من السورة قبل أن يركع وهي أخفها وذلك بقدر ما تنفصل القراءة عن التكبير فقد نهى عن الوصل فيه. ولا يقرأ المأموم وراء الإمام إلا الفاتحة فإن لم يسكت الإمام قرأ فاتحة الكتاب معه والمقصر هو الإمام. وإن لم يسمع المأموم في الجهرية لبعده أو كان في السرية فلابأس بقراءة السورة الوظيفة الثالثة أن يقرأ في الصبح سورتين من المثاني مادون المائة فإن الإطالة في قراءة الفجر والتغليس بها سنة، ولا يضره الخروج منها مع الإسفار، ولابأس بأن يقرأ في الثانية بأواخر السور نحو الثلاثين أو العشرين إلى أن يختمها لأن ذلك لا يتكرر على الأسماع كثيراً فيكون أبلغ في الوعظ وأدعى إلى التفكر، وإنما كره بعض العلماء قراءة بعض أول السور وقطعها. وقد روي أنه ﷺ قرأ بعض سورة يونس فلما انتهى إلى ذكر موسى وفرعون قطع فركع وروي أنه ﷺ قرأ في الفجر آية من البقرة وهي قوله "قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا" وفي الثانية "ربنا آمنا بما أنزلت" وسمع بلالاً يقرأ من ههنا وهنا؛ فسأله عن ذلك فقال: أخلط الطيب بالطيب، فقال: أحسنت ويقرأ في الظهر بطوال المفصل إلى ثلاثين آية وفي العصر بنصف ذلك وفي المغرب بأواخر المفصل. وآخر صلاة صلاها رسول الله ﷺ: المغرب؛ قرأ فيها سورة المرسلات ما صلى بعدها حتى قبض. وبالجملة التخفيف أولى لاسيما إذا كثير الجمع قال ﷺ في هذه الرخصة "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة وإذا صلى لنفسه فليطول ما شاء" وقد كان معاذ بن جبل يصلي بقوم العشاء فقرأ البقرة فخرج رجل م الصلاة وأتم لنفسه، فقالوا: نافق الرجل، فتشاكيا إلى رسول الله ﷺ فزجر رسول الله ﷺ معاذاً فقال "أفتان أنت يا معاذ اقرأ سورة سبح والسماء والطارق والشمس وضحاها" وأما وظائف الأركان فثلاثة؛ أولها: أن يخفف الركوع والسجود فلا يزيد في التسبيحات على ثلاث فقد روي عن أنس أنه قال "ما رأيت أخف صلاة من رسول الله ﷺ في تمام" نعم روي أيضاً عن أنس بن مالك لما صلى خلف عمر بن عبد العزيز وكان أميراً بالمدينة قال "ما صليت وراء أحد أشبه صلاة بصلاة رسول الله ﷺ من هذا الشاب قال: وكنا نسبح وراءه عشراً عشراً" وروي مجملاً أنهم قالوا "كنا نسبح وراء رسول الله ﷺ في الركوع والسجود عشراً عشراً" وذلك حسن ولكن الثلاث إذا كثر الجمع أحسن. فإذا لم يحضر إلا المتجردون للدين فلابأس بالعشر، هذا وجه الجمع بين الروايات. وينبغي أن يقول الإمام عند رفع رأسه من الركوع "سمع الله لمن حمده" الثانية: في المأموم؛ ينبغي أن لا يساوي الإمام في الركوع والسجود بل يتأخر فلا يهوي للسجود إلى إذا وصلت جبهة الإمام إلى المسجد، هكذا كان اقتداء الصحابة برسول الله ﷺ ولا يهوي للركوع حتى يستوي الإمام راكعاً. وقد قيل إن الناس يخرجون من الصلاة على ثلاثة أقسام؛ طائفة بخمس وعشرين صلاة وهم الذين يكبرون ويركعون بعد الإمام: وطائفة بصلاة واحدة وهم الذين يساوونه، وطائفة بلا صلاة وهم الذين يسابقون الإمام. وقد اختلف في أن الإمام في الركوع هل ينتظر لحوق من يدخل لينال فضل الجماعة وإدراكهم لتلك الركعة? ولعل الأولى أن ذلك مع الإخلاص لابأس به إذا لم يظهر تفاوت ظاهر للحاضرين فإن حقهم مرعي في ترك التطويل عليهم. الثالثة: لا يزيد في دعاء التشهد على مقدار التشهد حذراً من التطويل ولا يخص نفسه في الدعاء بل يأتي بصيغة الجمع فيقول "اللهم اغفر لنا" ولا يقول "اغفر لي" فقد كره للإمام أن يخص نفسه ولابأس أن يستعيذ في التشهد بالكلمات الخمس المأثورة عن رسول الله ﷺ فيقول "نعوذ بك من عذاب جهنم وعذاب القبر ونعوذ بك من فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين" وقيل سمي مسيحاً لأنه يمسح الأرض بطولها وقيل لأنه ممسوح العين أي مطموسها، وأما وظائف التحلل فثلاثة، أولها: أن ينوي بالتسليمتين السلام على القوم والملائكة. الثانية: أن يثبت عقيب السلام كذلك فعل رسول الله ﷺ وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما فيصلي النافلة في موضع آخر. فإن كان خلفه نسوة لم يقم حتى ينصرفن وفي الخبر المشهور "أنه ﷺ لم يكن يقعد إلا قدر قوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام تبارك تيا ذا الجلال والإكرام" الثالثة: إذا وثبفينبغي أن يقبل بوجهه على الناس ويكره للمأموم القيام قبل انتقال الإمام. فقد روي عن طلحة والزبير رضي الله عنهما أنهما صليا خلف إمام فلما سلما قالا للإمام ما أحسن صلاتك وأتمها إلا شيئاً واحداً أنك لما سلمت لم تنفتل بوجهك. ثم قالا للناس: ما أحسن صلاتكم إلا أنكم انصرفتم قبل أن ينفتل إمامكم. ثم ينصرف الإمام حيث شاء من يمينه وشماله واليمين أحب. هذه وظيفة الصلوات، وأما الصبح فزيد فيها القنوت فيقول الإمام "اللهم اهدنا" ولا يقول اللهم اهدني ويؤمن المأمون فإذا انتهى إلى قوله "إنك تقضي ولا يقضى عليك" فلا يليق به التأمين وهو ثناء، فيقرأ معه فيقول مثل قوله أو يقول "بلى وأنا على ذلك من الشاهدين" أو "صدقت وبررت" وما أشبه ذلك. وقد روي حديث في رفع اليدين في القنوت فإذا صح الحديث استحب ذلك وإن كان على خلاف الدعوات في آخر التشهد إذ لا يرفع بسببها اليد بل التعويل على التوقيف وبينهما أيضاً فرق أن للأيدي وظيفة في التشهد وهو الوضوع على الفخذين على هيئة مخصوصة ولا وظيفة لهما ههنا، فلا يبعد أن يكون رفع اليدين هو الوظيفة في القنوت، فإنه لائق بالدعاء والله أعلم. فهذه جمل آداب القدوة والإمامة والله الموفق.

========

الباب الخامس

فضل الجمعة وآدابها وسننها وشروطها

فضيلة الجمعة

إعلم أن هذا يوم عظيم عظم الله به الإسلام وخصص به المسلمين. قال الله تعالى "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" فحرم الاشتغال بأمور الدنيا وبكل صارف عن السعي إلى الجمعة. وقال ﷺ "إن الله عز وجل فرض عليكم الجمعة في يومي هذا في مقامي هذا" وقال ﷺ "من ترك الجمعة ثلاثاً من غير عذر طبع الله على قلبه" وفي لفظ آخر "فقد نبذ الإسلام وراء ظهره" واختلف رجل إلى ابن عباس يسأله عن رجل مات لم يكن يشهد جمعة ولا جماعة، فقال: في النار، فلم يزل يتردد إليه شهراً يسأله عن ذلك وهو يقول في النار وفي الخبر: إن أهل الكتابين أعطوا يوم الجمعة فاختلفوا فيه فصرفوا عنه وهدانا الله تعالى له وأخره لهذه الأمة وجعله عيداً لهم فهم أولى الناس به سبقاً وأهل الكتابين لهم تبع. وفي حديث أنس عن النبي ﷺ أنه قال "أتاني جبريل عليه السلام في كفه مرآة بيضاء وقال: هذه الجمعة يفرضها عليك ربك لتكون لك عيداً ولأمتك من بعدك. قلت: فما لنا فيها? قال: لكم فيها خير ساعة من دعا فيها بخير قسم له أعطاه الله سبحانه إياه أو ليس له قسم ذخر له ما هو أعظم منه؛ أو تعوذ من شر مكتوب عليه إلا أعاذه الله عز وجل من أعظم منه وهو سيد الأيام عندنا ونحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد، قلت: ولم? قال: إن ربك عز وجل اتخذ في الجنة وادياً أفيح من المسك أبيض فإذا كان يوم الجمعة نزل تعالى من عليين على كرسيه فيتجلى لهم حتى ينظروا إلى وجهه الكريم" وقال ﷺ "خير يوم طلعت عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم عليه السلام وفيه أدخل الجنة وفيه أهبط إلى الأرض وفيه تيب عليه وفيه مات وفيه تقوم الساعة، وهو عند الله يوم المزيد كذلك تسميه الملائكة يوم السماء وهو يوم النظر إلى الله تعالى في الجنة" وفي الخبر "إن الله عز وجل في كل جمعة ستمائة ألف عتيق من النار" وفي حديث أنس رضي الله عنه أنه ﷺ قال "إذا سلمت الجمعة سلمت الأيام" وقال ﷺ "إن الجحيم تسعر في كل يوم قبل الزوال عند استواء الشمس في كبد السماء فلا تصلوا في هذه الساعة إلا يوم الجمعة فإنه صلاة كله وإن جهنم لا تسعر فيه" وقال كعب: إن الله عز وجل فضل من البلدان مكة ومن الشهور رمضان ومن الأيام الجمعة ومن الليالي ليلة القدر ويقال إن الطير والهوام يلقى بعضها بعضاً في يوم الجمعة فتقول: سلام سلام ويوم صالح وقال ﷺ "من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة كتب الله له أجر شهيد ووقي فتنة القبر"

بيان شروط الجمعة

اعلم أنها تشارك جميع الصلوات في الشروط وتتميز عنها بستة شروط الأول الوقت: فإن وقعت تسليمة الإمام في وقت العصر فاتت الجمعة وعليه أن يتمها ظهراً أربعاً، والمسبوق إذا وقعت ركعته الأخيرة خارجاً من الوقت ففيه خلاف الثاني المكان: فلا تصح في الصحاري والبراري وبين الخيام بل لابد من بقعة جامعة لأبنية لا تنقل بجمع أربعين ممن تلزمهم الحلة والقرية فيه كالبلد، ولا يشترط فيه حضور السلطان ولا إذنه ولالكن الأحب استئذانه الثالث العدد: فلا تنعقد بأقل من أربعين ذكوراً مكلفين أحراراً مقيمين لا يظعنون عنها شتاء ولا صيفاً، فإن انفضوا حتى نقص العدد إما في الخطبة أو في الصلاة لم تصح الجمعة بل لابد منهم من الأول إلى الآخر الرابع الجماعة: فلو صلى أربعون في قرية أو في بلدن متفرقين لم تصح جمعتهم. ولكن المسبوق إذا أدرك الركعة الثانية جاز له الانفراد بالركعة الثانية. وإن لم يدرك ركوع الركعة الثانية اقتدى ونوى الظهر وإذا سلم الإمام تممها ظهراً الخامس أن لا تكون الجمعة مسبوقة بأخرى في ذلك البلد. فإن تعذر اجتماعهم في جامع واحد جاز في جامعين وثلاثة وأربعة بقدر الحاجة. وإن لم تكن حاجة فالصحيح الجمعة التي يقع بها التحريم أولاً. وإذا تحققت الحاجة فالأفضل الصلاة خلف الأفضل من الإمامين، فإن تساويا فالمسجد الأقدم، فإن تساويا ففي الأقرب، ولكثرة الناس أيضاً فضل يراعى السادس الخطبتان: فهما فريضتان والقيام فيهما فريضة والجلسة بينهما فريضة. وفي الأولى أربع فرائض: التحميد وأقله الحمد لله. والثانية: الصلاة على النبي ﷺ والثالثة: الوصية بتقوى الله سبحانه وتعالى والرابعة: قراءة القرآن. وكذا فرائض الثانية أربعة إلا أنه يجب فيها الدعاء بدل القراءة. واستماع الخطبتين واجب من الأربعين. وأما السنن: فإذا زالت الشمس وأذن المؤذن وجلس الإمام على المنبر انقطعت الصلاة سوى التحية، والكلام لا ينقطع إلا بافتتاح الخطبة. ويسلم الخطيب على الناس إذا أقبل عليهم بوجهه ويدون عليه السلام فإذا فرغ المؤذن قام مقبلاً على الناس بوجهه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً ويشغل يديه بقائم السيف أو العنزة والمنبر كي لا يعبث بهما أو يضع إحداهما على الأخرى. ويخطب خطبتين بينهما جلسة خفيفة. ولا يستعمل غريب اللغة ولا يمطط ولا يتغنى. وتكون الخطبة قصيرة بليغة جامعة. ويستحب أن يقرأ آية في الثانية أيضاً. ولا يسلم من دخل والخطيب يخطب فإن سلم لم يستحق جواباً، والإشارة بالجواب حسن، ولا يشمت العاطسين أيضاً. هذه شروط الصحة. فأما شروط الوجوب: فلا تجب الجمعة إلا على ذكر بالغ عاقل مسلم حر مقيم في قرية تشتمل على أربعين جامعين لهذه الصفات، أو في قرية من سواد البلد يبلغها نداء البلد من طرف بابها والأصوات ساكنة والمؤذن رفيع الصوت لقوله تعالى "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع" ويرخص لهؤلاء في ترك الجمعة لعذر المطر والوحل والفزع والمرض والتمريض إذا لم يكن للمريض قيم غيره. ثم يستحب لهم - أعني أصحاب الأعذار - تأخير الظهر إلى أن يفرغ الناس من الجمعة، فإن حضر الجمعة مريض أو مسافر أو عبد أو امرأة صحت جمعتهم وأجزأت عن الظهر والله أعلم

بيان آداب الجمعة على ترتيب العادة

وهي عشر جمل

الأول أن يستعد لها يوم الخميس عزماً عليها واستقبالاً لفضلها فيشتغل بالدعاء والاستغفار والتسبيح بعد العصر يوم الخميس لأنها ساعة قوبلت بالساعة المبهمة في يوم الجمعة. قال بعض السلف: إن لله عز وجل فضلاً سوى أرزاق العباد لا يعطى من ذلك الفضل إلا من سأله عشية الخميس ويوم الجمعة، ويغسل في هذا اليوم ثيابه ويبيضها ويعد الطيب إن لم يكن عنده، ويفرغ قلبه من الأشغال التي تمنعه من البكور إلى الجمعة، وينوي في هذه الليلة صوم يوم الجمعة فإن له فضلاً وليكن مضموماً إلى يوم الخميس أو السبت - لا مفرداً فإنه مكروه - ويشتغل بإحياء هذه الليلة بالصلاة وختم القرآن فلها فضل كثير وينسحب عليها فضل يوم الجمعة. ويجامع أهله في هذه الليلة أو في يوم الجمعة فقد استحب ذلك قوم حملوا عليه قوله ﷺ "رحم الله من بكر وابتكر وغسل واغتسل" وهو حمل الأهل على الغسل. وقيل معناه غسل ثيابه - فروي بالتخفيف - واغتسل لجسده. وبهذا تتم آداب الاستقبال ويخرج من زمرة الغافلين الذين إذا أصبحوا قالوا ما هذا اليوم? قال بعض السلف: أوفى الناس نصيباً من الجمعة من انتظرها ورعاها من الأمس، وأخفهم نصيباً من إذا أصبح يقول: أيش اليوم? وكان بعضهم يبيت ليلة الجمعة في الجامع لأجلها الثاني إذا أصبح ابتدأ بالغسل بعد طلوع الفجر، وإن كان لا يبكر فأقر به إلى الرواح أحب ليكون أقرب عهداً بالنظافة، فالغسل مستحب استحباباً مؤكداً، وذهب بعض العلماء إلى وجوبه قال ﷺ "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" والمشهور من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما "من أتى الجمعة فلغتسل" وقال ﷺ "من شهد الجمعة من الرجال والنساء فلغتسل" وكان أهل المدينة إذا تساب المتسابان يقول أحدهما للآخر: لأنت أشر ممن لا يغتسل يوم الجمعة. وقال عمر لعثمان رضي الله عنهما لما دخل وهو يخطب "أهذه الساعة? - منكراً عليه ترك البكور - فقال: ما زدت بعد أن سمعت الأذان على أن توضأت وخرجت فقال: والوضوء بوضوء عثمان رضي الله تعالى عنه وبما روي أنه ﷺ قال "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" ومن اغتسل للجنابة فليفض الماء على بدنه مرة أخرى على نية غسل الجمعة، فإن اكتفى بغسل واحد أجزأه وحصل له الفضل إذا نوى كليهما ودخل غسل الجمعة في غسل الجنابة. وقد دخل بعض الصحابة على ولده وقد اغتسل فقال له: أللجمعة? فقال: بل عن الجنابة، فقال: أعد غسلاً ثانياً، وروى الحديث في غسل الجمعة على كل محتلم.

وإنما أمره به لأنه لم يكن نواه. وكان لا يبعد أن يقال المقصود النظافة وقد حصلت دون النية، ولكن هذا ينقدح في الوضوء أيضاً وقد جعل في الشرع قربة فلا بد من طلب فضلها. ومن اغتسل ثم أحدث توضأ ولم يبطل غسله والأحب أن يحترز عن ذلك الثالثة الزينة، وهي مستحبة في هذا اليوم وهي ثلاثة: الكسوة والنظافة وتطييب الرائحة. أما النظافة فبالسواك وحلق الشعر وقلم الظفر وقص الشارب وسائر ما سبق في كتاب الطهارة. قال ابن مسعود: من قلم أظفاره يوم الجمعة أخرج الله عز وجل منه داء وأدخل فيه شفاء، فإن كان قد دخل الحمام في الخميس أو الأربعاء فقد حصل المقصود.فليتطيب في هذا اليوم بأطيب طيب عنده ليغلب بها الروائح الكريهة ويوصل بها الروح والرائحة إلى مشام الحاضرين في جواره "وأحب طيب الرجا ما ظهر ريحه وخفي لونه وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه" وروي ذلك في الأثر. وقال الشافعي رضي الله عنه: من نظف ثوبه قل همه ومن طاب ريحه زاد عقله. وأما الكسوة فأحبها البياض من الثياب - إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض - ولا يلبس ما فيه شهرة. ولبس السواد ليس من السنة ولا فيه فضل بل كره جماعة النظر إليه لأنه بدعة محدثة بعد رسول الله ﷺ والعمامة مستحبة في هذا اليوم. وروى واثلة بن الأسقع أن رسول الله ﷺ "قال إن الله وملائكته يصلون على أصحاب العمائم يوم الجمعة" فإن أكربه الحر فلا بأس بنزعها قبل الصلاة وبعدها ولكن لا ينزع في وقت السعي من المنزل إلى الجمعة ولا في وقت الصلاة ولا عند صعود الإمام المنبر في خطبته الرابع البكور إلى الجامع: ويستحب أن يقصد الجامع من فرسخين وثلاث وليبكر ويدخل وقت البكور بطلوع الفجر وفضل البكور عظيم. وينبغي أن يكون في سعيه إلى الجمعة خاشعاً متواضعاً ناوياً للاعتكاف في المسجد إلى وقت الصلاة قاصداً للمبادرة إلى جواب نداء الله عز وجل إلى الجمعة إياه. والمسارعة إلى مغفرته ورضوانه وقد قال ﷺ "من راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما أهدى دجاجة ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما أهدى بيضة فإذا خرج الإمام طويت الصحف ورفعت الأقلام واجتمعت الملائكة عند المنبر يستمعون الذكر فمن جاء بعد ذلك فأنما جاء لحق الصلاة ليس له من الفضل شيء" والساعة الأولى إلى طلوع الشمس؛ والثانية إلى ارتفاعها، والثالثة إلى انبساطها حين ترمض الأقدام، والرابعة والخامسة بعد الضحى الأعلى إلى الزوال وفضلها قليل؛ ووقت الزوال حق الصلاة ولا فضل فيه. وقال ﷺ "ثلاث لو يعلم الناس ما فيهن لركضوا ركض الإبل في طلبهن؛ الأذان والصف الأول والغدو إلى الجمعة" وقال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: أفضلهن الغدو إلى الجمعة. وفي الخبر "إذا كان يوم الجمعة قعدت الملائكة على أبواب المساجد بأيديهم صحف من فضة وأقلام من ذهب يكتبون الأول فالأول على مراتبهم" وجاء في الخبر "إن الملائكة يتفقدون الرجل إذا تأخر عن وقته يوم الجمعة فيسأل بعضهم بعضاً عنه: ما فعل فلان وما الذي أخره عن وقته? فيقولون: اللهم إن كان أخره فقر فأغنه وإن كان أخره مرض فاشفه وإن كان أخره شغل ففرغه لعبادتك وإن كان أخره لهو فأقبل بقلبه إلى طاعتك" وكان يرى في القرن الأول سحراً وبعد الفجر الطرقات مملوءة من الناس يمشون في السرج ويزدحمون بها إلى الجامع كأيام العيد حتى اندرس ذلك فقيل: أول بدعة حدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجامع. وكيف لا يستحي المسلمون من اليهود والنصارى وهم يبكرون إلى البيع والكنائس يوم السبت والأحد? وطلاب الدنيا كيف يبكرون إلى رحاب الأسواق للبيع والشراء والربح فلم لا يسابقهم طلاب الآخرة? ويقال: إن الناس يكونون في قربهم عند النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى على قدر بكورهم إلى الجمعة. ودخل ابن مسعود رضي الله عنه بكرة الجامع فرأى ثلاثة نفر قد سبقوه بالبكور فاغتم لذلك وجعل يقول في نفسه معاتباً لها رابع أربعة: وما رابع أربعة من البكور ببعيد الخامس في هيئة الدخول: ينبغي أن لا يتخطى رقاب الناس ولا يمر بين أيديهم والبكور يسهل ذلك عليه فقد ورد وعيد شديد في تخطي الرقاب وهو أنه يجعل جسراً يوم القيام يتخطاه الناس" وروى ابن جريج مرسلاً "أن رسول الله ﷺ بينما هو يخطب يوم الجمعة إذ رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس حتى تقدم فجلس فلما قضى النبي ﷺ عارض الرجل حتى لقيه فقال: يا فلان ما منعك أن تجمع اليوم معنا? قال: يا نبي الله قد جمعت معكم: فقال النبي ﷺ" ألم نرك تتخطى رقاب الناس" أشار به إلى أنه أحبط عمله. وفي حديث مسند أنه قال "ما منعك أن تصلي معنا? قال: أو لم ترني يا رسول الله، فقال ﷺ؛ رأيتك تأنيت وذيت" أي تأخرت عن البكور وآذيت الحضور. ومهما كان الصف الأول متروكاً خالياً فله أن يتخطى رقاب الناس لأنهم ضيعوا حقهم وتركوا موضع الفضيلة. قال الحسن: تخطوا رقاب الناس الذين يقعدون على أبواب الجوامع يوم الجمعة فإنه لا حرمة لهم. وإذا لم يكن في المسجد إلا من يصلي فينبغي أن لا يسلم لأنه تكليف جواب في غير محله السادس أن لا يمر بين يدي الناس ويجلس حيث هو إلى أقرب أسطوانة أو حائط حتى لا يمرون بين يديه أعني بين يدي المصلي فإن ذلك لا يقطع الصلاة ولكنه منهي عنه قال ﷺ "لأن يقف أربعين عاماً خير له من أن يمر بين يدي المصلي" وقال ﷺ "لأن يكون الرجل رماداً أو رميماً تذروه الرياح خير من أن يمر بين يدي المصلي" وقد روي في حديث آخر في المار والمصلي حيث صلى على الطريق أو قصر في الدفع فقال "لو يعلم المار بين يدي المصلى والمصلي ما عليهما في ذلك لكان أن يقف أربعين سنة خيراً له من أن يمر بين يديه" والأسطوانة والحائط والمصلى المفروش حد للمصلي فمن اجتاز به فينبغي أن يدفعه قال ﷺ "ليدفعه فإن أبى فليدفعه فإن أبى فليقاتله فإنه شيطان" وكان أبو سعيد الخدري رضي الله عنه يدفع من يمر بين يديه حتى يصرعه، فربما تعلق به الرجل فاستعدى عليه عند مروان فيخبره أن النبي ﷺ أمره بذلك. فإن لم يجد أسطوانة فلينصب بين يديه شيئاً طوله قدر ذراع ليكون ذلك علامة لحدة السابع أن يطلب الصف الأول فإن فضله كثير كما رويناه وفي الحديث "من غسل واغتسل وبكر وابتكر ودنا من الإمام واستمع كان ذلك له كفارة لما بين الجمعتين وزيادة ثلاثة أيام" وفي لفظ آخر "غفر الله له إلى الجمعة الأخرى - وقد اشترط في بعضها - ولم يتخط رقاب الناس" ولا يغفل في طلب الصف الأول عن ثلاثة أمور، أولها: أنه إذا كان يرى بقرب الخطيب منكراً يعجز عن تغييره - من لبس حرير من الإمام أو غيره أو صلى في سلاح كثير ثقيل شاغل أو سلاح مذهب أو غير ذلك - مما يجب فيه الإنكار فالتأخر له أسلم وأجمع للهم، فعل ذلك جماعة من العلماء طلباً للسلامة. قيل لبشر بن الحرث: نراك تبكر وتصلي في آخر الصفوف، فقال: إنما يراد قرب القلوب لا قرب الأجساد. وأشار به إلى أن ذلك أقرب لسلامة قلبه. ونظر سفيان الثوري إلى شعيب بن حرب عند المنبر يسمع إلى الخطبة من أبي جعفر المنصور فلما فرغ من الصلاة قال: شغل قلبي قربك من هذا هل أمنت أن تسمع كلاماً يجيب عليك إنكاره فلا تقوم به? ثم ذكر ما أحدثوا من لبس السواد فقال: يا أبا عبد الله أليس في الخبر "أدن واستمع" فقال: ويحج ذاك للخلفاء الراشدين المهديين، فأما هؤلاء فكلما بعدت عنهم ولم تنظر إليهم كان أقرب إلى الله عز وجل. وقال سعيد بن عامر "صليت إلى جنب أبي الدرداء فجعل يتأخر في الصفوف حتى كنا في آخر صف؛ فلما صلينا قلت له: أليس يقال خير الصفوف أولها? قال: نعلم إلا أن هذه الأمة مرحومة منظور إليها من بين الأمم فإن الله تعالى إذا نظر إلى عبد في الصلاة غفر له ولمن وراءه من الناس فإنما تأخرت رجاء أن يغفر لي بواحد منهم ينظر الله إليه. وروى بعض الرواة أنه قال سمعت رسول الله ﷺ قال ذلك، فمن تأخر على هذه النية إيثاراً وإظهاراً لحسن الخلق فلابأس، وعند هذا يقال "الأعمال بالنيات" ثانيها: إن لم تكن مقصورة عند الخطيب مقتطعة عن المسجد للسلاطين فالصف الأول محبوب وإلا فقد كره بعض العلماء دخول المقصورة. كان الحسن وبكر المزني لا يصليان في المقصورة ورأيا أنها قصرت على السلاطين وهي بدعة أحدثت بعد رسول الله ﷺ في المساجد. والمسجد مطلق لجميع الناس وقد اقتطع ذلك على خلافة. وصلى أنس بن مالك وعمران بن حصين في المقصورة ولم يكرها ذلك لطلب القرب. ولعل الكراهية تختص بحالة التخصيص والمنع فأما مجرد المقصورة إذا لم يكن منع فلا يوجد كراهة وثالثها: أن المنبر يقطع بعض الصفوف وإنما الصف الأول الواحد المتصل الذي في فناء المنبر وما على طرفيه مقطوع. وكان الثوري يقول: الصف الأول هو الخارج بين يدي المنبر وهو متجه لأنه متصل ولأن الجالس فيه يقابل الخطيب ويسمع منه. ولا يبعد أن يقال الأقرب إلى القبلة هو الصف الأول ولا يراعى هذا المعنى. وتكره الصلاة في الأسواق والرحاب الخارجة عن المسجد وكان بعض الصحابة يضرب الناس ويقيمهم من الرحاب الثامن أن يقطع الصلاة عند خروج الإمام ويقطع الكلام أيضاً بل يشتغل بجواب المؤذن ثم باستماع الخطبة. وقد جرت عادة بعض العوام بالسجود عند قيام المؤذنين ولم يثبت له أصل في أثر ولا خبر، ولكنه إن وافق سجود تلاوة فلا بأس بها للدعاء لأنه وقت فاضل: ولا يحكم بتحريم هذا السجود فإنه لا سبب لتحريمه، وقد روي عن علي وعثمان رضي الله عنهما أنهما قالا: من استمع وأنصت فله أجران ومن لم يستمع وأنصت فله أجر ومن سمع ولغا فعليه وزران ومن لم يستمع ولغا فعليه وزر واحد. وقال ﷺ "من قال لصاحبه والإمام يخطب أنصت أو مه فقد لغا ومن لغا والإمام يخطب فلا جمعة له" وهذا يدل على أن الإسكات ينبغي أن يكون بإشارة أو رمي حصاة لا بالنطق. وفي حديث أبي ذر "أنه لما سأل أبياً والنبيﷺ يخطب فقال: متى أنزلت هذه السورة? فأومأ إليه أن أسكت: فلما نزل رسول الله ﷺ قال له أبي: اذهب فلا جمعة لك، فشكاه أبو ذر إلى النبي ﷺ فقال: صدق أبي" وإن كان بعيداً من الإمام فلا ينبغي أن يتكلم في العلم وغيره بل يسكت لأن كل ذلك يتسلل ويفضي إلى هنيمة حتى ينتهي إلى المستمعين ولا يجلس في حلقة من يتكلم فمن عجز عن الاستماع بالبعد فلينصت فهو المستحب. وإذا كان تكره الصلاة في وقت خطبة الإمام فالكلام أولى بالكراهية. وقال علي كرم الله وجهه: تكره الصلاة في أربع ساعات؛ بعد الفجر وبعد العصر ونصف النهار والصلاة والإمام يخطب التاسع أن يراعي في قدوة الجمعة ما ذكرناه في غيرها فإذا سمع قراءة الإمام لم يقرأ سوى الفاتحة. فإذا فرغ من الجمعة قرأ "الحمد لله" سبع مرات قبل أن يتكلم "وقل هو الله أحد والمعوذتين" سبعاً سبعاً وروى بعض السلف أن من فعله عصم من الجمعة إلى الجمعة وكان حرزاً له من الشيطان ويستحب أن يقول بعد الجمعة "اللهم يا غني ياحميد يا مبدىء يا معيد يا رحيم يا ودود أغنني بحلالك عن حرامك وبفضلك عمن سواك" يقال من داوم على هذا الدعاء أغناه الله سبحانه عن خلقه ورزقه من حيث لا يحتسب، ثم يصلي بعد الجمعة ست ركعات، فقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أنه ﷺ كان يصلي بعد الجمعة ركعتين" وروى أبو هريرة أربعاً "وروى علي وعبد الله ابن عباس رضي الله عنهم ستاً والكل صحيح في أحوال مختلفة، والأكمل أفضل العاشر أن يلازم المسجد حتى يصلي العصر فإن أقام إلى المغرب فهو الأفضل. يقال من صلى العصر في الجامع كان له ثواب الحج ومن صلى المغرب فله ثواب حجة وعمرة فإن لم يأمن التصبع ودخول الآفة عليه من نظر الخلق إلى اعتكافه أو خاف الخوض فيما لا يعنى فالأفضل أن يرجع إلى بيته ذاكراً الله عز وجل مفكراً في آلائه شاكراً لله تعالى على توفيقه خائفاً من تقصيره مراقباً لقلبه ولسانه إلى غروب الشمس حتى لا تفوته الساعة الشريفة. ولا ينبغي أن يتكلم في الجامع وغيره من المساجد بحديث الدنيا قال ﷺ "يأتي على الناس زمان يكون حديثهم في مساجدهم أمر دنياهم ليس لله تعالى فيهم حاجة فلا تجالسوهم".

بيان الآداب والسنن الخارجة عن الترتيب السابق

الذي يعم جميع النهار وهي سبعة أمورالأول أن يحضر مجالس العلم بكرة أو بعد العصر ولا يحضر مجالس القصاص فلا خير في كلامهم. ولا ينبغي أن يخلو المريد في جميع يوم الجمعة عن الخيرات والدعوات حتى توافيه الساعة الشريفة وهو في خير ولا ينبغي أن يحضر الحلق قبل الصلاة. وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "أن النبي ﷺ نهى عن التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة" إلا أن يكون عالماً بالله يذكر بأيام الله ويفقه في دين الله يتكلم في الجامع بالغداة فيجلس إليه فيكون جامعاً بين البكور وبين الاستماع. واستماع العلم النافع في الآخرة أفضل من اشتغاله بالنوافل فقد روى أبو ذر "إن حضور مجلس علم أفضل من صلاة ألف ركعة" قال أنس بن مالك في قوله تعالى "فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله" أما إنه ليس بطلب دنيا لكن عيادة مريض وشهود جنازة وتعلم علم وزيارة أخ في الله عز وجل. وقد سمى الله عز وجل فضلاً في مواضع قال تعالى "وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً" وقال تعالى "ولقد آتينا داود منا فضلاً" يعني العلم فتعلم العلم في هذا اليوم وتعليمه من أفضل القربات. والصلاة أفضل من مجالس القصاص إذ كانوا يرونه بدعة ويخرجون القصاص من الجامع: بكر ابن عمر رضي الله عنهما إلى مجلسه في المسجد الجامع فإذا قاص في موضعه فقال: قم عن مجلسي! فقال: لا أقوم وقد جلست وسبقتك إليه، فأرسل ابن عمر إلى صاحب الشرطة فأقامه. فلو كان ذلك من السنة لما جازت إقامته فقد قال ﷺ "لا يقيمن أحدكم أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا" وكان ابن عمر إذا قام الرجل له من مجلسه لم يجلس فيه حتى يعود إليه. وروي أن قاصاً كان يجلس بفناء حجرة عائشة رضي الله عنها فأرسلت إلى ابن عمر: إن هذا قد آذاني بقصصه وشغلني عن سبحتي، فضربه ابن عمر حتى كسر عصاه على ظهره ثم طرده الثاني أن يكون حسن المراقبة للساعة الشريفة ففي الخبر المشهور "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله عز وجل فيها شيئاً إلا أعطاه" وفي خبر آخر "لا يصادفها عبد يصلي" واختلف فيها فقيل إنها عند طلوع الشمس وقيل عند الزوال وقيل مع الأذان وقيل إذا صعد الإمام المنبر وأخذ في الخطبة وقيل إذا قام الناس إلى الصلاة وقيل آخر وقت العصر - أعني وقت الاختيار - وقيل قبل غروب الشمس "وكانت فاطمة رضي الله عنها تراعي ذلك الوقت وتأمر خادمتها أن تنظر إلى الشمس فتؤذها بسقوطها فتأخذ في الدعاء والاستغفار إلى أن تغرب الشمس، وتخبر بأن تلك الساعة هي المنتظرة وتؤثره عن أبيها ﷺ وعليها" وقال بعض العلماء: هي مبهمة في جميع اليوم مثل ليلة القدر تتوفر الدواعي على مراقبتها. وقيل إنها تنتقل في ساعات يوم الجمعة كتنقل ليلة القدر وهذا هو الأشبه، وله سر لا يليق بعلم المعاملة ذكره ولكن ينبغي أن يصدق بما قال ﷺ "إن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" ويوم الجمعة من جملة تلك الأيام فينبغي أن يكون العبد في جميع نهاره متعرضاً لها بإحضار القلب وملازمة الذكر والنزوع عن وساوس الدنيا فعساه يحظى بشيء من تلك النفحات. وقد قال كعب الأحبار: إنها في آخر ساعة من يوم الجمعة وذلك عند الغروب، فقال أبو هريرة: وكيف تكون آخر ساعة وقد سمعت رسول الله ﷺ يقول لا يوافقها عبد يصلي ولات حين صلاة! فقال كعب: ألم يقل رسول الله ﷺ من قعد ينتظر الصلاة فهو في الصلاة قال: بلى، قال: فذلك صلاة? فسكت أبو هريرة. وكان كعب مائلاً إلى أنها رحمة من الله سبحانه للقائمين بحق هذا اليوم وأوان إرسالها عند الفراغ من تمام العمل. وبالجملة هذا وقت شريف مع وقت صعود الإمام المنبر فليكثر الدعاء فيهما الثالث يستحب أن يكثر الصلاة على رسول الله ﷺ في هذا اليوم فقد قال ﷺ "من صلى علي في يوم الجمعة ثمانين مرة غفر الله له ذنوب ثمانين سنة قيل يا رسول الله كيف الصلاة عليك? قال تقول اللهم صل على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وتعقد واحدة، وإن قلت اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد صلاة تكون لك رضاء ولحقه أداء وأعطه الوسيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته واجزه عنا ما هو أهله واجزه أفضل ما جازيت نبياً عن أمته وصل عليه وعلى جميع إخوانه من النبيين والصالحين يا أرحم الراحمين" تقول هذا سبع مرات فقد قيل من قالها في سبع جمع في كل جمعة سبع مرات وجبت له شفاعته ﷺ. وإن أراد أن يزيد أتى بالصلاة المأثورة فقال "اللهم اجعل فضائل صلواتك ونوامي بركاتك وشرائف زكواتك ورأفتك ورحمتك وتحيتك على محمد سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين ورسول رب العالمين قائد الخير وفاتح البر ونبي الرحمة وسيد الأمة اللهم ابعثه مقاماً محموداً تزلف به قربه وتقر به عينه يغبطه به الأولون وألاخرون اللهم أعطه الفضل والفضيلة والشرف والوسيلة والدرجة الرفيعة والمنزلة الشامخة المنيفة اللهم أعط محمداً سؤله وبلغه مأموله واجعله أول شافع وأول مشفع اللهم عظم برهانه وثقل ميزانه وأبلج حجته وارفع في أعلى المقربين درجته اللهم احشرنا في زمرته واجعلنا من أهل شفاعته وأحينا على سنته وتوفنا على ملته وأوردنا حوضه واسقنا بكأسه غير خزايا ولا نادمين ولا شاكين ولا مبدلين ولا فاتنين ولا مفتونين آمين يارب العالمين" وعلى الجملة فكل ما أتى به من ألفاظ الصلاة ولو بالمشهورة في التشهد كان مصلياً. وينبغي أن يضيف إليه الاستغفار فإن ذلك أيضاً مستحب في هذا اليوم الرابع قراءة القرآن فليكثر منه وليقرأ سورة الكهف خاصة. فقد روي عن ابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهما "أن من قرأ سورة الكهف ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أعطي نوراً من حيث يقرؤها إلى مكة وغفر له إلى يوم الجمعة الأخرى وفضل ثلاثة أيام وصلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصح وعوفي من الداء والدبيلة وذات الحنب والبرص والجذام وفتنة الدجال" ويستحب أن يختم القرآن في يوم الجمعة وليلتها إن قدر، وليكن ختمه للقرآن في ركعتي الفجر إن قرأ بالليل أو في ركعتي المغرب أو بين الإذان والإقامة للجمعة فله فضل عظيم. وكان العابدون يستحبون أن يقرءوا يوم الجمعة قل هو الله أحد ألف مرة. ويقال إن من قرأها في عشر ركعات أو عشرين فهو أفضل من ختمة وكانوا يصلون على النبي ﷺ ألف مرة وكانوا يقولون "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" ألف مرة وإن قرأ المسبعات الست في يوم الجمعة أو ليلتها فحسن. وليس يروى عن النبي ﷺ أنه كان يقرأ سوراً بأعيانها إلا في يوم الجمعة وليلتها كان يقرأ في صلاة المغرب ليلة الجمعة "قل يا أيها الكافرون. وقل هو الله أحد" وكان يقرأ في صلاة العشاء الآخرة ليلة الجمعة: سورة الجمعة والمافقين وروي أنه ﷺ كان يقرؤهما في ركعتي الجمعة. وكان يقرأ في الصبح يوم الجمعة. سورة سجدة لقمان وسورة هل أتى على الإنسان الخامس الصلوات يستحب إذا دخل الجامع أن لا يجلس حتى يصلي أربع ركعات يقرأ فيهن "قل هو الله أحد" مائتي مرة في كل ركعة خمسين مرة فقد نقل عن رسول الله ﷺ "أن من فعله لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له" ولا يدع ركعتي التحية وإن كان الإمام يخطب ولكن يخفف. أمر رسول الله ﷺ بذلك وفي حديث غريب "أنه ﷺ سكت للداخل حتى صلاهما" فقال الكوفيون: إن سكت له الإمام صلاهما. ويستحب في هذا اليوم أو في ليلته أن يصلي أربع ركعات بأربع سور: الأنعام والكهف وطه ويس. فإن لم يحسن قرأ يس وسورة سجدة لقمان وسورة الدخان وسورة الملك ولا يدع قراءة هذه الأربع سور في ليلة الجمعة ففيها فضل كثير. ومن لا يحسن القرآن قرأ ما يحسن فهو له بمنزلة الختمة. ويكثر من قراءة سورة الإخلاص. ويستحب أن يصلي صلاة التسبيح - كما سيأتي في باب التطوعات كيفيتها - لأنه ﷺ قال لعمه العباس "صلها في كل جمعة وكان ابن عباس رضي الله عنهما لا يدع هذه الصلاة يوم الجمعة بعد الزوال وكان يخبر عن جلالة فضلها. والأحسن أن يجعل وقته إلى الزوال للصلاة وبعد صلاة الجمعة إلى العصر لاستماع العلم وبعد العصر إلى المغرب للتسبيح والاستغفار. السادس الصدقة مستحبة في هذا اليوم خاصة فإنها تتضاعف إلا على من سأل والإمام يخطب وكان يتكلم في كلام الإمام فهذا مكروه. وقال صالح بن محمد: سأل مسكين يوم الجمعة والإمام يخطب - وكان إلى جانب أبي - فأعطى رجل أبي قطعة ليناوله إياها فلم يأخذها منه أبي. وقال ابن مسعود إذا سأل الرجل في المسجد فقد استحق أن لا يعطى وإذا سأل على القرآن فلا تعطوه. ومن العلماء من كره الصدقة على السؤال في الجامع الذين يتخطون رقاب الناس؛ إلا أن يسأل قائماً أو قاعداً في مكانه من غير تخط. وقال كعب الأحبار: من شهد الجمعة ثم انصرف فتصدق بشيئين مختلفين من الصدقة ثم رجع فركع ركعتين يتم ركوعهما وسجودهما وخشوعهما ثم يقول: اللهم إني أسألك باسمك بسم الله الرحمن الرحيم وباسمك الذي لا إله إلا اله هو الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ولم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه. وقال بعض السلف. من أطعم مسكيناً يوم الجمعة ثم غدا وابتكر ولم يؤذ أحداً ثم قال حين يسلم الإمام "بسم الله الرحمن الرحيم الحي القيوم أسألك أن تغفر لي وترحمي وتعافيني من النار" ثم دعا بما بدا له استجيب له السابع أن يجعل يوم الجمعة للآخرة فيكف فيه عن جميع أشغال الدنيا ويكثر فيه الأوراد ولا يبتدىء فيه السفر فقد روي "أنه من سافر في ليلة الجمعة دعا عليه ملكاه" وهو بعد طلوع الفجر حرام إلا إذا كانت الرفقة تفوت. وكره بعض السلف شراء الماء في المسجد من السقاء ليشربه أو يسبله حتى لا يكون مبتاعاً في المسجد فإن البيع والشراء في المسجد مكروه. وقالوا: لابأس لو أعطى القطعة خارج المسجد ثم شرب أو سبل في المسجد. وبالجملة ينبغي أن يزيد في الجمعة في أوراده وأنواع خيراته فإن الله سبحانه إذا أحب عبداً استعمله في الأوقات الفاضلة بفواضل الأعمال وإذا مقته استعمله في الأوقات الفاضلة بسيء الأعمال ليكون ذلك أوجع في عقابه وأشد لمقته لحرمانه بركة الوقت وانتهاكه حرمة الوقت. ويستحب في الجمعة دعوات، وسيأتي ذكرها في كتاب الدعوات إن شاء الله تعالى. وصلى الله على كل عبد مصطفى.

================

الباب السادس

في مسائل متفرقة تعم بها البلوى

ويحتاج المريد إلى معرفتها

فأما المسائل التي تقع نادرة فقد استقصيناها

في كتب الفقه

مسألة الفعل القليل وإن كان لا يبطل الصلاة فهو مكروه إلا لحاجة وذلك في دفع المار وقتل العقرب التي تخاف ويمكن قتلها بضربة أو ضربتين فإذا صارت ثلاثاً فقد كثرت وبطلت الصلاة، وكذلك القملة والبرغوث مهما تأذى بهما كان له دفعهما، وكذلك حاجته إلى الحك الذي يشوش عليه الخشوع. كان معاذ يأذ القملة والبرغوث في الصلاة. وابن عمر كان يقتل القملة في الصلاة حتى يظهر الدم على يده. وقال النخعي: يأخذها وبوهنها ولا شيء عليه إن قتلها. وقال ابن المسيب: يأخذها ويخدرها ثم يطرحها. وقال مجاهد: الأحب إلى أن يدعها إلا أن تؤذيه فتشغله عن صلاته فيوهنها قدر ما لا تؤذي ثم يلقيها. وهذه رخصة وإلا فالكمال الاحتراز عن الفعل وإن قل. ولذلك كان بعضهم لا يطرد الذباب وقال: لا أعود نفسي ذلك فأفسح على صلاتي. وقد سمعت أن الفساق بين يدي الملوك يصبرون على أذى كثير ولا يتحركون. ومهما تثاءب فلابأس أن يضع يده على فيه وهو الأولى. وإن عطس حمد الله عز وجل في نفسه ولا يحرك لسانه. وإن تجشأ فينبغي أن لا يرفع رأسه إلى السماء وإن سقط رداؤه فلا ينبغي أن يسويه وكذلك أطراف عمامته فكل ذلك مكروه إلا لضرورة.

مسألة الصلاة في النعلين جائزة وإن كان نزع النعلين سهلاً، وليست الرخصة في الخف لعسر النزع بل هذه النجاسة معفو عنها. وفي معناها المداس "صلى رسول الله ﷺ في نعليه، ثم نزع فنزع الناس نعالهم فقال: لم خلعتم نعالكم? قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا فقال ﷺ: إن جبرائيل عليه السلام أتاني فأخبرني أن بهما خبثاً فإذا أراد أحدكم المسجد فليقلب نعليه ولينظر فيهما فإن رأى خبثاً فليمسحه بالأرض وليصل فيهما" وقال بعضهم: الصلاة في النعلين أفضل لأنه ﷺ قال "لم خلعتم نعالكم?" وهذه مبالغة فإنه ﷺ سألهم ليبين لهم سبب خلعه إذ علم أنهم خلعوا على موافقته. وقد روى عبد الله بن السائب "أن النبي ﷺ خلع نعليه" فإذن قد فعل كليهما فمن خلع فلا ينبغي أن يضعهما عن يمينه ويساره فيضيق الموضع ويقطع الصف بل يضعهما بين يديه ولا يتركهما وراءه فيكون قلبه ملتفتاً إليهما. ولعل من رأى الصلاة فيهما أفضل راعي هذا المعنى وهو التفات القلب إليهما. روى أبو هريرة رضي الله عنه. أن النبي ﷺ قال: "إذا صلى أحدكم فليجعل نعليه بين رجليه" وقال أبو هريرة لغيره: اجعلهما بين رجليك ولا تؤذ بهما مسلماً. ووضعهما رسول الله ﷺ على يساره وكان إماماً فللإمام أن يفعل ذلك إذ لا يقف أحد على يساره. والأولى أن لا يضعهما بين قدميه فتشغلانه ولكن قدام قدميه، ولعله المارد بالحديث. وقد قال جبير بن مطعم. وضع الرجل نعليه بين قدميه بدعة.

مسألة إذا بزق في صلاته لم تبطل صلاته لأنه فعل قليل. وما لا يحصل به صوت لا يعد كلاماً وليس على شكل حروف الكلام إلا أنه مكروه فينبغي أن يحترز منه إلا كما أذن رسول الله ﷺ فيه إذ روى بعض الصحابة "أن رسول الله ﷺ رأى في القبلة نخامة فغضب غضباً شديداً ثم حكها بعرجون كان في يده وقال: ائتوني بعبير، فلطخ أثرها بزعفران ثم التفت إلينا وقال: أيكم يحب أن يبزق في وجهه? فقلنا: لا أحد، قال: فإن أحدكم إذا دخل في الصلاة فإن الله عز وجل بينه وبين القبلة" وفي لفظ آخر "واجهه الله تعالى فلا يبزقن أحدكم تلقاء وجهه ولا عن يمينه ولكن عن شماله أو تحت قدمه اليسرى فإن بدرته بادرة فليبصق في ثوبه وليقل به هكذا ودلك بعضه ببعض"

مسألة لوقوف المقتدى: سنة وفرض؛ أما السنة: فأن يقف الواحد عن يمين الإمام متأخراً عنه قليلاً، والمرأة الواحدة تقف خلف الإمام؛ فإن وقفت بجنب الإمام لم يضر ذلك ولكن خالفت السنة. فإن كان معها رجل وقف الرجل عن يمين الإمام وهي خلف الرجل. ولا يقف أحد خلف الصف منفرداً بل يدخل في الصف أو يجر إلى نفسه واحداً من الصف. فإن وقف منفرداً صحت صلاته مع الكراهية. وأما الفرض. فاتصال الصف وهو أن يكون بين المقتدي والإمام رابطة جامعة فإنهما في جماعة فإن كانا في مسجد كفى ذلك جامعاً لأنه بنى له فلا يحتاج إلى اتصال صف بل إلى أن يعرف أفعال الإمام، صلى أبو هريرة رضي الله عنه على ظهر المسجد بصلاة الإمام. وإذا كان الماموم على فناء المسجد في طريق أو صحراء مشتركة وليس بينهما اختلاف بناء مفرق فيكفي القرب بقدر غلوة سهم وكفى بها رابطة إذ يصل فعل أحدهما إلى الآخر. وإنما يشترط إذا وقف في صحن دار على يمين المسجد أو يساره وبابها لاطىء في المسجد فالشرط أن يمد صف المسجد في دهليزها من غير انقطاع إلى الصحن. ثم تصح صلاة من في ذلك الصف ومن خلفه دون من تقدم عليه وهكذا حكم الأبنية المختلفة فأما البناء الواحد والعرصة الواحدة فكالصحراء.

مسألة المسبوق إذا أدرك آخر صلاة الإمام فهو أول صلاته فليوافق الإمام وليبن عليه وليقنت في الصبح في آخر صلاة نفسه. وإن قنت مع الإمام وإن أدرك مع الإمام بعض القيام فلا يشتغل بالدعاء وليبدأ بالفاتحة وليخففها. فإن ركع الإمام قبل تمامها وقدر على لحوقه في اعتداله من الركوع فليتم. فإن عجز وافق الإمام وركع وكان لبعض الفاتحة حكم جميعها فتسقط عنه بالسبق. وإن ركع الإمام وهو في السورة فليقطعها. وإن أدرك الإمام في السجود أو التشهد كبر للإحرام ثم جلس ولم يكبر بخلاف ما إذا أدركه في الركوع فإنه يكبر ثانياً في الهوى لأن ذلك انتقال محسوب له. والتكبيرات للانتقالات الأصلية في الصلاة لا للعوارض بسبب القدوة. ولا يكون مدركاً للركعة ما لم يطمئن راكعاً في الركوع والإمام بعد في حد الراكعين. فإن لم يتم طمأنينته إلا بعد مجاوزة الإمام حد الراكعين فاته تلك الركعة.

مسألة من فاتته صلاة الظهر إلى وقت العصر فليصل الظهر أولاً ثم العصر، فإن ابتدأ بالعصر أجزأه ولكن ترك الأولى واقتح شبهة الخلاف. فإن وجد إماماً فليصل العصر ثم ليصل الظهر بعده فإن الجماعة بالأداء أولى. فإن صلى منفرداً في أول الوقت ثم أدرك جماعة صلى في الجماعة ونوى صلاة الوقت والله يحتسب أيهما شاء. فإن نوى فائتة أو تطوعا جاز. وإن كان قد صلى في الجماعة فأدرك جماعة أخرى فلينو الفائتة أو النافلة فإعادة المؤداة بالجماعة مرة أخرى لا وجه له وإنما احتمل ذلك لدرك فضيلة الجماعة.

مسألة من صلى ثم رأى على ثوبه نجاسة فالأحب قضاء الصلاة ولا يلزمه. ولو رأى النجاسة في أثناء الصلاة رمى بالثوب وأتم والأحب الاستئناف. وأصل هذا قصة خلع النعلين حين أخبر جبرائيل عليه السلام رسول الله ﷺ بأن عليهما نجاسة فإنه ﷺ لم يستأنف الصلاة.

مسألة من ترك التشهد الأول أو القنوت أو ترك الصلاة على رسول الله ﷺ في التشهد الأول أو فعل فعلاً سهواً وكانت تبطل الصلاة بتعمده أو شك فلا يدر أصلى ثلاثاً أو أربعاً: أخذ باليقين وسجد سجدتي السهو قبل السلام. فإن نسي فبعد السلام مهما تذكر على القرب. فإن سجد بعد السلام وبعد أن أحدث بطلت صلاته. فإنه لما دخل في السجود كأنه جعل سلامه نسياناً في غير محله فلا يحصل التحلل به وعاد إلى الصلاة فلذلك يستأنف السلام بعد السجود. فإن تذكر سجود السهو بعد خروجه من المسجد أو بعد طول الفصل فقد فات.

مسألة الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل في العقل أو جهل بالشرع لأن امتثال أمر الله عز وجل مثل امتثال أمر غيره وتعظيمه كتعظيم غيره في حق القصد. ومن دخل عليه عالم فقام له فلو قال: نويت أن أنتصب قائماً تعظيماً لدخول زيد الفاضل لأجل فضله مقبلاً عليه بوجهي، كان سفهاً في عقله بل كما يراه ويعلم فضله تنبعث داعية التعظيم فتقيمه ويكون معظماً إلا إذا قام لشغل آخر أو في غفلة. واشتراط كون الصلاة ظهراً أداء فرضاً في كونه امتثالاً كاشتراط كون القيام مقروناً بالدخول مع الإقبال بالوجه على الداخل وانتفاء باعث آخر سواه. وقصد التعظيم به ليكون تعظيماً. فإنه لو قام مدبراً عنه أو صبر فقام بعد ذلك بمدة لم يكن معظماً. ثم هذه الصفات لابد وأن تكون معلومة وأن تكون مقصودة ثم لا يطول حضورها في النفس في لحظة واحدة وإنما يطول نظم الألفاظ الدالة عليها إما تلفظاً باللسان وإما تفكراً بالقلب. فمن لم يفهم نية الصلاة على هذا الوجه فكأنه لم يفهم النية. فليس فيه إلا أنك دعيت إلى أن تصلي في وقت فأجبت وقمت فالوسوسة محض الجهل. فإن هذه القصود وهذه العلوم تجتمع في النفس في حالة واحدة ولا تكون مفصلة الآحاد في الذهن بحيث تطالعها النفس وتتأملها. وفرق بين حضور الشيء في النفس وبين تفصيله بالفكر. والحضور مضاد للعزوب والغفلة، وإن لم يكن مفصلاً. فإن من علم الحادث مثلاً فيعلمه بعلم واحد في حالة واحدة وهذا العلم يتضمن علوماً هي حاضرة وإن لم تكن مفصلة فإن من علم الحادث فقد علم الموجود والمعدوم والتقدم والتأخر والزمان، وأن التقدم للعدم وأن التأخر للوجود، فهذه العلوم منطوية تحت العلم بالحادث، بدليل أن العالم بالحادث إذا لم يعلم غيره لو قيل له هل علمت التقدم فقط أو التأخر أو العدم أو تقدم العدم أو تأخر الوجود أو الزمان المنقسم إلى المتقدم والمتأخر? فقال ما عرفته قط كان كاذباً وكان قوله مناقضاً لقوله: إني أعلم الحادث. ومن الجهل بهذه الدقيقة يثور الوسواس فإن الموسوس يكلف نفسه أن يحضر في قلبه الظهرية والأدائية والفرضية في حالة واحدة مفصلة بألفاظها وهو يطالعها وذلك محال. ولو كلف نفسه ذلك في القيام لأجل العالم لتعذر عليه. فبهذه المعرفة يندفع الوسواس وهو أن امتثال أمر الله سبحانه في النية كامتثال أمر غيره ثم أزيد على سبيل التسهيل والترخيص وأقول. لو لم يفهم الموسوس النية إلا بإحضار هذه امور مفصلة ولم يمثل في نفسه الامتثال دفعة واحدة وأحضر جملة ذلك في أثناء التكبير من أوله إلى آخره بحيث لا يفرغ من التكبير إلا وقد حصلت النية كفاه ذلك. ولا نكلفه أن يقرن الجميع بأول التكبير أو آخره فإن ذلك تكليف شطط. ولو كان مأموراً به لوقع للأولين سؤال عنه ولوسوس واحد من الصحابة في النية، فعدم وقوع ذلك دليل على أن الأمر على التساهل، فكيفما تيسرت النية للموسوس ينبغي أن يقنع به حتى يتعود ذلك وتفارقه الوسوسة، ولا يطالب نفسه بتحقيق ذلك فإن التحقيق يزيد في الوسوسة. وقد ذكرنا في الفتاوي وجوهاً من التحقيق في تحقيق العلوم. والقصود المتعلقة بالنية تفتقر العلماء إلى معرفتها أما العامة فربما ضرها سماعها ويهيج عليها الوسواس فلذلك تركناها.

مسألة ينبغي أن لا يتقدم المأموم على الإمام في الركوع والسجود والرفع منهما ولا في سائر الأعمال ولا ينبغي أن يساويه بل يتبعه ويقفو أثره فهذا معنى الاقتداء، فإن ساواه عمداً لم تبطل صلاته كما لو وقف بجنبه غير متأخر عنه. فإن تقدم عليه ففي بطلان صلاته خلاف، ولا يبعد أن يقضي بالبطلان تشبيهاً بما لو تقدم في الموقف على الإمام؛ بل هذا أولى لأن الجماعة اقتداء في الفعل لا في الموقف فالتبعية في الفعل أهم. وإنما شرط ترك التقدم في الموقف تسهيلاً للمتابعة في الفعل وتحصيلاً لصورة التبعية إذ اللائق بالمقتدى به أن يتقدم فالتقدم عليه في الفعل لا وجه له إلا أن يكون سهواً. ولذلك شدد رسول الله ﷺ النكير فيه فقال "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار" وأما التاخر عنه بركن واحد فلا يبطل الصلاة، وذلك بأن يعتدل الإمام عن ركوعه وهو بعد لم يركع ولكن التأخر إلى هذا الحد مكروه فإن وضع الإمام جبهته على الأرض وهو بعد لم ينته إلى حد الراكعين بطلت صلاته. وكذا إن وضع الإمام جبهته للسجود الثاني وهو بعد لم يسجد السجود الأول.

مسألة حق على من حضر الصلاة إذا رأى من غيره إساءة في صلاته أن يغيره وينكر عليه. وإن صدر من جاهل رفق بالجاهل وعلمه. فمن ذلك الأمر بتسوية الصفوف ومنع المنفرد بالوقوف خارج الصف، والإنكار على من يرفع رأسه قبل الإمام إلى غير ذلك من الأمور. فقد قال ﷺ "ويل للعالم من الجاهل حيث لا يعلمه" وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من رأى من يسيء صلاته فلم ينهه فهو شريكه في وزرها. وعن بلال بن سعد أنه قال: الخطيئة إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها فإذا أظهرت فلم تغير أضرت بالعامة. وجاء في الحديث "أن بلالاً كان يسوي الصفوف ويضرب عراقيبهم بالدرة" وعن عمر رضي الله عنه قال: تفقدوا إخوانكم في الصلاة فإذا فقدتموهم فإن كانوا مرضى فعودوهم وإن كانوا أصحاء فعاتبوهم. والعتاب إنكار على من ترك الجماعة ولا ينبغي أن يتساهل فيه. وقد كان الأولون يبالغون فيه حتى كان بعضهم يحمل الجنازة إلى بعض من تخلف عن الجماعة إشارة إلى أن الميت هو الذي يتأخر عن الجماعة دون الحي. ومن دخل المسجد ينبغي أن يقصد يمين الصف؛ ولذلك تزاحم الناس عليه في زمن رسول الله ﷺ حتى قيل له: تعطلت الميسرة فقال ﷺ "من عمر ميسرة المسجد كان له كفلان من الأجر" ومهما وجد غلاماً في الصف ولم يجد لنفسه مكاناً فله أن يخرجه إلى خلف ويدخل فيه - أعني إذا لم يكن بالغاً - وهذا ما أردنا أن نذكره من المسائل التي تعم بها البلوى. وسيأتي أحكام الصلوات المتفرقة في كتاب الأوراد إن شاء الله تعالى.

=============

الباب السابع

في النوافل من الصلوات

اعلم أن ما عدا الفرائض من الصلوات ينقسم إلى ثلاثة أقسام: سنن ومستحبات وتطوعات. ونعني بالسنن ما نقل عن رسول الله ﷺ المواظبة عليه كالرواتب عقيب الصلوات وصلاة الضحى والوتر والتهجد وغيرها؛ لأن السنة عبارة عن الطريق المسلوكة. ونعني بالمستحبات ما ورد الخبر بفضله ولم ينقل المواظبة عليه - كما سننقله في صلوات الأيام والليالي في الأسبوع - وكالصلاة عند الخروج من المنزل والدخول فيه وأمثاله. ونعني بالتطوعات ما وراء ذلك مما لم يرد في عينه أثر ولكنه تطوع به العبد من حيث رغب في مناجاة الله عز وجل بالصلاة التي ورد الشرع بفضلها مطلقاً؛ فكأنه متبرع به إذا لم يندب إلى تلك الصلاة بعينها وإن ندب إلى الصلاة مطلقاً، والتطوع عبارة عن التبرع. وسميت الأقسام الثلاثة نوافل من حيث إن النفل هو الزيادة وجملتها زائد على الفرائض. فلفظ: النافلة والسنة والمستحب والتطوع؛ أردنا الاصطلاح عليه لتعريف هذه المقاصد. ولا حرج على من يغير هذا الاصطلاح فلا مشاحة في الألفاظ بعد فهم المقاصد. وكل قسم من هذه الأقسام تتفاوت درجاته في الفضل بحسب ما ورد فيها من الأخبار والآثار المعرفة لفضلها وبحسب طول مواظبة رسول الله ﷺ عليها وبحسب صحة الأخبار الواردة فيها واشتهارها، ولذلك يقال سنن الجماعات أفضل من سنن الانفراد. وأفضل سنن الجماعات: صلاة العيد ثم الكسوف ثم الاستسقاء. وأفضل سنن الانفراد: الوتر ثم ركعتا الفجر ثم ما بعدهما من الرواتب على تفاوتها. واعلم أن النوافل باعتبار الإضافة إلى معلقاتها تنقسم إلى ما يتعلق بأسباب كالكسوف والاستسقاء وإلى ما يتعلق بأوقات، والمتعلق بالأوقات ينقسم إلى ما يتكرر بتكرر اليوم والليلة أو بتكرر الأسبوع أو بتكرر السنة فالجملة أربع أقسام.

القسم الأول

ما يتكرر بتكرر الأيام والليالي

وهي ثمانية، خمسة هي رواتب الصلوات الخمس، وثلاثة وراءها وهي صلاة الضحى وإحياء ما بين العشاءين والتهجد

الأولى راتبة الصبح وهي ركعتان قال رسول الله ﷺ "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" ويدخل وقتها بطلول الفجر الصادق وهو المستطير دون المستطيل. وإدراك ذلك بالمشاهدة عسير في أوله إلا أن يتعلم منازل القمر أو يعلم اقتراع طلوعه بالكواكب الظاهرة للبصر. فيستدل بالكواكب عليه. ويعرف بالقمر في ليلتين من الشهر فإن القمر يطلع مع الفجر ليلة ست وعشرين، ويطلع الصبح مع غروب القمر ليلة اثني عشر من الشهر هذا هو الغالب، ويتطرق إليه تفاوت في بعض البروج وشرح ذلك يطول. وتعلم منازل القمر من المهمات للمريد حتى يطلع به على مقادير الأوقات بالليل وعلى الصبح، ويفوت وقت ركعتي الفجر بفوات وقت فريضة الصبح وهو طلوع الشمس، ولكن السنة أداؤهما قبل الفرض. فإن دخل المسجد وقد قامت الصلاة فليشتغل بالمكتوبة فإنه ﷺ قال "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة" ثم إذا فرغ من المكتوبة قام إليهما وصلاهما. والصحيح أنهما أداء ما وقعتا قبل طلوع الشمس لأنهما تابعتان للفرض في وقته وإنما الترتيب بينهما سنة في التقديم والتأخير إذا لم يصادف جماعة. فإذا صادف جماعة انقلب الترتيب وبقيتا أداء. والمستحب أن يصليهما في المنزل ويخففهما، ثم يدخل المسجد ويصلي ركعتين تحية المسجد، ثم يجلس ولا يصلي إلى أن يصلي المكتوبة. وفيما بين الصبح إلى طلوع الشمس الأحب فيه الذكر والفكر والاقتصار على ركعتي الفجر والفريضة الثانية راتبة الظهر وهي ست ركعات: ركعتان بعدها وهي أيضاً سنة مؤكدة، وأربع قبلها وهي أيضاً سنة وإن كانت دون الركعتين الأخيرتين. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال "من صلى أربع ركعات بعد زوال الشمس يحسن قراءتهن وركوعهن وسجودهن صلى معه سبعون ألف ملك يستغفرون له حتى الليل" وكان ﷺ لا يدع أربعاً بعد الزوال يطيلهن ويقول إن أبواب السماء تفتح في هذه الساعة فأحب أن يرفع لي فيها عمل" رواه أبو أيوب الأنصاري وتفرد به، ودل عليه أيضاً ما روت أم حبيبة زوج النبي ﷺ أنه قال "من صلى في كل يوم اثنتي عشرة ركعة غير المكتوبة بني له بيت في الجنة ركعتين قبل الفجر وأربعاً قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين قبل العصر وركعتين بعد المغرب" وقال ابن عمر رضي الله عنهما: حفظت من رسول الله ﷺ في كل يوم عشر ركعات فذكر ما ذكرته أم حبيبة رضي الله عنها إلا ركعتي الفجر فإنه قال: تلك ساعة لم يكن يدخل فيها على رسول الله ﷺ ولكن حدثتني أختي حفصة رضي الله عنها أنه ﷺ كان يصلي ركعتين في بيتها ثم يخرج. وقال في حديثه: ركعتين قبل الظهر وركعتين بعد العشاء. فصارت الركعتان قبل الظهر آكد من جملة الأربعة. ويدخل وقت ذلك بالزوال. والزوال يعرف بزيادة ظل الأشخاص المنتصبة مائلة إلى جهة الشرق، إذ يقع للشخص ظل عند الطلوع في جانب المغرب يستطيل فلا تزال الشمس ترتفع والظل ينقص وينحرف عن جهة المغرب إلى أن تبلغ الشمس منتهى ارتفاعها وهو قوس نصف النهار فيكون ذلك منتهى نقصان الظل. فإذا زالت الشمس عن منتهى الارتفاع أخذ الظل في الزيادة فمن حيث صارت الزيادة مدركة بالحس دخل وقت الظهر. ويعلم قطعاً أن الزوال في علم الله سبحانه وقع قبله ولكن التكاليف لا ترتبط إلا بما يدخل تحت الحس. والقدر الباقي من الظل الذي منه يأخذ في الزيادة يطول في الشتاء ويقصر في الصيف، ومنتهى طوله بلوغ الشمس أول الجدي، ومنتهى قصره بلوغها أول السرطان. ويعرف ذلك بالأقدام والموازين. ومن الطرق القريبة من التحقيق لمن أحسن مراعاته أن يلاحظ القطب الشمالي بالليل ويضع على الأرض لوحاً مربعاً وضعاً مستوياً بحيث يكون أحد أضلاعه من جانب القطب، بحيث لو توهمت سقوط حجر من القطب إلى الأرض ثم توهمت خطاً من مسقط الحجر إلى الضلع الذي يليه من اللوح لقام الخط على الضلع على زاويتين قائمتين أي لا يكون الخط مائلاً إلى أحد الضلعين، ثم تنصب عموداً على اللوح نصباً مستوياً في موضع علامة 5 وهو بإزاء القطب فيقع ظله على اللوح في أول النهار مائلاً إلى جهة المغرب في صوب خط أ ثم لا يزال يميل إلى أن ينطبق على خط ب، بحيث لو مد رأسه لانتهى على الاستقامة إلى مسقط الحجر، ويكون موازياً للضلع الشرقي

والغربي غير مائل إلى أحدهما، فإذا بطل ميله إلى الجانب الغربي فالشمس في منتهى الارتفاع، فإذا انحرف الظل عن الخط الذي على اللوح إلى جانب الشرق فقد زالت الشمس. وهذا يدرك بالحس تحقيقاً في وقت هو قريب من أول الزوال في علم الله تعالى، ثم يعلم على رأس الظل عند انحرافه علامة، فإذا صار الظل من تلك العلامة مثل العمود دخل وقت العصر فهذا القدر لابأس بمعرفته في علم الزوال وهذه صورته:

الثالثة راتبة العصر وهي أربع ركعات قبل العصر. روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال "رحم الله عبداً صلى قبل العصر أربعاً" ففعل ذلك على رجاء الدخول في دعوة رسول الله ﷺ مستحب استحباباً مؤكداً فإن دعوته تستجاب لا محالة له. ولم تكن مواظبته على السنة قبل العصر كمواظبته على ركعتين قبل الظهر الرابعة راتبة المغرب وهما ركعتان بعد الفريضة لم تختلف الرواية فيهما، وأما ركعتان قبلها بين أذان المؤذن وإقامة المؤذن على سبيل المبادرة فقد نقل عن جماعة من الصحابة كأبي بن كعب وعبادة بن الصامت وأبي ذر وزيد بن ثابت وغيرهم قال عبادة أو غيره: كان المؤذن إذا أذن لصلاة المغرب ابتدر أصحاب رسول الله ﷺ السواري يصلون ركعتين وقال بعضهم: كنا نصلي الركعتين قبل المغرب حتى يدخل الداخل فيحسب أنا صلينا فيسأل أصليتم المغرب? وذلك يدخل في عموم قوله ﷺ "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" وكان أحمد بن حنبل يصليهما فعابه الناس فتركهما فقيل له في ذلك فقال: لم أر الناس يصلونهما، فتركتهما وقال: لئن صلاهما الرجل في بيته أو حيث لا يراه الناس فحسن. ويدخل وقت المغرب بغيبوبة الشمس عن الأبصار في الأراضي المستوية التي ليست محفوفة بالجبال فإن كانت محفوفة بها في جهة المغرب فيتوقف إلى أن يرى إقبال السواد من جانب المشرق قال ﷺ "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم" والأحب المبادرة في صلاة المغرب خاصة وإن أخرت وصليت قبل غيبوبة الشفق الأحمر وقعت أداء ولكنه مكروه. وأخر عمر رضي الله عنه صلاة المغرب ليلة حتى طلع نجم فأعتق رقبة وأخرها ابن عمر حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين الخامسة راتبة العشاء الآخرة أربع ركعات بعد الفريضة. قالت عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله ﷺ يصلي بعد العشاء الآخرة أربع ركعات ثم ينام" واختار بعض العلماء من مجموع الأخبار أن يكون عدد الرواتب سبع عشرة كعدد المكتوبة: ركعتان قبل الصبح وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وأربع قبل العصر وركعتان بعد المغرب وثلاث بعد العشاء الآخرة وهي الوتر ومهما عرفت الأحاديث الواردة فيه فلا معنى للتقدير فقد قال ﷺ "الصلاة خير موضع فمن شاء أكثر ومن شاء أقل" فإذاً اختيار كل مريد من هذه الصلاة بقدر رغبته في الخير فقد ظهر فيما ذكرناه أن بعضها آكد من بعض، وترك الآكد أبعد لاسيما والفرائض تكمل بالنوافل فمن لم يستكثر منها يوشك أن لا تسلم له فريضة من غير جابر السادسة الوتر: قال أنس بن مالك "كان رسول الله ﷺ يوتر بعد العشاء بثلاث ركعات، يقرأ في الأولى سبح اسم ربك الأعلى وفي الثانية قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة قل هو الله أحد" وجاء في الخبر "أنه ﷺ كان يصلي بعد الوتر ركعتين جالساً وفي بعضها متربعاً" وفي بعض الأخبار "إذا أراد أن يدخل فراشه زحف إليه وصلى فوقه ركعتين قبل أن يرقد يقرأ فيهما إذا زلزلت الأرض وسورة التكاثر" وفي رواية أخرى قل يا أيها الكافرون ويجوز الوتر مفصولاً وموصولاً، بتسليمة واحدة وتسليمتين: وقد أوتر رسول الله ﷺ بركعة وثلاث وخمس وهكذا بالأوتار إلى إحدى عشرة ركعة والرواية مترددة في ثلاث عشرة وفي حديث شاذ "سبع عشرة ركعة" وكانت هذه الركعات - أعني ما سمينا جملتها وتراً - صلاة بالليل وهو التهجد والتهجد بالليل سنة مؤكدة - وسيأتي ذكر فضلها في كتاب الأوراد وفي الأفضل خلاف فقيل إن الإيتار بركعة فردة أفضل إذ صح أنه ﷺ كان يواظب على الإيتار بركعة فردة وقيل الموصولة أفضل للخروج عن شبهة الخلاف لاسيما الإمام إذ قد يقتدي به من لا يرى الركعة الفردة صلاة، فإن صلى موصولاً نوى بالجميع الوتر وإن اقتصر على ركعة واحدة بعد ركعتي العشاء أو بعد فرض العشاء نوى اوتر وصح. لأن شرط الوتر أن يكون في نفسه وتراً وأن يكون موتراً لغيره مما سبق قبله وقد أوتر الفرض ولو أوتر قبل العشاء لم يصح أي لا ينال فضيلة الوتر الذي هو خير له من حمر النعم كما ورد به الخبر. وإلا فركع فردة صحيحة في أي وقت كان وإنما لم يصح قبل العشاء لأنه خرق إجماع الخلق في الفعل ولأنه لم يتقدم ما يصير به وتراً.

فأما إذا أراد أن يوتر بثلاث مفصولة ففي نيته في الركعتين نظر. فإنه إن نوى بهما التهجد أو سنة العشاء لم يكن هو من الوتر. وإن وى الوتر لم يكن هو في نفسه وتراً. وإنما الوتر ما بعده. ولكن الأظهر أن ينوي الوتر كما ينوي في الثلاث الموصولة الوتر. ولكن للوتر معنيان، أحدهما: أن يكون في نفسه وتراً، والآخر أن ينشأ ليجعل وتراً بما بعده فيكون مجموع الثلاثة وتراً، والركعتان من جملة الثلاث إلا أن وتريته موقوفة على الركعة الثالثة. وإذا كان هو على عزم أن يوترهما بثالثة كان له أن ينوي بهما الوتر. والركعة الثالثة وتر بنفسها وموترة لغيرها. والركعتان لا يوتران غيرهما وليستا وتراً بأنفسهما ولكنهما موترتان بغيرهما. والوتر ينبغي أن يكون آخر صلاة الليل فيقع بعد التهجد. وسيأتي فضائل الوتر والتهجد وكيفية الترتيب بينهما في كتاب ترتيب الأوراد السابعة صلاة الضحى: فالمواظبة عليها من عزائم الأفعال وفواضلها، أما عدد ركعاتها فأكثر ما نقل فيه ثمان ركعات. روت أم هانىء أخت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما "أنه ﷺ صلى الضحى ثماني ركعات أطالهن وحسنهن" ولم ينقل هذا القدر غيرها. فأما عائشة رضي الله عنها فإنها ذكرت "أنه ﷺ كان يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء الله سبحانه" فلم تحد الزيادة أي أنه كان يواظب على الأربعة ولا ينقص منها وقد يزيد زيادات. وروي في حديث مفرد أن النبي ﷺ كان يصلي الضحى ست ركعات" وأما وقتها فقد روى علي رضي الله عنه "أنه ﷺ كان يصلي الضحى ستاً في وقتين، إذا أشرقت الشمس وارتفعت قام وصلى ركعتين - وهو أول لورد الثاني من أوراد النهار كما سيأتي - وإذا انبسطت الشمس وكانت في ربع السماء من جانب الشرق صلى أربعاً" فالأول إنما يكون إذا ارتفعت الشمس قيد نصف رمح والثاني إذا مضى من النهار ربعه بإزاء صلاة العصر فإن وقته أن يبقى من النهار ربعه، والظهر على منتصف النهار، ويكون الضحى على منتصف ما بين طلوع الشمس إلى الزوال، كما أن العصر على منتصف ما بين الزوال إلى الغروب. وهذا أفضل الأوقات. ومن وقت ارتفاع الشمس إلى ما قبل الزوال وقت للضحى على الجملة. الثامنة إحياء ما بين العشاءين وهي سنة مؤكدة ومما نقل عدده من فعل رسول الله ﷺ بين العشاءين ست ركعات ولهذه الصلاة فضل عظيم. وقيل إنها المراد بقوله عز وجل "تتجافى جنوبهم عن المضاجع" وقد روي عنه ﷺ أنه قال "من صلى بين المغرب والعشاء فإنها من صلاة الأوابين" وقال ﷺ "من عكف نفسه فيما بين المغرب والعشاء في مسجد جماعة لم يتكلم إلا بصلاة أو بقرآن كان حقاً على الله أن يبني له قصرين في الجنة مسيرة كل قصر منهما مائة عام ويغرس له بينهما غراساً لو طافه أهل الأرض لوسعهم" وسيأتي بقية فضائلها في كتاب الأوراد إن شاء الله تعالى.

القسم الثاني

ما يتكرر بتكرر الأسابيع

وهي صلاة أيام الأسبوع ولياليه لكل يوم ولكل ليلة أما الأيام فنبدأ فيها بيوم الأحد. يوم الأحد: روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال "من صلى يوم الأحد أربع ركعات يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب وآمن الرسول مرة كتب الله له بعدد كل نصراني ونصراينة حسنات وأعطاه الله ثواب نبي وكتب له حجة وعمرة وكتب له بكل ركعة ألف صلاة وأعطاه الله في الجنة بكل حرف مدينة من مسك أذفر" وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال "وحدوا الله بكثرة الصلاة يوم الأحد فإنه سبحانه واحد لا شريك له فمن صلى يوم الأحد بعد صلاة الظهر أربع ركعات بعد الفريضة والسنة يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وتنزيل السجدة، وفي الثانية فاتحة الكتاب وتبار الملك ثم تشهد وسلم ثم قام فصلى ركعتين أخريين يقرأ فيهما فاتحة الكتاب وسورة الجمعة وسأل الله سبحانه حاجته كان حقاً على الله أن يقضي حاجته".

يوم الاثنين: روى جابر عن رسول الله ﷺ أنه قال "من صلى يوم الاثنين عند ارتفاع النهار ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد والمعوذتين مرة مرة فإذا سلم استغفر الله عشر مرات وصلى على النبي ﷺ عشر مرات غفر الله تعالى له ذنوبه كلها" وروى أنس ابن مالك عن النبي ﷺ أنه قال "من صلى يوم الاثنين ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة فإذا فرغ قرأ قل هو الله أحد اثنتي عشرة واستغفر اثنتين عشرة مرة ينادى به يوم القيامة: أين فلان بن فلان ليقم فليأخذ ثوابه من الله عز وجل? فأول ما يعطى من الثواب ألف حلة ويتوج ويقال له ادخل الجنة فيستقبله مائة ألف ملك مع كل ملك هدية يشيعونه حتى يدور على ألف قصر من نور يتلألأ" يوم الثلاثاء: روى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال "قال رسول الله ﷺ: من صلى يوم الثلاثاء عشر ركعات عند انتصاف النهار" وفي حديث آخر "عند ارتفاع النهار يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات لم تكتب عليه خطيئة إلى سبعين يوماً فإن مات إلى سبعين يوماً مات شهيداً وغفر له ذنوب سبعين سنة.

يوم الأربعاء: روى أبو إدريس الخولاني عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ "من صلى يوم الأربعاء ثنتي عشرة ركعة عند ارتفاع النهار يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات والمعوذتين ثلاث مرات نادى مناد عند العرش: يا عبد الله استأنف العمل فقد غفر لك ما تقدم من ذنبك ورفع الله سبحانه عنك عذاب القبر وضيقه وظلمته ورفع عنك شدائد القيامة، ورفع له من يومه عمل نبي".

يوم الخميس: عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ: من صلى يوم الخميس بين الظهر والعصر ركعتين يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وآية الكرسي مائة مرة وفي الثانية فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد مائة مرة ويصلي على محمد مائة مرة أعطاه الله ثواب من صام رجب وشعبان ورمضان وكان له من الثواب مثل حاج البيت وكتب له بعدد كل من آمن بالله سبحانه وتوكل عليه حسنه" يوم الجمعة، روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال "يوم الجمعة صلاة كله ما من عبد مؤمن قام إذا استقلت الشمس وارتفعت قدر رمح أو أكثر من ذلك فتوضأ ثم أسبغ الوضوء فصلى سبحة الضحى ركعتين إيماناً واحتساباً إلا كتب الله له مائتي حسنة ومحا عنه مائتي سيئة ومن صلى أربع ركعات رفع الله سبحانه له في الجنة أربعمائة درجة ومن صلى ثماني ركعات رفع الله تعالى له في الجنة ثمانمائة درجة وغفر له ذنوبه كلها ومن صلى ثنتي عشرة ركعة كتب الله له ألفين ومائتي حسنة ومحا عنه ألفين ومائتي سيئة ورفع له في الجنة ألفين ومائتي درجة" وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال "من دخل الجامع يوم الجمعة فصلى أربع ركعات قبل صلاة الجمعة يقرأ في كل ركعة الحمد لله وقل هو الله أحد خمسين مرة لم يمت حتى يرى مقعده من الجنة أو يرى له".

يوم السبت: روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال "من صلى يوم السبت أربع ركعات يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد ثلاث مرات فإذا فرغ قرأ آية الكرسي كتب الله له بكل حرف حجة وعمرة ورفع له بكل حرف أجر سنة صيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله عز وجل بكل حرف ثواب شهيد وكان تحت ظل عرش الله مع النبيين والشهداء".

وأما الليالي. ليلة الأحد: روى أنس بن مالك في ليلة الأحد أنه ﷺ قال "من صلى ليلة الأحد عشرين ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد خمسين مرة والمعوذتين مرة مرة واستغفر الله عز وجل مائة مرة واستغفر لنفسه ولوالديه مائة مرة وصلى على النبي ﷺ مائة مرة وتبرأ من حوله وقوته والتجأ إلى الله ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن آدم صفوة الله وفطرته وإبراهيم خليل الله وموسى كليم الله وعيسى روح الله ومحمداً حبيب الله كان له من الثواب بعدد من دعا لله ولداً ومن لم يدع لله ولداً وبعثه الله عز وجل يوم القيامة مع الآمنين وكان حقاً على الله تعالى أن يدخله الجنة مع النبيين".

ليلة الإثنين: روى الأعمش عن أنس قال قال رسول الله ﷺ "من صلى ليلة الإثنين أربع ركعات يقرأ في الركعة الأولى الحمد لله وقل هو الله أحد عشر مرات، وفي الركعة الثانية الحمد لله وقل هو الله أحد عشرين مرة، وفي الثالثة الحمد لله وقل هو الله أحد ثلاثين مرة، وفي الرابعة الحمد لله وقل هو الله أحد أربعين مرة ثم يسلم ويقرأ هو الله أحد خمساً وسبعين مرة واستغفر الله لنفسه ولوالديه خمساً وسبعين مرة ثم سأل الله حاجته كا حقاً على الله أن يعطيه سؤله ما سأل" وهي صلاة الحاجة.

ليلة الثلاثاء: من صلى ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد والمعوذتين خمس عشرة مرة، ويقرأ بعد التسليم خمس عشرة مرة آية الكرسي واستغفر الله تعالى خمس عشرة مرة كان له ثواب عظيم وأجر جسيم. وروي عن عمر رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال "من صلى ليلة الثلاثاء ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وإنا أنزلناه وقل هو الله أحد سبع مرات أعتق الله رقبته من النار ويكون يوم القيامة قائده ودليله إلى الجنة".

ليلة الأربعاء: روت فاطمة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال "من صلى ليلة الأربعاء ركعتين يقرأ في الأول فاتحة الكتاب وقل أعوذ برب الفلق عشر مرات، وفي الثانية بعد الفاتحة قل أعوذ برب الناس عشر مرات ثم إذا سلم استغفر الله عشر مارت ثم يصلي على محمد ﷺ عشر مرات نزل من كل سماء سبعون ألف ملك يكتبون ثوابه إلى يوم القيامة" وفي حديث آخر "ست عشرة ركعة يقرأ بعد الفاتحة ما شاء الله ويقرأ في آخر الركعتين آية الكرسي ثلاثين مرة وفي الأوليين ثلاثين مرة قل هو الله أحد يشفع في عشرة من أهل بيته كلهم وجبت عليهم النار" وروت فاطمة رضي الله عنها أنها قالت "قال رسول الله ﷺ: من صلى ليلة الأربعاء ست ركعات قرأ في ركعة بعد الفاتحة قل اللهم مالك الملك إلى آخر الآية فإذا فرغ من صلاته يقول جزى الله محمداً عنا ما هو أهله غفر له ذنوب سبعين سنة وكتب له براءة من النار".

ليلة الخميس: قال أبو هريرة رضي الله عنه "قال النبي ﷺ: من صلى ليلة الخميس ما بين المغرب والعشاء ركعتين يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وآية الكرسي خمس مرات وقل هو الله أحد خمس مرات والمعوذتين خمس مرات فإذا فرغ من صلاته استغفر الله تعالى خمس عشر مرة وجعل ثوابه لوالديه فقد أدى حق والديه عليه وإن كان عاقاً لهما وأعطاه الله تعالى ما يعطي الصديقين والشهداء".

ليلة الجمعة: قال جابر "قال رسول الله ﷺ: من صلى ليلة الجمعة بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب مرة وقل هو الله أحد إحدى عشرة مرة فكأنما عبد الله تعالى اثنتي عشرة سنة صيام نهارها وقيام ليلها" وقال أنس "قال النبي ﷺ: من صلى ليلة الجمعة صلاة العشاء الآخرة في جماعة وصلى ركعتي السنة ثم صلى بعدهما عشر ركعات قرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وقل هو الله أحد والمعوذتين مرة مرة ثم أوتر بثلاث ركعات ونام على جنبه الأيمن تتوجهه إلى القبلة فكأنما أحيا ليلة القدر" وقال ﷺ "أكثروا من الصلاة علي في الليلة الغراء واليوم الأزهر ليلة الجمعة ويوم الجمعة".

ليلة السبت: قال أنس "قال رسول الله ﷺ: من صلى ليلة السبت بين المغرب والعشاء اثنتي عشرة ركعة بنى له قصر في الجنة وكأنما تصدق على كل مؤمن ومؤمنة وتبرا من اليهود وكان حقاً على الله أن يغفر له".

القسم الثالث

ما يتكرر بتكرر السنين

وهي أربعة: صلاة العيدين والتراويح وصلاة رجب وشعبان الأولى صلاة العيدين: وهي سنة مؤكدة وشعار من شعائر الدين وينبغي أن يراعى فيها سبعة أمور؛ التكبير ثلاثاً نسقاً فيقول "الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره الكافرون" يفتتح بالتكبير ليلة الفطر إلى الشروع في صلاة العيد، وفي العيد الثاني يفتتح التكبير عقيب الصبح يوم عرفة إلى آخر النهار يوم الثالث عشر، وهذا أكمل الأقاويل. ويكبر عقيب الصلوات المفروضة وعقيب النوافل وهو عقيب الفرائض آكد: الثاني: إذا أصبح يوم العيد يغتسل ويتزين ويتطيب كما ذكرناه في الجمعة والرداء والعمامة هو الأفضل للرجال، وليجنب الصبيان الحرير والعجائز التزين عند الخروج. الثالث: أن يخرج من طريق ويرجع من طريق آخر هكذا فعل رسول الله ﷺ وكان ﷺ "يأمر بإخراج العواتق وذوات الخدور". الرابع المستحب الخروج إلى الصحراء إلا بمكة وبيت المقدس، فإن كان يوم مطر فلابأس بالصلاة في المسجد، ويجوز في يوم الصحو أن يأمر الإمام رجلاً يصلي بالضعفة في المسجد ويخرج بالأقوياء مكبرين. الخامس: يراعي الوقت فوقت صلاة العيد ما بين طلوع الشمس إلى الزوال. ووقت الذبح للضحايا ما بين ارتفاع الشمس بقدر خطبتين وركعتين إلى آخر اليوم الثالث عشر. ويستحب تعجيل صلاة الأضحى لأجل الذبح وتأخير صلاة الفطر لأجل تفريق صدقة الفطر قبلها. هذه سنة رسول الله ﷺ . السادس: في كيفية الصلاة فليخرج الناس مكبرين في الطريق. وإذا بلغ الإمام المصلى لم يجلس ولم يتنفل ويقطع الناس التنفل. ثم ينادي مناد: الصلاة جامعة. ويصلي الإمام بهم ركعتين يكبر في الأولى سوى تكبيرة الإحرام والركوع سبع تكبيرات يقول بين كل تكبيرتين "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" ويقول "وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض" عقيب تكبيرة الافتتاح ويؤخر الاستعاذة إلى ما وراء الثامنة ويقرأ "سورة ق" في الأولى بعد الفاتحة "واقتربت" في الثانية. والتكبيرات الزائدة في الثانية خمس سوى تكبيرتي القيام والركوع. وبين كل تكبيرتين ما ذكرناه. ثم يخطب خطبتين بينهما جلسة ومن فاتته صلاة العيد قضاها، السابع: أن يضحي بكبش "ضحى رسول الله ﷺ بكبشين أملحين وذبح بيده وقال "بسم الله والله أكبر هذا عني وعمن لم يضح من أمتي" وقال ﷺ: "من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئاً" قال أبو أيوب الأنصاري: كان الرجل يضحي على عهد رسول الله ﷺ بالشاة عن أهل بيته ويأكلون ويطعمون. وله أن يأكل من الضحية بعد ثلاثة أيام فما فوق، وردت فيه الرخصة بعد النهي عنه. وقال سفيان الثوري: يستحب أن يصلي بعد عيد الفطر اثنتي عشرة ركعة وبعد عيد الأضحى ست ركعات وقال هو من السنة الثانية التراويح: وهي عشرون ركعة وكيفيتها مشهورة وهي سنة مؤكدة وإن كانت دون العيدين واختلفوا في أن الجماعة فيها أفضل أم الانفراد? وقد خرج رسول الله ﷺ فيها ليلتين أو ثلاثاً للجماعة ثم لم يخرج وقال "أخاف أن توجب عليكم" وجمع عمر رضي الله عنه الناس عليها في الجماعة حيث أمن من الوجوب بانقطاع الوحي؛ فقيل إن الجماعة أفضل لفعل عمر رضي الله عنه ولأن الاجتماع بركة وله فضيلة بدليل الفرائض ولأنه ربما يكسل في الانفراد وينشط عند مشاهدة الجمع. وقيل الانفراد أفضل لأن هذه سنة ليست من الشعائر كالعيدين فإلحاقها بصلاة الضحى وتحية المسجد أولى ولم تشرع فيها جماعة. وقد جرت العادة بأن يدخل المسجد جمعاً معاً ثم لم يصلوا التحية بالجماعة ولقوله ﷺ "فضل صلاة التطوع في بيته على صلاته في المسجد كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته في البيت" وروي أنه ﷺ قال "صلاة في مسجدي هذا أفضل من مائة صلاة في غيره من المساجد وصلاة في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجدي، وأفضل من ذلك كله رجل يصلي في زاوية بيته ركعتين لا يعلمها إلا الله عز وجل" وهذا لأن الرياء والتصنع ربما يتطرق إليه في الجمع ويأمن منه في الواحدة فهذا ما قيل فيه. والمختار أن الجماعة أفضل كما رآه

عمر رضي الله عنه. فإن بعض النوافل قد شرعت فيها الجماعة وهذا جدير بأن يكون من الشعائر التي تظهر. وأما الالتفات إلى الرياء في الجمع والكسل في الإنفراد عدول عن مقصود النظر في فضيلة الجمع من حيث إنه جماعة، وكأن قائله يقول: الصلاة خير من تركها بالكسل والإخلاص خير من الرياء. فلنفرض المسألة فيمن يثق بنفسه أنه لا يكسل لو انفرد ولا يرائي لو حضر الجمع فأيهما أفضل له? فيدور النظر بين بكرة الجمع وبين مزيد قوة الإخلاص وحضور القلب في الوحدة، فيجوز أن يكون في تفضيل أحدهما على الآخر تردد مما يستحب القنوت في الوتر في النصف الأخير من رمضان. أما صلاة رجب: فقد روي بإسناد عن رسول الله ﷺ أنه قال "ما من أحد يصوم أول خميس من رجب ثم يصلي فيما بين العشاء والعتمة اثنتي عشرة ركعة يفصل بين كل ركعتين بتسليمة يقرأ في كل ركعة بفاتحة الكتاب مرة وإنا أنزلناه في ليلة القدر ثلاث مرات وقل هو الله أحد اثنتي عشرة مرة، فإذا فرغ من صلاته صلى علي سبعين مرة يقول: اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آله ثم يسجد ويقول في سجوده سبعين مرة: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، ثم يرفع رأسه ويقول سبعين مرة: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم، ثم يسجد سجدة أخرى ويقول فيها مثل ما قال في السجدة الأولى ثم يسأل حاجته في سجوده فإنها تقضى" قال رسول الله ﷺ "لا يصلي أحد هذه الصلاة إلا غفر الله تعالى له جميع ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر وعدد الرمل ووزن الجبال وورق الأشجار ويشفع يوم القيامة في سبعمائة من أهل بيته ممن قد استوجب النار" فهذه صلاة مستحبة، وإنما أوردناها في هذا القسم لأنها تتكرر بتكرر السنين وإن كانت رتبتها لا تبلغ رتبة التراويح وصلاة العيد لأن هذه الصلاة نقلها الآحاد، ولكني رأيت أهل القدس بأجمعهم يواظبون عليها ولا يسمحون بتركها فأحببت إيرادها. وأما صلاة شعبان: فليلة الخامس عشر منه يصلي مائة ركعة كل ركعتين بتسليمة يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة قل هو الله أحد إحدى عشرة مرة، وإن شاء صلى عشر ركعات يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة مائة مرة قل هو الله أحد، فهذا أيضاً مروي في جملة الصلوات كان السلف يصلون هذه الصلاة ويسمونها صلاة الخير ويجتمعون فيها وربما صلوها جماعة. روي عن الحسن أنه قال: حدثني ثلاثون من أصحاب النبي ﷺ أن من صلى هذه الصلاة هذه الليلة نظر الله إليه سبعين نظرة وقضى له بكل نظرة سبعين حاجة أدناها المغفرة

القسم الرابع من النوافل

ما يتعلق بأسباب عارضية ولا يتعلق بالمواقيت

وهي تسعة صلاة الخسوف والكسوف والاستسقاء وتحية المسجد وركعتي الوضوء وركعتين بين الأذان والإقامة وركعتين عند الخروج من المنزل والدخول فيه. ونظائر ذلك فنذكر منها ما يحضرنا الآن الأولى صلاة الخسوف: قال رسول الله ﷺ "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة" قال ذلك لما مات ولده إبراهيم ﷺ وكسفت الشمس فقال الناس. إنما كسفت لموته. والنظر في كيفيتها ووقتها، أما الكيفية: فإذا كسفت الشمس في وقت الصلاة فيه مكروهة أو غير مكروهة نودي "الصلاة جامعة" وصلى الإمام بالناس في المسجد ركعتين وركع في كل ركعة ركوعين أوائلهما أطول من أواخرهما. ولا يجهر فيقرأ في الأولى من قيام الركعة الأولى الفاتحة والبقرة؛ وفي الثانية الفاتحة وآل عمران، وفي الثالثة الفاتحة وسورة النساء، وفي الرابعة الفاتحة وسروة المائدة، أو مقدار ذلك من القرآن من حيث أراد، ولو اقتصر على الفاتحة في كل قيام أجزأه ولو اقتصر على سور قصار فلابأس. ومقصود التطويل دوام الصلاة إلى الإنجلاء. ويسبح في الركوع الأول قدر مائة آية، وفي الثاني قدر ثمانين، وفي الثالث قدر سبعين، وفي الرابع قدر خمسين. وليكن السجود على قدر الركوع في كل ركعة. ثم يخطب خطبتين بعد الصلاة بينهما جلسة ويأمر الناس بالصدقة والعتق والتوبة. وكذلك يفعل بخسوف القمر إلا أنه يجهر فيها لأنها ليلية. فأما وقتها فعند ابتداء الكسوف إلى تمام الإنجلاء ويخرج وقتها بأن تغرب الشمس كاسفة.

وتفوت صلاة خسوف القمر بأن يطلع قرص الشمس إذ يبطل سلطان الليل ولا تفوت بغروب القمر خاسفاً لأن الليل كله سلطان القمر، فإن انجلى في أثناء الصلاة أتمها مخففة. ومن أدرك الركوع الثاني مع الإمام فقد فاتته تلك الركعة لأن الأصل هو الركوع الأول . الثانية صلاة الاستسقاء: فإذا غارت الأنهار وانقطعت الأمطار أو إنهارت قناة فيستحب للإمام أن يأمر الناس أولاً بالصيام ثلاثة أيام وما أطاقوا من الصدقة والخروج من المظالم والتوبة من المعاصي، ثم يخرج بهم في اليوم الرابع والعجائز والصبيان متنظفين في ثياب بذلة واستكانة متواضعين - بخلاف العيد - وقيل يستحب إخراج الدواب لمشاركتها في الحاجة ولقوله ﷺ "لولا صبيان رضع ومشايخ ركع وبهائم رتع لصب عليكم العذاب صباً" ولو خرج أهل الذمة أيضاً متميزين لم يمنعوا فإذا اجتمعوا في المصلى الواصل من الصحراء نودي "الصلاة جامعة" فصلى بهم الإمام ركعتين مثل صلاة العيد - بغير تكبير - ثم يخطب خطبتين وبينهما جلسة خفيفة، وليكن الاستغفار معظم الخطبتين، وينبغي في وسط الخطبة الثانية، أن يستدبر الناس ويستقبل القبلة ويحول رداءه في هذه الساعة تفاؤلاً بتحويل الحال. هكذا فعل رسول الله ﷺ فيجعل أعلاه أسفله وما على اليمين على الشمال وما على الشمال على اليمين. وكذلك يفعل الناس ويدعون في هذه الساعة سراً، ثم يستقبلهم فيختم الخطبة ويدعون أرديتهم محولة كما هي حتى ينزعوها متى نزعوا الثياب. ويقول في الدعاء: اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك فقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا اللهم فامنن علينا بمغفرة ما قارفنا وإجابتك في سقيانا وسعة أرزاقنا. ولابأس بالدعاء أدبار الصلوات في الأيام الثلاثة قبل الخروج ولهذا الدعاء آداب وشروط باطنة من التوبة ورد المظالم وغيرها، وسيأتي ذلك في كتاب الدعوات الثالثة صلاة الجنائز: وكيفيتها مشهورة وأجمع دعاء مأثور ما روي في الصحيح عن عوف بن مالك قال "رأيت رسول الله ﷺ صلى على جنازة فحفظت من دعائه: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وأبدله داراً خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" حتى قال عوف: تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. ومن أدرك التكبيرة الثانية فينبغي أن يراعي ترتيب الصلاة في نفسه ويكبر مع تكبيرات الإمام فإذا سلم الإمام قضى تكبيرة الذي فات كفعل المسبوق، فإنه لو بادر التكبيرات لم تبق للقدوة في هذه الصلاة معنى، فالتكبيرات هي الأركان الظاهرة، وجدير بأن تقام مقام الركعات في سائر الصلوات، هذا هو الأوجه عندي وإن كان غيره محتملاً.

والأخبار الواردة في فضل صلاة الجنازة وتشييعها مشهورة فلا نطيل بإيرادها، وكيف لا يعظم فضلها وهي من فرائض الكفايات? وإنما تصير نفلاً في حق من لم تتعين عليه بحضور غيره، ثم ينال بها فضل فرض الكفاية وإن لم يتعين لأنهم بجملتهم قاموا بما هو فرض الكفاية وأسقطوا الحرج عن غيرهم، فلا يكون ذلك كنفل لا يسقط به فرض عن أحد، ويستحب طلب كثرة الجمع تبركاً بكثرة الهمم والأدعية واشتماله على ذي دعوة مستجابة لما روى كريب عن ابن عباس: أنه مات له ابن فقال: يا كريب أنظر مااجتمع له الناس قال: فخرجت فإذا ناس قد اجتمعوا له فأخبرته فقال: تقول هم أربعون قلت: نعم، قال: أخرجوه فإنس سمعت رسول الله ﷺ يقول "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله عز وجل فيه" وإذا شيع الجنازة فوصل المقابر أو دخلها ابتداء قال: السلام عليكم أهل هذه الديار من المؤمنين والمسلمين ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. والأولى أن لا ينصرف حتى يدفن الميت فإذا سوي على الميت قبره قام عليه وقال: اللهم عبدك رد إليك فارأف به وارحمه اللهم جاف الأرض عن جنبيه وافتح أبواب السماء لروحه وتقبله منك بقول حسن اللهم إن كان محسناً فضاعف له في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه . الرابعة تحية المسجد: ركعتان فصاعداً سنة مؤكدة حتى أنها لا تسقط وإن كان الإمام يخطب يوم الجمعة مع تؤكد وجوب الإصغاء إلى الخطيب. وإن اشتغل بفرض أو قضاء تأدى به التحية وحصل الفضل إذ المقصود أن لا يخلو ابتداء دخوله عن العبادة الخاصة بالمسجد قياماً بحق المسجد. ولهذا يكره أن يدخل المسجد على غير وضوء فإن دخل لعبور أو جلوس فليقل "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" يقولها أربع مرات يقال إنها عدل ركعتين في الفضل. ومذهب الشافعي رحمه الله أنه لا تكره التحية في أوقات الكراهية: وهي بعد العصر وبعد الصبح ووقت الزوال ووقت الطلوع والغروب، لما روي "أنه ﷺ صلى ركعتين بعد العصر فقيل له أما نهيتنا عن هذا? فقال: هما ركعتان كنت أصليهما بعد الظهر فشغلني عنهما الوفد" فأفاد هذا الحديث فائدتين إحداهما؛ أن الكراهية مقصورة على صلاة لا سبب لها ومن أضعف الأسباب قضاء النوافل إذ اختلف العلماء في أن النوافل هل تقضى وإذا فعل مثل ما فاته هل يكون قضاء? وإذا انتفت الكراهية بأضعف الأسباب فبأحرى أن تنتفي بدخول المسجد وهو سبب قوي. ولذلك لا تكره صلاة الجنازة إذ حضرت ولا صلاة الخسوف والاستسقاء في هذه الأوقات لأن لها أسباباً. الفائدة الثانية: قضاء النوافل إذا قضى رسول الله ﷺ ذلك ولنا فيه أسوة حسنة. وقالت عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله ﷺ إذا غلبه نوم أو مرض فلم يقم تلك الليلة صلى من أول النهار اثنتي عشرة ركعة" وقد قال العلماء: من كان في الصلاة ففاته جواب المؤذن فإذا سلم قضى وأجاب وإن كان المؤذن سكت، ولا معنى الآن لقول من يقول: إن ذلك مثل الأول وليس يقضي، إذ لو كان كذلك لما صلاها رسول الله ﷺ في وقت الكراهة. نعم من كان له ورد فعاقه عن ذلك عذر فينبغي أن لا يرخص لنفسه في تركه. بل يتداركه في وقت آخر حتى لا تميل نفسه إلى الدعة والرفاهية. وتداركه حسن على سبيل مجاهدة النفس ولأنه ﷺ قال "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن قل" فيقصد به أن لا يفتر في دوام عمله وروت عائشة رضي الله عنها عن النبي ﷺ أنه قال "من عبد الله عز وجل بعبادة ثم تركها ملالة مقته الله عز وجل" فليحذر أن يدخل تحت الوعيد. وتحقيق هذا الخبر. أنه مقته الله تعالى بتركها ملالة فلولا المقت والإبعاد لما سلطت الملالة عليه . الخامسة ركعتان بعد الوضوء مستحبتان لأن الوضوء قربة ومقصودها الصلاة والأحداث عارضة فربما يطرأ الحدث قبل صلاة فينتقض الوضوء ويضيع السعي فالمبادرة إلى ركعتين استيفاء لمقصود الوضوء قبل الفوات. وعرف ذلك بحديث بلال إذ قال ﷺ "دخلت الجنة فرأيت بلالاً فيها فقلت لبلال بم سبقتني إلى الجنة? فقال بلال لا أعرف شيئاً إلا أني لاأحدث وضوءاً إلا أصلي عقيبه ركعتين" السادسة ركعتان عند دخول المنزل وعند الخروج منه: روى أبو هريرة رضي الله عنه قال "قال رسول الله ﷺ: إذا خرجت من منزلك فصل ركعتين يمنعانك مخرج السوء وإذا دخلت إلى منزلك فصل ركعتين يمنعانك مدخل السوء" وفي معنى هذا كل أمر يبتدأ به مما له وقع، ولذلك ورد ركعتان عند الإحرام وركعتان عند ابتداء السفر وركعتان عند الرجوع من السفر في المسجد قبل دخول البيت فكل ذلك مأثور من فعل رسول الله ﷺ. وكان بعض الصالحين إذا أكل أكلة صلى ركعتين وإذا شرب شربة صلى ركعتين، وكذلك في كل أمر يحدثه. وبداية الأمور ينبغي أن يتبرك فيها بذكر الله عز وجل وهي على ثلاث مراتب: بعضها يتكرر مراراً كالأكل والشرب فيبدأ فيه باسم الله عز وجل وقال ﷺ "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أبتر" الثانية: ما لا يكثر تكرره وله وقع كعقد النكاح وابتداء النصيحة والمشورة فالمستحب فيها أن يصدر بحمد الله فيقول المزوج "الحمد لله والصلاة على رسول الله ﷺ زوجتك ابنتي" ويقول القابل "الحمد لله والصلاة على رسول الله ﷺ قبلت النكاح" وكانت عادة الصحابة رضي الله عنهم في ابتداء أداء الرسالة والنصيحة والمشورة تقديم التحميد. الثالثة: ما لا يتكرر كثيراً وإذا وقع دام وكان له وقع كالسفر وشراء دار جديدة والإحرام وما يجري مجراه فيستحب تقديم ركعتين عليه وأدناه الخروج من المنزل والدخول إليه فإنه نوع سفر قريب . السابعة صلاة الاستخارة: فمن هم بأمر وكان لا يدري عاقبته ولا يعرف أن الخير في تركه أو في الإقدام عليه فقد أمره رسول الله ﷺ "بأن يصلي ركعتين يقرأ في الأولى فاتحة الكتاب وقل يا أيها الكافرون، وفي الثانية الفاتحة وقل هو الله أحد، فإذا فرغ دعا وقال اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاقدره لي وبارك لي فيه ثم يسره لي وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياي وعاقبة أمري وعاجله وآجله فاصرفني عنه واصرفه عني واقدر لي الخير أينما كان إنك على كل شيء قدير" رواه جابر بن عبد الله قال "كان رسول الله ﷺ يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن" وقال ﷺ "إذا هم أحدكم بأمر فليصل ركعتين ثم ليسم الأمر ويدعو بما ذكرناه، وقال بعض الحكماء من أعطي أربعاً لم يمنع أربعاًن من أعطي الشكر لم يمنع المزيد ومن أعطي التوبة لم يمنع القبول ومن أعطي الاستخارة لم يمنع الخيرة ومن أعطي المشورة لم يمنع الصواب الثامنة صلاة الحاجة فمن ضاق عليه الأمر ومسته حاجة في صلاح دينه ودنياه إلى أمر تعذر عليه فليصل هذه الصلاة فقد روي عن وهيب بن الورد أنه قال: إن من الدعاء الذي لا يرد أن يصلي العبد ثنتي عشرة ركعة يقرأ في كل ركعة بأم الكتاب وآية الكرسي وقل هو الله أحد فإذا فرغ خر ساجداً ثم قال "سبحان الذي لبس العز وقال به سبحان الذي تعطف بالمجد وتكرم به سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان ذي المن والفضل سبحان ذي العز والكرم سبحان ذي الطول أسألك بمعاقد العز من عرشك ومنتهى الرحمة من كتابك وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامات العامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر أن تصلي على محمد وعلى آل محمد" ثم يسال حاجته التي لا معصية فيها فيجاب إن شاء الله عز وجل. قال وهيب: بلغنا أنه كان يقال: لا تعلموها لسفهائكم فيتعاونون بها على معصية الله عز وجل . التاسعة صلاة التسبيح: وهذه الصلاة مأثورة على وجهها ولا تختص بوقت ولا بسبب ويستحب أن لا يخلو الأسبوع عنها مرة واحدة أو الشهر مرة. فقد روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه ﷺ قال للعباس بن عبد المطلب: ألا أعطيك ألا أمنحك ألا أحبوك بشيء إذا أنت فعلته غفر الله لك ذنبك أوله وآخره قديمه وحديثه خطأه وعمده سره وعلانيته تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم تقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر. خمس عشرة مرة ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشر مرات، ثم ترفع من الركوع فتقولها عشراً ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها وأنت ساجد عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً ، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة تفعل ذلك في أربع ركعات إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة فإن لم تفعل ففي السنة مرة" وفي رواية أخرى "أنه يقول في أول الصلاة سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك وتقدست أسماؤك ولا إله غيرك، ثم يسبح خمس عشرة تسبيحة قبل القراءة وعشراً بعد القراءة والباقي كما سبق عشراً عشراً ولا يسبح بعد السجود الأخير قاعداًن وهذا هو الأحسن وهو اختيار ابن المبارك. والمجموع من الروايتين ثلثمائة تسبيحة فإن صلاها نهاراً فبتسليمة واحدة وإن صلاها ليلاً فبتسليمتين أحسن؛ إذ ورد. أن صلاة الليل مثنى مثنى" وإن راد بعد التسبيح قوله "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" فهو حسن فقد ورد ذلك في بعض الروايات فهذه الصلوات المأثورة. ولا يستحب شيء من هذه النوافل في الأوقات المكروهة إلا تحية المسجد "وما أوردناه بعد التحية من ركعتي الوضوء وصلاة السفر والخروج من المنزل والاستخار فلأن النهي مؤكد وهذه الأسباب ضعيفة فلا تبلغ درجة الخسوف والاستسقاء والتحية. وقد رأيت بعض المتصوفة يصلي في الأوقات المكروهة ركعتي الوضوء وهو في غاية البعد لأن الوضوء لا يكون سبباً للصلاة بل الصلاة سبب الوضوء. فينبغي أن يتوضأ ليصلي لا أنه يصلي لأنه توضأ. وكل محدث يريد أن يصلي في وقت الكراهية فلا سبيل له إلا أن يتوضأ ويصلي فلا يبقى للكراهية معنى. ولا ينبغي أن ينوي ركعتي الوضوء كما ينوي ركعتي التحية بل إذا توضأ صلى ركعتين تطوعاً كيلا يتعطل وضوءه كما كان يفعله بلال فهو تطوع محض يقع عقيب الوضوء. وحديث بلال لم يدل على أن الوضوء سبب كالخسوف والتحية حتى ينوي ركعتي الوضوء فيستحيل أن ينوي بالصلاة الوضوء بل ينبغي أن ينوي بالوضوء الصلاة. وكيف ينتظم أن يقول في وضوئه أتوضأ لصلاتي وفي صلاته يقول أصلي لوضوئي، بل من أراد أن يحرس وضوءه عن التعطيل في وقت الكراهية فلينو قضاء إن كان يجوز أن يكون في ذمته صلاة تطرق إليها خلل لسبب من الأسباب فإن قضاء الصلوات في أوقات الكراهية غير مكروه "فأما نية التطوع فلا وجه لها. ففي النهي في أوقات الكراهية مهمات ثلاثة أحدها التوقي في مضاهاة عبدة الشمس، والثاني: الاحتراز من انتشار الشياطين إذ قال ﷺ "إن الشمس لتطلع ومعها قرن الشيطان فإذا طلعت قارنها وإذا ارتفعت فارقها فإن استوت قارنها فإذا زالت فارقها فإذا تضيفت للغروب قارنها فإذا غربت فارقها" ونهى عن الصلوات في هذه الأوقات ونبه على العلة، والثالث: أن سالكي طريق الآخرة لا يزالون يواظبون على الصلوات في جميع الأوقات. والمواظبة على نمط واحد من العبادات يورث الملل. ومهما منع منها ساعة زاد النشاط وانبعثت الدواعي، والإنسان حريص على ما منع منه ففي تعطيل هذه الأوقات زيادة تحريض وبعث على انتظار انقضاء الوقت، فخصصت هذه الأوقات بالتسبيح والاستغفار حذراً من الملل بالمداومة وتفرجاً بالانتقال من نوع عبادة إلى نوع آخر. ففي الاستطراف والاستجداد لذة ونشاط وفي الاستمرار على شيء واحد استثقال وملال. ولذلك لم تكن الصلاة سجوداً مجرداً ولا ركوعاً مجرداً ولا قياماً مجرداً بل رتبت العبادات من أعمال مختلفة وأذكار متباينة، فإن القلب يدرك من كل عمل منهما لذة جديدة عند الانتقال إليها ولو واظب على الشيء الواحد لتسارع إليه الملل. فإذا كانت هذه أموراً مهمة في النهي عن ارتكاب أوقات الكراهة إلى غير ذلك من أسرار أخر ليس في قوة البشر الاطلاع عليها والله ورسوله أعلم بها. فهذه المهمات لا تترك إلا بأسباب مهمة في الشرع مثل قضاء الصلوات وصلاة الاستسقاء والخسوف وتحية المسجد. فأما ما ضعف عنها فلا ينبغي أن يصادم به مقصود النهي. هذا هو الأوجه عندنا والله أعلم.

كمل كتاب: أسرار الصلاة من كتاب إحياء علوم الدين. يتلوه إن شاء الله كتاب أسرار الزكاة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه. والحمد لله وحده وصلاته على خير خلقه محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...