يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الجمعة، 31 مارس 2023

مج 3. من أسرار الزكاة الي أول كتاب ترتيب الأوراد وتفصيل إحياء الليل

مج 3. إحياء علوم الدين للغزالي /كتاب أسرار الزكاة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أسعد وأشقى وأمات وأحيا وأضحك وأبكى وأوجد وأفنى وأفقر وأغنى وأضر وأقنى الذي خلق الحيوان من نطفة تمنى، ثم تفرد عن الخلق بوصف الغنى، ثم خصص بعض عباده بالحسنى فأفاض عليهم من نعمة ما أيسر به من شاء واستغنى وأحود إليه من أخفق في رزقه وأكدى إظهاراً للامتحان والابتلا. ثم جعل الزكاة للدين أساساً ومبنى وبين أن بفضله تزكى من عباده من تزكى ومن غناه وكى ماله من زكى والصلاة على محمد المصطفى سيد الورى وشمس الهدى وعلى آله واصحابه المخصوصين بالعلم والتقى.

أما بعد: فإن الله تعالى جعل الزكاة إحدى مباني الإسلام وأردف بذكرها الصلاة التي هي أعلى الأعلام فقال تعالى "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" وقال ﷺ "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة" وشدد الوعيد على المقصرين فيها فقال "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم" ومعنى الإنفاق في سبيل الله إخراج حق الزكاة قال الأحنف بن قيس: كنت في نفر من قريش فمر أبو ذر فقال بشر الكانزين بكي في ظهورهم يخرج من جنوبهم وبكي في أقفائهم يخرج من جباههم. وفي رواية أنه يوضع على حلمة ثدي أحدهم فيخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل - وقال أبو ذر: انتهيت إلى رسول الله ﷺ وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال "هم الأخسرون ورب الكعبة فقلت ومن هم: قال: الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم، ما من صاحب إبل ولا بقر ولا غنم لا يؤدي زكاتها إلا جاءت يوم القيامة أعظم ما كانت وأسمنه تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها كلما نفدت أخراها عادت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس" وإذا كان هذا التشديد مخرجاً في الصحيحين فقد صار من مهمات الدين الكشف على أسرار الزكاة وشروطها الجلية والخفية ومعانيها الظاهرة والباطنة مع الاقتصار على ما لا يستغنى عن معرفته مؤدي الزكاة وقابضها وينكشف ذلك في أربعة فصول الفصل الأول في أنواع الزكاة وأسباب وجوبها الثاني آدابها وشروطها الباطنة والظاهرة الثالث في القابض وشروط استحقاقه وآداب قبضه الرابع في صدقة التطوع وفضلها

===

الفصل الأول

في أنواع الزكاة وأسباب وجوبها

والزكوات باعتبار متعلقاتها ستة أنواع زكاة النعم والنقدين والتجارة وزكاة الركاز والمعادن وزكاة المعشرات وزكاة الفطر

النوع الأول

زكاة النعم

ولا تجب هذه الزكاة وغيرها إلا على حر مسلم. ولا يشترط البلوغ بل تجب في مال الصبي والمجنون هذا شرط من عليه. وأما المال فشروطه خمسة: أن يكون نعماً سائمة باقية حولاً نصاباً كاملاً مملوكاً على الكمال الشرط الأول كونه نعماً فلا زكاة إلا في الإبل والبقر والغنم. أما الخيل والبغال والحمير والمتولد من بين الظباء والغنم فلا زكاة فيها الثاني السوم: فلا زكاة في معلوفة وإذا أسيمت في وقت وعلفت في وقت تظهر بذلك مؤنتها فلا زكاة فيها الثالث الحول: قال رسول الله ﷺ "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" ويستثنى من هذا نتاج الحول الرابع كمال الملك والتصرف: فتجب الزكاة في الماشية المرهونة لأنه الذي حجر على نفسه فيه ولا تجب في الضال والمغصوب إلا إذا عاد بجميع نمائه فيجب زكاة ما مضى عند عوده ولو كان عليه دين يستغرق ماله فلا زكاة عليه فإنه ليس غنياً به إذ الغنى ما يفضل عن الحاجة. الخامس كمال النصاب.

أما الإبل فلا شيء فيها حتى تبلغ خمساً ففيها جذعة من الضأن والجذعة هي التي تكون في السنة الثانية، أو ثنية من المعز وهي التي تكون في السنة الثالثة. وفي عشر شاتان، وفي خمس عشرة ثلاث شياه. وفي عشرين أربع شياه. وفي خمس وعشرين بنت مخاض وهي التي في السنة الثانية، فإن لم يكن في ماله بنت مخاض فابن لبون ذكر وهو الذي في السنة الثالثة يؤخذ إن كان قادراً على شرائها. وفي ست وثلاثين ابنة لبون. ثم إذا بلغت ستاً وأربعين ففيها حقة وهي التي في السنة الرابعة. فإذا صارت إحدى وستين ففيها جذعة وهي التي في السنة الخامسة، فإذا صارت ستاً وسبعين ففيها بنتا لبون. فإذا صارت إحدى وتسعين ففيها حقتان. فإذا صارت إحدى وعشرين ومائة ففيها ثلاث بنات لبون. فإذا صارت مائة وثلاثين فقد استقر الحساب؛ ففي كل خمسي حقة، وفي كل أربعين بنت لبون.

وأما البقر فلا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين ففيها تبيع وهو الذي في السنة الثانية. ثم في أربعين مسنة وهي التي في السنة الثالثة. ثم في ستين تبيعان. واستقر الحساب بعد ذلك. ففي كل أربعين مسنة. وفي كل ثلاثين تبيع.

وأما الغنم فلا زكاة فيها حتى تبلغ أربعين ففيها شاة جذعة من الضأن أو ثنية من المعز. ثم لا شيء فيها حتى تبلغ مائة وعشرين وواحدة ففيها شاتان. إلى مائتي شاة وواحدة فيها ثلاث شياه إلى أربعمائة ففيها أربع شياه. ثم استقر الحساب في كل مائة شاة. وصدقة الخليطين كصدقة المالك الواحد في النصاب فإذا كان بين رجلين أربعون من الغنم ففيها شاة. وإن كان بين ثلاثة نفر مائة شاة وعشرون ففيها شاة واحدة. على جميعهم. وخلطة الجوار كخلطة الشيوع ولكن يشترط أن يريحا معاً ويسقيا معاً ويحلبا معاً ويسرحا معاً ويكون المرعى معاً ويكون إنزاء الفحل معاً. وأن يكونا جميعاً من أهل الزكاة ولا حكم للخلطة مع الذمي والمكاتب. ومهما نزل في واجب الإبل عن سن إلى سن فهو جائز ما لم يجاوز بنت مخاض في النزول. ولكن تضم إليه جبران السن لسنة واحدة شاتين أو عشرين درهماً. ولسنتين أربع شياه أو أربعين درهماً. وله أن يصعد في السن ما لم يجاوز الجذعة في الصعود ويأخذ الجبران من الساعين من بيت المال. ولا تؤخذ في الزكاة مريضة إذا كان بعض المال صحيحاً ولو واحدة. ويؤخذ من الكرائم كريمة ومن اللئام لئيمة. ولا يؤخذ من المال الأكولة ولا الماخض ولا الربا ولا الفحل ولا غراء المال.

النوع الثاني

زكاة المعشرات

فيجب العشر في كل مستنبت مقتات بلغ ثمانمائة من ولا شيء فيما دونها ولا في الفواكه والقطن، ولكن في الحبوب التي تقتات وفي التمر والزبيب. ويعتبر أن تكون ثمانمائة من تمراً أو زبيباً لا رطباً وعنباً، ويخرج من ذلك بعد التجفيف. ويكمل مال أحد الخليطين بمال الآخر في خلطة الشيوع كالبستان المشترك بين ورثة لجميعهم ثمانمائة من من زبيب، فيجب على جميعهم ثمانون مناً من زبيب بقدر حصصهم. ولا يعتبر خلطة الجوار فيه. ولا يكمل نصاب الحنطة بالشعير. ويكمل نصاب الشعير بالسلت فإنه نوع منه، هذا قدر الواجب إن كان يسقى بسيح أو قناة فإن كان يسقى بنضح أو دالية فيجب نصف العشر، فإن اجتمعا فالأغلب يعتبر. وأما صفة الواجب فالتمر والزبيب اليابس والحب اليابس بعد التنقية. ولا يؤخذ عنب ولا رطب إلا إذا حلت بالأشجار آفة وكانت المصلحة في قطعها قبل تمام الإدراك، فيؤخذ الرطب فيكال تسعة للمالك وواد للفقير. ولا يمنع من هذه القسمة قولنا: إن القسمة بيع، بل يرخص في مثل هذا للحاجة. ووقت الوجوب أن يبدو الصلاح في الثمار وأن يشتد الحب. ووقت الأداء بعد الجفاف.

النوع الثالث

زكاة النقدين

فإذا تم الحول على وزن مائتي درهم بوزن مكة نقرة خالصة ففيها خمسة دراهم، وهو ربع العشر، وما زاد فبحسابه ولو درهماً. ونصاب الذهب عشرون مثقالاً خالصاً بوزن مكة ففيها ربع العشر، وما زاد فبحسابه وإن نقص من النصاب حبة فلا زكاة. وتجب على من معه دراهم مغشوشة إذا كان فيها هذا المقدار من النقرة الخالصة. وتجب الزكاة في التبر وفي الحلي المحظور كأواني الذهب والفضة ومراكب الذهب للرجال. ولا تجب في الحلي المباح. وتجب في الدين الذي هو على ملىء ولكن تجب عند الاستيفاء وإن كان مؤجلاً فلا تجب إلا عند حلول الأجل.

النوع الرابع

زكاة التجارة

وهي كزكاة النقدين، وإنما ينعقد الحول من وقت ملك النقد الذي به اشترى البضاعة إن كان النقد نصاباً؛ فإن كان ناقصاً أو اشترى بعرض على نية التجارة فالحول من وقت الشراء. وتؤدى الزكاة من نقد البلد وبه يقوم. فإن كان ما به الشراء نقداً وكان نصاباً كاملاً كان التقويم به أولى من نقد البلد. ومن نوى التجارة من مال قنية فلا ينعقد الحول بمجرد نيته حتى يشتري به شيئاً ومهما قطع نية التجارة قبل تمام الحول سقطت الزكاة. والأولى أن تؤدى زكاة تلك السنة، وما كان من ربح في السلعة في آخر الحول وجبت الزكاة فيه بحول رأس المال ولم يستأنف له حولاً كما في النتاج. وأموال الصيارفة لا ينقطع حولها بالمبادلة الجارية بينهم كسائر التجارات وزكاة ربح مال القراض على العامل وإن كان قبل القسمة؛ هذا هو الأقيس.

النوع الخامس

الركاز والمعدن

والركاز مال دفن في الجاهلية ووجد في أرض لم يجر عليها في الإسلام ملك، فعلى واجده في الذهب والفضة منه الخمس والحول غير معتبر. فالأولى أن لا يعتبر النصاب أيضاً لأن إيجاب الخمس يؤكد شبهه بالغنيمة. واعتباره أيضاً ليس ببعيد لأن مصرف الزكاة ولذلك يخصص على الصحيح بالنقدين.

وأما المعادن فلا زكاة فيما استخرج منها سوى الذهب والفضة؛ ففيها بعد الطحن والتخليص ربع العشر على أصح القولين، وعلى هذا يعتبر النصاب. وفي الحول قولان، وفقي قول: يجب الخمس؛ فعلى هذا لا يعتبر. وفي النصاب قولان والأشبه - والعلم عند الله تعالى - أن يلحق في قدر الواجب بزكاة التجارة فإنه نوع اكتساب. وفي الحول بالمعشرات فلا يعتبر لأنه عين الرفق ويعتبر النصاب كالمعشرات، والاحتياط أن يخرج الخمس من القليل والكثير، ومن عين النقدين أيضاً خروجاً عن شبهة هذه الاختلافات فإنها ظنون قريبة من التعارض وجزم الفتوى فيها خطر لتعارض الاشتباه.

النوع السادس

في صدقة الفطر

وهي واجبة - على لسان رسول الله ﷺ - على كل مسلم فضل عن قوته وقوت من يقوته يوم الفطر وليلته صاع مما يقتات بصاع رسول الله ﷺ وهو منوان وثلاً من، يخرجه من جنس قوته أو من أفضل منه. فإن اقتات بالحنطة لم يجز الشعير. وإن اقتات حبوباً مختلفة اختار خيرها ومن أيها أخرج أجزأه. وقسمتها كقسمة زكاة الأموال فيجب فيها استيعاب الأصناف ولا يجوز إخراج الدقيق والسويق. ويجب على الرجل المسلم فطرة زوجته ومماليكه وأولاده وكل قريب هو في نفقته أعني من تجب عليه نفقته من الآباء والأمهات والأولاد. قال ﷺ "أدوا صدقة الفطر عمن تمونون" وتجب صدقة العبد المشترك على الشريكين ولا تجب صدقة العبد الكافر وإن تبرعت الزوجة بالإخراج عن نفسها أجزأها وللزوج الإخراج عنها دون إذنها. وإن فضل عنه ما يؤدى عن بعضهم أدى عن بعضهم، وأولاهم بالتقديم من كانت نفقته آكد. وقد قدم رسول الله ﷺ نفقة اللد على نفقة الزوجة ونفقتها على نفقة الخادم فهذه أحكام فقهية لابد للغني من معرفتها، وقد تعرض له وقائع نادرة خارجة عن هذا فله أن يتكل فيها على الاستفتاء عند نزول الواقعة بعد إحاطته بهذا المقدار.

===============

الفصل الثاني

في الأداء وشروطه الباطنة والظاهرة

اعلم أنه يجب على مؤدى الزكاة خمسة أمور الأول النية: وهو أن ينوي بقلبه زكاة الفرض ويسن عليه تعيين الأموال. فإن كان له مال غائب فقال هذا عن مالي الغائب إن كان سالماً وإلا فهو نافلة جاز؛ لأنه إن لم يصرح به فكذلك يكون عند إطلاقه. ونية الولي تقوم مقام نية المجنون والصبي. ونية السلطان تقوم مقام نية المالك الممتنع عن الزكاة ولكن في ظاهر حكم الدنيا - أعني في قطع المطالبة عنه - أما في الآخرة فلا بل تبقى ذمته مشغولة إلى أن يستأنف الزكاة وإذا وكل بأداء الزكاة ونوى عند التوكل أو وكل بالنية كفاه لأن توكيله بالنية نية الثاني البدار عقيب الحول وفي زكاة الفطر لا يؤخرها عن يوم الفطر. ويدخل وقت وجوبها بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان. ووقت تعجيلها شهر رمضان كله. ومن أخر زكاة ماله مع التمكن عصى ولم يسقط عنه بتلف ماله وتمكنه بمصادفة المستحق. وإن أخر لعدم المستحق فتلف ماله سقطت الزكاة عنه. وتعجيل الزكاة جائز بشرط أن يقع بعد كما النصاب وانعقاد الحول. ويجوز تعجيل زكاة حولين. ومهما عجل فمات المسكين قبل الحول أو ارتد أو صار غنياً بغير ما عجل إليه أو تلف مال المالك أو مات، فالمدفوع ليس بزكاة واسترجاعه غير ممكن إلا إذا قدي الدفع بالاسترجاع فليكن المعجل مراقباً آخر الأمور وسلامة العاقبة الثالث أن لا يخرج بدلاً باعتبار القيمة بل يخرج المنصوص عليه، فلا يجزىء ورق عن ذهب ولا ذهب عن ورق وإن زاد عليه في القيمة. ولعل بعض من لا يدرك غرض الشافعي رضي الله عنه يتساهل في ذلك ويلاحظ المقصود من سد الخلة وما أبعده عن التحصيل، فإن سد الخلة مقصود وليس هو كل المقصود بل واجبات الشرع ثلاثة أقسام: قسم هو تعبد محصن لا مدخل للحظوظ والأغراض فيه. وذلك كرمي الجمرات مثلاً إذ لا حظ للجمرة في وصول الحصى إليها، فمقصود الشرع فيه الابتلاء بالعمل ليظهر العبد رقه وعبوديته بفعل ما لا يعقل له معنى، لأن ما يعقل معناه فقد يساعده الطبع عليه ويدعوه إليه فلا يظهر به خلوص الرق والعبودية، إذ العبودية تظهر بأن تكون الحركة لحق أمر المعبود فقط لا لمعنى آخر. وأكثر أعمال الحج كذلك ولذلك قال ﷺ في إحرامه "لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً" تنبيهاً على أن ذلك إظهار للعبودية بالانقياد لمجرد الأمر وامتثاله كما أمر من غير استئناس العقل منه بما يميل إليه ويحث عليه. القسم الثاني: من واجبات الشرع ما المقصود منه حظ معقول وليس يقصد منه التعبد كقضاء دين الآدميين ورد المغصوب فلا جرم لا يعتبر فيه فعله ونيته. ومهما وصل الحق إلى مستحقه بأخذ المستحق أو ببدل عنه عند رضاه تأدى الوجوب وسقط خطاب الشرع. فهذان قسمان لا تركيب فيهما يشترك في دركهما جميع الناس والقسم الثالث: هو المركب الذي يقصد منه الأمران جميعاً وهو حظ العباد وامتحان المكلف بالاستعباد، فيجتمع فيه تعبد رمي الجمار وحظ رد الحقوق فهذا قسم في نفسه معقول، فإن ورد الشرع به وجب الجمع بين المعنيين ولا ينبغي أن ينسى أدق المعنيين وهو التعبد والاسترقاق بسبب أجلاهما، ولعل الأدق هو الأهم والزكاة من هذا القبيل ولم ينتبه له غير الشافعي رضي الله عنه فحظ الفقير مقصود في سد الخلة وهو جلي سابق إلى الأفهام وحق التعبد في اتباع التفاصيل مقصود للشرع. وباعتباره صارت الزكاة قرينة للصلاة والحج في كونها من مباني الإسلام. ولاشك في أن على المكلف تعباً في تمييز أجناس ماله وإخراج حصة كل مال من نوعه وجنسه وصفته. ثم توزيعه على الأصناف الثمانية كما سيأتي. والتساهل فيه غير قادح في حظ الفقير لكنه قادح في التعبد. ويدل على أن التعبد مقصود بتعيين الأنواع أمور ذكرناها في كتب الخلاف من الفقيهات. ومن أوضحها أن الشرع أوجب في خمس من الإبل شاة فعدل من الإبل إلى الشاة ولم يعدل إلى النقدين والتقويم وإن قدر أن ذلك لقلة النقود في أيدي العرب بطل بذكره عشرين درهماً في الجبران مع الشاتين فلم يذكر في الجبران قدر النقصان من القيمة? ولم قدر بعشرين درهماً وشاتين? وإن كانت الثياب والأمتعة كلها في معناها. فهذا وأمثاله من التخصيصات يدل على أن الزكاة لم تترك خالية عن التعبدات كما في الحج ولكن جمع بين المعنيين. والأذهان الضعيفة تقصر عن درك المركبات فهذا شأن الغلط فيه الرابع أن لا ينقل الصدقة إلى بلد آخر فإن أعين المساكين في كل بلد تمتد إلى أموالها، وفي النقل تخييب للظنون. فإن فعل ذلك أجزأه في قول ولكن الخروج عن شبهة الخلاف أولى فليخرج زكاة كل مال في تلك البلدة. ثم لابأس أن يصرف إلى الغرباء في تلك البلدة الخامس أن يقسم ماله بعدد الأصناف الموجودين في بلده، فإن استيعاب الأصناف واجب وعليه يدل ظاهر قوله تعالى "إنما الصدقات للفقراء والمساكين" الآية فإنه يشبه قول المريض إنما ثلث مالي للفقراء والمساكين وذلك يقتضي التشريك في التمليك. والعبادات ينبغي أن يتوقى عن الهجوم فيها على الظواهر. وقد عدم من الثمانية صنفان في أكثر البلاد: وهم المؤلفة قلوبهم والعاملون على الزكاة. ويوجد في جميع البلاد أربعة أصناف: الفقراء والمساكين والغارمون والمسافرون - أعني أبناء السبيل - وصنفان يوجدان في بعض البلاد دون البعض: وهم الغزاة والمكاتبون. فإن وجد خمسة أصناف مثلاً قسم بينهم زكاة ماله بخمسة أقسام متساوية أو متقاربة وعين لكل صنف قسم. ثم قسم كل قسم ثلاثة أسهم فما فوقه إما متساوية أو متفاوتة وليس عليه التسوية بين آحاد الصنف فإن له أن يقسمه على عشرة وعشرين فينقص نصيب كل واحد. وأما الأصناف فلا تقبل الزيادة والنقصان فلا ينبغي أن ينقص في كل صنف عن ثلاثة إن وجد. ثم لو لم يجب إلا صاع للفطرة ووجد خمسة أصناف فعليه أن يوصله إلى خمسة عشر نفراً. ولو نقص منهم واحد مع الإمكان غرم نصيب ذلك الواحد. فإن عسر عليه ذلك لقلة الواجب فليتشارك جماعة ممن عليهم الزكاة وليخلط مال نفسه بمالهم وليجمع المستحقين وليسلم إليهم حتى يتساهموا فيه فإن ذلك لابد منه.

بيان دقائق الآداب الباطنة في الزكاة

اعلم أن على مريد طريق الآخرة بزكاته وظائف الوظيفة الأولى: فهم وجوب الزكاة ومعناها ووجه الامتحان فيها وأنها لم جعلت من مباني الإسلام مع أنها تصرف مالي وليست من عبادة الأبدان وفيه ثلاث معان؛ الأول: أن التلفظ بكلمتي الشهادة التزام للتوحيد وشهادة بإفراد المعبود وشرط تمام الوفاء به أن لا يبقى للموحد محبوب سوى الواحد الفرد فإن المحبة لا تقبل الشركة، والتوحيد باللسان قليل الجدوى وإنما يمتحن به درجة المحب بمفارقة المحبوب والأموال محبوبة عند الخلائق لأنها آلة تمتعهم بالدنيا وبسببها يأنسون بهذا العالم وينفرون عن الموت مع أن فيه لقاء المحبوب، فامتحنوا بتصديق دعواهم في المحبوب واستنزلوا عن المال الذي هو مرقومهم ومعشوقهم. ولذلك قال الله تعالى "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" وذلك بالجهاد وهو مسامحة بالمهجة شوقاً إلى لقاء الله عز وجل والمسامحة بالمال أهون. ولما فهم هذا المعنى في بذل الأموال انقسم الناس إلى ثلاثة أقسام: قسم صدقوا التوحيد ووفوا بعهدهم ونزلوا عن جميع أموالهم فلم يدخروا ديناراً ولا درهماً فأبوا أن يتعرضوا الوجوب الزكاة عليهم حتى قيل لبعضهم كم يجب من الزكاة في مائتي درهم? فقال: أما على العوام بحكم الشرع فخمسة دراهم، وأما نحن فيجب علينا بذل الجميع. ولهذا تصدق أبو بكر رضي الله عنه بجميع ماله وعمر رضي الله عنه بشطر ماله فقال ﷺ "ما أبقيت لأهلك" فقال: مثله، وقال لأبي بكر رضي الله عنه "ما أبقيت لأهلك" قال الله ورسوله، فقال ﷺ "بينكما ما بين كلمتيكما" فالصديق وفي بتمام الصدق فلم يمسك سوى المحبوب عنده وهو الله ورسوله. القسم الثاني: درجتهم دون درجة هذا وهم الممسكون أموالهم المراقبون لمواقيت الحاجات ومواسم الخيرات، فيكون قصدهم في الادخار الإنفاق على قدر الحاجة دون التنعم وصرف الفاضل عن الحاجة إلى وجوه البر مهما ظهر وجوهها، وهؤلاء لا يقتصرون على مقدار الزكاة. وقد ذهب جماعة من التابعين إلى أن في المال حقوقاً سوى الزكاة كالنخعي والشعبي وعطاء ومجاهد. قال الشعبي بعد أن قيل له هل في المال حق سوى الزكاة? قال: نعم أما سمعت قوله عز وجل "وآتى المال على حبه ذوي القربى" الآية واستدلوا بقوله عز وجل "ومما رزقناهم ينفقون" وبقوله تعالى "وأنفقوا مما رزقناكم" وزعموا أن ذلك غير منسوخ بآية الزكاة بل هو داخل في حق المسلم على المسلم، ومعناه أنه يجب على الموسر مهما وجد محتاجاً أن يزيل حاجته فضلاً عن مال الزكاة والذي يصح في الفقه من هذا الباب أنه مهما أرهقته حاجته كانت إزالتها فرض كفاية إذ لا يجوز تضييع مسلم، ولكن يحتمل أن يقال ليس على الموسر إلا تسليم ما يزيل الحاجة قرضاً ولا يلزمه بذله بعد أن أسقط الزكاة عن نفسه، ويحتمل أن يقال يلزمه بذله في الحال ولا يجوز له الاقتراض أي لا يجوز له تكليف الفقير قبول القرض وهذا مختلف فيه، والاقتراض نزول إلى الدرجة الأخيرة من درجات العوام وهي درجة القسم الثالث الذين يقتصرون على أداء الواجب فلا يزيدون عليه ولا ينقصون عنه وهي أقل الرتب وقد اقتصر جميع العوام عليه لبخلهم بالمال وميلهم إليه وضعف حبهم للآخرة قال الله تعالى "إن يسألكموها فيحفكم تبخلوا" يحفكم أي يستقص عليكم فكم بين عبد اشترى منه ماله ونفسه بأن له الجنة وبين عبد لا يستقصي عليه لبخله؛ فهذا أحد معاني أمر الله سبحانه عباده ببذل الأموال المعنى الثاني: التطهير من صفة البخل فإنه من المهلكات قال ﷺ "ثلاث مهلكات شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه" وقال تعالى "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وسيأتي في ربع المهلكات وجه كونه مهلكاً وكيفية التقصي منه، وإنما تزول صفة البخل بأن تتعود بذل المال فحب الشيء لا ينقطع إلا بقهر النفس على مفارقته حتى يصير ذلك اعتياداً. فالزكاة بهذا المعنى طهرة أي تطهر صاحبها عن خبث البخل المهلك وإنما طهارته بقدر بذله وبقدر فرحه بإخراجه واستبشاره بصرفه إلى الله تعالى. المعنى الثالث: شكر النعمة فإن لله عز وجل على عبده نعمة في نفسه وفي ماله فالعبادات البدنية شكر لنعمة البدن والمالية شكر لنعمة المال. وما أخس من ينظر إلى الفقير وقد ضيق عليه الرزق وأحوج إليه ثم لا تسمح نفسه بأن يؤدي شكر الله تعالى على إغنائه عن السؤال وإحواج غيره إليه بربع العشر أو العشر من ماله.

الوظيفة الثانية: في وقت الأداء؛ ومن آداب ذوي الدين التعجيل عن وقت الوجوب إظهاراً للرغبة في الامتثال بإيصال السرور إلى قلوب الفقراء ومبادرة لعوائق الزمان أن تعوقه عن الخيرات وعلماً بأن في التأخير آفات مع ما يتعرض العبد له م العصيان لو أخر عن وقت الوجوب. ومهما ظهرت داعية الخير من الباطن فينبغي أن يغتنم فإن ذلك لمة الملك "وقل المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن" فما أسرع تقلبه والشيطان يعد الفقر ويأمر بالفحشاء والمنكر. وله لمة عقيب لمة الملك فليغتنم الفرصة فيه وليعين لزكاتها إن كان يؤديها جميعاً شهراً معلوماً وليجتهد أن يكون من أفضل الأوقات ليكون ذلك سبباً لنماء قربته وتضاعف زكاته. وذلك كشهر المحرم فإنه أول السنة وهو من الأشهر الحرم أو رمضان فقد كان ﷺ أجود الخلق وكان في رمضان كالريح المرسلة لا يمسك فيه شيئاً ولرمضان فضيلة ليلة القدر وأنه أنزل فيه القرآن. وكان مجاهد يقول: لا تقولوا رمضان فإنه اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان. وذو الحجة أيضاً من الشهور الكثيرة الفضل فإنه شهر حرام وفيه الحج الأكبر وفيه الأيام المعلومات وهي العشر الأول والأيام المعدودات وهي أيام التشريق. وأفضل أيام شهر رمضان العشر الأواخر. وأفضل أيام ذي الحجة العشر الأول.

الوظيفة الثالثة: الإسرار؛ فإن ذلك أبعد عن الرياء والسمعة قال ﷺ "أفضل الصدقة جهد المقل إلى فقير في سر" وقال بعض العلماء. ثلاث من كنوز البر منها إخفاء الصدقة وقد روي أيضاً مسنداً. وقال ﷺ "إن العبد ليعمل عملاً في السر فيكتبه الله له سراً فإن أظهره نقل من السر وكتب في العلانية فإن تحدث به نقل من السر والعلانية وكتب رياء وفي الحديث المشهور "سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله أحدهم رجل تصدق بصدقة فلم تعلم شماله بما أعطت يمينه" وف الخبر "صدقة السر تطفىء غضب الرب" وقال تعالى "وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم" وفائدة الإخفاء الخلاص من آفات الرياء والسمعة فقد قال ﷺ "لا يقبل الله من مسمع ولا مراء ولا منان والمتحدث بصدقته يطلب السمعة والمعطي في ملأ من الناس يبغي الرياء والإخفاء والسكوت هو المخلص منه" وقد بالغ في فضل الإخفاء جماعة حتى اجتهدوا أن لا يعرف القابض المعطي فكان بعضهم يلقيه في يد أعمى وبعضهم يلقيه في طريق الفقير وفي موضع جلوسه حيث يراه ولا يرى المعطي وبعضهم كان يصره في ثوب الفقير وهو نائم. وبعضهم كان يوصل إلى يد الفقير على يد غيره بحيث لا يعرف المعطي وكان يستكتم المتوسط شأنه ويوصيه بأن لا يفشيه: كل ذلك توصلاً إلى إطفاء غضب الرب سبحانه واحترازاً من الرياء والسمعة. ومهما لم يتمكن إلا بأن يعرفه شخص واحد فتسليمه إلى وكيل ليسلم إلى المسكين والمسكين لا يعرف أولى؛ إذ في معرفة المسكين الرياء والمنة جميعاً وليس في معرفة المتوسط إلا الرياء. ومهما كانت الشهرة مقصودة له حبط عمله لأن الزكاة إزالة للبخل وتضعيف لحب المال. وحب الجاه أشد استيلاء على النفس من حب المال وكل واحد منهما مهلك في الآخرة؛ ولكن صفة البخل تتقلب في القبر في حكم المثال عقرباً لادغاً، وصفة الرياء تقلب في القبر أفعى من الأفاعي وهو مأمور بتضعيفهما أو قتلهما لدفع أذاهما أو تخفيف أذاهما فمهما قصد الرياء والسمعة فكأنه جعل بعض أطراف العقرب مقوياً للحية فبقدر ما ضعف من العقرب زاد في قوة الحية ولو ترك الأمر كما كان لكان الأمر أهون عليه. وقوة هذه الصفات التي بها قوتها العمل بمقتضاها، وضعف هذه الصفات بمجاهدتها ومخالفتها والعمل بخلاف مقتضاها فأي فائدة في أن يخالف دواعي البخل ويجيب دواعي الرياء فيضعف الأدنى ويقوي الأقوى? وستأتي أسرار هذه المعاني في ربع المهلكات.

الوظيفة الرابعة: أن يظهر حيث يعلم أن في إظهاره ترغيباً للناس في الاقتداء ويحرس سره من داعية الرياء بالطريق الذي سنذكره في معالجة الرياء في كتاب الرياء فقد قال الله عز وجل "إن تبدوا الصدقات فنعما هي" وذلك حيث يقتضي الحال الإبداء إما للاقتداء وإما لأن السائل إنما سأل على ملأ من الناس فلا ينبغي أن يترك التصدق خيفة من الرياء في الإظهار بل ينبغي أن يتصدق ويحفظ سره عن الرياء بقدر الإمكان، وهذا لأن في الإظهار محذوراً ثالثاً سوى المن والرياء وهو هتك ستر الفقير "فإنه ربما يتأذى بأن يرى في صورة المحتاج فمن أظهر السؤال فهو الذي هتك ستر نفسه. فلا يحذر هذا المعنى في إظهاره وهو كإظهار الفسق على من تستر به فإنه محظور، والتجسس فيه والاعتياد بذكره منهي عنه: فأما من أظهره فإقامة الحد عليه إشاعة ولكن هو السبب فيها. وبمثل هذا المعنى قال ﷺ "من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له" وقد قال الله تعالى "وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية" ندب إلى العلانية أيضاً لما فيها من فائدة الترغيب فليكن العبد دقيق التأمل في وزن هذه الفائدة بالمحذور الذي فيه فإن ذلك يختلف بالأحوال والأشخاص" فقد يكون الإعلان في بعض الأحوال لبعض الأشخاص أفضل. ومن عرف الفوائد والغوائل ولم ينظر بعين الشهوة اتضح له الأولى والأليق بكل حال.

الوظيفة الخامسة: أن لا يفسد صدقته بالمن والأذى قال الله تعالى "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" واختلفوا في حقيقة المن والأذى فقيل المن أن يذكرها والأذى أن يظهرها: وقال سفيان: من من فسدت صدقته فقيل له كيف المن، فقال: أن يذكره ويتحدث به. وقيل: المن أن يستخدمه بالعطاء، والأذى أن يعيره بالفقر. وقيل: المن أن يتكبر عليه لأجل عطائه، والأذى أن ينتهره أو يوبخه بالمسألة. وقد قال ﷺ "لا يقبل الله صدقة منان" وعندي أن المن له أصل ومغرس وهو من أحوال القلب وصفاته: ثم يتفرع عليه أحوال ظاهرة على اللسان والجوارح فأصله أن يرى نفسه محسناً إليه ومنعماً عليه، وحقه أن يرى الفقير محسناً إليه بقبول حق الله عز وجل منه الذي هو طهرته ونجاته من النار، وأنه لو يقبله لبقي مرتهناً به فحقه أن يتقلد منه الفقير إذ جعل كفه نائباً عن الله عز وجل في قبض حق الله عز وجل. قال رسول الله ﷺ "إن الصدقة تقع بيد الله عز وجل قبل أن تقع في يد السائل" فليتحقق أنه مسلم إلى عز وجل حقه والفقير آخذ من الله تعالى. رزقه بعد صيرورته إلى الله عز وجل. ولو كان عليه دين لإنسان فأحال به عبده أو خادمه الذي هو متكفل برزقه لكان اعتقاد مؤدى الدين كون القابض تحت منته سفهاً وجهلاً، فإن المحسن إليه هو المتكفل برزقه. أما هو فإنما يقضي الذي لزمه بشراء ما أحبه فهو ساع في حق نفسه فلم يمن به على غيره. ومهما عرف المعاني الثلاثة التي ذكرناها في فهم وجوب الزكاة أو أحدها لم ير نفسه محسناً إلا إلى نفسه؛ إما ببذل ما له إظهاراً لحب الله تعالى أو تطهيراً لنفسه عن رذيلة البخل أو شكراً على نعمة المال طلباً للمزيد. وكيفما كان فلا معاملة بينه وبين الفقير حتى يرى نفسه محسناً إليه، ومهما حصل هذا الجهل بأن رأى نفسه محسناً إليه تفرع منه على ظاهره ما ذكر في معنى المن وهو التحدث به وإظهاره وطلب المكافأة منه بالشكر والدعاء والخدمة والتوقير والتعظيم والقيام بالحقوق والتقديم في المجالس والمتابعة في الأمور؛ فهذه كلها ثمرات المنة، ومعنى المنة في الباطن ما ذكرناه. وأما الأذى: فظاهره التوبيخ والتعبير وتخشين الكلام وتقطيب الوجه وهتك الستر بالإظهار وفنون الاستخفاف، وباطنه وهو منبعه أمران؛ أحدهما: كراهيته لرفع اليد عن المال وشدة ذلك على نفسه فإن ذلك يضيق الخلق لا محالة. والثاني: رؤيته أنه خير من الفقير وأن الفقير لسبب حاجته أخس منه وكلاهما منشؤه الجهل. أما كراهية تسليم المال فهو حمق لأن من كره بذل درهم في مقابلة ما يساوي ألفاً فهو شديد الحمق. ومعلوم أنه يبذل المال لطلب رضا الله عز وجل والثواب في الدار الآخرة وذلك أشرف مما بذله أو يبذله لتطهير نفسه عن رذيلة البخل أو شكراً لطلب المزيد. وكيفما فرض فالكراهة لا وجه لها. وأما الثاني: فهو أيضاً جهل لأنه لو عرف فضل الفقر على الغنى وعرف خطر الأغنياء لما استحقر الفقير بل تبرك به وتمنى درجته، فصلحاء الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام. ولذلك قال ﷺ "هم الأخسرون ورب الكعبة فقال أبو ذر: من هم? قال: هم الأكثرون أمولاً" الحديث? ثم كيف يستحقر الفقير وقد جعله الله تعالى متجرة له? إذ يكتسب المال بجهده ويستكثر منه ويجتهد في حفظه بمقدار الحاجة وقد ألزم أن يسلم إلى الفقير قدر حاجته ويكف عنه الفاضل الذي يضره لو سلم إليه؛ فالغني مستخدم للسعي في رزق الفقير ويتميز عليه بتقليد المظالم والتزام المشاق وحراسة الفضلات إلى أن يموت فيأكله أعداؤه، فإن مهما انتقلت الكراهية وتبدلت بالسرور والفرح بتوفيق الله تعالى له أداء الواجب وتفضيله الفقير حتى يخلصه عن عهدته بقبوله منه انتفى الأذى والتوبيخ وتقطيب الوجه وتبدل بالاستبشار والثناء وقبول المنة فهذا منشأ المن والأذى. فإن قلت: فرؤيته نفسه في درجة المحسن أمر غامض فهل من علامة يمتحن بها قلبه فيعرف بها أنه لم ير نفسه محسناً? فاعلم أن علامة دقيقة واضحة وهو أن يقدر أن الفقير لو جنى عليه جناية أو مالاً عدوا له عليه مثلاً هل كان يزيد استنكاره واستبعاده له على استنكاره قبل التصدق? فإن زاد لم تخل صدقته عن شائبة المنة لأنه توقع بسببه ما لم يكن يتوقعه قبل ذلك. فإن قلت، فهذا أمر غامض ولا ينفك قلب أحد عنه فما دواؤه? فاعلم أن له دواء باطناً ودواء ظاهراً: أما الباطن: فالمعرفة بالحقائق التي ذكرناها في فهم الوجوب وأن الفقير هو المحسن إليه في تطهيره بالقبول. وأما الظاهر: فالأعمال التي يتعاطاها متقلد المنة فإن الأفعال التي تصدر عن الأخلاق تصبغ القلب بالأخلاق - كما سيأتي أسراره في الشطر الأخير من الكتاب - ولهذا كان بعضهم يضع الصدقة بين يدي الفقير ويتمثل قائماً بين يديه يسأله قبولها حتى يكون هو في صورة السائلين وهو يستشعر مع ذلك كراهية لو رده. وكان بعضهم يبسط كفه ليأخذ الفقير من كفه وتكون يد الفقير هي العليا. وكانت عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما إذا أرسلتا معروفاً إلى فقير قالتا للرسول: احفظ ما يدعو به ثم كانتا تردان عليه مثل قوله، وتقولان: هذا بذاك حتى تخلص لنا صدقتنا. فكانوا لا يتوقعون الدعاء لأنه شبه المكافأة وكانوا يقابلون الدعاء بمثله. وهكذا فعل عمر بن الخطاب وابنه عبد الله رضي الله عنهما. وهكذا كان أرباب القلوب يداوون قلوبهم ولا دواء من حيث الظاهر إلا هذه الأعمال الدالة على التذلل والتواضع وقبول المنة ومن حيث الباطن المعارف التي ذكرناها؛ هذا من حيث العمل وذلك من حيث العلم. ولا يعالج القلب إلا بمعجون العلم والعمل، وهذه الشريطة من الزكوات تجري مجرى الخشوع من الصلاة وثبت ذلك بقوله ﷺ "ليس للمرء من صلاته إلا ما عقل منها". وهذا كقوله ﷺ "لا يتقبل الله صدقة من منان" وكقوله عز وجل "لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى" وأما فتوى الفقيه بوقوعها موقعها وبراءة ذمته عنها دون هذا الشرط فحديث آخر وقد أشرنا إلى معناه في كتاب الصلاة.

الوظيفة السادسة: أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها والعجب من المهلكات وهو محبط للأعمال قال تعالى "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً" ويقال إن الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله عز وجل. والمعصية كلما استعظمت صغرت عند الله عز وجل. وقيل لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور: تصغيره وتعجيله وستره. وليس الاستعظام هو المن والأذى، فإنه لو صرف ماله إلى عمارة مسجد أو رباط أمكن فيه الاستعظام ولا يمكن فيه المن والأذى بل العجب والاستعظام يجري في جميع العبادات ودواؤه علم وعمل. أما العلم: فهو أن يعلم أن العشر أو ربع العشر قليل من كثير وأنه قد قنع لنفسه بأخس درجات البذل - كما ذكرنا في فهم الوجوب - فهو جدير بأن يستحي منه فكيف يستعظمه? وإن ارتقى إلى الدرجة العليا فبذل كل ماله أو أكثره فليتأمل أنه من أين له المال وإلى ماذا يصرفه? فالمال لله عز وجل وله المنة عليه إذ أعطاه ووفقه لبذله فلم يستعظم في حق الله تعالى ما هو عين حق الله سبحانه? وإن كان مقامه يقتضي أن ينظر إلى الآخرة وأنه يبذله للثواب فلم يستعظم بذل ما ينتظر عليه أضعافه? وأما العمل: فهو أن يعطيه عطاء الخجل من بخله بإمساك بقية ماله عن الله عز وجل فتكون هيئته الانكسار والحياء، كهيئة من يطالب برد وديعة فيمسك بعضها ويرد البعض، لأن المال كله لله عز وجل وبذل جميعه هو الأحب عند الله سبحانه، وإنما لم يأمر به عبده لأنه يشق عليه بسبب بخله كما قال الله عز وجل "فيحفكم تبخلوا".

الوظيفة السابعة: أن ينتقي من ماله أجوده وأحبه إليه وأجله وأطيبه فإن الله تعالى طيب لا يقبل إلا طيباً. وإذا كان المخرج من شبهة فربما لا يكون ملكاً له مطلقاً فلا يقع الموقع. وفي حديث أبان عن أنس بن مالك "طوبى لعبد أنفق من مال اكتسبه من غير معصية" وإذا لم يكن المخرج من جيد المال فهو من سوء الأدب إذ قد يمسك الجيد لنفسه أو لعبده أو لأهله فيكون قد آثر على الله عز وجل غيره، ولو فعل هذا بضيفه وقدم إليه أردأ طعام في بيته لأوغر بذلك صدره، هذا إن كان نظره إلى الله عز وجل، وإن كان نظره إلى نفسه وثوابه في الآخرة فليس بعاقل من يؤثر غيره على نفسه، وليس له من ماله إلا ما تصدق به فأبقى أو أكل فأفنى، والذي يأكله قضاء وطر ف الحال فليس من العقل قصر النظر على العاجلة وترك الادخار وقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" أي لا تأخذوه إلا مع كراهية وحياء وهو معنى الإغماض فلا تؤثروا به ربكم. وفي الخبر "سبق درهم مائة ألف درهم" وذلك بأن يخرجه الإنسان وهو من أحل ماله وأجوده فيصدر ذلك عن الرضا والفرح بالبذل، وقد يخرج مائة ألف درهم مما يكره من ماله فيدل ذلك على أنه ليس يؤثر الله عز وجل بشيء مما يحبه. وبذلك ذم الله تعالى قوماً جعلوا لله ما يكرهون فقال تعالى "ويجعلون لله ما يكرهون وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا" وقف بعض القراء على النفي تكذيباً لهم، ثم ابتدأ وقال "جرم أن لهم النار" أي كسب لهم جعلهم لله ما يكرهون النار.

الوظيفة الثامنة: أن يطلب لصدقته من تزكو به الصدقة ولا يكتفى بأن يكون من عموم الأصناف الثمانية فإن في عمومهم خصوص صفات فليراع خصوص تلك الصفات وهي ستة. الأولى: أن يطلب الأتقياء المعرضين عن الدنيا المتجردين لتجارة الآخرة قال ﷺ "لا تأكل إلا طعام تقي ولا يأكل طعامك إلا تقي". وهذا لأن التقي يستعين به على التقوى فتكون شريكاً في طاعته بإعانتك إياه، وقال ﷺ "أطعمعوا طعامكم الأتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين" وفي لفظ آخر "أضف بطعامك من تحبه في الله تعالى" وكان بعض العلماء يؤثر بالطعام فقراء الصوفية دون غيرهم فقيل له: لو عممت بمعروفك جميع الفقراء لكان أفضل. فقال: لا هؤلاء قوم هممهم لله سبحانه فإذا طرقتهما فاقة تشتت هم أحدهم فلأن أرد همة واحد إلى الله عز وجل أحب إلي من أن أعطي ألفاً ممن همته الدنيا، فذكر هذا الكلام للجنيد فاستحسنه وقال: هذا ولي من أولياء الله تعالى وقال ما سمعت منذ زمان كلاماً أحسن من هذا، ثم حكى أن هذا الرجل اختل حاله وهم بترك الحانوت فبعث إليه الجنيد مالاً وقال: اجعله بضاعتك ولا تترك الحانوت فإن التجارة لا تضر مثلك، وكان هذا الرجل بقالاً لا يأخذ من الفقراء ثمن ما يبتاعون منه. الصفة الثانية: أن يكون من أهل العلم خاصة فإن ذلك إعانة له على العلم، والعلم أشرف العبادات مهما صحت فيه النية. وكان ابن المبارك يخصص بمعروفه أهل العلم فقيل له: لو عممت، فقال: إني لا أعرف بعد مقام النبوة أفضل من مقام العلماء فإذا اشتغل قلب أحدهم بحاجته لم يتفرغ للعلم ولم يقبل على التعلم فتفريغهم للعلم أفضل. الصفة الثالثة: أن يكون صادقاً في تقواه وعلمه بالتوحيد. وتوحيده أنه إذا أخذ العطاء حمد الله عز وجل وشكره ورأى أن النعمة منه ولم ينظر إلى واسطة فهذا هو أشكر العباد لله سبحانه وهو أن يرى أن النعمة كلها منه. وفي وصية لقمان لابنه: لا تجعل بينك وبين الله منعماً واعدد نعمة غيره عليك مغرماً. ومن شكر غير الله سبحانه فكأنه لم يعرف المنعم ولم يتيقن أن الواسطة مقهور مسخر بتسخير الله عز وجل إذ سلط الله تعالى عليه دواعي الفعل ويسر له الأسباب فأعطى وهو مقهور، ولو أراد تركه لم يقدر عليه بعد أن ألقى الله عز وجل في قلبه أن صلاح دينه ودنياه في فعله. فمهما قوي الباعث أوجب ذلك جزم الإرادة وانتهاض القدرة ولم يستطع العبد مخالفة الباعث القوي الذي لا تردد فيه والله عز وجل خالق للبواعث ومهيجها ومزيل للضعف والتردد عنها ومسخر القدرة للانتهاض بمقتضى البواعث. فمن تيقن هذا لم يكن له نظر إلا إلى مسبب الأسباب: وتيقن مثل هذا العبد أنفع للمعطي من ثناء غيره وشكره، فذلك حركة لسان يقل في الأكثر جدواه وإعانة مثل هذا العبد الموحد لا تضيع. وأما الذي يمدح بالعطاء ويدعو بالخير فسيذم بالمنع ويدعو بالشر عند الإيذاء وأحواله متفاوتة. وقد روي أنه ﷺ بعث معروفاً إلى بعض الفقراء وقال للرسول احفظ ما يقول؛ فلما أخذ قال الحمد لله الذي لا ينسى من ذكره ولا يضيع من شكره. ثم قال اللهم إنك لم تنس فلاناً - يعني نفسه - فاجعل فلاناً لا ينساك - يعني بفلان نفسه - فاخبر رسول الله ﷺ بذلك فسر وقال ﷺ: علمت أنه يقول ذلك" فانظر كيف قصر التفاته على الله وحده "وقال ﷺ لرجل: تب فقال أتوب إلى الله وحده ولا أتوب إلى محمد فقال ﷺ عرف الحق لأهله" ولما نزلت براءة عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك قال أبو بكر رضي الله عنه: قومي فقبلي رأس رسول الله ﷺ فقالت والله لا أفعل ولا أحمد إلا الله فقال ﷺ: دعها يا أبا بكر"وفي لفظ آخر "أنها رضي الله عنها قالت لأبي بكر رضي الله عنه: بحمد الله لا بحمدك ولا بحمد صاحبك" فلم ينكر رسول الله ﷺ عليها ذلك مع أن الوحي وصل إليها على لسان رسول الله ﷺ. ورؤية الأشياء من غير الله سبحانه وصف الكافرين قال الله تعالى "وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون" ومن لم يصف باطنه عن رؤية الوسائط إلا من حيث إنهم وسائط فكأنه لم ينفك عن الشرك الخفي سره. فليتق الله سبحانه في تصفية توحيده عن كدورات الشرك وشوائبه. الصفة الرابعة: أن يكون مستتراً مخفياً حاجته لا يكثر البث والشكوى أو يكون من أهل المروءة ممن ذهبت نعمته وبقيت عادته فهو يتعيش في جلباب التجمل قال الله تعالى "يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافاً" أي لا يلحون في السؤال لأنهم أغنياء بيقينهم أعزة بصبرهم، وهذا ينبغي أن يطلب بالتفحص عن أهل الدين في كل محلة ويستكشف عن بواطن أحوال أهل الخير والتجمل فثواب صرف المعروف إليهم أضعاف ما يصرف إلى المجاهرين بالسؤال. الصفة الخامسة: أن يكون معيلاً أو محبوساً بمرض أو بسبب من الأسباب فيوجد فيه معنى قوله عز وجل "للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" أي حبسوا في طريق الآخرة بعيلة أو ضيق معيشة أو إصلاح قلب "لا يستطيعون ضرباً في الأرض" لأنهم مقصوصو الجناح مقيدو الأطراف. فبهذه الأسباب كان عمر رضي الله عنه يعطي أهل البيت القطيع من الغنم - العشرة فما فوقها - وكان ﷺ يعطي العطاء على مقدار العيلة وسأل عمر رضي الله عنه عن جهد البلاء فقال كثرة العيال وقلة المال. الصفة السادسة: أن يكون من الأقارب وذوي الأرحام فتكون صدقة وصلة رحم وفي صلة الرحم من الثواب ما لا يحصى. قال علي رضي الله عنه: لأن أصل أخاً من إخواني بدرهم أحب إلي من أن أتصدق بعشرين درهماً ولأن أصله بعشرين درهماً أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم ولأن أصله بمائة درهم أحب إلي من أن أعتق رقبة. والأصدقاء وإخوان الخير أيضاً يقدمون على المعارف كما يتقدم الأقارب على الأجانب؛ فليراع هذه الدقائق فهذه هي الصفات المطلوبة، وفي كل صفة درجات فينبغي أن يطلب أعلاها، فإن وجد من جمع جملة من هذه الصفات فهي الذخيرة الكبرى والغنيمة العظمى. ومهما اجتهد في ذلك وأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد، فإن أحد أجريه في الحال تطهيره نفسه عن صفة البخل وتأكيد حب الله عز وجل في قلبه واجتهاده في طاعته، وهذه الصفات هي التي تقوي في قلبه فتشوقه إلى لقاء الله عز وجل. والأجر الثاني ما يعود إليه من فائدة دعوة الآخذ وهمته فإن قلوب الأبرار لها آثار في الحال والمآل، فإن أصاب حصل الأجران وإن أخطأ حصل الأول دون الثاني فبهذا يضاعف أجر المصيب في الاجتهاد ههنا وفي سائر المواضع والله أعلم.

===================

الفصل الثالث

في القابض وأسباب استحقاقه ووظائف قبضه

بيان أسباب الاستحقاق

اعلم أنه لا يستحق الزكاة إلا حر مسلم ليس بهاشمي ولا مطلبي اتصف بصفة من صفات الأصناف الثمانية المذكورين في كتاب الله عز وجل. ولا تصرف زكاة إلى كافر ولا إلى عبد ولا إلى هاشمي ولا إلى مطلبي. أما الصبي والمجنون فيجوز الصرف إليهما إذا قبض وليهما فلنذكر صفات الأصناف الثمانية الصنف الأول الفقراء: والفقير هو الذي ليس له مال ولا قدرة على الكسب، فإن كان معه قوت يومه وكسوة حاله فليس بفقير ولكنه مسكين، وإن كان معه نصف قوت يومه فهو فقير، وإن كان معه قميص وليس معه منديل ولا خف ولا سراويل ولم تكن قيمة القميص بحيث تفي بجميع ذلك كما يليق بالفقراء فهو فقير، لأنه في الحال قد عدم ما هو محتاج إليه وما هو عاجز عنه فلا ينبغي أن يشترط في الفقير أن لا يكون له كسوة سوى ساتر العورة فإن هذا غلو، والغالب أنه لا يوجد مثله ولا يخرجه عن الفقر كونه معتاداً للسؤال، فلا يجعل السؤال كسباً بخلاف ما لو قدر على كسب فإن ذلك يخرجه عن الفقر فإن قدر على الكسب بآلة فهو فقير ويجوز أن يشتري له آلة. وإن قدر على كسب لا يليق بمروءته وبحال مثله فهو فقير، وإن كان متفقهاً ويمنعه الاشتغال بالكسب عن التفقه فهو فقير ولا تعتبر قدرته، وإن كان متعبداً يمنعه الكسب من وظائف العبادات وأوراد الأوقات فليكتسب لأن الكسب أولى من ذلك قال ﷺ "طلب الحلال فريضة بعد الفريضة" وأراد به السعي في الاكتساب. وقال عمر رضي الله عنه: كسب في شبهة خير من مسألة. وإن كان مكتفياً بنفقة أبيه أو من تجب عليه نفقته فهذا أهون من الكسب فليس بفقير الصنف الثاني المساكين: والمسكين هو الذي لا يفي دخله بخرجه فقد يملك ألف درهم وهو مسكين وقد لا يملك إلا فأساً وحبلاً وهو غني، والدويرة التي يسكنها والثوب الذي يستره على قدر حاله لا يسلبه اسم المسكين، وكذا أثاث البيت - أعني ما يحتاج إليه - وذلك ما يليق به، وكذا كتب الفقه لا تخرجه عن المسكنة وإذا لم يملك إلا الكتب فلا تلزمه صدقة الفطر. وحكم الكتاب حكم الثوب وأثاث البيت فإنه محتاج إليه ولكن ينبغي أن يحتاط في قطع الحاجة بالكتاب، فالكتاب محتاج إليه لثلاثة أغراض: التعليم والاستفادة والتفرج بالمطالعة. أما حاجة التفرج فلا تعتبر كاقتناء كتب الأشعار وتواريخ الأخبار وأمثال ذلك مما لا ينفع في الآخرة ولا يجري في الدنيا إلا مجرى التفرج والاستئناس، فهذا يباع في الكفارة وزكاة الفطر وتمنع اسم المسكنة. وأما حاجة التعليم إن كان لأجل الكسب كالمؤدب والمعلم والمدرس بأجره فهذه آلته فلا تباع في الفطرة كأدوات الخياط وسائر المحترفين، وإن كان يدرس للقيام بفرض الكفاية فلا تباع ولا يسلبه ذلك اسم المسكين لأنها حاجة مهمة، وأما حاجة الاستفادة والتعلم من الكتاب كادخاره كتب طب ليعالج بها نفسه أو كتاب وعظ ليطالع فيه ويتعظ به فإن كان في البلد طبيب وواعظ فهذا مستغنى عنه وإن لم يكن فهو محتاج إليه. ثم ربما لا يحتاج إلى مطالعة الكتاب إلا بعد مدة فينبغي أن يضبط مدة الحاجة. والأقرب أن يقال ما لا يحتاج إليه في السنة فهو مستغنى عنه فإن من فضل من قوت يومه شيء لزمته الفطرة. فإذا قدرنا القوت باليوم فحاجة أثاث البيت وثياب البدن ينبغي أن تقدر بالسنة؛ فلا تباع ثياب الصيف في الشتاء والكتب بالثياب والأثاث أشبه وقد يكون له من كتاب نسختان فلا حاجة إلى إحداهما. فإن قال: إحداهما أصح والأخرى أحسن فأنا محتاج إليهما? قلنا: اكتف بالأصح وبع الأحسن ودع التفرج والترفه. وإن كان نسختان من علم واحد إحداهما بسيطة والأخرى وجيزة فإن كان مقصوده الاستفادة فليكتف بالبسيطة وإن كان قصده التدريس فيحتاج إليهما إذ في كل واحدة فائدة ليست في الأخرى. وأمثال هذه الصور لا تنحصر ولم يتعرض له في فن الفقه وإنما أوردناه لعموم البلوى والتنبيه بحسن هذا النظر على غيره. فإن استقصاء هذه الصور غير ممكن إذ يتعدى مثل هذا النظر في أثاث البيت في مقدارها وعددها ونوعها وفي ثياب البدن وفي الدار وسعتها وضيقها. وليس لهذه الأمور حدود محدودة ولكن الفقيه يجتهد فيها برأيه ويقرب في التحديدات بما يراه ويقتحم فيه خطر الشبهات. والمتورع يأخذ فيه بالأحوط ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه. والدرجات المتوسطة المشكلة بين الأطراف المتقابلة الجلية كثيرة ولا ينجي منها إلا الاحتياط والله أعلم. الصنف الثالث العاملون: وهم السعاة الذين يجمعون الزكوات سوى الخليفة والقاضي ويدخل فيه العريف والكاتب والمستوفى والحافظ والنقال ولا يزاد واحد منهم على أجرة المثل؛ فإن فضل شيء من الثمن عن أجر مثلهم رد على بقية الأصناف وإن نقص كمل من مال المصالح الصنف الرابع المؤلفة قلوبهم على الإسلام: وهم الأشراف الذين أسلموا وهم مطاعون في قومهم، وفي إعطائهم تقريرهم على الإسلام وترغيب نظائرهم وأتباعهم الصنف الخامس المكاتبون: فيدفع إلى السيد سهم المكاتب وإن دفع إلى المكاتب جاز ولا يدفع السيد زكاته إلى مكاتب نفسه لأنه يعد عبداً له. الصنف السادس الغارمون: والغارم هو الذي استقرض في طاعة أو مباح وهو فقير فإن استقرض في معصية فلا يعطى إلا إذا تاب، وإن كان غنياً لم يقض دينه إلا إذا كان قد استقرض لمصلحة أو إطفاء فتنة الصنف السابع الغزاة: الذين ليس لهم مرسوم في ديوان المرتزقة فيصرف إليهم سهم وإن كانوا أغنياء إعانة لهم على الغزو الصنف الثامن ابن السبيل: وهو الذي شخص من بلده ليسافر في غير معصية أو اجتاز بها فيعطى إن كان فقيراً وإن كان له مال ببلد آخر أعطي بقدر بلغته. فإن قلت: فبم تعرف هذه الصفات? قلنا: أما الفقر والمسكنة فبقول الآخذ ولا يطالب ببينة ولا يحلف بل يجوز اعتماد قوه إذا لم يعلم كذبه. وأما الغزو والسفر فهو أمر مستقبل فيعطى بقوله إني غاز فإن لم يف به استرد. وأما بقية الأصناف فلا بد فيها من البينة فهذه شروط الاستحقاق. وأما مقدار ما يصرف إلى كل واحد فسيأتي.

بيان وظائف القابض وهي خمسة

الأولى أن يعلم أن الله عز وجل أوجب صرف الزكاة إليه ليكفي همه ويجعل همومه هماً واحداً. فقد تعبد الله عز وجل الخلق بأن يكون همهم واحداً وهو الله سبحانه واليوم الآخر وهو المعنى بقوله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ولكن لما اقتضت الحكمة أن يسلط على العبد الشهوات والحاجات وهي تفرق هما اقتضى الكرم إفاضة نعمة تكفي الحاجات فأكثر الأموال وصبها في أيدي عباده لتكون آلة لهم في دفع حاجاتهم ووسيلة لتفرغهم لطاعاتهم، فمنهم من أكثر ماله فتنة وبلية فأقحمه في الخطر ومنهم من أحبه فحماه عن الدنيا كما يحمي المشفق مريضه فزوى عنه فضولها وساق إليه قدر حاجته على يد الأغنياء ليكون سهل الكسب والتعب في الجمع والحفظ عليهم، وفائدته تنصب إلى الفقراء فيتجردون لعبادة الله والاستعداد لما بعد الموت فلا تصرفهم عنها فضول الدنيا ولا تشغلهم عن التأهب الفاقة وهذا منتهى النعمة. فحق الفقير أن يعرف قدر نعمة الفقر ويتحقق أن فضل الله عليه فيما زواه عنه أكثر من فضله فيما أعطاه - كما سيأتي في كتاب الفقر تحقيقه وبيانه إن شاء الله تعالى - فليأخذ ما يأخذه من الله سبحانه رزقاً له وعوناً له على الطاعة ولتكن نيته فيه أن يتقوى به على طاعة الله فإن لم يقدر عليه فليصرفه إلى ما أباحه الله عز وجل فإن استعان به على معصية الله كان كافراً لأنعم الله عز وجل مستحقاً للبعد والمقت من الله سبحانه الثانية أن يشكر المعطي ويدعو له ويثني عليه ويكون شكره ودعاؤه بحيث لا يخرجه عن كونه واسطة ولكنه طريق وصول نعمة الله سبحانه إليه، وللطريق حق من حيث جعله الله طريقاً وواسطة وذلك لا ينافي رؤية النعمة من الله سبحانه فقد قال ﷺ "من لم يشكر الناس لم يشكر الله" وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم وهو خالقها وفاطر القدرة عليها نحو قوله تعالى "نعم العبد إنه أواب" إلى غير ذلك. وليقل القابض في دعائه طهر الله قلبك في قلوب الأبرار وزكى عملك في عمل الأخيار وصلى على روحك في أرواح الشهداء وقد قال ﷺ "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه" ومن تمام الشكر أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب ولا يحقره ولا يذمه ولا يعيره بالمنع إذا منع ويفخم عند نفسه وعند الناس صنيعه. فوظيفة المعطي الاستصغار ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام. وعلى كل عبد القيام بحقه؛ وذلك لا تناقض فيه إذ موجبات التصغير والتعظيم تتعارض. والنافع للمعطي ملاحظة أسباب التصغير ويضره خلافه والآخذ بالعكس منه. وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله عز وجل فإن من لا يرى الواسطة واسطة فقد جهل وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلاً الثالثة أن ينظر فيما يأخذه فإن لم يكن من حل تورع عنه "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" ولن يعدم المتورع عن الحرام فتوحاً من الحلال. فلا يأخذ من أموال الأتراك والجنود وعمال السلاطين ومن أكثر كسبه من الحرام إلا إذا ضاق الأمر عليه وكان ما يسلم إليه لا يعرف له مالكاً معيناً فله أن يأخذ بقدر الحاجة؛ فإن فتوى الشرع في مثل هذا أن يتصدق به - على ما سيأتي بيانه في كتاب الحلال والحرام - وذلك إذا عجز عن الحلال فإذا أخذ لم يكن أخذه أخذ زكاة إذ لا يقع زكاة عن مؤديه وهو حرام الرابعة أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا المقدار المباح ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحقاق. فإن كان يأخذه بالكتابة والغرامة فلا يزيد على مقدار الدين. وإن كان يأخذ بالعمل فلا يزيد على أجرة المثل. وإن أعطى زيادة أبى وامتنع إذ ليس المال للمعطي حتى يتبرع به. وإن كان مسافراً لم يزد على الزاد وكراء الدابة إلى مقصده. وإن كان غازياً لم يأخذ إلا ما يحتاج إليه للغزو خاصة من خيل وسلاح ونفقة. وتقدير ذلك بالاجتهاد وليس له حد، وكذا زاد السفر، والورع ترك ما يريبه إلى مالا يريبه. وإن أخذ بالمسكنة فلينظر أولاً إلى أثاث بيته وثيابه وكتبه هل فيها ما يستغنى عنه بعينه أو يستغنى عن نفاسته فيمكن أن يبدل بما يكفي ويفضل بعض قيمته? وكل ذلك إلى اجتهاده. وفيه طرف ظاهر يتحقق معه أنه مستحق وطرف آخر مقابل يتحقق معه أنه غير مستحق وبينهما أوساط مشتبهة، ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، والاعتماد في هذا على قول الآخذ ظاهراً. والمحتاج في تقدير الحاجات مقامات في التضييق والتوسيع ولا تحصر مراتبه وميل الورع إلى التضييق وميل المتساهل إلى التوسيع حتى يرى نفسه محتاجاً إلى فنون من التوسع وهو ممقوت في الشرع. ثم إذا تحققت حاجته فلا يأخذن مالاً كثيراً بل ما يتمم كفايته من وقت أخذه إلى سنة. فهذا أقصى ما يرخص فيه من حيث أن السنة إذا تكررت تكررت أسباب الدخل. ومن حيث إن رسول الله ﷺ ادخر لعياله قوت سنة فهذا أقرب ما يحد به حد الفقير والمسكين ولو اقتصر على حاجة شهره أو حاجة يومه فهو أقرب للتقوى. ومذاهب العلماء في قدر المأخوذ بحكم الزكاة والصدقة مختلفة فمن مبالغ في التقليل إلى حد أوجب الاقتصار على قدر قوت يومه وليلته وتمسكوا بما روى سهل بن الحنظيلية "أنه ﷺ نهى عن السؤال مع الغنى فسئل عن غناه فقال ﷺ غداؤه وعشاؤه" وقال آخرون: يأخذ إلى حد الغنى. حد الغنى نصاب الزكاة إذ لم يوجب الله تعالى الزكاة إلا على الأغنياء فقالوا له أن يأخذ بنفسه ولكل واحد من عياله نصاب زكاة. وقال آخرون: حد الغنى خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب لما روى ابن مسعود أنه ﷺ قال "من سال وله مال يغنيه جاء يوم القيامة وفي وجهه خموش فسئل وما غناء? قال خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب" وقيل: رواية ليس بقوي وقال قوم: أربعون، لما رواه عطاء بن يسار منقطعاً أنه ﷺ قال "من سأل وله أوقية فقد ألحف في السؤال" وبالغ آخرون في التوسيع فقالوا: له أن يأخذ مقداراً ما يشتري به ضيعة فيستغني به طول عمره أو يهيىء بضاعة ليتجر بها ويستغني بها طول عمره لأن هذا هو الغنى وقد قال عمر رضي الله عنه: إذا أعطيتم فأغنوا، حتى ذهب قوم إلى أن من افتقر فله أن يأخذ بقدر ما يعود به إلى مثل حاله ولو عشرة آلاف درهم إلا إذا خرج عن حد الاعتدال. ولما شغل أبو طلحة ببستانه عن الصلاة قال: جعلته صدقة. فقال ﷺ "اجعله في قرابتك فهو خير لك" فأعطاه حسان وأبا قتادة. فحائط من نخل لرجلين كثير مغن وأعطى عمر رضي الله عنه أعرابياً ناقة معها ظئر لها، فهذا ما حكي فيه فأما التقليل إلى قوت اليوم أو الأوقية فذلك ورد في كراهية السؤال والتردد على الأبواب وذلك مستنكر وله حكم آخر، بل التجويز إلى أن يشتري ضيعة فسيتغني بها أقرب إلى الاحتمال وهو أيضاً مائل إلى الإسراف. والأقرب إلى الاعتدال كفاية سنة فما وراءه فيه خطر وفيما دونه تضييق. وهذه الأمور إذا لم يكن فيها تقدير جزم بالتوقيف فليس للمجتهد إلا الحكم بما يقع له. ثم يقال للورع "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك" كما قاله ﷺ إذ الإثم حزاز القلوب، فإذا وجد القابض في نفسه شيئاً مما يأخذه فليتق الله فيه ولا يترخص تعللاً بالفتوى من علماء الظاهر فإن لفتواهم قيوداً ومطلقات من الضرورات، وفيها تخمينات واقتحام شبهات. والتوقي من الشبهات من شيم ذوي الدين وعادات السالكين لطريق الآخرة الخامسة أن يسأل صاحب المال عن قدر الواجب عليه فإن كان ما يعطيه فوق الثمن فلا يأخذه منه فإنه لا يستحق مع شريكه إلا الثمن فلينقص من الثمن مقدار ما يصرف إلى اثنين من صنفه. وهذا السؤال واجب على أكثر الخلق فإنهم لا يراعون هذه القسمة إما لجهل وإما لتساهل، وإنما يجوز ترك السؤال عن مثل هذه الأمور إذا لم يغلب على الظن احتمال التحريم. وسيأتي ذكر مظان السؤال ودرجة الاحتمال في كتاب الحلال والحرام إن شاء الله تعالى.

===============

الفصل الرابع

في صدقة التطوع وفضلها وآداب أخذها وإعطائها

بيان فضيلة الصدقة

من الأخبار: قوله ﷺ "تصدقوا ولو بتمرة فإنها تسد من الجائع وتطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار" وقال ﷺ "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة" وقال ﷺ "ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب ولا يقبل الله إلا طيباً إلا كان اللهه آخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تبغل الثمرة مثل أحد" وقال ﷺ لأبي الدرداء "إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبههم منه بمعروف" وقال ﷺ "كل امرىء في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس" وقال ﷺ "الصدقة تسد سبعين باباً من الشر" وقال ﷺ "صدقة السر تطفىء غضب الرب عز وجل وقال رسول الله ﷺ "ما الذي أعطى من سعة بأفضل أجراً من الذي يقبل من حاجة" ولعل المراد به الذي يقصد من دفع حاجته التفرغ للدين فيكون مساوياً للمعطي الذي يقصد بإعطائه عمارة دينه. وسئل رسول الله ﷺ "أي الصدقة أفضل? قال: أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفاقة ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان" وقد قال ﷺ يوماً لأصحابه "تصدقوا فقال رجل إن عندي ديناراً فقال أنفقه على نفسك فقال: إن عندي آخر قال أنفقه على زوجتك قال إن عندي آخر قال أنفقه على ولدك قال إن عندي آخر قال أنفقه على خادمك قال إن عندي آخر قال ﷺ أنت أبصر به" وقال ﷺ "لا تحل الصدقة لآل محمد إنما هي أوساخ الناس" وقال "ردوا مذمة السائل ولو بمثل رأس الطائر من الطعام" وقال ﷺ "لو صدق السائل ما أفلح من رده" وقال عيسى عليه السلام. من رد سائلاً خائباً من بيته لم تغش الملائكة ذلك البيت سبعة أيام وكان نبينا ﷺ لا يكل خصلتين إلى غيره كان يضع طهوره بالليل ويخمره وكان يناول المسكين بيده" وقال ﷺ "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان إنما المسكين المتعفف اقرءوا إن شئتم لا يسألون الناس إلحافاً" وقال ﷺ "ما من مسلم يكسو مسلماً غلا كان في حفظ الله عز وجل مادامت عليه منه رقعة". الآثار: قال عروة بن الزبير لقد تصدقت عائشة رضي الله عنها بخمسين ألفاً وإن درعها لمرقع وقال مجاهد في قول الله عز وجل "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً" فقال: وهم يشتهونه وكان عمر رضي الله عنه يقول: اللهم اجعل الفضل عند خيارنا لعلهم يعودون به على ذوي الحاجة منا. وقال عمر عبد العزيز: الصلاة تبلغك نصف الطريق والصوم يبلغك باب الملك والصدقة تدخلك عليه. وقال ابن أبي الجعد: إن الصدقة لتدفع سبعين باباً من السوء وفضل سرها على علانيتها بسبعين ضفعاً وإنها لتفك لحيى سبعين شيطاناً. وقال ابن مسعود: إن رجلاً عبد الله سبعين سنة ثم أصاب فاحشة فأحبط عمله ثم مر بمسكين فتصدق عليه برغيف فغفر الله له ذنبه ورد عليه عمل السبعين سنة. وقال لقمان لابنه: إذا أخطأت خطيئة فأعط الصدقة. وقال يحيى بن معاذ ما أعرف حبة تزن جبال الدنيا إلا الحبة من الصدقة. وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان يقال ثلاثة من كنوز الجنة كتمان المرض وكتمان الصدقة وكتمان المصائب. وروى مسنداً وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن الأعمال تباهت فقالت الصدقة أنا أفضلكن. وكان عبد الله بن عمر يتصدق بالسكر ويقول سمعت الله يقول "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" والله يعلم أني أحب السكر. وقال النخعي: إذا كان الشيء لله عز وجل لا يسرني أن يكون فيه عيب. وقال عبيد بن عمير: يحشر الناس يوم القيامة أجوع ما كانوا قط وأعطش ما كانوا قط وأعرى ما كانوا قط، فمن أطعم لله عز وجل أشبعه الله ومن سقى لله عز وجل سقاه الله ومن كسا لله عز وجل كساه الله، وقال الحسن: لو شاء الله لجعلكم أغنياء لا فقير فيكم ولكنه ابتلى بعضكم ببعض. وقال الشعبي: من لم ير نفسه إلى ثواب الصدقة أحوج من الفقير إلى صدقته فقد أبطل صدقته وضرب بها وجهه. وقال مالك: لا نرى بأساً بشرب المؤمن من الماء الذي يتصدق به ويسقى في المسجد لأنه إنما جعل للعطشان من كان، ولم يرد به أهل الحاجة والمسكنة على الخصوص

ويقال: إن الحسن مر به نخاس ومعه جارية فقال للنخاس أترضى في ثمنها الدرهم والدرهمين? قال: لا، قال فاذهب فإن الله عز وجل رضي في الحور العين بالفلس واللقمة.

بيان إخفاء الصدقة وإظهارها

قد اختلف طريق طلاب الإخلاص في ذلك فمال قوم إلى أن الإخفاء أفضل ومال قوم إلى أن الإظهار أفضل ونحن نشير إلى ما في كل واحد من المعاني والآفات ثم نكشف الغطاء عن الحق فيه.

أما الإخفاء ففيه خمسة معان الأول أنهه أبقى للستر على الآخذ فإن أخذه ظاهراً هتك لستر المروءة وكشف عن الحاجة وخروج عن هيئة التعفف والتصون المحبوب الذي يحسب الجاهل أهله أغنياء من التعفف. الثاني أنه أسلم لقلوب الناس وألسنتهم فإنهم ربما يحسدون أن ينكرون عليه أخذه ويظنون أنه آخذ مع الاستغناء أو ينسبونه إلى أخذ زيادة. والحسد وسوء الظن والغيبة من الذنوب الكبائر وصيانتهم عن هذه الجرائم أولى. وقال أبو أيوب السختياني: إني لأترك لبس الثوب الجديد خشية أن يحدث في جيراني حسداً. وقال بعض الزهاد: ربما تركت استعمال الشيء لأجل إخواني يقولون من أين له هذا? وعن إبراهيم التيمي: أنه رؤي عليه قميص جديد فقال بعض إخوانه من أين لك هذا? فقال كسانيه أخي خيثمة ولو علمت أن أهله علموا به ما قبلته. الثالث إعانة المعطي على إسرار العمل فإن فضل السر على الجهر في الإعطاء أكثر والإعانة على إتمام المعروف معروف، والكتمان لا يتم إلا باثنين فمهما أظهر هذا انكشف أمر المعطي. ودفع رجل إلى بعض العلماء شيئاً ظاهراً فرده إليه ودفع إليه آخر شيئاً في السر فقبله، فقيل له في ذلك فقال: إن هذا عمل الأدب في إخفاء معروفه فقبلته وذاك أساء أدبه في عمله فرددته عليه وأعطى رجل لبعض الصوفية شيئاً في الملأ فرده فقال له: لم ترد على الله عز وجل ما أعطاك? فقال: إنك أشركت غير الله سبحانه فيما كان لله تعالى ولم تقنع بالله عز وجل فرددت عليك شركك. وقبل بعض العارفين في السر شيئاً كان رده في العلانية فقيل له في ذلك؛ فقال عصيت الله بالجهر فلم أك عوناً لك على المعصية وأطعته بالإخفاء فأعنتك على برك. وقال الثوري: لو علمت أن أحدهم لا يذكر صدقة ولا يتحدث بها لقبلت صدقته. الرابع أن في إظهار الأخذ ذلاً وامتهاناً وليس للمؤمن أن يذل نفسه. كان بعض العلماء يأخذ في السر ولا يأخذ في العلانية ويقول: إن في إظهاره إذلالاً للعلم وامتهاناً لأهله فما كنت بالذي أرفع شيئاً من الدنيا بوضع العلم وإذلال أهله الخامس الاحتراز عن شبهة الشركة قال ﷺ "من أهدي له هدية وعنده قوم فهم شركاؤه فيها" وبأن يكون ورقاً أو ذهباً لا يخرج عن كونه هدية قال ﷺ "أفضل ما يهدي الرجل إلى أخيه ورقاً أو يطعمه خبزاً" فجعل الورق هدية بانفراده فما يعطى في الملأ مكروه إلا برضا جميعهم ولا يخلو عن شبهة، فإذا انفرد سلم من هذه الشبهة.

أما الإظهار والتحدث به ففيه معان أربعة الأول الإخلاص والصدق والسلامة عن تلبيس الحال والمراءاة والثاني إسقاط الجاه والمنزلة وإظهار العبودية والمسكنة والتبري عن الكبرياء ودعوى الاستغناء وإسقاط النفس من أعين الخلق. قال بعض العارفين لتلميذه: أظهر الأخذ على كل حال إن كنت آخذ فإنك لا تخلو عن أحد رجلين: رجل تسقط من قلبه إذا فعلت ذلك فذلك هو المراد لأنه أعلم لدينك وأقل لآفات نفسك، أو رجل تزداد في قلبه بإظهارك الصدق فذلك الذي يريده أخوك لأنه يزداد ثواباً بزيادة حبه لك وتعظيمه إياك فتؤجر أنت إذ كنت سبب مزيد ثوابه. الثالث هو أن العارف لا نظر له إلا إلى الله عز وجل والسر والعلانية في حقه واحد فاختلاف الحال شرك في التوحيد. قال بعضهم: كنا لا نعبأ بدعاء من يأخذ في السر ويرد في العلانية. والالتفات إلى الخلق حضروا أم غابوا نقصان في الحال، بل ينبغي أن يكون النظر مقصور على الواحد الفرد. حكي أن بعض الشيوخ كان كثير الميل إلى واحد من جملة المريدين فشق على الآخرين فأراد أن يظهر لهم فضيلة ذلك المريد، فأعطى كل واحد منهم دجاجة وقال: لينفرد كل واحد منكم بها وليذبحها حيث لا يراه أحد. فانفرد كل واحد وذبح إلا ذلك المريد فإنه رد الدجاجة، فسألهم فقالوا: فعلنا ما أمرنا به الشيخ، فقال الشيخ للمريد: مالك لم تذبح كما ذبح أصحابك? فقال ذلك المريد. لم أقدر على مكان لا يراني فيه أحد فإن الله يراني في كل موضع، فقال الشيخ: لهذا أميل إليه لأنه لا يلتفت لغير الله عز وجل. الرابع أن الإظهار إقامة لسنة الشكر وقد قال تعالى "وأما بنعمة ربك فحدث" والكتمان كفران النعمة وقد ذم الله عز وجل من كتم ما آتاه الله عز وجل وقرنه بالبخل فقال تعالى "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" وقال ﷺ "إذا أنعم الله على عبد نعمة أحب أن ترى نعمته عليه" وأعطى رجل بعض الصالحين شيئاً في السر فرفع به يده وقال: هذا من الدنيا والعلانية فيها أفضل والسر في أمور الآخرة أفضل. ولذلك قال بعضهم. إذا أعطيت في الملأ فخذ ثم اردد في السر والشكر فيه محثوث عليه. قال ﷺ "من لم يشكر الناس لم يشكر الله عز وجل" والشكر قائم مقام المكافأة حتى قال ﷺ "من أسدى إليكم معروفاً فكافئوه فإن لم تستطيعوا فأثنوا عليه به خيراً وادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه" ولما قال المهاجرون في الشكر "يا رسول الله ما رأينا خيراً من قوم نزلنا عندهم قاسمونا الأموال حتى خفنا أن يذهبوا بالأجر كله فقال ﷺ كل ما شكرتم لهم وأثنيتم عليهم به فهو مكافأة".

فالآن إذا عرفت هذه المعاني فاعلم أن ما نقل من اختلاف الناس فيه ليس اختلافاً في المسئلة بل هو اختلاف حال، فكشف الغطاء في هذا أنا لا نحكم حكماً بتاً بأن الإخفاء أفضل في كل حال أو الإظهار أفضل بل يختلف ذلك باختلاف النيات وتختلف النيات باختلاف الأحوال والأشخاص. فينبغي أن يكون المخلص مراقباً لنفسه حتى لا يتدلى بحبل الغرور ولا ينخدع بتلبيس الطبع ومكر الشيطان والمكر والخداع أغلب في معاني الإخفاء منه في الإظهار مع أن له دخلاً في كل واحد منهما. فأما مدخل الخداع في الإسرار فمن ميل الطبع إليه لما فيه من في خفض الجاه والمنزلة وسقوط القدر عن أعين الناس ونظر الخلق إليه بعين الازدراء وإلى المعطي بعين المنعم المحسن فهذا هو الداء الدفين ويستكن في النفس. والشيطان بواسطته يظهر معاني الخير حتى يتعلل بالمعاني الخمسة التي ذكرناها. ومعيار كل ذلك ومحكه أمر واحد وهو أن يكون تألمه بانكشاف أخذه الصدقة كتألمه بانكشاف صدقة أخذها بعض نظرائه وأمثاله، فإنه إن كان يبغي صيانة الناس عن الغيبة والحسد وسوء الظن أو يتقي انتهاك الستر أو إعانة المعطي على الإسرار أو صيانة العلم عن الابتذال فكل ذلك مما يحصل بانكشاف صدقة أخيه، فإن كان انكشاف أمره أثقل عليه من انكشاف أمر غيره فتقديره الحذر من هذه المعاني أغاليظ وأباطيل من مكر الشيطان وخدعه، فإن إذلال العلم محذور من حيث إنه علم لا من حيث إنه علم زيد أو علم عمرو. والغيبة محذورة من حيث إنها تعرض لعرض مصون لا من حيث إنها تعرض لعرض زيد على الخصوص ومن أحسن من ملاحظة مثل هذا ربما يعجز الشيطان عنه وإلا فلا يزال كثير العمل قليل الحظ. وأما جانب الإظهار فميل الطبع إليه من حيث إنه تطييب لقلب المعطي واستحثاث له على مثله وإظهاره عند غيره أنه من المبالغين في الشكر حتى يرغبوا في إكرامه وتفقده وهذا داء دفين في الباطن، والشيطان لا يقدر على المتدين إلا بأن يروج عليه هذا الخبث في معرض السنة ويقول له الشكر من السنة والإخفاء من الرياء ويورد عليه المعاني التي ذكرناها ليحمله على الإظهار وقصده الباطن ما ذكرناه ومعيار ذلك ومحكه أن ينظر إلى ميل نفسه إلى الشكر حيث لا ينتهي الخبر إلى المعطي ولا إلى من يرغب في عطائه؛ وبين يدي جماعة يكرهون إظهار العطية ويرغبون في إخفائها وعادتهم أنهم لا يعطون غلا من يخفي ولا يشكر. فإن استوت هذه الأحوال عنده فليعلم أن باعثه هو إقامة السنة في الشكر والتحدث بالنعمة وإلا فهو مغرور. ثم إذا علم أن باعثه السنة في الشكر فلا ينبغي أن يغفل عن قضاء حق المعطي فينظر فإن كان هو ممن يحب الشكر والنشر فينبغي أن يخفى ولا يشكر، لأن قضاء حقه أن لا ينصره على الظلم وطلبه الشكر ظلم. وإذا علم من حاله أنه لا يحب الشكر ولا يقصده فعند ذلك يشكره ويظهر صدقته. ولذلك قال ﷺ للرجل الذي مدح بين يديه "ضربتم عنقه لو سمعها ما أفلح" مع أنه ﷺ كان يثني على قوم في وجوههم لثقته بيقينهم وعلمه بأن ذلك لا يضرهم بل يزيد في رغبتهم في الخير فقال لواحد "إنه سيد أهل الوبر" وقال ﷺ في آخر "إذا جاءكم كريم قوم فأكرموه" وسمع كلام رجل فأعجبه فقال ﷺ "إن من البيان لسحراً" وقال ﷺ "إذا علم أحدكم من أخيه خيراً فليخبره فإنه يزداد رغبة في الخير" وقال ﷺ "إذا مدح المؤمن ربا الإيمان في قلبه" وقال الثوري: من عرف نفسه لم يضره مدح الناس. وقال أيضاً ليوسف بن أسباط: إذا أوليتك معروفاً كنت أنا أسر به منك ورأيت ذلك نعمة من الله عز وجل علي فاشكر وإلا فلا تشكر. ورقائق هذه المعاني ينبغي أن يلحظها من يراعي قلبه فإن أعمال الجوارح مع إهمال هذه الدقائق ضحكة للشيطان وشماته له لكثرة التعب وقلة النفع، ومثل هذا العلم هو الذي يقال فيه: إن تعلم مسألة واحدة منه أفضل من عبادة سنة إذ بهذا العلم تحيا عبادة العمل وبالجهل به تموت عبادة العمل كله وتتعطل. وعلى الجملة فالأخذ في الملأ والرد في السر أحسن المسالك وأسلمها، فلا ينبغي أن يدفع بالتزويقات إلا أن تكمل المعرفة بحيث يستوي السر والعلانية وذلك هو الكبريت الأحمر الذي يتحدث به ولا يرى. نسأل الله الكريم حسن العون والتوفيق.

بيان الأفضل من أخذ الصدقة أو الزكاة كان إبراهيم الخواص والجنيد وجماعة يرون أن الأخذ من الصدقة أفضل فإن في أخذ الزكاة مزاحمة للمساكين وتضييقاً عليهم ولأنه ربما لا يكمل في أخذه صفة الاستحقاق كما وصف في الكتاب العزيز وأما الصدقة فالأمر فيها أوسع. وقال قائلون: بأخذ الزكاة دون الصدقة لأنها إعانة على الواجب. ولو ترك المساكين كلهم أخذ الزكاة لأثموا: ولأن الزكاة لا منة فيها وإنما هو حق واجب لله سبحانه رزقاً لعباده المحتاجين. ولأنه أخذ بالحاجة والإنسان يعلم حاجة نفسه قطعاً. وأخذ الصدقة أخذ بالدين فإن الغالب أن المتصدق يعطي من يعتقد فيه خيراً؛ ولأن مرافقة المساكين أدخل في الذل والمسكنة وأبعد من التكبر؛ إذ قد يأخذ الإنسان الصدقة في معرض الهدية فلا تتميز عنه؛ وهذا تنصيص على ذل الآخذ وحاجته. والقول الحق في هذا يختلف بأحوال الشخص وما يغلب عليه وما يحضره من النية فإن كان في شبهة من اتصافه بصفة الاستحقاق فلا ينبغي أن يأخذ الزكاة. فإذا علم أنه مستحق قطعاً إذا حصل عليه دين صرفه إلى خير وليس له وجه في قضائه فهو مستحق قطعاً. إذا خير هذا بين الزكاة وبين الصدقة فإذا كان صاحب الصدقة لا يتصدق بذلك المال لو لم يأخذه هو فليأخذ الصدقة؛ فإن الزكاة الواجبة يصرفها صاحبها إلى مستحقها ففي ذلك تكثير للخير وتوسيع على المساكين. وإن كان المال معرضاً للصدقة ولم يكن في أخذ الزكاة تضييق على المساكين فهو مخير والأمر فيهما يتفاوت. وأخذ الزكاة أشد في كسر النفس وإذلالها في أغلب الأحوال والله أعلم.

كمل كتاب أسرار الزكاة بحمد الله وعونه وحسن توفيقه؛ ويتلوه إن شاء الله تعالى كتاب أسرار الصوم والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وعلى الملائكة والمقربين من أهل السموات والأرضين وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً دائماً إلى يوم الدين والحمد لله وحده وحسبنا الله ونعم الوكيل.

==========

======

======

كتاب أسرار الصوم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أعظم على عباده المنة، بما دفع عنهم كيد الشيطان وفنه، ورد أمله وخيب ظنه؛ إذ جعل الصوم حصناً لأوليائه وجنة، وفتح لهم به أبواب الجنة، وعرفهم أن وسيلة الشيطان إلى قلوبهم الشهوات المستكنة، وإن بقمعها تصبح النفس المطمئنة ظاهرة الشوكة في قصم خصمها قوية المنة، والصلاة على محمد قائد الخلق وممهد السنة وعلى آله وأصحابه ذوي الأبصار الثاقبة والعقول المرجحنة وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن الصوم ربع الإيمان بمقتضى قوله ﷺ "الصوم نصف الصبر" وبمقتضى قوله ﷺ "الصبر نصف الإيمان" ثم هو متميز بخاصية النسبة إلى الله تعالى من بين سائر الأركان إذ قال الله تعالى فيما حكاه عنه نبيه ﷺ "كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به" وقد قال الله تعالى "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" والصوم نصف الصبر فقفد جاوز ثوابه قانون التقدير والحساب وناهيك في معرفة فضله قوله ﷺ "والذي نفسي بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك يقول الله عز وجل إنما يذر شهوته وطعامه وشرابه لأجلي فالصوم لي وأنا أجزي به" وقال ﷺ "للجنة باب يقال له الريان لا يدخله إلا الصائمون وهو موعود بلقاء الله تعالى في جزء صومه" وقال ﷺ "للصائم فرحتان فرحة عند إفطاره وفرحة عند لقاء ربه" وقال ﷺ "لكل شيء باب وباب العبادة الصوم" وقال ﷺ "نوم الصائم عبادة" وروي أبو هريرة رضي الله عنه "أنه ﷺ قال: إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين ونادى مناد يا باغي الخير هلم ويا باغي الشر أقصر" وقال وكيع في قوله تعالى "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" هي أيام الصيام إذ تركوا فيها الأكل والشرب وقد جمع رسول الله ﷺ في رتبة المباهاة بين الزهد في الدنيا وبين الصوم فقال "إن الله تعالى يباهي ملائكته بالشاب العابد فيقول: أيها الشاب التارك شهوته لأجلي المبذل شبابه لي أنت عندي كبعض ملائكتي" وقال ﷺ في الصائم "يقول الله عز وجل: انظروا يا ملائكتي إلى عبدي ترك شهوته ولذته وطعامه وشرابه من أجلي" وقيل في قوله تعالى "فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون" قيل كان عملهم الصيام لأنه قال "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" فيفرغ للصائم جزاؤه إفراغاً ويجازف جزافاً فلا يدخل تحت وهم وتقدير، وجدير بأن يكون كذلك لأن الصوم إنما كان له ومشرفاً بالنسبة إليه وإن كانت العبادات كلها له كما شرف البيت بالنسبة إلى نفسه والأرض كلها له لمعنيين؛ أحدهما: أن الصوم كف وترك وهو في نفسه سر ليس فيه عمل يشاهد. وجميع أعمال الطاعات بمشهد من الخلق ومرأى والصوم لا يراه إلا الله عز وجل فإنه عمل في الباطن بالصبر المجرد. والثاني: أنه قهر لعدو الله عز وجل فإن وسيلة الشيطان لعنة الله الشهوات؛ وإنما تقوى الشهوات بالأكل والشرب. ولذلك قال ﷺ "إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع" ولذلك قال ﷺ لعائشة رضي الله عنها "داومي قرع باب الجنة؛ قالت: بماذا? قال ﷺ: بالجوع" - وسيأتي فضل الجوع في كتاب: شره الطعام - وعلاجه من ربع المهلكات - فلما كان الصوم على الخصوص قمعاً للشيطان وسداً لمسالكه وتضييقاً لمجاريه استحق التخصيص بالنسبة إلى الله عز وجل ففي قمع عدو الله نصرة لله سبحانه وناصر الله تعالى موقوف على النصرة له قال الله تعالى "إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم" فالبداية بالجهد من العبد والجزاء بالهداية من الله عز وجل ولذلك قال تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" وإنما التغير تكثير الشهوات فهي مرتع الشياطين ومرعاهم فما دامت مخصبة لم ينقطع ترددهم وما داموا يترددون لم ينكشف للعبد جلال الله سبحانه وكان محجوباً عن لقائه. وقال ﷺ "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات" فمن هذا الوجه صار الصوم باب العبادة وصار جنة وإذا عظمت فضيلته إلى هذا الحد فلابد من بيان شروطه الظاهرة والباطنة بذكر أركانه وسننه وشروطه الباطنة، ونبين ذلك بثلاثة فصول.

===========

الفصل الأول

في الواجبات والسنن الظاهرة واللوازم بإفساده

أما الواجبات الظاهرة فستة

الأول مراقبة أول شهر رمضان وذلك برؤية الهلال فإن غم فاستكمال ثلاثين يوماً من شعبان. ونعني بالرؤية العلم ويحصل ذلك بقول عدل واحد. ولا يثبت هلال شوال إلا بقول عدلين احتياطاً للعبادة. ومن سمع عدلاً ووثق بقوله وغلب على ظنه صدقه لزمه الصوم وإن لم يقض القاضي به فليتبع كل عبد في عبادته موجب ظنه، وإذا رؤي الهلال ببلدة ولم ير بأخرى وكان بينهما أقل من مرحلتين وجب الصوم على الكل، وإن كان أكثر كان لكل بلدة حكمها ولا يتعدى الوجوب الثاني النية: ولابد لكل ليلة من نية مبينة معينة جازمة فلو نوى أن يصوم شهر رمضان دفعة واحدة لم يكفه، وهو الذي عنينا بقولنا مبيتة ولو نوى الصوم مطلقاً أو الفرض مطلقاً لم يجزه حتى ينوي فريضة الله عز وجل صوم رمضان ولو نوى ليلة الشك أن يصوم غداً إن كان من رمضان لم يجزه فإنها ليست جازمة إلا أن تستند نيته إلى قول شاهد عدل، واحتمال غلط العدل أو كذبه لا يبطل الجزم أو يستند إلى استصحاب حال كالشك في الليلة الأخيرة من رمضان، فذلك لا يمنع جزم النية أو يستند إلى اجتهاد كالمحبوس في المطمورة إذا غلب على ظنه دخول رمضان باجتهاده فشكه لا يمنعه من النية. ومهما كان شاكاً ليلة الشك لم ينفعه جزمه النية باللسان فإن النية محلها القلب. ولا يتصور فيه جزم القصد مع الشك كما لو قال في وسط رمضان: أصوم غداً إن كان من رمضان فإن ذلك لا يضره لأنه ترديد لفظه ومحل النية لا يتصور فيه تردد بل هو قاطع بأنه من رمضان: ومن نوى ليلاً ثم أكل لم تفسد نيته ولو نوت امرأة في الحيض ثم طهرت قبل الفجر صح صومها الثالث الإمساك عن إيصال شيء إلى الجوف عمداً مع ذكر الصوم فيفسد صومه بالأكل والشرب والسعوط والحقنة. ولا يفسد بالفصد والحجامة والاكتحال وإدخال الميل في الأذن والإحليل إلا أن يقطر فيه ما يبلغ المثانة وما يصل بغير قصد من غبار الطريق أو ذبابة تسبق إلى جوفه أو ما يسبق إلى جوفه في المضمضة، فلا يفطر إلا إذا بالغ في المضمضة فيفطر لأنه مقصر وهو الذي أردنا بقولنا عمادً فأما ذكر الصوم فأردنا به الاحتراز عن الناسي فإنه لا يفطر. أما من أكل عامداً في طرفي النهار ثم ظهر له أنه أكل نهاراً بالتحقيق فعليه القضاء. وإن بقي على حكم ظنه واجتهاده فلا قضاء عليه ولا ينبغي أن يأكل في طرفي النهار إلا بنظر واجتهاد. الرابع الإمساك عن الجماع: وحده مغيب الحشفة وإن جامع ناسياً لم يفطر وإن جامع ليلاً أو احتلم فأصبح جنباً لم يفطر وإن طلع الفجر وهو مخالط أهله فنزع في الحال صح صومه فإن صبر فسد ولزمته الكفارة. الخامس الإمساك عن الاستمناء: وهو إخراج المني قصداً بجماع أو بغير جماع فإن ذلك يفطر ولا يفطر بقبلة زوجته ولا بمضاجعتها ما لم ينزل لكن يكره ذلك إلا أن يكون شيخاً أو مالكاً لإربه، فلا بأس بالتقبيل وتركه أولى. وإذا كان يخاف من التقبيل أن ينزل فقبل وسبق المني أفطر لتقصيره. السادس الإمساك عن إخراج القيء فالاستقاء يفسد الصوم وإن ذرعه القيء لم يفسد صومه، وإذا ابتلع نخامة حلقه أو صدره لم يفسد صومه رخصة لعموم البلوى به إلا أن يبتلعه بعد وصوله إلى فيه فإنه يفطر عند ذلك.

وأما لوازم الإفطار فأربعة

القضاء والكفارة والفدية وإمساك بقية النهار تشبيهاً بالصائمين. أما القضاء: فوجوبه عام على كل مسلم مكلف ترك الصوم بعذر أو بغير عذر، فالحائض تقضي الصوم وكذا المرتد. وأما الكافر والصبي والمجنون فلا قضاء عليهم ولا يشترط التتابع في قضاء رمضان ولكن يقضي كيف شاء متفرقاً ومجموعاً.

وأما الكفارة: فلا تجب إلا بالجماع. وأما الاستمناء والأكل والشرب وما عدا الجماع لا يجب به كفارة فالكفارة عتق رقبة فإن أعسر فصوم شهرين متتابعين وإن عجز فإطعام ستين مسكيناً مداً مداً.

وأما إمساك بقية النهار: فيجب على من عصى بالفطر أو قصر فيه. ولا يجب على الحائض إذا طهرت إمساك بقية نهارها ولا على المسافر إذا قدم مفطراً من سفر بلغ مرحلتين. ويجب الإمساك إذا شهد بالهلال عدل واحد يوم الشك. والصوم في السفر أفضل من الفطر إلا إذا لم يطق ولا يفطر يوم يخرج وكان مقيماً في أوله ولا يوم يقدم إذا قدم صائماً.

وأما الفدية: فتجب على الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على ولديهما، لكل يوم مد حنطة لمسكين واحد مع القضاء والشيخ الهرم إذا لم يصم تصدق عن كل يوم مداً.

وأما السنن فست:

تأخير السحور؛ وتعجيل الفطر بالتمر أو الماء قبل الصلاة، وترك السواك بعد الزوال، والجود في شهر رمضان لما سبق من فضائله في الزكاة، ومدارسة القرآن، والاعتكاف في المسجد، لاسيما في العشر الأخير فهو عادة رسول الله ﷺ "كان إذا دخل العشر الأواخر طوى الفراش وشد المئزر ودأب وأدأب أهله" أي أداموا النصب في العبادة إذ فيها ليلة القدر والأغلب أنها في أوتارها وأشبه الأوتار ليلة إحدى وثلاث وخمس وسبع. والتتابع في هذا الاعتكاف أولى فإن نذر اعتكافاً متتابعاً أو نواه انقطع تتابعه بالخروج من غير ضرورة؛ كما لو خرج لعيادة أو شهادة أو جنازة أو زيارة أو تجديد طهارة، وإن خرج لقضاء الحاجة لم ينقطع. وله أن يتوضأ في البيت. ولا ينبغي أن يعرج على شغل آخر "كان ﷺ لا يخرج إلا لحاجة الإنسان ولا يسأل عن المريض إلا ماراً" ويقطع التتابع بالجماع ولا ينقطع بالتقبيل. ولابأس في المسجد بالطيب وعقد النكاح وبالأكل والنوم وغسل اليد في الطست فكل ذلك قد يحتاج إليه في التتابع. ولا ينقطع التتابع بخروج بعض بدنه "كان ﷺ يدني رأسه فترجله عائشة رضي الله عنها وهي في الحجرة" ومهما خرج المعتكف لقضاء حاجته فإذا عاد ينبغي أن يستأنف النية إلا إذا كان قد نوى أولاً عشرة أيام مثلاً. والأفضل مع ذلك التجديد.

==========

الفصل الثاني

في أسرار الصوم وشروطه الباطنة

اعلم أن الصوم ثلاث درجات: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص. أما صوم العمووم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله. وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام. وأما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية، ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين، فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا حتى قال أرباب القلوب: من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة، فإن ذلك من قلة الوثوق بفضل الله عز وجل وقلة اليقين برزقه الموعود، وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين ولا يطول النظر في تفصيلها قولاً ولكن في تحقيقها عملاً، فإنه إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه وتلبس بمعنى قوله عز وجل "قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور: الأول: غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل قال ﷺ "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله فمن تركها خوفاً من الله آتاه الله عز وجل إيماناً يجد حلاوته في قلبه" وروى جابر عن أنس عن رسول الله ﷺ أنه قال "خمس يفطرن الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة". الثاني: حفظ اللسان عن الهذيان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء، وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان. وقد قال سفيان: الغيبة تفسد الصوم. رواه بشر بن الحارث عنه. وروى ليث عن مجاهد: خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب. وقال ﷺ "إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم" وجاء في الخبر "أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله ﷺ فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله ﷺ يستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحاً وقال ﷺ: قل لهما قيئا فيه ما أكلتما فقاءت إحداهما نصفه دماً عبيطاً ولحماً غريضاً وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه فعجب الناس من ذلك فقال ﷺ هاتان صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما. قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم" الثالث: كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى "سماعون للكذب أكالون للسحت" وقال عز وجل "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت" فالسكوت على الغيبة حرام وقال تعالى "إنكم إذاً مثلهم" ولذلك قال ﷺ "المغتاب والمستمع شريكان في الإثم" الرابع: كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره، وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار. فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام. فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصراً ويهدم مصراً فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه، فالصوم لتقليله. وتارك الاستكثار من الدواء خوفاً من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيهاً. والحرام سم مهلك للدين. والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره. وقصد الصوم تقليله. وقد قال ﷺ "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش" فقيل هو الذي يفطر على الحرام، وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام، وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام. الخامس: أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلىء جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال. وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام? حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر. ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى. وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها. فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور، ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلاً فلا ينتفع بصومه. بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوي فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدراً من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده، فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء. وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة القدر" ومن جعل في قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب. ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل. السادس: أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقاً مضطرباً بين الخوف والرجاء إذ ليس يدري أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين? وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ منها فقد روي عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال: إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضماراً لخلقه يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك. وعن الأحنف بن قيس: أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك فقال: إني أعده لسفر طويل والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه. فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم. فإن قلت: فمن اقتصر على كف شهوة البطن والفرج وترك هذه المعاني فقد قال الفقهاء. صومه صحيح فما معناه? فاعلم أن فقهاء الظاهر يثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من هذه الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة لاسيما الغيبة وأمثالها، ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم الغافلين المقبلين على الدنيا الدخول تحته. فأما علماء الآخرة فيعنون بالصحة القبول وبالقبول الوصول إلى المقصود. ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل وهو الصمدية، والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان فإنهم منزهون عن الشهوات. والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه وكونه مبتلى بمجاهدتها، فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم، وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة. والملائكة مقربون من الله عز وجل والذي يقتدي بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم، فإن الشبيه من القريب قريب، وليس القرب ثم بالمكان بل بالصفات. وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الانهماك في الشهوات الأخر طول النهار? ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله ﷺ "كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش" ولهذا قال أبو الدرداء: يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم! ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغتربين. ولذلك قال بعض العلماء كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم. والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب، والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه. ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل فصلاته مردودة عليه بجهله، ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاءه مرة مرة فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل. ومثل من جمع بينهما كمن غسل كل عضو ثلاث مرات فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال. وقد قال ﷺ "إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته" ولما تلا قوله عز وجل "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها" وضع يده على سمعه وبصره فقال: السمع أمانة والبصر أمانة" ولولا أنه من أمانات الصوم لما قال ﷺ "فليقل إني صائم" أي إني أودعت لساني لأحفظه فكيف أطلقه بجوابك? فإذن قد ظهر أن لكل عبادة ظاهراً وباطناً وقشراً ولباً ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات. فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب.

=============

الفصل الثالث

في التطوع بالصيام وترتيب الأوراد فيه

اعلم أن استحباب الصوم يتأكد في الأيام الفاضلة وفواضل الأيام بعضها يوجد في كل سنة وبعضها يوجد في كل شهر وبعضها في كل أسبوع. أما في السنة بعد أيام رمضان فيوم عرفة ويوم عاشوراء والعشر الأول من ذي الحجة والعشر الأول من المحرم. وجميع الأشهر الحرم مظان الصوم وهي أوقات فاضلة "وكان رسول الله ﷺ يكثر صوم شعبان حتى كان يظن أنه في رمضان" وفي الخبر "أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم" لأنه ابتداء السنة فبناؤها على الخير أحب وأرجى لدوام بركته. وقال ﷺ "صوم يوم من شهر حرام أفضل من ثلاثين من غيره وصوم يوم من رمضان أفضل من ثلاثين من شهر حرام" وفي الحديث "من صام ثلاثة أيام من شهر حرام الخميس والجمعة والسبت كتب الله له بكل يوم عبادة تسعمائة عام" وفي الخبر: إذا كان النصف من شعبان فلا صوم حتى رمضان ولهذا يستحب أن يفطر قبل رمضان أياماً فإن وصل شعبان برمضان فجائز فعل ذلك رسول الله ﷺ مرة فصل مراراً كثيرة ولا يجوز استقبال رمضان بيومين أو ثلاثة إلا أن يوافق ورداً له وكره بعض الصحابة أن يصام رجب كله حتى لا يضاهى بشهر رمضان. فالأشهر الفاضلة: ذو الحجة والمحرم ورجب وشعبان. والأشهر الحرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، واحد فرد وثلاثة سرد. وأفضلها ذو الحجة لأن فيه الحج والأيام المعلومات والمعدودات. وذو القعدة من الأشهر الحرم وهو من أشهر الحج، وشوال من أشهر الحج وليس من الحرم "والمحرم ورجب ليسا من أشهر الحج. وفي الخبر "ما من أيام العمل فيهن أفضل وأحب إلى الله عز وجل من أيام عشر ذي الحجة إن صوم يوم منه يعدل صيام سنة وقيام ليلة منه تعدل قيام ليلة القدر" قيل: ولا الجهاد في سبيل الله تعالى، قال: ولا الجهاد في سبيل الله عز وجل إلا من عقر جواده وأهريق دمه" وأما ما يتكرر في الشهر: فأول الشهر وأوسطه وآخره، ووسطه الأيام البيض وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر. وأما في الأسبوع: فالاثنين والخميس والجمعة فهذه هي الأيام الفاضلة فيستحب فيها الصيام وتكثير الخيرات لتضاعف أجورها ببركة هذه الأوقات. وأما صوم الدهر فإنه شامل للكل وزيادة وللسالكين فيه طرق فمنهم من كره ذلك إذ وردت أخبار تدل على كراهته. والصحيح أنه إنما يكره لشيئين؛ أحدهما: أن لا يفطر في العيدين وأيام التشريق فهو الدهر كله والآخر أن يرغب عن السنة في الإفطار ويجعل الصوم حجراً على نفسه مع أن الله سبحانه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه. فإذا لم يكن شيء من ذلك ورأى صلاح نفسه في صوم الدهر فليفعل ذلك. فقد فعله جماعة من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم. وقال ﷺ فيما رواه أبو موسى الأشعري "من صام الدهر كله ضيقت عليه جهنم وعقد تسعين" ومعناه لم يكن له فيها موضع، ودونه درجة أخرى وهو صوم نصف الدهر بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً وذلك أشد على النفس وأقوى في قهرها، وقد ورد في فضله أخبار كثيرة لأن العبد فيه بين صوم يوم وشكر يوم فقد قال ﷺ "عرضت علي مفاتيح خزائن الدنيا وكنوز الأرض فرددتها وقلت أجوع يوماً وأشبع يوماً أحمدك إذا شبعت وأتضرع إليك إذا جعت" وقال ﷺ "أفضل الصيام صوم أخي داود كان يصوم ويفطر يوماً" ومن ذلك "منازلته ﷺ: لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما في الصوم وهو يقول؛ إني أطيق أكثر من ذلك، فقال ﷺ: صم يوماً وأفطر يوماً، فقال: إني أريد أفضل من ذلك، فقال ﷺ: لا أفضل من ذلك" وقد روي "أنه ﷺ ما صام شهراً كاملاً قط إلا رمضان" بل كان يفطر منه ومن لا يقدر على صوم نصف الدهر فلا بأس بثلثه وهو أن يصوم ويفطر يومين. وإذا صام ثلاثة من أول الشهر وثلاثة من الوسط وثلاثة من الآخر فهو ثلث، وواقع في الأوقات الفاضلة. وإن صام الاثنين والخميس والجمعة فهو قريب من الثلث. وإذا ظهرت أوقات الفضيلة فالكمال في أن يفهم الإنسان معنى الصوم وأن مقصوده تصفية القلب وتفريغ الهم لله عز وجل. والفقيه بدقائق الباطن ينظر إلى أحواله فقد يقتضي حاله دوام الصوم وقد يقتضي دوام الفطر وقد يقتضي مزج الإفطار بالصوم. وإذا فهم المعنى وتحقق حده في سلوك طريق الآخرة بمراقبة القلب لم يخف عليه صلاح قلبه وذلك لا يوجب ترتيباً مستمراً. ولذلك روي أنه ﷺ "كان يصوم حتى يقال لا يفطر ويفطر حتى يقال لا يصوم وينام حتى يقال لا يقوم ويقوم حتى يقال لا ينام" وكان ذلك بحسب ما ينكشف له بنور النبوة من القيام بحقوق الأوقات. وقد كره العلماء أن يوالى بين الإفطار أكثر من أربعة أيام تقديراً بيوم العيد وأيام التشريق وذكروا أن ذلك يقسي القلب ويولد رديء العادات ويفتح أبواب الشهوات ولعمري هو كذلك في حق أكثر الخلق لاسيما من يأكل في اليوم والليل مرتين. فهذا ما أردنا ذكره من ترتيب الصوم المتطوع به والله أعلم بالصواب.

تم كتاب: أسرار الصوم، والحمد لله بجميع محامده كلها ما علمنا منها وما لم نعلم على جميع نعمه كلها ما علمنا منها وما لم نعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وكرم وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب: أسرار الحج، والله المعين لا رب غيره وما توفيقي إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل.

====

======

=================

كتاب أسرار الحج

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل كلمة التوحيد لعباده حرزاً وحصناً. وجعل البيت العتيق مثابة للناس وأمناً، وأكرمه بالنسبة إلى نفسه تشريفاً وتحصيناً ومناً، وجعل زيارته والطواف به حجاباً بين العبد وبين العذاب ومجناً، والصلاة عى محمد نبي الرحمة وسيد الأمة وعلى آله وصحبه قادة الحق وسادة الخلق وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: فإن الحج من بين أركان الإسلام ومبانيه عبادة العمر وختام الأمر وتمام الإسلام وكمال الدين. فيه أنزل الله عز وجل "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" وفيه قال ﷺ "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً" فأعظم بعبادة يعدم الدين بفقدها الكمال ويساوي تاركها اليهود والنصارى في الضلال، وأجدر بها أن تصرف العناية إلى شرحها وتفصيل أركانها وسننها وآدابها وفضائلها وأسرارها. وجملة ذلك ينكشف بتوفيق الله عز وجل في ثلاثة أبواب:

===========

الباب الأول

في فضائلها وفضائل مكة والبيت العتيق

وجمل أركانها وشرائط وجوبها.

الفصل الأول

في فضائل الحج وفضيلة البيت ومكة والمدينة حرسهما الله تعالى وشد الرحال إلى المساجد

فضيلة الحج

قال الله عز وجل "وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق" وقال قتادة لما أمر الله عز وجل إبراهيم ﷺ وعلى نبينا وعلى كل عبد مصطفى أن يؤذن في الناس بالحج نادى: يا أيها الناس إن الله عز وجل بنى بيتاً فحجوه وقال تعالى "ليشهدوا منافع لهم" قيل التجارة في الموسم والأجر في الآخرة. ولما سمع بعض السلف هذا قال: غفر لهم ورب الكعبة. وقيل في تفسير قوله عز وجل "لأقعدن لهم صراطك المستقيم" أي طريق مكة يقعد الشيطان عليها ليمنع الناس منها وقال ﷺ "من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" وقال أيضاً ﷺ "ما رؤي الشيطان في يوم أصغر ولا أدحر و أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة" وما ذلك إلا لما يرى من نزول الرحمة وتجاوز الله سبحانه عن الذنوب العظام إذ يقال "إن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة" وقد أسنده جعفر بن محمد إلى رسول الله ﷺ. وذكر بعض المكاشفين من المقربين أن إبليس لعنة الله عليه ظهر له في صورة شخص بعرفة فإذا هو ناحل الجسم مصفر اللون باكي العين مقصوف الظهر فقال له: ما الذي أبكى عينك? قال: خروج الحاج إليه بلا تجارة، أقول قد قصدوه أخاف أن لا يخيبهم فيحزنني ذلك قال: فما الذي أنحل جسمك؛ قال: صهيل الخيل في سبيل الله عز وجل ولو كانت في سبيلي كان أحب إلي، قال: فما الذي غير لونك? قال تعاون الجماعة على الطاعة ولو تعاونوا على المعصية كان أحب إلي، قال: فما الذي قصف ظهرك? قال: قول العبد أسألك حسن الخاتمة، أقول يا ويلتى متى يعجب هذا بعمله أخاف أن يكون قد فطن? وقال ﷺ "من خرج من بيته حاجاً أو معتمراً فمات أجري له أجر الحاج المعتمر إلى يوم القيامة ومن مات في أحد الحرمين لم يعرض ولم يحاسب وقيل له ادخل الجنة" وقال ﷺ "حجة مبرورة خير من الدنيا وما فيها وحجة مبرورة ليس لها جزاء إلا الجنة" وقال ﷺ "الحجاج والعمار وفد الله عز وجل وزواره إن سألوه أعطاهم وإن استغفروه غفر لهم وإن دعوا استجيب لهم وإن شفعوا شفعوا" وفي حديث مسند من طريق أهل البيت عليهم السلام "أعظم الناس ذنباً من وقف بعرفة فظن أن الله تعالى لم يغفر له" وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال "ينزل على هذا البيت في كل يوم مائة وعشرون رحمة ستون للطائفين وأربعون للمصلين وعشرون للناظرين" وفي الخبر "استكثروا من الطواف بالبيت فإنه من أجل شيء تجدونه في صحفكم يوم القيامة وأغبط عمل تجدونه" ولهذا يستحب الطواف ابتداء من غير حج ولا عمرة وفي الخبر "من طاف أسبوعاً حافياً حاسراً كان له كعتق رقبة ومن طاف أسبوعاً في المطر غفر له ما سلف من ذنبه" ويقال: إن الله عز وجل إذا غفر لعبد ذنباً في الموقف غفره لكل من أصابه في ذلك الموقف. وقال بعض السلف: إذا وافق يوم عرفة يوم جمعة غفر لكل أهل عرفة وهو أفضل يوم في الدنيا" وفيه حج رسول الله ﷺ حجة الوداع وكان واقفاً إذ نزل قوله عز وجل "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً" قال أهل الكتاب. لو أنزلت هذه الآية علينا لجعلناها يوم عيد فقال عمر رضي الله عنه: أشهد لقد نزلت هذه الآية في يوم عيدين اثنين؛ يوم عرفة ويوم جمعة على رسول الله ﷺ وهو واقف بعرفة. وقال ﷺ "اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج" ويروى أن علي بن موفق حج عن رسول الله ﷺ حججاً قال: فرأيت رسول الله ﷺ في المنام فقال لي: يا ابن موفق حججت عني? قلت: نعم، قال: ولبيت عني? قلت: نعم. قال: فإني أكافئك بها يوم القيامة آخذ بيدك في الموقف فأدخلك الجنة والخلائق في كرب الحساب. وقال مجاهد وغيره من العلماء: إن الحجاج إذا قدموا مكة تلقتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل وصافحوا ركبان الحمر واعتنقوا المشاة اعتناقاً. وقال الحسن: من مات عقيب رمضان أو عقيب غزو أو عقيب حج مات شهيداً. وقال عمر رضي الله عنه: الحاج مغفور له ولمن يستغفر له في شهر ذي الحجة والمحرم وصفر وعشرين من ربيع الأول. وقد كان من سنة السلف رضي الله عنهم أن يشيعوا الغزاة وأن يستقبلوا الحاج ويقبلوا بين أعينهم ويسألوهم الدعاء ويبادرون ذلك قبل أن يتدنسوا بالآثام. ويروى عن علي بن موفق قال: حججت سنة فلما كان ليلة عرفة نمت بمنى في مسجد الخيف فرأيت في المنام كأن ملكين قد نزلا من السماء عليهما ثياب خضر فنادى أحدهما صاحبه: يا عبد الله فقال الآخر: لبيك يا عبد الله "قال: تدري كم حج بيت ربنا عز وجل في هذه السنة? قال: لا أدري قال: حج بيت ربنا ستمائة ألف أفتدري كم قبل منهم? قال: لا، قال: ستة أنفس، قال: ثم ارتفعا في الهواء فغابا عني فانتبهت فزعاً واغتممت غماً شديداً وأهمني أمري فقلت: إذا قبل حج ستة أنفس فأين أكون أنا في ستة أنفس? فلما أفضت من عرفة قمت عند المشعر الحرام فجعلت أفكر في كثرة الخلق وفي قلة من قبل منهم؛ فحملني النوم فإذا الشخصان قد نزلا على هيئتهما؛ فنادى أحدهما صاحبه وأعاد الكلام بعينه ثم قال: أتدري ماذا حكم ربنا عز وجل في هذه الليلة? قال: لا، قال: فإنه وهب لكل واحد من الستة مائة ألف، قال: فانتبهت وبي من السرور ما يجل عن الوصف. وعنه أيضاً رضي الله عنه قال: حججت سنة فلما قضيت مناسكي تفكرت فيمن لا يقبل حجه فقلت: اللهم إني قد وهبت حجتي وجعلت ثوابها لمن لم تقبل حجته قال: فرأيت رب العزة في النوم جل جلاله فقال لي: يا علي تتسخى علي وأنا خلقت السخاء والأسخياء وأنا أجود الأجودين وأكرم الأكرمين وأحق بالجود والكرم من العالمين قد وهبت كل من لم أقبل حجة لمن قبلته.

فضيلة البيت ومكة المشرفة

قال ﷺ "إن الله عز وجل قد وعد هذا البيت أن يحجه كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أكملهم الله عز وجل من الملائكة" وإن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة وكل من حجها يتعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها وفي الخبر "إن الحجر الأسود ياقوتة من يواقيت الجنة وإنه يبعث يوم القيامة له عينان ولسان ينطق به يشهد لكل من استلمه بحق وصدق" وكان ﷺ يقبله كثيراً وروي أنه ﷺ سجد عليه وكان يطوف على الراحلة فيضع المحجن عليه ثم يقبل طرف المحجن وقبله عمر رضي الله عنه ثم قال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله ﷺ يقبلك ما قبلتك، ثم بكى حتى علا نشيجه فالتفت إلى ورائه فرأى علياً كرم الله وجهه ورضي الله عنه فقال: يا أبا الحسن ههنا تسكب العبرات وتستجاب الدعوات، فقال علي رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين بل هو يضر وينفع، قال: وكيف? قال: إن الله تعالى لما أخذ الميثاق على الذرية كتب عليهم كتاباً ثم ألقمه هذا الحجر؛ فهو يشهد للمؤمن بالوفاء ويشهد على الكافر بالجحود. قيل: فذلك هو معنى قول الناس عند الاستلام "اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك" وروي عن الحسن البصري رضي الله عنه: أن صوم يوم فيها بمائة ألف يوم وصدقة درهم بمائة ألف درهم وكذلك كل حسنة بمائة الف ويقال: طواف سبعة أسابيع يعدل عمرة وثلاث عمر تعدل حجة. وفي الخبر الصحيح "عمرة في رمضان كحجة معي" وقال ﷺ "أنا أول من تنشق عنه الأرض ثم آتي أهل البقيع فيحشرون معي ثم آتي أهل مكة فأحشر بين الحرمين" وفي الخبر "إن آدم ﷺ لما قضى مناسكه لقيته الملائكة فقالوا: بر حجك يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام" وجاء في الأثر: إن الله عز وجل ينظر في كل ليلة إلى أهل الأرض فأول من ينظر إليه أهل الحرم وأول من ينظر إليه من أهل الحرم أهل المسجد الحرام فمن رآه طائفاً غفر له ومن رآه مصلياً غفر له ومن رآه قائماً مستقبل الكعبة غفر له. وكوشف بعض الأولياء رضي الله عنهم قال: إني رأيت الثغور كلها تسجد لعبادان ورايت عبادان ساجدة لجدة. ويقال: لا تغرب الشمس من يوم إلا ويطوف بهذا البيت رجل من الأبدال، ولا يطلع الفجر من ليلة إلا طاف به واحد من الأوتاد، وإذا انقطع ذلك كان سبب رفعه من الأرض فيصبح الناس وقد رفعت الكعبة لا يرى الناس لها أثراً، وهذا إذا أتى عليها سبع سنين لم يحجها أحد. ثم يرفع القرآن من المصاحف فيصبح الناس فإذا الورق أبيض يلوح ليس فيه حرف، ثم ينسخ القرآن من القلوب فلا يذكر منه كلمة. ثم يرجع الناس إلى الأشعار والأغاني وأخبار الجاهلية. ثم يخرج الدجال وينزل عيسى عليه السلام فيقتله والساعة عند ذلك بمنزلة الحامل المقرب التي تتوقع ولادتها. وفي الخبر "استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يرفع فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة" وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: قال الله تعالى "إذا أردت أن أخرب الدنيا بدأت ببيتي فخربته ثم خرب الدنيا على أثره".

فضيلة المقام بمكة حرسها الله تعالى وكراهيته

كره الخائفون المحتاطون من العلماء المقام بمكة لمعان ثلاثة الأول خوف التبرم والأنس بالبيت، فإن ذلك ربما يؤثر في تسكين حرقة القلب في الاحترام، وهكذا كان عمر رضي الله عنه يضرب الحجاج إذا حجوا ويقول: يا أهل اليمن يمنكم ويا أهل الشام شامكم ويا أهل العراق عراقكم. ولذلك هم عمر رضي الله عنه بمنع الناس من كثرة الطواف، وقال: خشيت أن يأنس الناس بهذا البيت الثاني تهييج الشوق بالمفارقة لتنبعث داعية العودة فإن الله تعالى جعل البيت مثابة للناس وأمناً أي يثوبون ويعودون إليه مرة بعد أخرى ولا يقضون منه وطراً. وقال بعضهم تكون في بلد وقلبك مشتاق إلى مكة متعلق بهذا البيت خير لك من أن تكون فيه وأنت متبرم بالمقام وقلبك في بلد آخر. وقال بعض السلف: كم من رجل بخراسان وهو أقرب إلى هذا البيت ممن يطوف به? ويقال: إن لله تعالى عباداً تطوف بهم الكعبة تقرباً إلى الله عز وجل الثالث الخوف من ركوب الخطايا والذنوب بها، فإن ذلك مخطر وبالحري أن يورث مقت الله عز وجل لشرف الموضع. وروي عن وهيب بن الورد المكي قال: كنت ذات ليلة في الحجر أصلي فسمعت كلاماً بين الكعبة والأستار يقول إلى الله أشكو ثم إليك يا جبرائيل ما ألقى من الطائفين حولي من تفكرهم في الحديث ولغوهم ولهوهم لئن لم ينتهوا عن ذلك لأنتفضن انتفاضة يرجع كل حجر مني إلى الجبل الذي قطع منه. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما من بلد يؤاخذ فيه العبد بالنية قبل العمل إلا مكة وتلا قوله تعالى "ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم" أي أنه على مجرد الإرادة. ويقال: إن السيئات تضاعف بها كما تضاعف الحسنات. وكان ابن عباس رضي الله عنه يقول: الاحتكار بمكة من الإلحاد في الحرم، وقيل: الكذب أيضاً وقال ابن عباس: لأن أذنب سبعين ذنباً بركية أحب إلي من أن أذنب ذنباً واحداً بمكة. وركية منزل بين مكة والطائف. والخوف ذلك انتهى بعض المقيمين إلى أن لم يقض حاجته في الحرم بل كان يخرج إلى الحل عند قضاء الحاجة. وبعضهم أقام شهراً وما وضع جنبه على الأرض. وللمنع من الإقامة كره بعض العلماء أجور دور مكة. ولا تظنن أن كراهة المقام يناقض فضل البقعة لأن هذه كراهة علتها ضعف الخلق وقصورهم عن القيام بحق الموضع فمعنى قولنا إن ترك المقام به أفضل أي بالإضافة إلى مقام مع التقصير والتبرم، أما أن يكون أفضل من المقام مع الوفاء بحقه فهيهات! وكيف لا ولما عاد رسول الله ﷺ إلى مكة استقبل الكعبة وقال "إنك لخير أرض الله عز وجل وأحب بلاد الله تعالى إلي ولولا أني أخرجت منك لما خرجت" وكيف لا والنظر إلى البيت عبادة والحسنات فيها مضاعفة كما ذكرناه.

فضيلة المدينة الشريفة على سائر البلاد

ما بعد مكة بقعة أفضل من مدينة رسول الله ﷺ فالأعمال فيها أيضاً مضاعفة قال ﷺ "صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام" وكذلك كل عمل بالمدينة بألف وبعد مدينته الأرض المقدسة فإن الصلاة فيها بخمسمائة صلاة فيما سواها إلا المسجد الحرام، وكذلك سائر الأعمال. وروى ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال "صلاة في مسجد المدينة بعشرة آلاف صلاة وصلاة في المسجد الأقصى بألف صلاة وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة" وقال ﷺ "من صبر على شدتها ولأوائها كنت له شفيعاً يوم القيامة" وقال ﷺ "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه لن يموت بها أحد إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة" وما بعد هذه البقاع الثلاث فالمواضع فيها متساوية إلا الثغور فإن المقام بها للمرابطة فيها فيه فضل عظيم. ولذلك قال ﷺ "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى" وقد ذهب بعض العلماء إلى الاستدلال بهذا الحديث في المنع من الرحلة لزيارة المشاهد وقبور العلماء والصلحاء. وما تبين لي أن الأمر كذلك بل الزيارة مأمور بها قال ﷺ "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجراً" والحديث إنما ورد في المساجد وليس في معناها المشاهد، لأن المساجد بعد المساجد الثلاثة متماثلة ولا بلد إلا وفيه مسجد فلا معنى للرحلة إلى مسجد آخر، وأما المشاهد فلا تتساوى بل بركة زيارتها على قدر درجاتهم عند الله عز وجل، نعم لو كان في موضع لا مسجد فيه فله أن يشد الرحال إلى موضع فيه مسجد وينتقل إليه بالكلية إن شاء ثم ليت شعري هل يمنع هذا القائل من شد الرحال إلى قبور الأنبياء عليهم السلام مثل إبراهيم وموسى ويحيى وغيرهم عليهم السلام، فالمنع من ذلك في غاية الإحالة، فإذا جوز هذا فقبور الأولياء والعلماء والصلحاء في معناها، فلا يبعد أن يكون ذلك من أغراض الرحلة كما أن زيارة العلماء في الحياة من المقاصد؛ هذا في الرحلة. أما في المقام فالأولى بالمريد أن يلازم مكانه إذا لم يكن قصده من السفر استفادة العلم مهما سلم له حاله في وطنه؛ فإن لم يسلم فيطلب من المواضع ما هو أقرب إلى الخمول وأسلم للدين وأفرغ للقلب وأيسر للعبادة فهو أفضل المواضع له، قال ﷺ "البلاد بلاد الله عز وجل والخلق عباده فأي موضع رأيت فيه رفقاً فأقم واحمد الله تعالى" وفي الخبر "من بورك له في شيء فليلزمه ومن جعلت معيشته في شيء فلا ينتقل عنه حتى يتغير عليه" وقال أبو نعيم: رأيت سفيان الثوري وقد جعل جرابه على كتفه وأخذ نعليه بيده فقلت: إلى أين يا أبا عبد الله? قال: إلى بدل أملأ فيه جرابي بدرهم. وفي حكاية أخرى بلغني عن قرية فيها رخص أقيم فيها، قال فقلت: وتفعل هذا يا أبا عبد الله? فقال: نعم إذا سمعت برخص في بلد فاقصده فإنه أسلم لدينك وأقل لهمتك، وكان يقول هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخاملين فكيف بالمشهورين? هذا زمان تنقل يتنقل الرجل من قرية إلى قرية يفر بدينه من الفتن. ويحكى عنه أنه قال: والله ما أدري أي البلاد أسكن? فقيل له: خراسان، فقال: مذاهب مختلفة وآراء فاسدة، قيل: فالشام، قال: يشار إليك بالأصابع - أراد الشهرة - قيل? فالعراق، قال: بلد الجبابرة، قيل: مكة، قال: مكة تذيب الكيس والبدن. وقال له رجل غريب: عزمت على المجاورة بمكة فأوصني، قال: أوصيك بثلاث: لا تصلين في الصف الأول ولا تصحبن قرشياً ولا تظهرن صدقة. وإنما كره الصف الأول لأنه يشتهر فيفتقد إذا غاب فيختلط بعمله التزين والتصنع.

الفصل الثاني

في شروط وجوب الحج وصحة أركانه وواجباته ومحظوراته

أما الشرائط فشرط صحة الحج اثنان: الوقت والإسلام. فيصح حج الصبي ويحرم بنفسه إن كان مميزاً ويحرم عنه وليه إن كان صغيراً ويفعل في الحج من الطواف والسعي وغيره. وأما الوقت فهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر، فمن أحرم بالحج في غير هذه المدة فهي عمرة وجميع السنة وقت العمرة، ولكن من كان معكوفاً على النسك فلا ينبغي أن يحرم بالعمرة لأنه لا يتمكن من الاشتغال عقيبه لاشتغاله بأعمال منى. وأما شروط وقوعه عن حجة الإسلام فخمسة: الإسلام والحرية والبلوغ والعقل والوقت. فإن أحرم الصبي أو العبد ولكن عتق العبد وبلغ الصبي بعرفة أو بمزدلفة وعاد إلى عرفة قبل طلوع الفجر أجزأهما عن حجة الإسلام لأن الحج عرفة، وليس عليهما دم إلا شاة. وتشترط هذه الشرائط في وقوع العمرة عن فرض الإسلام متقدم، ثم القضاء لمن أفسده في حالة الوقوف؛ ثم النذر، ثم النيابة، ثم النفل؛ وهذا الترتيب مستحق، وكذلك يقع وإن نوى خلافه. وأما شروط لزوم الحج فخمسة: البلوغ والإسلام والعقل والحرية والاستطاعة. ومن لزمه فرض الحج لزمه فرض العمرة. ومن أراد دخول مكة لزيارة أو تجارة ولم يكن حطاباً لزمه الإحرام على قول ثم يتحلل بعمل عمرة أو حج وأما الاستطاعة فنوعان: أحدهما المباشرة وذلك له أسباب أما في نفسه فبالصحة، وأما في الطريق فبأن تكون خصبة آمنة بلا بحر مخطر ولا عدو قاهر، وأما في المال فبأن يجد نفقة ذهابه وإيابه إلى وطنه - كان له أهل أو لم يكن - لأن مفارقة الوطن شديدة وأن يملك نفقة من تلزمه نفقته في هذه المدة وأن يملك ما يقضي به ديونه وأن يقدر على راحلة أو كرائها بمحمل أو زاملة إن استمسك على الزاملة وأما النوع الثاني: فاستطاعة المعضوب بماله وهو أن يستأجر من يحج عنه بعد فراغ الأجير عن حجة الإسلام لنفسه. ويكفي نفقة الذهاب بزاملة في هذا النوع، والابن إذا عرض طاعته على الأب الزمن صار به مستطيعاً ولو عرض ماله لم يصر به مستطيعاً؛ لأن الخدمة بالبدن فيها شرف للولد، وبذل المال فيه منة على الوالد. ومن استطاع لزمه الحج وله التأخير ولكنه فيه على خطر فإن تيسر له ولو في آخر عمره سقط عنه? وإن مات قبل الحج لقي الله عز وجل عاصياً بترك الحج، وكان الحج في تركته يحج عنه وإن لم يوص كسائر ديونه. وإن استطاع في سنة فلم يخرج مع الناس وهلك ماله في تلك السنة - قبل حج الناس - ثم يمات لقي الله عز وجل ولا حج عليه. ومن مات ولم يحج مع اليسار فأمره شديد عند الله تعالى. قال عمر رضي الله عنه: لقد هممت أن أكتب في الأمصار بضرب الجزية على من لم يحج ممن يستطيع إليه سبيلاً. وعن سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي ومجاهد وطاوس: لو علمت رجلاً غنياً وجب عليه الحج ثم مات قبل أن يحج ما صليت عليه وبعضهم كان له جار موسر فمات ولم يحج فلم يصل عليه. وكان ابن عباس يقول: من مات ولم يزك ولم يحج سأل الرجعة إلى الدنيا وقرأ قوله عز وجل "رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت" قال: الحج وأما الأركان التي لا يصح الحج بدونها فخمسة: الإحرام والطواف والسعي بعده والوقوف بعرفة والحلق بعده على قول وأركان العمرة كذلك إلا الوقوف والواجبات المجبورة بالدم ست: الإحرام من الميقات فمن تركه وجاوز الميقات محلاً فعليه شاة والرمي فيه الدم قولاً واحداً، وأما الصبر بعرفة إلى غروب الشمس والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى وطواف الوداع فهذه الأربعة يجبر تركها بالدم على أحد القولين، وفي القول الثاني فيهادم على وجه الاستحباب. وأما وجوه أداء الحج والعمرة فثلاثة الأول الإفراد وهو الأفضل وذلك أن يقدم الحج وحده فإذا فرغ خرج إلى الحل فأحرم واعتمر. وأفضل الحل لإحرام العمرة الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية. وليس على المفرد دم إلا أن يتطوع الثاني القران وهو أن يجمع فيقول "لبيك بحجة وعمرة معاً" فيصير محرماً بهما ويكفيه أعمال الحج وتندرج العمرة تحت الحج كما يندرج الوضوء تحت الغسل؛ إلا أنه إذا طاف وسعى قبل الوقوف بعرفة فسعيه محسوب من النسكين وأما طوافه فغير محسوب، لأن شرط الطواف الفرض في الحج أن يقع بعد الوقوف. وعلى القارن دم شاة إلا أن يكون مكياً فلا شيء عليه لأنه لم يترك ميقاته إذ ميقاته مكة الثالث التمتع وهو أن يجاوز الميقات محرماً بعمرة ويتحلل بمكة ويتمتع بالمحظورات إلى وقت

الحج ثم يحرم بالحج ولا يكون متمتعاً إلا بخمس شرائط. أحدها أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام وحاضره من كان منه على مسافة لا تقصر فيها الصلاة. الثاني. أن يقدم العمرة على الحج. الثالث. أن تكون عمرته في أشهر الحج. الرابع: أن لا يرجع إلى ميقات الحج ولا إلى مثل مسافته لإحرام الحج. الخامس: أن يكون حجه وعمرته عن شخص واحد فإذا وجدت هذه الأوصاف كان متمتعاً ولزمه دم شاة؛ فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم النحر متفرقة أو متتابعة وسبعة إذا رجع إلى الوطن، وإن لم يصم الثلاثة حتى رجع إلى الوطن صام العشر تتابعاً أو متفرقاً وبدل دم القران والتمتع سواء. والأفضل الإفراد ثم التمتع ثم القران. وأما محظورات الحج والعمرة فستة؛ الأول: اللبس للقميص والسراويل والخف والعمامة بل ينبغي أن يلبس إزاراً ورداء ونعلين، فإن لم يجد نعلين فمكعبين فإن لم يجحد إزاراً فسراويل ولا بأس بالمنطقة والاستظلال في المحمل ولكن لا ينبغي أن يغطي رأسه فإن إحرامه في الرأس وللمرأة أن تلبس كل مخيط بعد أن لا تستر وجهها بما يماسه فإن إحرامها في وجهها. الثاني الطيب فليجتنب كل ما يعده العقلاء طيباً فإن تطيب أو لبس فعليه دم شاة. الثالث: الحلق والقلم وفيهما الفدية أعني دم الشاة، ولابأس بالكحل ودخول الحمام والفصد والحجامة وترجيل الشعر، الرابع: الجماع وهو مفسد قبل التحلل الأول وفيه بدنة أو بقرة أو سبع شياه وإن كان بعد التحلل الأول لزمه البدنة ولم يفسد حجه. والخامس: مقدمات الجماع كالقبلة والملامسة التي تنقض الطهر مع النساء فهو محرم وفيه شاة وكذا في الاستمناء، ويحرم النكاح والإنكاح ولا دم فيه لأنه لا ينعقد. السادس: قتل صيد البر أعني ما يؤكل أو هو متولد من الحلال والحرام فإن قتل صيداً فعليه مثله من النعم يراعى فيه التقارب في الخلقة وصيد البحر حلال ولا جزاء فيه.

================

الباب الثاني

في ترتيب الأعمال الظاهرة من أول السفر إلى الرجوع

وهي عشر جمل

الجملة الأولى

في السير من أول الخروج إلى الإحرام

وهي ثمانية

الأولى في المال: فينبغي أن يبدأ بالتوبة ورد المظالم وقضاء الديون وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ويرد ما عنده من الودائع. ويستصحب من المال الحلال الطيب ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه معه التوسع في الزاد والرفق بالضعفاء والفقراء. ويتصدق بشيء قبل خروجه ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل لا تضعف أو يكتريها فإن اكترى فليظهر للمكاري كل ما يريد أن يحمله من قليل أو كثير ويحصل رضاه فيه الثانية في الرفيق: ينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محباً للخير معيناً عليه إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه وإن جبن شجعه وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره. ويودع رفقاءه المقيمين وإخوانه وجيرانه فيودعهم ويلتمس أدعيتهم فإن الله تعالى جاعل في أدعيتهم خيراً والسنة في الوداع أن يقول أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك وكان ﷺ يقول لمن أراد السفر "في حفظ الله وكنفه زودك الله التقوى وغفر ذنبك ووجهك للخير أينما كنت" الثالثة في الخروج من الدار: ينبغي إذا هم بالخروج أن يصلي ركعتين أولاً يقرأ في الأولى بعد الفاتحة: قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص فإذا فرغ رفع يديه ودعا الله سبحانه عن إخلاص صاف ونية صادقة وقال: اللهم أنت الصاحب في السفر وأنت الخليفة في الأهل والمال والولد والأصحاب احفظنا وإياهم من كل آفة وعاهة. اللهم إنا نسألك في مسيرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى. اللهم إنا نسألك أن تطوي لنا الأرض وتهون علينا السفر وأن ترزقنا في سفرنا سلامة البدن والدين والمال وتبلغنا حج بيتك وزيارة قبر نبيك محمد ﷺ. اللهم إنا نعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في الأهل والمال والولد والأصحاب. اللهم اجعلنا وإياهم في جوارك ولا تسلبنا وإياهم نعمتك ولا تغير ما بنا وبهم من عافيتك الرابعة إذا حصل على باب الدار قال: بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله رب أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أذل أو أذل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي. اللهم إني لم أخرج شراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة بل خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك وقضاء فرضك واتباع سنة نبيك وشوقاً إلى لقائك. فإذا مشى قال: اللهم بك انتشرت وعليك توكلت وبك اعتصمت وإليك توجهت. اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي فاكفني ما أهمني وما لا أهتم به وما أنت أعلم به مني عز وجارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك. اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنبي ووجهني للخير أينما توجهت. ويدعو بهذا الدعاء في كل منزل يدخل عليه الخامسة في الركوب. فإذا ركب الراحلة يقول: بسم الله وبالله والله أكبر توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون. اللهم إني وجهت وجهي إليك وفوضت أمري كله إليك وتولكت في جميع أموري عليك أنت حسبي ونعم الوكيل. فإذا استوى على الراحلة واستوت تحته قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر - سبع مرات - وقال "الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله" اللهم أنت الحامل على الظهر وأنت المستعان على الأمور السادسة في النزول: والسنة أن لا ينزل حتى يحمى النهار ويكون أكثر سيره بالليل قال ﷺ "عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل ما لا تطوي بالنهار" وليقلل نومه حتى يكون عوناً على السير. ومهما أشرف على المنزل فليقل: اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما ذرين ورب البحار وما جرين أسالك خير هذا المنزل وخير أهله وأعوذ بك من شره وشر ما فيه اصرف عني شر شرارهم. فإذا نزل المنزل صلى ركعتين فيه ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق. فإذا جن عليه الليل يقول: يا أرض ربي وربك الله أعوذ بالله من شرك وشر ما فيك وشر ما دب عليك أعوذ بالله من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب ومن شر ساكن البلد ووالد وما ولد "وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم" السابعة في الحراسة: ينبغي أن يحتاط بالنهار فلا يمشي منفرداً خارج القافلة لأنه ربما يغتال أو ينقطع، ويكون بالليل متحفظاً عند النوم فإن نام في ابتداء الليل افترش ذراعه، وإن نام في آخر الليل نصب ذراعه نصباً وجعل رأسه في كفه، هكذا كان ينام رسول الله ﷺ في سفره لأنه ربما استثقل النوم فتطلع الشمس وهو لا يدري فيكون ما يفوته من الصلاة أفضل مما يناله من الحج والأحب في الليل أن يتناوب الرفيقان في الحراسة فإذا نام أحدهما حرس الآخر فهو السنة فإن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار فليقرأ آية الكرسي وشهد الله والإخلاص والمعوذتين وليقل بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله حسبي الله توكلت على الله ما شاء الله لا يأتي بالخير إلا الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله حسبي الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء اله منتهى ولا دون الله ملجأ "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز" تحصنت بالله العظيم واستغثت بالحي الذي لا يموت اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام واكنفنا بركنك الذي لا يرام. اللهم ارحمنا بقدرتك علينا فلا نهلك وأنت ثقتنا ورجاؤنا. اللهم أعطف علينا قلوب عبادك وإمائك برأفة ورحمة إنك أنت أرحم الراحمين الثامنة مهما علا نشزا من الأرض في الطريق فيستحب أن يكبر ثلاثاً ثم يقول: اللهم لك الشرف على كل شرف ولك الحمد على كل حال. ومهما هبط سبح ومهما خاف الوحشة في سفره قال: سبحان الله الملك القدوس رب الملائكة والروح جللت السموات بالعزة والجبروت.

الجملة الثانية

في آداب الإحرام من الميقات إلى دخول مكة

وهي خمسة

الأول أن يغتسل وينوي به غسل الإحرام أعني إذا انتهى إلى الميقات المشهور الذي يحرم الناس منه. ويتمم غسله بالتنظيف ويسرح لحيته ورأسه ويقلم أظفاره ويقص شاربه ويستكمل النظافة التي ذكرناها في الطهارة الثاني أن يفارق الثياب المخيطة ويلبس ثوبي الإحرام فيرتدي ويتزر بثوبين أبيضين فالأبيض هو أحب الثياب إلى الله عز وجل، ويتطيب في ثيابه وبدنه ولا بأس بطيب يبقي جرمه بعد الإحرام؛ فقد رؤي بعض المسك على مفرق رسول الله ﷺ بعد الإحرام مما كان استعمله قبل الإحرام الثالث أن يصبر بعد لبس الثياب حتى تنبعث به راحلته إن كان راكباً ويبدأ بالسير إن كان راجلاً فعد ذلك ينوي الإحرام بالحج أو بالعمرة قراناً أو إفراداً كما أراد. ويكفي مجرد النية لانعقاد الإحرام ولكن السنة أن يقرن بالنية لفظ التلبية فيقول "لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك" وإن زاد قال "لبيك وسعديك والخير كله بيديك والرغباء إليك لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً اللهم صل على محمد وعلى آل محمد" الرابع إذا انعقد إحرامه بالتلبية المذكورة فيستحب أن يقول: اللهم إني أريد الحج فيسره لي وأعني على أداء فرضه وتقبله مني. اللهم إني نويت أداء فريضتك في الحج فاجعلني من الذين استجابوا لك وآمنوا بوعدك واتبعوا أمرك واجعلني من وفدك الذين رضيت عنهم وارتضيت وقبلت منهم. اللهم فيسر لي أداء ما نويت من الحج، اللهم قد أحرم لك لحمي وشعري ودمي وعصبي ومخي وعظامي وحرمت على نفسي النساء والطيب ولبس المخيط ابتغاء وجهك والدار الآخرة. ومن وقت الإحرام حرم عليه المحظورات الستة التي ذكرناها من قبل فليجتنبها الخامس يستحب تجديد التلبية في دوام الإحرام خصوصاً عند اصطدام الرفاق وعند اجتماع الناس وعند كل صعود وهبوط وعند كل ركوب ونزول رافعاً بها صوته بحيث لا يبح حلقه ولا ينبهر، فإنه لا ينادي أصم ولا غائباً كما ورد في الخبر. ولابأس برفع الصوت بالتلبية في المساجد الثلاثة فإنها مظنة المناسك - أعني المسجد الحرام ومسجد الخيف ومسجد الميقات - وأما سائر المساجد فلا بأس فيها بالتلبية من غير رفع صوت: وكان ﷺ إذا أعجبه شيء قال "لبيك إن العيش عيش الآخرة".

الجملة الثالثة

في آداب دخول مكة إلى الطواف

وهي ستة

الأول أن يغتسل بذي طوى لدخول مكة. والاغتسالات المستحبة المسنونة في الحج تسعة. الأول: للإحرام من الميقات ثم لدخول مكة ثم لطواف القدوم ثم للوقوف بعرفة ثم للوقوف بمزدلفة ثم ثلاثة أغسال لرمي الجمار الثلاث؛ ولا غسل لرمي جمرة العقبة، ثم لطواف الوداع. ولم ير الشافعي رضي الله عنه في الجديد: الغسل لطواف الزيارة ولطواف الوداع فتعود إلى سلعة، الثاني: أن يقول عند الدخول في أول الحرم وهو خارج مكة "اللهم هذا حرمك وأمنك فحرم لحمي ودمي وشعري وبشري على النار وآمني من عذابك يوم تبعث عبادك واجعلني من أوليائك وأهل طاعتك. الثالث أن يدخل مكة من جانب الأبطح وهو ثنية كدا - بفتح الكاف - عدل رسول الله ﷺ من جادة الطريق إليها فالتأسي به أولى، وإذا خرج خرج من ثنية كدى - بضم الكاف - وهي الثنية السفلى والأولى هي العليا. الرابع: إذا دخل مكة وانتهى إلى راس الردم فعنده يقع بصره على البيت فليقل "لا إله إلا الله والله أكبر اللهم أنت السلام ومنك السلام ودارك دار السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام اللهم إن هذا بيتك عظمته وكرمته وشرفته اللهم فزده تعظيماً وزده تشريفاً وتكريماً وزده مهابة وزد من حجة يرا وكرامة اللهم افتح لي أبواب رحمتك وأدخلني جنتك وأعذني من الشيطان الرجيم". الخامس: إذا دخل المسجد الحرام فليدخل من باب بني شيبة وليقل "بسم الله وبالله ومن الله وإلى الله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله ﷺ فإذا قرب من البيت قال الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى. اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وعلى إبراهيم خليلك وعلى جميع أنبيائك ورسلك" وليرفع يديه وليقل "اللهم إني أسألك في مقامي هذا في أول مناسكي أن تتقبل توبتي وأن تتجاوز عن خطيئتي وتضع عني وزري الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام الذي جعله مثابة للناس وأمناً وجعله مباركاً وهدى للعالمين. اللهم إني عبدك والبلد بلدك والحرم حرمك والبيت بيتك جئتك أطلب رحمتك وأسألك مسئلة المضطر الخائف من عقوبتك الراجي لرحمتك الطالب مرضاتك. السادس: أن تقصد الحجر الأسود بعد ذلك وتمسه بيدك اليمنى وتقبله وتقول "اللهم أمانتي اديتها وميثاقي وفيته اشهد لي بالموافاة فإن لم يستطع التقبيل وقف في مقابلته ويقول ذلك. ثم لا يعرج على شيء دون الطواف وهو طواف القدوم إلا أن يجد الناس في المكتوبة فيصلي معهم ثم يطوف.

الجملة الرابعة

في الطواف

فإذا أراد افتتاح الطواف إما للقدوم وإما لغيره فينبغي أن يراعي أموراً ستة الأول أن يراعي شروط الصلاة من طهارة الحدث والخبث في الثوب والبدن والمكان وستر العورة. فالطواف بالبيت صلاة ولكن الله سبحانه أباح فيه الكلام. وليضطبع قبل ابتداء الطواف وهو أن يجعل وسط ردائه تحت إبطه اليمنى ويجمع طرفيه على منكبه الأيسر فيرخي طرفاً وراء ظهره وطرفاً وراء ظهره وطرفاً على صدره. ويقط التلبية عند ابتداء الطواف ويشتغل بالأدعية التي سنذكرها الثاني إذا فرغ من الاضطباع فليجعل البيت على يساره وليقف عند الحجر الأسود وليتنح عنه قليلاً ليكون الحجر قدامه فيمر بجميع الحجر بجميع بدنه في ابتداء طوافه. وليجعل بينه وبين البيت قدر ثلاث خطوات ليكون قريباً من البيت فإنه أفضل ولكيلا يكون طائفاً على الشاذروان فإنه من البيت، وعند الحجر الأسود قد يتصل الشاذروان بالأرض ويلتبس به، والطائف عليه لا يصح طوافه؛ لأنه طائف في البيت. والشاذروان هو الذي فضل عن عرض جدار البيت بعد أن ضيق أعلى الجدار ثم من هذا الموقف يبتدىء الطواف الثالث أن يقول قبل مجاوزة الحجر بل في ابتداء الطواف "بسم الله والله أكبر اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك ووفاء بعهدك واتباعاً لسنة نبيك محمد ﷺ" ويطوف. فأول ما يجاوز الحجر ينتهي إلى باب البيت فيقول "اللهم هذا البيت بيتك وهذا الحرم حرمك وهذا الأمن أمنك وهذا مقام العائذ بك من النار" وعند ذكر المقام يشير بعينه إلى مقام إبراهيم عليه السلام "اللهم إن بيتك عظيم ووجهك كريم وأنت أرحم الراحمين فأعذني من النار ومن الشيطان الرجيم وحرم لحمي ودمي على النار وآمني من أهوال يوم القيامة واكفني مؤنة الدنيا والآخرة" ثم يسبح الله تعالى ويحمده حتى يبلغ الركن العراقي فعنده يقول "اللهم إني أعوذ بك من الشر والشك والكفر والنفاق والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في الأهل والمال والولد" فإذا بلغ الميزاب قال "اللهم أظلنا تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك اللهم اسقني بكأس محمد ﷺ شربة لا أظمأ بعدها أبداً" فإذا بلغ الركن الشامي قال "اللهم اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً وتجارة لن تبور يا عزيز يا غفور رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم" فإذا بلغ الركن اليماني قال "اللهم إني أعوذ بك من الكفر وأعوذ بك من الفقر ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات وأعوذ بك من الخزي في الدنيا والآخرة" ويقول بين الركن اليماني والحجر الأسود "اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك فتنة القبر وعذاب النار" فإذا بلغ الحجر الأسود قال "اللهم اغفر لي برحمتك أعوذ برب هذا الحجر من الدين والفقر وضيق الصدر وعذاب القبر" وعند ذلك قد تم شوط واحد فيطوف كذلك سبعة أشواط فيدعو بهذه الأدعية في كل شوط الرابع أن يرمل في ثلاثة أشواط ويمشي في الأربعة الأخر على الهيئة المعتادة. ومعنى الرمل الإسراع في المشي مع تقارب الخطا، وهو دون العدو وفوق المشي المعتاد. والمقصود منه ومن الاضطباع إظهار الشطارة والجلادة والقوة، هكذا كان القصد أولاً قطعاً لطمع الكفار وبقيت تلك السنة والأفضل الرمل مع الدنو من البيت فإن لم يمكنه للزحمة فالرمل مع البعد أفضل فيخرج إلى حاشية المطاف وليرمل ثلاثاً ثم ليقرب إلى البيت في المزدحم وليمش أربعاً. وإن أمكنه استلام الحجر في كل شوط فهو الأحب، وإن منعه الزحمة أشار باليد وقبل يده، وكذلك استلام الركن اليماني يستحب من سائر الأركان. وروي "أنه ﷺ كان يستلم الركن اليماني ويقبله ويضع خده عليه" ومن أراد تخصيص الحجر بالتقبيل واقتصر في الركن اليماني على الاستلام أغنى عن اللمس باليد فهو أولى الخامس إذا تم الطواف سبعاً فليأت الملتزم وهو بين الحجر والباب وهو موضع استجابة الدعوة، وليلتزق بالبيت وليتعلق بالأستار وليلصق بطنه بالبيت وليضع عليه خده الأيمن وليبسط عليه ذراعيه وكفيه، وليقل "اللهم يا رب البيت العتيق أعتق رقبتي من النار وأعذني من الشيطان الرجيم وأعذني من كل سوء وقنعني بما رزقتني وبارك لي فيما آتيتني اللهم إن هذا البيت بيتك والعبد عبدك وهذا مقام العائذ بك من النار اللهم اجعلني من أكرم وفدك عليك" ثم ليحمد الله كثيراً في هذا الموضع وليصل على رسوله ﷺ وعلى جميع الرسل كثيراً وليدع بحوائجه الخاصة وليستغفر من ذنوبه. كان بعض السلف في هذا الموضع يقول لمواليه: تنحوا عني حتى أقر لربي بذنوبي السادس إذا فرغ من ذلك ينبغي أن يصلي خلف المقام ركعتين يقرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص وهما ركعتا الطواف. قال الزهري: مضت السنة أن يصلي لكل سبع ركعتين وإن قرن بين أسابيع وصلى ركعتين جاز فعل ذلك رسول الله ﷺ وكل أسبوع طواف. وليدع بعد ركعتي الطواف وليقل "اللهم يسر لي اليسرى وجنبني العسرى واغفر لي في الآخرة والأولى واعصمني بألطافك حتى لا أعصيط وأعني على طاعتك بتوفيقك وجنبني معاصيك واجعلني ممن يحبك ويحب ملائكتك ورسلك ويحب عبادك الصالحين. اللهم حببني إلى ملائكتك ورسلك وإلى عبادك الصالحين اللهم فكما هديتني إلى الإسلام فثبتني عليه بألطافك وولايتك واستعملني لطاعتك وطاعة رسولك وأجرني من مضلات الفتن. ثم ليعد إلى الحجر وليستلمه وليختم به الطواف قال ﷺ "من طاف بالبيت أسبوعاً وصلى ركعتين فله من الأجر كعتق رقبة" وهذه كيفية الطواف. والواجب من جملته بعد شروط الصلاة أن يستكمل عدد الطواف سبعاً بجميع البيت، وأن يبتدىء بالحجر الأسود ويجعل البيت على يساره وأن يطوف داخل المسجد وخارج البيت لا على الشاذروان ولا في الحجر، وأن يوالي بين الأشواط ولا يفرقها تفريقاً خارجاً عن المعتاد وما عدا هذا فهو سنن وهيئات.

الجملة الخامسة

في السعي

فإذا فرغ من الطواف فليخرج من باب الصفا وهو في محاذاة الضلع الذي بين الركن اليماني والحجر. فإذا خرج من ذلك الباب و انتهى إلى الصفا وهو جبل فيرقى فيه درجات في حضيض الجبل بقدر قامة الرجل. رقى رسول الله ﷺ حتى بدت له الكعبة. وابتداء السعي من أصل الجبل كاف وهذه الزيادة مستحبة، ولكن بعض تلك الدرج مستحدثة فينبغي أن لا يخلفها وراء ظهره فلا يكون متمماً للسعي، وإذا ابتدأ من ههنا سعى بينه وبين المروة سبع مرات. وعند رقية في الصفا ينبغي أن يستقبل البيت ويقول "الله أكبر الله أكبر الحمد لله على ما هدانا الحمد لله بمحامده كلها على جميع نعمه كلها لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون" اللهم إني أسألك إيماناً دائماً ويقيناً صادقاً وعلماً نافعاً وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وأسألك العفو والعافية والمعافاة الدائمة في الدنيا والآخرة ويصلي على محمد ﷺ" ويدعو الله عز وجل بما شاء من حاجته عقيب هذا الدعاء. ثم ينزل ويبتدىء السعي وهو يقول "رب اغفر لي وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" ويمشي على هينة حتى ينتهي إلى الميل الأخضر وهو أول ما يلقاه إذا نزل من الصفا - وهو على زاوية المسجد الحرام - فإذا بقي بينه وبين محاذاة الميل ستة أذرع أخذ في السير السريع وهو الرمل حتى ينتهي إلى الميلين الأخضرين. ثم يعود إلى الهينة فإذا انتهى إلى المروة صعدها كما صعد الصفا وأقبل بوجهه على الصفا ودعا بمثل ذلك الدعاء وقد حصل السعي مرة واحدة؛ فإذا عاد إلى الصفا حصلت مرتان. يفعل ذلك سبعاً ويرمل في موضع الرمل في كل مرة ويسكن في موضع السكون - كما سبق - وفي كل نوبة يصعد الصفا والمروة فإذا فعل ذلك فقد فرغ من طواف القدوم والسعي وهما سنتان. والطهارة مستحبة للسعي وليست بواجبة بخلاف الطواف وإذا سع فينبغي أن لا يعيد السعي بعد الوقوف ويكتفي بهذا ركناً؛ فإنه ليس من شروط السعي أن يتأخر عن الوقوف وإنما ذلك شرط في طواف الركن. نعم شرط كل سعي أن يقع بعد طواف أي طواف كان.

الجملة السادسة

في الوقوف وما قبله

الحاج إذا انتهى يوم عرفة إلى عرفات يتفرغ لطواف القدوم ودخول مكة قبل الوقوف. وإذا وصل قبل ذلك بأيام فطاف طواف القدوم فيمكث محرماً إلى اليوم السابع من ذي الحجة. فيخطب الإمام بمكة خطبة بعد الظهر عند الكعبة ويأمر الناس بالاستعداد للخروج إلى منى يوم التروية والمبيت بها، وبالغدو منها إلى عرفة لإقامة فرض الوقوف بعد الزوال؛ إذ وقت الوقوف من الزوال إلى طلوع الفجر الصادق من يوم النحر، فينبغي أن يخرج إلى منى ملبياً: ويستحب له المشي من مكة في المناسك إلى انقضاء حجته إن قدر عليه. والمشي من مسجد إبراهيم عليه السلام إلى الموقف أفضل وآكد. فإذا انتهى إلى منى قال "اللهم هذه منى فامنن علي بما مننت به على أوليائك وأهل طاعتك وليمكث هذه الليلة بمنى - وهو مبيت منزل لا يتعلق به نسك - فإذا أصبح يوم عرفة صلى الصبح فإذا طلعت الشمس على تثبير سار إلى عرفات ويقول "اللهم أجعلها خير غدوة غدوتها قط واقربها من رضوانك وأبعدها من سخطك اللهم إليك غدوت وإياك رجوت وعليك اعتمدت ووجهك أردت فاجعلني ممن تباهي به اليوم من هو خير مني وأفضل. فإذا أتى عرفات فليضرب خباءه بنمرة قريباً من المسجد فثم ضرب رسول الله ﷺ قنته ونمرة هي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة. وليغتسل للوقوف فإذا زالت الشمس خطب الإمام خطبة وجيزة وقعد، وأخذ المؤذن في الأذان والإمام في الخطبة الثانية ووصل الإقامة بالأذان، وفرغ الإمام مع تمام إقامة المؤذن. ثم جمع بين الظهر والعصر بأذان وإقامتين، وقصر الصلاة، وراح إلى الموقف فليقف بعرفة ولا يقفن في وادي عرنة. وأما مسجد إبراهيم عليه السلام فصدره في الوادي وأخرياته من عرفة فمن وقف في صدر المسجد لم يحصل له الوقوف بعرفة. ويتميز مكان عرفة من المسجد بصخرات كبار فرشت ثم. والأفضل أن يقف عند الصخرات بقرب الإمام مستقبلاً للقبلة راكباً. وليكثر من أنواع التحميد والتسبيح والتهليل والثناء على الله عز وجل والدعاء والتوبة. ولا يصوم في هذا اليوم ليقوى على المواظبة على الدعاء. ولا يقطع التلبية يوم عرفة بل الأحب أن يلبي تارة ويكب على الدعاء أخرى. وينبغي أن لا ينفصل من طرف عرفة إلا بعد الغروب ليجمع في عرفة بين الليل والنهار: وإن أمكنه الوقوف يوم الثامن ساعة عند إمكان الغلط في الهلال فهو الحزم وبه الأمن من الفوات. ومن فاته الوقوف حتى طلع الفجر يوم النحر فقد فاته الحج، فعليه أن يتحلل عن إحرامه بأعمال العمرة ثم يريق دماً لأجل الفوات، ثم يقضي العام الآتي، وليكن أهم اشتغاله في هذا اليوم الدعاء. ففي مثل تلك البقعة ومثل ذلك الجمع ترجى إجابة الدعوات. والدعاء المأثور عن رسول الله ﷺ وعن السلف في يوم عرفة أول ما يدعو به فليقل "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً وفي لساني نوراً. اللهم اشرح لي صدري ويسر لي أمري وليقل: اللهم رب الحمد لك الحمد كما تقول وخيراً مما تقول لك صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي وإليك مآبي وإليك ثوابي. اللهم إني أعوذ بك من وساوس الصدر وشتات الأمر وعذاب القبر. اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل ومن شر ما يلج في النهار ومن شر ما تهب به الرياح. ومن شر بوائق الدهر. اللهم إني أعوذ بك من تحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك. اللهم اهدني بالهدى واغفر لي في الآخرة والأولى يا خير مقصود وأسنى منزول به وأكرم مسئول ما لديه أعطني العشية أفضل ما أعطيت أحداً من خلقك وحجاج بيتك يا أرحم الراحمين. اللهم يا رفيع الدرجات ومنزل البركات ويا فاطر الأرضين والسموات ضجت إليك الأصوات بصنوف اللغات يسألونك الحاجات وحاجتي إليك أن لا تنساني في دار البلاء إذا نسيني أهل الدنيا. اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سري وعلانيتي ولا يخفى عليك شيء من أمري أنا البائس الفقير المستغيث المستجير الوجل المشفق المعترف بذنبه أسألك مسئلة المسكين وأبتهل إليك ابتهال المذنب الذليل وأدعوك دعاء الخائف الضرير دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرته وذل لك جسده ورغم لك أنفه. اللهم لا تجعلني بدعائك رب شقياً وكن بي رءوفاً رحيماً يا خير المسئولين وأكرم المعطين إلهي من مدح لك نفسه فإني لائم نفسي. إلهي أخرست المعاصي لساني فمالي وسيلة عن عمل ولا شفيع سوى الأمل. إلهي إني أعلم أن ذنوبي لم تبق لي عندك جاهاً ولا للاعتذار وجهاً ولكنك أكرم الأكرمين. إلهي إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني ورحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء إلهي إن ذنوبي وإن كانت عظاماً ولكنها صغار في جنب عفوك فاغفرها لي يا كريم إلهي أنت أنت وأنا أنا، أنا العواد إلى الذنوب وأنت العواد إلى المغفرة. إليه إن كنت لا ترحم إلا أهل طاعتك فإلى من يفزع المذنبون. إلهي تجنبت عن طاعتك عمداً وتوجهت إلى معصيتك قصداً فسبحانك ما أعظم حجتك علي وأكرم عفوك عني فبوجوب حجتك علي وانقطاع حجتي عنك وفقري إليك وغناك عني إلا غفرت لي يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج بحرمة الإسلام وبذمة محمد عليه السلام أتوسل إليك فاغفر لي جميع ذنوبي واصرفني من موقفي هذا مقضي الحوائج وهب لي ما سالت وحقق رجائي فيما تمنيت. إلهي دعوتك بالدعاء الذي علمتنيه فلا تحرمني الرجاء الذي عرفتنيه إلهي ما أنت صانع العشية بعبد مقر لك بذنبه خاشع لك بذلته مستكين بجرمه متضرع إليك من عمله تائب إليك من اقترافه مستغفر لك من ظلمه مبتهل إليك في العفو عنه طالب إليك نجاح حوائجه راج إليك في موقفه مع كثرة ذنوبه فيا ملجأ كل حي وولي كل مؤم من أحسن فبرحمتك يفوز ومن أخطأ فبخطيئته يهلك. اللهم إليك خرجنا وبفنائك أنخنا وإياك أملنا وما عندك طلبنا ولإحسانك تعرضنا ورحمتك رجونا ومن عذابك أشفقنا وإليك بأثقال الذنوب هربنا ولبيتك الحرام حججنا يا من يملك حوائح السائلين ويعلم ضمائر الصامتين يا من ليس معه رب يدعى ويا من ليس فوقه خالق يخشى ويا من ليس له وزير يؤتى ولا حاجب يرشى يا من لا يزداد على كثرة السؤال إلا جوداً وكرماً وعلى كثرة الحوائج إلا تفضلاً وإحساناً. اللهم إنك جعلت لكل ضيف قرى ونحن أضيافك فاجعل قرانا منك الجنة. اللهم إن لكل وفد جائزة ولكل زائر كرامة ولكل سائل عطية ولكل راج ثواباً ولكل ملتمس لما عندك جزاء ولكل مسترحم عندك رحمة ولكل راغب إليك زلفى ولكل متوسل إليك عفواً وقد وفدنا إلى بيتك الحرام ووقفنا بهذه المشاعر العظام وشهدنا هذه المشاهد الكرام رجاء لما عندك فلا تخيب رجاءنا. إلهنا تابعت النعم حتى اطمأنت الأنفس بتتابع نعمك وأظهرت العبر حتى نطقت الصوامت بحجتك وظاهرت المنن حتى اعترف أولياؤك بالتقصير عن حقك وأظهرت الآيات حتى أفصحت السموات والأرضون بأدلتك وقهرت بقدركت حتى خضع كل شيء لعزتك وعنت الوجوه لعظمتك إذا أساءت عبادك حلمت وأمهلت وإن أحسنوا تفضلت وقبلت وإن عصوا سترت وإن أذنبوا عفوت وغفرت وإذا دعونا أجبت وإذا نادينا سمعت وإذا أقبلنا إليك قربت وإذا ولينا عنك دعوت. إلهنا إنك قلت في كتابك المبين لمحمد خاتم النبيين "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف" فأرضاك عنهم الإقرار بكلمة التوحيد بعد الجحود وإنا نشهد لك بالتوحيد مخبتين ولمحمد بالرسالة مخلصين فاغفر لنا بهذه الشهادة سوالف الإجرام ولا تجعل حظنا فيه أنقص من حظ من دخل في الإسلام. إلهنا إنك أحببت التقرب إليك بعتق ما ملكت أيماننا ونحن عبيدك وأنت أولى بالتفضل فأعتقنا. وإنك أمرتنا أن نتصدق على فقرائنا ونحن فقراؤك وأنت أحق بالتطول فتصدق علينا. ووصيتنا بالعفو عمن ظلمنا وقد ظلمنا أنفسنا وأنت أحق بالكرم فاعف عنا. ربنا اغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا برحمتك عذاب النار" وليكثر من دعاء الخضر عليه السلام وهو أن يقول "يا من لا يشغله شأن عن شأن ولا سمع عن سمع ولا تشتبه عليه الأصوات، يا من لا تغلطه المسائل ولا تختلف عليه اللغات، يا من لا يبرمه إلحاحالملحين ولا تضجره مسئلة السائلين أذقنا برد عفوك وحلاوة مناجاتك" وليدع بما بدا له وليستغفر له ولوالديه ولجميع المؤمنين والمؤمنات وليلح في الدعاء وليعظم المسألة فإن الله لا يتعاظمه شيء، وقال مطرف بن عبد الله وهو بعرفة: اللهم لا ترد الجميع من أجلي. وقال بكر المزني: قال رجل لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم لولا أني كنت فيهم.

الجملة السابعة

في بقية أعمال الحج بعد الوقوف من المبيت والرمي والنحر والحلق والطواف

فإذا أفاض من عرفة بعد غروب الشمس فينبغي أن يكون على السكينة والوقار وليجتنب وجيف الخيل وإيضاع الإبل كما يعتاده بعض الناس. فإن رسول الله ﷺ "نهى عن وجيف الخيل وإيضاع الإبل وقال: اتقوا الله وسيروا سيراً جميلاً لا تطأوا ضعيفاً ولا تؤذوا مسلماً" فإذا بلغ المزدلفة اغتسل لها لأن المزدلفة من الحرم فليدخله بغسل، وإن قدر على دخوله ماشياً فهو أفضل وأقرب إلى توقير الحرم. ويكون في الطريق رافعاً صوته بالتلبية فإذا بلغ المزدلفة قال "اللهم إن هذه مزدلفة جمعت فيها ألسنة مختلفة تسألك حوائج مؤتنفه فاجعلني ممن دعاك فاستجبت له وتوكل عليك فكفيته" ثم يجمع بين المغرب والعشاء بمزدلفة في وقت العشاء قاصراً له بأذان وإقامتين ليس بينهما نافلة، ولكن يجمع نافلة المغرب والعشاء والوتر بعد الفريضتين، ويبدأ بنافلة المغرب ثم بنافلة العشاء كما في الفريضتين. فإن ترك النوافل في السفر خسران ظاهر. وتكليف إيقاعها في الأوقات إضرار وقطع للتبعية بينهما وبين الفرائض فإذا جاز أن يؤدي النوافل مع الفرائض بتيمم واحد بحكم التبعية فبأن يجوز أداؤهما على حكم الجمع بالتبعية أولى. ولا يمنع من هذا مفارقة النفل للفرض في جواز أدائه على الراحلة لما أومأنا إليه من التبعية والحاجة. ثم يمكث تلك الليلة بمزدلفة وهو مبيت نسك، ومن خرج منها في النصف الأول من الليل ولم يبت فعليه دم، وإحياء هذه الليلة الشريفة من محاسن القربات لمن يقدر عليه ثم إذا انتصف الليل يأخذ في التأهب للرحيل ويتزود الحصى منها - ففيها أحجار رخوة - فليأخذ سبعين حصاة فإنها قدر الحاجة، ولابأس بأن يستظهر بزيادة فربما يسقط منه بعضها. ولتكن الحصى خفافاً بحيث يحتوي عليه أطراف البراجم. ثم ليغلس بصلاة الصبح وليأخذ في المسير حتى إذا انتهى إلى المشعر الحرام وهو آخر المزدلفة فيقف ويدعو إلى الإسفار ويقول "اللهم بحق المشعر الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام والركن والمقام أبلغ روح محمد منا التحية والسلام وأدخلنا دار السلام يا ذا الجلال والإكرام، ثم يدفع منها قبل طلوع الشمس حتى ينتهي إلى موضع يقال له وادي محسر فيستحب له أن يحرك دابته حتى يقطع عرض الوادي وإن كان راجلاً أسرع في المشي. ثم إذا أصبح يوم النحر خلط التلبية بالتكبير فيلبي تارة ويكبر أخرى. فينتهي إلى منى ومواضع الجمرات وهي ثلاثة فيتجاوز الأولى والثانية فلا شغل له معهما يوم النحر، حتى ينتهي إلى جمرة العقبة وهي على يمين مستقبل القبلة في الجادة - والمرمى مرتفع قليلاً في سفح الجبل وهو ظاهر بمواقع الجمرات - ويرمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس بقدر رمح. وكيفيته أن يقف مستقبلاً القبلة وإن استقبل الجمرة فلا بأس ويرمي سبع حصيات رافعاً يده، ويبدل التلبية بالتكبير ويقول مع كل حصاة "الله أكبر على طاعة الرحمن، ورغم الشيطان اللهم تصديقاً بكتابك واتباعاً لسنة نبيك" فإذا رمى قطع التلبية والتكبير إلا التكبير عقيب فرائض الصلوات من ظهر يوم النحر إلى عقيب الصبح من آخر أيام التشريق. ولا يقف في هذا اليوم للدعاء بل يدعو في منزله. وصفة التكبير أن يقول "الله أكبر الله أكبر الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً وسبحان الله بكرة وأصيلاً لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصين له الدين ولو كره الكافرون لا إله إلا الله وحده صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر" ثم ليذبح الهدي إن كان معه والأولى أن يذبح بنفسه وليقل "بسم الله والله أكبر اللهم منك وبك وإليك تقبل مني كما تقبلت من خليلك إبراهيم" والتضحية بالبدن أفضل ثم بالبقر ثم بالشاة. والشاة أفضل من مشاركة ستة في البدنة أو البقرة. والضأن أفضل من المعز قال رسول الله ﷺ "خير الأضحية الكبش الأقرن والبيضاء أفضل من الغبراء والسوداء" وقال أبو هريرة: البيضاء أفضل في الأضحى من دم سوداوين وليأكل منه إن كانت من هدي التطوع ولا يضحين بالعرجاء والجدعاء والعضباء والجرباء والشرقاء والخرقاء والمقابلة والمدابرة والعجفاء. والجدع في الأنف والأذن للقطع منهما، والعضب في القرن وفي نقصان القوائم والشرقاء المشقوقة الأذن من فوق، والخرقان من أسفل، والمقابلة المخروقة الأذن من قدام، والمدابرة من خلف. والعجفاء المهزولة التي لا تتقي أي لا مخ فيها من الهزال. ثم ليحلق بعد ذلك والسنة أن يستقبل القبلة ويبتدىء بمقدم رأسه فيحلق الشق الأيمن إلى العظمين المشرفين على القفا ثم ليحلق الباقي ويقول "اللهم أثبت لي بكل شعرة حسنة وامح عني بها سيئة وارفع لي بها عندك درجة" والمرأة تقصر الشعر. والأصلع يستحب له إمرار الموسى على رأسه ومهما حلق بعد رمي الجمرة فقد حصل له التحلل الأول وحل له كل المحذورات إلا النساء والصيد. ثم يفيض إلى مكة ويطوف كما وصفناه. وهذا الطواف طواف ركن الحج ويسمى طواف الزيارة وأول وقته بعد نصف الليل من ليلة النحر، وأفضل وقته يوم النحر ولا آخر لوقته بل له أن يؤخر إلى أي وقت شاء، ولكن يبقى مقيداً بعلقة الإحرام فلا تحل لهه النساء إلى أن يطوف. فإذا طاف تم التحلل وحل الجماع وارتفع الإحرام بالكلية ولم يبق إلا رمي أيام التشريق والمبيت بمنى وهي واجبات بعد زوال الإحرام على سبيل الاتباع للحق وكيفية هذا الطواف مع الركعتين كما سبق في طواف القدوم. فإذا فرغ من الركعتين فليسع كما وصفنا إن لم يكن سعى بعد طواف القدوم وإن كان قد سعى فقد وقع ذلك ركناً فلا ينبغي أن يعيد السعي. وأسباب التحلل ثلاثة: الرمي والحلق والطواف الذي هو ركن. ومهما أتى باثنين من هذه الثلاثة فقد تحلل أحد التحللين، ولا حرج عليه في التقديم والتأخير بهذه الثلاث مع الذبح، ولكن الأحسن أن يرمي ثم يذبح ثم يحلق ثم يطوف. والسنة للإمام في هذا اليوم أن يخطب بعد الزوال وهي خطبة وداع رسول الله ﷺ ففي الحج أربع خطب: خطبة يوم السابع وخطبة يوم عرفة وخطبة يوم النحر وخطبة يوم النفر الأول، وكلها عقيب الزوال وكلها إفراد إلا خطبة يوم عرفة فإنها خطبتان بينهما جلسة. ثم إذا فرغ من الطواف عاد إلى منى للمبيت والرمي فيبيت تلك الليلة بمنى وتسمى ليلة القر لأن الناس في غد يقرون بمنى ولاينفرون. فإذا أصبح اليوم الثاني من العيد وزالت الشمس اغتسل للرمي وقصد الجمرة الأولى التي تلي عرفة وهي على يمين الجادة ويرمى إليها بسبع حصيات، فإذا تعداها انحرف قليلاً عن يمين الجادة ووقف مستقبل القبلة وحمد الله تعالى وهلل وكبر ودعا مع حضور القلب وخشوع الجوارح ووقف مستقبل القبلة قدر مستقبل القبلة قدر قراءة سورة البقرة مقبلاً على الدعاء، ثم يتقدم إلى الجمرة الوسطى ويرمي كما رمى الأولى ويقف كما وقف للأولى ثم يتقدم إلى جمرة العقبة ويرمي سبعاً، ولا يعرج على شغل بل يرجع إلى منزله ويبيت تلك الليلة بمنى وتسمى هذه الليلة ليلة النفر الأول، ويصبح فإذا صلى الظهر في اليوم الثاني من أيام التشريق رمى في هذا اليوم إحدى وعشرين حصاة كاليوم الذي قبله. ثم هو مخير بين المقام بمنى وبين العود إلى مكة. فإن خرج من منى قبل غروب الشمس فلا شيء عليه وإن صبر إلى الليل فلا يجوز له الخروج بل لزمه المبيت حتى يرمي في يوم النفر الثاني أحداً وعشرين حجراً كما سبق. وفي ترك المبيت والرمي إراقة دم وليتصدق باللحم. وله أن يزور البيت في ليالي منى بشرط أن لا يبيت إلا بمنى كان رسول الله ﷺ يفعل ذلك ولا يتركن حضور الفرائض مع الإمام في مسجد الخيف فإن فضله عظيم فإذا أفاض من منى فالأولى أن يقيم بالمحصب من منى ويصلي العصر والمغرب والعشاء ويرقد رقدة فهو السنة. رواه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم. فإن لم يفعل ذلك فلا شيء عليه.

الجملة الثامنة

في صفة العمرة وما بعدها إلى طواف الوداع

من أراد أن يعتمر قبل حجه أو بعده كيفما أراد فليغتسل ويلبس ثياب الإحرام كما سبق في الحج ويحرم بالعمرة من ميقاتها، وأفضل مواقيتها الجعرانة ثم التنعيم ثم الحديبية. وينوي العمرة ويلبي ويقصد مسجد عائشة رضي الله عنها ويصلي ركعتين ويدعو بما شاء. ثم يعود إلى مكة وهو يلبي حتى يدخل المسجد الحرام. فإذا دخل المسجد ترك التلبية وطاف سبعاً وسعى سبعاً كما وصفنا. فإذا فرغ حلق رأسه وقد تمت عمرته. والمقيم بمكة ينبغي أن يكثر الاعتمار والطواف. وليكثر النظر إلى البيت. فإذا دخله فليصل ركعتين بين العمودين فهو الأفضل وليدخله حافياً موقراً. قيل لبعضهم: هل دخلت بيت ربك اليوم? فقال: والله ما أرى هاتين القدمين أهلاً للطواف حول بيت ربي فكيف أراهما أهلاً لأن أطأ بهما بيت ربي! وقد علمت حيث مشيتا وإلى أين مشيتا. وليكثر شرب ماء زمزم وليستق بيده من غير استنابة إن أمكنه وليرتو منه حتى يتضلع وليقل: اللهم اجعله شفاء من كل داء وسقم وارزقني الإخلاص واليقين والمعافاة في الدنيا والآخرة قال ﷺ "ماء زمزم لما شرب له" أي يشفي ما قصد به.

الجمعة التاسعة

في طواف الوداع

مهما عن له الرجوع إلى الوطن بعد الفراغ من إتمام الحج والعمرة فلينجز أولاً أشغاله وليشد رحاله وليجعل آخر أشغاله وداع البيت. ووداعه بأن يطوف به سبعاً كما سبق ولكن من غير رمل واضطباع. فإذا فرغ منه صلى ركعتين خلف المقام وشرب من ماء زمزم. ثم يأتي الملتزم ويدعو ويتضرع ويقول "اللهم إن البيت بيتك والعبد عبدك وابن عبدك وابن أمتك حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتني في بلادك وبلغتني بنعمتك حتى أعنتني على قضاء مناسكك، فإن كنت رضيت عني فازدد عني رضاً وإلا فمن الآن قبل تباعدي عن بيتك هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير مستبدل بك ولا ببيتك ولا راغب عنك ولا عن بيتك. اللهم اصحبني العافية في بدني والعصمة في ديني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك أبداً ما أبقيتني واجمع لي خير الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير. اللهم لا تجعل هذا آخر عهدي ببيتك الحرام وإن جعلته آخر عهدي فعوضني عنه الجنة" والأحب أن لا يصرف بصره عن البيت حتى يغيب عنه.

الجملة العاشرة

في زيارة المدينة وآدابها

قال ﷺ "من زارني بعد وفاتي فكأنما زارني في حياتي" وقال ﷺ "من وجد سعة ولم يفد إلي فقد جفاني" وقال ﷺ "من جاءني زائراً لا يهمه إلا زيارتي كان حقاً على الله سبحانه أن أكون له شفيعاً" فمن قصد زيارة المدينة فليصل على رسول الله ﷺ في طريقه كثيراً. فإذا وقع بصره على حيطان المدينة وأشجارها قال "اللهم هذا حرم رسولك فاجعله لي وقاية من النار وأماناً من العذاب وسوء الحساب" وليغتسل قبل الدخول من بئر الحرة وليتطيب وليلبس أنظف ثيابه. فإذا دخلها فليدخلها متواضعاً معظماً وليقل: بسم الله وعلى ملة رسول الله ﷺ "رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً" ثم يقصد المسجد ويدخله ويصلي بجنب المنبر ركعتين. ويجعل عمود المنبر حذاء منكبه الأيمن ويستقبل السارية التي إلى جانبها الصندوق وتكون الدائرة التي في قبلة المسجد بين عينيه فذلك موقف رسول الله ﷺ قبل أن يغير المسجد. وليجتهد أن يصلي في المسجد الأول قبل أن يزاد فيه. ثم يأتي قبر النبي ﷺ فيقف عند وجهه وذلك بأن يستدبر القبلة ويستقبل جدار القبر على نحو من أربعة أذرع من السارية التي في زاوية جدار القبر، ويجعل القنديل على رأسه وليس من السنة أن يمس الجدار ولا أن يقبله بل الوقوف من بعد أقرب للاحترام، فيقف ويقول "السلام عليك يا رسول الله السلام عليك يا نبي الله السلام عليك يا أمين الله السلام عليك يا حبيب الله السلام عليك يا صفوة الله السلام عليك يا خيرة الله السلام عليك يا أحمد السلام عليك يا محمد السلام عليك يا أبا القاسم السلام عليك يا ماحي السلام عليك يا عاقب السلام عليك يا حاشر السلام عليك يا بشير السلام عليك يا نذير السلام عليك يا طهر السلام عليك يا طاهر السلام عليك يا أكرم ولد آدم السلام عليك يا سيد المرسلين السلام عليك يا خاتم النبيين السلام عليك يا رسول رب العالمين السلام عليك يا قائد الخير السلام عليك يا فاتح البر السلام عليك يا نبي الرحمة السلام عليك يا هادي الأمة السلام عليك يا قائد الغر المحجلين السلام عليك وعلى أهل بيتك الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً السلام عليك وعلى أصحابك الطيبين وعلى أزواجك الطاهرات أمهات المؤمنين جزاك الله عنا أفضل ما جزى نبياً عن قومه ورسولاً عن أمته وصلى عليك كلما ذكرك الذاكرون وكلما غفل عنك الغافلون وصلى عليك في الأولين والآخرين أفضل وأكمل وأعلى وأجل وأطيب وأطهر ما صلى على أحد من خلقه كما استنقذنا بك من الضلالة وبصرنا بك من العماية وهدانا بك من الجهالة أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أنك عبده ورسوله وأمينه وصفيه وخيرته من خلقه وأشهد أنك قد بلغت الرسالة وأديت الأمانة ونصحت الأمة وجاهدت عدوك وهديت أمتك وعبدت ربك حتى أتاك اليقين فصلى الله عليك وعلى أهل بيتك الطيبين وسلم وشرف وكرم وعظم وإن كان قد أوصي بتبليغ سلام فيقول "السلام عليك من - فلان - السلام عليك من - فلان - ثم يتأخر قدر ذراع ويسلم على أبي بكر الصديق رضي الله عنه. ثم يتأخر قدر ذراع ويسلم على الفاروق عمر رضي الله عنه ويقول "السلام عليكما يا وزيري رسول الله ﷺ والمعاونين له على القيام بالدين مادام حياً والقائمين في أمته بعده بأمور الدين تتبعان في ذلك آثاره وتعملان بسنته فجزاكما الله خير ما جزى وزيري نبي عن دينه. ثم يرجع فيقف عند رأس رسول الله ﷺ - بين القبر والاسطوانة اليوم - ويستقبل القبلة وليحمد الله عز وجل وليمجده وليكثر من الصلاة على رسول الله ﷺ ثم يقول "اللهم إنك قد قلت وقولك الحق "ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله تواباً رحيماً" اللهم إنا قد سمعنا قولك وأطعنا أمرك وقصدنا نبيك متشفعين به إليك في ذنوبنا وما أثقل ظهورنا من أوزارنا تائبين من زللنا معترفين بخطايانا وتقصيرنا فتب اللهم علينا وشفع نبيك هذا فينا وارفعنا بمنزلته عندك وحقه عليك. اللهم اغفر للمهاجرين والأنصار واغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان. اللهم لا تجعله آخر العهد من قبر نبيك ومن حرمك يا أرحم الراحمين.

ثم يأتي الروضة فيصلي فيها ركعتين ويكثر من الدعاء ما استطاع لقوله ﷺ "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي" ويدعو عند المنبر ويستحب أن يضع يده على الرمانة السفلى التي كان رسول الله ﷺ يضع يده عليها عند الخطبة ويستحب له أن يأتي أحداً يوم الخميس ويزور قبور الشهداء فيصلي الغداة في مسجد النبي ﷺ. ثم يخرج ويعود إلى المسجد لصلاة الظهر فلا يفوته فريضة في الجماعة في المسجد. ويستحب أن يخرج كل يوم إلى البقيع بعد السلام على رسول الله ﷺ ويزور قبر عثمان رضي الله عنه وقبر الحسن بن علي رضي الله عنهما، وفيه أيضاً قبر علي ابن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمد رضي الله عنهم، ويصلي في مسجد فاطمة رضي الله عنها ويزور قبر إبراهيم ابن رسول الله ﷺ وقبر صفية عمة رسول الله ﷺ فذلك كله بالبقيع. ويستحب له أن يأتي مسجد قباء في كل سبت ويصلي فيه لما روي أن رسول الله ﷺ "قال من خرج من بيته حتى يأتي مسجد قباء ويصلي فيه كان له عدل عمرة" ويأتي بئر أريس يقال إن النبي ﷺ تفل فيها وهي عند المسجد فيتوضأ منها ويشرب من مائها ويأتي مسجد الفتح وهو على الخندق. وكذا يأتي سائر المساجد والمشاهد ويقال إن جميع المشاهد والمساجد بالمدينة ثلاثون موضعاً يعرفها أهل البلد فيقصد ما قدر عليه وكذلك يقصد الآبار التي كان رسول الله ﷺ يتوضأ منها ويغتسل ويشرب منها وهي سبع آبار طلباً للشفاء وتبركاً به ﷺ وإن أمكنه الإقامة بالمدينة مع مراعاة الحرمة فلها فضل عظيم قال ﷺ "لا يصبر على لأوائها وشدتها أحد إلا كنت له شفيعاً يوم القيامة" وقال ﷺ "من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت فإنه لن يموت بها أحد إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة" ثم إذا فرغ من أشغاله وعزم على الخروج من المدينة فالمستحب أن يأتي القبر الشريف ويعيد دعاء الزيارة - كما سبق - ويودع رسول الله ﷺ ويسأل الله عز وجل أن يرزقه العودة إليه ويسأل السلامة في سفره. ثم يصلي ركعتين في الروضة الصغيرة وهي موضع مقام رسول الله ﷺ قبل أن زيدت المقصورة في المسجد. فإذا خرج فليخرج رجله اليسرى أولاً ثم اليمنى وليقل "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ولا تجعله آخر العهد بنبيك وحط أوزاري بزيارته وأصحبني في سفري السلامة ويسر رجوعي إلى أهلي ووطني سالماً يا أرحم الراحمين" وليتصدق على جيران رسول الله ﷺ بما قدر عليه. وليتتبع المساجد التي بين المدينة ومكة فيصلي فيها وهي عشرون موضعاً.

فصل في سنن الرجوع من السفر

"كان رسول الله ﷺ إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة يكبر على رأس كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ويقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" وفي بعض الروايات "وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون" فينبغي أن يستعمل هذه السنة في رجوعه. وإذا أشرف على مدينته يحرك الدابة ويقول "اللهم اجعل لنا بها قراراً ورزقاً حسناً. ثم ليرسل إلى أهله من يخبرهم بقدومه كي لا يقدم عليهم بغتة فذلك هو السنة ولا ينبغي أن يطرق أهله ليلاً فإذا دخل البلد فليقصد المسجد أولاً وليصل ركعتين فهو السنة كذلك كان يفعل رسول الله ﷺ. فإذا دخل بيته قال "توباً توباً لربنا أوباً لا يغادر علينا حوباً" فإذا استقر في منزله فلا ينبغي أن ينسى ما أنعم الله به عليه من زيارة بيته وحرمه وقبر نبيه ﷺ فيكفر تلك النعمة بأن يعود إلى الغفلة واللهو والخوض في المعاصي، فما ذلك علامة الحج المبرور بل علامته أن يعود زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة متأهباً للقاء رب البيت بعد لقاء البيت.

=============

الباب الثالث

في الآداب الدقيقة والأعمال الباطنة

بيان دقائق الآداب

وهي عشرة

الأول أن تكون النفقة حلالاً وتكون اليد خالية من تجارة تشغل القلب وتفرق الهم حتى يكون الهم مجرداً لله تعالى والقلب مطمئناً منصرفاً إلى ذكر الله تعالى وتعظيم شعائره. وقد روي في خبر من طريق أهل البيت "إذا كان آخر الزمان خرج الناس إلى الحج أربعة أصناف سلاطينهم للنزهة وأغنياؤهم للتجارة وفقراؤهم للمسألة وقراؤهم للسمعة" وفي الخبر إشارة إلى جملة أغراض الدنيا التي يتصور أن تتصل بالحج، فكل ذلك مما يمنع فضيلة الحج ويخرجه من حيز حج الخصوص؛ لاسيما إذا كان متجرداً بنفس الحج بأن يحج لغيره بأجرة فيطلب الدنيا بعمل الآخرة. وقد كره الورعون وأرباب القلوب ذلك إلا أن يكون قصده المقام بمكة ولم يكن له ما يبلغه فلابأس أن يأخذ ذلك على هذا القصد، لا ليتوصل بالدين إلى الدنيا بل بالدنيا إلى الدين. فعند ذلك ينبغي أن يكون قصده زيارة بيت الله عز وجل ومعاونة أخيه المسلم بإسقاط الفرض عنه. وفي مثله ينزل قول رسول الله ﷺ "يدخل الله سبحانه بالحجة الواحدة ثلاثة الجنة: الموصي بها والمنفذ لها ومن حج بها عن أخيه" ولست أقول لا تحل الأجرة أو يحرم ذلك بعد أن أسقط فرض الإسلام عن نفسه، ولكن الأولى أن لا يفعل ولايتخذ ذلك مكسبه ومتجره فإن الله عز وجل يعطي الدنيا بالدين ولا يعطي الدين بالدنيا. وفي الخبر "مثل الذي يغزو في سبيل الله عز وجل ويأخذ أجراً مثل أم موسى عليه السلام ترضع ولدها وتأخذ أجرها" فمن كان مثاله في أخذ الأجرة على الحج مثال أم موسى فلابأس بأخذه فإنه يأخذ ليتمكن من الحج والزيارة فيه، وليس يحج ليأخذ الأجرة بل يأخذ الأجرة ليحج كما كانت تأخذ أم موسى ليتسير لها الإرضاع بتلبيس حالها عليهم الثاني أن لا يعاون أعداء الله سبحانه بتسليم المكس وهم الصادون عن المسجد الحرام من أمراء مكة والأعراب المترصدين في الطريق. فإن تسليم المال إليهم إعانة على الظلم وتيسير لأسبابه عليهم فهو كالإعانة بالنفس؛ فليتلطف في حيلة الخلاص فإن لم يقدر فقد قال بعض العلماء - ولابأس بما قال - إن ترك التنفل بالحج والرجوع عن الطريق أفضل من إعانة الظلمة فإن هذه بدعة أحدثت وفي الانقياد لها ما يجعلها سنة مطردة وفيه ذل وصغار على المسلمين ببذل جزية. ولا معنى لقول القائل إن ذلك يؤخذ مني وأنا مضطر فإنه لو قعد في البيت أو رجع من الطريق لم يؤخذ منه شيء بل ربما يظهر أسباب الترفه فتكثر مطالبته فلو كان في زي الفقراء لم يطالب فهو الذي ساق نفسه إلى حالة الاضطرار الثالث التوسع في ازلاد وطيب النفس بالبذل والإنفاق من غير تقتير ولا إسراف بل على اقتصاد، وأعني بالإسراف التنعم بأطيب الأطعمة والترفه بشرب أنواعها على عادة المترفين. فأما كثرة البذل فلا سرف فيه. إذ لا خير في السرف ولا سرف في الخير، كما قيل. وبذل الزاد في طريق الحج نفقته في سبيل الله عز وجل والدرهم بسبعمائة درهم. قال ابن عمر رضي الله عنهما: من كرم الرجل طيب زاده في سفره. وكان يقول أفضل الحاج أخلصهم نية وأزكاهم نفقة وأحسنهم يقيناً. وقال ﷺ "الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة فقيل له يا رسول الله ما بر الحج? فقال: طيب الكلام وإطعام الطعام" الرابع ترك الرفث والفسوق والجدال كما نطق به القرآن. والرفث اسم جامع لكل لغو وخنى وفحش من الكلام ويدخل فيه مغازلة النساء ومداعبتهن والتحدث بشأن الجماع ومقدماته، فإن ذلك يهيج داعية الجماع المحظور والداعي إلى المحظور محظور. والفسق اسم جامع لكل خروج عن طاعة الله عز وجل. والجدال هو المبالغة في الخصومة والمماراة بما يورث الضغائن ويفرق في الحال الهمة ويناقض حسن الخلق. وقد قال سفيان: من رفث فسد حجه، وقد جعل رسول الله ﷺ طيب الكلام مع إطعام الطعام من بر الحج. والمماراة تناقض طيب الكلام فلا ينبغي أن يكون كثير الاعتراض على رفيقه وجماله وعلى غيره من أصحابه بل يلين جانبه ويخفض جناحه للسائرين إلى بيت الله عز وجل ويلزم حسن الخلق وليس حسن الخلق كف الأذى بل احتمال الأذى وقيل سمي السفر سفراً لأنه يسفر عن أخلاق الرجال. ولذلك قال عمر رضي الله عنه لمن زعم أنه يعرف رجلاً: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق? قال: لا، فقال: ما أراك تعرفه الخامس أن يحج ماشياً إن قدر عليه فذلك الأفضل. أوصى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما بنيه عند موته فقال: يا بني حجوا مشاة فإن للحاج الماشي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم، قيل وما حسنات الحرم? قال: الحسنة بمائة ألف والاستحباب في المشي في المناسك والتردد من مكة إلى الموقف وإلى منى آكد منه في الطريق. وإن أضاف إلى المشي الإحرام من دويرة أهله فقد قيل إن ذلك من إتمام الحج قاله عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم في معنى قوله عز وجل "وأتموا الحج والعمرة لله" وقال بعض العلماء: الركوب أفضل لما فيه من الإنفاق والمؤنة ولأنه أبعد عن ضجر النفس وأقل لأذاه وأقرب إلى سلامته وتمام حجه. وهذا عند التحقيق ليس مخالفاً للأول بل يبنغي أن يفصل. ويقال من سهل عليه المشي فهو أفضل فإن كان يضعف ويؤدي به ذلك إلى سوء الخلق وقصور عن عمل فالركوب له أفضل، كما أن الصوم للمسافر أفضل وللمريض ما لم يفض إلى ضعف وسوء خلق. وسئل بعض العلماء عن العمرة: أيمشي فيها أو يكتري حماراً بدرهم? فقال: إن كان وزن الدرهم أشد عليه فالكراء أفضل من المشي، وإن كان المشي أشد عليه كالأغنياء فالمشي له أفضل؛ فكأنه ذهب فيه إلى طريق مجاهدة النفس وله وجه. ولكن الأفضل له أن يمشي ويصرف ذلك الدرهم إلى خير فهو أولى من صرفه إلى المكاري عوضاً عن ابتذال الدابة. فإذا كانت لا تتسع نفسه للجمع بين مشقة النفس ونقصان المال فما ذكره غير بعيد فيه السادس أن لا يركب إلا زاملة أما المحمل فليجتنبه إلا إذا كان يخاف على الزاملة أن لا يستمسك عليها لعذر وفيه معنيان أحدهما: التخفيف على البعير فإن المحمل يؤذيه. والثاني: اجتنات زي المترفين المتكبرين "حج رسول الله ﷺ على راحلة وكان تحته رحل رث وقطيفة خلقة قيمتها أربعة دراهم وطاف على الراحلة لينظر الناس إلى هديه وشمائله" وقال صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم "خذوا عني مناسككم" وقيل إن هذه المحامل أحدثها الحجاج وكان العلماء في وقته ينكرونها. فروى سفيان الثوري عن أبيه أنه قال: برزت من الكوفة إلى القادسية للحج ووافيت الرفاق من البلدان فرأيت الحاج كلهم على زوامل وجوالقات ورواحل وما رأيت في جميعهم إلا محملين. وكان ابن عمر إذا نظر إلى ما أحدث الحجاج من الزي والمحامل يقول الحاج قليل والركب كثير ثم نظر إلى رجل مسكين رث الهيئة تحته جوالق فقال: هذا نعم من الحجاج.

السابع أن يكون رث الهيئة أشعث أغبر غير مستكثر من الزينة ولا مائل إلى أسباب التفاخر والتكاثر فيكتب في ديوان المتكبرين والمترفهين ويخرج عن حزب الضعفاء والمساكين وخصوص الصالحين، فقد أمر ﷺ بالشعث والاختفاء ونهى عن التنعيم والرفاهية في حديث فضالة بن عبيد وفي الحديث "إنما الحاج الشعث النفث ويقول الله تعالى "انظروا إلى زوار بيتي قد جاءوني شعثاً غبراً من كل فج عميق" وقال تعالى "ثم ليقضوا تفثهم" والتفث الشعث والاغبرار، وقضاؤه بالحلق وقص الشارب والأظفار. وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد: اخلولقوا واخشوشنوا. أي البسوا الخلقان واستعملوا الخشونة في الأشياء. وقد قيل: زين الحجيج أهل اليمن لأنهم على هيئة التواضع والضعف وسيرة السلف. فينبغي أن يجتنب الحمرة في زيه على الخصوص والشهرة كيفما كانت على العموم. فقد روي "أنه ﷺ كان في سفر فنزل أصحابه منزلاً فسرحت الإبل فنظر إلى أكسية حمر على الأقتاب فقال ﷺ أرى هذه الحمرة قد غلبت عليكم قالوا فقمنا إليها ونزعناها عن ظهورها حتى شرد بعض الإبل" الثامن أن يرفق بالدابة فلا يحملها ما لا تطيق والمحمل خارج عن حد طاقتها والنوم عليها يؤذيها ويثقل عليها كان أهل الورع لا ينامون على الدواب إلا غفوة عن قعود وكانوا لا يقفون عليها الوقوف الطويل قال ﷺ "لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسي" ويستحب أن ينزل عن دابته غدوة وعشية يروحها بذلك فهو سنة وفيه آثار عن السلف. وكان بعض السلف يكتري بشرط أن لا ينزل ويوفي الأجرة ثم كان ينزل عنها ليكون بذلك محسناً إلى الدابة، فيكون في حسناته ويوضع في ميزانه لا في ميزان المكاري. وكل من آذى بهيمة وحملها ما لا تطيق طولب به يوم القيامة. قال أبو الدرداء لبعير له عند الموت: يا أيها البعير لا تخاصمني إلى ربك فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك. وعلى الجملة في كل كبد حراء أجر فليراع حق الدابة وحق المكاري جميعاً وفي نزوله ساعة ترويح الدابة وسرور قلب المكاري. قال رجل لابن المبارك: احمل لي هذا الكتاب معك لتوصله فقال: حتى استأمر الجمال فإني قد اكتريت. فانظر كيف تورع من استصحاب كتاب لا وزن له، وهو طريق الحزم في الورع فإنه إذا فتح باب القليل انجر إلى الكثير يسيراً يسيراً التاسع أن يتقرب بإراقة دم وإن لم يكن واجباً عليه ويجتهد أن يكون من سمين النعم ونفيسه، وليأكل منه إن كان تطوعاً ولا يأكل منه إن كان واجباً. قيل في تفسير قوله تعالى "ذلك ومن يعظم شعائر الله" إنه تحسينه وتسمينه. وسوق الهدي من الميقات أفضل إن كان لا يجهده ولا يكده. وليترك المكاس في شرائه فقد كانوا يغالون في ثلاث ويكرهون المكاس فيهن: الهدي والأضحية والرقبة، فإن أفضل ذلك أغلاه ثمناً وأنفسه عند أهله، وروى ابن عمر "أن عمر رضي الله عنهما أهدى بختية فطلبت منه بثلمائة دينار فسأل رسول الله ﷺ أن يبيعها ويشتري بثمنها بدناً فنهاه عن ذلك وقال بل أهداها" وذلك لأن القيل الجيد خير من الكثير الدون. وفي ثلثمائة دينار قيمة ثلاثين بدنة وفيها تكثير اللحم ولكن ليس المقصود اللحم إنما المقصود تزكية النفس وتطهيرها عن صفة البخل وتزيينها بجمال التعظم لله عز وجل ف "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وذلك يحصل بمراعاة النفاسة في القيمة كثر العدد أو قل "وسأل رسول الله ﷺ ما بر الحج فقال العج والثج" والعج هو رفع الصوت بالتلبية، والثج هو نحر البدن. وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال "ما عمل آدمي يوم النحر أحب إلى الله عز وجل من إهراقه دماً وأنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وإن الدم يقع من الله عز وجل بمكان قبل أن يقع بالأرض فطيبوا بها نفساً" وفي الخبر "لكم بكل صوفة من جلدها حسنة وكل قطرة من دمها حسنة وإنها لتوضع في الميزان فابشروا" وقال ﷺ "استنجدوا هداياكم فإنها مطاياكم يوم القيامة" العاشر أن يكون طيب النفس بما أنفقه من نفقة وهدي وبما أصابه من خسران ومصيبة في مال أو بدن إن أصابه ذلك فإن ذلك من دلائل قبول حجه. فإن المصيبة في طريق الحج تعدل النفقة في سبيل الله عز وجل الدرهم بسبعمائة درهم بمثابة الشدائد في طريق الجهاد فله بكل أذى احتمله وخسران أصابه ثواب فلا يضيع منه شيء عند الله عز وجل. ويقال إن من علامة قبول الحج أيضاً ترك ما كان عليه من المعاصي وأن يتبدل بإخوانه البطالين إخواناً صالحين، وبمجالس اللهو والغفلة مجالس الذكر واليقظة.

بيان الأعمال الباطنة ووجه الإخلاص في النية وطريق الاعتبار بالمشاهد الشريفة وكيفية الافتكار فيها والتذكر لأسرارها ومعانيها من أول الحج إلى آخره

اعلم أن أول الحج الفهم - أعني فهم موقع الحج في الدين - ثم الشوق إليه ثم العزم عليه ثم قطع العلائق المانعة منه ثم شراء ثوب الإحرام ثم شراء الزاد ثم اكتراء الراحلة ثم الخروج ثم المسير في البادية ثم الإحرام من الميقات بالتلبية ثم دخول مكة ثم استتمام الأفعال كما سبق. وفي كل واحد من هذه الأمور تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر وتنبيه للمريد الصادق وتعريف وإشارة للفطن. فلنرمز إلى مفاتحها حتى إذا انفتح بابها وعرفت أسبابها انكشفت لكل حاج من أسرارها ما يقتضيه صفا قلبه وطهارة باطنه وغزارة فهمه.

أما الفهم: اعلم أنه لا وصول إلى الله سبحانه وتعالى إلا بالتنزه عن الشهوات والكف عن اللذات والاقتصار على الضرورات فيها والتجرد لله سبحانه في جميع الحركات والسكنات. ولأجل هذا انفرد الرهبانيون في الملل السالفة عن الخلق وانحازوا إلى قلل الجبال وآثروا التوحش عن الخلق لطلب الأنس بالله عز وجل فتركوا لله عز وجل اللذات الحاضرة وألزموا أنفسهم بالمجاهدات الشاقة طمعاً في الآخرة وأثنى الله عز وجل عليهم في كتابه فقال "ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون" فلما اندرس ذلك وأقبل الخلق على اتباع الشهوات وهجروا التجرد لعبادة الله عز وجل وفتروا عنه بعث الله عز وجل نبيه محمداً ﷺ لإحياء طريق الآخرة وتجديد سنة المرسلين في سلوكها. فسأله أهل الملل عن الرهبانية والسياحة في دينه فقال ﷺ: أبدلنا الله بها الجهاد والتكبير على كل شرف يعني الحج "وسئل ﷺ عن السائحين فقال: هم الصائمون" فأنعم الله عز وجل على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم فشرف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه تعالى. ونصبه مقصداً لعباده وجعل ما حواليه حرماً لبيته تفخيماً لأمره. وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه: وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره. ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق ومن كل أوب سحيق شعثاً غبراً متواضعين لرب البيت ومستكينين له خضوعاً لجلاله واستكانة لعزته. مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكتنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم. ولذلك وظف عليهم فيها أعمالاً لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار، والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار. وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية. فإن الزكاة إرفاق ووجهه مفهوم وللعقل إليه ميل. والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل. والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل. أما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط. وفيه عزل للعقل عن تصرفه وصرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه؛ مال الطبع إليه ميلاً ما. فيكون ذلك الميل معيناً للأمر وباعثاً معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد. ولذلك قال ﷺ في الحج على الخصوص "لبيك بحجة حقاً تعبداً ورقاً" ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها. وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم وأن يكون زمامها بيد الشرع فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد. كان ما لا يهتدي إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق. مقتضى الاسترقاق. وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات. وهذا القدر كاف في تفهم أصل الحج إن شاء الله تعالى.

وأما الشوق: فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأن البيت بيت الله عز وجل وأنه وضع على مثال حضرة الملوك فقاصده قاصد إلى الله عز وجل وزائر له وأن من قصد البيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع زيارته فيرزق مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له وهو النظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار، من حيث إن العين القاصرة الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول النظر إلى وجه الله عز وجل ولا تطيق احتماله ولا تستعد للاكتحال به لقصورها، وأنها إن أمدت في الدار الآخرة بالبقاء ونزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار ولكنها بقصد البيت والنظر إليه تستحق لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم. فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة، هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة والبيت مضاف إلى الله عز وجل فبالحري أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلاً عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل.

وأما العزم: فليعلم أنه بعزمه قاصداً إلى مفارقة الأهل والوطن ومهاجرة الشهوات واللذات متوجهاً إلى زيارة بيت الله عز وجل. وليعظم في نفسه قدر البيت وقدر رب البيت وليعلم أنه عزم على أمر رفيع شأنه خطير أمره وأن من طلب عظيماً خاطر بعظيم. وليجعل عزمه خالصاً لوجه الله سبحانه بعيداً عن شوائب الرياء والسمعة "وليتحقق أنه لا يقبل من قصده وعمله إلا الخالص وإن من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الله وحرمه والمقصود غيره. فليصحح مع نفسه العزم وتصحيحه بإخلاصه وإخلاصه باجتناب كل ما فيه رياء وسمعة فليحذر أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير.

وأما قطع العلائق: فمعناه رد المظالم والتوبة الخالصة لله تعالى عن جملة المعاصي مظلمة علاقة وكل علاقة مثل غريم حاضر متعلق بتلابيبه ينادي عليه ويقول؛ إلى أين تتوجه أتقصد بيت ملك الملوك وأنت مضيع أمره في منزلك هذا ومستهين به ومهمل له? أولا تستحي أن تقدم عليه قدوم العبد العاصي فيردك ولا يقبلك? فإن كنت راغباً في قبول زيارتك فنفذ أوامره ورد المظالم وتب إليه أولاً من جميع المعاصي واقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى ما وراءك لتكون متوجهاً إليه بوجه قلبك كما أنك متوجه إلى بيته بوجه ظاهرك. فإن لم تفعل ذلك لم يكن لك من سفرك أولاً إلا النصب والشقاء وآخراً إلا الطرد والرد. وليقطع العلائق عن وطنه انقطع من قطع عنه وقدر أن لا يعود إليه وليكتب وصيته لأولاده وأهله فإن المسافر وماله لعلى خطر إلا من وقى الله سبحانه. وليتذكر عند قطعه العلائق لسفر الحج قطع العلائق لسفر الآخرة فإن ذلك بين يديه على القرب وما يقدمه من هذا السفر طمع في تيسير ذلك السفر فهو المستقر وإليه المصير. فلا ينبغي أن يغفل عن ذلك السفر عند الاستعداد بهذا السفر.

وأما الزاد: فليطلبه من موضع حلال وإذا أحس من نفسه الحرص على استكثاره وطلب ما يبقى منه على طول السفر ولا يتغير ولا يفسد قبل بلوغ المقصد فليتذكر أن سفر الآخرة أطول من هذا السفر، وأن زاده التقوى وأن ما عداه مما يظن أنه زاده يتخلف عنه عند الموت ويخونه فلا يبقى معه، كالطعام الرطب الذي فيسد في أول منازل السفر فيبقى وقت الحاجة متحير محتاجاً لا حيلة له. فليحذر أن تكون أعماله التي هي زاده إلى الآخرة لا تصحبه بعد الموت بل يفسدها شوائب الرياء وكدورات التقصير.

وأما الراحلة: إذا أحضرها فليشكر الله بقلبه على تسخير الله عز وجل له الدواب لتحمل عنه الأذى وتخفف عنه المشقة. وليتذكر عنده المركب الذي يركبه إلى دار الآخرة وهي الجنازة التي يحمل عليها. فإن أمر الحج من وجه يوازي أمر السفر إلى الآخرة ولينظر أيصلح سفره على هذا المركب لأن يكون زاداً له لذلك السفر على ذلك المركب? فما أقرب ذلك منه. وما يدريه لعل الموت قريب ويكون ركوبه للجنازة قبل ركوبه للجمل. وركوب الجنازة مقطوع به وتيسر أسباب السفر مشكوك فيه فكيف يحتاط في أسباب السفر المشكوك فيه ويستظهر في زاده وراحلته ويهمل أمر السفر المستيقن? وأما شراء ثوبي الإحرام: فليتذكر عنده الكفن ولفه فيه فإنه سيرتدي ويتزر بثوبي الإحرام عند القرب من بيت الله عز وجل وربما لا يتم سفره إليه. وأنه سيلقى الله عز وجل ملفوفاً في ثياب الكفن لا محالة. فكما لا يلقى بيت الله عز وجل إلا مخالفاً عادته في الزي والهيئة فلا يلقى الله عز وجل بعد الموت إلا في زي مخالف لزيا لدنيا. وهذا الثوب قريب من ذلك الثوب إذ ليس فيه مخيط كما في الكفن.

وأما الخروج من البلد: فليعلم عنده أنه فارق الأهل والوطن متوجهاً إلى الله عز وجل في سفر لا يضاهي أسفار الدنيا. فليحضر في قلبه أنه ماذا يريد وأين يتوجه وزيارة من يقصد? وأنه متوجه إلى ملك الملوك في زمرة الزائرين له الذين نودوا فأجابوا وشوقوا فاشتاقوا واستنهضوا فنهضوا وقطعوا العلائق وفارقوا الخلائق واقبلوا على بيت الله عز وجل الذي فخم أمره وعظم شأنه ورفع قدره تسلياً بلقاء البيت عن لقاء رب البيت إلى أن يرزقوا منتهى مناهم ويسعدوا بالنظر إلى مولاهم. وليحضر في قلبه رجاء الوصول والقبول لا إدلالاً بأعماله في الارتحال ومفارقة الأهل والمال ولكن ثقة بفضل الله عز وجل وافداً إليه إذ قال جل جلاله "ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله".

وأما دخول البادية إلى الميقات ومشاهدت تلك العقبات: فليتذكر فيها ما بين الخروج من الدنيا بالموت إلى ميقات يوم القيامة وما بينهما من الأهوال والمطالبات. وليتذكر من هول قطاع الطريق هول سؤال منكر ونكير ومن سباع البوادي عقارب القبر وديدانه وما فيه من الأفاعي والحيات ومن انفراده من أهله وأقاربه وحشة القبر وكربته ووحدته. وليكن في هذه المخاوف في أعماله وأقواله متزوداً لمخاوف القبر.

وأما الإحرام والتلبية من الميقات: فليعلم أن معناه إجابة نداء الله عز وجل فارج أن تكون مقبولاً واخش أن يقال لك لا لبيك ولا سعديك فكن بين الرجاء والخوف متردداً وعن حولك وقوتك متبرئاً وعلى فضل الله عز وجل وكرمه متكلاً. فإن وقت التلبية هو بداية الأمر وهي محل الخطر. قال سفيان بن عيينة: حج علي ابن الحسين رضي الله عنهما فلما أحرم واستوت به راحلته اصفر لونه وانتفض ووقعت عليه الرعدة ولم يستطع أن يلبي فقيل له: لم لا تلبي? فقال: أخشى أن يقال لي لا لبيك ولا سعديك. فلما لبى غشي عليه ووقع عن راحلته فلم يزل يعتريه ذلك حتى قضى حجه وقال أحمد بن أبي الحواري: كنت مع أبي سليمان الداراني رضي الله عنه حين أراد الإحرام فلم يلب حتى سرنا ميلاً فأخذته الغشية ثم أفاق وقال: يا أحمد إن الله سبحانه أوحى إلى موسى عليه السلام مر ظلمة بني إسرائيل أن يقلوا من ذكري فإني أذكر من ذكرني منهم باللعنة. ويحك يا أحمد بلغني أن من حج من غير حله ثم لبى قال الله عز وجل لا لبيك ولا سعديك حتى ترد ما في يديك فما نأمن أن يقال لنا ذلك. وليتذكر الملبي عند رفع الصوت بالتلبية في الميقات إجابته لنداء الله عز وجل إذ قال "وأذن في الناس بالحج" ونداء الخلق بنفخ الصور وحشرهم من القبور وازدحامهم في عرصات القيامة مجيبين لنداء الله سبحانه؛ ومنقسمين إلى مقربين وممقوتين. ومقبولين ومردودين. ومترددين في أول الأمر بين الخوف والرجاء تردد الحاج في الميقات حيث لا يدرون أيتيسر لهم إتمام الحج وقبوله أم لا? وأما دخول مكة: فليتذكر عندها أنه قد انتهى إلى حرم الله تعالى آمناً وليرج عنده أن يأمن بدخوله من عقاب الله عز وجل وليخش أن لا يكون أهلاً للقرب فيكون بدخوله الحرم خائباً ومستحقاً للمقت. وليكن رجاؤه في جميع الأوقات غالباً فالكرم عميم والرب رحيم وشرف البيت عظيم وحق الزائر مرعي وذمام المستجير اللائذ غير مضيع.

وأما وقوع البصر على البيت: فينبغي أن يحضر عنده عظمة البيت في القلب ويقدر كأنه مشاهد لرب البيت لشدة تعظيمه إياه. وارج أن يرزقك الله تعالى النظر إلى وجهه الكريم كما رزقك الله النظر إلى بيته العظيم. واشكر الله تعالى على تبليغه إياك هذه الرتبة وإلحاقه إياك بزمرة الوافدين عليه. واذكر عند ذلك انصباب الناس في القيامة إلى جهة الجنة آملين لدخولها كافة ثم انقسامهم إلى مأذونين في الدخول ومصروفين انقسام الحاج إلى مقبولين ومردودين. ولا تغفل عن تذكر أمور الآخرة في شيء مما تراه فإن كل أحوال الحاج دليل على أحوال الآخرة.

وأما الطواف بالبيت: فاعلم أنه صلاة فأحضر في قلبك فيه من التعظيم والخوف والرجاء والمحبة ما فصلناه في كتاب الصلاة. واعلم أنك بالطواف متشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش الطائفين حوله. ولا تظنن أن المقصود طواف جسمك بالبيت بل المقصود طواف قلبك بذكر رب البيت حتى لا تبتدىء الذكر إلا منه ولا تختم إلا به كما تبتدىء الطواف من البيت وتختم بالبيت. واعلم أن الطواف الشريف هو طواف القلب بحضرة الربوبية. وأن البيت مثال ظاهر في عالم الملك لتلك الحضرة التي لا تشاهد بالبصر وهي عالم الملكوت، كما أن البدن مثال ظاهر في عالم الشهادة للقلب الذي لا يشاهد بالبصر وهو في عالم الغيب. وأن عالم الملك والشهادة مدركة إلى عالم الغيب والملكوت لمن فتح الله له الباب وإلى هذه الموازنة وقعت الإشارة بأن البيت المعمور في السموات بإزاء الكعبة. فإن طواف الملائكة به كطواف الأنس بهذا البيت. ولما قصرت رتبة أكثر الخلق عن مثل ذلك الطواف أمروا بالتشبه بهم بحسب الإمكان ووعدوا بأن من تشبه بقوم فهو منهم والذي يقدر على مثل ذلك الطواف هو الذي يقال إن الكعبة تزوره وتطوف به على ما رآه بعض المكاشفين لبعض أولياء الله سبحانه وتعالى.

وأما الاستلام: فاعتقد عنده أنك مبايع لله عز وجل على طاعته فصمم عزيمتك على الوفاء ببيعتك فمن عذر في المبايعة استحق المقت. وقد روى ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال "الحجر الأسود يمين الله عز وجل في الأرض يصافح بها خلقه كما يصافح الرجل أخاه".

وأما التعلق بأستار الكعبة والالتصاق بالملتزم: فلتكن نيتك في الالتزام طلب القرب حباً وشوقاً للبيت ولرب البيت وتبركاً بالمماسة ورجاء للتحصن عن النار في كل جزء من بدنك لا في البيت. ولتكن نيتك في التعلق بالستر الإلحاح في طلب المغفرة وسؤال الأمان كالمذنب المتعلق بثياب من أذنب إليه المتضرع إليه في عفوه عنه المظهر له أنه لا ملجأ له منه إلا إليه ولا مفزع له إلا كرمه وعفوه وأنه لا يفارق ذيله إلا بالعفو وبذل الأمن في المستقبل.

وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت: فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائياً وذاهباً مرة بعد أخرى إظهاراً للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد? فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى. وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات القيامة وليمثل الصفا بكفة الحسنات والمروة بكفة السيئات. وليتذكر تردده بين الكفتين ناظراً إلى الرجحان والنقصان متردداً بين العذاب والغفران.

وأما الوقوف بعرفة: فاذكر - بما ترى من ازدحام الخلق وارتفاع الأصوات واختلاف اللغات واتباع الفرق أئمتهم في الترددات على المشاعر اقتفاء لهم وسيراً بسيرهم - عرصات القيامة واجتماع الأمم مع الأنبياء والأئمة واقتفاء كل أمة نبيها وطمعهم في شفاعتهم وتحيرهم في ذلك الصعيد الواحد بين الرد والقبول. وإذا تذكرت ذلك فألزم قلبك الضراعة والابتهال إلى الله عز وجل فتحشر في زمرة الفائزين المرحومين وحقق رجاءك بالإجابة فالموقف شريف والرحمة إنما تصل من حضرة الجلال إلى كافة الخلق بواسطة القلوب العزيزة من أوتاد الأرض. ولا ينفك الموقف عن طبقة من الأبدال والأوتاد وطبقة من الصالحين وأرباب القلوب. فإذا اجتمعت هممهم وتجردت للضراعة والابتهال قلوبهم وارتفعت إلى الله سبحانه أيديهم وامتدت إلى أعناقهم وشخصت نحو السماء أبصارهم مجتمعين بهمة واحدة على طلب الرحمة فلا تظنن أنه يخيب أملهم ويضيع سعيهم ويدخر عنهم رحمة تغمرم. ولذلك قيل: إن من أعظم الذنوب أن يحضر عرفات ويظن أن الله تعالى لم يغفر له. وكأن اجتماع الهمم والاستظهار بمجاورة الأبدال والأوتاد المجتمعين من أقطار البلاد هو سر الحج وغاية مقصوده فلا طريق إلى استدرار رحمة الله سبحانه مثل اجتماع الهمم وتعاون القلوب في وقت واحد.

وأما رمي الجمار: فاقصد به الانقياد للأمر إظهاراً للرق والعبودية وانتهاضاً لمجرد الامتثال من غير حظ للعقل والنفس فيه. ثم اقصد به التشبه بإبراهيم عليه السلام حيث عرض له إبليس لعنه الله تعالى في ذلك الموضع ليدخل على حجه شبهة أو يفتنه بمعصية فأمره الله عز وجل أن يرميه بالحجارة طرداً له وقطعاً لأمله. فإن خطر لك: أن الشيطان عرض له وشاهده فلذلك رماه وأما أنا فليس يعرض لي الشيطان? فاعلم أن هذا الخاطر من الشيطان وأنه الذي ألقاه في قلبك ليفتر عزمك في الرمي ويخيل إليك أنه فعل لا فائدة فيه وأنه يضاهي اللعب فلم تشغل به? فاطرده عن نفسك بالجد والتشمير في الرمي فيه برغم أنف الشيطان. واعلم أنك في الظاهر ترمي الحصى إلى العقبة وفي الحقيقة ترمي به وجه الشيطان وتقصم به ظهره إذ لا يحصل إرغام أنفه إلا بامتثالك أمر الله سبحانه وتعالى تعظيماً له بمجرد الأمر من غير حظ للنفس والعقل فيه.

وأما ذبح الهدي: فاعلم أنه تقرب إلى الله تعالى بحكم الامتثال فأكمل الهدي وارج أن يعتق الله بكل جزء منه جزءاً منك من النار فهكذا ورد الوعد. فكلما كان الهدي أكبر وأجزاؤه أوفر كان فداؤك من النار أعم.

وأما زيارة المدينة: فإذا وقع بصرك على حيطانها فتذكر أنها البلدة التي اختارها الله عز وجل لنبيه ﷺ وجعل إليها هجرته وأنها داره التي شرع فيها فرائض ربه عز وجل وسنته وجاهد عدوه وأظهر بها دينه إلى أن توفاه الله عز وجل. ثم جعل تربته فيها وتربة وزيريه القائمين بالحق بعده رضي الله عنهما. ثم مثل في نفسك مواقع أقدام رسول الله ﷺ عند تردداته فيها وأنه ما من موضع قدم تطؤه إلا وهو موضع أقدامه العزيزة فلا تضع قدمك عليه إلا عن سكينة ووجل. وتذكر مشيه وتخطيه في سككها وتصور خشوعه وسكينته في المشي وما استودع الله سبحانه قلبه من عظيم معرفته ورفعة ذكره تعالى حتى قرنه بذكر نفسه وإحباطه عمل من هتك حرمته ولو برفع صوته فوق صوته. ثم تذكر ما من الله تعالى به على الذين أدركوا صحبته وسعدوا بمشاهدته واستماع كلامه وأعظم تأسفك على ما فاتك من صحبته وصحبة أصحابه رضي الله عنهم. ثم اذكر أنك قد فاتتك رؤيته في الدنيا وأنك من رؤيته في الآخرة على خطر. وأنك ربما لا تراه إلا بحسرة وقد حيل بينك وبين قبوله إياك بسوء عملك كما قال ﷺ "يرفع الله إلي أقواماً فيقولون يا محمد فأقول يا رب أصحابي فيقول إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فأقول بعداً وسحقاً" فإن تركت حرمة شريعته ولو في دقيقة من الدقائق فلا تأمن أن يحال بينك وبينه بعدولك عن محجته. وليعظم مع ذلك رجاؤك أن لا يحول الله تعالى بينك وبينه بعد أن رزقك الإيمان وأشخصك من وطنك لأجل زيارته من غير تجارة ولا حظ في دنيا بل لمحض حبك له وشوقك إلى أن تنظر إلى آثاره وإلى حائط قبره؛ إذ سمحت نفسك بالسفر بمجرد ذلك لما فاتتك رؤيته فما أجدرك بأن ينظر الله تعالى إليك بعين الرحمة. فإذا بلغت المسجد فاذكر أنها العرصة التي اختارها الله سبحانه لنبيه ﷺ ولأول المسلمين وأفضلهم عصابة. وإن فرائض الله سبحانه أول ما أقيمت في تلك العرصة. وأنها جمعت أفضل خلق الله حياً وميتاً فليعظم أملك في الله سبحانه أن يرحمك بدخولك إياه فادخله خاشعاً معظماً. وما أجدر هذا المكان بأن يستدعي الخشوع من قلب كل مؤمن كما حكي عن أبي سليمان أنه قال: حج أويس القرني رضي الله عنه ودخل المدينة فلما وقف على باب المسجد قيل له: هذا قبر النبي ﷺ فغشي عليه. فلما أفاق قال: أخرجوني فليس يلذ لي بلد فيه محمد ﷺ مدفون.

وأما زيارة رسول الله ﷺ: فينبغي أن تقف بين يديه كما وصفنا وتزوره ميتاً كما تزوره حياً ولا تقرب من قبره إلا كما كنت تقرب من شخصه الكريم لو كان حياً. وكما كنت ترى الحرمة في ان لا تمس شخصه ولا تقبله بل تقف من بعد ماثلاً بين يديه فكذلك فافعل فإن المس والتقبيل للمشاهد عادة النصارى واليهود. واعلم أنه عالم بحضورك وقيامك وزيارتك وأنه يبلغه سلامك وصلاتك: فمثل صورته الكريمة في خيالك موضوعاً في اللحد بإزائك وأحضر عظيم رتبته في قلبك فقد روي عنه ﷺ "أن الله تعالى وكل بقبره ملكاً يبلغه سلام من سلم عليه من أمته" هذا في حق من لم يحضر قبره فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقاً إلى لقائه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة غرته الكريمة? وقد قال ﷺ "من صلى علي مرة واحدة صلى الله عليه عشراً" فهذا جزاؤه في الصلاة عليه بلسانه فكيف بالحضور لزيارته ببدنه? ثم ائت منبر الرسول ﷺ وتوهم صعود النبي ﷺ المنبر ومثل في قلبك طلعته البهية كأنها على المنبر وقد أحدق به المهاجرون والأنصار رضي الله عنهم وهو ﷺ يحثهم على طاعة الله عز وجل بخطبته وسل الله عز وجل أن لا يفرق في القيامة بينك وبينه فهذه وظيفة القلب في أعمال الحج. فإذا فرغ منها كلها فينبغي أن يلزم قلبه الحزن والهم والخوف وأنه ليس يدري أقبل منه حجه وأثبت في زمرة المحبوبين أم رد حجه وألحق بالمطرودين? وليتعرف ذلك من قلبه وأعماله فإن صادف قلبه قد ازداد تجافياً عن دار الغرور وانصرافاً إلى دار الأنس بالله تعالى ووجد أعماله قد اتزنت بميزان الشرع فليثق بالقبول فإن الله تعالى لا يقبل إلا من أحبه؛ ومن أحبه تولاه وأظهر عليه آثار محبته وكف عنه سطوة عدوه إبليس لعنه الله. فإذا ظهر ذلك عليه دل على القبول، وإن كان الأمر بخلافه فليوشك أن يكون حظه من سفره: العناء والتعب نعوذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك.

تم كتاب: أسرار الحج. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب آداب تلاوة القرآن.

=====

======

======================

كتاب آداب تلاوة القرآن

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي امتن على عباده بنبيه المرسل ﷺ وكتابه المنزل "الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد" حتى اتسع على أهل الأفكار طريق الاعتبار بما فيه من القصص والأخبار. واتضح به سلوك المنهج القويم والصراط المستقيم بما فصل فيه من الأحكام. وفرق بين الحلال والحرام فهو الضياء والنور وبه النجاة من الغرور وفيه شفاء لما في الصدور. ومن خالفه من الجبابرة قصمه الله ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله. هو حبل الله المتين ونوره المبين والعروة الوثقى والمعتصم الأوفى وهو المحيط بالقليل والكثير والصغير والكبير. لا تنقضي عجابئه ولا تتناهى غرائبه لا يحيط بفوائده عند أهل العلم تحديد ولا يخلقه عند أهل التلاوة كثرة الترديد هو الذي أرشد الأولين والآخرين ولما سمعه الجن لم يلبثوا أن ولوا إلى قومهم منذرين "فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً" فكل من آمن به فقد وفق ومن قال به فقد صدق ومن تمسك به فقد هدي ومن عمل به فقد فاز وقال تعالى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" ومن أسباب حفظه في القلوب والمصاحف استدامة تلاوته والمواظبة على دراسته مع القيام بآدابه وشروطه والمحافظة على ما فيه من الأعمال الباطنة والظاهرة. وذلك لابد من بيانه وتفصيله وتنكشف مقاصده في أربعة أبواب: الباب الأول في فضل القرآن وأهله. الباث الثاني في آداب التلاوة في الظاهر. الباب الثالث في الأعمال الباطنة عند التلاوة. الباب الرابع في فهم القرآن وتفسيره بالرأي وغيره.

=============

الباب الأول

في فضل القرآن وأهله وذم المقصرين في تلاوته

فضيلة القرآن

قال ﷺ "من قرأ القرآن ثم رأى أن أحداً أوتي أفضل مما أوتي فقد استصغر ما عظمه الله تعالى" وقال ﷺ "ما من شفيع أفضل منزلة عند الله تعالى من القرآن لا نبي ولا ملك ولا غيره" وقال ﷺ "لو كان القرآن في إهاب ما مسته النار" وقال ﷺ "أفضل عبادة أمتي تلاوة القرآن" وقال ﷺ أيضاً "إن الله عز وجل قرأ طه ويس قبل أن يخلق الخلق بألف عام فلما سمعت الملائكة القرآن قالت: طوبى لأمة ينزل عليهم هذا وطوبى لأجواف تحمل هذا وطوبى لألسنة تنطق بهذا" وقال ﷺ "خيركم من تعلم القرآن وعلمه" وقال ﷺ "يقول الله تبارك وتعالى من شغله قراءة القرآن عن دعائي ومسألتي أعطيته أفضل ثواب الشاكرين" وقال ﷺ "ثلاثة يوم القيامة على كثيب من مسك أسود لا يهولهم فزع ولا ينالهم حساب حتى يفرغ ما بين الناس: رجل قرأ القرآن ابتغاء وجه الله عز وجل والخ أم به قوماً وهم به رضوان" وقال ﷺ "أهل القرآن أهل الله وخاصته" وقال ﷺ "إن القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد فقيل يا رسول الله وما جلاؤهها? فقال: تلاوة القرآن وذكر الموت" وقال ﷺ "لله أشد أذناً إلى قارىء القرآن من صاحب القينة إلى قينته" الآثار: قال أبو أمامة الباهلي: اقرءوا القرآن ولا تغرنكم هذه المصاحف المعلقة فإن الله لا يعذب قلباً هو وعاء للقرآن. وقال ابن مسعود: إذا أردتم العلم فانثروا القرآن فإن فيه علم الأولين والآخرين. وقال أيضاً: اقرءوا القرآن فإنكم تؤجرون عليه بكل حرف منه عشر حسنات أما إني لا أقول: الحرف ألم ولكن الألف حرف واللام حرف والميم حرف. وقال أيضاً: لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فإن كان يحب القرآن ويعجبه فهو يحب الله سبحانه ورسوله ﷺ وإن كان يبغض القرآن فهو يبغض الله سبحانه ورسوله ﷺ. وقال عمرو بن العاص: كل آية في القرآن درجة في الحنة ومصباح في بيوتكم وقال أيضاً: من قرأ القرآن فقد أدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه. وقال أبو هريرة: إن البيت الذي يتلى فيه القرآن اتسع بأهله وكثر خيره وحضرته الملائكة وخرجت منه الشياطين، وإن البيت الذي لا يتلى فيه كتاب الله عز وجل: ضاق بأهله وقل خيره وخرجت منه الملائكة وحضرته الشياطين. وقال أحمد ابن حنبل: رأيت الله عز وجل في المنام فقلت: يا رب ما أفضل ما تقرب به المتقربون إليك? قال: بكلامي يا أحمد، قال قلت: يا رب بفهم أو بغير فهم? قال: بفهم وبغير فهم. وقال محمد بن كعب القرظي: إذا سمع الناس القرآن من الله عز وجل يوم القيامة فكأنهم لم يسمعوه قط. وقال الفضيل بن عياض: ينبغي لحامل القرآن أن لا يكون له إلى أحد حاجة ولا إلى الخلفاء فمن دونهم فينبغي أن تكون حوائج الخلق إليه. وقال أيضاً حامل القرآن حامل راية الإسلام فلا ينبغي أن يلهو مع من يلهو ولا يسهو مع من يسهو ولا يلغو مع من يلغو تعظيماً لحق القرآن. وقال سفيان الثوري: إذا قرأ الرجل القرآن قبل الملك بين عينيه. وقال عمرو بن ميمون: من نشر مصحفاً حين يصلي الصبح فقرأ منه مائة ىية رفع الله عز وجل له مثل عمل جميع أهل الدنيا. ويروى "أن خالد بن عقبة جاء إلى رسول الله ﷺ وقال اقرأ علي القرآن فقرأ عليه "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى" الآية فقال له أعد فأعاد فقال: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أسفله لمورق وإن أعلاه لمثمر وما يقول هذا بشر" وقال الحسن والله ما دون القرآن من غنى ولا بعده من فاقة. وقال الفضيل: من قرأ خاتمة سورة الحشر حين يصبح ثم مات من يومه ختم له بطابع الشهداء ومن قرأها حين يمسي ثم مات من ليلته ختم له بطابع الشهداء وقال القاسم بن عبد الرحمن: قلت لبعض النساك ما ههنا أحد نستأنس به فمد يده إلى المصحف ووضعه على حجره وقال: هذا. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ثلاث يزدن في الحفظ ويذهبن البلغم؛ السواك والصيام وقراءة القرآن.

في ذم تلاوة الغافلين

قال أنس بن مالك: رب تال للقرآن والقرآن يلعنه. وقال ميسرة: الغريب هو القرآن في جوف الفاجر وقال أبو سليمان الداراني: الزبانية أسرع إلى حملة القرآن الذين يعصون الله عز وجل منهم إلى عبدة الأوثان حين عصوا الله سبحانه بعد القرآن. وقال بعض العلماء: إذا قرأ ابن آدم القرآن ثم خلط ثم عاد فقرأ قيل له: مالك ولكلامي. وقال ابن الرماح: ندمت على استظهاري القرآن لأنه بلغني أن أصحاب القرآن يسألون عما يسأل عنه الأنبياء يوم القيامة. وقال ابن مسعود، ينبغي لحامل القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون وبنهاره إذا الناس يفرطون وبحزنه إذا الناس يفرحون وببكائه إذا الناس يضحكون وبصمته إذا الناس يخوضون وبخشوعه إذا الناس يختالون. وينبغي لحامل القرآن أن يكون مستكيناً ليناً ولا ينبغي له أن يكون جافياً ولا ممارياً ولا صياحاً ولا صخاباً ولا حديداً. وقال ﷺ "أكثر منافقي هذه الأمة قراؤها" وقال ﷺ "اقرإ القرآن ما نهاك فإن لم ينهك فلست تقرؤه" وقال ﷺ "ما آمن بالقرآن من استحل محارمه" وقال بعض السلف: إن العبد ليفتتح سورة فتصلي عليه الملائكة حتى يفرغ منها، وإن العبد ليفتتح سورة فتلعنه حتى يفرغ منها، فقيل له: وكيف ذلك? فقال: إذا أحل حلالها وحرم حرامها صلت عليه وإلا لعنته. وقال بعض العلماء: إن العبد ليتلو القرآن فيلعن نفسه وهو لا يعلم يقول "ألا لعنة الله على الظالمين" وهو ظالم نفسه "ألا لعنة الله على الكاذبين" وهو منهم. وقال الحسن: إنكم اتخذتم قراءة القرآن مراحل وجعلتم الليل جملاً فأنتم تركبونه فتقطعون به مراحله، وإن من كان قبلكم رأوه رسائل من ربهم فكانوا يتدبرونها بالليل وينفذونها بالنهار. وقال ابن مسعود أنزل القرآن عليهم ليعملوا به فاتخذوا دراسته عملاً إن أحدكم ليقرأ القرآن من فاتحته إلى خاتمته ما يسقط منه حرفاً وقد أسقط العمل به. وفي حديث ابن عمر وحديث جندب رضي الله عنهما: لقد عشنا دهراً طويلاً وأحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن فتنزل السورة على محمد ﷺ فيتعلم حلالها وحرامها وآمرها وزاجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها. ثم لقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم القرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته لا يدري ما آمره ولا زاجره ولا ما ينبغي أن يقف عنده منه ينثره نثر الدقل وقد ورد في التوراة: يا عبدي أما تستحي مني يأتيك كتاب من بعض إخوانك وأنت في الطريق تمشي فتعدل عن الطريق وتقعد لأجله وتقرؤه وتتدبره حرفاً حرفاً حتى لا يفوتك شيء منه، وهذا كتابي أنزلته إليك انظر كم فصلت لك فيه من القول وكم كررت عليك فيه لتتأمل طوله وعرضه ثم أنت معرض عنه أفكنت أهون عليك من بعض إخوانك? يا عبدي يقعد إليك بعض إخوانك فتقبل عليه بكل وجهك وتصغي إلى حديثه بكل قلبك فإن تكلم متكلم أو شغلك شاغل عن حديثه أومأت إليه أن كف وها أنا ذا مقبل عليك ومحدث لك وأنت معرض بقلبك عني أفجعلتني أهون عندك من بعض إخوانك?

===============

الباب الثاني

في ظاهر آداب التلاوة

وهي عشرة

الأول في حال القارىء: وهو أن يكون على الوضوء واقعاً عل هيئة الأدب والسكون إما قائماً وإما جالساً مستقبل القبلة مطرقاً رأسه غير متربع ولا متكىء ولا جالس على هيئة التكبر. ويكون جلوسه وحده كجلوسه بين يدي أستاذه. وأفضل الأحوال أن يقرأ في الصلاة قائماً وأن يكون في المسجد فذلك من أفضل الأعمال. فإن قرأ على غير وضوء وكان مضطجعاً في الفراش فله أيضاً فضل ولكنه دون ذلك. قال الله تعالى "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض" فأثنى على الكل ولكن قدم القيام في الذكر ثم القعود ثم الذكر مضطجعاً. قال علي رضي الله عنه من قرأ القرآن وهو قائم في الصلاة كان له بكل حرف مائة حسنة ومن قرأه وهو جالس في الصلاة فله بكل حرف خمسون حسنة. ومن قرأه في غير صلاة وهو على وضوء فخمس وعشرون حسنة. ومن قرأه على غير وضوء فعشر حسنات. وما كان من القيام بالليل فهو أفضل لأنه أفرغ للقلب، قال أبو ذر الغفاري رضي الله عنه: إن كثرة السجود بالنهار وإن طول القيام بالليل أفضل الثاني في مقدار القراءة: وللقراء عادات مختلفة في الاستكثار والاختصار فمنهم من يختم القرآن في اليوم والليلة مرة وبعضهم مرتين وانتهى بعضهم إلى ثلاث ومنهم من يختم في الشهر مرة وأولى ما يرجع إليه في التقديرات قول رسول الله ﷺ "من قرأ القرآن في أقل من ثلاث لم يفقهه" وذلك لأن الزيادة عليه تمنعه الترتيل. وقد قالت عائشة رضي الله تعالى عنها - لما سمعت رجلاً يهذر القرآن هذراً - "إن هذا ما قرأ القرآن ولا سكت" وأمر النبي ﷺ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن يختم القرآن في كل سبع وكذلك كان جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يختمون القرآن في كل جمعة كعثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله عنهم. ففي الختم أربع درجات: الختم في يوم وليلة وقد كرهه جماعة والختم في كل شهر كل يوم جزء من ثلاثين جزءاً - وكأنه مبالغة في الاقتصار كما أن الأول مبالغة في الاستكثار - وبينهما درجتان معتدلتان إحداهما في الأسبوع مرة والثانية في الأسبوع مرتين تقريباً من الثلاث. والأحب أن يختم ختمة بالليل وختمة بالنهار، ويجعل ختمه بالنهار يوم الإثنين في ركعتي الفجر أو بعدهما، ويجعل ختمه بالليل ليلة الجمعة في ركعتي المغرب أو بعدهما، ليستقبل أول النهار وأول الليل بختمته. فإن الملائكة عليهم السلام تصلي عليه إن كانت ختمته ليلاً حتى يصبح وإن كان نهاراً حتى يمسي فتشمل بركتهما جميع الليل والنهار.

والتفصيل في مقدار القراءة أنه إن كان من العابدين السالكين طريق العمل فلا ينبغي أن ينقص عن ختمتين في الأسبوع. وإن كان من السالكين بأعمال القلب وضروب الفكر أو من المشتغلين بنشر العلم فلابأس أن يقتصر في الأسبوع على مرة. وإن كان نافذ الفكر في معاني القرآن فقد يكتفي في الشهر بمرة لكثرة حاجته إلى كثرة الترديد والتأمل الثالث في وجه القسمة: أما من ختم في الأسبوع مرة فيقسم القرآن سبعة أحزاب فقد حزب الصحابة رضي الله عنهم القرآن أحزاباً فروي أن عثمان رضي الله عنه كان يفتتح ليلة الجمعة بالبقرة إلى المائدة، وليلة السبت بالأنعاغم إلى هود، وليلة الأحد بيوسف إلى مريم، وليلة الاثنين بطه إلى طسم، موسى وفرعون، وليلة الثلاثاء بالعنكبوت إلى ص، وليلة الأربعاء بتنزيل إلى الرحمن، ويختم ليلة الخميس. وابن مسعود كان يقسمه أقساماً لا على هذا الترتيب وقيل أحزاب القرآن سبعة فالحزب الأول ثلاث سور والحزب الثاني خمس سور والحزب الثالث سبع سور والرابع تسع سور والخامس إحدى عشرة سورة والسادس ثلاث عشرة سورة والسابع المفصل من ق إلى آخره. فهكذا حزبه الصحابة رضي الله عنهم وكانوا يقرءونه كذلك. وفيه خبر عن رسول الله ﷺ وهذا قبل أن تعمل الأخماس والأعشار والأجزاء فما سوى هذا محدث الرابع في الكتابة: يستحب تحسين كتابة القرآن وتبيينه ولا يأس بالنقط والعلامات بالحمرة وغيرها فإنها تزيين وتبيين وصد عن الخطأ واللحن لمن يقرؤه. وقد كان الحسن وابن سيرين ينكرون الأخماس والعواشر والأجزاء. وروي عن الشعبي وإبراهيم كراهية النقط بالحمرة وأخذ الأجرة على ذلك، وكانوا يقولون جردوا القرآن. والظن بهؤلاء أنهم كرهوا فتح هذا الباب خوفاً من أن يؤدي إلى إحداث زيادات وحسبما للباب وتشوقاً إلى حراسة القرآن عما يطرق إليه تغييراً. وإذا لم يؤد إلى محظور واستقر أمر الأمة فيه على ما يحصل به مزيد معرفة فلا بأس به. ولا يمع من ذلك كونه محدثاً فكم من محدث حسن كما قيل في إقامة الجماعات في التراويح إنها من محدثات عمر رضي الله عنه وأنها بدعة حسنة. إنما البدعة المذمومة ما يصادم السنة القديمة أو يكاد يفضي إلى تغييرها. وبعضهم كان يقول. أقرأ من المصحف في المنقوط ولا أنقطه بنفسي وقال الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير: كان القرآن مجرداً في المصاحف فاول ما أحدثوا فيه النقط على الباء والتاء وقالوا لا بأس به فإنه نور له. ثم أحدثوا بعده نقطاً كباراً عند منتهى الآي فقالوا: لا بأس به يعرف به رأس الآية. ثم أحدثوا بعد ذلك الخواتم والفواتح. قال أبو بكر الهذلي سألت الحسن عن تنقيط المصاحف بالأحمر فقال: وما تنقيطها? قلت: يعربون الكلمة بالعربية قال: أما إعراب القرآن فلا بأس به وقال خالد الحذاء: دخلت على ابن سيرين فرأيته يقرأ في مصحف منقوط وقد كان يكره النقط. وقيل: إن الحجاج هو الذي أحدث ذلك وأحضر القراء حتى عدوا كلمات القرآن وحروفه وسووا أجزاءه وقسموه إلى ثلاثين جزءاً وإلى أقسام أخر. الخامس الترتيل: هو المستحب في هيئة القرآن لأنا سنبين أن المقصود من القراءة التفكر والترتيل معين عليه.

ولذلك نعتت أم سلمة رضي الله عنها قراءة رسول الله ﷺ فإذا هي تنعت قراءة مفسرة حرفاً حرفاً وقال ابن عباس رضي الله عنه: لأن أقرأ البقرة وآل عمران أرتلهما وأتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذرمة. وقال أيضاً: لأن أقرأ إذا زلزلت والقارعة أتدبرهما أحب إلي من أن أقرأ البقرة وآل عمران تهذيراً. وسئل مجاهد عن رجلين دخلا في الصلاة فكان قيامهما واحداً إلا أن أحدهما قرأ البقرة فقط والآخر القرآن كله فقال. هما في الأجر سواء. واعلم أن الترتيل مستحب لا لمجرد التدبر فإن العجمي الذي لا يفهم معنى القرآن يستحب له في القراءة أيضاً الترتيل والتؤدة لأن ذلك أقرب إلى التوقير والاحترام وأشد تأثيراً في القلب من الهذرمة والاستعجال السادس البكاء: البكاء مستحب مع القراءة قال رسول الله ﷺ "اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا" وقال ﷺ "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" وقال صالح المري: قرأت القرآن على رسول الله ﷺ في المنام فقال لي يا صالح هذه القراءة فأين البكاء? وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قرأتم سجدة سبحان؛ فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن فمن الحزن ينشأ البكاء قال ﷺ "إن القرآن نزل بحزن فإذا قرأتموه فتحازنوا" ووجه إحضار الحزن أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود. ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي. فإن لم يحضره حزن وبكاء كما يحضر أرباب القلوب الصافية فليبك على فقد الحزن والبكاء فإن ذلك أعظم المصائب. السابع أن يراعى حق الآيات: فإذا مر بآية سجدة سجد، وكذلك إذا سمع من غيره سجدة سجد إذا سجد التالي، ولا يسجد إلا إذا كان على طهارة. وفي القرآن أربع عشرة سجدة. وفي الحج سجدتان وليس في ص سجدة وأقله أن يسجد بوضع جبهته على الأرض وأكمله أن يكبر فيسجد ويدعو في سجوده بما يليق بالآية التي قرأها مثل أن يقرأ قوله تعالى "خروا سجداً وسبحوا بحمد ربهم وهم لا يستكبرون" فيقول "اللهم اجعلني من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك أن أكون من المستكبرين عن أمرك أو على أوليائك" وإذا قرأ قوله تعالى "ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً" فيقول "اللهم اجعلني من الباكين إليك الخاشعين لك، وكذلك كل سجدة، ويشترط في هذه السجدة شروط الصلاة من ستر العورة واستقبال القبلة وطهارة الثوب والبدن من الحدث والخبث. ومن لم يكن على طهارة عند السماع فإذا تطهر يسجد، وقد قيل في كمالها أنه يكبر رافعاً يديه لتحريمه ثم يكبر للهوي للسجود ثم يكبر للارتفاع ثم يسلم. وزاد زائدون التشهد ولا أصل لهذا إلا القياس على سجود الصلاة وهو بعيد فإنه ورد الأمر في السجود فليتبع فيه الأمر وتكبيرة الهوى أقرب للبداية وما عدا ذلك ففيه بعد. ثم المأموم ينبغي أن يسجد عند سجود الإمام ولا يسجد لتلاوة نفسه إذا كان مأموماً الثامن أن يقول في متبدإ قراءته: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم "رب أعوذ بك من همزات الشياطين وأعوذ بك رب أن يحضرون" ولنقرأ: قل أعوذ برب الناس وسورة الحمد لله وليقل عند فراغه من القراءة: صدق الله تعالى وبلغ رسول الله ﷺ اللهم انفعنا به وبارك لنا فيه الحمد لله رب العالمين وأستغفر الله الحي القيوم. وفي أثناء القراءة إذا مر بآية تسبيح سبح وكبر، وإذا مر بآية دعاء واستغفار دعا واستغفر، وإن مر بمرجو سأل وإن مر بمخوف استعاذ. يفعل ذاك بلسانه أو بقلبه فيقول: سبحان الله نعوذ بالله اللهم ارزقنا اللهم ارحمنا.

قال حذيفة: صليت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وسلم فابتدأ سورة البقرة فكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل ولا بآية عذاب إلا استعاذ ولا بآية تنزيه إلا سبح، فإذا فرغ قال ما كان يقول صلوات الله وسلامه عند ختم القرآن "اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماماً ونوراً وهدى ورحمة اللهم ذكرني منه ما نسيت وعلمني منه ما جهلت وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله لي حجة يا رب العالمين" التاسع في الجهر بالقراءة: ولاشك في أنه لابد أن يجهر به إلى حد يسمع نفسه إذ القراءة عبارة عن تقطيع الصوت بالحروف ولابد من صوت فأقله ما يسمع نفسه فإن لم يسمع نفسه لم تصح صلاته. فأما الجهر بحيث يسمع غيره فهو محبوب على وجه ومكروه على وجه آخر. ويدل على استحباب الإسرار ما روي أنه ﷺ قال "فضل قراءة السر على قراءة العلانية كفضل صدقة السر على صدقة العلانية" وفي لفظ آخر "الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسر به كالمسر بالصدقة" وفي الخبر العام "يفضل عمل السر على عمل العلانية سبعين ضعفاً" وكذلك قوله ﷺ "خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي" وفي الخبر "لا يجهر بعضكم على بعض في القراءة بين المغرب والعشاء" وسمع سعيد بن المسيب ذات ليلة في مسجد رسول الله ﷺ عمر بن عبد العزيز يجهر بالقراءة في صلاته وكان حسن الصوت فقال لغلامه: اذهب إلى هذا المصلى فمره أن يخفض صوته، فقال الغلام؛ إن المسجد ليس لنا وللرجل فيه نصيب، فرفع سعيد صوته وقال: يا أيهما المصلي إن كنت تريد الله عز وجل بصلاتك فاخفض صوتك وإن كنت تريد الناس فإنهم لن يغنوا عنك من الله شيئاً، فسكت عمر بن عبد العزيز وخفف ركعته فلما سلم أخذ نعليه وانصرف وهو يومئذ أمير المدينة. ويدل على استحباب الجهر ما روي أن النبي ﷺ سمع جماعة من أصحابه يجهرون في صلاة الليل فصوب ذلك وقد قال ﷺ "إذا قام أحدكم من الليل يصلي فليجهر بالقراءة فإن الملائكة وعمار الدار يستمعون قراءته ويصلون بصلاته" ومر ﷺ بثلاثة من أصحابه رضي الله عنهم مختلفي الأحوال فمر على أبي بكر رضي الله عنه وهو يخافت فسأله عن ذلك فقال: إن الذي أناجيه هو يسمعني. ومر على عمر رضي الله عنه وهو يجهر فسأله عن ذلك فقال: أوقظ الوسنان وأزجر الشيطان. ومر على بلال وهو يقرأ آياً من هذه السورة وآياً من هذه السورة فسأله عن ذلك فقال أخلط الطيب بالطيب. فقال ﷺ: كلكم قد أحسن وأصاب. فالوجه في الجمع بين هذه الأحاديث أن الإسرار أبعد عن الرياء والتصنع فهو أفضل في حق من يخاف ذلك على نفسه فإن لم يخف ولم يكن في الجهر ما يشوش الوقت على مصل آخر فالجهر أفضل لأن العمل فيه أكثر، ولأن فائدته أيضاً تتعلق بغيره فالخير المتعدى أفضل من اللازم، ولأنه يوقظ قلب القارىء ويجمع همه إلى الفكر فيه ويصرف إليه سمعه، ولأنه يطرد النوم في رفع الصوت ولأنه يزيد في نشاطه للقراءة ويقلل من كسله، ولأنه يرجو بجهره تيقظ نائم فيكون هو سبب إحيائه، ولأنه قد يراه بطال غافل فينشط بسبب نشاطه ويشتاق إلى الخدمة "فمتى حضره شيء من هذه النيات فالجهر أفضل. وإن اجتمعت هذه النيات تضاعف الأجر وبكثرة النيات تزكو أعمال الأبرار وتتضاعف أجورهم فإن كان في العمل الواحد عشر نيات كان فيه عشر أجور. ولهذا نقول قراءة القرآن في المصاحف أفضل إذ يزيد في العمل النظر وتأمل المصحف وحمله فيزيد الأجر بسببه. وقد قيل الختمة في المصحف بسبع لأن النظر في المصحف أيضاً عبادة. وخرق عثمان رضي الله عنه مصحفين لكثرة قراءته منهما فكان كثير من الصحابة يقرءون في المصاحف ويكرهون أن يخرج يوم ولم ينظروا في المصحف. ودخل بعض فقهاء مصر على الشافعي رضي الله عنه في السحر وبين يديه مصحف فقال له الشافعي: شغلكم الفكر عن القرآن إني لأصلي العتمة وأضع المصحف بين يدي فما أطبقه حتى أصبح العاشر تحسين القراءة وترتيلها بترديد الصوت من غير تمطيط مفرط يغير النظم فذلك سنة قال ﷺ "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" فقيل أراد به الاستغناء وقيل أراد به الترنم وترديد الألحان به وهو أقرب عند أهل اللغة. وروي "أن رسول الله ﷺ كان ليلة ينتظر عائشة رضي الله عنها فأبطأت عليه فقال ﷺ "ما حبسك قالت: يا رسول الله كنت أستمع قراءة رجل ما سمعت أحسن صوتاً منه، فقام ﷺ حتى استمع إليه طويلاً ثم رجع فقال ﷺ "هذا سالم مولى أبي حذيفة الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله" واستمع ﷺ أيضاً ذات ليلة إلى عبد الله بن مسعود ومعه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما فوقفوا طويلاً ثم قال ﷺ "من أراد أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد" وقال ﷺ لابن مسعود "اقرأ علي فقال يا رسول الله أقرأ عليك وعليك أنزل فقال ﷺ: إني أحب أن أسمعه من غيري فكان يقرأ وعينا رسول الله ﷺ تفيضان" واستمع ﷺ إلى قراءة أبي موسى فقال "لقد أوتي هذا من مزامير آل داود" فبلغ ذلك أبا موسى فقال: يا رسول الله لو علمت أنك تسمع لحبرته لك تحبيراً ورأى هيثم القارىء رسول الله ﷺ في المنام قال: فقال لي أنت الهيثم الذي تزين القرآن بصوتك قلت نعم قال جزاك الله خيراً. وفي الخبر. كان أصحاب رسول الله ﷺ إذا اجتمعوا أمروا أحدهم أن يقرأ سورة من القرآن. وقد كان عمر يقول لأبي موسى رضي الله عنهما: ذكرنا ربنا فيقرأ عنده حتى يكاد وقت الصلاة أن يتوسط فيقال يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة فيقول: أولسنا في صلاة? إشارة إلى قوله عز وجل "ولذكر الله أكبر" وقال ﷺ "من استمع إلى آية من كتاب الله عز وجل كانت لو نوراً يوم القيامة" وفي الخبر: كتب له عشر حسنات. ومهما عظم اجر الاستماع وكان التالي هو السبب فيه كان شريكاً في الأجر إلا أن يكون قصده الرياء والتصنع.

==========

الباب الثالث

في أعمال الباطن في التلاوة

وهي عشرة

فهم أصل الكلام. ثم التعظيم. ثم حضور القلب. ثم التدبر. ثم التفهم. ثم التخلي عن موانع الفهم. ثم التخصيص. ثم التأثر. ثم الترقي. ثم التبري. فالأول فهم عظمة الكلام وعلوه وفضل الله سبحانه وتعالى ولطفه بخلقه في نزوله عن عرش جلاله إلى درجة إفهام خلقه. فلينظر كيف لطف بخلقه في إيصال معاني كلامه الذي هو صفة قديمة قائمة بذاته إلى أفهمام خلقه? وكيف تجلت لهم تلك الصفة في طي حروف وأصوات هي صفات البشر إذ يعجز البشر عن الوصول إلى فهم صفات الله عز وجل إلا بوسيلة صفات نفسه. ولولا استتار كنه جلالة كلامه بكسوة الحروف لما ثبت لسماع الكلام عرش ولا ثري ولتلاشي ما بينهما من عظمة سلطانه وسبحات نوره. ولولا تبيت الله عز وجل لموسى عليه السلام لما أطاق لسماع كلامه كما لم يطق الجبل مبادي تجليه حيث صار دكاً. ولا يمكن تفهيم عظمة الكلام إلا بأمثلة على حد فهم الخلق. ولهذا عبر بعض العارفين عنه فقال: إن كل حرف من كلام الله عز وجل في اللوح المحفوظ أعظم من جبل قاف وإن الملائكة عليهم السلام لو اجتمعت على الحرف الواحد أن يقلوه ما أطاقوه حتى يأتي إسرافيل عليه السلام وهو ملك اللوح فيرفعه فيقله بإذن الله عز وجل ورحمته لا بقوته وطاقته ولكن الله عز وجل طوقه ذلك واستعمله به، ولقد تألق بعض الحكماء في التعبير عن وجه اللطف في إيصال معاني الكلام مع علو درجته إلى فهم الإنسان وتثبيته مع قصور رتبته وضرب له مثلاً لم يقصر فيه؛ وذلك أنه دعا بعض الملوك حكيم إلى شريعة الأنبياء عليهم السلام فسأله الملك عن أمور فأجاب بما لا يحتمله فهمه؛ فقال الملك: أرأيت ما تأتي به الأنبياء إذا ادعت أنه ليس بكلام الناس وأنه كلام الله عز وجل فكيف يطيق الناس حمله? فقال الحكيم: إنا رأينا الناس لما أرادوا أن يفهموا بعض الدواب والطير ما يريدون م تقديمها وتأخيرها وإقبالها وإدبارها ورأوا الدواب يقصر تمييزها عن فهم كلامهم الصادر عن أنوار عقولهم مع حسنه وتزيينه وبديع نظمه، فنزلوا إلى درجة تمييز البهائم وأوصلوا مقاصدهم إلى بواطن البهائم بأصوات يضعونها لائقة بهم من النقر والصفير والأصوات القريبة من أصواتها لكي يطيقوا حملها. وكذلك الناس يعجزون عن حمل كلام الله عز وجل بكنهه وكمال صفاته. فصاروا بما تراجعوا بينهم من الأصوات التي سمعوا بها الحكمة كصوت النقر والصفير الذي سمعت به الدواب من الناس. ولم يمنع ذلك معاني الحكمة المخبوءة في تلك الصفات من أن شرف الكلام أي الأصوات لشرفها وعظم لتعظيمها، فكان الصوت للحكمة جسداً ومسكناً والحكمة للصوت نفساً وروحاً. فكما أن أجساد البشر تكرم وتعز لمكان الروح فكذلك أصوات الكلام تشرف للحكمة التي فيها. والكلام على المنزلة رفيع الدرجة قاهر السلطان نافذ الحكم في الحق والباطل. وهو القاضي العدل والشاهد المرتضى يأمر وينهى. ولا طاقة للباطل أن يقوم قدام كلام الحكمة كما لا يستطيع الظل أن يقول قدام شعاع الشمس ولا طاقة للبشر أن ينفذوا غور الحكمة كما لا طاقة لهم أن ينفذوا بأبصارهم ضوء عين الشمس، ولكنهم ينالون من ضوء عين الشمس ما تحيا به أبصارهم ويستدلون به على حوائجهم فقط. فالكلام كالملك المحجوب الغائب وجهه النافذ أمره وكالشمس الغزيرة الظاهرة مكنون عنصرها وكالنجوم الزهرة التي قد يهتدى بها من لا يقف على سيرها فهو مفتاح الخزائن النفيسة وشراب الحياة الذي من شرب منه لم يمت ودواء الأسقام الذي من سقي منه لم يسقم. فهذا الذي ذكره الحكيم نبذة من تفهيم معنى الكلام والزيادة عليه لا تليق بعلم المعاملة فينبغي أن يقتصر عليه. الثاني التعظيم للمتكلم: فالقارىء عند البداية بتلاوة القرآن ينبغي أن يحضر في قلبه عظمة المتكلم ويعلم أن ما يقرؤه ليس من كلام البشر وأن في تلاوة كلام الله عز وجل غاية الخطر فإنه تعالى قال "لا يمسه إلا المطهرون" وكما أن ظاهر جلد المصحف وورقه محروس عن ظاهر بشرة اللامس إلا إذا كان متطهراً، فباطن معناه أيضاً بحكم عزه وجلاله محجوب عن باطن القلب إلا إذا كان متطهراً عن كل رجس ومستنيراً بنور التعظيم والتوقير. وكما لا يصلح لمس جلد المصحف كل يد فلا يصلح لتلاوة حروفه كل لسان ولا لنيل معانيه كل قلب. ولمثل هذا التعظيم كان عكرمة بن أبي جهل إذا نشر المصحف غشى عليه ويقول: هو كلام ربي هو كلام ربي? فتعظيم الكلام تعظيم المتكلم ولن تحضره عظمة المتكلم ما لم يتفكر في صفاته وجلاله وأفعاله. فإذا حضر بباله العرش والكرسي والسموات والأرض وما بينهما من الجن والإنس والدواب والأشجار، وعلم أن الخالق لجميعها والقادر عليها والرازق لها واحد، وأن الكل في قبضة قدرته مترددون بين فضله ورحمته وبين نقمته وسطوته إن أنعم فبفضله وإن عاقب فبعد له، وأنه الذي يقول هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي وهذا غاية العظمى والتعالي. فبالتفكر في أمثال هذا يحضر تعظيم المتكلم ثم تعظيم الكلام الثالث حضور القلب وترك حديث النفس: قيل في تفسير "يا يحيى خذ الكتاب بقوة" أي بجد واجتهاد وأخذه بالجد أن يكون متجرداً له عند قراءته منصرف الهمة إليه عن غيره، وقيل لبعضهم: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء? فقال أو شيء أحب إلي من القران حتى أحدث به نفسي! وكان بعض السلف إذا قرأ آية لم يكن قلبه فيها أعادها ثانية وهذه الصفة تتولد عما قبلها من التعظيم فإن المعظم للكلام الذي يتلوه يستبشر به ويستأنس ولا يغفل عنه. ففي القرآن ما يستأنس به القلب إن كان التالي أهلاً له فكيف يطلب الأنس بالفكر في غيره وهو في متنزه ومتفرج والذي يتفرج في المتنزهات لا يتفكر في غيرها? فقد قيل إن في القرآن ميادين وبساتين ومقاصير وعرائس وديابيج ورياضاً وخانات فالميمات ميادين القرآن والراءات بساتين القرآن والحاءات مقاصيره والمسبحات عرائس القرآن والحاميمات ديابيج القرآن والمفصل رياضه والخانات ما سوى ذلك فإذا دخل القارىء الميادين وقطف من البساتين ودخل المقاصير وشهد العرائس ولبس الديابيج وتنزه في الرياض وسكن غرف الخانات استغرقه ذلك وشغله عما سواه فلم يعز قلبه ولم يتفرق فكره. الرابع التدبر: وهو وراء حضور القلب فإنه قد لا يتفكر في غير القرآن ولكنه يقتصر على سماع القرآن من نفسه وهو لا يتدبره. والمقصود من القراءة التدبر. ولذلك سن لأن الترتيل فيه الترتيل في الظاهر ليتمكن من التدبر بالباطن. قال علي رضي الله عنه: لا خير في عبادة لا فقه فيها ولا في قراءة لا تدبر فيها. وإذا لم يتمكن من التدبر إلا بترديد فليردد إلا أن يكون خلف إمام. فإنه لو بقي في تدبر آية وقد اشتغل الإمام بآية أخرى كان مسيئاً مثل من يشتغل بالتعجب من كلمة واحدة مما يناجيه عن فهم بقية كلامه. وكذلك إن كان في تسبيح الركوع وهو متفكر بالتعجب من كلمة واحدة ممن يناجيه عن فهم بقية كلامه. وكذلك إن كان في تسبيح الركوع وهو متفكر في آية قرأها إمامه فهذا وسواس. فقد روي عن عامر بن عبد قيس أنه قال: الوسواس يعتريني في الصلاة، فقيل: في أمر الدنيا? فقال: لأن تختلف في الأسنة أحب إلي من ذلك، ولكن يشتغل قلبي بموقفي بين يدي ربي عز وجل. وأني كيف انصرف، فعد ذلك وسواساً وهو كذلك فإنه يشغله عن فهم ما هو فيه والشيطان لا يقدر على مثله إلا بأن يشغله بمهم ديني ولكن يمنعه به عن الأفضل. ولما ذكر ذلك للحسن قال إن كنتم صادقين عنه فما اصطنع الله ذلك عندنا. ويروى "أنه ﷺ قرأ بسم الله الرحمن الرحيم فرددها عشرين مرة" وإنما رددها ﷺ لتدبره في معانيها. وعن أبي ذر قال "قام رسول الله ﷺ بنا ليلة فقام بآية يرددها وهي "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم" الآية" وقام تميم الداري ليلة بهذه الآية "أم حسب الذين اجترحوا السيئات" الآية. وقام سعيد بن جبير ليلة يردد هذه الآية "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" وقال بعضهم: إني لأفتتح السورة فيوقفني بعض ما أشهد فيها عن الفراغ منها حتى يطلع الفجر. وكان بعضهم يقول: آية لا أتفهمها ولا يكون قلبي فيها لا أعد لها ثواباً، وحكي عن أبي سليمان الداراني أنه قال: إني لأتلو الآية فأقيم فيها أربع ليال أو خمس ليال ولولا أني أقطع الفكر فيها ما جاوزتها إلى غيرها. وعن بعض السلف أنه بقي في سورة هود ستة أشهر يكررها ولا يفرغ من التدبر فيها. وقال بعض العارفين: لي في كل جمعة ختمة وفي كل شهر ختمة وفي كل سنة ختمة ولي ختمه منذ ثلاثين سنة ما فرغت منها بعد. وذلك بحسب درجات تدبره وتفتيشه. وكان هذا أيضاً يقول: أقمت نفسي مقام الأجراء فأنا أعمل مياومة ومجامعة ومشاهرة ومسانهة. الخامس التفهم: وهو أن يستوضح من كل أية ما يليق بها إذ القرآن يشتمل على ذكر صفات الله عز وجل. وذكر أفعاله. وذكر أحوال الأنبياء عليهم السلام. وذكر أحوال المكذبين لهم وأنهم كيف أهلكوا، وذكر أوامره وزواجره، وذكر الجنة والنار.

أما صفات الله عز وجل فكقوله تعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" وكقوله تعالى "الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر" فليتأمل معاني هذه الأسماء والصفات لينكشف له أسرارها فتحتها معان مدفونة لا تنكشف إلا للموفقين: وإليه أشار علي رضي الله عنه بقوله ما أسر إلي رسول الله ﷺ شيئاً كتمه عن الناس إلا أن يؤتي الله عز وجل عبداً فهماً في كتابه فليكن حريصاً على طلب ذلك الفهم وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين فليثور القرآن. وأعظم علوم القرآن تحت أسماء الله عز وجل وصفاته إذ لم يدرك أكثر الخلق منها إلا أموراً لائقة بأفهامهم ولم يعثروا على أغوارها.

وأما أفعاله تعالى فكذكره خلق السموات والأرض وغيرها. فليفهم التالي منها صفات الله عز وجل وجلاله إذ الفعل يدل على الفاعل فتدل عظمته على عظمته. فينبغي أن يشهد في العقل الفاعل دون الفعل، فمن عرف الحق رآه في كل شيء إذ كل شيء فهو منه وإليه وبه وله فهو الكل على التحقيق. ومن لا يراه في كل ما يراه فكأنه ما عرفه. ومن عرفه عرف أن كل شيء ما خلا الله باطل وأن كل شيء هالك إلا وجهه؛ لا أنه سيبطل في ثاني الحال؛ بل هو الآن باطل إن اعتبر ذاته من حيث هو إلا أن يعتبر وجوده من حيث إنه موجود بالله عز وجل وبقدرته فيكون له بطريق التبعية ثبات وبطريق الاستقلال بطلان محض وهذا مبدأ من مبادىء علم المكاشفة: ولهذا ينبغي إذا قرأ التالي قوله عز وجل "أفرأيتم ما تحرثون - أفرأيتم ما تمنون - أفرأيتم الماء الذي تشربون - أفرأيتم النار التي تورون" فلا يقصر نظره على الماء والنار والحرث والمنى بل يتأمل في المنى وهو نطفة متشابهة الأجزاء ثم ينظر في كيفية انقسامها إلى اللحم والعظم والعروق والعصب وكيفية تشكل أعضائها بالأشكال المختلفة من الرأس واليد والرجل والكبد والقلب وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات الشريفة من السمع والبصر والعقل وغيرها ثم إلى ما ظهر فيها من الصفات المذمومة من الغضب والشهوة والكبر والجهل والتكذيب والمجادلة كما قال تعالى "أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين" فيتأمل هذه العجائب ليترقى منها إلى عجب العجائب وهو الصفة التي منها صدرت هذه الأعاجيب فلا يزال ينظر إلى الصنعة فيرى الصانع.

وأما أحوال الأنبياء عليهم السلام: فإذا سمع منها كيف كذبوا وضربوا وقتل بعضهم. فليفهم منه صفة الاستغناء لله عز وجل عن الرسل والمرسل إليهم وأنه لو أهلك جميعهم لم يؤثر في ملكه شيئاً. وإذا سمع نصرتهم في آخر الأمر فليفهم قدرة الله عز وجل وإرادته لنصرة الحق.

وأما أحوال المكذبين؛ كعاد وثمود وما جرى عليهم فليكن فهمه منه استشعار الخوف من سطوته ونقمته وليكن حظه منه الاعتبار في نفسه وأنه إن غفل وأساء الأدب واغتر بما أمهل فربما تدركه النقمة وتنفذ فيه القضية: وكذلك إذا سمع وصف الجنة والنار وسائر ما في القرآن فلا يمكن استقصاء ما يفهم منه لأن ذلك لا نهاية له وإنما لكل عبد بقدر رزقه، فلا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين "قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً" ولذلك قال علي رضي الله عنه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب. فالغرض مما ذكرناه التنبيه على طريق التفهيم لينفتح بابه فأما الاستقصاء فلا مطمع فيه. ومن لم يكن له فهم ما في القرآن ولو في أدنى الدرجات دخل في قوله تعالى "ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفاً أولئك الذين طبع الله على قلوبهم" والطابع هي الموانع التي سنذكرها في موانع الفهم.

وقد قيل: لا يكون المريد مريداً حتى يجد في القرآن كل ما يريد ويعرف منه النقصان من المزيد ويستغني بالمولى عن العبيد السادس التخلي عن موانع الفهم فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن لأسباب وحجب أسدلها الشيطان على قلوبهم فعميت عليهم عجائب أسرار القرآن قال ﷺ "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى الملكوت" ومعاني القرآن من جملة الملكوت وكل ما غاب عن الحواس ولم يدرك إلا بنور البصيرة فهو من الملكوت. وحجب الفهم أربعة؛ أولها: أن يكون الهم منصرفاً إلى تحقيق الحروف بإخراجها من مخارجها، وهذا يتولى حفظه شيطان وكل بالقراء ليصرفهم عن فهم معاني كلام الله عز وجل فلا يزال يحملهم على ترديد الحرف يخيل إليهم أنه لم يخرج من مخرجه. فهذا يكون تأمله مقصوراً على مخارج الحروف فأنى تنكشف له المعاني? وأعظم ضحكة للشيطان من كان مطيعاً لمثل هذا التلبيس. ثانيها؛ أن يكون مقلداً لمذهب سمعه بالتقليد وجمد عليه وثبت في نفسه التعصب له بمجرد الاتباع للمسموع من غير وصول إليه ببصيرة ومشاهدة. فهذا شخص قيده معتقده عن أن يجاوزه فلا يمكنه أن يخطر بباله غير معتقده فصار نظره موقوفاً على مسموعه، فإن لمع برق على بعد وبدا له معنى من المعاني التي تباين مسموعه حمل عليه شيطان التقليد حملة وقال كيف يخطر هذا ببالك وهو خلاف معتقد آبائك، فيرى أن ذلك غرور من الشيطان فيتباعد منه ويحترز منه ويحترز عن مثله. ولمثل هذا قالت الصوفية: إن العلم حجاب وأرادوا بالعلم العقائد التي استمر عليها أكثر الناس بمجرد التقليد أو بمجرد كلمات جدلية حررها المتعصبون للمذاهب وألقوها إليهم. فأما العلم الحقيقي الذي هو الكشف والمشاهدة بنور البصيرة فكيف يكون حجاباً وهو منتهى المطلب? وهذا التقليد قد يكون باطلاً فيكون مانعاً كمن يعتقد في الاستواء على العرش التمكن والاستقرار فإن خطر له مثلاً في القدوس أنه المقدس عن كل ما يجوز على خلقه لم يمكنه تقليده من أن يستقر ذلك في نفسه.. ولو استقر في نفسه لانجر إلى كشف ثان وثالث ولتواصل. ولكن يتسارع إلى دفع ذلك عن خاطره لمناقضته تقليده الباطل. وقد يكون حقاً ويكون أيضاً مانعاً من الفهم والكشف لأن الحق الذي كلف الخلق اعتقاده له مراتب ودرجات وله مبدأ ظاهر وغور باطن وجمود الطبع على الظاهر يمنع من الوصول إلى الغور الباطن - كما ذكرناه في الفرق بين العلم الظاهر والباطن في كتاب قواعد العقائد - ثالثها: أن يكون مصراً على ذنب أو متصفاً بكبر أو مبتلى في الجملة بهوى في الدنيا مطاع فإن ذلك سبب ظلمة القلب وصدئه، وهو كالخبث على المرآة فيمنع جلية الحق من أن يتجلى فيه وهو أعظم حجاب للقلب وبه حجب الأكثرون. وكلما كانت الشهوات أشد تراكماً كانت معاني الكلام أشد احتجاباً وكلما خف عن القلب أثقال الدنيا قرب تجلى المعنى فيه. فالقلب مثل المرآة والشهوات مثل الصدإ ومعاني القرآن مثل الصور التي تتراءى في المرآة. والرياضة للقلب بإماطة الشهوات مثل تصقيل الجلاء للمرآة ولذلك قال ﷺ "إذا عظمت أمتي الدينار والدرهم نزع منها هيبة الإسلام وإذا تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حرموا بركة الوحي" قال الفضيل: يعني حرموا فهم القرآن. وقد شرط الله عز وجل الإنابة في الفهم والتذكير فقال تعالى "تبصرة وذكرى لكل عبد منيب" وقال عز وجل "وما يتذكر إلا من ينيب" وقال تعالى "إنما يتذكر أولو الألباب" فالذي آثر غرور الدنيا على نعيم الآخرة فليس من ذوي الألباب ولذلك لا تنكشف له أسرار الكتاب. رابعها: أن يكون قد قرأ تفسيراً ظاهراً واعتقد أنه لا معنى لكلمات القرآن إلا ما تناوله النقل عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وأن ما وراء ذلك تفسير بالرأي في الباب الرابع وأن ذلك لا يناقض قول علي رضي الله عنه إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن. وأنه لو كان المعنى هو الظاهر المنقول لما اختلفت الناس فيه السابع التخصيص وهو أن يقدر أنه المقصود بكل خطاب في القرآن فإن سمع أمراً أو نهياً قدر أنه المنهي والمأمور وإن سمع وعداً أو وعيداً فكمثل ذلك، وإن سمع قصص الأولين والأنبياء علم أن السمر غير مقصود وإنما المقصود ليعتبر به وليأخذ من تضاعيفه ما يحتاج إليه فما من قصة في القرآن إلا وسياقها لفائدة في حق النبي ﷺ وأمته. ولذلك قال تعالى "ما نثبت به فؤادك" فليقدر العبد أن الله ثبت فؤاده بما يقصه عليه من أحوال الأنبياء وصبرهم على الإيذاء وثباتهم في الدين لانتظار نصر الله تعالى. وكيف لا يقدر هذا والقرآن ما أنزل على رسول الله ﷺ خاصة بل هو شفاء وهدى ورحمة ونور للعالمين? ولذلك أمر الله تعالى الكافة بشكر نعمة الكتاب فقال تعالى "واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به" وقال عز وجل "لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم.

كذلك يضرب الله للناس أمثالهم. واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم. هذا بصائر للناس وهدى ورحمة لقوم يوقنون. هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين" وإذا قصد بالخطاب جميع الناس فقد قصد الآحاد فهذا القارىء الواحد مقصود فما له ولسائر الناس فليقدر أنه المقصود قال الله تعالى "وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ" قال محمد بن كعب القرظي: من بلغه القرآن فكأنما كلمه الله. وإذا قدر ذلك لم يتخذ دراسة القرآن عمله بل يقرؤه كما يقرأ العبد كتاب مولاه الذي كتبه إليه ليتأمله ويعمل بمقتضاه. ولذلك قال بعض العلماء: هذا القرآن رسائل أتتنا من قبل ربنا عز وجل بعهوده نتدبرها في الصلوات ونقف عليها في الخلوات وننفذها في الطاعات والسنن المتبعات. وكان مالك بن دينار يقول: ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض. وقال قتادة: لم يجالس أحد هذا القرآن إلا قام بزيادة أو نقصان قال تعالى "هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً" الثامن التأثر وهو أن يتأثر قلبه بآثار مختلفة بحسب اختلاف الآيات فيكون له بحسب كل فهم حال ووجد يتصف به قلبه من الحزن والخوف والرجاء وغيره. ومهما تمت معرفته كانت الخشية أغلب الأحوال على قلبه فإن التضييق غالب على آيات القرآن فلا يرى ذكر المغفرة والرحمة إلا مقروناً بشروط يقصر العارف عن نيلها كقوله عز وجل "وإني لغفار" ثم أتبع ذلك بأربعة شروط "لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" وقوله تعالى "والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر" ذكر أربعة شروط وحيث اقتصر ذكر شرطاً جامعاً فقال تعالى "إن رحمة الله قريب من المحسنين" فالإحسان يجمع الكل وهكذا من يتصفح القرآن من أوله إلى آخره. ومن فهم ذلك فجدير بأن يكون حاله الخشية والحزن.

ولذلك قال الحسن: والله ما أصبح اليوم عبد يتلو القرآن يؤمن به إلا كثر حزنه وقل فرحه وكثر بكاؤه وقل ضحكه وكثر نصبه وشغله وقلت راحته وبطالته. وقا وهيب بن الورد نظرنا في هذه الأحاديث والمواعظ فلم نجد شيئاً أرق للقلوب ولا أشد استجلاباً للحزن من قراءة القرآن وتفهمه وتدبره. فتأثر العبد بالتلاوة أن يصير بصفة الآية المتلوة فعند الوعيد وتقييد المغفرة بالشروط يتضاءل من خيفته كأنه يكاد يموت. وعند التوسع ووعد المغفرة يستبشر كأه يطير من الفرح. وعند ذكر الله وصفاته وأسمائه يتطأطأ خضوعاً لجلاله واستشعاراً لعظمته. وعند ذكر الكفار ما يستحيل على الله عز وجل كذكرهم لله عز وجل ولداً وصاحبة يغض صوته ويكسر في باطنه حياء قبح مقالتهم. وعند وصف الجنة ينبعث بباطنه شوقاً إليها. وعند وصف النار ترتعد فرائصه خوفاً منها، ولما قال رسول الله ﷺ لابن مسعود "اقرأ علي قال: فافتتحت سورة النساء فلما بلغت "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" رأيت عينيه تذرفان بالدمع فقال لي: حسبك الآن" وهذا لأن مشاهدة تلك الحالة استغرقت قلبه بالكلية. ولقد كان في الخائفين من خر مغشياً عليه عند آيات الوعيد. ومنهم من مات في سماع الآيات. فمثل هذه الأحوال يخرجه عن أن يكون حاكياً في كلامه. فإذا قال "إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم" ولم يكن خائفاً كان حاكياً. وإذا قال "عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير" ولم يكن حاله التوكل والإنابة كان حاكياً. وإذا قال "ولنصبرن على ما آذيتمونا" فليكن حاله الصبر أو العزيمة عليه حتى يجد حلاوة التلاوة. فإن لم يكن بهذه الصفات ولم يتردد قلبه بين هذه الحالات كان حظه من التلاوة حركة اللسان مع صريح اللعن على نفسه في قوله تعالى "ألا لعنة الله على الظالمين" وفي قوله تعالى "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" وفي قوله عز وجل "وهم في غفلة معرضون" وفي قوله "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا" وفي قوله تعالى "ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون" إلى غير ذلك من الآيات وكان داخلاً في معنى قوله عز وجل "ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني" يعني التلاوة المجردة وقوله عز وجل "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" لأن القرآن هو المبين لتلك الآيات في السموات والأرض، ومهما تجاوزها ولم يتأثر بها كان معرضاً عنها. ولذلك قيل: إن من لم يكن متصفاً بأخلاق القرآن فإذا قرأ القرآن ناداه الله تعالى: مالك ولكلامي وأنت معرض عني دع عنك كلامي إن لم تتب إلي. ومثال العاصي إذا قرأ القرآن وكرره مثال من يكرر كتاب الملك في كل يوم مرات وقد كتب إليه في عمارة مملكته وهو مشغول بتخريبها ومقتصر على دراسة كتابه؛ فلعله لو ترك الدراسة عند المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت. ولذلك قال يوسف بن أسباط: إني لأهم بقراءة القرآن فإذا ذكرت ما فيه خشيت المقت فاعدل إلى التسبيح والاستغفار. والمعرض عن العمل به أريد بقوله عز وجل "فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً فبئس ما يشترون" ولذلك قال رسول الله ﷺ "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم ولانت له جلودكم فإذا اختلفتم فلستم تقرءونه - وفي بعضها - فإذا اختلفتم فقوموا عنه" قال الله تعالى "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياتهم زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون" وقال ﷺ "إن أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله تعالى" وقال ﷺ "لا يسمع القرآن من أحد أشهى ممن يخشى الله عز وجل" يراد لاستجلاب هذه الأحوال إلى القلب والعمل به؛ وإلا فالمؤنة في تحريك اللسان بحروفه خفيفة. ولذلك قال بعض القراء: قرأت القرآن على شيخ لي ثم رجعت لأقرأ ثانياً فانتهرني وقال جعلت القرآن علي عملاً اذهب فاقرأ على الله عز وجل. فانظر بماذا يأمرك وبماذا ينهاك. وبهذا كان شغل الصحابة رضي الله عنهم في الأحوال والأعمال. فمات رسول الله ﷺ عن عشرين ألفاً من الصحابة لم يحفظ القرآن منهم إلا ستة اختلف في اثنين منهم. وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين. وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم ولما جاء واحد ليتعلم القرآن فانتهى إلى قوله عز وجل "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" قال: يكفي هذا وانصرف. فقال ﷺ: انصرف الرجل وهو فقيه. وإنما العزيز مثل تلك الحالة التي من الله عز وجل بها على قلب المؤمن عقيب فهم الآية. فأما مجرد حركة اللسان فقليل الجدوى. بل التالي باللسان المعرض عن العمل جدير بأن يكون هو المراد بقوله تعالى "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى" وبقوله عز وجل "كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" أي تركتها ولم تنظر إليها ولم تعبأ بها فإن المقصر في الأمر يقال إنه نسي الأمر وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل وحظ العقل تفسير المعاني وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار. فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ. التاسع الترقي: وأعني به أن يترىق إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه "فدرجات القراءة ثلاث، أدناها: ان يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفاً بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال والتملق والتضرع والابتهال. الثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم. الثالثة: أن يرى في الكلاء المتكلم وفي الكلمات الصفات فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه بل يكون مقصوراً لهم على المتكلم موقوف الفكر عليه كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره. وهذه درجة المقربين وما قبله درجة أصحاب اليمين وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين. وعن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال: والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ولكنهم لا يبصرون. وقال أيضاً وقد سألوه عن حالة حقته في الصلاة حتى خر مغشياً عليه فلما سري عنه قيل له في ذلك فقال: مازلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته، ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة ولذة المناجاة. ولذلك قال بعض الحكماء: كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله ﷺ يتلوه على أصحابه، ثم رفعت إلى مقام فوقه كنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله ﷺ، ثم جاء الله بمنزلة أخرى فأنا الآن أسمعه من المتكلم به فعندها وجدت له لذة ونعيماً لا أصبر عنه. وقال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما: لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن، وإنما قالوا ذلك لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام. ولذلك قال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة. وبمشاهدة المتكلم دون ما سواه يكون العبد ممتثلاً لقوله عز وجل "ففروا إلى الله" ولقوله "ولا تجعلو مع الله إلهاً آخر" فمن لم يره في كل شيء فقد رأى غيره وكل ما التفت إليه العبد سوى الله تعالى تضمن التفاته شيئاً من الشرك الخفي، بل التوحيد الخالص أن لا يرى في كل شيء إلا الله عز وجل. العاشر التبري: وأعني به أن يتبرأ من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بين الرضا والتزكية. فإذا تلا بآيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك بل يشهد الموقنين والصديقين فيها ويتشوف إلى أن يلحقه الله عز وجل بهم، وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة والمقصرين شهد على نفسه هناك وقدر أنه المخاطب خوفاً وإشفاقاً. ولذكل كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري، فقيل له: هذا الظلم فما بال الكفر? فتلا قوله عز وجل "إن الإنسان لظلوم كفار" وقيل ليوسف ابن أسباط: إذا قرأت القرآن بماذا تدعو، فقال: بماذا أدعو أستغفر الله عز وجل من تقصيري سبعين مرة. فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه. فإن من شهد البعد في القرب لطف به في الخوف حتى يسوقه الخوف إلى درجة أخرى في القرب وراءها. ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الذي يفضيه إلى درجة أخرى في البعد أسفل مما هو فيه. ومهما كان مشاهداً نفسه بعين الرضا صارا محجوباً بنفسه، فإذا جاوز حدا الالتفات إلى نفسه ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته كشف له سر الملكوت. قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه: وعد ابن ثوبان أخاً له أن يفطر عنده فأبطأ عليه حتى طلع الفجر فلقيه أخوه من الغد فقال له: وعدتني أنك تفطر عندي فأخلفت فقال لولا ميعادي معك ما أخبرتك الذي حبسني عنك! إني لما صليت العتمة قلت. أوتر قبل أن أجيئك لأني لا آمن ما يحدث من الموت فلما كنت في الدعاء من الوتر رفعت إلى روضة خضراء فيها أنواع الزهر من الجنة فما زلت أنظر إليها حتى أصبحت. وهذه المكاشفات لا تكون إلا بعد التبري عن النفس وعدم الالتفات إليها وإلى هواها ثم تخصص هذه المكاشفات بحسب أحوال المكاشف فحيث يتلو آيات الرجاء ويغلب على حاله الاستبشار تنكشف له صورة الجنة فيشاهدها كأنه يراها عياناً وإن غلب عليه الخوف كوشف بالنار حتى يرى أنواع عذابها. وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجو والمخوف وذلك بحسب أوصافه، إذ منها الرحمة واللطف والانتقام والبطش. فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات يتقلب في اختلاف الحالات وبحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة ويقاربها؛ إذ يستحيل أن يكون حالة المستمع واحداً والمسموع مختلفاً إذ فيه كلام راض وكلام غضبان وكلام منعم وكلام منتقم وكلام جبا متكبر لا يبالي وكلام حنان متعطف لا يهمل.

=========

الباب الرابع

في فهم القرآن وتفسيره بالرأي من غير نقل

لعلك تقول: عظمت الأمر فيما سبق في فهم أسرار القرآن وما ينكشف لأرباب القلوب الزكية من معانيه فكيف يستحب ذلك وقد قال ﷺ "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"? وعن هذا شنع أهل العلم بظاهر التفسير على أهل التصوف من المقصرين المنسوبين إلى التصوف في تأويل كلمات في القرآن على خلاف ما نقل عن ابن عباس وسائر المفسرين وذهبوا إلى أنه كفر فإن صح ما قاله أهل التفسير فما معنى فهم القرآن سوى حفظ تفسيره? وإن لم يصح ذلك فما معنى قوله ﷺ "من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار"? فاعلم أن من زعم أن لا معنى للقرآن إلا ما ترجمه ظاهر التفسير فهو مخبر عن حد نفسه وهو مصيب في الإخبار عن نفسه، ولكنه مخطىء في الحكم برد الخلق كافة إلى درجته التي هي حده ومحطه بل الأخبار والآثار تدل على أن في معاني القرآن متسعاً لأرباب الفهم قال علي رضي الله عنه: إلا أن يؤتي الله عبداً فهماً في القرآن. فإن لم يكن سوى الترجمة المنقولة فما ذلك الفهم? وقال ﷺ "إن للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً" ويروى أيضاً عن ابن مسعود موقوفاً عليه وهو من علماء التفسير.

فما معنى الظهر والبطن والحد والمطلع? وقال علي كرم الله وجهه: لو شئت لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير فاتحة الكتاب. فما معناه وتفسير ظاهرها في غاية الاقتصار? وقال أبو الدرداء. لا يفقه الرجل حتى يجعل للقرآن وجوهاً. وقد قال بعض العلماء: لكل آية ستون ألف فهم وما بقي من فهمها أكثر. وقال آخرون: القرآن يحوي سبعة وسبعين ألف علم ومائتي علم إذ كل كلمة علم. ثم يتضاعف ذلك أربعة أضعاف إذ لكل كلمة ظاهر وباطن وحد ومطلع. وترديد رسول الله ﷺ "بسم الله الرحمن الرحيم عشرين مرة" لا يكون إلا لتدبره باطن معانيها وإلا فترجمتها وتفسيرها ظاهر لا يحتاج مثله إلى تكرير. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: من أراد علم الأولين والآخرين فليتدبر القرآن. وذلك لا يحصل بمجرد تفسير الظاهر. وبالجملة فالعلوم كلها داخلة في أفعال الله عز وجل وصفاته، وفي القرآن شرح ذاته وأفعاله وصفاته: وهذه العلوم لا نهاية لها، وفي القرآن إشارة إلى مجامعها. والمقامات في التعمق في تفصيله راجع إلى فهم القرآن. ومجرد ظاهره التفسير لا يشير إلى ذلك، بل كل ما أشكل فيه على النظار واختلف فيه الخلائق في النظريات والمعقولات ففي القرآن إليه رموز ودلالات عليه يختص أهل الفهم بدركها. فكيف يفي بذلك ترجمة ظاهره وتفسيره? ولذلك قال ﷺ "اقرءوا القرآن والتمسوا غرائبه" وقال ﷺ في حديث علي كرم الله وجهه "والذي بعثني بالحق نبياً ليفترقن أمتي عن أصل دينها وجماعتها على اثنتين وسبعين فرقة كلها ضالة ومضلة يدعون إلى النار فإذا كان ذلك فعليكم بكتاب الله عز وجل فإن فيه نبأ من كان قبلكم ونبأ ما يأتي بعدكم وحكم ما بينكم، من خالفه من الجبابرة قصمه الله عز وجل ومن ابتغى العلم في غيره أضله الله عز وجل وهو حبل الله المتين ونوره المبين وشفاؤه النافع، عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه لا يعوج فيقوم ولا يزيغ فيستقيم ولا تتقضي عجائبه ولا بخلقه كثرة الترديد" الحديث وفي حديث حذيفة "لما أخبره رسول الله ﷺ بالاختلاف والفرقة بعده قال: فقلت يا رسول الله فماذا تأمرني إن أدركت ذلك? فقال: تعلم كتاب الله واعمل بما فيه فهو المخرج من ذلك، قال: فأعدت عليه ذلك ثلاثاً، فقال ﷺ ثلاثاً.

تعلم كتاب الله عز وجل واعمل بما فيه ففيه النجاة" وقال علي كرم الله وجهه: من فهم القرآن فسر به جمل العلم، أشار به إلى أن القرآن يشير إلى مجامع العلوم كلها، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً" يعني الفهم في القرآن. وقال عز وجل "ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكماً وعلماً" سمى ما آتاهما علماً وحماً وخصص ما انفرد به سليمان بالتفطن له باسم الفهم وجعله مقدماً على الحكم والعلم. فهذه الأمور تدل على أن في فهم معاني القرآن مجالاً رحباً ومتسعاً بالغاً وأن المنقول من ظاهر التفسير ليس منتهى الإدراك فيه. فأما قوله ﷺ: "من فسر القرآن برأيه" ونهيه عنه ﷺ وقول أبي بكر رضي الله عنه أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا قلت في القرآن برأيي? إلى غير ذلك مما ورد في الأخبار والآثار في النهي عن تفسير القرآن بالرأي، فلا يخلو إما أن يكون المراد به الاقتصار على النقل والمسموع وترك الاستنباط والاستقلال بالفهم. أو المراد به أمراً آخر. وباطل قطعاً أن يكون المراد به أن لا يتكلم أحد في القرآن إلا بما يسمعه لوجوه أحدها أنه يشترط أن يكون ذلك مسموعاً من رسول الله ﷺ ومسنداً إليه وذلك مما لا يصادف إلا في بعض القرآن. فأما ما يقوله ابن عباس وابن مسعود من أنفسهم فينبغي أن لا يقبل ويقال هو تفسير بالرأي لأنهم لم يسمعوه من رسول الله ﷺ وكذا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم. والثاني أن الصحابة والمفسرين اختلفوا في تفسير بعض الآيات فقالوا فيها أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها، وسماع جميعها من رسول الله ﷺ محال، ولو كان الواحد مسموعاً لرد الباقي فتبين على القطع أن كل مفسر قال في المعنى بما ظهر له باستنباطه، حتى قالوا في الحروف التي في أوائل السور سبعة أقاويل مختلفة لا يمكن الجمع بينها فقيل: إن "الر" هي حروف من الرحمن، وقيل إن الألف الله واللام لطيف والراء رحيم وقيل غير ذلك. والجمع بين الكل غير ممكن فكيف يكون الكل مسموعاً? والثالث أنه ﷺ "دعا لابن عباس رضي الله عنه وقال: اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل" فإن كان التأويل مسموعاً كالتنزيل ومحفوظاً مثله فما معنى تخصيصه بذلك? والرابع أنه قال عز وجل "لعلمه الذين يستنبطونه منهم" فأثبت لأهل العلم استنباطاً. ومعلوم أنه وراء السماع. وجملة ما نقلناه من الآثار في فهم القرآن يناقض هذا الخيال فبطل أن يشترط السماع في التأويل، وجاز لكل واحد أن يستنبط من القرآن بقدر فهمه وحد عقله.

وأما النهي فإنه ينزل على أحد وجهين، أحدهما: أن يكون له في الشيء رأي وإليه ميل من طبعه وهواه فيتأول القرآن على وفق رأيه وهواه ليحتج على تصحيح غرضه، ولو لم يكن له ذلك الرأي والهوى لكان لا يلوح له من القرآن ذلك المعنى. وهذا تارة يكون مع العلم كالذي يحتج ببعض آيات القرآن على تصحيح بدعته وهو يعلم أنه ليس المراد بالآية ذلك ولكن يلبس به على خصمه. وتارة يكون مع الجهل ولكن إذا كانت الآية محتملة فيميل فهمه إلى الوجه الذي يوافق غرضه ويرجح ذلك الجانب برأيه وهواه، فيكون قد فسر برأيه أي رأيه هو الذي حمله على ذلك التفسير، ولولا رأيه لما كان يترجح عنده ذلك الوجه. وتارة قد يكون له غرض صحيح فيطلب له دليلاً من القرآن ويستدل عليه مما يعلم أنه ما أريد به كمن يدعو إلى الاستغفار بالأسحار فيستدل بقوله ﷺ "تسحروا فإن في السحور بركة" ويزعم أن المراد به التسحر بالذكر وهو يعلم أن المراد به الأكل، وكالذي يدعو إلى مجاهدة القلب القاسي فيقول قال الله عز وجل "اذهب إلى فرعون إنه طغى" ويشير إلى قلبه ويومىء إلى أنه المراد بفرعون وهذا الجنس قد يستعمله بعض الوعاظ في المقاصد الصحيحة تحسيناً للكلام وترغيباً للمستمع وهو ممنوع. وقد تستعمله الباطنية في المقاصد الفاسدة لتغرير الناس ودعوتهم إلى مذهبهم الباطل فينزلون القرآن على وفق رأيهم ومذهبهم على أمور يعلمون قطعاً أنها غير مرادة به. فهذه الفنون أحد وجهي المنعب من التفسير بالرأي.. ويكون المراد بالرأي الرأي الفاسد الموافق للهوى دون الاجتهاد الصحيح والرأي يتناول الصحيح والفاسد والموافق للهوى قد يخصص باسم الرأي. والوجه الثاني أن يتسارع إلى تفسير القرآن بظاهر العربية من غير استظهار بالسماع والنقل فيما يتعلق بغرائب القرآن وما فيه من الألفاظ المبهمة والمبدلة وما فيه من الاختصار والحذف والإضمار والتقديم والتأخير. فمن لم يحكم بظاهر التفسير وبادر إلى استنباط المعاني بمجرد فهم العربية كثر غلطه ودخل في زمرة من يفسر بالرأي.

والغرائب التي لا تفهم إلا بالسماع كثيرة، ونحن نرمز إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها ويعلم أنه لا يجوز التهاون بحفظ التفسير الظاهر أولاً. ولا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يدعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب. أو يدعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لا يفهم لغة الترك. فإن ظاهر التفسير يجري مجرى تعليم اللغة التي لابد منها للفهم. وما لابد فيه من السماع فنون كثيرة: منها الإيجار بالحذف والإضمار كقوله تعالى "وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها" معناه آية مبصرة فظلموا أنفسهم بقتلها، فالناظر إلى ظاهر العربية يظن أن المراد به أن الناقة كانت مبصرة ولم تكن عمياء، ولم يدر أنهم بماذا ظلموا غيرهم أو أنفسهم. وقوله تعالى "وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم" أي حب العجل، فحذف الحب وقوله عز وجل "إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات" أي ضعف عذاب الأحياء وضعف عذاب الموتى فحذف العذاب، وأبدل الأحياء والموتى بذكر الحياة والموت وكل ذلك جائز في فصيح اللغة. وقوله تعالى "واسئل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها" أي أهل العير فالأهل فيهما محذوف مضمر. وقوله عز وجل "ثقلت في السموات والأرض" معناه خفيت على أهل السموات والأرض والشيء إذا خفي ثقل فأبدل اللفظ به وأقيم في مقام على وأضمر الأهل وحذف. وقوله تعالى "وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون" أي شكر رزقكم وقوله عز وجل "آتنا ما وعدتنا على رسلك" أي على ألسنة رسلك فحذف ألسنة وقوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة القدر" أراد القرآن وما سبق له ذكر. وقال عز وجل "حتى توارت بالحجاب" أراد الشمس وما سبق لها ذكر. وقوله تعالى "والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى" أي يقولون ما نعبدهم. وقوله عز وجل "فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك" معناه لا يفقهون حديثاً يقولون ما أصابك من حسنة فمن الله فإن لم يرد هذا كان مناقضاً لقوله "قل كل من عند الله" وسبق إلى الفهم منه مذهب القدرية. ومنها المنقول كقوله تعالى "وطور سينين" أي طور سيناء "سلام على آل ياسين" أي على الياس وقيل إدريس، لأن في حرف ابن مسعود "سلام على إدراسين" ومنها المكرر القاطع لوصل الكلام في الظاهر كقوله عز وجل "وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء إن يتبعون إلا الظن" وقوله عز وجل "قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا لمن آمن منهم" معناه: الذين استكبروا لمن آمن من الذين استضعفوا ومنها المقدم والمؤخر وهو مظنة الغلط كقوله عز وجل "ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى" معناه لولا الكلمة وأجل مسمى لكان لزاماً ولولاه لكان نصباً كاللزام وقوله تعالى "ويسألونك كأنك حفي عنها" أي يسألونك عنها كأنك حفي بها وقول عز وجل "لهم مغفرة ورزق كريم كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" فهذا الكلام غير متصل وإنما هو عائد إلى قوله السابق "قل الأنفال لله والرسول - كما أخرجك ربك من بيتك بالحق" أي فصارت أنفال الغنائم لك إذ أنت راض بخروجك وهم كارهون فاعترض بين الكلام الأمر بالتقوى وغيره ومن هذا النوع قوله عز وجل "حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه" الآية. ومنها المبهم وهو اللفظ المشترك بين معان من كلمة أو حرف. أما الكلمة فكالشيء والقرين والأمة والروح ونظائرها قال الله تعالى "ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء" أراد به النفقة مما رزق وقوله عز وجل "وضرب الله مثلاً رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء" أي الأمر بالعدل والاستقامة وقوله عز وجل "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء" أراد به من صفات الربوبية، وهو العلوم التي لا يحل السؤال عنها حتى يبتدىء بها العارف في أوان الاستحقاق. وقوله عز وجل "أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون" أي من غير خالق فربما يتوهم به أنه يدل على أنه لا يخلق شيء إلا من شيء. وأما القرين فكقوله عز وجل "وقال قرينه هذا ما لدي عتيد ألقيا في جهنم كل كفار" أراد به الملك الموكل به وقوله تعالى "قال قرينه ربنا ما أطغيته ولكن كان" أراد به الشيطان. وأما الأمة فتطلق على ثمانية أوجه، الأمة: الجماعة كقوله تعالى "وجد عليه أمة من الناس يسقون" وأتباع الأنبياء كقولك عن أمة محمد ﷺ ورجل جامع للخير يقتدى به كقوله تعالى "إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله" والأمة: الدين كقوله عز وجل "إنا وجدنا آباءنا على أمة" والأمة: الحين والزمان كقوله عز وجل "إلى أمة معدودة" وقوله عز وجل "وادكر بعد أمة" والأمة: القامة يقال فلان حسن الأمة أي القامة، وأمة: رجل منفرد بدين لا يشركه فيه أحد قال ﷺ "يبعث زيد بن عمرو بن نفيل أمة وحده" والأمة يقال هذه أمة زيد أي أم زيد. والروح أيضاً ورد في القرآن على معان كثيرة فلا نطول بإيرادها.

وكذلك قد يقع الإبهام في الحروف مثل قوله عز وجل "فأثرن به نقعاً فوسطن به جمعاً" فالهاء الأولى: كناية عن الحوافر وهي الموريات أي أثرن بالحوافر نقعاً والثانية؛ كناية عن الإغارة وهي المغيرات صبحاً فوسطن به جمعاً جمع المشركون فأغاروا بجمعهم وقوله تعالى "فأنزلنا به الماء" يعني السحاب "فأخرجنا به من كل الثمرات" يعني الماء. وأمثال هذا في القرآن لا ينحصر. ومنها التدريج في البيان كقوله عز وجل "شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن" إذ لم يظهر به أنه ليل أو نهار، وبان بقوله عز وجل "إنا أنزلناه في ليلة مباركة" ولم يظهر به أي ليلة فظهر بقوله تعالى "إنا أنزلناه في ليلة القدر" وربما يظن في الظاهر الاختلاف بين هذه الآيات، فهذا وأمثاله مما لا يغني فيه إلا النقل والسماع فالقرآن من أوله إلى آخره غير خال عن هذا الجنس لأنه أنزل بلغة العرب فكان مشتملاً على أصناف كلامهم من إيجاز وتطويل وإضمار وحذف وإبدال وتقديم وتأخير، ليكون ذلك مفحماً لهم ومعجزاً في حقهم. فكل من اكتفى بفهم ظاهر العربية وبادر إلى تفسير القرآن ولم يستظهر بالسماع والنقل في هذه الأمور فهو داخل فيمن فسر القرآن برأيه. مثل أن يفهم من الأمة المعنى الأشهر منه فيميل طبعه ورأيه إليه فإذا سمعه في موضع آخر مال برأيه إلى ما سمعه من مشهور معناه وترك تتبع النقل في كثير من معانيه فهذا ما يمكن أن يكون منهياً عنه دون التفهم لأسرار المعاني - كما سبق - فإذا حصل السماع بأمثال هذه الأمور علم ظاهر التفسير وهو ترجمة الألفاظ. ولا يكفي ذلك في فهم حقائق المعاني. ويدرك الفرق بين حقائق المعاني وظاهر التفسير بمثال: وهو أن الله عز وجل قال "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" فظاهره تفسير واضح وحقيقة معناه غامض. فإنه إثبات للرمي ونفي له. وهما متضادان في الظاهر ما لم يفهم أنه رمي من وجه ولم يرم من وجه ومن الوجه الذي لم يرم رماه الله عز وجل. وكذلك قال تعالى "قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم" فإذا كانوا هم المقاتلين كيف يكون الله سبحانه هو المعذب? وإن كان الله تعالى هو المعذب بتحريك أيديهم فما معنى أمرهم بالقتال? فحقيقة هذا يستمد من بحر عظيم من علوم المكاشفات لا يغني عنه ظاهر التفسير وهو أن يعلم وجه ارتباط الأفعال بالقدرة الحادثة. ويفهم وجه ارتباط القدرة بقدرة الله عز وجل حتى ينكشف - بعد إيضاح أمور كثيرة غامضة - صدق قوله عز وجل - "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" ولعل العمر لو أنفق في استكشاف أسرار هذا المعنى وما يرتبط بمقدماته ولواحقه لانقضى العمر قبل استيفاء جميع لواحقه وما من كلمة من القرآن إلا وتحقيقها محوج إلى مثل ذلك. وإنما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر غزارة علومهم وصفاء قلوبهم وتوفر دواعيهم على التدبر وتجردهم للطلب. ويكون لكل واحد حد في الترقي إلى درجة أعلى منه. فأما الاستيفاء فلا مطمع فيه ولو كان البحر مداداً والأشجار أقلاماً فأسرار كلمات الله لا نهاية لها فتنفد الأبحر قبل أن تنفد كلمات الله عز وجل. فمن هذا الوجه تتفاوت الخلق في الفهم بعد الاشتراك في معرفة ظاهر التفسير وظاهر التفسير لا يغني عنه. ومثاله فهم بعض أرباب القلوب من قوله ﷺ في سجوده أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك" أنه قيل له اسجد واقترب فوجد القرب ف يالسجود فنظر إلى الصفات فاستعاذ ببعضها من بعض؛ فإن الرضا والسخط وصفان ثم زد قربه فاندرج القرب الأول فيه فرقي إلى الذات فقال "أعوذ بك منك" ثم زاد قربه بما استحيا به من الاستعاذة على بساط القرب فالتجأ إلى الثناء فأثنى بقوله "لا أحصي ثناء عليك" ثم علم أن ذلك قصور فقال "أنت كما أثنيت على نفسك" فهذه خواطر تفتح لأرباب القلوب. ثم لها أغوار وراء هذا وهو فهم معنى القرب واختصاصه بالسجود ومعنى الاستعاذة من صفة بصفة ومنه به. وأسرار ذلك كثيرة: ولا يدل تفسير ظاهر عليه وليس اللفظ هو مناقضاً لظاهر التفسير بل هو استكمال له ووصول إلى لبابه عن ظاهره فهذا ما نورده لفهم المعاني الباطنة لا ما يناقض الظاهر والله أعلم. تم كتاب: آداب التلاوة. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وعلى كل عبد مصطفى من كل العالمين وعلى آل محمد وصحبه وسلم.

يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب: الأذكار والدعوات. والله المستعان لا رب سواه.

==============

إحياء علوم الدين

كتاب الأذكار والدعوات

المؤلف: أبو حامد الغزالي ا

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الشاملة رأفته العامة رحمته الذي جازى عباده عن ذكرهم بذكرهم فقال تعالى "فاذكروني أذكركم" ورغبهم في السؤال والدعاء بأمره فقال "ادعوني أستجب لكم" فأطمع المطيع والعاصي والداني والقاصي في الانبساط إلى حضرة جلاله برفع الحاجات والأماني بقوله "فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان" والصلاة على محمد سيد أنبيائه وعلى آله وأصحابه خيرة أصفيائه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فليس بعد تلاوة كتاب الله عز وجل عبادة تؤدى باللسان أفضل من ذكر الله تعالى ورفع الحاجات بالأدعية الخالصة إلى الله تعالى. فلابد من شرح فضيلة الذكر على الجملة ثم التفصيل في أعيان الأذكار. وشرح فضيلة الدعاء وشروطه وآدابه ونقل المأثور من الدعوات الجامعة لمقاصد الدين والدنيا والدعوات الخاصة لسؤال المغفرة والاستعاذة وغيرها. ويتحرر المقصود من ذلك بذكر أبواب خمسة الباب الأول في فضيلة الذكر وفائدته جملة وتفصيلاً الباب الثاني في فضيلة الدعاء وآدابه وفضيلة الاستغفار والصلاة على رسول الله ﷺ. الباب الثالث في أدعية مأثورة ومعزية إلى أصحابها وأسبابها الباب الرابع في أدعية منتخبة محذوفة الإسناد من الأدعية الماثورة الباب الخامس في الأدعية المأثورة عند حدوث الحوادث. //

=========

الباب الأول

في فضيلة الذكر وفائدته على الجملة

والتفصيل من الآيات والأخبار والآثار

ويدل على فضيلة الذكر على الجملة من الآيات: قوله سبحانه وتعالى "فاذكروني أذكركم" قال ثابت البناني رحمه الله: إني أعلم متى يذكرني ربي عز وجل، ففزعوا منه وقالوا. كيف تعلم ذلك? فقال: إذا ذكرته ذكرني. وقال تعالى "اذكروا الله ذكراً كثيراً" وقال تعالى "فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم" وقال عز وجل "فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً" وقال تعالى "الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم" وقال تعالى "فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم" قال ابن عباس رضي الله عنهما: أي بالليل والنهار في البر والبحر والسفر والحضر والغنى والفقر والمرض والصحة والسر والعلانية. وقال تعالى في ذم المنافقين "ولا يذكرون الله إلا قليلاً" وقال عز وجل "واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين" وقال تعالى "ولذكر الله أكبر" قال ابن عباس رضي الله عنهما: له وجهان أحدهما أن ذكر الله تعالى لكم أعظم من ذكركم إياه، والآخر: أن ذكر الله أعظم من كل عبادة سواه. إلى غير ذلك من الآيات. وأما الأخبار فقد قال رسول الله ﷺ "ذاكر الله في الغافلين كالشجرة في وسط الهشيم" وقال ﷺ "يقول الله عز وجل أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت شفتاه بي" وقال ﷺ "ما عمل ابن آدم من عمل أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عز وجل، قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله? قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا أن تضرب بسيفك حتى ينقطع ثم تضرب به حتى ينقطع، ثم تضرب به حتى ينقطع فقال ﷺ "من أحب أن يرتع في رياض الجنة فليكثر ذكر الله عز وجل" وسئل رسول الله ﷺ "أي الأعمال أفضل? فقال: أن تموت ولسانك رطب بذكر الله عز وجل" وقال ﷺ "أصبح وأمس ولسانك رطب بذكر الله تصبح وتمسي وليس عليك خطيئة" وقال ﷺ "لذكر الله عز وجل بالغداة والعشي أفضل من حطم السيوف في سبيل الله ومن إعطاء المال سحاً" وقال ﷺ "يقول الله تبارك وتعالى إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملئه وإذا تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً وإذا تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً وإذا مشى إلي هرولت إليه" يعني بالهرولة سرعة الإجابة. وقال ﷺ "سبعة يظلهم الله عز وجل في ظله يوم لا ظل غلا ظله - من جملتهم - رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه من خشية الله" وقال أبو الدرداء قال رسول الله ﷺ "ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من إعطاء الورق والذهب وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربون أعناقهم ويضربون أعناقكم قالوا وما ذاك يا رسول الله? قال ذكر الله عز وجل دائماً" وقال ﷺ "قال الله عز وجل من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين" وأما الآثار: فقد قال الفضيل: بلغنا أن الله عز وجل قال عبدي اذكرني بعد الصبح ساعة وبعد العصر ساعة أكفك ما بينهما. وقال بعض العلماء: إن الله عز وجل يقول أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكري توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه. وقال الحسن الذكر ذكران ذكر الله عز وجل بين نفسك وبين الله عز وجل ما أحسنه وأعظم أجره وأفضل من ذلك ذكر الله سبحانه عند ما حرم الله عز وجل. ويروى "إن كل نفس تخرج من الدنيا عطشى إلا ذاكر الله عز وجل" وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: ليس يتحسر أهل الجنة على شيء إلا على ساعة مرت بهم لم يذكروا الله سبحانه فيها، والله تعالى أعلم.

فضيلة مجالس الذكر

قال رسول الله ﷺ "ما جلس قوم مجلساً يذكرون الله عز وجل إلا حفت بهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله تعالى فيمن عنده" وقال ﷺ "ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله تعالى لا يريدون بذلك إلا وجهه إلا ناداهم مناد من السماء قوموا مغفوراً لكم قد بدلت لكم سيئاتكم حسنات" وقال أيضاً ﷺ "ما قعد قوم مقعداً لم يذكروا الله سبحانه وتعالى فيه ولم يصلوا على النبي ﷺ إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة" وقال داود ﷺ: إلهي إذا رأيتني أجاوز مجالس الذاكرين إلى مجالس الغافلين فاكسر رجلي دونهم فإنها نعمة تنعم بها علي. وقال ﷺ "المجلس الصالح يكفر عن المؤمن ألفي ألف مجلس من مجالس السوء" وقال أبو هريرة رضي الله عنه إن أهل السماء ليتراءون بيوت أهل الأرض التي يذكر فيها اسم الله تعالى كما تتراءى النجوم. وقال سفيان بن عيينة رحمه الله إذا اجتمع قوم يذكرون الله تعالى اعتزل الشيطان والدنيا فيقول الشيطان للدنيا: ألا ترين ما يصنعون? فتقول الدنيا: دعهم فإنهم إذا تفرقوا أخذت بأعناقهم إليك. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه دخل السوق وقال: أراكم ههنا وميراث رسول الله ﷺ يقسم في المسجد? فذهب الناس إلى المسجد وتركوا السوق فلم يروا ميراثاً، فقالوا: يا أبا هريرة ما رأينا ميراثاً يقسم في المسجد? قال: فماذا رأيتم? قالوا: رأينا قوماً يذكرون الله عز وجل ويقرءون القرآن، قال. فذلك ميراث رسول الله ﷺ وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري عنه ﷺ أنه قال "إن لله عز وجل ملائكة سياحين في الأرض فضلاً عن كتاب الناس فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عز وجل تنادوا هلموا بغيتكم فيجيئون فيحفون بهم إلى السماء فيقول الله تبارك وتعالى هل رأوني فيقولون لا فيقول جل جلاله كيف لو رأوني فيقولون لو رأوك لكانوا أشد تسبيحاً وتحميداً وتمجيداً. فيقول لهم من أي شيء يتعوذون فيقولون من النار فيقول تعالى وهل رأوها فيقولون لا فيقول الله عز وجل فكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها لكانوا أشد هرباً منها وأشد نفوراً. فيقول الله عز وجل وأي شيء يطلبون فيقولون الجنة فيقول تعالى وهل رأوها فيقولون لا فيقول تعالى فكيف لو رأوها فيقولون لو رأوها لكانوا أشد عليها حرصاً. فيقول جل جلاله إني أشهدكم أني قد غفرت لهم فيقولون كان فيهم فلان لم يردهم إنما جاء لحاجة فيقول الله عز وجل هم القوم لا يشقى جليسهم".

فضيلة التهليل

قال ﷺ "أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له" وقال ﷺ "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير كل يوم مائة مرة كانت له عدل عشر رقاب وكتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به إلا أحد عمل أكثر من ذلك" وقال ﷺ "ما من عبد توضأ فأحسن الوضوء ثم رفع طرفه إلى السماء فقال أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة يدخل من أيها شاء" وقال ﷺ "ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في نشورهم كأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رءوسهم من التراب ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور" وقال ﷺ أيضاً لأبي هريرة "يا أبا هريرة إن كل حسنة تعملها توزن يوم القيامة إلا شهادة لا إله إلا الله فإنها لا توضع في ميزان، لأنها لو وضعت في ميزان من قالها صادقاً ووضعت السموات السبع والأرضون السبع وما فيهن كان لا إله إلا الله أرجح من ذلك" وقال ﷺ "لو جاء قائل لا إله إلا الله صادقاً بقراب الأرض ذنوباً لغفر الله له ذلك" وقال ﷺ "يا أبا هريرة لقن الموتى شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تهدم الذنوب هدماً، قلت يا رسول الله هذا للموتى فكيف للأحياء قال ﷺ: هي أهدم وأهدم" وقال ﷺ "من قال لا إله إلا الله مخلصاً دخل الجنة" وقال ﷺ "لتدخلن الجنة كلكم إلا من أبى وشرد عن الله عز وجل شراد البعير عن أهله فقيل يا رسول الله من الذي يأبى ويشرد عن الله قال من لم يقل لا إله إلا الله" فأكثروا من قول لا إله إلا الله قبل أن يحال بينكم وبينها فإنها كلمة التوحيد وهي كلمة الإخلاص وهي كلمة التقوى وهي كلمة طيبة وهي دعوة الحق وهي العروة الوثقى وهي ثمن الجنة" وقال الله عز وجل "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" فقيل الإحسان في الدنيا قول لا إله إلا الله وفي الآخرة الجنة. وكذا قوله تعالى "للذين أحسنوا الحسنى وزيادة" وروى البراء بن عازب أنه ﷺ قال "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير - عشر مرات - كانت له عدل رقبة أو قال نسمة" وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أنه قال: قال رسول الله ﷺ "من قال في يوم مائتي مرة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير لم يسبقه أحد كان قبله ولا يدركه أحد بعده إلا من عمل بأفضل من عمله" وقال ﷺ "من قال في سوق من الأسواق لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف الف سيئة وبنى له بيتاً في الجنة" ويروى "إن العبد إذا قال لا إله إلا الله أتت إلى صحيفته فلا تمر على خطيئة إلى محتها حتى تجد حسنة مثلها فتجلس إلى جنبها" وفي الصحيح عن أيوب عن النبي ﷺ أنه قال "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير عشر مرات كان كمن أعتق أربعة أنفس من ولد إسمعيل ﷺ" وفي الصحيح أيضاً عن عبادة بن الصامت عن النبي ﷺ أنه قال "من تعار من الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال اللهم اغفر لي غفر له أو دعا استجيب له فإن توضأ وصلى قبلت صلاته".

فضيلة التسبيح والتحميد وبقية الأذكار

قال ﷺ "من سبح دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وحمد ثلاثاً وثلاثين وكبر ثلاثاً وثلاثين وختم المائة بلا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" وقال ﷺ "من قال سبحان الله وبحمده في اليوم مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" وروي "أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي فقال رسول الله ﷺ فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون? قال: فقلت وماذا يا رسول الله? قال: قل سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح تأتيك الدنيا راغمة صاغرة ويخلق الله عز وجل من كل كلمة ملكاً يسبح الله تعالى إلى يوم القيامة لك ثوابه" وقال ﷺ "إذا قال العبد الحمد لله ملأت ما بين السماء والأرض فإذا قال الحمد لله الثانية ملأت ما بين السماء السابعة إلى الأرض السفلى فإذا قال الحمد لله الثالثة قال الله عز وجل سل تعط" وقال رفاعة الزرقي "كنا يوماً نصلي وراء رسول الله ﷺ فلما رفع رأسه من الركوع وقال سمع الله لمن حمده قال رجل وراء رسول الله ﷺ: ربنا لك الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، فلما انصرف رسول الله ﷺ عن صلاته قال: من المتكلم آنفاً? قال: أنا يا رسول الله، فقال ﷺ: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها أولاً" وقال رسول الله ﷺ "الباقيات الصالحات هن لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله" وقال ﷺ "ما على الأرض رجل يقول لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله إلا غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر" رواه ابن عمر وروى النعمان بن بشير عنه ﷺ أنه قال "الذين يذكرون من جلال الله وتسبيحه وتكبيره وتحميده ينعطفن حول العرش لهن دوي كدوي النحل يذكرون بصاحبهن أو لا يحب أحدكم أن لا يزال عند الله ما يذكر به" وروى أبو هريرة أنه ﷺ قال "لأن أقول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" وفي رواية أخرى زاد "لا حول ولا قوة إلا بالله وقال هي خير من الدنيا وما فيها" وقال ﷺ "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر لا يضرك بأيهن بدأت" رواه سمرة بن جندب.

وروى أبو مالك الأشعري أن رسول الله ﷺ كان يقول "الطهور شطر الميزان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والله أكبر يملآن ما بين السماء والأرض والصلاة نور والصدقة برهان والصبر ضياء والقرآن حجة لك أو عليك كل الناس يغدو فبائغ نفسه فموبقها أو مشتر نفسه فمعتقها" وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" وقال أبو ذر رضي الله عنه "قلت لرسول الله ﷺ: أي الكلام أحب إلى الله عز وجل قال ﷺ ما اصطفى الله سبحانه لملائكته: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم" وقال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ "إن الله تعالى اصطفى من الكلام: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر" فإذا قال العبد "سبحان الله" كتبت له عشرون حسنة وتحط عنه عشرون سيئة وإذا قال "الله أكبر" فمثل ذلك وذكر إلى آخر الكلمات. وقال جابر: قال رسول الله ﷺ "من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة" وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال الفقراء لرسول الله ﷺ "ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم فقال: أوليس قد جعل لكم ما تصدقون به? إن بكل تسبيحة صدقة وتحميدة صدقة وتهليلة صدقة وتكبيرة صدقة وأمر بمعروف صدقة ونهي عن منكر صدقة ويضع أحدكم اللقمة في أهله فهي له صدقة. وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله يأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر? قال ﷺ: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر? قالوا: نعم. قال: كذلك إن وضعها في الحلال كان له فيها أجر" وقال أبو ذر رضي الله عنه: قلت لرسول الله ﷺ "سبق أهل الأموال بالأجر يقولون كما نقول وينفقون ولا ننفق فقال رسول الله ﷺ أفلا أدلك على عمل إذا أنت عملته أدركت من قبلك وفقت من بعدك إلا من قال مثل قولك? تسبح الله بعد كل صلاة ثلاثاً وثلاثين وتحمده ثلاثاً وثلاثين وتكبر أربعاً وثلاثين" وروت بسرة عن النبي ﷺ أنه قال "عليكن بالتسبيح والتهليل والتقديس فلا تغفلن واعقدن الأنامل فإنها مستنطقات" يعني بالشهادة في القيامة.

وقال ابن عمر: رأيته ﷺ يعقد التسبيح وقد قال ﷺ فيما شهد عليه أبو هريرة وأبو سعيد الخدري "إذا قال العبد لا إله إلا الله والله أكبر قال الله عز وجل صدق عبدي لا إله إلا أنا وأنا أكبر وإذا قال العبد: لا إله إلا الله وحده لا شريك له قال تعالى صدق عبدي لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقول الله سبحانه صدق عبدي لا حول ولا قوة إلا بي ومن قالهن عند الموت لم تمسه النار" وروى مصعب ابن سعد عن أبيه عنه ﷺ أنه قال "أيعجز أحدكم أن يكسب كل يوم ألف حسنة فقيل: كيف ذلك يا رسول الله? فقال ﷺ: يسبح الله مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة ويحط عنه ألف سيئة". وقال ﷺ "يا عبد الله بن قيس - أو يا أبا موسى - أو لا أدلك على كنز من كنوز الجنة? قال: بلى، قال: قل لا حول ولا قوة إلا بالله" وفي رواية أخرى "ألا أعلمك كلمة من كنز تحت العرش: لا حول ولا قوة إلا بالله" وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "ألا أدلك على عمل من كنوز الجنة من تحت العرش قول لا حول ولا قوة إلا باللهه يقول الله تعالى أسلم عبدي واستسلم" وقال ﷺ "من قال حين يصبح رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبالقرآن إماماً وبمحمد ﷺ نبياً رسولاً كان حقاً على الله أن يرضيه يوم القيامة" وفي رواية "من قال ذلك رضي الله عنه" وقال مجاهد إذا خرج الرجل من بيته فقال: بسم الله، قال الملك: هديت: فإذا قال: توكلت على الله، قال الملك: كفيت. وإذا قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، قال الملك: وقيت فتتفرق عنه الشياطين فيقولون ما تريدون من رجل قد هدي وكفي ووقي? لا سبيل لكم إليه. فإن قلت: فما بال ذكر الله سبحانه مع خفته على اللسان وقلة التعب فيه صار أفضل وأنفع من جملة العبادات مع كثرة المشقات فيها? فاعلم أن تحقيق هذا لا يليق إلا بعلم المكاشفة. والقدر الذي يسمح بذكره في علم المعاملة: أن المؤثر النافع هو الذكر على الدوام مع حضور القلب فأما الذكر باللسان والقلب لاه فهو قليل الجدوى. وفي الأخبار ما يدل عليه أيضاً وحضور القلب في لحظة بالذكر والذهول عن الله عز وجل مع الاشتغال بالدنيا أيضاً قليل الجدوى. بل حضور القلب مع الله تعالى على الدوام أو في أكثر الأوقات هو المقدم على العبادات بل به تشرف سائر العبادات وهو غاية ثمرة العبادات العملية. وللذكر أول وآخر؛ فأوله يوجب الأنس والحب لله وآخره يوجب الأنس والحب ويصدر عنه، والمطلوب ذلك الأنس والحب. فإن المريد في بداية أمره قد يكون متكلفاً بصرف قلبه ولسانه عن الوسواس إلى ذكر الله عز وجل. فإن وفق للمداومة أنس به وانغرس في قلبه حب المذكور. ولا ينبغي أن يتعجب من هذا فإن من المشاهد في العادات أن تذكر غائباً غير مشاهد بين يدي شخص وتكرر ذكر خصاله عنده فيحبه وقد يعشق بالوصف وكثرة الذكر. ثم إذا عشق بكثرة الذكر المتكلف أولاً صار مضطراً إلى كثرة الذكر آخراً بحيث لا يصبر عنه. فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره. ومن أكثر ذكر شيء - وإن كان تكلفاً - أحبه. فكذلك أول الذكر متكلف إلى أن يثمر الأنس بالمذكور والحب له ثم يمتنع الصبر عنه آخراً فيصير الموجب موجباً والثمر مثمراً. وهذا معنى قول بعضهم. كابدت القرآن عشرين سنة ثم تنعمت به عشرين سنة. ولا يصدر التنعم إلا من الأنس والحب. ولا يصدر الأنس إلا من المداومة على المكابدة والتكلف مدة طويلة حتى يصير التكلف طبعاً. فكيف يستبعد هذا وقد يتكلف الإنسان تناول الطعام يسبشعه أولاً ويكابد أكله ويواظب عليه فيصير موافقاً لطبعه حتى لا يصبر عنه فالنفس معتادة متحملة لما تتكلف. هي النفس ما عودتها تتعود. أي ما كلفتها أولاً يصير لها طبعاً آخراً. ثم إذا حصل الأنس بذكر الله سبحانه انقطع عن غير ذكر الله وما سوى الله عز وجل هو الذي يفارقه عند الموت فلا يبقى معه في القبر أهل ولا مال ولا ولد ولا ولاية ولا يبقى إلا ذكر الله عز وجل. فإن كان قد أنس به تمتع به وتلذذ بانقطاع العوائق الصارفة عنه إذ ضرورات الحاجات في الحياة الدنيا تصد عن ذكر الله عز وجل، ولا يبقى بعد الموت عائق؛ فكأنه خلى بينه وبين محبوبه فعظمت غبطته وتخلص من السجن الذي

كان ممنوعاً فيه عما به أنسه. ولذلك قال ﷺ "إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه" أراد به كل ما يتعلق بالدنيا فإن ذلك يفنى في حقه بالموت ف "كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام" وإنما تفنى الدنيا بالموت في حقه إلى أن تفنى في نفسها عند بلوغ الكتاب أجله. وهذا الأنس يتلذذ به العبد بعد موته إلى أن ينزل في جوار الله عز وجل ويترقى من الذكر إلى اللقاء. وذلك بعد أن يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور ولا ينكر بقاء ذكر الله عز وجل معه الموت فيقول إنه أعدم فكيف يبقى معه ذكر الله عز وجل? فإنه لم يعدم عدماً يمنع الذكر بل عدماً من الدنيا وعالم الملك والشهادة لا من عالم الملكوت. وإلى ما ذكرناه الإشارة بقوله ﷺ "القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة" وبقوله ﷺ "أرواح الشهداء في حواصل طير خضر" وبقوله ﷺ لقتلى بدر من المشركين "يا فلان يا فلان وقد سماهم النبي ﷺ هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً? فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً فسمع عمر رضي الله عنه قوله ﷺ فقال: يا رسول الله كيف يسمعون وأنى يجيبون وقد جيفوا? فقال ﷺ: والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لكلامي منهم ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا" والحديث في الصحيح. هذا قوله عليه السلام في المشركين فأما المؤمنون والشهداء فقد قال ﷺ "أرواحهم في حواصل طير خضر معلقة تحت العرش" وهذه الحالة وما أشير بهذه الألفاظ إليه لا ينافي ذكر الله عز وجل وقال تعالى "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم" الآية ولأجل شرف ذكر الله عز وجل عظمت رتبة الشهادة لأن المطلوب الخاتمة ونعني بالخاتمة وداع الدنيا والقدوم على الله والقلب مستغرق بالله عز وجل منقطع العلائق عن غيره. فإن قدر عبد على أن يجعل همه مستغرقاً بالله عز وجل فلا يقدر على أن يموت على تلك الحالة إلا في صف القتال. فإنه قطع الطمع عن مهجته وأهله وماله وولده بل من الدنيا كلها فإنه يريدها لحياته وقد هون على قلبه حياته في حب الله عز وجل وطل مرضاته فلا تجرد لله أعظم من ذلك، ولذلك عظم أمر الشهادة وورد فيه من الفضائل ما لا يحصى. فمن ذلك أنه لما استشهد عبد الله بن عمرو الأنصاري يوم أحد قال رسول الله ﷺ لجابر "ألا أبشرك يا جابر! قال: بلى بشرك الله بالخير قال: إن الله عز وجل أحيا أباك فأقعده بين يديه وليس بينه وبينه ستر فقال تعالى: تمن علي يا عبدي ما شئت أعطيكه فقال يا رب أن تردني إلى الدنيا حتى أقتل فيك وفي نبيك مرة أخرى. فقال عز وجل. سبق القضاء مني بأنهم إليها لا يرجعون" ثم القتل سبب الخاتمة على مثل هذه الحالة فإنه لو لم يقتل وبقي مدة ربما عادت شهوات الدنيا غليه وغلبت على ما استولى على قلبه من ذكر الله عز وجل. ولهذا عظم خوف أهل المعرفة من الخاتمة. فإن القلب وإن ألزم ذكر الله عز وجل فهو متقلب لا يخلو عن الالتفات إلى شهوات الدنيا ولا ينفك عن فترة تعتريه. فإذا تمثل في آخر الحال في قلبه أمر من الدنيا واستولى عليه وارتحل عن الدنيا والحالة هذه فيوشك أن يبقى استيلاؤه عليه فيحن بعد الموت إليه ويتمنى الرجوع إلى الدنيا. وذلك لقة حظه في الآخرة إذ يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه. فاسلم الأحوال عن هذا الخطر خاتمة الشهادة إذ لم يكن قصد الشهيد نيل مال أو أن يقال شجاع أو غير ذلك كما ورد به الخبر بل حب الله عز وجل وإعلاء كلمته فهذه الحالة هي التي عبر عنها "إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة" ومثل هذا الشخص هو البائع للدنيا بالآخرة. وحالة الشهيد توافق معنى قولك "لا إله إلا الله" إذ لا مقصود له سواه. ومن يقول ذلك بلسانه ولم يساعده حاله فأمره في مشيئة الله عز وجل ولا يؤمن في حقه الخطر. ولذلك فضل رسول الله ﷺ قول لا إله إلا الله على سائر الأذكار وذكر ذلك مطلقاً في مواضع الترغيب. ثم ذكر في بعض المواضع الترغيب. ثم ذكر في بعض المواضع الصدق والإخلاص فقال مرة "من قال لا إله إلا الله مخلصاً"

ومعنى الإخلاص مساعدة الحال للمقال. فنسأل الله تعالى أن يجعلنا في الخاتمة من أهل لا إله إلا الله حالاً ومقالاً ظاهراً وباطناً حتى نودع الدنيا غير متلفتين إليها بل متبرمين بها ومحبين للقاء الله فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فهذا مرامز إلى معاني الذكر التي لا يمكن الزيادة عليها في علم المعاملة.

======

الباب الثاني

في آداب الدعاء وفضله وفضل بعض الأدعية المأثورة وفضيلة الاستغفار والصلاة على رسول الله ﷺ

فضيلة الدعاء

قال الله تعالى "وإذا سالك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي" وقال تعالى "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين" وقال تعالى "وقال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين" وقال عز وجل "قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى" وروى النعمن بن بشير عن النبي ﷺ أنه قال "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ "ادعوني أستجب لكم"" الآية - وقال ﷺ "الدعاء مخ العبادة" وروى أبو هريرة أنه ﷺ قال "ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء" وقال ﷺ "إن العبد لا يخطئه من الدعاء إحدى ثلاث: إما ذنب يغفر له وإما خير يعجل له وإما خير يدخر له" وقال أبو ذر رضي الله عنه: يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح. وقال ﷺ "سلوا الله تعالى من فضله فإن الله تعالى يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج".

آداب الدعاء وهي عشرة

الأول أن يترصد لدعائه الأوقات الشريفة كيوم عرفة من السنة. ورمضان من الأشهر ويوم الجمعة من الأسبوع، ووقت السحر من ساعات الليل. قال تعالى "وبالأسحار هم يستغفرون" وقال ﷺ "ينزل الله تعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول عز وجل من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له" وقيل إن يعقوب ﷺ إنما قال "سوف أستغفر لكم ربي" ليدعو في وقت السحر. فقيل إنه قام في وقت السحر يدعو وأولاده يؤمنون خلفه فأوحى الله عز وجل إني قد غفرت لهم وجعلتهم أنبياء الثاني أن يغتنم الأحوال الشريفة. قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن أبواب السماء تفتح عند زحف الصفوف في سبيل الله تعالى وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلوات المكتوبة فاغتنموا الدعاء فيها وقال مجاهد: إن الصلاة جعلت في خير الساعات فعليكم بالدعاء خلف الصلوات. وقال ﷺ "الدعاء بين الأذان والإقامة لا يرد" وقال ﷺ أيضاً "الصائم لا ترد دعوته" وبالحقيقة يرجع شرف الأوقات إلى شرف الحالات أيضاً إذ وقت السحر وقت صفاء القلب وإخلاصه وفراغه من المشوشات. ويوم عرفة ويوم الجمعة وقت اجتماع الهمم وتعاون القلوب على استدرار رحمة الله عز وجل فهذا أحد أسباب شرف الأوقات سوى ما فيها من أسرار لا يطلع البشر عليها. وحالة السجود أيضاً أجدر بالإجابة قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال النبي ﷺ "أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد فأكثروا فيه من الدعاء ورى ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ أنه قال "إني نهيت أن اقرأ القرآن راكعاً أو ساجداً فأما الركوع فعظموا فيه الرب تعالى وأما السجود فاجتهدوا فيه بالدعاء فإنه قمن أن يستجاب لكم" الثالث أن يدعو مستقبل القبلة ويرفع يديه بحيث يرى بياض إبطيه. وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ "أتى الموقف بعرفة واستقبل القبلة ولم يزل يدعو حتى غربت الشمس" وقال سلمان: قال رسول الله ﷺ "إن ربكم حيي كريم يستحيي من عبيده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفراً" وروى أنس أنه ﷺ "كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه في الدعاء ولا يشير بأصبعيه" وروى أبو هريرة رضي الله عنه "أنه ﷺ مر على إنسان يدعو ويشير بإصبعيه السبابتين فقال ﷺ أحد أحد" أي اقتصر على الواحدة. وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ارفعوا هذه الأيدي قبل أن تغل بالأغلال. ثم ينبغي أن يمسح بهما وجهه في آخر الدعاء: قال عمر رضي الله عنه "كان رسول الله ﷺ إذا مد يديه في الدعاء لم يردهما حتى يسمح بهما وجهه" وقال ابن عباس "كان ﷺ إذا دعا ضم كفيه وجعل بطونهما مما يلي وجهه" فهذه هيئات اليد ولا يرفع بصره إلى السماء قال ﷺ "لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء عند الدعاء أو لتخطفن أبصارهم" الرابع خفض الصوت بين المخافتة والجهر لما روي أن أبا موسى الأشعري قال: قدمنا مع رسول الله فلما دنونا من المدينة كبر وكبر الناس ورفعوا أصواتهم فقال النبي ﷺ يا أيها الناس إن الذي تدعون ليس بأصم ولا غائب إن الذي تدعون بينكم وبين أعناق ركابكم" وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله عز وجل "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" أي بدعائك وقد أثنى الله عز وجل على نبيه زكرياء عليه السلام حيث قال "إذ نادى ربه نداء خفياً" وقال عز وجل "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية" الخامس أن لا يتكلف السجع في الدعاء فإن حال الداعي ينبغي أن يكون حال متضرع والتكلف لا يناسبه قال ﷺ "سيكون قوم يعتدون في الدعاء" وقد قال عز وجل: "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين" قيل معناه التكلف للأسجاع والأولى أن لا يجاوز الدعوات المأثورة فإنه قد يعتدي في دعائه فيسأل ما لا تقتضيه مصلحته فما كل أحد يحسن الدعاء ولذلك روي عن معاذ رضي الله عنه: إن العلماء يحتاج إليهم في الجنة إذ يقال لأهل الجنة تمنوا فلا يدرون كيف يتمنون حتى يتعلموا من العلماء? وقد قال ﷺ "إياكم والسجع في الدعاء حسب أحدكم أن يقول اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل" وفي الخبر: سيأتي قوم يعتدون في الدعاء والطهور. ومر بعض السلف بقاص يدعو بسجع فقال له: أعلى الله تبالغ? أشهد لقد رأيت حبيباً العجمي يدعو وما يزيد على قوله: اللهم اجعلنا جيدين اللهم لا تفضحنا يوم القيامة اللهم وفقنا للخير، والناس يدعون من كل ناحية وراءه وكان يعرف بركة دعائه. وقال بعضهم. ادع بلسان الذلة والافتقار لا بلسان الفصاحة والانطلاق. ويقال إن العلماء والأبدال لا يزيديون في الدعاء على سبع كلمات فما دونها ويشهد له آخر سورة البقرة فإن الله تعالى لم يخبر في موضع من أدعية عبادة أكثر من ذلك. واعلم أن المراد بالسجع هو المتكلف من الكلام فإن ذلك لا يلائم الضراعة والذلة وإلا ففي الأدعية المأثورة عن رسول الله ﷺ كلمات متوازنة لكنها غير متكلفة كقوله ﷺ "أسألك الأمن من يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود إنك رحيم ودود وإنك تفعل ما تريد" وأمثال ذلك فليقتصر على المأثور من الدعوات أو ليلتمس بلسان التضرع والخشوع من غير سجع وتكلف فالتضرع هو المحبوب عند الله عز وجل السادس التضرع والخشوع والرغبة والرهبة قال الله تعالى "إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً" وقال عز وجل "ادعوا ربكم تضرعاً وخفية" وقال ﷺ "إذا أحب الله عبداً ابتلاه حتى يسمع تضرعه". السابع أن يجزم الدعاء ويوقن بالإجابة ويصدق رجاءه فيه. قال رسول الله ﷺ "لا يقل أحدكم إذا دعا اللهم اغفر لي إن شئت اللهم ارحمني إن شئت ليعزم المسألة فإنه لا مكره له" وقال رسول الله ﷺ "إذا دعا أحدكم فليعم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء" وقال ﷺ "ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله عز وجل لا يستجيب دعاء من قلب غافل" وقال سفيان بن عيينة: لا يمنعن أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه فإن الله عز وجل أجاب دعاء شر الخلق إبليس لعنه الله "إذ قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون قال إنك من المنظرين" الثامن أن يلح في الدعاء ويكرره ثلاثاً قال ابن مسعود: كان عليه السلام إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سال سأل ثلاثاً" وينبغي أن لا يستبطىء الإجابة لقوله ﷺ "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل فيقول قد دعوت فلم يستجب لي فإذا دعوت فاسأل الله كثيراً فإنك تدعو كريماً" وقال بعضهم: إني أسأل الله عز وجل منذ عشرين سنة حاجة وما أجابني وأنا أرجو الإجابة سألت الله تعالى أن يوفقني لترك ما لا يعنيني. وقال ﷺ "إذا سأل أحدكم ربه مسألة فتعرف الإجابة فليقل الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات ومن أبطأ عنه من ذلك فليقل الحمد لله على كل حال" التاسع أن يفتتح الدعاء بذكر الله عز وجل فلا يبدأ بالسؤال. قال سلمة بن الأكوع "ما سمعت رسول الله ﷺ يستفتح الدعاء إلا استفتحه بقول: سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب" قال أبو سليمان الداراني رحمه الله: من أراد أن يسأل الله حاجة فليبدأ بالصلاة على النبي ﷺ ثم يسأله حاجته ثم يختم بالصلاة على النبي ﷺ فإن الله عز وجل يقبل الصلاتين وهو أكرم من أن يدع ما بينهما، وروي في الخبر عن رسول الله ﷺ أنه قال "إذا سألتم الله عز وجل حاجة فابتدئوا بالصلاة علي فإن الله تعالى أكرم من أن يسئل حاجتين فيقضي إحداهما ويرد الأخرى" رواه أبو طالب المكي العاشر وهو الأدب الباطن وهو الأصل في الإجابة: التوبة ورد المظالم والإقبال على الله عز وجل بكنه الهمة فذلك هو السبب القريب في الإجابة. فيروى عن كعب الأحبار أنه قال: أصاب الناس قحط شديد على عهد موسى رسول الله ﷺ فخرج موسى ببني إسرائيل يستسقي بهم فلم يسقوا حتى خرج ثلاث مرات ولم يسقوا، فأوحى الله عز وجل إلى موسى عليه السلام: إني لا أستجيب لك ولا لمن معك وفيكم نمام، فقال موسى: يا رب ومن هو حتى نخرجه من بيننا فأوحى الله عز وجل إليه: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً! فقال موسى: لبني إسرائيل: توبوا إلى ربكم بأجمعكم عن النميمة فتابوا فأرسل الله تعالى عليهم الغيث. وقال سعيد بن جبير قحط الناس في زمن ملك من ملوك بني إسرائيل فاستسقوا فقال الملك لبني إسرائيل: ليرسلن الله تعالى علينا السماء أو لنؤذينه قيل له وكيف تقدر أن تؤذيه وهو في السماء? فقال أقتل أولياءه وأهل طاعته فيكون ذلك أذى له فأرسل الله تعالى عليهم السماء. وقال سفيان الثوري: بلغني أن بني إسرائيل قحطوا سبع سنين حتى أكلوا الميتة من المزابل وأكلوا الأطفال وكانوا كذلك يخرجون إلى الجبال يبكون ويتضرعون، فأوحى الله عز وجل إلى أنبيائهم عليهم السلام لو مشيتم إلي باقدامكم حتى تحفى ركبكم وتبلغ أيديكم عنان السماء وتكل ألسنتكم عن الدعاء فإني لا أجيب لكم داعياً ولا أحرم لكم باكياً حتى تردوا المظالم إلى أهلها ففعلوا فمطروا من يومهم. وقال مالك بن دينار. أصاب الناس في بني إسرائيل قحط فخرجوا مراراً فأوحى الله عز وجل إلى نبيهم أن أخبرهم أنكم تخرجون إلي بأبدان نجسة وترفعون إلي أكفاً قد سفكتم بها الدماء وملأتم بطونكم من الحرام الآن قد اشتد غضبي عليكم ولن تزدادوا مني إلا بعداً، وقال أبو الصديق الناجي: خرج سليمان عليه السلام يستسقي فمر بنملة ملقاة على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك ولا غنى بنا عن رزقك فلا تهلكنا بذنوب غيرنا، فقال سليمان عليه السلام: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم. وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه ثم قال يا معشر من حضر ألستم مقرين بالإساءة? فقالوا: اللهم نعم، فقال: اللهم إنا قد سمعناك تقول "ما على المحسنين من سبيل" وقد أقررنا بالإساءة فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؛ اللهم فاغفر لنا وارحمنا واسقنا؛ فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا. وقيل لمالك بن دينار: ادع لنا ربك فقال إنكم تستبطئون المطر وأنا أستبطىء الحجارة. وروي أن عيسى صلوات الله عليه وسلامه خرج يستسقي فلما ضجروا قال لهم عيسى عليه السلام: من أصاب منكم ذنباً فليرجع فرجعوا كلهم ولم يبق معه في المفازة إلا واحد، فقال له عيسى عليه السلام: أما لك من ذنب? فقال: والله ما علمت من شيء غير أني كنت ذات يوم أصلي فمرت بي امرأة فنظرت إليها بعيني هذه فلما جاوزتني أدخلت أصبعي في عيني فانتزعتها وتبعت المرأة بها. فقال له عيسى عليه السلام: فادع الله حتى أؤمن على دعائك، قال: فدعا فتجللت السماء سحاباً ثم صبت فسقوا، وقال يحيى الغساني "أصاب الناس قحط على عهد داود عليه السلام فاختاروا ثلاثة من علمائهم فخرجوا حتى يستسقوا بهم فقال أحدهم: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعفو عمن ظلمنا اللهم إنا قد ظلمنا أنفسنا فاعف عنا. وقال الثاني: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن نعتق أرقاءنا اللهم إنا أرقاؤك فأعتقنا. وقال الثالث: اللهم إنك أنزلت في توراتك أن لا نرد المساكين إذا وقفوا بأبوابنا اللهم إنا مساكينك وقفنا ببابك فلا ترد دعاءنا فسقوا" وقال عطاء السلمي: منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فإذا نحن بسعدون المجنون في المقابر فنظر إلي فقال يا عاء أهذا يوم النشور أو بعثر ما في القبور? فقلت: لا ولكنا منعنا الغيث فخرجنا نستسقي فقال يا عطاء: بقلوب أرضية أم بقلوب سماوية? فقلت: بل بقلوب سماوية فقال: هيهات يا عطاء قل للمتبهرجين لا تتبهرجوا فإن الناقد بصير. ثم رمق السماء بطرفه وقال إلهي وسيدي ومولاي لا تهلك بلادك بذنوب عبادك ولكن بالسر المكنون من أسمائك وما وارت الحجب من آلائك إلا ما سقيتنا ماء غدقاً فراتاً تحيي به العباد وتروي به البلاد يا من هو على كل شيء قدير، قال عطاء: فما استتم الكلام حتى أرعدت السماء وأبرقت وجادت بمطر كأفواه القرب فولى وهو يقول:

أفلح الزاهدون والعابدونا

إذ لمولاهم أجاعوا البطونا

أسهروا الأعين العليلة حباً

فانقضى ليلهم وهم ساهرونا

شغلتهم عبادة الله حتى

حسب الناس أن فيهم جنونا

وقال ابن المبارك: قدمت المدينة في عام شديد القحط فخرج الناس يستسقون فخرجت معهم إذا أقبل غلام أسود عليه قطعتا خيش قد اتزر بإحداهما وألقى الأخرى على عاتقه فجلس إلى جنبي فسمعته يقول إلهي أخلقت الوجوه عندك كثرة الذنوب ومساوي الأعمال وقد حبست عنا غيث السماء لتؤدب عبادك بذلك فأسألك يا حليماً ذا أناة يا من لا يعرف عباده منه إلا الجميل أن تسقيهم الساعة الساعة فلم يزل يقول الساعة الساعة حتى اكتست السماء بالغمام وأقبل المطر من كل جانب، قال ابن المبارك: فجئت إلى الفضيل فقال ما لي أراك كئيباً? فقلت أمر سبقنا إليه غيرنا فتولاه دوننا وقصصت عليه القصة فصاح الفضيل وخر مغشياً عليه. ويروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالعباس رضي الله عنه فلما فرغ عمر من دعائه قال العباس: اللهم إنه لم ينزل بلاء من السماء إلابذنب ولم يكشف إلا بتوبة وقد توجه بي القوم إليك لمكاني من نبيك ﷺ وهذه أيدينا إليك بالذنوب ونواصينا بالتوبة وأنت الراعي لا تهمل الضالة ولا تدع الكبير بدار مضيعة فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الأصوات بالشكوى وأنت تعلم السر وأخفى اللهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون قال فما تم كلامه حتى ارتفعت السماء مثل الجبال.

فضيلة الصلاة على رسول الله ﷺ وفضله ﷺ

قال الله تعالى "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً" وروي أنه ﷺ "جاء ذات يوم والبشرى ترى في وجهه فقال ﷺ إنه جاءني جبريل عليه السلام فقال أما ترضى يا محمد أن لا يصلي عليك أحد من أمتك صلاة واحدة إلا صليت عليه عشراً ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلا سلمت عليه عشراً" وقال ﷺ "من صلى علي صلت عليه الملائكة ما صلى علي فليقلل عند ذلك أو ليكثر" وقال ﷺ "إن أولى الناس بي أكثرهم علي صلاة" وقال ﷺ "بحسب المؤمن من البخل أن أذكر عنده فلا يصلي علي" وقال ﷺ "أكثروا من الصلاة علي يوم الجمعة" وقال ﷺ "من صلى علي من أمتي كتبت له عشر حسنات ومحيت عنه عشر سيآت" وقال ﷺ "من قال حين يسمع الأذان والإقامة اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة صل على محمد عبدك ورسولك وأعطه الوسيلة والفضيلة والدرجة الرفيعة والشفاعة يوم القيامة حلت له شفاعتي" وقال رسول الله ﷺ "من صلى علي في كتاب لم تزل الملائكة يستغفرون له ما دام اسمي في ذلك الكتاب" وقال ﷺ "إن في الأرض ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام" وقال ﷺ "ليس أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" و "قيل له يا رسول الله كيف نصلي عليك? فقال قولوا اللهم صل على محمد عبدك وعلى آله وأزواجه وذريته كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد" وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمع بعد موت رسول الله ﷺ يبكي ويقول: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد كان جذع تخطب الناس عليه فلما كثر الناس اتخذت منبراً لتسمعهم فحن الجذع لفراقك حتى جعلت يدك عليه فسكن فأمتك كانت أولى بالحنين إليك لما فارقتهم، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن جعل طاعتك طاعته فقال عز وجل "من يطع الرسول فقد أطاع الله" بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أخبرك بالعفو عنك قبل أن يخبرك بالذنب فقال تعالى "عفا الله عنك لم أذنت لهم" بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن بعثك آخر الأنبياء وذكرك في أولهم فقال عز وجل "وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم" الآية بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد بلغ من فضيلتك عنده أن أهل النار يودون أن يكونوا قد أطاعوك وهم بين أطباقها يعذبون يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان موسى بن عمران أعطاه الله حجراً تتفجر منه الأنهار فماذا بأعجب من أصابعك حين نبع منها الماء صلى الله عليك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان سليمان بن داود أعطاه الله الريح غدوها شهر ورواحها شهر فماذا بأعجب من البراق حين سريت عليه إلى السماء السابعة ثم صليت الصبح من ليلتك بالأبطح صلى الله عليك، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لئن كان عيسى بن مريم أعطاه الله إحياء الموتى فماذا بأعجب من الشاة المسمومة حين كلمتك وهي مشوية فقالت لك الذراع: لا تأكلني فإني مسمومة، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد دعا نوح على قومه فقال رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً ولو دعوت علينا بمثلها لهلكنا فلقد وطىء ظهرك وأدمي وجهك وكسرت رباعيتك فأبيت أن تقول إلا خيراً فقلت اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لقد اتبعك في قلة سنك وقصر عمرك ما لم يتبع نوحاً في كثرة سنه وطول عمره وآمن بك الكثير وما آمن معه إلا القليل، بأبي أنت وأمي يا رسول الله لو لم تجالس إلا كفؤاً لك ما جالستنا ولو لم تنكح إلاكفؤأ لك ما نكحت إلينا ولو لم تؤاكل إلا كفؤاً لك ما واكلتنا فلقد والله جالستنا ونكحت إليها وواكلتنا ولبست الصوف وركبت الحمار وأردفت خلفك ووضعت طعامك على الأرض ولعقت أصابعك تواضعاً منك صلى الله عليك وسلم. وقال بعضهم: كنت أكتب الحديث وأصلي على النبي ﷺ فيه ولا أسلم فرأيت النبي ﷺ في المنام فقال لي: أما تتم الصلاة علي في كتابك? فما كتبت بعد ذلك إلا صليت وسلمت عليه. وروي عن أبي الحسن قال: رأيت النبي ﷺ في المنام فقلت: يا رسول الله بم جوزي الشافعي عنك حيث يقول في كتابه الرسالة "وصلى الله على محمد كلما ذكره الذاكرون وغفل عن ذكره الغافلون"? فقال ﷺ جوزي عني أنه لا يوقف للحساب.

فضيلة الاستغفار

قال الله عز وجل "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم" وقال علقمة والأسود قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم: في كتاب الله عز وجل آيتان ما أذنب عبد ذنباً فقرأهما واستغفر الله عز وجل إلا غفر الله تعالى له "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم" الآية وقوله عز وجل "ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفوراً رحيماً" وقال عز وجل "فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان تواباً" وقال تعالى "والمستغفرين بالأسحار" وكان ﷺ يكثر أن يقول "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الرحيم" وقال ﷺ "من أكثر من الاستغفار جعل الله عز وجل له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب" وقال ﷺ "إني لأستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة" هذا مع أنه ﷺ غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وقال ﷺ "إنه ليغان على قلبي حتى إني لأستغفر الله تعالى في كل يوم مائة مرة" وقال ﷺ "من قال حين يأوي إلى فراشه أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غفر الله له ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر - أو عدد رمل عالج أو عدد ورق الشجر أو عدد أيام الدنيا -" وقال ﷺ في حديث آخر "من قال ذلك غفرت ذنوبه وإن كان فاراً من الزحف" وقال حذيفة: كنت ذرب اللسان على أهلي فقلت "يا رسول الله خشيت أن يدخلني لساني النار، فقال النبي ﷺ: فأين أنت من الاستغفار? فإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة" وقالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله ﷺ "إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فإن التوبة من الذنب الندم والاستغفار" وكان ﷺ يقول في الاستغفار "اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي وما أنت أعلم به مني اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير" وقال علي رضي الله عنه: كنت رجلاً إذا سمعت من رسول الله ﷺ حديثاً نفعني الله عز وجل بما شاء أن ينفعني منه وإذا حدثني أحد من أصحابه استحلفته فإذا حلف صدقته، قال: وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول "ما من عبد يذنب ذنباً فيحسن الطهور ثم يقوم فيصلي ركعتين ثم يستغفر الله عز وجل إلا غفر له ثم تلا قوله عز وجل "والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم" الآية" وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال "إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منها فإن زاد زادت حتى تغلف قلبه فذلك الران الذي ذكره الله عز وجل في كتابه "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه ﷺ قال: "إن الله سبحانه ليرفع الدرجة للعبد في الجنة فيقول يا رب أنى لي هذه فيقول عز وجل باستغفار ولدك لك" وروت عائشة رضي الله عنها: أنه ﷺ قال "اللهم اجعلني من الذين إذا أحسنوا استبشروا وإذا أساءوا استغفروا" وقال ﷺ "إذا أذنب العبد ذنباً فقال اللهم اغفر لي فيقول الله عز وجل أذنب عبدي ذنباً فعلم أن له رباً يأخذ بالذنب ويغفر الذنب عبدي اعمل ما شئت فقد غفرت لك" وقال ﷺ "ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة" وقال ﷺ "إن رجلاً لم يعمل خيراً قط نظر إلى السماء فقال إن لي رباً يا رب فاغفر لي فقال الله عز وجل قد غفرت لك" وقال ﷺ "من أذنب ذنباً فعلم أن الله قد اطلع عليه غفر له وإن لم يستغفر" وقال ﷺ "يقول الله تعالى يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيته فاستغفروني أغفر لكم ومن علم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له ولا أبالي" وقال ﷺ "من قال سبحانك ظلمت نفسي وعملت سوءاً فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت غفرت له ذنوبه ولو كانت كمدب النمل" وروي "إن أفضل الاستغفار اللهم أنت ربي وأنا عبدك خلقتني وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وابوء على نفسي بذنبي فقد ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي ما قدمت منها وما أخرت فإنه لا يغفر الذنوب جميعها إلا أنت" والآثار: قال خالد بن معدان يقول الله عز وجل إن أحب عبادي إلي المتحابون بحبي والمتلعقة قلوبهم بالمساجد والمستغفرون بالأسحار أولئك الذين إذا أردت أهل الأرض بعقوبة ذكرتهم فتركتهم وصرفت العقوبة عنهم. وقال قتادة رحمه الله: القرآن يدلكم عن دائكم ودوائكم . أما داؤكم فالذنوب وأما دواؤكم فالاستغفار. وقال علي كرم الله وجهه: العجيب ممن يهلك ومعه النجاة قيل وما هي? قال الاستغفار. وكان يقول: ما ألهم الله سبحانه عبداً الاستغفار وهو يريد أن يعذبه. وقال الفضيل: قول العبد "أستغفر الله" تفسيرها: أقلني. وقال بعض العلماء: العبد بين ذنب ونعمة لا يصلحهما إلا الحمد والاستغفار. وقال الربيع بن خيثم رحمه الله: لا يقولن أحدكم أستغفر الله وأتوب إليه فيكون ذنباً وكذباً إن لم يفعل? ولكن ليقل: اللهم اغفر لي وتب علي. وقال الفضيل رحمه الله: الاستغفار بلا إقلاع توبة الكذابين. وقالت رابعة العدوية رحمها الله: استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير. وقال بعض الحكماء: من قدم الاستغفار على الندم كان مستهزئاً بالله عز وجل وهو لا يعلم. وسمع أعرابي وهو متعلق بأستار الكعبة يقول: اللهم إن استغفاري مع إصراري للؤم وإن تركي استغفارك مع علمي بسعة عفوك لعجز، فكم تتحبب إلي بالنعم مع غناك عني وكم أتبغض إليك بالمعاصي مع فقري إليك! يا من إذا وعد وفى وإذا أوعد عفا أدخل عظيم جرمي في عظيم عفوك يا أرحم الراحمين. وقال أبو عبد الله الوراق: لو كان عليك مثل عدد القطر وزبد البحر ذنوباً لمحيت عنك إذا دعوت ربك بهذا الدعاء مخلصاً إن شاء الله تعالى "اللهم إني أستغفرك من كل عمل أردت به وجهك فخالطه غيرك واستغفرك من كل نعمة أنعمت بها علي فاستعنت بها على معصيتك وأستغفرك يا عالم الغيب والشهادة من كل ذنب أتيته في ضياء النهار وسواد الليل في ملأ أو خلاء وسر وعلانية يا حليم. ويقال إنه استغفار آدم عليه السلام وقيل الخضر عليه الصلاة والسلام.

=======

الباب الثالث

في أدعية مأثورة ومعزية إلى أسبابها وأربابها

مما يستحب أن يدعو بها المرء صباحاً ومساء وبعقب كل صلاة

فمنها: دعاء رسول الله ﷺ بعد ركعتي الفجر قال ابن عباس رضي الله عنهما: بعثني العباس إلى رسول الله ﷺ فأتيته ممسياً وهو في بيت خالتي ميمونة فقام يصلي من الليل فلما صلى ركعتي الفجر قبل صلاة الصبح قال "اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي وتجمع بها شملي وتلم بها شعثي وترد بها الفتن عني وتصلح بها ديني وتحفظ بها غائبي وترفع بها شاهدي وتزكي بها عملي وتبيض بها وجهي وتلهمني بها رشدي وتعصمني بها من كل سوء. اللهم أعطني إيماناً صادقاً ويقيناً ليس بعده كفر ورحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة. اللهم إني أسألك الفوز عند القضاء ومنازل الشهداء وعيش السعداء والنصر على الأعداء ومرافقة الأنبياء. اللهم إني أنزل بك حاجتي وإن ضعف رأيي وقلت حيلتي وقصر عملي وافتقرت إلى رحمتك فأسألك يا كافي الأمور ويا شافي الصدور كما تجير بين البحور أن تجيرني من عذاب السعير ومن دعوة الثبور ومن فتنة القبور. اللهم ما قصر عني رأيي وضعف عنه عملي ولم تبلغه نيتي وأمنيتي من خير وعدته أحداً من عبادك أو خير أنت معطيه أحداً من خلقك فإني أرغب إليك فيه وأسألكه يا رب العالمين. اللهم اجعلنا هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين حرباً لأعدائك وسلماً لأوليائك نحب بحبك من أطاعك من خلقك ونعادي بعداوتك ممن خالفك من خلقك. اللهم هذا الدعاء وعليك الإجابة وهذا الجهد وعليك التكلان وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ذي الحبل الشديد والأمر الرشيد أسألك الأمن يوم الوعيد والجنة يوم الخلود مع المقربين الشهود والركع السجود الموفين بالعهود إنك رحيم ودود وأنت تفعل ما تريد. سبحان الذي لبس العز وقال به سبحان الذي تعطف بالمجد وتكرم به سبحان الذي لا ينبغي التسبيح إلا له سبحان ذي الفضل والنعم سبحان ذي العزة والكرم سبحان الذي أحصى كل شيء بعلمه. اللهم اجعل لي نوراً في قلبي ونوراً في قبري ونوراً في سمعي ونوراً في بصري ونوراً في شعري ونوراً في بشري ونوراً في لحمي ونوراً في دمي ونوراً في عظامي ونوراً من بين يدي ونوراً من خلفي ونوراً عن يميني ونوراً عن شمالي ونوراً من فوقي ونوراً من تحتي. اللهم زدني نوراً وأعطني نوراً واجعل لي نوراً".

دعاء عائشة رضي الله عنها

قال رسول الله ﷺ لعائشة رضي الله عنها "عليك بالجوامع الكوامل قولي اللهم إني أسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمت منه وما لم أعلم وأعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمت وما لم أعلم وأسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل وأسألك ما قضيت لي من أمر أن تجعل عاقبته رشداً برحمتك يا أرحم الراحمين"

دعاء فاطمة رضي الله عنها

قال رسول الله ﷺ "يا فاطمة ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به? أن تقولي: يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث لا تكلني إلى نفسي طرفة عين وأصلح لي شأني كله.

دعاء أبي بكر الصديق رضي الله عنه

علّم رسول الله ﷺ أبا بكر الصديق رضي الله عنه أن يقول "اللهم إني أسألك بمحمد نبيك وإبراهيم خليلك وموسى نجيك وعيسى كلمتك وروحك وبتوراة موسى وإنجيل عيسى وزبور داود وفرقان محمد ﷺ وعليهم أجمعين وبكل وحي أوحيته أو قضاء قضيته أو سائل أعطيته أو غني أفقرته أو فقير أغنيته أو ضال هديته وأسألك باسمك الذي أنزلته على موسى ﷺ وأسألك باسمك الذي بثثت به أرزاق العباد وأسألك باسمك الذي وضعته على الأرض فاستقرت واسألك باسمك الذي وضعته على السموات فاستقلت وأسألك باسمك الذي وضعته على الجبال فرست وأسالك باسمك الذي استقل به عرشك وأسألك باسمك الطهر الطاهر الأحد الصمد الوتر المنزل في كتابك من لدنك من النور المبين وأسألك باسمك الذي وضعته على النهار فاستنار وعلى الليل فأظلم وبعظمتك وكبريائك وبنور وجهك الكريم أن ترزقني القرآن والعلم به وتخلطه بلحمي ودمي وسمعي وبصري وتستعمل به جسدي بحولك وقوتك فإنه لا حول ولا قوة إلا بك يا أرحم الراحمين".

دعاء بريدة الأسلمي رضي الله عنه

وروي أنه قال له رسول الله ﷺ "يا بريدة ألا أعلمك كلمات من أراد الله به خيراً علمهن إياه ثم لم ينسهن إياه أبداً قال: فقلت بلى يا رسول الله قال قل: اللهم إني ضعيف فقو في رضاك ضعفي وخذ إلى الخير بناصيتي واجعل الإسلام منتهى رضاي، اللهم إني ضعيف فقوني وإني ذليل فأعزني وإني فقير فأغنني يا أرحم الراحمين"

دعاء قبيصة بن المخارق

إذ قال لرسول الله ﷺ "علمني كلمات ينفعني الله عز وجل بها فقد كبر سني وعجزت عن أشياء كثيرة كنت أعملها فقال عليه السلام: أما لدنياك فإذا صليت الغداة فقل ثلاث مرات سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم فإنك إذا قلتهن أمنت من الغم والجذام والبرص والفالج. وأما لآخرتك فقل: اللهم اهدني من عندك وأفض علي من فضلك وانشر من رحمتك وأنزل علي من بركاتك. ثم قال ﷺ: أما إنه إذا وافى بهن عبد يوم القيامة لم يدعهن فتح له أربعة أبواب من الجنة يدخل من أيها شاء

دعاء أبي الدرداء رضي الله عنه

قيل لأبي الدرداء رضي الله عنه: قد احترقت دارك - وكانت النار قد وقعت في محلته - فقال ما كان الله ليفعل ذلك، فقيل له ذلك ثلاثاً وهو يقول: ما كان الله ليفعل ذلك. ثم أتاه آت فقال: يا أبا الدرداء إن النار حين دنت من دارك طفئت، قال: قد علمت ذلك، فقيل له: ما ندري أي قوليك أعجب؟ قال: إني سمعت رسول الله ﷺ قال: من يقول هؤلاء الكلمات في ليل أو نهار لم يضره شيء وقد قلتهن وهي "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت عليك توكلت وأنت رب العرش العظيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن أعلم أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً. اللهم إني أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم".

دعاء الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام

كان يقول إذا أصبح: اللهم إن هذا خلق جديد فافتحه علي بطاعتك واختمه لي بمغفرتك ورضوانك وارزقني فيه حسنة تقبلها مني وزكها وضعفها لي وما عملت فيه من سيئة فاغفرها لي إنك غفور رحيم ودود كريم. قال: ومن دعا بهذا الدعاء إذا أصبح فقد أدى شكر يومه.

دعاء عيسى عليه الصلاة والسلام

كان يقول: اللهم إني أصبحت لا أستطيع دفع ما أكره ولا أملك نفع ما أرجو وأصبح الأمر بيد غيري وأصبحت مرتهناً بعملي فلا فقير أفقر مني. اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ولا تجعل مصيبتي في ديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي ولا تسلط علي من لا يرحمني يا حي يا قيوم.

دعاء الخضر عليه السلام

يقال: إن الخضر وإلياس عليهما السلام إذا التقيا في كل موسم لم يفترقا إلا عن هذه الكلمات "بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله" فمن قالها ثلاث مرات إذا أصبح أمن من الحرق والغرق والسرق إن شاء الله تعالى.

دعاء معروف الكرخي رضي الله عنه

قال محمد بن حسان؛ قال لي معروف الكرخي رحمه الله ألا أعلمك عشر كلمات خمس للدنيا وخمس للآخرة من دعا الله عز وجل بهن وجد الله تعالى عندهن: قلت: اكتبها لي قال لا. ولكن أرددها عليك كما رددها علي بكر بن خنيس رحمه الله حسب الله لديني حسبي الله لدنياي حسبي الله الكريم لما أهمني حسبي الله الحليم القوي لمن بغى علي حسبي الله الشديد لمن كادني بسوء حسبي الله الرحيم عند الموت حسبي الله الرءوف عند المسألة في القبر حسبي الكريم عند الحساب حسبي الله اللطيف عند الميزان حسبي الله القدير عند الصراط حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" وقد روي عن أبي الدرداء أنه قال "من قال في كل يوم سبع مرات "فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم" كفاه الله عز وجل ما أهمه من أمر آخرته صادقاً كان أو كاذباً".

دعاء عتبة الغلام

وقد رؤي في المنام بعد موته فقال: دخلت الجنة بهذه الكلمات "اللهم يا هادي الضالين ويا راحم المذنبين ويا مقيل عثرات العاثرين ارحم عبدك ذا الخطر العظيم والمسلمين كلهم أجمعين واجعلنا مع الأخيار المرزوقين الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.

دعاء آدم عليه الصلاة والسلام

قالت عائشة رضي الله عنها: لما اراد الله عز وجل أن يتوب على آدم ﷺ طاف بالبيت سبعاً وهو يومئذ ليس بمبني ربوة حمراء ثم قام فصلى ركعتين ثم قال "اللهم إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي. اللهم إني أسألك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته علي والرضا بما قسمته لي يا ذا الجلال والإكرام" فأوحى الله عز وجل إليه إني قد غفرت لك ولم يأتني أحد من ذريتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني به إلا غفرت له وكشفت غمومه وهمومه ونزعت الفقر من بين عينيه واتجرت له من وراء كل تاجر وجاءته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها.

دعاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه

رواه عن النبي ﷺ أنه قال "إن الله تعالى يمجد نفسه كل يوم ويقول: إني أنا الله رب العالمين. إني أنا الله لا إله إلا أنا الحي القيوم. إني أنا الله لا إله إلا أنا العلي العظيم. إني أنا الله لا إله إلا أنا لم ألد ولم أولد إني أنا الله لا إله إلا أنا العفو الغفور. إني أنا الله لا إله إلا أنا مبدىء كل شيء وإلي يعود العزيز الحكيم الرحمن الرحيم مالك يوم الدين خالق الخير والشر خالق الجنة والنار الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً الفرد الوتر عالم الغيب والشهادة الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارىء المصور الكبير المتعال المقتدر القهار الحليم الكريم أهل الثناء والمجد وأعلم السر وأخفى القادر الرزاق فوق الخلق والخليقة" وذكر قبل كل كلمة "إني أنا الله لا إله إلا أنا" كما أوردناه في الأول فمن دعا بهذه الأسماء فليقل "إنك أنت الله لا إله إلا أنت كذا وكذا" فمن دعا بهن كتب من الساجدين المخبتين الذي يجاورون محمداً وإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين صلوات الله عليه في دار الجلال. وله ثواب العابدين في السموات والأرضين وصلى الله على محمد وعلى كل عبد مصطفى.

===دعاء ابن المعتمر وهو سليمان التيمي وتسبيحاته رضي الله عنه===

روي أن يونس بن عبيد رأى رجلاً في المنام ممن قتل شهيداً ببلاد الروم فقال: ما أفضل ما رأيت ثم من الأعمال? قال: رأيت تسبيحات ابن المعتمر من الله عز وجل بمكان وهي هذه "سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عدد ما خلق وعدد ما هو خالق وزنة ما خلق وزنة ما هو خالق وملء ما خلق وملء ما هو خالق وملء سمواته وملء أرضه ومثل ذلك وأضعاف ذلك وعدد خلقه وزنة عرشه ومنتهى رحمته ومداد كلماته ومبلغ رضاه حتى يرضى وإذا رضي وعدد ما ذكره به خلقه في جميع ما مضى وعدد ما هم ذاكروه فيما بقي في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات وشم ونفس من الأنفاس وأبد من الآباد من أبد إلى أبد أبد الدنيا وأبد الآخرة وأكثر من ذلك لا ينقطع أوله ولا ينفد آخره".

دعاء إبراهيم بن أدهم رضي الله عنه

روى إبراهيم بن بشار خادمه: أنه كان يقول هذا الدعاء في كل يوم جمعة إذا أصبح وإذا أمسى "مرحباً بيوم المزيد والصبح الجديد والكاتب والشهيد يومنا هذا يوم عيد اكتب لنا فيه ما نقول بسم الله الحميد المجيد الرفيع الودود الفعال في خلقه ما يريد أصبحت بالله مؤمناً وبلقائه مصدقاً وبحجته معترفاً ومن ذنبي مستغفراً ولربوبية الله خاضعاً ولسوى الله في الآلهة جاحداً وإلى الله فقيراً وعلى الله متكلاً وإلى الله منيباً أشهد الله وأشهد ملائكته وأنبيائه ورسله وحملة عرشه ومن خلقه ومن هو خالقه بأنه هو الله الذي لا إله إلا هو وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ﷺ تسليماً وأن الجنة حق وأن النار حق والحوض حق والشفاعة حق ومنكراً ونكيراً حق ووعدك حق ووعيدك حق ولقاءك حق والساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور على ذلك أحيا وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله. اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك اللهم من شر ما صنعت ومن شر كل ذي شر. اللهم إني ظلمت نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت واهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها فإنه لا يصرف سيئها إلا أنت لبيك وسعديك والخير كله بيديك أنا لك وإليك أستغفرك وأتوب إليك. آمنت اللهم بما أرسلت من رسول وآمنت اللهم بما أنزلت من كتاب وصلى الله على محمد النبي الأمي وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً خاتم كلامي ومفتاحه وعلى أنبيائه ورسله أجمعين آمين يا رب العالمين. اللهم أوردنا حوض محمد واسقنا بكأسه مشرباً روياً سائغاً هنياص لا نظمأ بعده أبداً واحشرنا في زمرته غير خزايا ولا ناكثين للعهد ولا مرتابين ولا مفتونين ولا مغضوب علينا ولا ضالين. اللهم اعصمني من فتن الدنيا ووفقني لما تحب وترضى وأصلح لي شأني كله وثبتني بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولا تضلني وإن كنت ظالماً سبحانك، سبحانك يا علي يا عظيم يا بارىء يا رحيم يا عزيز يا جبار سبحان من سبحت له السموات بأكنافها وسبحان من سبحت له البحار بأمواجها وسبحان من سبحت له الجبال بأصدائها وسبحان من سبحت له الحيتان بلغاتها وسبحان من سبحت له النجوم في السماء بأبراجها وسبحان من سبحت له الأشجار بأصولها وثمارها وسبحان من سبحت له السموات السبع والأرضون السبع ومن فيهن ومن عليهن سبحان من سبح له كل شيء من مخلوقاته تباركت وتعاليت سبحانك، سبحانك يا حي يا قيوم يا عليم يا حليم سبحانك لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك تحيي وتميت وأنت حي لا تموت بيدك الخير وأنت على كل شيء قدير.

==========

الباب الرابع

في أدعية مأثورة عن النبي وعن أصحابه

محذوفة الأسانيد منتخبة من جملة ما جمعة أبو طالب المكي وابن خزيمة وابن منذر رحمهم الله

يستحب للمريد إذا أصبح أن يكون أحب أوراده الدعاء - كما سيأتي ذكره في كتاب الأوراد - فإن كنت من المريدين لحرث الآخرة المقتدين برسول الله ﷺ فيما دعا به فقل في مفتتح دعواتك أعقاب صلواتك سبحان ربي العلي الأعلى الوهاب لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقل: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ﷺ نبياً - ثلاث مرات - وقل اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وقل: اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي وأقل عثراتي واحفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بك أن أغتال من تحتي اللهم لا تؤمني مكرك ولا تولني غيرك ولا تنزع عني سترك ولا تنسني ذكرك ولا تجعلني من الغافلين وقل: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت - ثلاث مرات - وقل: اللهم عافني في بدني وعافني في سمعني وعافني في بصري لا إله إلا أنت - ثلاث مرات - وقل: اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء وبرد العيش بعد الموت ولذة النظر إلى وجهك الكريم وشوقاً إلى لقائك من غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة وأعوذ بك أن أظلم أو أظلم أو أعتدي أو يعتدى علي أو أكسب خطيئة أو ذنباً لا تغفره اللهم إني أسألك الثبات في الأمر والعزيمة في الرشد وأسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك وأسألك قلباً خاشعاً سليماً وخلقاً مستقيماً ولساناً صادقاً وعملاً متقبلاً وأسألك من خير ما تعلم وأعوذ بك من شر ما تعلم وأستغفرك لما تعلم فإنك تعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به مني فإنك أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير وعلى كل غيب شهيد اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد ونعيماً لا ينفد وقرة عين الأبد ومرافقة نبيك محمد ﷺ في أعلى جنة الخلد اللهم إني أسألك الطيبات وفعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين أسألك حبك وحب من أحبك وحب كل عمل يقرب إلي حبك وأن تتوب علي وتغفر لي وترحمني وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون اللهم بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني ما كانت الوفاة خيراً لي أسألك خشيتك في الغيب والشهادة وكلمة العدل في الرضا والغضب والقصد في الغنى والفقر ولذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك وأعوذ بك من ضراء مضرة وفتنة مضلة. واللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهدين اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا والآخرة اللهم املأ وجوهنا منك حياء وقلوبنا منك فرقاً واسكن في نفوسنا من عظمتك ما تذلل به جوارحنا لخدمتك واجعلك اللهم أحب إلينا ممن سواك واجعلنا أخشى لك ممن سواك اللهم اجعل أول يومنا هذا صلاحاً وأوسطه فلاحاً وآخره نجاحاً اللهم اجعل أوله رحمة وأوسطه نعمة وآخره تكرمة ومغفرة الحمد لله الذي تواضع كل شيء لعظمته وذل كل شيء لعزته وخضع كل شيء لملكه واستسلم كل شيء لقدرته والحمد لله الذي سكن كل شيء لهيبته وأظهر كل شيء بحكمته وتصاغر كل شيء لكبريائه اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وأزواج محمد وذريته وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد اللهم صلي على محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي ورسولك الأمين وأعطه المقام المحمود الذي وعدته يوم الدين اللهم اجعلنا من أوليائك المتقين وحزبك المفلحين وعبادك الصالحين واستعملنا لمرضاتك عنا ووفقنا لمحابك منا وصرفنا بحسن اختيارك لنا نسألك جوامع الخير وفواتحه وخواتمه ونعوذ بك من جوامع الشر وفواتحه وخواتمه اللهم بقدرتك علي تب علي إنك أنت التواب الرحيم وبحلمك عني اعف عني إنك أنت الغفار الحليم وبعلمك بي ارفق بي إنك أنت أرحم الراحمين وبملكك لي ملكني نفسي ولا تسلطها علي إنك أنت الملك الجبار سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي إنك أنت ربي ولا يغفر الذنوب إلا أنت اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي اللهم ارزقني حلالاً لا تعاقبني عليه وقنعني بما رزقتني واستعملني به صالحاً تقبله مني اللهم إني أسألك العفو والعافية وحسن اليقين والمعافاة في الدنيا والآخرة يا من لا تضره الذنوب ولا تنقصه المغفرة هب لي ما لا يضرك وأعطني ما لا ينقصك ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين. أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلماً وألحقني بالصالحين. أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك. ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير. ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين. ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم. ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً. رنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان - إلى قوله عز وجل - إنك لا تخلف الميعاد. ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا - إلى آخر السورة - رب اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً. واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم وأنت تعلم وأنت الأعز الأكرم وأنت خير الراحمين وأنت خير الغافرين وإنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على محمد خاتم النبيين وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

===أنواع الاستعاذة المأثورة عن النبي ﷺ===

اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر وأعوذ بك من فتنة الدنيا وأعوذ بك من عذاب القبر اللهم إني أعوذ بك من طبع يهدي إلى طمع ومن طمع في غير مطمع ومن طمع حيث لا مطمع اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع وقلب لا يخشع ودعاء لا يسمع ونفس لا تشبع. وأعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع ومن الخيانة فإنها بئست البطانة ومن الكسل والبخل والجبن والهرم ومن أن أرد إلى أرذل العمر ومن فتنة الدجال وعذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات. اللهم إنا نسألك قلوباً أواهة مخبتة منيبة في سبيلك. اللهم إني أسألك عزائم مغفرتك وموجبات رحمتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار. اللهم إني أعوذ بك من التردي وأعوذ بك من الغم والغرق والهدم وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبراً وأعوذ بك من أن أموت في تطلب الدنيا اللهم إني أعوذ بك شر ما علمت ومن شر ما لم أعلم. اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأدواء والأهواء. اللهم إني أعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء اللهم إني أعوذ بك من الكفر والدين والفقر وأعوذ بك من عذاب جهنم وأعوذ بك من جار السوء في دار المقامة فإن جار البادية يتحول. اللهم إني أعوذ بك من القسوة والغفلة والعيلة والذلة والمسكنة وأعوذ بك من الكفر والفقر والفسوق والشقاق والنفاق وسوء الأخلاق وضيق الأرزاق والسمعة والرياء وأعوذ بك من الصم والبكم والعمى والجنون والجذام والبرص وسيء الأسقام اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك ومن تحول عافيتك ومن فجأة نقمتك ومن جميع سخطك اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار وعذاب القبر وفتنة القبر وشر فتنة الغنى وشر فتنة الفقر وشر فتنة المسيح الدجال وأعوذ بك من المغرم والمأثم اللهم إني أعوذ بك من نفس لا تشبع وقلب لا يخشع وصلاة لا تنفع ودعوة لا تستجاب وأعوذ بك من شر الغم وفتنة الصدر. اللهم إني أعوذ بك من غلبة الدين وغلبة العدو وشماتة الأعداء وصلى الله على محمد وعلى كل عبد مصطفى من كل العالمين آمين.

========

الباب الخامس

في الأدعية الماثورة عند حدوث كل حادث من الحوادث

إذا أصبحت وسمعت الأذان فيستحب لك جواب المؤذن وقد ذكرناه وذكرنا أدعية دخول الخلاء والخروج منه وأدعية الوضوء في كتاب الطهارة. فإذا خرجت إلى المسجد فقل "اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي لساني نوراً واجعل في سمعي نوراً واجعل في بصري نوراً واجعل خلفي نوراً وأمامي نوراً واجعل من فوقي نوراً اللهم أعطني نوراً، وقل أيضاً: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا إليك فإني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا رياء ولا سمعة خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك فأسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" فإن خرجت من المنزل لحاجة فقل "بسم الله رب أعوذ بك أن أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم بسم الله التكلان على الله" فإذا انتهيت إلى المسجد تريد دخوله فقل "اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم اللهم اغفر لي جميع ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك" وقدم رجلك اليمنى في الدخول فإذا رأيت في المسجد من يبيع أو يبتاع فقل "لا أربح الله تجارتك" وإذا رأيت من ينشد ضالة في المسجد فقل "لا ردها الله عليك" أمر به رسول الله ﷺ فإذا صليت ركعتي الصبح فقل "بسم الله اللهم إني أسألك رحمة من عندك تهدي بها قلبي.. الدعاء إلى آخره كما أوردناه عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي ﷺ فإذا ركعت فقل في ركوعك "اللهم لك ركعت ولك خشعت وبك آمنت ولك أسلمت وعليك توكلت أنت ربي خشع سمعي وبصري ومخي وعظمي وعصبي وما استقلت به قدمي لله رب العالمين" وإن أحببت فقل "سبحان ربي العظيم - ثلاث مرات - أو سبوح قدوس رب الملائكة والروح" فإذا رفعت رأسك من الركوع فقل "سمع الله لمن حمده ربنا لك الحمد ملء السموات وملء الأرض وملء ما شئت من شيء بعد أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد وإذا سجدت فقل اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين اللهم سجد لك سوادي وخيالي وآمن بك فؤادي أبوء بنعمتك علي وأبوء بذنبي وهذا ما جنيت على نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت أو تقول "سبحان ربي الأعلى - ثلاث مرات -" فإذا فرغت من الصلاة فقل "اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام وتدعو بسائر الأدعية التي ذكرناها. فإذا قمت من المجلس وأردت دعاء يكفر لغو المجلس فقل "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك عملت سوءاً وظلمت نفسي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت فإذا دخلت السوق فقل "لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير بسم الله اللهم إني أسألك خير هذه السوق وخير ما فيها اللهم إني أعوذ بك من شرها وشر ما فيها اللهم إني أعوذ بك أن أصيب فيها يميناً فاجرة أو صفقة خاسرة فإن كان عليك دين فقل "اللهم اكفني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك فإذا لبست ثوباً جديداً فقل اللهم كسوتني هذا الثوب فلك الحمد أسألك من خيره وخير ما صنع له وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له" وإذا رأيت شيئاً من الطيرة تكرهه فقل "اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يذهب بالسيئات إلا أنت لا حول ولا قوة إلا بالله" وإذا رأيت الهلال فقل "اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والبر والسلامة والإسلام والتوفيق لما تحب وترضى والحفظ عمن تسخط، ربي وربك الله" ويقول "هلال رشد وخير آمنت بخالقك اللهم إني أسألك خير هذا الشهر وخير القدر وأعوذ بك من شر يوم الحشر" وتكبر قبله أولاً ثلاثاً. وإذا هبت الريح فقل "اللهم إني أسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها ومن شر ما أرسلت به" وإذا بلغك وفاة أحد فقل "إنا لله وإنا إليه راجعون وإنا إلى ربنا لمنقلبون اللهم اكتبه في المحسنين واجعل كتابه في عليين واخلفه في عقبه في الغابرين اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله وتقول عند التصدق "ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم" وتقول عند الخسران "عسى ربنا أن يبدلنا خيراً منها إنا إلى ربنا راغبون" وتقول عند ابتداء الأمور "ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيىء لنا من أمرنا رشداً - رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري" وتقول عند النظر إلى السماء "ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار - تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً" وإذا سمعت صوت الرعد فقل "سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته" فإن رأيت الصواعق فقل "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك" قاله كعب. فإذا أمطرت السماء فقل "اللهم سقيا هنيئاً وصيباً نافعاً اللهم اجعله صيب رحمة ولا تجعله صيب عذاب" فإاذ غضبت فقل "اللهم اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من الشيطان الرجيم" فإذا خفت قوماً فقل "اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم" فإذا غزوت فقل "اللهم أنت عضدي ونصيري وبك أقاتل" وإذا طنت أذنك فصل على محمد ﷺ وقل "ذكر الله من ذكرني بخير" فإذا رأيت استجابة دعائك فقل الحمد الذي بعزته وجلاله تتم الصالحات" وإذا أبطأت فقل "الحمد لله على كل حال" وإذا سمعت أذان المغرب فقل "اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك وحضور صلواتك أسألك أن تغفر لي" وإذا أصابك هم فقل "اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسالك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء غمي وذهاب حزني وهمي" قال ﷺ "ما أصاب أحداً حزن فقال ذلك إلا أذهب الله همه وأبدله مكانه فرحاً فقيل له يا رسول الله أفلا نعلمها? فقال ﷺ بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها" وإذا وجدت وجعاً في جسدك أو جسد غيرك فارقة برقية رسول الله ﷺ "كان إذا اشتكى الإنسان قرحة أو جرحاً وضع سبابته على الأرض ثم رفعها وقال بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا" وإذا وجدت وجعاً في جسدك فضع يدك على الذي يتألم من جسدك وقل "بسم الله - ثلاثاً - وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر" فإذا أصابك كرب فقل "لا إله إلا الله العلي الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات السبع ورب العرش الكريم" فإن أردت النوم فتوضأ أولاً ثم توسد على يمينك مستقبل القبلة ثم كبر الله تعالى أربعاً وثلاثين وسبحه ثلاثاً وثلاثين واحمده ثلاثاً وثلاثين" ثم قل "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك اللهم إني لا أستطيع أن أبلغ ثناء عليك ولو حرصت ولكن أنت كما أثنيت على نفسك اللهم باسمك أحيا وأموت اللهم رب السموات ورب الأرض ورب كل شيء ومليكه فالق الحب والنوى ومنزل التوراة والإنجيل والقرآن أعوذ بك من شر كل ذي شر ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عني الدين وأغنني من الفقر اللهم إنك خلقت نفسي وأنت تتوفاها لك مماتها ومحياها اللهم إن أمتها فاغفر لها وإن أحييتها فاحفظها اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة باسمك ربي وضعت جنبي فاغفر لي ذنبي اللهم قني عذابك يوم تجمع عبادك اللهم أسلمت نفسي إليك ووجهت وجهي إليك وفوضت أمري إليك والجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك آمنت بكتابك الذي أنزلت ونبيك الذي أرسلت" ويكون هذا آخر دعائك فقد أمر رسول الله ﷺ بذلك وليقل قبل ذلك "اللهم أيقظني في أحب الساعات إليك واستعملني بأحب الأعمال إليك تقربني إليك زلفى وتبعدني من سخطك بعداً أسألك فتعطيني وأستغفرك فتغفر لي وأدعوك فتستجيب لي" فإذا استيقظت من نومك عند الصباح فقل "الحمد لله أحياناً بعد ما أماتنا وإليه النشور أصبحنا وأصبح الملك لله والعظمة والسلطان لله والعزة والقدرة لله أصبحنا على فطرة الإسلام وكلمة الإخلاص وعلى دين نبينا محمد ﷺ وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين اللهم بك أصبحنا وبك أمسينا وبك نحيا وبك نموت وإليك المصير اللهم إني أسألك أن تبعثنا في هذا اليوم إلى كل خير ونعوذ بك أن نجترح فيه سوءاً أو نجره إلى مسلم فإنك قلت "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم وما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضى أجل مسمى" اللهم فالق الإصباح وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسباناً أسألك خير هذا اليوم وخير ما فيه وأعوذ بك من شره وشر ما فيه بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله ما شاء الله كل نعمة من الله ما شاء الله الخير كله بيد الله ما شاء الله لا يصرف السوء إلا الله رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ﷺ نبياً - ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير - وإذا أمسى قال ذلك إلا أنه يقول "أمسينا" ويقول مع ذلك أعوذ بكلمات الله التامات وأسمائه كلها من شر ما ذرأ وبرأ ومن شر كل ذي شر ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم وإذا نظر في المرآة قال الحمد لله الذي سوى خلقي فعدله وكرم صورة وجهي وحسنها وجعلني من المسلمين وإذا اشتريت خادماً أو غلاماً أو دابة فخذ بناصيته وقل اللهم إني أسألك خيره وخير ما جبل عليه وأعوذ بك من شره وشر ما جبل عليه وإذا هنأت بالنكاح فقل بارك الله فيك وبارك عليك وجمع بينكما في خير وإذا قضيت الدين فقل للمقضي له بارك الله لك في أهلك ومالك إذ قال ﷺ "وإنما جزاء السلف الحمد والأداء".

فهذه أدعية لا يستغني المريد عن حفظها وما سوى ذلك من أدعية السفر والصلاة والوضوء ذكرناها في كتاب الحج والصلاة والطهارة. فإن قلت: فما فائدة الدعاء والقضاء لا مرد له? فاعلم أن من القضاء رد البلاء بالدعاء فالدعاء سبب لرد البلاء واستجلاب الرحمة كما أن الترس يدفع السهم فيتدافعان فكذلك الدعاء والبلاء يتعالجان. وليس من شرط الاعتراف بقضاء الله تعالى أن لا يحمل السلاح وقد قال تعالى "خذوا حذركم" وأن لا يسقي الأرض بعد بث البذر فيقال إن سبق القضاء بالنبات نبت البذر وإن لم يسبق لم ينبت. بل ربط الأسباب بالمسببات هو القضاء الأول الذي هو كلمح البصر أو هو أقرب وترتيب تفصيل المسببات على تفاصيل الأسباب على التدريج والتقدير هو القدر والذي قدر الخير قدره بسبب. والذي قدر الشر قدر لدفعه سبباً فلا تناقض بين هذه الأمور عند من انفتحت بصيرته. ثم في الدعاء من الفائدة ما ذكرناه في الذكر فإنه يستدعي حضور القلب مع الله وهو منتهى العبادات ولذلك قال ﷺ "الدعاء مخ العبادة" والغالب على الخلق أنه لا تنصرف قلوبهم إلى ذكر الله عز وجل وإلا عند إلمام حاجة وإرهاق ملمة فإن الإنسان إذا مسه الشر فذو دعاء عريض. فالحاجة تحوج إلى الدعاء والدعاء يرد القلب إلى الله عز وجل بالتضرع والاستكانة فيحصل به الذكر الذي هو أشرف العبادات. ولذلك صار البلاء موكلاً بالأنبياء عليهم السلام ثم الأولياء ثم الأمثل فالأمثل لأنه يرد القلب بالافتقار والتضرع إلى الله عز وجل ويمنع من نسيانه وأما الغنى فسبب للبطر في غالب الأمور فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى. فهذا ما أردنا أن نورده من جملة الأذكار والدعوات والله الموفق للخير. وأما بقية الدعوات في الأكل والسفر وعيادة المريض وغيرها فستأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى وعلى الله التكلان. نجز كتاب الأذكار والدعوات، بكماله. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب: الأوراد. والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

=========

كتاب ترتيب الأوراد وتفصيل إحياء الليل

وهو الكتاب العاشر من إحياء علوم الدين وبه اختتام ربع العبادات نفع الله به المسلمين

بسم الله الرحمن الرحيم

نحمد الله على آلائه حمداً كثيراً ونذكره ذكراً لا يغادر في القلب استكباراً ولا نفوراً ونشكره إذ جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً ونصلي على نبيه الذي بعثه بالحق بشيراً ونذيراً وعلى آله الطاهرين وصحبه الأكرمين الذين اجتهدوا في عبادة الله غدوة وعشياً وبكرة وأصيلاً حتى أصبح كل واحد منهم نجماً في الدين هادياً وسراجاً منيراً.

أما بعد: فإن الله تعالى جعل الأرض ذلولاً لعباده لا ليستقروا في مناكبها بل ليتخذوها منزلاً فيتزودوا منها زاداً يحملهم في سفرهم إلى أوطانهم ويكتنزون منها تحفاً لنفوسهم عملاً وفضلاً محترزين من مصايدها ومعاطبها ويتحققون أن العمر يسير بهم سير السفينة براكبها. فالناس في هذا العالم سفر وأول منازلهم المهد وآخرها اللحد والوطن هو الجنة أو النار. والعمر مسافة السفر؛ فسنوه مراحله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله وأنفاسه خطواته وطاعته بضاعته وأوقاته رءوس أمواله، وشهواته وأغراضه قطاع طريقه، وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دا السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم، وخسرانه البعد من الله تعالى مع الأنكال والأغلال والعذاب الأليم في دركات الجحيم. فالغافل في نفس من أنفاسه حتى ينقضي في غير طاعة تقربه إلى الله زلفى متعرض في يوم التغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل شمر الموفقون عن ساق الجد ودعوا بالكلية ملاذ النفس واغتنموا بقايا العمر. ورتبوا بحسب تكرر الأوقات وظائف الأوراد حرصاً على إحياء الليل والنهار في طلب القرب من الملك الجبار والسعي إلى دار القرار فصار من مهمات علم طريق الآخرة تفصيل القول في كيفية قسمة الأوراد وتوزيع العبادات التي سبق شرحها على مقادير الأوقات ويتضح هذا المهم بذكر بابين. الباب الأول في فضيلة الأوراد وترتيبها في الليل والنهار. الباب الثاني في كيفية إحياء الليل وفضيلته وما يتعلق به.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...