يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الجمعة، 31 مارس 2023

ج6.الجزء الاخير من كتاب إحياء علوم الدين للامام الغزالي

الجزء الاخير من كتاب إحياء علوم الدين

 للامام الغزالي

كتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوة/ أبو حامد الغزالي كتاب شرح عجائب القلب

وهو الكتاب العاشر من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق كل شيء فأحسن خلقه وترتيبه، وأدب نبيه محمداً ﷺ فأحسن تأديبه، وزكى أوصافه وأخلاقه ثم اتخذه صفيه وحبيبه، ووفق للاقتداء به من أراد تهذيبه؛ وحرم عن التخلق بأخلاقه من أراد تخييبه وصلى الله على سيدنا محمد سيد المرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم كثيراً.

أما بعد: فإن آداب الظواهر عنوان آداب البواطن، وحركات الجوارح ثمرات الخواطر، والأعمال نتيجة الأخلاق والآداب رشح المعارف، وسرائر القلوب هي مغارس الأفعال ومنابعها، وأنوار السرائر هي التي تشرق على الظواهر فتزينها وتجليها، وتبدل بالمحاسن مكارهها ومساويها. ومن لم يخشع قلبه لم تخشع جوارحه. ومن لم يكن صدره مشكاة الأنوار الإلهية لم يفض على ظاهر جمال الآداب النبوية، ولقد كنت عزمت على أن أختم ربع العادات من هذا الكتاب بكتاب جامع لآداب المعيشة لئلا يشق على طالبها استخراجها من جميع هذه الكتب، ثم رأيت كل كتاب من ربع العادات قد أتى على جملة من الآداب فاستثقلت تكريرها وإعادتها، فإن طلب الإعادة ثقيل والنفوس مجبولة على معاداة المعادات، فرأيت أن أقتصر في هذا الكتاب على ذكر آداب رسول الله ﷺ وأخلاقه المأثورة عنه بالإسناد فأسردها مجموعة فصلاً فصلاً محذوفة الأسانيد ليجتمع فيه مع جميع الآداب تجديد الإيمان وتأكيده بمشاهدة أخلاقه الكريمة التي شهد آحادها على القطع بأنه أكرم خلق الله تعالى وأعلاهم رتبة وأجلهم قدراً فكيف مجموعها? ثم أضيف إلى ذكر أخلاقه ذكر خلقته ثم ذكر معجزاته التي صحت بها الأخبار ليكون ذلك معرباً عن مكارم الأخلاق والشيم، ومنتزعاً عن آذان الجاحدين لنبوته صمام الصمم. والله تعالى ولي التوفيق للاقتداء بسيد المرسلين في الأخلاق والأحوال وسائر معالم الدين فإنه دليل المتحيرين ومجيب دعوة المضطرين. ولنذكر فيه أولاً بيان تأديب الله تعالى إياه بالقرآن، ثم بيان جوامع من محاسن أخلاقه، ثم بيان جملة من آدابه وأخلاقه، ثم بيان كلامه وضحكه، ثم بيان أخلاقه وآدابه في الطعام، ثم بيان أخلاقه وآدابه في اللباس، ثم بيان عفوه مع القدرة ثم بيان إغضائه عما كان يكره، ثم بيان سخاوته وجوده، ثم بيان شجاعته وبأسه، ثم بيان تواضعه، ثم بيان صورته وخلقته، ثم بيان جوامع معجزاته وآياته ﷺ.

بيان تأديب الله تعالى حبيبه وصفيه محمداً

ﷺ بالقرآن

كان رسول الله ﷺ كثير الضراعة والابتهال دائم السؤال من الله تعالى أن يزينه بمحاسن الآداب ومكارم الأخلاق، فكان يقول في دعائه "اللهم حسن خلقي وخلقي" ويقول: "اللهم جنبني منكرات الأخلاق" فاستجاب الله تعالى دعاءه وفاء بقوله عز وجل: "ادعوني أستجب لكم" فأنزل عيه القرآن وأدبه به فكان خلقه القرآن.

قال سعد بن هشام: دخلت على عائشة رضي الله عنها وعن أبيها فسألتها عن أخلاق رسول الله ﷺ فقالت: أما تقرأ القرآن? قلت: بلى، قالت: كان خلق رسول الله ﷺ القرآن.

وإنما أدبه القرآن بمثل قوله تعالى: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وقوله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وقوله: "واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور" وقوله: "فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين" وقوله: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم" وقوله: "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" وقوله: "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" وقوله: "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً" ولماكسرت رباعيته وشج يوم أحد فجعل الدم يسيل على وجهه وهو يمسح الدم ويقول: "كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم وهو يدعوهم إلى ربهم" فأنزل اله تعالى: "ليس لك من الأمر شيء" تأديباً له على ذلك.

وأمثال هذه التأديبات في القرآن لا تحصر وهو عليه السلام المقصود الأول بالتأديب والتهذيب، ثم منه يشرق النور على كافة الخلق فإنه أدب بالقرآن وأدب الخلق به ولذلك قال ﷺ "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ثم رغب الخلق في محاسن الأخلاق بما أوردناه في كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق فلا نعيده، ثم لما أكمل الله تعالى خلقه أثنى عليه فقال تعالى: "وإنك لعلى خلق عظيم" فسبحانه ما أعظم شأنه وأتم امتنانه ثم انظر إلى عميم لطفه وعظيم فضله كيف أعطى ثم أثني? فهو الذي زينه بالخلق الكريم ثم أضاف إليه ذلك فقال: "وإنك لعلى خلق عظيم" ثم بين رسول الله ﷺ للخلق أن الله يحب مكارم الأخلاق ويبغض سفافها قال علي رضي الله عنه يا عجباً لرجل مسلم يجتبيه أخوه المسلم في حاجة فلا يرى نفسه للخير أهلاً فلو كان لا يرجو ثواباً ولا يخشى عقاباً لقد كان ينبغي له أن يسارع إلى مكارم الأخلاق فإنها مما تدل على سبيل النجاة. فقال له رجل: أسمعته من رسول الله ﷺ? فقال نعم وما هو خير منه لما أتى بسبايا طيئ وقفت جارية في السبي فقالت: يا محمد إن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإني بنت سيد قومي وإن أبي كان يحمي الذمار ويفك العاني ويشبع الجائع ويطعم الطعام ويفشي السلام ولم يرد طالب حاجة قط، أنا ابنة حاتم الطائي. فقال ﷺ "يا جارية هذه صفة المؤمنين حقاً لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه خلوا عنها فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق وإن الله يحب مكارم الأخلاق" فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله؛ الله يحب مكارم الأخلاق? فقال: "والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة إلا حسن الأخلاق" وعن معاذ بن جبل عن النبي ﷺ قال: "إن الله حف الإسلام بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال" ومن ذلك حسن المعاشرة وكرم الصنيعة ولين الجانب وبذل المعروف وإطعام الطعام وإنشاء السلام وعيادة المريض المسلم براً كان أو فاجراً وتشييع جنازة المسلم وحسن الجوار لمن جاورت - مسلماً كان أو كافراً - وتوقير ذي الشيبة المسلم وإجابة الطعام والدعاء عليه والعفو والإصلاح بين الناس والجود والكرم والسماحة والابتداء بالسلام وكظم الغيظ والعفو عن الناس واجتناب ما حرم الإسلام من اللهو والباطل والغناء والمعازف كلها وكل ذي وتر وكل ذي دخل والغلبة والكذب والبخل والشح والجفاء والمكر والخديعة والنميمة وسوء ذات البين وقطيعة الأرحام وسوء الخلق والتكبر والفخر والاختيال والاستطالة والبذخ والفحش والتفحش والحقد والحسد والطيرة والبغي والعدوان والظلم. قال أنس رضي الله عنه: فلم يدع نصيحة جميلة غلا وقد دعانا إليها وأمرنا بها ولم يدع غشاً - أو قال عيباً، أو قال شيناً - إلا حذرناه ونهانا عنه ويكفي من ذلك كله هذه الآية "إن الله يأمر العدل والإحسان" الآية وقال معاذ: أوصاني رسول الله ﷺ فقال: "يا معاذ أوصيك باتقاء الله وصدق الحديث والوفاء بالعهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وحسن العمل وقصر الأمل ولزوم الإيمان والتفقه في القرآن وحب الآخرة والجزع من الحساب وخفض الجناح، وأنهاك أن تسب حكيماً أو تكذب صادقاً أو تطيع آثماً أو تعصي إماماً عادلاً أو تفسد أرضاً وأوصيك باتقاء الله عند كل حجر وشجر ومدر، وأن تحدث لكل ذنب توبة السر بالسر والعلانية بالعلانية" فهكذا أدب عباد الله ودعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب.

بيان جملة من محاسن أخلاقه

التي جمعها بعض العلماء والتقطها من الأخبار

فقال: كان ﷺ أحلم الناس وأشجع الناس وأعدل الناس وأعف الناس لم تمس يده قط يد امرأة لا يملك رقها أو عصمة نكاحها أو تكون ذات محرم منه وكان أسخى الناس لا يبيت عنده دينار ولا درهم وإن فضل شيء ولم يجد من يعطيه وفجأه الليل لم يأو إلى منزله حتى يتبرأ منه إلى من يحتاج إليه لا يأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر مما يجد من الثمر والشعير ويضع سائر ذلك في سبيل الله لا يسأل شيئاً إلا أعطاه ثم يعود على قوت عامه فيؤثر منه حتى إنه ربما احتاج قبل انقضاء العام إن لم يأته شيء وكان يخصف النعل ويرفع الثوب ويخدم في مهنة أهله ويقطع اللحم معهن وكان أشد الناس حياء لا يثبت بصره في وجه أحد ويجيب دعوة العبد الحر ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب ويكافئ عيها ويأكلها ولا يأكل الصدقة ولا يستكبر عن إجابة الأمة والمسكين يغضب لربه ولا يغضب لنفسه وينفد الحق وإن عاد ذلك عليه بالضرر أو على أصحابه. وعرض عليه الانتصار بالمشركين على المشركين وهو في قلة وحاجة إلى إنسان واحد يزيده في عدد من معه فأبى وقال: أنا لا أنتصر بمشرك وجد ن فضلاء أصحابه وخيارهم قتيلاً بين اليهود فلم يحف عليهم ولا زاد على مر الحق بل وداه بمائة ناقة وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقون به وكان يعصب الحجر على بطنه مرة من الجوع ومرة يأكل ما حضر ولا يرد ما وجد ولا يتورع عن مطعم حلال وإن وجد تمر أو دون خبز أكله وإن وجد شواء أكله وإن وجد خبز بر أو شعير أكله وإن وجد حلواً أو عسلاً أكله وإن وجد لبناً دون خبز اكتفى به وإن وجد بطيخاً أو رطباً أكله، لا يأكل متكئاً ولا على خوان منديله باطن قدميه لم يشبع من خبز بر ثلاثة أيام متوالية حتى لقي الله تعالى إيثاراً على نفسيه لا فقراً ولا بخلاً يجيب الوليمة ويعود المرضى ويشهد الجنائز ويمشي وحده بين أعدائه بلا حارس أشد الناس تواضعاً وأسكنهم في غير كبر وأبلغهم في غير تطويل وأحسنهم بشراً لا يهوله شيء من أمر الدنيا ويلبس ما وجد فمرة شملة ومرة برد حبرة يمانياً ومرة جبة صوف ما وجد من المباح لبس وخاتمه فضة يلبسه في خنصره الأيمن والأيسر يردف خلفه عبده أو غيره يركب ما أمكنه مرة فرساً ومرة بعيراً ومرة بغلة شهباء ومرة حماراً ومرة يمشي راجلاً حافياً بلا رداء ولا عمامة ولا قلنسوة يعود المرضى في أقصى المدينة يحب الطيب ويكره الرائحة الرديئة ويجالس الفقراء ويؤاكل المساكين ويكرم أهل الفضل في أخلاقهم ويتألف أهل الشرف بالبر لهم يصل ذوي رحمه من غير أن يؤثرهم على من هو أفضل منهم لا يجفو على أحد يقبل معذرة المعتذر إليه يمزح ولا يقول إلا حقاً يضحك من غير قهقهة يرى اللعب المباح فلا ينكره يسابق أهله وترفع الأصوات عليه فيصبر وكان له لقاح وغنم يتقوت هو وأهله من ألبانها وكان له عبيد وإماء لا يرتفع عليهم في مأكل ولا ملبس ولا يمضي له وقت في غير عمل لله تعالى أو فيما لا بد له منه من صلاح نفسه يخرج إلى بساتين أصحابه لا يحتقر مسكيناً لفقره وزمانته ولا يهاب ملكاً لملكه يدعو هذا وهذا إلى الله دعاء مستوياً قد جمع تعالى له السيرة الفاضلة والسياسة التامة وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب، نشأ في بلاد الجهل والصحارى في فقره وفي رعاية الغنم لا أب له ولا أم فعلمه الله تعالى جميع محاسن الأخلاق والطرق الحميدة وأخبار الأولين والآخرين وما فيه النجاة والفوز في الآخرة والغبطة والخلاص في الدنيا ولزوم الواجب وترك الفضول. وفقنا الله لطاعته في أمره والتأسي به في فعله آمين يا رب العالمين.

بيان جملة أخرى من آدابه وأخلاقه

مما رواه أبو البحتري قال: ما شتم رسول الله ﷺ أحداً من المؤمنين بشتيمة إلا جعل لها كفارة ورحمة وما لعن امرأة قط ولا خادماً بلعنة وقيل له وهو في القتال: لو لعنتم يا رسول اله فقال: "إنما بعثت رحمة ولم أبعث لعاناً" وكان إذا سئل أن يدعو على أحد مسلم أو كافر عام أو خاص عدل عن الدعاء عليه إلى الدعاء له وما ضرب بيده أحداً قط إلا أن يضرب بها في سبيل الله تعالى، وما انتقم من شيء صنع إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله، وخير بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما إلا أن يكون فيه إثم أو قطيعة رحم فيكون أبعد الناس من ذلك وما كن يأتيه أحد حر أو عبد أو أمة إلا قام معه في حاجته وقال أنس رضي الله عنه: والذي بعثه بالحق ما قال لي في شيء قط كرهه "لم فعلته?" ولا لامني نساؤه إلا قال "دعوه إنما كان هذا بكتاب وقدر" قالوا: وما عاب رسول الله ﷺ مضجعاً، إن فرشوا له اضطجع وإن لم يفرش له اضطجع على الأرض وقد وصفه الله تعالى في التوراة قبل أن يبعثه في السطر الأول فقال: محمد رسول الله عبدي المختار لا فظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة ولكن يعفو ويصفح؛ مولده بمكة وهجرته بطابة وملكه بالشام ي-أتزر على وسطه هو ومن معه دعاة للقرآن والعلم يتوضأ على أطرافه. وكذلك نعته في الإنجيل: وكان من خلقه أن يبدأ من لقيه بالسلام ومن قاومه لحاجة صابره حتى يكون هو المنصرف وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر وكان إذا لقي أحداً من أصحابه بدأه بالمصافحة ثم أخذ بيده فشابكه ثم شد قبضته عيه وكان لا يقوم ولا يجلس إلا على ذكر الله وكان لا يجلس إليه أحد وهو يصلي إلا خفف صلاته وأقبل عليه فقال: "ألك حاجة?" فإذا فرغ من حاجته عاد إلى صلاته، وكان أكثر جلوسه أن ينصب ساقيه جميعاً ويمسك بيديه عليهما شبه الحبوة ولم يكن يعرف مجلسه من مجلس أصحابه لأنه كان حيث انتهى به المجلس جلس وما رؤي قط ماداً رجليه بين أصحابه حتى لا يضيق بهما على أحد إلا أن يكون المكان واسعاً لا ضيق فيه، وكان أكثر ما يجلس مستقبل القبلة وكان يكرم من يدخل عليه حتى ربما بسط ثوبه لمن ليست بينه وبينه قرابة ولا رضاع يجلسه عليه وكان يؤثر الداخل عليه بالوسادة التي تحته فإن أبى أن يقبلها عزم عليه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف محاسنه وتوجهه للجالس إليه ومجلسه مع ذلك مجلس حياء وتواسع وأمانة قال الله تعالى: "فيما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك" ولقد كان يدعوا أصحابه بكناهم إكراماً لهم واستمالة لقلوبهم ويكنى من لم تكن له كنية فكان يدعى بما كناه به ويكنى أيضاً النساء اللاتي لهن الأولاد واللاتي لم يلدن يبتدئ لهن الكنى ويكني الصبيان فيستلين به قلوبهم وكان أبعد الناس غضباً وأسرعهم رضاً وكان أرأف الناس بالناس وخير الناس للناس وأنفع الناس للناس ولم تكن ترفع في مجلسه الأصوات، وكان إذا قام من مجلسه قال: "سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إليه إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك" ثم يقول "علمنيهن جبريل عليه السلام".

بيان كلامه وضحكه ﷺ

كان ﷺ أفصح الناس منطقاً وأحلاهم كلاماً ويقول:

أنا أفصح العرب وإن أهل الجنة يتكلمون فيها بلغة محمد ﷺ وكان نزر الكلام سمح المقالة إذا نطق ليس بمهذار وكان كلامه كحرزات نظمن قالت عائشة رضي الله عنها: كان لا يسرد الكلام كسردكم هذا كان كلامه نزراً وأنتم تنثرون الكلام نثراً. قالوا: وكان أوجز الناس كلاماً وبذاك جاءه جبريل وكان مع الإيجاز يجمع كل ما أراد وكان يتكلم بجوامع الكلم لا فضول ولا تقصير كأنه يتبع بعضه بعضاً بين كلامه توقف يحفظه سامعه ويعيه وكان جهير الصوت أحسن الناس نغمة وان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة ولا يقول المنكر ولا يقول في الرضا والغضب إلا الحق ويعرض عمن تكلم بغير جميل ويكنى عما اضطره الكلام إليه مما يكره وكان إذا سكت تكلم جلساؤه ولا يتنازع عنده في الحديث ويعظ بالجد والنصيحة ويقول: "لا تضربوا القرآن بعضه ببعض فإنه أنزل على وجوه" وكان أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما تحدثوا به وخلطاً لنفسه بهم ولربما ضحك حتى تبدو نواجذه، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء به وتوقيراً له، قال: ولقد جاءه أعرابي يوماً وهو عيه السلام متغير اللون ينكره أصحابه فأراد أن يسأله فقالوا: لا تفعل يا أعرابي فإنا ننكر لونه فقال: دعوني فوالذي بعثه بالحق نبياً لا أدعه حتى يتبسم، فقال: يا رسول الله بلغنا أن المسيح يعني الدجال يأتي الناس بالثريد وقد هلكوا جوعاً أفترى لي بأبي أنت وأمي أن أكف عن ثريده تعففاً وتنزهاً حتى أهلك هرالا أم أضرب في ثرده حتى إذا تضلعت شبعاً آمنت بالله وكفرت به? قالوا: فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه ثم قال: "لا بل يغنيك الله بما يغني به المؤمنين" قالوا: وكان من أكثر الناس تبسماً وأطيبهم نفساً ما لم ينزل عليه قرآن أو يذكر الساعة أو يخطب بخطبة عظة وكان إذا سر ورضي فهو أحسن الناس رضاً فإن وعظ وعظ بجد وإن غضب - وليس يغضب إلا الله - لم يقم لغضبه شيء وكذلك كان في أموره كلها وكان إذا نزل به الأمر فوض الأمر إلى الله وتبرأ من الحول والقوة واستنزل الهدى فيقول "اللهم أرني الحق حقاً فأتبعه وأرين المنكر منكراً وأرزقني اجتنابه وأعذني من أن يشتبه علي فأتبع هواي بغير هدى منك واجعل هواي تبعاً لطاعتك وخذ رضا نفسك من نفسي في عافية واهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم".

بيان أخلاقه وآدابه في الطعام

كان ﷺ يأكل ما وجد وكان أحب الطعام إليه ما كان على ضفف والضفف ما كثرت عليه الأيدي، وكان إذا وضعت المائدة قال "بسم الله اللهم اجعلها نعمة مشكورة تصل به نعمة الجنة" وكان كثيراً إذا جلس يأكل يجمع ركبتيه وبين قدميه كما يجلس المصلي إلا أن الركبة تكون فوق الركبة والقدم فوق القدم ويقول: "إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد" وكان لا يأكل الحار ويقول: "إنه غير ذي بركة وإن اله لم يطعمنا ناراً فأبردوه" وكان يأكل مما يليه ويأكل بأصابعه الثلاث وربما استعان بالرابعة ولم يأكل بأصبيعن ويقول: "إن ذلك أكلة الشيطان" وجاءه عثمان بن عفان رضي الله عنه بفالوذج فأكل منه وقال: "ما هذا ياعبد الله?" قال: بأبي أنت وأمي نجعل السمن والعسل في البرمة ونضعها على النار ثم نغليه ثم نأخذ مخ الحنطة إذا طحنت فنقليه على السمن والعسل في البرمة، ثم نسوطه حتى ينضج فيأتي كما ترى فقال رسول الله ﷺ "إن هذا الطعام طيب" وكان يأكل خبر الشعير غير منخول وكان يأكل الغثاء بالرطب وبالملح وكان أحب الفواكه الرطبة إليه البطيخ والعنب وكان يأكل البطيخ بالخبز وبالسكر وربما أكله بالرطب ويستعين باليدين جميعاً، وأكل يوماً الرطب في يمينه وكان يحفظ النوى في يساره فمرت شاة فأشار إليها بالنوى فجعلت تأكل من كفه اليسرى وهو يأكل بيمينه حتى فرغ وانصرفت الشاة، وكان رما أكل العنب خرطاً يرى زؤانه على لحيته كحرز اللؤلؤ وكان أكثر طعامه الماء والتمر وكان يجمع اللبن بالتمر ويسميهما الأطيبين وكان أحب الطعام إليه اللحم ويقول: "هو يزيد في السمع وهو سيد الطعام في الدنيا والآخرة ولو سألت ربي أن يطعمنيه كل يوم لفعل" وكان يأكل الثريد باللحم والقرع وكان يحب القرع ويقول: "إنها شجرة أخي يونس عليه السلام" قالت عائشة رضي الله عنها وكان يقول "يا عائشة إذ طبختم قدراً فأكثروا فيها من الدباء فإنه يشد قلب الحزين" وكان يأكل لحم الطير الذي يصاد وكان لا يتبعه ولا يصيده ويحب أن يصاد له ويؤتى به فيأكله وكان إذا أكل اللحم لم يطأطئ رأسه إليه ويرفعه إلى فيه وفعاثم ينتهشه انتهاشاً وكان يأكل الخبز والسمن وكان يحب من الشاة الذراع والكف، ومن القدر الدباء ومن الخل ومن التمر والعجوة ودعا في العجوة بالبركة وقال: طهي من الجنة وشفاء من السم والسحر" وكان يحب من البقول الهندباء والباذروج والبقلة الحمقاء التي يقال لها الرجلة: وكان يكره الكليتين لمكانهما من البول وكان لا يأكل من الشاة سبعاً: الذكر والأنثيين والمثانة المرارة والغدد والحياء و الدم، ويكره ذلك وكان لا يأكل الثوم ولا البصل ولا الكراث وما ذم طعاماً قط لكن إن أعجبه أكله وإن كرهه تركه وإن عافه لم يبغضه إلى غيره وكان يعاف الضب والطحال ولا يحرمها وكان يعلق بأصابعه الصفحة ويقول: آخر الطعام أكثر بركة. وكان يلعق أصابعه من الطعام حتى تحمر وكان لا يمسح يده بالمنديل حتى يلعق أصابعه واحدة واحدة ويقول: إنه لا يدري في أي الطعام البركة: وإذا فرغ قال: "الحمد لله اللهم لك الحمد أطعمت فأشبعت وسقيت فأروبت لك الحمد غير مكفور ولا مودع ولا مستغنى عنه" وكان إذا أكل الخبز واللحم خاصة غسل يديه غسلاً جيداً ثم يمسح بفضل الماء على وجهه وكان يشرب في ثلاث دفعات وله فيها ثلاث تسميات وفي أواخرها ثلاث تحميدات وأن يمص الماء مصاً ولا يعب عبا وكان يدفع فضل سؤره إلى من على يمينه فإن كان من على يساره أجل رتبة قال للذي على يمينه "السنة أن تعطي فإن أجبت آثرتهم" وربما كان يشرب بنفس واحد حتى يفرغ وكان لا يتنفس في الإناء بل ينحرف عنه وأتى بإناء فيه عسل ولبن فأبى أن يشربه وقال: "شربتان في شربة وإدامان في إناء واحد?" ثم قال ﷺ "لا أحرمه ولكن أكره الفخر والحساب بفضول الدنيا غداً وأحب التواضع فإن من تواضع لله رفعه الله" وكان في بيته أشد حياء من العاتق لا يسألهم طعاماً ولا يتشهاه عليهم إن أطعموه أكل وما أعطوه قبل وما سقوه شرب وكان ربما قام فأخذ ما يأكل بنفسه أو يشرب.

بيان آدابه وأخلاقه في اللباس

كان ﷺ يلبس من الثياب ما وجد من إزار أو رداؤ أو قميص أو جبة أو غير ذلك وكان يعجبه الثياب الخضر وكان أكثر لباسه البياض ويقول: "ألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم" وكان يلبس القباء المحشق للحرب وغير الحرب وكان له قباء سندس فيلبسه فتحسن خضرته على بياض لونه وكانت ثيابه كلها مشمرة فوق الكعبين ويكون الأزار فوق ذلك إلى نصف الساق وكان قميصه مشدود الأزرار وربما حل الأزرار في الصلاة وغيرها وكانت له ملحفة مصبوغه بالزعفران وربما صلى بالناس فيها وحدها وربما ليس الكساء وحده ما عليه غيره وكان له كساء ملبد يلبسه ويقول "إنما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، وكان له ثوبان لجمعته خاصة سوى ثيابه في غير الجمعة، وربما لبس إزار الواحد ليس عليه غيره ويعقد طرفيه بين كتفيه وربما أم به الناس على الجنائز وربما صلى في بيته في الإزار الواحد ملتحفاً به مخالفاً بين طرفيه ويكون ذلك الإزار الذي جامع فيه يومئذ وكان ربما صلى بالليل في الإزار ويرتدي ببعض الثوب مما يلي هدبه ويلقى البقية على بعض نسائه فيصلي كذلك ولقد كان له كساء أسود فوهبه فقالت له أم سلمة: بأبي أنت وأمي ما فعل ذلك الكساء الأسود? فقال: "كسوته" فقالت ما رأيت شيئاً قط كان أحسن من بياضك على سواده وقال أنس: وربما رأيته يصلي بنا الظهر في شملة عاقداً بين طرفيه وكان يتختم وربما خرج وفي خاتمه الخيط المربوط يتذكر به الشيء وكان يتخم به على الكتب ويقول الخاتم على الكتاب خير من التهمة وكان يلبس القلانس تحت العمائم وبغير عمامة، وربما نزع قلنسوته من رأسه فجعلها سترة بين يديه ثم يصلى إليها وربما لم تكن العمامة فيشد العصابة على رأسه وعلى جبهته وكانت له عمامة تسمى: السحاب، فوهبها من علي فربما طلع على فيها فيقول ﷺ "أتاكم علي في السحاب" وكان إذا لبس ثوباً لبسه من قبل ميامنه ويقول: "الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي وأتجمل به في الناس" وإذا نزع ثوبه أخرجه من مياسره وكان إذا لبس جديداً أعطى خلق ثيابه مسكيناً ثم يقول: "ما من مسلم يكسو مسلماً من سمل ثيابه لا يسكوه إلا لله إلا كان في ضمان الله وحرزه وخيره ما واراه حياً وميتاً" وكان له فراش من أدم حشوه ليف طوله ذراعان أو نحوه وعرضه ذراع وشبر أو نحوه وكانت له عباءة تفرش له حيثما تنقل تثنى طاقين تحته وكان ينام على الحصير ليس تحته شيء غيره وكان من خلقه تسمية دوابه وسلاحه ومتاعه، وكان اسم رايته: العقاب. واسم سيفه الذي يشهد به الحروب: ذو الفقار. وكان له سيف يقال له: المخذم. وآخر يقال له: الرسوب: وآخر يقال له القضيب. وكانت قبضة سيفه محلاة بالفضة. وكان يلبس المنطقة من الآدم فيها ثلاث حلق هن فضة وكان اسم قوسه: الكتوم. وجعبته الكافور وكان اسم ناقته: القصواء، وهي التي يقال لها: العضبا اسم بغلته: الدلدل: وكان سام حماره يعفور واسم شاته التي يشرب لبنها عينة وكان له مطهرة من فخار يتوضأ فيها ويشرب منها فيرسل الناس أولادهم الصغار الذين قد عقلوا فيدخلون على رسول الله ﷺ فلا يدفعون عنه فإذا وجدوا في المطهرة ماء شربوا منه ومسحوا على وجوههم وأجسادهم ويبتغون بذلك البركة.

بيان عفوه ﷺ مع قدرته

كان ﷺ أحلم الناس وأرغبهم في العفو مع القدرة حتى أتى بقلائد من ذهب وفضة فقسمها بين أصحابه فقام رجل من أهل البادية فقال: يا محمد والله لئن أمرك الله أن تعدل فما أراك تعدل: فقال؛ ويحك فمن يعدل عليه بعدي، فلما ولي قال "ردوه علي رويداً" وروى جابر: أنه ﷺ كان يقبض للناس يوم خيبر من فضة في ثوب بلال فقال له رجل: يا رسول الله أعدل فقال له رسول الله ﷺ "ويحك فمن يعدل إذا لم أعدل فقد خبت إذن وخسرت إن كنت لا أعدل" فقام عمر فقال: ألا أضرب ععنقه فإنه منافق فقال: معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي: وكان رسول الله ﷺ في حرب فرأوا من المسلمين غرة فجاء رجل حتى قام على رأس رسول الله ﷺ بالسيف وقال: من يمنعك مني? فقال: "الله" فقال: فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله ﷺ السيف وقال: من يمنعك مني? فقال: كن خير أخذ قال: قل أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله: فقال: لا، غير أني لا أقاتلك ولا أكون معك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلي سبيله فجاء أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس وروى أنس: أن يهودية أتت النبي ﷺ بشاة مسمومة ليأكل منها فجيء بها إلى النبي ﷺ فسألها عن ذلك فقالت: أردت قتلك؛ فقال: ما كان الله ليسلطك على ذلك: قالوا: أفلا تقتلها? فقال: لا: وسحره رجل من اليهود فأخبره جبريل عيه أفضل الصلاة والسلام بذلك حتى استخرجه وحل العقد فوجد لذلك خفة ما ذكر ذلك لليهودي ولا أظهره عليه قط وقال علي رضي الله عنه: بعثني رسول الله ﷺ أنا الزبير والمقداد فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها: فانطلقنا حتى أتينا روضة خاخ فقلنا أخرجي الكتاب فقالت: ما معي من كتاب فقلنا: لتخرجن الكتاب أو لننزعن الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي ﷺ فإذا فيه: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم أمراً من أمر رسول الله ﷺ فقال: يا حاطب ما هذا? قال: يا رسول الله لا تعجل علي أني كنت امرأ ملصقاً في قومي وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهلهم فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب منهم أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي، ولم أفعل ذلك كفراً ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ولا ارتداداً عن ديني، فقال رسول الله ﷺ "إنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله عز وجل قد اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" وقسم رسول الله ﷺ قسمة فقال رجل من الأنصار: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله? فذكر ذلك للنبي ﷺ فاحمر وجهه وقال: "رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر" وكان ﷺ يقول: "لا يبلغن أحد منكم من أصحابي شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر".

بيان إغضائه ﷺ عما كان يكرهه

كان رسول الله ﷺ رقيق البشرة لطيف الظاهر والباطن يعرف في وجهه غضبه ورضاه وكان إذا اشتد وجده أكثر من مس لحيته الكريمة وكان لا يشافه أحد بما يكرهه دخل عليه رجل وعليه رجل وعليه صفرة فكرهها فلم يقل له شيئاً حتى خرج فقال لبعض القوم: لو قلتم لهذا أن يدع هذه: يعني الصفرة، وبال أعرابي في المسجد بحضرته فهم به الصحابة فقال ﷺ "لا تزرموه" أي لا تقطعوا عليه البول ثم قال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من القذر والبول والخلاء" وفي رواية "قربوا ولا تنفروا" وجاءه أعرابي يوماً يطلب منه شيئاً فأعطاه ﷺ ثم قال له "أحسنت إليك?" قال الأعرابي وزاده شيئاً ثم قال: "أحسنت إليك?" قال: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال له النبي ﷺ "إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك قال: نعم، فلما كان الغد أو العشى جاء فقال النبي ﷺ "إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه فزعم أنه رضي أكذلك?" فقال الأعرابي: نعم فجزاك الله من أهل وعشيرة خيراً، فقال ﷺ "إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه فاتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفوراً فناداهم صاحب الناقة خلوا بيني وبين ناقتي فإني أرفق بها وأعلم فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها فأخذ لها من قمام الأرض فردها هوناً حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها واستوى عليها وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار".

بيان سخاوته وجوده ﷺ

كان ﷺ أجود الناس وأسخاهم وكان في شهر رمضان كالريح المرسلة لا يمسك شيئاً وكان علي رضي الله عنه إذا وصف النبي ﷺ قال: كان أجود الناس كفاً وأوسع الناس صدراً وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة وألينهم عريكة أكرمهم عشيرة، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفة أحبه، يقول ناعته لم أر قبله ولا بعده مثله وما سئل عن شيء قط على الإسلام إلا أعطاه وأن رجلاً أتاه فسأله فأعطاه غنماً سدت ما بين جبلين فرجع إلى قومه وقال: أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة. وما سئل شيئاً قط فقال لا. وحمل إليه تسعون ألف درهم فوضعها على حصير ثم قام إليها فقسمها فما رد سائلاً حتى فرغ منها وجاء رجل فسأله فقال: "ما عندي شيء ولكن ابتع علي فإذا جاءنا شيء قضيناه" فقال عمر: يا رسول الله ما كلفك الله ما لا تقدر عليه فكره النبي ﷺ ذلك فقال الرجل: أنفق ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً، فتبسم النبي ﷺ وعرف السرور في وجهه ولما قفل م حنين جاءت الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى شجرة فخطفت رداءه فوقف رسول الله ﷺ وقال: "أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاه نعماً لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً".

بيان شجاعته ﷺ

كان ﷺ أنجد الناس وأشجعهم قال علي رضي الله عنه: لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي ﷺ وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس يومئذ بأساً وقال أيضاً: كنا إذا احمر البأس ولقى القوم القوم اتقينا برسول الله ﷺ فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه قيل: وكان ﷺ قليل الكلام قليل الحديث فإذا أمر الناس بالقتال تشمر وكان من أشد الناس بأساً وكان الشجاع هو الذي يقرب منه في الحرب لقربه من العدو وقال عمران بن حصين: ما لقى رسول الله ﷺ كتيبة إلا كان أول من يضرب. وقالوا: كان قوي البطش، ولما غشيه المشركون نزل عن بغلته فجعل يقول: "أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" فما رؤى يومئذ أحد من أشد منه.

بيان تواضعه ﷺ

كان ﷺ أشد الناس تواضعاً في علو منصبه قال ابن عامر: رأيته يرمي الجمرة على ناقة شهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وكان يركب الحمار موكفاً عليه قطيفة وكان منع ذلك يستردف وكان يعود المريض ويتبع الجنازة ويجيب دعوة المملوك ويخصف النعل ويرقع الثوب وكان يصنع في بيته مع أهله في حاجتهم وكان أصحابه لا يقومون له لما عرفوا من كراهته لذلك، وكان يمر على الصبيان فيسلم عليهم وأتى ﷺ برجل فأرعد من هيبته فقال له: هون عليك فلست بملك إنما أنا ابن امرأة من قريش تأكل القديد وكان يجلس بين أصحابه مختلطاً بهم كأنه أحدهم فيأتي الغريب فلا يدري أيهم هو? حتى يسأل عنه حتى طلبوا إليه أن يجلس مجلساً يعرفه الغريب فبنوا له دكاناً من طين فكان يجلس عيه وقالت له عائشة رضي الله عنها كل - جعلني الله فداك - متكئاً فإنه أهون عليك قال: فأصغى رأسه حتى كاد أن تصيب جبهته الأرض ثم قال: بل آكل كما يأكل العبد وأجلس كما يجلس العبد: وكان لا يأكل على خوان ولا سكرجة حتى لحق بالله تعالى. وكان لا يدعوه أحد من أصحابه وغيرهم إلا قال: لبيك: وكان إذا جلس مع الناس إن تكلموا في معنى الآخرة أخذ معهم وإن تحدثوا في طعام أو شراب تحدث معهم وإن تكلموا في الدنيا تحدث معهم رفقاً بهم وتواضعاً لهم وكانوا يتناشدون الشعر بين يديه أحياناً ويذكرون أشياً من أمر الجاهلية ويضحكون فيتبسم هو إذا ضحكوا ولا يزجرهم إلا عن حرام.

بيان صورته وخلقته ﷺ

وكان من صفة رسول الله ﷺ أنه لم يكن بالطويل البائن ولا بالقصير المتردد بل كان ينسب إلى الربعة إذا مشى وحده، ومع ذلك فلم يكن يماشيه أحد من الناس ينسب إلى الطول إلا طاله رسول الله ﷺ ولربما اكتنفه الرجلان الطويلان فيطولهما فإذا فارقاه نسباً إلى الطول ونسب هو عليه السلام إلى الربعة ويقول ﷺ: جعل الخير كله في الربعة.

وأما لونه فقد كان أزهر اللون ولم يكن بالآدم ولا بالشديد البياض، والأزهر هو الأبيض الناصع الذي لا تشوبه صفرة ولا حمرة ولا شيء من الألوان، ونعته عمه أبو طالب فقال: وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل

ونعته بعضهم بأنه مشرب بحمرة فقالوا: إنما كان المشرب منه بالحمرة ما ظهر للشمس والرياح كالوجه والرقبة والأزهر الصافي عن الحمرة ما تحت الثياب منه. وكان عرقه ﷺ في وجهه كاللؤلؤ أطيب من المسك الأذفر.

وأما شعره فقد كان رجل الشعر حسنه ليس بالسبط لا الجعد القطط وكان إذا مشطه بالمشط يأتى كأنه حبك. الرمل. وقيل: كان شعره يضرب منكبيه وأكثر الرواية أنه كان إلى شحمة أذنيه. ربما جعله غدائر أربعاً تخرج كل أذن من بين غديرتين. وربما جعل شعره على أذنيه فتبدو سوالفه تتلألأ. وكان شيبه في الرأس واللحية سبع عشرة شعرة، ما زاد على ذلك.

وكان ﷺ أحسن الناس وجهاً وأنورهم لم يصفه واصف إلا شبه بالقمر ليلة البدر، وكان يرى رضاه وغضبه في وجهه لصفاء بشرته، وكانوا يقولون هو كما وصفه صاحبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه حيث يقول: أمين مصطفى للخير يدعو كضوء البدر زايله الظلام

وكان ﷺ واسع الجبهة أزج الحاجبين سابغهما وكان أبلج ما بين الحاجبين كأن ما بينهما الفضة الخلصة، وكانت عيناه نجلاوين أدعجهما وكان في عينيه تمزج من حمرة، وكان أهدب الأشفار حتى تكاد تلتبس من كثرتها، وكان أقنى العرنين - أي مستوى الأنف - وكان مفلج الأسنان - أي متفرقها - وكان إذا افتر ضاحكاً افتر بالطويل الوحه ولا المكلثم، كث اللحية، وكان يعفى لحيته ويأخذ من شاربه، وكان أحسن عباد الله عنقاً لا ينسب إلى الطول ولا إلى القصر، ما ظهر من عنقه للشمس والرياح فكأنه إبريق فضة مشرب ذهباً يتلألأ في بياض الفضة وفي حمرة الذهب، وكان ﷺ عريض الصدر لا يعدو لحم بعض بدنه بعضاً كالمرآة في استوائها وكالقمر في بياضه موصول ما بين لبته وسرته بشعر منقاد كالقضيب لم يكن في صدره ولا بطنه شعر غيره، وكانت له عن ثلاث يغطي الإزار منها واحدة ويظهر اثنتان، وكان عظيم المنكبين أشعرهما ضخم الكراديس - أي رءوس العظام من المنكبين والمرفقين والوركين - وكان واسع الظهر ما بين كتفيه خاتم النبوة وهو مما يلي منكبه الأيمن فيه شامة سوداء تضرب إلى الصفرة حولها شعرات متواليات كأنها من عرف فرس، وكان عبل العضدين والذراعين طويل الزندين رحب الراحتين سائل الأطراف كأن أصابعه قضبان الفضة، كفه ألين من الخز، كأن كفه كف عطار طيباً - مسها بطيب أو لم يمسها - يصافحه المصافح فيظل يومه يجد ريحها ويضع يده على رأس الصبي فيعرف من بين الصبيان بريحها على رأسه، وكان عبل ما تحت الإزار ن الفخذين والساق، وكان معتدل الخلق في السمن بدن في آخر زمانه وكان لحمه متماسكاً يكاد يكون على الخلق الأول لم يضره السمن.

وأما مشيه ﷺ فكان يمشي كأنما يتقلع من صخر وينحدر من صبب يخطو تكفياً ويمشي الهوينى بغير تبختر - والهوينى تقارب الخطا - وكان عليه الصلاة والسلام يقول: "أنا أشبه الناس بآدم ﷺ وكان أبي إبراهيم ﷺ أشبه الناس بي خلقاً وخلقاً" وكان يقول: "إن لي عند ربي عشرة أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا العاقب الذي ليس بعده أحد، وأنا الحاشر يحشر الله العباد على قدمى، وأنا رسول الرحمة ورسول التوبة ورسول الملاحم والمقفى قفيت الناس جميعاً وأنا قثم" قال البحتري والقثم الكامل الجامع، والله أعلم.

بيان معجزاته وآياته الدالة على صدقه

اعلم أن من شاهد أحواله ﷺ وأصغى إلى سماع أخباره المشتملة على أخلاقه وأفعاله وأحواله وعادياته وسجاياه وسياسته لأصناف الخلق وهدايته إلى ضبطهم وتألفه أصناف الخلق وقوده إياهم إلى طاعته مع ما يحكى من عجائب أجوبته في مضايق الأسئلة وبدائع تدبيراته في مصالح الخلق ومحاسن إشاراته في تفصيل ظاهر الشرع الذي يعجز الفقهاء والعقلاء عن إدراك أوائل دقائقها في طول أعمارهم، لم يبق له ريب ولا شك في أن ذلك لم يكن مكتسباً بحيلة تقوم بها القوة البشرية، بل لا يتصور ذلك إلا بالاستمداد من تأييد سماوي وقوة إلهية، وأن ذلك كله لا يتصور لكذاب ولا ملبس، بل كانت شمائله وأحواله شواهد قاطعة بصدقه حتى أن العربي القح كان يراه فيقول: والله ما هذا وجه كذاب فكان يشهد له بالصدق بمجرد شمائله فكيف من شاهد أخلاقه ومارس أحواله في جميع مصادره وموارده? وإنما أوردنا بعض أخلاقه لتعرف محاسن الأخلاق وليتنبه لصدقه عليه الصلاة والسلام وعلوا منصبه ومكانته العظيمة عند الله؛ إذ آتاه الله جميع ذلك وهو رجل أمي لم يمارس العلم ولم يطالع الكتب ولم يسافر قط ي طلب علم ولم يزل بين أظهر الجهال من الأعراب يتيماً فضلاً عن معرفة الله تعالى وملائكته وكتبه وغير ذلك من خواص النبوة لولا صريح الوحي? ومن لقوة البشر الاستقلال بذلك? فلو لم يكن له إلا هذه الأمور الظاهرة لكان فيه كفاية. وقد ظهر من آياته ومعجزاته ما لا يستريب فيه محصل، فلنذكر من جملتها ما استفاضت به الأخبار واشتملت عليه الكتب الصحيحة إشارة إلى مجامعها من غير تطويل بحكاية التفصيل.

فقد خرق الله العادة على يده غير مرة؛ إذ شق له القمر بمكة لما سألته قريش آية وأطعم النفر الكثير في منزل جابر وفي منزل أبي طلحة ويوم الخندق ومرة أطعم ثمانين من أربعة أمداد شعير وعناق وهو من أولاد المعز فوق العتود، ومرة أكثر من ثمانين رجلاً من أقراص شعير حملها أنس في يده ومرة أهل الجيش من تمر يسير ساقته بنت بشير في يدها فأكلوا كلهم حتى شبعوا من ذلك وفضل لهم ونبع الماء من بين أصابعه عليه السلام فشرب أهل العسكر كلهم وهم عطاش، وتوضئوا من قدح صغير ضاق عن أن يبسط عليه السلام يده فيه وأهراق عليه السلام وضوءه في عين تبوك ولا ماء فيها، ومرة أخرى في بئر الحديبية فجاشتا بالماء؛ فشرب من عين تبوك أهل الجيش وهم ألوف حتى رووا وشرب من بئر الحديبية ألف وخمسمائة ولم يكن فيها قبل ذلك ماء وأمر عليه السلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يزود أربعمائة راكب من تمر كان في اجتماعه كربضة البعير - وهو موضع بروكه - فزودهم كلهم منه وبقي منه فحبسه ورمى الجيش بقبضته من تراب فعميت عيونهم ونزل بذلك القرآن في قوله تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى" وأبطل الله تعالى الكهانة بمبعثه ﷺ فعدمت وكان ظاهرة موجودة وحن الجذع الذي كان يخطب إليه لما عمل له المنبر حتى سمع منه جميع أصحابه مثل صوت الإبل فضمه إليه فسكن ودعا اليهود إلى تمني الموت وأخبرهم بأنهم لا يتمنونه فحيل بينهم وبين النطق بذلك وعجزوا عنه. وهذا مذكور في سورة يقرأ بها في جميع جوامع الإسلام من شرق الأرض إلى غربها يوم الجمعة - جهراً - تعظيماً للآية التي فيها.

وأخبر عليه السلام بالغيوب وأنذر عثمان بأن تصيبه بلوى بعدها الجنة وبأن عمار اتقتله الباغية وأن الحسن يصلح الله به فئتين من المسلمين عظيمتين وأخبر عليه السلام عن رجل قاتل في سبيل الله أنه من أهل النار فظهر ذلك بأن ذلك الرجل قتل نفسه وهذه كلها أشياء إلهية لا تعرف البتة بشيء من وجوه تقدمت المعفة بها لا بنجوم ولا بكشف ولا بخط ولا بزجر لكن بإعلام الله تعالى له ووحيه إليه. واتبعه سراقة بن مالك فساخت قدماً فرسه في الأرض وأتبعه دخان حتى استغاثه فدعا له فانطلق الفرس، وأنذره بأن سيوضع في ذراعيه سواراً كسرى فكان كذلك وأخبر بمقتل الأسود العنسي الكذاب ليلة قتله وهو بصنعاء اليمن وأخبر بمن قتله وخرج على مائة من قريش ينتظرونه فوضع التراب على رءوسهم ولم يروه وشكا إليه البعير بحضرة أصحابه وتذلل له وقال لنفر من أصحابه مجتمعين "أحدكم في النار ضرسه مثل أحد فماتوا كلهم على استقامة وارتد منهم واحد فقتل مرتداً" وقال لآخرين منهم: آخركم موتاً ي النار؛ فسقط آخرهم موتاً في النار فاحترق فيها فمات ودعا شجرتين فأتتاه واجتمعتا ثم أمرهما فافترقتا. وكان عيه السلام نحو الربعة فإذا مشى مع الطوال طالهم ودعا عليه السلام النصارى إلى المباهلة فامتنعوا فعرفهم ﷺ أنهم إن فعلوا ذلك هلكوا فعلموا صحة قوله فمتنعوا وأتاه عامر بن الطفيل بن مالك وأربد بن قيس وهما فارسا العرب وفاتكاهم عازمين على قتله عليه السلام فحيل بينهما وبين ذلك ودعا عليهما فهلك عامر بغدة وهلك أربد بصاعقة أحرقته وأخبر عليه السلام أنه يقتل أبي بن خلف الجمحي فخدشه يوم أحد خدشاً لطيفاً فكانت منيته فيه.

وأعم عليه الصلاة والسام السم فمات الذي أكله معه وعاش هو ﷺ بعده أربع سنين، وكلمه الذراع المسموم.

وأخبر عليه السلام يوم بدر بمصارع صناديد قريش ووقفهم على مصارعهم رجلاً رجلاً فلم يتعدوا واحد منهم ذلك الموضع وأنذر عليه السلام بأن طوائف من أمته يغزون في البحر فكان كذلك وزويت له الأرض فأرى مشارقها ومغاربها وأخبر بأن ملك أمته سيبلغ ما زوى له منها فكان كذلك فقد بلغ ملكهم من أول المشرق: من بلاد الترك إلى آخر المغرب من بحر الأندلس وبلاد البربر ولم يتسعوا في الجنوب ولا في الشمال - كما أخبر ﷺ سواء بسواء. وأخبر فاطمة ابنته رضي الله عنها بأنها أول أهله لحاقاً به فكان كذلك ?. وأخبر نساءه بأن أطولهن يداً أسرعهن لحاقاً به فكانت زينب بنت جحش الأسدية أطولهن يداً بالصدقة أولهن لحوقاً به رضي الله عنها.

ومسح ضرع شاة حائل لا لبن لها فدرت وكان ذلك سبب إسلام ابن مسعود رضي الله عنه. وفعل ذلك مرة أخرى في خيمة أم معبد الخزاعية. وندرت عين بعض أصحابه فسقطت فردها عليه السلام بيده فكانت أصح عينيه وأحسنهما وتفل في عين على رضي الله عنه وهو أرمد يوم خيبر فصح من وقته وبعثه بالراية وكانوا يسمعون تسبيح الطعام بين يديه ﷺ وأصيبت رجل بعض أصحابه ﷺ فمسحها بيده فبرات من حيثها وقل زاد جيش كان معه عليه السلام فدعا بجميع ما بقي فاجتمع شيء يسير جداً فدعا فيه بالبركة، ثم أمرهم فأخذوا فلم يبق وعاء في العسكر إلا ملئ من ذلك وحكى الحكم بن العاص بن وائل: مشيته عليه السلام مستهزئاً فقال ﷺ: كذلك فكن: فلم يزل يرتعس حتى مات وخطب عليه السلام امرأة فقال له أبوها: إن بها برصاً - امتناعاً من خطبته واعتذاراً - ولم يكن بها برص فقال عليه السلام: فلتكن كذلك: فبرصت وهي أم شبيب بن البرصاء الشاعر. إلى غير ذلك من آياته ومعجزاته ﷺ، وإنما اقتصرنا على المستفيض. ومن يستريب في انخراق العادة على يده ويزعم أن آحاد هذه الوقائع لم تنقل تواتراً بل المتواتر هو القرآن فقط كمن يستريب في شجاعة علي رضي الله عنه وسخاوة حاتم الطائي ومعلوم أن آحاد وقائعهم غير متواترة ولكن مجموع الوقائع يورث علماً ضرورياً ثم لا يتمارى في تواتر القرآن وهي المعجزة الكبرى الباقية بين الخلق: وليس لنبي معجزة باقية سواه ﷺ إذ تحدى بها رسول الله ﷺ بلغاء الخلق وفصحاء العرب وجزيرة العرب حينئذ مملوءة بآلاف منهم والفصاحة صنعتهم وبها منافستهم ومباهاتهم. وكان ينادي بين أظهرهم "أن يأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً". وقال ذلك تعجيزاً لهم فعجزوا عن ذلك وصرفوا عنه حتى عرضوا أنفسهم للقتل ونساءهم وذراريهم للسبي؛ وما استطاعوا أن يعارضوا ولا أن يقدحوا في جزالته وحسنه ثم انتشر ذلك بعده في أقطار العالم شرقاً وغرباً قرناً بعد قرن وعصراً بعد عصر وقد انقرض اليوم قريب من خمسمائة سنة ولم يقدر أحد على معارضته.

فأعظم بغباوة من ينظر في أحواله، ثم في أقواله، ثم في أفعاله، ثم في أخلاقه، ثم في معجزاته، ثم في استمرار شرعه إلى الآن، ثم في انتشاره في أقطار العالم، ثم في إذعان ملوك الأرض له في عصره وبعد عصره مع ضعفه ويتمه ثم يتمارى بعد ذلك في صدقه.

وما أعظم توفيق من آمن به وصدقه واتبعه في كل ما ورد وصدر فنسأل الله تعالى أن يوفقنا للإقتداء به في الأخلاق والأفعال والأحوال والأقوال بمنه وسعة جوده انه سميع مجيب.

=====

وهو الكتاب الأول من ربع المهلكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي تتحيز دون إدراك جلاله القلوب والخواطر، وتدهش في مبادئ إشراق أنواره الأحداث والنواظر، المطلع على خفيات السرائر، العالم بمكنونات االضمائر، المستغني في تدبير مملكته عن المشاور والموازر، مقلب القلوب وغفار الذنوب، وستار العيوب، ومفترج الكروب.

والصلاة على سيد المرسلين، وجامع شمل الدين، وقاطع دابر الملحدين. وعلى آله الطيبين الطاهرين، وسلم كثيراً.

أما بعد: فشرف الإنسان وفضيلته التي فاق بها جملة من أصناف الخلق باستعداده لمعرفة الله سبحانه، التي هي في الدنيا جماله وكماله وفخره، وفي الآخرة عدته وذخره، وإنما استعد للمعرفة بقلبه لا بجارحة من جوارحه؛ فالقلب هو العالم بالله. وهو المتقرب إلى الله؛ وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو المكاشف بما عند الله ولديه، وإنما الجوارح أتباع وخدم وآلات، يستخدمها القلب ويستعملها استعمال المالك للعبد واستخدام الراعي للرعية والصانع للآلة؛ فالقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقاً بغير الله، وهو المطالب وهو المخاطب وهو المعاتب وهو الذي يسعد بالقرب من الله فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه؛ وهو المطيع بالحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره، وهو العاصي المتمرد على الله تعالى وإنما الساري إلى الأعضاء من الفواحش آثاره؛ وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء ينضح بما فيه، وهو الذي إذا عرفه الإنسان فقد عرف نفسه، وإذا عرف نفسه فقد عرف ربه، وهو الذي إذا جهله الإنسان فقد جهل نفسه، وإذا جهل نفسه فقد جهل ربه، ومن جهل قلبه فهو بغيره أجهل، إذ أكثر الخلق جاهلون بقلوبهم وأنفسهم، وقد حيل بينهم وبين أنفسهم، فإن الله يحول بين المرء وقلبه. وحيلولته بأن بمنعه عن مشاهدته ومراقبته ومعرفة صفاته وكيفية تقلبه بين إصبعين مع أصابع الرحمن، وأنه كيف يهوى مرة إلى أسفل السافلين وينخفض إلى أفق الشياطين، وكيف يرتفع أخرى إلى أعلى عليين ويرتقي إلى عالم الملائكة المقربين. ومن لم يعرف قلبه ليراقبه ويراعيه ويترصد لما يلوح من خزائن الملكوت عليه وفيه، فهو ممن قال الله تعالى فيه "نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" فمعرفة القلب وحقيقة أوصافه أصل الدين وأساس طريق السالكين.

وإذ فرغنا من الشطر الأول من هذا الكتاب من النظر فيما يجري على الجوارح من العبادات والعادات - وهو العلم الظاهر، ووعدنا أن نشرح في الشطر الثاني ما يجري على القلب من الصفات المهلكات والمنجيات - وهو العلم الباطن؛ فلا بد أن نقدم عليه كتابين: كتاباً في شرح عجائب صفات القلب وأخلاقه، وكتاباً في كيفية رياضة القلب وتهذيب أخلاقه. ثم نندفع بعد ذلك في تفصيل المهلكات والمنجيات.

فلنذكر الآن من شرح عجائب القلب بطريق ضرب الأمثال ما يقرب من الأفهام، فإن التصريح بعجائبه وأسراره الداخلة في جملة عالم الملكوت مما يكل عن دركه أكثر الأفهام.

بيان معنى النفس والروح والقلب والعقل

وما هو المراد بهذه الأسامي

اعلم أن هذه الأسماء الأربعة تستعمل في هذه الأبواب، ويقل في فحول العلماء من يحيط بهذه الأسامي واختلاف معانيها وحدودها ومسمياتها، وأكثر الأغاليط منشؤها الجهل بمعنى هذه الأسامي واشتراكها بين مسميات مختلفة. ونحن نشرح في معنى هذه الأسامي ما يتعلق بغرضنا:

اللفظ الأول: لفظ القلب، وهو يطلق لمعنيين "أحدهما اللحم الصنوبري الشكل المودع في الجانب الأيسر من الصدر، وهو لحم مخصوص، وفي باطنه تجويف، وفي ذلك التجويف دم أسود هو منبع الروح ومعدنه، ولسنا نقصد الآن شرح شكله وكيفيته، إذ يتعلق به غرض الأطباء ولا يتعلق به الأغراض الدينية. وهذا القلب موجود للبهائم، بل هو موجود للميت. ونحن إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب لم نعن به ذلك؛ فإنه قطعة لحم لا قدر له، وهو من عالم الملك والشهادة إذ تدركه البهائم بحاسة البصر فضلاً عن الآدميين. "والمعنى الثاني هو لطيفة ربانية روحانية لها بهذا القلب الجسماني تعلق، وتلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان وهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب. ولها علاقة مع القلب الجسماني، وقد تحيرت عقول أكثر الخلق في إدراك وجه علاقته؛ فإن تعلقه به يضاهي تعلق الأعراض بالأجسام والأوصاف بالموصوفات، أو تعلق المستعمل للآلة بالآلة. أو تعلق المتمكن بالمكان، وشرح ذلك مما نتوقاه لمعنيين: أحدهما أنه متعلق بعلوم المكاشفة، وليس غرضنا من هذا الكتاب إلا علوم المعاملة والثاني أن تحقيقه يستدعي إفشاء سر الروح وذلك مما لم يتكلم فيه رسول الله ﷺ؛ فليس لغيره أن يتكلم فيه، والمقصود أنا إذا أطلقنا لفظ القلب في هذا الكتاب أردنا به هذه اللطيفة وغرضنا ذكر أوصافها وأحوالها لا ذكر حقيقتها في ذاتها وعلم المعاملة يفتقر إلى معرفة صفاتها وأحوالها ولا يفتقر إلى ذكر حقيقتها.

اللفظ الثاني: الروح، وهو أيضاً يطلق فيما يتعلق بجنس غرضنا لمعنيين: أحدهما جسم لطيف منبعه تجويف القلب الجسماني، فينشر بواسطة العروق الضوارب إلى سائر أجزاء البدن، وجريانه في البدن وفيضان أنوار الحياة والحس والبصر والسمع والشم منها على أعضائها، يضاهي فيضان النور من السراج الذي يدار في زوايا البيت؛ فإنه لا ينتهي إلى جزء من البيت إلا ويستنير به، والحياة مثالها النور الحاصل في الحيطان، والروح مثالها السراج، وسريان الروح وحركته في الباطن مثال حركة السراج في جوانب البيت بتحريك محركه، والأطباء إذا أطلقوا لفظ الروح أرادوا به هذا المعنى: وهو بخار لطيف أنضجته حرارة القلب، وليس شرحه من غرضنا، إذ المتعلق به غرض الأطباء الذين يعالجون الأبدان؛ فأما غرض أطباء الدين المعالجين للقلب حتى ينساق إلى جوار رب العالمين، فليس يتعلق بشرح هذه الروح أصلاً. المعنى الثاني هو اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان، وهو الذي شرحناه في أحد معاني القلب، وهو الذي أراده الله تعالى بقوله "قل الروح من أمر ربي وهو أمر عجيب رباني تعجز أكثر العقول والأفهام عن درك حقيقته.

اللفظ الثالث: النفس، وهو أيضاً بين معان، ويتعلق بغرضنا منه معنيان: "أحدهما" أنه يراد به المعنى الجامع لقوة الغضب والشهوة في الإنسان على ما سيأتي شرحه، وهذا الاستعمال هو الغالب على أهل التوصف؛ لأنهم يريدون بالنفس الأصل الجامع للصفات المذمومة من الإنسان، فيقولون: لا بد من مجاهدة النفس وكسرها، وإليه الإشارة بقوله عليه السلام "أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك" . "المعنى الثاني" هي اللطيفة التي ذكرناها التي هي الإنسان بالحقيقة، وهي نفس الإنسان وذاته، ولكنها توصف بأوصاف مختلفة بحسب اختلاف أحوالها؛ فإذا سكنت تحت الأمر وزايلها الاضطراب بسبب معارضة الشهوات سميت النفس المطمئنة. قال الله تعالى في مثلها "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" والنفس بالمعنى الأول لا يتصور رجوعها إلى الله تعالى؛ فإنها مبعدة عن الله، وهي من حزب الشيطان. وإذا لم يتم سكونها ولكنها صارت مدافعة للنفس الشهوانية ومعترضة عليها سميت النفس اللوامة؛ لأنها تلوم صاحبها عند تقصيره في عبادة مولاه. قال الله تعالى "ولا أقسم بالنفس اللوامة" وإن تركت الاعتراض وأذعنت وأطاعت لمقتضى الشهوات ودواعي الشيطان سميت النفس الأمارة بالسوء. قال الله تعالى إخباراً عن يوسف عليه السلام أو امرأة العزيز "وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء" وقد يجوز أن يقال: المراد بالأمارة بالسوء: هي النفس بالمعنى الأول، فإذن النفس بالمعنى الأول مذمومة غاية الذم، وبالمعنى الثاني محمودة لأنها نفس الإنسان أي ذاته وحقيقته العالمة بالله تعالى وسائر المعلومات.

اللفظ الرابع: العقل، وهو أيضاً مشترك لمعان مختلفة ذكرناها في كتاب العلم، والمتعلق بغرضنا من جملتها معنيان: "أحدهما" أنه قد يطلق ويراد به العلم بحقائق الأمور، فيكون عبارة عن صفة العلم الذي محله القلب. "والثاني" أنه قد يطلق ويراد به المدرك للعلوم فيكون هو القلب أعني تلك اللطيفة. ونحن نعلم أن كل عالم فله في نفسه وجود هو أصل قائم بنفسه، والعلم صفة حالة فيه، والصفة غير الموصوف، والعقل قد يطلق ويراد به صفة العالم، وقد يطلق ويراد به محل الإدراك أعني المدرك، وهو المراد بقوله ﷺ:" أول ما خلق الله العقل": فإن العلم عرض لا يتصور أن يكون أول مخلوق، بل لا بد وأن يكون المحل مخلوقاً قبله أو معه، ولأنه لا يمكن الخطاب معه. وفي الخبر: أنه قال له تعالى أقبل فأقبل، ثم قال له أدبر فأدبر.. الحديث.

فإذن قد انكشف لك أن معاني هذه الأسماء موجودة: وهي القلب الجسماني، والروح الجسماني، والنفس الشهوانية، والعلوم. فهذه أربعة معان يطلق عليها الألفاظ الأربعة، ومعنى خامس: وهي اللطيفة العالمة المدركة من الإنسان. والألفاظ الأربعة بجملتها تتوارد عليها، فالمعاني خمسة، والألفاظ أربعة، وكل لفظ أطلق لمعنيين، وأكثر العلماء قد التبس عليهم اختلاف هذه الألفاظ وتواردها؛ فتراهم يتكلمون في الخواطر ويقولون: هذا خاطر العقل، وهذا خاطر الروح، وهذا خاطر القلب، وهذا خاطر النفس، وليس يدري الناظر اختلاف معاني هذه الأسماء، ولأجل كشف الغطاء عن ذلك قدمنا شرح هذه الأسامي، وحيث ورد في القرآن والسنة لفظ القلب، فالمراد به المعنى الذي يفقه من الإنسان ويعرف حقيقة الأشياء، وقد يكنى عنه بالقلب الذي في الصدر، لأن بين تلك اللطيفة وبين جسم القلب علاقة خاصة، فإنها وإن كانت متعلقة بسائر البدن ومستعملة له ولكنها تتعلق به بواسطة القلب، فتعلقها الأول بالقلب وكأنه محلها ومملكتها وعالمها ومطيتها، ولذلك شبه سهل التستري القلب بالعرش، والصدر بالكرسي فقال: القلب هو العرش والصدر هو الكرسي، ولا يظن به أنه يرى أنه عرش الله وكرسيه فإنه ذلك محال، بل أراد به أنه مملكة الإنسان والمجرى الأول لتدبيره وتصرفه، فهمابالنسبة إليه كالعرش والكرسي بالنسبة إلى الله تعالى، ولا يستقيم هذا التشبيه أيضاً إلا من بعض الوجوه، وشرح ذلك أيضاً لا يليق بغرضنا فلنجاوزه.

بيان جنود القلب

قال الله تعالى "وما يعلم جنود ربك إلا هو" فلله سبحانه في القلوب والأرواح وغيرها من العوالم جنود مجندة لا يعرف حقيقتها وتفصيل عددها إلا هو. ونحن الآن نشير إلى بعض جنود القلب، فهو الذي يتعلق بغرضنا. وله جندان: جند يرى بالأبصار، وجند لا يرى إلا بالبصائر، وهو في حكم الملك، والجنود في حكم الخدم والأعوان، فهذا معنى الجند: فأما جنده المشاهد بالعين فهو اليد والرجل والعين والأذن واللسان وسائر الأعضاء الظاهرة والباطنة، فإن جميعها خادمة للقلب ومسخرة له، فهو المتصرف فيها والمردد لها، وقد خلقت مجبولة على طاعته لا تستطيع له خلافاً ولا عليه تمرداً، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت، وإذا أمر الرجل بالحركة تحركت، وإذا أمر اللسان بالكلام وجزم الحكم به تكلم، وكذا سائر الأعضاء. وتسخير الأعضاء والحواس للقلب يشبه من وجه تسخير الملائكة لله تعالى، فإنهم مجبولون على الطاعة لا يستطيعون له خلافاً، بل لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وإنما يفترقان في شيء: وهو أن الملائكة عليهم السلام عالمة بطاعتها وامتثالها، والأجفان تطيع القلب في الانفتاح والإنطباق على سبيل التسخير ولا خبر لها من نفسها ومن طاعتها للقلب، وإنما افتقر القلب إلى هذه الجنود من حيث افتقاره إلى المركب والزاد لسفره الذي لأجله خلق، وهو السفر إلى الله سبحانه وقطع المنازل إلى لقائه، فلأجله خلقت القلوب. قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" وإنما مركبه البدن وزاده العلم. وإنما الأسباب التي توصله إلى الزاد وتمكنه من التزود منه هو العمل الصالح، وليس يمكن العبد أن يصل إلى الله سبحانه ما لم يسكن البدن ولم يجاوز الدنيا، فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى، فالدنيا مزرعة الآخرة، وهي منزل من منازل الهدى، وإنما سميت دنيا: لأنها أدنى المنزلتين، فاضطر إلى أن يتزود من هذا العالم، فالبدن مركبه الذي يصل به إلى هذا العالم، فافتقر إلى تعهد البدن وحفظه، وإنما يحفظ البدن بأن يجلب إليه ما يوافقه من الغذاء وغيره، وأن يدفع عنه ما ينافيه من أسباب الهلاك، فافتقر لأجل جلب الغذاء إلى جندين: باطن: وهو الشهوة. وظاهر، وهو اليد والأعضاء الجالبة للغذاء، فخلق في القلب من الشهوات ما احتاج إليه، وخلقت الأعضاء التي هي آلات الشهوات فافتقر لأجل دفع المهلكات إلى جندين: باطن، وهو الغضب الذي به يدفع المهلكات وينتقم من الأعداء، وظاهر، وهو اليد والرجل اللذين بهما يعمل بمقتضى الغضب، وكل ذلك بأمور خارجة؛ فالجوارح من البدن كالأسلحة وغيرها، ثم المحتاج إلى الغذاء ما لم يعرف الغذاء لم تنفعه شهوة الغذاء وإلفه، فافتقر للمعرفة إلى جندين: باطن، وهو إدراك السمع والبصر والشم واللمس والذوق: وظاهر، وهو العين والأذن والأنف وغيرها. وتفصيل وجه الحاجة إليها ووجه الحكمة فيها يطول ولا تحويه مجلدات كثيرة. وقد أشرنا إلى طرف يسير منها في كتاب الشكر فليقتنع به.

فجملة جنود القلب تحصرها ثلاثة أصناف: صنف باعث ومستحث: إما إلى جلب النافع الموافق كالشهوة، وإما إلى دفع الضار المنافي كالغضب، وقد يعبر عن هذا الباعث بالإرادة. والثاني: هو المحرك للأعضاء إلى تحصيل هذه المقاصد، ويعبر عن هذا الثاني بالقدرة: وهي جنود مبثوثة في سائر الأعضاء لا سيما العضلات منها والأوتار. والثالث: هو المدرك المتعرف للأشياء كالجواسيس: وهو قوة البصر والسمع والشم والذوق واللمس وهي مبثوثة في أعضاء معينة، ويعبر عن هذا بالعلم والإدراك، ومع كل واحد من هذه الجنود الباطنة جنود ظاهرة وهي الأعضاء المركبة من الشحم واللحم والعصب والدم والعظم التي أعدت آلات لهذه الجنود، فإن قوة البطش إنما هي بالأصابع، وقوة البصر إنما هي بالعين، وكذا سائر القوى، ولسنا نتكلم في الجنود الظاهرة أعني الأعضاء فإنها من عالم الملك والشهادة، وإنما نتكلم الآن فيما أيدت به من جنود لم تروها. وهذا الصنف الثالث وهو المدرك من هذه الجملة ينقسم إلى ما قد أسكن المنازل الظاهرة وهي الحواس الخمس: أعني السمع والبصر والشم والذوق واللمس وإلى ما سكن منازل باطنة: وهي تجاويف الدماغ، وهي أيضاً خمسة، فإن الإنسان بعد رؤية الشيء يغمض عينه فيدرك صورته في نفسه وهو الخيال، ثم تبقى تلك الصورة معه بسبب شيء يحفظه وهو الجند الحافظ، ثم يتفكر فيما حفظة فيركب بعض ذلك إلى البعض، ثم يتذكر ما قد نسيه ويعود إليه، ثم يجمع جملة معاني المحسوسات في خياله بالحس المشترك بين المحسوسات؛ ففي الباطن حس مشترك وتخيل وتفكر وتذكر وحفظ، ولولا خلق الله قوة الحفظ والفكر والذكر والتخيل لكان الدماغ يخلوا عنه كما تخلو اليد والرجل عنه؛ فتلك القوى أيضاً جنود باطنة وأماكنها أيضاً باطنه، فهذه هي أقسام جنود القلب، وشرح ذلك بحيث يدركه فهم الضعفاء بضرب الأمثلة يطول. ومقصود مثل هذا الكتاب أن ينتفع به الأقوياء والفحول من العلماء، ولكنا نجتهد في تفهيم الضعفاء بضرب الأمثلة ليقرب ذلك من أفهامهم.

بيان أمثلة القلب مع جنوده الباطنة

اعلم أن جندي الغضب والشهوة قد ينقادان للقلب انقياداً تاماً، فيعينه ذلك على طريقه الذي يسلكه وتحسن مرافقتهما في السفر الذي هو بصدده، وقد يستعصيان عليه استعصاء بغي وتمرد حتى يملكاه ويستعبداه، وفيه هلاكه وانقطاعه عن سفره الذي به وصوله إلى سعادة الأبد، وللقلب جند آخر: وهو العلم والحكمة والتفكر، كما سيأتي شرحه، وحقه أن يستعين بهذا الجند فإنه حزب الله تعالى على الجندين الآخرين، فإنهما قد يلتحقان بحزب الشيطان. فإن ترك الاستعانة وسلط على نفسه جند الغضب والشهوة هلك يقيناً وخسر خسراناً مبيناً، وذلك حالة أكثر الخلق، فإن عقولهم صارت مسخرة لشهواتهم في استنباط الحيل لقضاء الشهوة، وكان ينبغي أن تكون الشهوة مسخرة لعقولهم فيما يفتقر العقل إليه، ونحن نقرب إلى فهمك بثلاثة أمثلة:

المثال الأول: أن نقول: مثل نفس الإنسان في بدنه أعني بالنفس اللطيفة المذكورة كمثل ملك في مدينته ومملكته فإن البدن مملكة النفس وعالمها ومستقرها ومدينتها، وجوارحها وقواها بمنزلة الصناع والعملة، والقوة العقلية المفكرة له كالمشير الناصح والوزير العاقل. والشهوة له كالعبد السوء يجلب الطعام والميرة إلى المدينة، والغضب والحمية له كصاحب الشرطة. والعبد الجالب للميرة كذاب مكار خداع خبيث يتمثل بصورة الناصح وتحت نصحه الشر الهائل والسم القاتل، وديدنه وعادته منازعة الوزير الناصح في آرائه وتدبيراته حتى لا يخلو من منازعته ومعارضته ساعة، كما أن الوالي في مملكته إذا كان مستغنياً في تدبيراته بوزيره مستشيراً له ومعرضاً عن إشارة هذا العبد الخبيث، مستدلاً بإشارته في أن الصواب في نقيض رأيه، أدبه صاحب شرطته وساسه لوزيره وجعله مؤتمراً له مسلطاً من جهته على هذا العبد الخبيث وأتباعه وأنصاره، حتى يكون العبد مسوساً لا سائساً، ومأموراً مدبراً لا أميراً مدبراً، استقام أمر بلده وانتظم العدل بسببه؛ فكذا النفس متى استعانت بالعقل، وأدبت بحمية الغضب، وسلطتها على الشهوة، واستعانت بإحداهما على الأخرى تارة بأن تقلل مرتبة الغضب وغلوائه بمخالفة الشهوة واستدراجها، وتارة بقمع الشهوة وقهرها بتسليط الغضب والحمية عليها وتقبيح مقتضياتها، اعتدلت قواها وحسنت أخلاقها، ومن عدل عن هذه الطريقة كان كمن قال الله تعالى فيه "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم" وقال تعالى "واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث" وقال عز وجل فيمن نهى النفس عن الهوى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوي" وسيأتي كيفية مجاهدة هذه الجنود وتسليط بعضها على بعض في كتاب رياضة النفس إن شاء الله تعالى.

المثال الثاني: اعلم أن البدن كالمدينة والعقل - أعني المدرك - من الإنسان كملك مدبر لها، وقواه المدركة من الحواس الظاهرة والباطنة كجنوده وأعوانه، وأعضاؤه كرعيته، والنفس الأمارة بالسوء التي هي الشهوة والغضب كعدو ينازعه في مملكته ويسعى في إهلاك رعيته، فصار بدنه كرباط وثغر، ونفسه كمقيم فيه مرابط، فإن هو جاهد عدوه وهزمه وقهره على ما يحب حمد أثره إذا عاد إلى الحضرة كما قال الله تعالى "والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة" وإن ضيع ثغره وأعمل رعيته وذم أثره فانتقم منه عند الله تعالى فيقال له يوم القيامة: يا راعي السوء أكلت اللحم وشربت اللبن ولم تأو الضالة ولم تجبر الكسير اليوم أنتقم منك كما ورد في الخبر. وإلى هذه المجاهدة الإشارة بقوله له ﷺ "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".

المثال الثالث: مثل العقل مثل فارس متصيد وشهوته كفرسه وغضبه ككلبه، فمتى كان الفارس حاذقاً وفرسه مروضاً وكلبه مؤدباً معلماً كان جديراً بالنجاح، ومتى كان هو في نفسه أخرق وكان الفرس جموحاً والكلب عقوراً فلا فرسه ينبعث تحته منقاداً ولا كلبه يسترسل بإشارته مطيعاً فهو خليق بأن يعطب فضلاً عن أن ينال ما طلب، وإنما خرق الفارس مثل جهل الإنسان وقلة حكمته وكلال بصيرته، وجماح الفرس مثل غلبة الشهوة خصوصاً شهوة البطن والفرج، وعقر الكلب مثل غلبة الغضب واستيلائه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه.

بيان خاصية قلب الإنسان

اعلم أن جملة ما ذكرناه قد أنعم الله به على سائر الحيوانات سوى الآدمي؛ إذ للحيوان الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة أيضاً، حتى إن الشاة ترى الذئب بعينها نتعلم عداوته بقلبها فتهرب منه فلذلك هو الإدراك الباطن.

فلنذكر ما يختص به قلب الإنسان، ولأجله عظم شرفه واستأهل القرب من الله تعالى. وهو راجع إلى علم وإرادة:

أما العلم فهو العلم بالأمور الدنيوية والأخروية والحقائق العقلية فإن هذه أمور وراء المحسوسات ولا يشاركه فيها الحيوانات، بل العلوم الكلية الضرورية من خواص العقل إذ يحكم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يتصور أن يكون في مكانين في حالة واحدة، وهذا حكم منه على كل شخص. ومعلوم أنهذ لم يدرك بالحس إلا بعض الأشخاص فحكمه على جميع الأشخاص زائد على ما أدركه الحس. وإذا فهمت هذا في العلم الظاهر الضروري فهو في سائر النظريات أظهر.

وأما الإرادة فإنه إذا أدرك بالعقل عاقبة الأمر وطريق الصلاح فيه انبعث من ذاته شوق إلى جهة المصلحة وإلى تعاطي أسبابها والإرادة لها، وذلك غير إرادة الشهوة وإرادة الحيوانات بل يكون على ضد الشهوة. فإن الشهوة تنفر عن الفصد والحجامة، والعقل يريدها ويطلبها ويبذل المال فيها. والشهوة تميل إلى لذائذ الأطعمة في حين المرض والعاقل يجد في نفسه زاجراً عنها، وليس ذلك زاجر الشهوة. ولو خلق الله العقل المعرف بعواقب الأمور ولم يخلق هذا الباعث المحرك للأعضاء على مقتضى حكم العقل لكان حكم العقل ضائعاً على التحقيق.

فإذن قلب الإنسان اختص بعلم وإرادة ينفك عنها سائر الحيوان بل ينفك عنها الصبي في أول الفطرة وإنما يحدث ذلك فيه بعد البلوغ. وأما الشهوة والغضب والحواس الظاهرة والباطنة فإنها موجودة في حق الصبي.

ثم الصبي في حصول هذه العلوم فيه له درجتان؛ إحداهما: أن يشتمل قلبه على سائر العلوم الضرورية الأولية؛ كالعلم باستحالة المستحيلات وجواز الجائزات الظاهرة فتكون العلوم النظرية فيها غير حاصلة إلا أنها صارت ممكنة قريبة الإمكان والحصول، ويكون حاله بالإضافة إلى العلوم كحال الكاتب الذي لا يعرف من الكتابة إلا الدواة والقلم والحروف المفردة دون المركبة فإنه قد قارب الكتابة ولم يبلغها بعد.

الثانية: أن تتحصل له العلوم المكتسبة بالتجارب والفكر فتكون كالمخزونة عنده، فإذا شاء رجع إليها وحاله حال الحاذق بالكتابة إذ يقال له كاتب وإن لم يكن مباشراً للكتابة بقدرته عليها. وهذه هي غاية درجة الإنسانية. ولكن في هذه الدرجة مراتب لا تحصى يتفاوت الخلق فيها بكثرة المعلومات وقلتها وبشرف المعلومات وخستها وبطريق تحصيلها؛ إذ تحصل لبعض القلوب بإلهام إلهي على سبيل المبادأة والمكاشفة، ولبعضهم بتعلم واكتساب، وقد يكون سريع الحصول وقد يكون بطيء الحصول. وفي هذا المقام تتباين منازل العلماء والحكماء والأنبياء والأولياء، فدرجات الترقي فيه غير محصورة إذ معلومات الله سبحانه لا نهاية لها. وأقصى الرتب رتبة النبي الذي تنكشف له كل الحقائق أو أكثرها من غير اكتساب وتكلف، بكشف إلهي في أسرع وقت، وبهذه السعادة يقرب العبد العبد من الله تعالى قرباً بالمعنى والحقيقة والصفة لا بالمكان والمسافة ومراقى هذه الدرجة هي منازل السائرين إلى الله تعالى ولا حصر لتلك المنازل، وإنما يعرف كل سالك منزله الذي بلغه في سلوكه فيعرفه ويعرف ما خلفه من المنزل.

فأما ما بين يديه فلا يحيط بحقيقته علماً ولكن قد يصدق به إيماناً بالغيب، كما أنا نؤمن بالنبوة والنبي ونصدق بوجوده ولكن لا يعرف حقيقة النبوة إلا النبي، وكما لا يعرف الجنين حال الطفل، ولا الطفل حال المميز وما يفتح له من العلوم الضرورية، ولا المميز حال العاقل وما اكتسبه من العلوم النظرية فكذلك لا يعرف العاقل ما افتتح الله على أوليائه وأنبيائه من مزايا لطفه ورحمته "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها" وهذه الرحمة مبذولة بحكم الجود والكرم من الله سبحانه وتعالى غير مضنون بها على أحد ولكن إنما تظهر في القلوب المتعرضة لنفحات رحمة الله تعالى كما قال ﷺ "إن لربكم في أيام دهركم لنفحات ألا فتعرضوا لها والتعرض لها بتطهير القلب وتزكيته من الخبث والكدورة الحاصلة من الأخلاق المذمومة - كما سيأتي بيانه - وإلى هذا الجود الإشارة بقوله ﷺ "ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من داع فأستجيب له"? وبقوله عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه عز وجل "لقد طال شوق الأبرار إلى لقائي وأنا إلى لقائهم أشد شوقاً وبقوله تعالى "من تقرب إلي شبراً تقربت إليه ذراعاً" كل ذلك إشارة إلى أن أنوار العلوم لم تحتجب عن القلوب لبخل ومنع من جهة المنعم - تعالى عن البخل والمنع علواً كبيراً - ولكن حجبت لخبث وكدورة وشغل من جهة القلوب فإن القلوب كالأواني فما دامت ممتلئة بالماء لا يدخلها الهواء فالقلوب المشغولة لغير الله لا تدخلها المعرفة بجلال الله تعالى. وإليه الإشارة بقوله ﷺ "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء ومن هذه الجملة يتبين أن خاصية الإنسان العلم والحكمة.

وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله فيه كمال الإنسان وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال. فالبدن مركب للنفس، والنفس محل للعلم، والعلم هو مقصود الإنسان وخاصيته التي لأجله خلق. وكما أن الفرس يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة فيكون الفرس مخلوقاً لأجل تلك الخاصية، فإن تعطلت منه نزل إلى حضيض رتبة الحمار. وكذلك الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور ويفارقها في أمور هي خاصيته وتلك الخاصية من صفات الملائكة المقربين من رب العالمين. والإنسان على رتبة بين البهائم والملائكة، فإن الإنسان من حيث يتغذى وينسل فنبات، ومن حيث يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط، وإنما خاصيته معرفة حقائق الأشياء.

من استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة؛ فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكاً وربانياً كما أخبر الله تعالى عن صواحبات يوسف عليه السلام بقوله "ما هذا بشراً إن هذا إلا ملك كريم".

ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم فيصير إما غمراً كثور، وإما شرهاً كخنزير. وإما ضرياً ككلب أو سنور، أو حقوداً كجمل. أو متكبراً كنمر، أو ذاروغان كثعلب، أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد.

وما من عضو من الأعضاء ولا حاسة من الحواس إلا ويمكن الاستعانة به على طريق الوصول إلى الله تعالى - كما سيأتي بيان طرف منه في كتاب الشكر- فمن استعمله فيه فقد فاز، ومن عدل عنه فقد خسر وخاب. وجملة السعادة في ذلك أن يجعل لقاء الله تعالى مقصده، والدار الآخرة مستقره، والدنيا منزله، والبدن مركبه، والأعضاء خدمه. فيستقر هو - أعني المدرك من الإنسان - في القلب الذي هو وسط مملكته كالملك، ويجري القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ مجرى صاحب بريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عنده، ويجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجرى خازنه، ويجري اللسان مجرى ترجمانه، ويجري الأعضاء المتحركة مجرى كتابه، ويجري الحواس الخمس مجرى جواسيسه فيوكل كل واحد منها بأخبار صقع من الأصقاع؛ فيوكل العين بعالم الألوان، والسمع بعالم الأصوات، والشم بعالم الروائح. وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم ويؤدونها إلى القوة الخيالية التي هي كصاحب البريد، ويسلمها صاحب البريد إلى الخازن وهي الحافظة، ويعرضها الخازن على الملك فيقتبس الملك منها ما يحتاج إليه في تدبير مملكته وإتمام سفره الذي هو بصدده، وقمع عدوه الذي هو مبتلي به، ودفع قواطع الطريق عليه فإذا فعل ذلك كان موفقاً سعيداً شاكراً نعمة الله وإذا عطل هذه الجملة أو استعملها لكن في مراعاة أعدائه وهي الشهوة والغضب وسائر الحظوظ العاجلة، أو في عمارة طريقه دون منزله إذ الدنيا طريقه التي عليها عبوره، ووطنه ومستقره الآخرة؛ كان مخذولاً شقياً كافراً بنعمة الله تعالى مضيعاً لجنود الله تعالى ناصراً لأعداء الله مخذلاً لحزب الله فيستحق المقت والإبعاد في المنقلب والمعاد. نعوذ بالله من ذلك.

وإلى المثال الذي ضربناه أشار كعب الأحبار حيث قال: دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت؛ الإنسان عيناه هاد وأذناه قمع ولسانه ترجمان ويداه جناحان ورجلاه بريد والقلب منه ملك فإذا طاب الملك طابت جنوده، فقلت: هكذا سمعت رسول الله ﷺ يقول. وقال علي رضي الله عنه في تمثيل القلوب: إن لله تعالى في أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها: ثم فسره فقال: أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان، وهو إشارة إلى قوله تعالى "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقوله تعالى "مثل نوره كمشكاة فيها مصباح" قال أبي بن كعب رضي الله عنه: معناه مثل نور المؤمن وقلبه وقوله تعالى "أو كظلمات في بحر لجى" مثل قلب المنافق. وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى "في لوح محفوظ" وهو قلب المؤمن. وقال سهل: مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي فهذه أمثلة القلب.

بيان مجامع أوصاف القلب وأمثلته

اعلم أن الإنسان قد اصطحب في خلقته وتركيبه أربع شوائب، فلذلك اجتمع عليه أربعة أنواع من الأوصاف وهي: الصفات السبعية والبهيمية والشيطانية والربانية. فهو من حيث سلط عليه الغضب يتعاطى أفعال السباع من العداوة والبغضاء والتهجم على الناس بالضرب والشتم. ومن حيث سلطت عليه الشهوة يتعاطى أفعال البهائم من الشره والحرص والشبق وغيره. ومن حيث أنه في نفسه أمر رباني كما قال الله تعالى "قل الروح من أمر ربي" فإنه يدعى لنفسه الربوبية، ويحب الاستيلاء، والاستعلاء، والتخصص، والاستبداد بالأمور كلها، والتفرد بالرياسة، والانسلال عن ربقة العبودية والتواضع، ويشتهي الاطلاع على العلوم كلها؛ بل يدعي لنفسه العلم، والمعرفة، والإحاطة بحقائق الأمور، ويفرح إذا نسب إلى العلم، ويحزن إذا نسب إلى الجهل، والإحاطة بجميع الحقائق والاستيلاء بالقهر على جميع الخلائق من أوصاف الربوبية، وفي الإنسان حرص على ذلك. ومن حيث يختص من البهائم بالتمييز مع مشاركته لها في الغضب والشهوة حصلت فيه شيطانية فصار شريراً يستعمل التمييز في استنباط وجوه الشر، ويتوصل إلى الأغراض بالمكر والحيلة والخداع، ويظهر الشر في معرض الخير، وهذه أخلاق الشياطين.

وكل إنسان فيه شوب من هذه الأصول الأربعة - أعني الربانية والشيطانية والسبعية والبهيمية - وكل ذلك مجموع في القلب. فكأن المجموع في إهاب الإنسان: خنزير وكلب وشيطان وحكيم.

فالخنزير هو الشهوة فإنه لم يكن الخنزير مذموماً للونه وشكله وصورته بل لجشعهوكلبه وحرصه.

والكلب هو الغضب فإن السبع الضاري والكلب العقور ليس كلباً وسبعاً باعتبار الصورة اللون والشكل، بل روح معنى السبعية الضراوة والعدوان والعقر، وفي باطن الإنسان ضراوة السبع وغضبه وحرص الخنزير وشبقه، فالخنزير يدعو بالشره إلى الفحشاء والمنكر والسبع بالغضب إلى الظلم والإيذاء.

والشيطان لا يزال يهيج شهوة الخنزير وغيظ السبع ويغري أحدهما بالآخر ويحسن لهما ما هما مجبولان عليه.

والحكيم الذي هو مثال العقل مأمور بأن يدفع كيد الشيطان ومكره بأن يكشف عن تلبيسه ببصيرته النافذة ونوره المشرق الواضح، وأن يكسر شره هذا الخنزير بتسليط الكلب عليه إذ بالغضب يكسر سورة الشهوة ويدفع ضراوة الكلب بتسليط الخنزير عليه ويجعل الكلب مقهوراً تحت سياسته، فإن فعل ذلك وقدر عليه اعتدل الأمر وظهر العدل في مملكة البدن وجرى الكل على الصراط المستقيم، وإن عجز عن قهرها قهروه واستخدموه، فلا يزال في استنباط الحيل وتدقيق الفكر ليشبع الخنزير ويرضى الكلب فيكون دائماً في عبادة كلب وخنزير.

وهذا حال أكثر الناس مهما كان أكثر همتهم البطن والفرج ومنافسة الأعداء، والعجب منه أن ينكر على عبدة الأصنام عبادتهم للحجارة، ولو كشف الغطاء عنه وكوشف بحقيقة حاله ومثل له حقيقة حاله كما يمثل للمكاشفين إما في النوم أو اليقظة لرأى نفسه ماثلاً بين يدي خنزير ساجداً له مرة وراكعاً أخرى ومنتظراً لإشارته وأمره. فمهما هاج الخنزير لطلب شيء من شهواته انبعث على الفور في خدمته وإحضار شهوته، أو رأى نفسه مثلاً بين يدي كلب عقور عابداً له مطيعاً سامعاً لما يقتضيه ويلتمسه مدققاً بالفكر في حيل الوصول إلى طاعته وهو بذلك ساع في مسرة شيطانه فإنه الذي يهيج الخنزير ويثير الكلب ويبعثهما على استخدامه فهو من هذا الوجه يعبد الشيطان بعبادتهما فليراقب كل عبد حركاته وسكناته وسكوته ونطقه وقيامه وقعوده، ولينظر بعين البصيرة فلا يرى إن أنصف نفسه إلا ساعياً طول النهار في عبادة هؤلاء، وهذا غاية الظلم إذ جعل المالك مملوكاً والرب مربوباً والسيد عبداً والقاهر مقهوراً، إذ العقل هو المستحق للسيادة والقهر والاستيلاء وقد سخره لخدمة هؤلاء الثلاثة فلا جرم ينتشر إلى قلبه من طاعة هؤلاء الثلاثة صفات تتراكم عليه حتى يصير طابعاً وريناً مهلكاً للقلب ومميتاً له، أما طاعة خنزير الشهوة فتصدر منها صفة الوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والحرص والجشع والملق والحسد والحقد والشماتة وغيرها. وأما طاعة كلب الغضب فتنتشر منها إلى القلب صفة التهور والبذالة والبذخ والصلف والاستشاطة والتكبر والعجب والاستهزاء والاستخفاف وتحقير الخلق وإرادة الشر وشهوة الظلم وغيرها. وأما طاعة الشيطان بطاعة الشهوة والغضب فيحصل منها صفة المكر والخداع والحيلة والدهاء والجراءة والتلبيس والتضريب والغش والخب والخنا وأمثالها. ولو عكس الأمر وقهر الجميع تحت سياسة الصفة الربانية: لاستقر في القلب من الصفات الربانية العلم والحكمة واليقين والإحاطة بحقائق الأشياء ومعرفة الأمور على ما هي عليه، والاستيلاء على الكل بقوة العلم والبصيرة، واستحقاق التقدم على الخلق لكمال العلم وجلاله، ولاستغنى عن عبادة الشهوة والغضب، ولانتشر إليه من ضبط خنزير الشهوة ورده إلى حد الاعتدال صفات شريفة مثل العفة والقناعة والهدو والزهد والورع والتقوى والانبساط وحسن الهيئة والحياء والظرف والمساعدة وأمثالها، ويحصل فيه من ضبط قوة الغضب وقهرها وردها إلى حد الواجب صفة الشجاعة والكرم والنجدة وضبط النفس والصبر والحلم والاحتمال والعفو والثبات والنبل والشهامة والوقار وغيرها.

فالقلب في حكم مرآة قد اكتنفته هذه الأمور المؤثرة فيه، وهذه الآثار على التواصل واصلة إلى القلب. أما الآثار المحمودة التي ذكرناها فإنها تزيد مرآة القلب جلاء وإشراقاً ونوراً وضياءً حتى يتلألأ فيه جلية الحق وينكشف فيه حقيقة الأمر المطلوب في الدين، وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله ﷺ "إذا أراد الله بعبد خيراً جعل له واعظاً من قلبه وبقوله ﷺ "من كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ وهذا القلب هو الذي يستقر فيه الذكر قال الله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".

وأما الآثار المذمومة فإنها مثل دخان مظلم يتصاعد إلى مرآة القلب ولا يزال يتراكم عليه مرة بعد أخرى إلى أن يسود ويظلم ويصير بالكلية محجوباً عن الله تعالى، وهو الطبع وهو الرين قال تعالى "كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون" وقال عز وجل "أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون" فربط عدم السماع بالطبع بالذنوب كما ربط السماع بالتقوى فقال تعالى "واتقوا الله واسمعوا واتقوا الله ويعلمكم الله".

ومهما تراكمت الذنوب طبع على القلوب وعند ذلك يعمى القلب عن إدراك الحق صلاح الدين ويستهين بأمر الآخرة ويستعظم أمر الدنيا ويصير مقصور الهم عليها. فإذا قرع سمعه أمر الآخرة وما فيها من الأخطار دخل من أذن وخرج من أذن ولم يستقر في القلب ولم يحركه إلى التوبة والتدارك أولئك "يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور" وهذا هو معنى اسوداد القلب بالذنوب كما نطق به القرآن والسنة.

قال ميمون بن مهران: إذا أذنب العبد ذنباً نكت في قلبه نكته سوداء فإذا هو نزع وتاب صقل، وإن عاد زيد فيها حتى يعلوا قلبه فهو الران وقد قال النبي ﷺ "قلب المؤمن أجرد فيه سراج يزهر وقلب الكافر أسود منكوس فطاعة الله سبحانه بمخالفة الشهوات مصقلة للقلب، ومعاصيه مسودات له فمن أقبل على المعاصي اسود قلبه، ومن اتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ومن أتبع السيئة الحسنة ومحا أثرها لم يظلم قلبه، ولكن ينقص نوره كالمرآة التي يتنفس فيها ثم تمسح ويتنفس ثم تمسح، فإنها لا تخلو عن كدورة. وقد قال ﷺ "القلوب أربعة قلب أجرد فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن وقلب أسود منكوس فذلك قلب الكافر وقلب أغلف مربوط على غلافه فذلك قلب المنافق وقلب مصفح فيه إيمان ونفاق فمثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها القيح والصديد فأي المادتين غلبت عليه حكم له بها? وفي رواية: ذهبت به. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" فأخبر أن جلاء القلب وإبصاره يحصل بالذكر وأنه لا يتمكن منه إلا الذين اتقوا. فالتقوى باب الذكر، والذكر باب الكشف، والكشف باب الفوز الأكبر، وهو الفوز بلقاء الله تعالى.

بيان مثل القلب بالإضافة إلى العلوم خاصة

اعلم أن محل العلم هو القلب؛ أعني اللطيفة المدبرة لجميع الجوارح وهي المطاعة المخدومة من جميع الأعضاء، وهي بالإضافة إلى حقائق المعلومات كالمرآة بالإضافة إلى صور المتلونات؛ فكما أن للمتلون صورة ومثال تلك الصورة ينطبع في المرآة ويحصل بها، كذلك لكل معلوم حقيقة ولتلك الحقيقة صورة ينطبع في مرآة القلب وتتضح فيها، وكما أن المرآة غير وصور الأشخاص غير وحصول مثالها في المرآة غير فهي ثلاثة أمور. فكذلك ههنا ثلاثة أمور القلب، وحقائق الأشياء، وحصول نفس الحقائق في القلب وحضورها فيه.

فالعالم عبارة عن القلب الذي فيه يحل مثال حقائق الأشياء، والمعلوم عبارة عن حقائق الأشياء. والعلم عبارة عن حصول المثال في المرآة.

وكما أن القبض مثلاً يستدعي قابضاً كاليد ومقبوضاً كالسيف، ووصولاً بين السيف واليد -بحصول السيف في اليد- ويسمى قبضاً فكذلك وصول مثال المعلوم إلى القلب يسمى علماً، وقد كانت الحقيقة موجودة والقلب موجوداً ولم يكن العالم حاصلاً، لأن العلم عبارة عن وصول الحقيقة إلى القلب، كما أن السيف موجود واليد موجودة ولم يكن اسم القبض والأخذ حاصلاً لعدم وقوع السيف في اليد، نعم القبض عبارة عن حصول السيف بعينه في اليد والمعلوم بعينه لا يحصل في القلب، فمن علم النار لم تحصل عين النار في قلبه، ولكن الحاصل حدها وحقيقتها المطابقة لصورتها، فتمثيله بالمرآة أولى لأن عين الإنسان لا تحصل في المرآة وإنما يحصل مثال مطابق له. وكذلك حصول مثال مطابق لحقيقة المعلوم في القلب يسمى علماً.

وكما أن المرآة لا تنكشف فيها الصورة لخمسة أمور أحدها نقصان صورتها كجوهر الحديد قبل أن يدور ويشكل ويصقل. والثاني لخنثه وصدئه وكدورته وإن كان تام الشكل. والثالث لكونه معدولاً به عن جهة الصورة إلى غيرها كما إذا كانت الصورة وراء المرآة. والرابع لحجاب مرسل بين المرآة والصورة. والخامس للجهل بالجهة التي فيها الصورة المطلوبة حتى يتعذر بسببه أن يحاذى بها شطر الصورة وجهتها.

فكذلك القلب مرآة مستعدة لأن ينجلى فيها حقيقة الحق في الأمور كلها، وإنما خلت القلوب عن العلوم التي خلت عنها لهذه الأسباب الخمسة أولها نقصان في ذاته كقلب الصبي فإنه لا ينجلى له المعلومات لنقصانه. والثاني لكدورة المعاصي والخبث الذي يتراكم على وجه القلب من كثرة الشهوات فإن ذلك يمنع صفاء القلب وجلاءه فيمتنع ظهور الحق فيه لظلمته وتراكمه. وإليه الإشارة بقوله ﷺ "من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبدا" أي حصل في قلبه كدورة لا يزول أثرها إذ غايته أن يتبعه بحسنة يمحوه بها، فلو جاء بالحسنة ولم تتقدم السيئة لازداد لا محالة إشراق القلب فلما تقدمت السيئة سقطت فائدة الحسنة لكن عاد القلب بها إلى ما كان قبل السيئة ولم يزدد بها نوراً. فهذا خسران مبين ونقصان لا حيلة له فليست المرآة التي تتدنس ثم تمسح بالمصقلة كالتي تمسح بالمصقلة لزيادة جلائها من غير دنس سابق? فالإقبال على طاعة الله والإعراض عن مقتضى الشهوات هو الذي يجلو القلب ويصفيه ولذلك قال الله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال ﷺ "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم".

الثالث أن يكون معدولاً به عن جهة الحقيقة المطلوبة فإن قلب المطيع الصالح وإن كان صافياً فإنه ليس يتضح فيه جلية الحق لأنه ليس يطلب الحق وليس محاذياً بمرآته شطر المطلوب. بل يكون مستوعب الهم بتفصيل الطاعات البدنية أو بتهيئة أسباب المعيشة ولا يصرف فكره إلى التأمل في حضرة الربوبية والحقائق الخفية الإلهية، فلا ينكشف له إلا ما هو متفكر فيه من دقائق آفات الأعمال وخفايا عيوب النفس إن كان متفكراً فيها، أو مصالح المعيشة إن كان متفكرا فيها. وإذا كان تقييد الهم بالأعمال وتفصيل الطاعات مانعاً عن انكشاف جليه الحق فما ظنك فيمن صرف الهم إلى الشهوات الدنيوية ولذاتها وعلائقها فكيف لا يمنع عن الكشف الحقيقي?.

الرابع: الحجاب فإن المطيع القاهر لشهواته المتجرد الفكر في حقيقة من الحقائق قد لا ينكشف له ذلك لكونه محجوباً عنه باعتقاد سبق إليه منذ الصبا على سبيل التقليد والقبول بحسن الظن، فإن ذلك يحول بينه وبين حقيقة الحق ويمنع من أن ينكشف في قلبه خلاف ما تلقفه من ظاهر التقليد. وهذا أيضاً حجاب عظيم به حجب أكثر المتكلمين والمتعصبين للمذاهب، بل أكثر الصالحين المتفكرين في ملكوت السموات والأرض لأنهم محجوبون باعتقادات تقليدية جمدت في نفوسهم ورسخت في قلوبهم وصارت حجاباً بينهم وبين درك الحقيقة.

الخامس: الجهل بالجهة التي يقع منها العثور على المطلوب فإن طالب العلم ليس يمكنه أن يحصل العلم بالمجهول إلا بالتذكر للعلوم التي تناسب مطلوبه حتى إذا تذكرها ورتبها في نفسه ترتيباً مخصوصاً يعرفه العلماء بطرق الاعتبار فعند ذلك يكون قد عثر على جهة المطلوب فتنجلى حقيقة المطلوب لقلبه، فإن العلوم المطلوبة التي ليست فطرية لا تقتنص إلا بشبكة العلوم الحاصلة، بل كل علم لا يحصل إلا من علمين سابقين يأتلفا ويزدوجان على وجه الخصوص فيحصل من ازدواجهما علم ثالث على مثال ما يحصل النتاج من ازدواج الفحل والأنثى. ثم كما أن من أراد أن يستنتج رمكة لم يمكنه ذلك من حمار وبعير وإنسان بل من أصل مخصوص من الخيل الذكر والأنثى، وذلك إذا وقع بينهما ازدواج مخصوص. فكذلك كل علم فله أصلان مخصوصان وبينهما طريق في الازدواج يحصل من ازدواجهما العلم المستفاد المطلوب، فالجهل بتلك الأصول وبكيفية الازدواج هو المانع من العلم. ومثاله ما ذكرناه من الجهل بالجهة التي الصورة فيها، بل مثاله أن يريد الإنسان أن يرى قفاه مثلاً بالمرآة فإنه إذا رفع المرآة بإزاء وجهه لم يكن قد حاذى بها شطر القفا فلا يظهر فيها القفا، وإن رفعها وراء القفا حاذاه كان قد عدل بالمرآة عن عينه فلا يرى المرآة ولا صورة القفا فيها فيحتاج إلى مرآة أخرى ينصبها وراء القفا، وهذه في مقابلتها بحيث يبصرها ويراعى مناسبة بين وضع المرآتين حتى تنطبع صورة القفا في المرآة المحاذية للقفا، ثم تنطبع صورة هذه المرآة في المرآة الأخرى التي في مقابلة العين، ثم تدرك العين صورة القفا، فكذلك في اقتناص العلوم طرق عجيبة فيها ازورارات وتحريفات أعجب مما ذكرناه في المرآة يعز على بسيط الأرض من يهتدي إلى كيفية الحيلة في تلك الازورارات. فهذه هي الأسباب المانعة للقلوب من معرفة حقائق الأمور. وإلا فكل قلب فهو بالفطرة صالح لمعرفة الحقائق لأنه أمر رباني شريف فارق سائر جواهر العالم بهذه الخاصية والشرف. وإليه الإشارة بقوله عز وجل "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان" إشارة إلى أن له خاصية تميز بها عن السموات والأرض والجبال بها صار مطيقاً لحمل أمانة الله تعالى. وتلك الأمانة هي المعرفة والتوحيد وقلب كل آدمي مستعد لحمل الأمانة ومطيق لها في الأصل ولكن يثبطه عن النهوض بأعبائها والوصول إلى تحقيقها الأسباب التي ذكرناها. ولذلك قال ﷺ "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه" وقول رسول الله ﷺ "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" إشارة إلى بعض هذه الأسباب التي هي الحجاب بين القلوب وبين الملكوت.

وإليه الإشارة بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قيل لرسول الله، يا رسول الله أين الله في الأرض أو في السماء? قال في قلوب عباده المؤمنين، وفي الخبر "قال الله تعالى: لم يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين الوادع" وفي الخبر "أنه قيل يا رسول الله من خير الناس فقال "كل مؤمن مخموم القلب" فقيل: وما مخموم القلب? فقال "هو التقي الذي لا غش فيه ولا بغي ولا غدر ولا غل ولا حسد ولذلك قال عمر رضي الله عنه: رأى قلبي ربي. إذ كان قد رفع الحجاب بالتقوى، ومن ارتفع الحجاب بينه وبين الله تجلى صورة الملك والملكوت في قلبه فيرى جنة عرض بعضها السموات والأرض، أما جملتها فأكثر سعة من السموات والأرض لأن السموات والأرض عبارة عن عالم الملك والشهادة وهو وإن كان واسع الأطراف متباعد الأكناف فهو متناه على الجملة، وأما عالم الملكوت وهي الأسرار الغائبة عن مشاهدة الأبصار المخصوصة بإدراك البصائر فلا نهاية له، نعم الذي يلوح للقلب منه مقدار متناه ولكنه في نفسه بالإضافة إلى علم الله لا نهاية له. وجملة عالم الملك والملكوت إذا أخذت دفعة واحدة تسمى الحضرة الربوبية لأن الحضرة الربوبية محيطة بكل الموجودات إذ ليس في الوجود شيء سوى الله تعالى وأفعاله، ومملكته وعبيده من أفعاله، فما يتجلى من ذلك للقلب هي الجنة بعينها عند قوم وهو سبب استحقاق الجنة عند أهل الحق، ويكون سعة ملكه في الجنة بحسب سعة معرفته وبمقدار ما تجلى له من الله وصفاته وأفعاله. وإنما مراد الطاعات وأعمال الجوارح كلها تصفية القلب وتزكيته وجلاؤه "قد أفلح من زكاها" ومراد تزكيته حصول أنوار الإيمان فيه أعني إشراق نور المعرفة وهو المراد بقوله تعالى "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام. أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه".

نعم هذا التجلي وهذا الإيمان له ثلاث مراتب المرتبة الأولى إيمان العوام وهو إيمان التقليد المحض. والثانية إيمان المتكلمين وهو ممزوج بنوع استدلال، ودرجته قريبة من درجة إيمان العوام والثالثة إيمان العارفين وهو المشاهد بنور اليقين.

ونبين لك هذه المراتب بمثال: وهو أن تصديقك بكون زيد مثلاً في الدار له ثلاث درجات.

الأولى: أن يخبرك من جربته بالصدق ولم تعرفه بالكذب ولا اتهمته في القول، فإن قلبك يسكن إليه ويطمئن بخبره بمجرد السماع، وهذا الإيمان بمجرد التقليد، وهو مثل إيمان العوام فإنهم لما بلغوا سن التمييز سمعوا من آبائهم وأمهاتهم وجود الله تعالى وعلمه وإرادته وقدرته وسائر صفاته وبعثة الرسل وصدقهم وما جاءوا به، وكما سمعوا به قبلوه وثبتوا عليه واطمأنوا إليه، ولم يخطر ببالهم خلاف ما قالوه لهم لحسن ظنهم بآبائهم وأمهاتهم ومعلميهم، وهذا الإيمان سبب النجاة في الآخرة وأهله من أوائل رتب أصحاب اليمين وليسوا من المقربين لأنه ليس فيه كشف وبصيرة وانشراح صدر بنور اليقين، إذ الخطأ ممكن فيما سمع من الآحاد بل من الأعداد فيما يتعلق بالاعتقادات، فقلوب اليهود والنصارى أيضاً مطمئنة بما يسمعونه من آبائهم وأمهاتهم إلا أنهم اعتقدوا ما اعتقدوا خطأ لأنهم ألقي إليهم الخطأ، والمسلمون اعتقدوا الحق لا لاطلاعهم عليه ولكن ألقي إليهم كلمة الحق.

الرتبة الثانية: أن تسمع كلام زيد وصوته من داخل الدار ولكن من وراء جدار فتستدل به على كونه في الدار فيكون إيمانك وتصديقك ويقينك بكونه في الدار أقوى من تصديقك بمجرد السماع، فإنك إذا قيل لك إنه في الدار ثم سمعت صوته ازددت به يقيناً لأن الأصوات تدل على الشكل والصورة عند من يسمع الصوت في حال مشاهدة الصورة، فيحكم قلبه بأن هذا صوت ذلك الشخص؛ وهذا إيمان ممزوج بدليل والخطأ أيضاً ممكن أن يتطرق إليه، إذ الصوت قد يشبه الصوت وقد يمكن التكلف بطريق المحاكاة إلا أن ذلك قد لا يخطر ببال السامع لأنه ليس يجعل للتهمة موضعاً ولا يقدر في هذا التلبيس والمحاكاة غرضاً.

الرتبة الثالثة: أن تدخل فتنظر إليه بعينك وتشاهده؛ وهذه هي المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية وهي تشبه معرفة المقربين والصديقين لأنهم يؤمنون عن مشاهدة فينطوي في إيمانهم إيمان العوام والمتكلمين، ويتميزون بمزية بينة يستحيل معها إمكان الخطأ. نعم وهم أيضاً يتفاوتون بمقادير العلوم وبدرجات الكشف.

أما درجات الكشف فمثاله أن يبصر زيداً في الدار عن قرب وفي صحن الدار في وقت إشراق الشمس فيكمل له إدراكه والآخر يدركه في بيت أو من بعد أو في وقت عشية فيتمثل له في صورته ما يستيقن معه أنه هو؛ ولكن لا يتمثل في نفسه الدقائق والخفايا من صورته. ومثل هذا متصور في تفاوت المشاهدة للأمور الإلهية.

وأما مقادير العلوم فهو بأن يرى في الدار زيداً وعمراً وبكراً غير ذلك وآخر لا يرى إلا زيداً فمعرفة ذلك تزيد بكثرة المعلومات لا محالة. فهذا حال القلب بالإضافة إلى العلوم والله تعالى أعلم بالصواب.

بيان حال القلب

بالإضافة إلى أقسام العلوم العقلية والدينية والدنيوية والأخروية

اعلم أن القلب بغريزته مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وإلى شرعية. والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة. والمكتسبة إلى دنيوية وأخروية.

أما العقلية: فنعني بها ما تقضي بها غريزة العقل ولا توجد بالتقليد والسماع؛ وهي تنقسم إلى ضرورية: لا يدري من أين حصلت وكيف حصلت? كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون حادثاً قديماً موجوداً معدوماً معاً؛ فإن هذه علوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا مفطوراً عليها ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل له? أعني أنه لا يدري له سبباً قريباً، وإلا فليس يخفى عليه أن الله هو الذي خلقه وهداه.

وإلى علوم مكتسبة: وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال. وكلا القسمين قد يسمى عقلاً.

قال علي رضي الله عنه: رأيت العقل عقلـين فمطبوع ومسمـوع

ولا ينفع مسـمـوع إذا لم يك مطبـوع

كما لا تنفع الشمـس وضوء العين ممنوع

والأول هو المراد بقوله ﷺ لعلي "ما خلق الله خلقاً أكرم عليه من العقل" والثاني هو المراد بقوله ﷺ لعلي رضي الله عنه "إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك" إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة. ولكن مثل على رضي الله عنه هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين، فالقلب جار مجرى العين وغريزة العقل فيه جارية مجرى قوة البصر في العين، وقوة الإبصار لطيفة تفقد في العمى وتوجد في البصر وإن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل، والعلم الحاصل منه في القلب جار مجرى قوة إدراك البصر في العين ورؤيته لأعيان الأشياء. وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات. والقلم الذي سطر الله به العلوم على صفحات القلوب يجري مجرى قرص الشمس. وإنما لم يحصل العلم في قلب الصبي قبل التمييز لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نفس العلم. والقلم عبارة عن خلق من خلق الله تعالى جعله سبباً لحصول نفس العلوم في قلوب البشر قال الله تعالى "الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم" وقلم الله تعالى لا يشبه قلم خلقه كما لا يشبه وصفه وصف خلقه، فليس قلمه من قصب ولا خشب كما أنه تعالى ليس من جوهر ولا عرض؛ فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف؛ فإن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة، وهي كالفارس والبدن كالفرس، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر. ولموازنة البصيرة الباطنة للبصر الظاهر سماه الله تعالى باسمه فقال "ما كذب الفؤاد ما رأى" سمى إدراك الفؤاد رؤية وكذلك قوله تعالى "وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض" وما أراد به الرؤية الظاهرة فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم عليه السلام حتى يعرض في معرض الامتنان، ولذلك سمي ضد إدراكه عمى فقال تعالى "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب في الصدر" وقال تعالى "ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً" فهذا بيان العلم العقلي.

أما العلوم الدينية: فهي المأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه، وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ وفهم معانيهما بعد السماع، وبه كمال صفة القلب وسلامته عن الأدواء والأمراض، فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب وإن كان محتاجاً إليها، كما أن العقل غير كاف في استدامة صحة أسباب البدن بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلم من الأطباء، إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل، فلا غنى بالعقل عن السماع ولا غنى بالسماع عن العقل. فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور، فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعاً بين الأصلين، فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية والشخص المريض يستضر بالغذاء من فاته الدواء، فكذلك أمراض القلوب لا يمكر علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة وهي وظائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم لإصلاح القلوب، فمن لا يداوى قلبه المريض بمعالجات العبادة الشرعية واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء. وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض فيعجز عن الجمع بينهما. فيظن أنه تناقض في الدين، فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين. وإنما ذلك لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقصاً في الدين وهيهات. وإنما مثاله مثال الأعمى الذي دخل دار قوم فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم: ما بال هذه الأواني تركت على الطريق لم لا ترد إلى مواضعها? فقالوا له: تلك الأواني في مواضعها! وإنما أنت لست تهتدي للطريق لعماك فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك على عماك وإنما تحيلها على تقصير غيرك? فهذه نسبة العلوم الدينية إلى العلوم العقلية.

والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية. فالدنيوية: كعلم الطلب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات. والأخروية: كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله -كما فصلناه في كتاب العلم- وهما علمان متنافيان -أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر- ولذلك ضرب علي رضي الله عنه للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلة فقال: هما ككفتي الميزان، وكالمشرق والمغرب، وكالضرتين إذا رضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسة والفلسفة جهالاً في أمور الآخرة. والأكياس في دقائق علوم الآخرة جهالاً في أكثر علوم الدنيا، لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعاً في الغالب فيكون أحدهما مانعاً من الكمال في الثاني. ولذلك قال ﷺ "إن أكثر أهل الجنة البله أي البله في أمور الدنيا.

وقال الحسن في بعض مواعظه: لقد أدركنا أقواماً لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو أدركوكم لقالوا شياطين. فمهما سمعت أمراً غريباً من أمور الدين جحده أهل الكياسة في سائر العلوم، فلا يغرنك جحودهم عن قبوله إذ من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما يوجد في المغرب، فكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة ولذلك قال تعالى "إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها" الآية وقال تعالى "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون" وقال عز وجل "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم" فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدنيا والدين لا يكاد يتيسر إلا لمن رسخه الله لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدس المستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها. فأما قلوب سائر الخلق فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا انصرفت عن الآخر وقصرت عن الاستكمال فيها.

بيان الفرق بين الإلهام والتعلم

والفرق بين طريق الصوفية في استكشاف الحق وطريق النظار

اعلم أن العلوم التي ليست ضرورية - وإنما تحصل في القلب في بعض الأحول - تختلف الحال في حصولها فتارة تهجم على القلب كأنه ألقى فيه من حيث لا يدري، وتارة تكتسب بطريق الاستدلال والتعلم. فالذي يحصل لا بطريق الاكتساب وحيلة الدليل يسمى إلهاماً، والذي يحصل بالاستدلال يسمى اعتباراً واستبصاراً. ثم الواقع في القلب بغير حيلة وتعلم واجتهاد من العبد ينقسم إلى ما يدري العبد أنه كيف حصل له ومن أين حصل? وإلى ما يطلع معه على السبب الذي منه استفاد ذلك العلم وهو مشاهدة الملك الملقى في القلب. والأول: يسمى إلهاماً ونفثاً في الروع والثاني: يسمى وحياً وتختص به الأنبياء. والأول يختص به الأولياء والأصفياء. والذي قبله - وهو المكتسب بطريق الاستدلال - يختص به العلماء. وحقيقة القول فيه أن القلب مستعد لأن تنجلي فيه حقيقة الحق في الأشياء كلها، وإنما حيل بينه وبينها بالأسباب الخمسة - التي سبق ذكرها - فهي كالحجاب المسدل الحائل بين مرآة القلب وبين اللوح المحفوظ الذي هو منقوش بجميع ما قضى الله به إلى يوم القيامة. وتجلى حقائق العلوم من مرآة اللوح في مرآة القلب يضاهي انطباع صورة من مرآة في مرآة تقابلها، والحجاب بين المرآتين تارة يزال باليد وأخرى يزول بهبوب الرياح تحركه. وكذلك قد تهب رياح الألطاف وتنكشف الحجب عن أعين القلوب فينجلي فيها بعض ما هو مسطور في اللوح المحفوظ، ويكون ذلك تارة عند المنام فيعلم به ما يكون في المستقبل. وتمام ارتفاع الحجاب بالموت فيه ينكشف الغطاء، وينكشف أيضاً في اليقظة حتى يرتفع الحجاب بلطف خفي من الله تعالى، فيلمع في القلوب من وراء ستر الغيب شيء من غرائب العلم تارة كالبرق الخاطف، وأخرى على التوالي إلى حد ما. ودوامة في غاية الندور فلم يفارق الإلهام الاكتساب في نفس العلم ولا في محله ولا في سببه ولكن يفارقه من جهة زوال الحجاب، فإن ذلك ليس باختيار العبد ولم يفارق الوحي الإلهام في شيء من ذلك بل في مشاهدة الملك المفيد للعلم، فإن العلم إنما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة، وإليه الإشارة بقوله تعالى "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء".

فإذا عرفت هذا فاعلم أن ميل أهل التصوف إلى العلوم الإلهامية دون التعليمية. فلذلك لم يحصروا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون والبحث عن الأقاويل والأدلة المذكورة، بل قالوا الطريق تقديم المجاهدة ومحو الصفات المذمومة وقطع العلائق كلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى ومهما حصل ذلك كان الله هو المتولي لقلب عبده والمتكفل له بتنويره بأنوار العلم، وإذا تولى الله أمر القلب فاضت عليه الرحمة وأشرق النور في القلب وانشرح الصدر وانكشف له سر الملكلوت، وانقشع عن وجه القلب حجاب الغرة بلطف الرحمة وتلألأت فيه حقائق الأمور الإلهية فليس على العبد إلا الاستعداد بالتصفية المجردة وإحضار الهمة مع الإدارة الصادقة والتعطش التام والترصد بدوام الانتظار لما يفتحه الله تعالى من الرحمة.

فالأنبياء والأولياء انكشف لهم الأمر وفاض على صدورهم النور لا بالتعلم والدراسة والكتابة للكتب، بل بالزهد في الدنيا والتبري من علائقها وتفريغ القلب من شواغلها والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فمن كان لله كان الله له. وزعموا أن الطريق في ذلك أولا بانقطاع علائق الدنيا بالكلية وتفريغ القلب منها وبقطع الهمة عن الأهل والمال والولد والوطن وعن العلم والولاية والجاه بل يصير قلبه إلى حالة يستوي فيها وجود كل شيء وعدمه، ثم يخلوا بنفسه في زواية مع الاقتصار على الفرائض والرواتب، ويجلس فارغ القلب مجموع الهم، ولا يفرق فكره بقراءة قرآن ولا بالتأمل في تفسير ولا بكتب حديث ولا غيره، بل يجتهد أن لا يخطر ببال شيء سوى الله تعالى، فلا يزال بعد جلوسه في الخلوة قائلاً بلسانه: على الدوام مع حضور القلب حتى ينتهي إلى حالة يترك تحريك اللسان ويرى كأن الكلمة جارية على لسانه، ثم يصبر عليه إلى أن يمحى أثره عن اللسان ويصادف قلبه مواظباً على الذكر ثم يواظب عليه إلى أن يمحى عن القلب صورة اللفظ وحروفه وهيئة الكلمة، ويبقى معنى الكلمة مجرداً في قلبه حاضراً فيه كأنه لازم له لا يفارقه وله اختيار إلى أن ينتهي إلى هذا الحد واختيار في استدامة هذه الحالة بدفع الوسواس، وليس له اختيار في استجلاب رحمة الله تعالى، بل هو بما فعله صار متعرضاً لنفحات رحمة الله فلا يبقى إلا الانتظار لما يفتح الله من الرحمة كما فتحها على الأنبياء والأولياء بهذه الطريق؛ وعند ذلك إذا صدقت إرادته وصفت همته وحسنت مواظبته فلم تجاذبه شهواته ولم يشغله حديث النفس بعلائق الدنيا تلمع لوامع الحق في قلبه، ويكون في ابتدائه كالبرق الخاطف لا يثبت؛ ثم يعود وقد يتأخر، وإن عاد فقد يثبت وقد يكون مختطفاً؛ وإن ثبت قد يطول ثباته وقد لا يطول، وقد يتظاهر أمثاله على التلاحق وقد يقتصر على فن واحد. ومنازل أولياء الله تعالى فيه لا تحصر كما لا يحصى تفاوت خلقهم وأخلاقهم. وقد رجع هذا الطريق إلى تطهير محض من جانبك وتصفية وجلاء، ثم استعداد وانتظار فقط.

وأما النظار وذوو الاعتبار فلم ينكروا وجود هذا الطريق وإمكانه وإفضائه إلى هذا المقصد على الندور فإنه أكثر أحوال الأنبياء والأولياء، ولكن استوعروا هذا الطريق واستبطؤا ثمرته واستبعدوا استجماع شروطه، وزعموا أن محو العلائق إلى ذلك الحد كالمتعذر وإن حصل في حال فثباته أبعد منه، إذ أدنى وسواس وخاطر يشوش القلب وقال رسول الله ﷺ "قلب المؤمن أشد تقلباً من القدر في غليانها" وقال عليه أفضل الصلاة والسلام "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وفي أثناء هذه المجاهدة قد يفسد المزاج ويختلط العقل ويمرض البدن، وإذا لم تتقدم رياضة النفس وتهذيبها بحقائق العلوم نشبت بالقلب خيالات فاسدة تطمئن النفس إليها مدة طويلة إلى أن يزول وينقضي العمر قبل النجاح فيها، فكم من صوفي سلك هذا الطريق ثم بقي في خيال واحد عشرين سنة ولو كان قد أتقن العلم من قبل لانفتح له وجه التباس ذلك الخيال في الحال، فالاشتغال بطريق التعلم أوثق وأقرب إلى الغرض. وزعموا أن ذلك يضاهي ما لو ترك الإنسان تعلم الفقه. وزعم أن النبي ﷺ لم يتعلم ذلك وصار فقيهاً بالوحي. والإلهام من غير تكرير وتعليق وأنا أيضاً ربما انتهت بي الرياضة والمواظبة إليه ومن ظن ذلك فقد ظلم نفسه وضيع عمره، بل هو كمن يترك طريق الكسب والحراثة رجاء العثور على كنز من الكنوز، فإن ذلك ممكن ولكنه بعيداً جداً؛ فكذلك هذا. وقالوا: لا بد أولاً من تحصيل ما حصله العلماء وفهم ما قالوه ثم لا بأس بعد ذلك بالانتظار لما لم ينكشف لسائر العلماء فعساه ينكشف بعد ذلك بالمجاهدة.

بيان الفرق بين المقامين بمثال محسوس

اعلم أن عجائب القلب خارجة عن مدركات الحواس، لأن القلب أيضاً خارج عن إدراك الحس وما لبس مدركاً بالحواس تضعف الأفهام عن دركه إلا بمثال محسوس. ونحن نقرب ذلك إلى الأفهام الضعيفة بمثالين:

أحدهما: أنه لو فرضنا حوضاً محفوراً في الأرض احتمل أن يساق الماء من فوقه بأنهار تفتح فيه، ويحتمل أن يحفر أسفل الحوض ويرفع منه التراب إلى أن يقرب من مستقر الماء الصافي، فينفجر الماء من أسفل الحوض ويكون ذلك الماء أصفى وأدوم وقد يكون أغزر وأكثر. فذلك القلب مثل الحوض، والعلم مثل الماء، وتكون الحواس الخمس مثال الأنهار. وقد يمكن أن تساق العلوم إلى القلب بواسطة أنهار الحواس والاعتبار بالمشاهدات حتى يمتلئ علماً، ويمكن أن تسد هذه الأنهار بالخلوة والعزلة وغض البصر يعمد إلى عمق القلب بتطهيره ورفع طبقات الحجب عنه حتى تنفجر ينابيع العلم من داخله.

فإن قلت: فكيف يتفجر العلم من ذات القلب وهو خال عنه? فاعلم أن هذا من عجائب أسرار القلب ولا يسمح بذكره في علم المعاملة بل القدر الذي يمكن ذكره أن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ بل في قلوب الملائكة المقربين. فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة فكذلك فاطر السموات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرج إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال، فإن من ينظر إلى السماء والأرض ثم يغض بصره يرى صورة السماء والأرض في خياله حتى كأنه ينظر إليها، ولو انعدمت السماء وارض وبقي هو في نفسه لوجد صورة السماء والأرض في نفسه كأنه يشاهدهما وينظر إليهما، ثم يتأدى من خياله أثر إلى القلب فيحصل فيه حقائق الأشياء التي دخلت في الحس والخيال. والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه. والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ.

فكأن للعالم أربع درجات في الوجود: وجود في اللوح المحفوظ وهو سابق على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي، ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي - أعني وجود صورته في الخيال - ويبتع وجوده الخيال وجوده العقلي - أعني وجود صورته في القلب وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية. والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض؛ وهذا اللطف من الحكمة الإلهية، إذ جعل حدقتك على صغر حجمها بحيث تنطبع صورة العالم والسموات والأرض على اتساع أكنافها فيها، ثم يسري من وجودها في الحس وجود إلى الخيال، ثم منه وجود في القلب فإنك أبداً لا تدرك إلا ما هو واصل إليك، فلو لم يجعل للعالم كله مثالاً في ذاتك لما كان لك خبر مما يباين ذاتك، فسبحان من دبر هذه العجائب في القلوب والأبصار ثم أعمى عن دركها القلوب والأبصار، حتى صارت قلوب أكثر الخلق جاهلة بأنفسها وبعجائبها.

ولنرجع إلى الغرض المقصود فنقول: القلب قد يتصور أن يحصل فيه حقيقة العالم وصورته تارة من الحواس وتارة من اللوح المحفوظ، كما أن العين يتصور أن يحصل فيها صورة الشمس تارة من النظر إليها وتارة من النظر إلى الماء الذي يقابل الشمس ويحكي صورتها. فمهما ارتفع الحجاب بينه وبين اللوح المحفوظ رأى الأشياء فيه وتفجر إليه العلم منه فاستغنى عن الاقتباس من داخل الحواس، فيكون ذلك كتفجر الماء من عمق الأرض. ومهما أقبل على الخيالات الحاصلة من المحسوسات كان ذلك حجاباً له عن مطالعة اللوح المحفوظ كما أن الماء إذا اجتمع في الأنهار منع ذلك من التفجر في الأرض، وكما أن من نظر إلى الماء الذي يحكي صورة الشمس لا يكون ناظراً إلى نفس الشمس؛ فإذن للقلب بابان: باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة. وعالم الشهادة والملك أيضاً يحاكي عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة. فأما انفتاح باب القلب إلى الاقتباس من الحواس فلا يخفى عليك. وأما انفتاح بابه الداخل إلى عالم الملكوت ومطالعة اللوح المحفوظ فتعلمه علماً يقيناً بالتأمل في عجائب الرؤيا واطلاع القلب في النوم على ما سيكون في المستقبل أو كان في الماضي من غير اقتباس من جهة الحواس. وإنما ينفتح ذلك الباب لمن انفرد بذكر الله تعالى وقال ﷺ "سبق المفردون" قيل ومن المفردون يا رسول الله? قال "المتنزهون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً" ثم قال في وصفهم إخباراً عن الله تعالى فقال "ثم أقبل بوجهي عليهم أترى من واجهته بوجهي يعلم أحد أي شيء أريد أن أعطيه? ثم قال تعالى: أول ما أعطيهم أن أقذف النور في قلوبهم فيخبرون عني كما أخبر عنهم" ومدخل هذه الأخبار هو الباب الباطن فإذا الفرق بين علوم الأولياء والأنبياء وبين علوم العلماء والحكماء هذا وهو أن علومهم تأتي من داخل القلب من الباب المنفتح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكمة يتأتى من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك، وعجائب عالم القلب وتردده بين عالمي الشهادة والغيب لا يمكن أن يستقصى في علم المعاملة. فهذا مثال يعلمك الفرق بين مدخل العالمين.

المثال الثاني: يعرفك الفرق بين العملين، أعني عمل العلماء وعمل الأولياء: فإن العلماء يعملون في اكتساب نفس العلوم واجتلابها إلى القلب، وأولياء الصوفية يعملون في جلاء القلوب وتطهيرها وتصفيتها وتصقيلها فقط، فقد حكي أن أهل الصين وأهل الروم تباهوا بين يدي بعض الملوك بحسن صناعة النقش والصور فاستقر رأي الملك على أن يسلم إليهم صفة لينقش أهل الصين منها جانباً وأهل الروم جانبياً ويرخى بينهم حجاب يمنع اطلاع كل فريق على الآخر ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر ودخل أهل الصين من غير صبغ وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه، فلما فرغ أهل الروم ادعى أهل الصين أنهم فرغوا أيضاً فعجب الملك من قولهم وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ? فقيل: وكيف فرغتم من غير صبغ! فقالوا: ما عليكم ارفعوا الحجاب، فرفعوا وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية مع زيادة إشراق وبريق، إذ قد صار كالمرآة المجلوة لكثرة التصقيل فازداد حسن جانبهم بمزيد التقصيل؛ فكذلك عناية الأولياء بتطهير القلب وجلائه وتزكيته وصفائه حتى يتلألأ فيه جلية الحق بنهاية الإشراق كفعل أهل الصين، وعناية الحكماء والعلماء بالاكتساب ونقش العلوم وتحصيل نقشها في القلب كفعل أهل الروم، فكيفما كان الأمر فقلت المؤمن لا يموت وعلمه عند الموت لا يمحى وصفاؤه لا يتكدر وإليه أشار الحسن رحمه الله عليه بقوله: التراب لا يأكل محل الإيمان بل يكون وسيلة وقربة إلى الله تعالى.

وأما ما حصله من نفس العلم وما حصله من الصفاء والاستعداد لقبول نفس العلم فلا غنى به عنه ولا سعادة لأحد إلا بالعلم والمعرفة، وبعض السعادات أشرف من بعض كما أنه لا غنى إلا بالمال. فصاحب الدرهم غني وصاحب الخزائن المترعة غني، وتفاوت درجات السعداء بحسب تفاوت المعرفة والإيمان كما تتفاوت درجات الأغنياء بحسب قلة المال وكثرته، فالمعارف أنوار ولا يسعى المؤمنون إلى لقاء الله تعالى إلا بأنوارهم قال الله تعالى "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم" وقد روي في الخبر "أن بعضهم يعطى نوراً مثل الجبل وبعضهم أصغر حتى يكون آخرهم رجلاً يعطى نوراً على إبهامقدميه فيضيء مرة وينطفئ أخرى فإذا أضاء قدم قدميه فمشى وإذا طفئ قام، ومرورهم على الصراط على قدر نورهم فمنهم من يمر طرف العين ومنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالسحاب ومنهم من يمر كانقضاض الكواكب ومنهم من يمر كالفرس إذا اشتد في ميدانه، والذي أعطي نوراً على إبهام قدمه يحبو حبواً على وجهه ويديه ورجليه يجر يداً ويعلق أخرى ويصيب جوانبه النار فلا يزال كذلك حتى يخلص" الحديث فبهذا ظهر تفاوت الناس في الإيمان ولو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالمين سوى النبيين والمرسلين لرجح. فهذا أيضاً يضاهي قول القائل: لو وزن نور الشمس بنور السرج كلها لرجح؛ فإنما أحاد العوام نوره مثل نور السراج وبعضهم نوره كنور الشمع، وإيمان الصديقين كنور القمر والنجوم، وإيمان الأنبياء كالشمس. وكما ينكشف في نور الشمس صورة الآفاق مع اتساع أقطارها ولا ينكشف في نور السراج إلا زواية ضيقة من البيت فكذلك انشراح الصرد بالمعارف وانكشاف سعة الملكوت لقلوب العارفين. ولذلك جاء في الخبر "أنه يقال يوم القيامة اخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، ونصف مثقال وربع مثقال وشعيرة وذرة" كل ذلك تنبيه على تفاوت درجات الإيمان وأن هذه المقادير من الإيمان لا تمنع دخول النار، وفي مفهومه أن من إيمانه يزيد على مثقال فإنه لا يدخل النار، إذ لو دخل لأمر بإخراجه أولاً وأن من في قلبه مثقال ذرة لا يستحق الخلود في النار وإن دخلها. وكذلك قوله ﷺ "ليس شيء خيراً من ألف مثله إلا الإنسان المؤمن إشارة إلى تفضيل قلب العارف بالله تعالى الموقن فإنه خير من ألف قلب من العوام. وقد قال تعالى "وأنت الأعلون إن كنتم مؤمنين" تفضيلاً للمؤمنين على المسلمين والمراد به المؤمن العارف دون المقلد وقال عز وجل "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فأراد ههنا بالذين آمنوا الذين صدقوا من غير علم وميزهم عن الذين أوتوا العلم. ويدل ذلك على أن اسم المؤمن يقع على المقلد وإن لم يكن تصديقه عن بصيرة وكشف.

وفسر ابن عباس رضي الله عنهما قوله تعالى "والذين أوتوا العلم درجات" فقال يرفع الله العالم فوق المؤمن بسبعمائة درجة بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، وقال ﷺ "أكثر أهل الجنة البله وعليون لذوي الألباب وقال ﷺ "فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي" وفي رواية "كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب" فبهذه الشواهد يتضح لك تفاوت درجات أهل الجنة بحسب تفاوت قلوبهم ومعارفهم، ولهذا كان يوم القيامة يوم التغابن إذ المحروم من رحمة الله عظيم الغبن والخسران، والمحروم يرى فوق درجته درجات عظيمة فيكون نظره غليها كنظر الغني الذي يملك عشرة دراهم إلى الغني الذي يملك الأرض من المشرق إلى المغرب وكل واحد منهما غني ولكن ما أعظم الفرق بينهما وما أعظم الغبن على من يخسر حظه من ذلك "وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا".

بيان شواهد الشرع على صحة طريق أهل التصوف

في اكتساب المعرفة لا من التعلم ولا من الطريق المعتاد

اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسير بطريق الإلهام والوقوع في القلب من حيث لا يدري فقد صار عارفاً بصحة الطريق، ومن لم يدرك ذلك من نفسه قط فينبغي أن يؤمن به، فإن درجة المعرفة فيه عزيزة جداً، ويشهد لذلك شواهد الشرع والتجارب والحكايات:

أما الشواهد: فقوله تعالى "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" فكل حكمة تظهر من القلب بالمواظبة على العبادة من غير تعلم فهو بطريق الكشف والإلهام. وقال ﷺ "من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم ووفقه فيما يعمل حتى يستوجب الجنة ومن لم يعمل بما يعلم تاه فيما يعلم ولم يوفق فيما يعمل حتى يستوجب النار وقال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً" من الإشكالات والشبه "ويرزقه من حيث لا يحتسب" يعلمه علماً من غير تعلم ويفطنه من غير تجربة. وقال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً" قيل نوراً يفرق به بين الحق والباطل ويخرج به من الشبهات، ولذلك كان ﷺ يكثر في دعائه من سؤال النور فقال عليه الصلاة والسلام "اللهم أعطني نوراً وزدني نوراً واجعل لي في قلبي نوراً وفي قبري نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً حتى قال في شعري وفي بشري وفي لحمي ودمي وعظامي" وسئل ﷺ عن قول الله تعالى "أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه" ما هذا الشرح? فقال "هو التوسعة إن النور إذا قذف به في القلب اتسع له الصدر وانشرح وقال ﷺ لابن عباس "اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل وقال علي رضي الله عنه: ما عندنا شيء أسره النبي ﷺ إلينا إلا أن يؤتى الله تعالى عبداً فهماً في كتابه وليس هذا بالتعلم"? وقيل في تفسير قوله تعالى "يؤتى الحكمة من يشاء" إنه الفهم في:كتاب الله وقال تعالى "ففهمناها سليمان" خص ما انكشف باسم الفهم. وكان أبو الدرداء يقول: المؤمن من ينظر بنور الله من وراء ستر رقيق والله إنه للحق يقذفه الله في قلوبهم ويجريه على ألسنتهم. وقال بعض السلف: ظن المؤمن كهانة.

وقال ﷺ "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى وإليه يشير قوله تعالى "إن في ذلك لآيات للمتوسمين" وقوله تعالى "قد بينا الآيات لقوم يوقنون" وروى الحسن عن رسول الله ﷺ أنه قال "العلم علمان فعلم باطن في القلب فذلك هو العلم النافع" وسئل بعض العلماء عن العلم الباطن ما هو? فقال: هو سر من أسرار الله تعالى يقذفه الله تعالى في قلوب أحبابه لم يطلع عليه ملكاً ولا بشراً. وقد قال ﷺ "إن من أمتي محدثين ومعلمين ومكلمين وإن عمر منهم" وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ولا محدث" يعني الصديقين والمحدث هو الملهم، والملهم هو الذي انكشف له في باطن قلبه من جهة الداخل لا من جهة المحسوسات الخارجة.

والقرآن مصرح بأن التقوى مفتاح الهداية والكشف: وذلك علم من غير تعلم. وقال الله تعالى "وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون" خصصها بهم وقال تعالى "هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين" وكان أبو يزيد وغيره يقول: ليس العالم الذي يحفظ من كتاب فإذا نسي ما حفظه صار جاهلاً، إنما العالم الذي يأخذ علمه من ربه أي وقت شاء? بلا حفظ ولا درس. وهذا هو العلم الرباني وإليه الإشارة بقوله تعالى "وعلمنا من لدنا علماً" مع أن كل علم من لدنه ولكن بعضها بوسائط تعليم الخلق فلا يسمى ذلك علماً لدنيا بل اللدني الذي ينفتح في سر القلب من غير سبب مألوف من خارج فهذه شواهد النقل ولو جمع كل ما ورد فيه من الآيات والأخبار والآثار لخرج عن الحصر.

وأما مشاهدة ذلك بالتجارب فذلك أيضاً خارج عن الحصر وظهر ذلك على الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لعائشة رضي الله عنها عند موته: إنما هما أخواك وأختاك، وكانت زوجته حاملاً فولدت بنتاً فكان قد عرف قبل الولادة أنها بنت. وقال عمر رضي الله عنه في أثناء خطبته: يا سارية الجبل الجبل؛ إذ انكشف له أن العدو قد أشرف عليه فحذره لمعرفته ذلك، ثم بلوغ صوته إليه من جملة الكرامات العظيمة وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: دخلت على عثمان رضي الله عنه وكنت قد لقيت امرأة في طريقي فنظرت إليها شزراً وتأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه لما دخلت: يدخل علي أحدكم وأثر الزنا ظاهر على عينيه أما علمت أن زنا العينين النظر? لتتوبن أو لأعزرنك فقلت: أوحي بعد النبي? فقال. لا، ولكن بصيرة وبرهان وفراسة صادقة. وعن أبي سعيد الخراز قال: دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيراً عليه خرقتان، فقلت في نفسي: هذا وأشباهه كل على الناس، فناداني وقال "والله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه" فاستغفرت الله في سري فناداني وقال "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده" ثم غاب عني ولم أره.

وقال زكريا بن داود: دخل أبو العباس بن مسروق على أبي الفضل الهاشمي - وهو عليل وكان ذا عيال ولم يعرف له سبب يعيش به - قال: فلما قمت قلت في نفسي من أين يأكل هذا الرجل? قال: فصاح بي يا أبا العباس رد هذه الهمة الدنية فإن لله تعالى ألطافاً خفية. وقال أحمد النقيب: دخلت على الشبلي فقال مفتوناً: يا أحمد فقلت: ما الخبر? قال: كنت جالساً لجرى بخاطري أنك بخيل، فقلت: ما أنا بخيل، فعاد مني خاطري وقال: بل أنت بخيل، فقلت: ما فتح اليوم علي بشيء إلا دفعته إلى أول فقير يلقاني، قال: فما استتم الخاطر حتى دخل علي صاحب لمؤنس الخادم ومعه خمسون ديناراً فقال" اجعلها في مصالحك، قال: وقمت فأخذتها وخرجت وإذا بفقير مكفوف بين يدي مزيد يحلق رأسه فتقدمت إليه وناولته الدنانير، فقال: أعطها المزين، فقلت: إن جملتها كذا وكذا، قال: أوليس قد قلنا لك إنك بخيل? قال: فناولتها المزين فقال المزين: قد عقدنا لما جلس هذا الفقير بين أيدينا أن لا نأخذ عليه أجراً، قال: فرميت بها في دجلة وقلت: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل. وقال حمزة بن عبد الله العلوي: دخلت على أبي الخير النيناني واعتقدت في نفسي أن أسلم عليه ولا آكل في داره طعاماً، فلما خرجت من عنده إذا به قد لحقني وقد حمل طبقاً فيه طعام وقال: يا فتى كل فقد خرجت الساعة من اعتقادك، وكان أبو الخير النيناني هذا مشهوراً بالكرامات وقام إبراهيم الرقي: قصدته مسلماً عليه فحضرت صلاة المغرب فلم يكد يقرأ الفاتحة مستوياً فقلت في نفسي: ضاعت سفرتي! فلما سلم خرجت إلى الطهارة فقصدني سبع فعدت إلى أبي الخير وقلت: قصدني سبع، فخرج وصاح به وقال: ألم أقل لك لا تتعرض لضيفاني? فتنحى الأسد فتطهرت فلما رجعت قال لي: اشتغلتم بتقويم الظاهر فخفتم الأسد، واشتغلنا بتقويم البواطن فخافنا الأسد.

وما حكي من تفرس المشايخ وإخبارهم عن اعتقادات الناس وضمائرهم يخرج عن الحصر بل ما حكي عنهم من مشاهدة الخضر عليه السلام والسؤال منه، ومن سماع صوت الهاتف، ومن فنون الكرامات خارج عن الحصر والحكاية لا تنفع الجاحدما لم يشاهد ذلك من نفسه، ومن أنكر الأصل أنكر التفصيل والدليل القاطع الذي لا يقدر أحد على جحد أمران أحدهما: عجائب الرؤيا الصادقة فإنه ينكشف بها الغيب وإذا جاز ذلك في النوم فلا يستحيل أيضاً في اليقظة فلم يفارق النوم اليقظة إلا في ركود الحواس وعدم اشتغالها بالمحسوسات فكم من مستيقظ غائص لا يسمع ولا يبصر لاشتغاله بنفسه! والثاني: إخبار رسول الله ﷺ عن الغيب وأمور في المستقبل كما اشتمل عليه القرآن وإذا جاز ذلك للنبي ﷺ جاز لغيره إذ النبي عبارة عن شخص كوشف بحقائق الأمور وشغل بإصلاح الخلق فلا يستحيل أن يكون في الوجود شخص مكاشف بالحقائق ولا يشتغل بإصلاح الخلق، وهذا لا يسمى نبياً بل يسمى ولياً، فمن آمن بالأنبياء وصدق بالرؤيا الصحيحة لزمه لا محالة أن يقر بأن القلب له بابان: باب إلى خارج وهو الحواس، وباب إلى الملكوت من داخل القلب وهو باب الإلهام والنفث في الروع والوحي، فإذا أقربهما جميعاً لم يمكنه أن يحصر العلوم في التعلم ومباشرة الأسباب المألوفة، بل يجوز أن تكون المجاهدة سبيل إليه فهذا ما ينبه على حقيقة ما ذكرناه من عجيب تردد القلب بين عالم الشهادة وعالم الملكوت. وأما السبب في انكشاف الأمر في المنام بالمثال المحوج إلى التعبير وكذلك تمثل الملائكة للأنبياء والأولياء بصور مختلفة فذلك أيضاً من أسرار عجائب القلب، ولا يليق ذلك إلا بعلم المكاشفة فلنقتصر على ما ذكرناه فإنه كاف للاستحثاث على المجاهدة وطلب الكشف منها. فقد قال بعض المكاشفين ظهر لي الملك فسألني أملي عليه شيئاً من ذكري الخفي عن مشاهدتي من التوحيد وقال: ما نكتب لك عملاً ونحن نحب أن نصعد لك بعمل تتقرب به إلى الله عز وجل فقلت: ألستما تكتبان الفرائض? قالا: بلى، قلت: فيكفيكما ذلك. وهذه إشارة إلى أن الكرام الكاتبين لا يطلعون على أسرار القلب وإنما يطلعون على الأعمال الظاهرة. وقال بعض العارفين: سألت بعض الأبدال عن مسألة من مشاهدة اليقين فالتفت إلى شماله فقال: ما تقول رحمك الله? ثم التفت إلى يمينه فقال: ما تقول رحمك الله? ثم أطرق إلى صدره وقال: ما تقول رحمك الله? ثم أجاب بأغرب جواب سمعته فسألته عن التفاته فقال: لم يكن عندي في المسألة جواب عتيد، فسألت صاحب الشمال فقال لا أدري! فسألت صاحب اليمين وهو أعلم منه فقال لا أدري، فنظرت إلى قلبي وسألته فحدثني بما أجبتك فإذا هو أعلم منهما. وكأن هذا هو معنى قوله عليه السلام "إن في أمتي محدثين وإن عمر منهم".

وفي الأثر: إن الله تعالى يقول: أيما عبد اطلعت على قلبه فرأيت الغالب عليه التمسك بذكرى توليت سياسته وكنت جليسه ومحادثه وأنيسه. وقال أبو سليمان الداراني رحمة الله عليه: القلب بمنزلة القبة المضروبة حولها أبواب مغلقة باب فتح له عمل فيه? فقد ظهر انفتاح باب من أبواب القلب إلى جهة الملكوت والملأ الأعلى، وينفتح ذلك الباب بالمجاهدة والورع والإعراض عن شهوات الدنيا. ولذلك كتب عمر رضي الله عنه إلى أمراء الأجناد: احفظوا ما تسمعون من المطيعين فإنهم ينجلي لهم أمور صادقة. وقال بعض العلماء: يد الله على أفواه الحكماء لا ينطقون إلا بما هيأ الله لهم من الحق. وقال آخر: لو شئت لقلت إن الله تعالى يطلع الخاشعين على بعض سره.

بيان تسلط الشيطان على القلب بالوساوس

ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها

اعلم أن القلب كما ذكرناه مثال قبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب، ومثاله أيضاً مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب، أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا تخلو عنها، أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه. وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال؛ أما من الظاهر فالحواس الخمس، وأما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان؛ فإنه إذا أدرك بالحواس شيئاً حصل منه أثر في القلب، وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلاً بسبب كثرة الأكل وبسبب قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر وإن كف عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر. والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائماً من هذه الأسباب. وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر؛ وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الأفكار، والأذكار، وأعني به إدراكاته علوماً إما على سبيل التجدد وإما على سبيل التذكر فإنها تسمى خواطر من حيث أنها تخطر بعد أن كان القلب غافلاً عنها. والخواطر هي المحركات للإرادات فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوى بالبال لا محالة، فمبدأ الأفعال الخواطر، ثم الخاطر يحرك الرغبة، والرغبة تحرك العزم، والعزم يحرك النية، والنية تحرك الأعضاء. والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة، وإلى ما يدعو إلى ما ينفع في الدار الآخرة. فهما خاطران مختلفان فافتقرا إلى اسمين مختلفين، فالخاطر المحمود يسمى إلهاماً، والخاطر المذموم أعنى الداعي إلى الشر يسمى وسواساً، ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث. ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب. فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة.

وكذلك لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان: فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكاً، وسبب الخاطر الداعي إلى الشر يسمى شيطاناً واللطيف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقاًو الذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمىإغواء وخذلاناً، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير وإفادة العلم وكشف الحق والوعد بالخير والأمر بالمعروف، وقد خلقه وسخره لذلك والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر والأمر بالفحشاء؛ والتخويف عند الهم بالخير بالفقر. فالوسوسة في مقابلة الإلهام، والشيطان في مقابلة الملك، والتوفيق في مقابلة الخذلان. وإليه الإشارة بقوله تعالى "ومن كل شيء خلقنا زوجين" فإن الموجودات كلها متقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها. فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك. وقد قال رسول الله ﷺ "في القلب لمتان لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم -ثم تلا قوله تعالى "الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء" الآية". وقال الحسن إنما هما همان يجولان في القلب هم من الله تعالى وهم من العدو، فرحم الله عبداً وقف عند همه فما كان من الله تعالى أمضاه وما كان من عدوه جاهده.

ولتجاذب القلب بين هذين المسلطين قال رسول الله ﷺ "قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن" فالله تعالى عن أن يكون له أصبح مركبة من لحم ودم وعصب منقسمة بالأنامل ولكن روح الإصبع سرعة التقليب والقدرة على التحريك والتغيير، فإنك لا تريد إصبعك لشخصه بل لفعله في التقليب والترديد كما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك. والله تعالى يفعل ما يفعل باستسخار الملك والشيطان وهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب، كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلاص. والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ولقبول آثار الشيطان صلاحاً متساوياً ليس بترجح أحدهما على الآخر، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة. ولذلك قال ﷺ "ما منكم من أحد إلا وله شيطان" قالوا وأنت يا رسول الله? قال "وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمر إلا بخبر وإنما كان هذا لأن الشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير. ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطان مجالاً فوسوس. ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله وأقبل الملك وألهم. والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويستمكن، ويكون اجتياز الثاني اختلاساً. وأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة وإطراح الآخرة. ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى. ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب عن قوت الشيطان وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة. وقال جابر بن عبيدة العدوي: شكوت إلى العلاء بن زياد ما أجد في صدر من الوسوسة فقال: إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه. يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان. ولذلك قال الله تعالى "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" فكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله ولذلك سلط الله عليه الشيطان. وقال تعالى "أفرأيت من اتخذ إلهه هواه" وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده فهو عبد الهوى لا عبد الله. ولذلك قال عمرو ابن العاص للنبي ﷺ: يا رسول الله حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي فقال "ذلك شيطان يقال له خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه واتفل على يسارك ثلاثاً" قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني".

وفي الخبر "إن للوضوء شيطاناً يقال له الولهان فاستعيذوا بالله منه" ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به، لأنه إذا خطر في القلب ذلك شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل، ولكن كل شيء سوى الله تعالى وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضاً أن يكون مجالاً للشيطان، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال. ولا يعالج الشيء إلا بضده وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة، وهو معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة. قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" وقال مجاهد في معنى قول الله تعالى "من شر الوسواس الخناس" قال: هو منبسط على القلب؛ فإذا ذكر الله تعالى خنس وانقبض، وإذا غفل انبسط على قلبه. فالتطارد بين الله تعالى ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النور والظلام وبين الليل والنهار، ولتضادهما قال الله تعالى "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله" وقال أنس: قال رسول الله ﷺ "إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم فإن هو ذكر الله تعالى خنس وإن نسي الله تعالى التقم قلبه" وقال ابن وضاح في حديث ذكره: إذا بلغ الرجل أربعين سنة ولم يتب ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده وقال: بأبى وجه من لا يفلح".

وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم ابن آدم فسلطنة الشيطان أيضاً سارية في لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ولذلك قال ﷺ "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع". وذلك لأن الجوع يكسر الشهوة ومجرى الشيطان الشهوات. ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه قال الله تعالى إخباراً عن إبليس "لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" وقال ﷺ "إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك? فعصاه وأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر أتدع أرضك وسمائك? فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك، فعصاه وجاهد" وقال رسول الله ﷺ "فمن فعل ذلك فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة" فذكر رسول الله ﷺ معنى الوسوسة وهي هذه الخواطر التي تخطر للمجاهد أنه يقتل وتنكح نساؤه وغير ذلك مما يصرفه عن الجهاد وهذه الخواطر معلومة. فإذاً الوسواس معلوم بالمشاهدة وكل خاطر فله سبب ويفتقر إلى اسم يعرفه فاسم سببه الشيطان ولا يتصور أن ينفك عنه آدمي وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته، ولذلك قال عليه السلام "ما من أحد إلا وله شيطان".

فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان فبعد هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان أنه جسم لطيف أو ليس بجسم. وإن كان جسماً فكيف يدخل بدن الإنسان ما هو جسم? فهذا الآن غير محتاج إليه في علم المعاملة. بل مثال الباحث عن هذا مثال من دخلت في ثيابه حية وهو محتاج إلى إزالتها ودفع ضررها فاشتغل بالبحث عن لونها وشكلها وطولها وعرضها وذلك عين الجهل فمصادمة الخواطر الباعثة على الشر قد علمت ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة، وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور في المستقبل عدو فقد عرف العدو لا محالة فينبغي أن يشتغل بمجاهدته وقد عرف الله سبحانه عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن به ويحترز عنه فقال تعالى "إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" وقال تعالى "ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين" فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه. نعم ينبغي أن يسأل عن سلاحه ليدفعه عن نفسه وسلاح الشيطان الهوى والشهوات وذلك كاف للعالمين. فأما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته - نعوذ بالله منه - وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفات فلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته. نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعاً أنه داع إلى الشر فلا يخفى كونه وسوسة. وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاماً، وإلى ما يتردد فيه فلا يدري أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان? فإن من مكايد الشيطان أن يعرض الشر في معرض الخير، والتمييز في ذلك غامض وأكثر العباد به يهلكون، فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصور الشر بصورة الخير، كما يقول للعالم بطريق الوعظ: أما تنظر إلى الخلق وهم موتى من الجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار? أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم من المعاطب بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة? فكيف تكفر نعمة الله وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراط المستقيم? وهو لا يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بطليف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ الناس، ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقول له: إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولم يهتدوا إلى الحق. ولا يزال يقرر ذلك عنده وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعزز بكثرة الأتباع والعلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلى الهلاك، فيتكلم وهو يظن أن قصده الخير وإنما قصده الجاه والقبول، فيهلك بسبب وهو يظن أنه عند الله بمكان وهو من الذين قال فيهم رسول الله ﷺ "إن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم". و "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر ولذلك روي أن إبليس لعنه الله تمثل لعيسى بن مريم ﷺ فقال له" قل لا إله إلا الله. فقال: كلمة حق ولا أقولها بقولك. لأن له أيضاً تحت الخير تلبيسات، وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى وبها يهلك العلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشر ولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة.

وسنذكر جملة من مكايد الشيطان في كتاب الغرور في آخر هذا الربع. ولعلنا إن أمهل الزمان صنفنا فيه كتاباً على الخصوص نسميه (تلبيس إبليس) فإنه قد انتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لا سيما في المذاهب والاعتقادات، حتى لم يبق من الخيرات إلا رسمها، كل ذلك إذعاناً لتلبيسات الشيطان ومكايده.

فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له ليعلم أنه من لمة الملك أو لمة الشيطان وأن يمعن النظر فيه بعين البصيرة لا بهوى من الطبع، ولا يطلع عليه إلا بنور التقوى والبصيرة وغزارة العلم كما قال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا" أي رجعوا إلى نور العلم "فإذا هم مبصرون" أي ينكشف لهم الإشكال فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسه بمتابعة الهوى فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه وهو لا يشعر. وفي مثلهم قال سبحانه وتعالى "وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون" قيل هي أعمال ظنوها حسنات فإذا هي سيئات. وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس ومكايد الشيطان وذلك فرض عين على كل عبد وقد أهمله الخلق واشتغلوا بعلوم تستجر إليهم الوسواس وتسلط عليهم الشيطان وتنسيهم عداوته وطريق الاحتراز عنه. ولا ينجى من كثرة الوسواس إلا سد أبواب الخواطر. وأبوابها الحواس الخمس وأبوابها من داخل الشهوات وعلائق الدنيا. والخلوة في بيت مظلم تسد باب الحواس. والتجرد عن الأهل والمال يقلل مداخل الوسواس من الباطن ويبقى مع ذلك مداخل باطنة في التخيلات الجارية في القلب وذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى ثم أنه لا يزال يجاذب القلب وينازعه ويلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته، وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذ لا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حياً. نعم قد يقوى بحيث لا ينقاد له ويدفع عن نفسه شره بالجهاد، ولكن لا يستغنى قط عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه. فإذا ما دام حياً فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق وهي الشهوة والغضب والحسد والطمع والشره وغيرها - كما سيأتي شرحها - ومهما كان الباب مفتوحاً والعدو غير غافل لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة.

قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان? فتبسم وقال: لو نام لاسترحنا. فإذن لا خلاص للمؤمن منه. نعم له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته. قال ﷺ "إن المؤمن ينضى شيطانه كما ينضى أحدكم بعيره في سفره" وقال ابن مسعود شيطان المؤمن مهزول. وقال قيس بن الحجاج: قال لي شيطاني دخلت فيك وأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور، قلت: ولم ذاك? قال: تذيبني بذكر الله تعالى. فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة، أعني الأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة، وإنما يتعثرون في طرقه الغامضة فإنهم لا يهتدون إليها فيحرسونها كما أشرنا إليه في غرور العلماء والوعاظ والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة وباب الملائكة باب واحد، وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة فالعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة فلا يكاد يعلم الطريق إلا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة. والعين البصيرة ههنا هي القلب المصفى بالتقوى. والشمس المشرقة هو العلم الغزير المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله ﷺ مما يهدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة وغامضة. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: خط لنا رسول الله ﷺ يوماً خطا وقال "هذا سبيل الله" ثم خط خطوطاً عن يمين الخط وعن شماله ثم قال "هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ثم تلا "وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل" لتلك الخطوط فبين ﷺ كثرة طرقه.

وقد ذكرنا مثالاً للطريق الغامض من طرقه وهو الذي يخدع له العلماء والعباد المالكين لشهواتهم الكافين عن المعاصي الظاهرة، فلنذكر مثالاً لطريقه الواضح الذي لا يخفى إلا أن يضطر الآدمي إلى سلوكه. وذلك كما روي عن النبي ﷺ أنه قال "كان راهب في بني إسرائيل فعمد الشيطان إلى جارية فخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب، فأتوا بها إليه فأبى أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها، فلما كانت عنده ليعالجها أتاه الشيطان فزين له مقاربتها ولم يزل به حتى واقعها فحملت منه، فوسوس إليه وقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن سألوك فقل ماتت، فقتلها ودفنها، فأتي الشيطان أهلها فوسوس إليهم وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها، فأتاه أهلها فسألوه عنها فقال: ماتت، فأخذوه ليقتلوه بها فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي خنقتها وأنا الذي ألقيت في قلوب أهلها فأطعني تنج وأخلصك منهم قال: بماذا? قال: اسجد لي سجدتين؛ فسجد له سجدتين فقال له الشيطان: إني بريء منك. فهو الذي قال الله تعالى فيه "كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك" فانظر الآن إلى حيله واضطراره الراهب إلى هذه الكبائر، وكل ذلك لطاعته له في قبول الجارية للمعالجة وهو أمر هين وربما يظن صاحبه أنه خير وحسنة فيحسن ذلك في قلبه بخفي الهوى فيقدم عليه كالراغب في الخير فيخرج الأمر بعد ذلك عن اختياره ويجره البعض إلى البعض بحيث لا يجد محيصاً: فنعوذ بالله من تضييع أوائل الأمور وإليه الإشارة بقوله ﷺ "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".

بيان تفصيل مداخل الشيطان إلى القلب اعلم أن مثال القلب مثال حصن والشيطان عدو يريد أن يدخل الحصن فيملكه ويستولي عليه، ولا يقدر على حفظ الحصن من العدو إلا بحراسة أبواب الحصن ومداخله ومواضع ثلمه، ولا يقدر على حراسة أبوابه من لا يدري أبوابه، فحماية القلب عن وسواس الشيطان واجبة وهو فرض عين على كل عبد مكلف، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو أيضاً واجب، ولا يتوصل إلى دفع الشيطان إلا بمعرفة مداخله فصارت معرفة مداخله واجبة. ومداخل الشيطان وأبوابه صفات العبد وهي كثيرة، ولكنا نشير إلى الأبواب العظيمة الجارية مجرى الدروب التي لا تضيق عن كثرة جنود الشيطان.

فمن أبوابه العظيمة: الغضب والشهوة؛ فإن الغضب هو غول العقل وإذا ضعفت جند العقل هجم جند الشيطان. ومهما غضب الإنسان لعب الشيطان به كما يلعب الصبي بالكرة. فقد روي أن موسى عليه السلام لقيه إبليس فقال له: يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالته وكلمك وأنا خلق من خلق الله أذنبت وأريد أن أتوب فاشفع لي إلى ربي أن يتوب علي، فقال موسى: نعم، فلما صعد موسى الجبل وكلم ربه عز وجل وأراد النزول قال له ربه: أد الأمانة، فقال موسى: يا رب عبدك إبليس يريد أن تتوب عليه، فأوحى الله تعالى إلى موسى: يا موسى قد قضيت حاجتك مرة أن يسجد لقبر آدم حتى يتاب عليه، فلقي موسى إبليس فقال له: قد قضيت حاجتك أمرت أن تسجد لقبر آدم حتى يتاب عليك، فغضب واستكبر وقال: لم أسجد له حياً أسجد له ميتاً? ثم قال له: يا موسى إن لك علي حقاً بما شفعت لي إلى ربك فاذكرني عند ثلاث لا أهلكك فيهن: اذكرني حين تغضب فإن روحي في قلبك وعيني في عينك وأجري منك مجرى الدم؛ اذكرني إذا غضبت فإنه إذا غضب الإنسان نفخت في أنفه فما يدري ما يصنع، واذكرني حين تلقى الزحف فإني آتي ابن آدم حين يلقى الزحف فأذكره زوجته وولده وأهله حتى يولى، وإياك أن تجلس إلى امرأة ليست بذات محرم فإني رسولها إليك ورسولك إليها فلا أزل حتى أفتنك بها وأفتنها بك. فقد أشار بهذا إلى الشهوة والغضب والحرص فإن الفرار من الزحف حرص على الدنيا، وامتناعه من السجود لآدم ميتاً هو الحسد وهو أعظم مداخله وقد ذكر أن بعض الأولياء قال لإبليس: أرني كيف تغلب ابن آدم? فقال: آخذه عند الغضب وعند الهوى، فقد حكي أن إبليس ظهر لراهب فقال له الراهب: أي أخلاق بني آدم أعون لك? قال: الحدة فإن العبد إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة: وقيل: إن الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه?

ومن أبوابه العظيمة الحسد والحرص فمهما كان العبد حريصاً على كل شيء أعماه حرصه وأصمه إذ قال ﷺ "حبك للشي يعمي ويصم ونور البصيرة هو الذي يعرف مداخل الشيطان فإذا غطاه الحسد والحرص لم يبصر فحينئذ يجد الشيطان فرصة فيحسن عند الحريص كل ما يوصله إلى شهوته وإن كان منكراً وفاحشاً. فقد روي أن نوحاً عليه السلام لما ركب السفينة حمل فيها من كل زوجين اثنين كما أمره الله تعالى، فرأى في السفينة شيخاً لم يعرفه فقال له نوح: ما أدخلك? فقال: دخلت لأصيب قلوب أصحابك فتكون قلوبهم معي وأبدانهم معك، فقال له نوح: أخرج منها يا عدو الله فإنك لعين، فقال له إبليس: خمس أهلك بهن الناس وسأحدثك منهن بثلاث ولا أحدثك باثنتين، فأوحى الله تعالى إلى نوح: أنه لا حاجة لك بالثلاث فليحدثك بالاثنتين، فقال له نوح: ما الاثنتان? فقال: هما اللتان لا تكذباني هما اللتان لا تخلفاني بهما أهلك الناس؛ الحرص والحسد، فبالحسد لعنت وجعلت شيطاناً رجيماً، وأما الحرص فإنه أبيح لآدم الجنة كلها إلا الشجرة فأصبت حاجتي منه بالحرص.

ومن أبوابه العظيمة: الشبع من الطعام وإن كان حلالاً صافياً؛ فإن الشبع يقوي الشهوات والشهوات أسلحة الشيطان. فقد روي أن إبليس ظهر ليحيى بن زكريا عليهما السلام فرأى عليه معاليق من كل شيء فقال له: يا إبليس ما هذه المعاليق? قال: هذه الشهوات التي أصبت بها ابن آدم فقال: فهل فيها من شيء? قال: ربما شبعت فثقلناك عن الصلاة وعن الذكر، قال: فهل غير ذلك? قال: لا" قال لله على أن لا أملأ بطني من الطعام أبداً، فقال له إبليس: والله على أن لا أنصح مسلماً أبداً. ويقال في كثرة الأكل ست خصال مذمومة؛ أولها: أن يذهب خوف الله من قلبه. الثاني: أن يذهب رحمة الخلق من قلبه لأنه يظن أنهم كلهم شباع. والثالث: أنه يثقل عن الطاعة. والرابع: أنه إذا سمع كلام الحكمة لا يجد له رقة، والخامس: أنه إذا تكلم بالموعظة والحكمة لا يقع في قلوب الناس. والسادس: أن يهيج فيه الأمراض.

ومن أبوابه: حب التزين من الأثاث والثياب والدار، فإن الشيطان إذا رأى ذلك غالباً على قلب الإنسان باض فيه وفرخ، فلا يزال يدعوه إلى عمارة الدار وتزيين سقوفها وحيطانها وتوسيع أبنيتها ويدعوه إلى التزين بالثياب والدواب ويستسخره فيها طول عمره، وإذا أوقعه في ذلك فقد استغنى أن يعود إليه ثانية، فإن بعض ذلك يجره إلى البعض فلا يزال يؤديه من شيء إلى شيء إلى أن يساق إليه أجله فيموت وهو في سبيل الشيطان واتباع الوى ويخشى من ذلك سوء العاقبة بالكفر نعوذ بالله منه.

ومن أبوابه العظيمة: الطمع في الناس: لأنه إذا غلب الطمع على القلب لم يزل الشيطان يحبب إليه التصنع والتزين لمن طمع فيه بأنواع الرياء والتلبيس حتى المطموع فيه كأنه معبوده فلا يزال يتفكر في حيلة التودد والتحبب إليه ويدخل كل مدخل للوصول إلى ذلك. وأقل أحواله الثناء عليه بما ليس فيه والمداهنة له بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقد روى صفوان بن سليم أن إبليس تمثل لعبد الله بن حنظلة فقال له: يا ابن حنظلة احفظ عني شيئاً أعلمك به فقال: لا حاجة لي به: قال: انظر فإن كان خيراً أخذت وإن كان شراً رددت، يا ابن حنظلة لا تسأل أحداً غير الله سؤال رغبة? وانظر كيف تكون إذا غضبت? فإني أملكك إذا غضبت.

ومن أبوابه العظيمة: العجلة وترك التثبت في الأمور، وقال ﷺ "العجلة من الشيطان والتأني من الله تعالى وقال عز وجل "خلق الإنسان من عجل" وقال تعالى "وكان الإنسان عجولاً" وقال لنبيه ﷺ "ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضي إليك وحيه" وهذا لأن الأعمال ينبغي أن تكون بعد التبصرة والمعرفة، والتبصرة تحتاج إلى تأمل وتمهل، والعجلة تمنع من ذلك، وعند الاستعجال يروج الشيطان شره على الإنسان من حيث لا يدري. فقد روي أنه لما ولد عيسى بن مريم عليه السلام أتت الشياطين إبليس فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها فقال هذا حادث، مكانكم فطار حتى أتي خافقي الأرض فلم يجد شيئاً، ثم وجد عيسى عليه السلام قد ولد وإذا الملائكة حافين به، فرجع إليهم فقال: إن نبياً قد ولد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا وأنا حاضرها إلا هذا، فأيسوا من أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة ولكن ائتوا بني آدم من قبل العجلة والخفة.

ومن أبوابه العظيمة: الدراهم والدنانير وسائر أصناف الأموال من العروض والدواب والعقار؛ فإن كل ما يزيد على قدر القوت والحاجة فهو مستقر الشيطان، فإن من معه قوته فهو فارغ القلب. فلو وجد مائة دينار مثلاً على طريق انبعث من قلبه شهوات تحتاج كل شهوة منها إلى مائة دينار أخرى فلا يكفيه ما وجد بل يحتاج إلى تسعمائة أخرى، وقد كان قيل قبل وجود المائة مستغنياً، فالآن لما وجد مائة ظن أنه صار بها غنياً وقد صار محتاجاً إلى تسعمائة ليشتري داراً يعمرها وليشتري جارية وليشتري أثاثاً ويشتري الثياب الفاخرة، وكل شيء من ذلك يستدعي شيئاً آخر يليق به. وذلك لا آخر له فيقع في هاوية آخرها عمق جهنم فلا آخر لها سواء. قال ثابت البناني لما بعث رسول الله ﷺ قال إبليس لشياطينه: لقد حدث أمر فانظروا ما هو فانطلقوا حتى أعيوا ثم جاءوا وقالوا ما ندري? قال: أنا آتيكم بالخبر فذهب ثم جاء وقال: قد بعث الله محمداً ﷺ قال: فجعل يرسل شياطينه إلى أصحاب النبي ﷺ فينصرفون خائبين ويقولون: ما صحبنا قوماً قط مثل هؤلاء نصيب منهم ثم يقومون إلى صلاتهم فيمحى ذلك، فقال لهم إبليس: رويداً بهم عسى الله أن يفتح لهم الدنيا فنصيب منهم حاجتنا. وروي أن عيسى عليه الصلاة والسلام توسد يوماً حجراً فمر به إبليس فقال: يا عيسى رغبت في الدنيا? فأخذه عيسى ﷺ فرمى به من تحت رأسه وقال: هذا لك مع الدنيا وعلى الحقيقة من يملك حجراً يتوسد به عند النوم فقد ملك من الدنيا ما يمكن أن يكون عدة للشيطان عليه. فإن القائم بالليل مثلاً للصلاة مهما كان بالقرب منه حجر، يمكن أن يتوسده? ولا تتحرك رغبته إلى النوم. هذا في حجر فكيف بمن يملك المخاد الميثرة والفرش الوطيئة والمنتزهات الطيبة فمتى ينشط لعبادة الله تعالى? ومن أبوابه العظيمة: البخل وخوف الفقر؛ فإن ذلك هو الذي يمنع الإنفاق والتصدق ويدعو إلى الإدخار والكنز والعذاب الأليم وهو الموعود للمكاثرين كما نطق به القرآن العزيز. قال خيثمة بن عبد الرحمن: إن الشيطان يقول: ما غلبني ابن غلبة فلن يغلبني على ثلاث؛ أن يأخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، ومنعه من غير حقه. وقال سفيان: ليس للشيطان سلاح مثل خوف الفقر فإذا قبل ذلك منه أخذ في الباطل ومنع من الحق وتكلم بالهوى وظن بربه ظن السوء.

ومن آفات البخل الحرص على ملازمة الأسواق لجمع المال، والأسواق هي معشش الشياطين. وقال أبو إمامة إن رسول الله ﷺ قال "إن إبليس لما نزل إلى الأرض قال: يا رب أنزلتني إلى الأرض وجعلتني رجيماً فاجعل لي بيتاً قال الحمام، قال: اجعل لي مجلساً قال الأسواق ومجامع الطرق، قال: اجعل لي طعاماً قال طعامك ما يذكر اسم الله عليه، قال: اجعل لي شراباً قال كل مسكر، قال: اجعل لي مؤذناً قال المزامير، قال: اجعل لي قرآناً قال الشعر، قال: اجعل لي كتاباً قال الوشم، قال: اجعل لي حديثاً قال الكذب، قال: اجعل لي مصايد قال النساء".

ومن أبوابه العظيمة: التوصل: التعصب للمذاهب والأهواء والحقد على الخصوم والنظر إليهم بعين الازدراء والاستحقار، وذلك مما يهلك العباد والفساق جميعاً فإن الطعن في الناس والاشتغال بذكر نقصهم صفة مجبولة في الطبع من الصفات السبعية، فإذا خيل إليه الشيطان أن ذلك هو الحق وكان موافقاً لطبعه غلبت حلاوته على قلبه فاشتغل به بكل همته، وهو بذلك فرحان مسرور يظن أنه يسعى في الدين وهو ساع في اتباع الشياطين، فترى الواحد منهم يتعصب لأبي بكر الصديق رضي الله عنه وهو آكل الحرام ومطلق اللسان بالفضول والكذب ومتعاط لأنواع الفساد ولو رآه أبو بكر لكان أول عدو له إذ موالي أبي بكر من أخذ سبيله وسار بسيرته وحفظ ما بين لحييه، وكان من سيرته رضي الله عنه أن يضع حصاة في فمه ليكف لسانه عن الكلام فيما لا يعنيه فأنى لهذا الفضولي أن يدعي ولاءه وحبه ولا يسير بسيرته? وترى فضولياً آخر يتعصب لعلي رضي الله عنه وكان من زهد علي وسيرته أنه لبس في خلافته ثوباً اشتراه بثلاثة دراهم وقطع رأس الكمين إلى الرسغ، ونرى الفاسق لابساً الثياب الحرير ومتجملاً بأموال اكتسبها من حرام وهو يتعاطى حب علي رضي الله عنه ويدعيه وهو أول خصمائه يوم القيامة، وليت شعري من أخذ ولداً عزيزاً لإنسان هو قرة عينه وحياة قلبه فأخذ يضربه ويمزقه وينتف شعره ويقطعه بالمقراض وهو مع ذلك يدعي حب أبيه وولاءه فكيف يكون حاله عنده? ومعلوم أن الدين والشرع كانا أحب إلا أبي بكر وعمر وعثمان وعلى سائر الصحابة رضي الله عنهم، من الأهل والولد بل من أنفسهم والمقتحمون لمعاصي الشرع هم الذين يمزقون الشرع ويقطعونه بمقاريض الشهوات ويتوددون به إلى عدو الله إبليس وعدو أوليائه فترى كيف يكون حالهم يوم القيامة عند الصحابة وعند أولياء الله تعالى? لا بل لو كشف الغطاء وعرف هؤلاء ما تحبه الصحابة في أمة رسول الله ﷺ لاستحيوا أن يجروا على اللسان ذكرهم مع قبح أفعالهم? ثم إن الشيطان يخيل إليهم أن من مات محباً لأبي بكر وعمر فالنار لا تحوم حوله، ويخيل إلى الآخر أنه إذا مات محباً لعلي لم يكن عليه خوف وهذا رسول الله ﷺ يقول لفاطمة رضي الله عنها وهي بضعة منه اعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئاً وهذا مثال أوردناه من جملة الأهواء. وهكذا حكم المتعصبين للشافعي وأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم من الأئمة فكل من ادعى مذهب إمام وهو ليس يسير بسيرته فذلك الإمام هو خصمه يوم القيامة إذ يقول له: كان مذهبي العمل دون الحديث باللسان، وكان الحديث باللسان لأجل العمل لا لأجل الهذيان؛ فما بالك خالفتني في العمل والسيرة التي هي مذهبي ومسلكي الذي سلكته وذهبت فيه إلى الله تعالى ثم ادعيت مذهبي كاذباً? وهذا مدخل عظيم من مداخل الشيطان قد أهلك به أكثر العالم، وقد سلمت المدارس لأقوام قل من الله خوفهم وضعفت في الدين بصيرتهم وقويت في الدنيا رغبتهم واشتد على الاستتباع حرصهم ولم يتمكنوا من الاستتباع وإقامة الجاه إلا بالتعصب، فحبسوا ذلك في صدورهم ولم ينبهوهم على مكايد الشيطان فيه، بل نابوا عن الشيطان في تنفيذ مكيدته فاستمر الناس عليه ونسوا أمات دينهم فقد هلكوا وأهلكوا فالله تعالى يتوب علينا وعليهم، وقال الحسن: بلغنا أن إبليس قال: سولت لأمة محمد ﷺ المعاصي فقصموا ظهري بالاستغفار فسولت لهم ذنوباً لا يستغفرون الله تعالى منها وهي الأهواء. وقد صدق الملعون فإنهم لا يعلمون أن ذلك من الأسباب التي تجر إلى المعاصي فكيف يستغفرون منها?.

ومن عظيم حيل الشيطان أن يشغل الإنسان عن نفسه بالاختلافات الواقعة بين الناس في المذاهب والخصومات قال عبد الله بن مسعود: جلس قوم يذكرون الله تعالى فأتاهم الشيطان ليقيمهم عن مجلسهم ويفرق بينهم فلم يستطع، فأتى رفقة أخرى يتحدثون بحديث الدنيا فأفسد بينهم فقاموا يقتتلون - وليس إياهم يريد- فقام الذين يذكرون الله تعالى فاشتغلوا بهم يفصلون بينهم فتفرقوا عن مجسلهم، وذلك مراد الشيطان منهم.

ومن أبوابه حمل العوام الذين لم يمارسوا العلم ولم يتبحروا فيه على التفكير في ذات الله تعالى وصفاته، وفي أمور لا يبلغها حد عقولهم حتى يشككهم في أصل الدين، أو يخيل إليهم في الله تعالى خيالات يتعالى الله عنها يصير أحدهم بها كافراً أو مبتدعاً وهو به فرح مسرور مبتهج بما وقع في صدره، يظن ذلك هو المعرفة والبصيرة وأنه انكشف له ذلك بذكائه وزيادة عقله فأشد الناس حماقة أقواهم اعتقاداً في عقل نفسه وأثبت الناس عقلاً أشدهم اتهاماً لنفسه وأكثرهم سؤالاً من العلماء. قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ﷺ "إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول من خلقك? فيقول الله تبارك وتعالى فيقول فمن خلق الله? فإذا وجد أحدكم ذلك فليقل آمنت بالله ورسوله فإن ذلك يذهب عنه والنبي ﷺ لم يأمر بالبحث في علاج هذا الوسواس فإن هذا وسواس يجده عوام الناس دون العلماء وإنما حق العوام أن يؤمنوا ويسلموا ويشتغلوا بعبادتهم ومعايشهم ويتركوا العلم للعلماء فالعامي لو يزني ويسرق كان خيراً له من أن يتكلم في العلم فإنه من تكلم في الله وفي دينه من غير إتقان العالم وقع في الكفر من حيث لا يدري، كمن يركب لجة البحر وهو لا يعرف السباحة ومكايد الشيطان فيما يتعلق بالعقائد، والمذاهب لا تحصر وإنما أردنا بما أرودناه المثال.

ومن أبوابه سوء الظن بالمسلمين قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" فمن يحكم بشر على غيره بالظن بعثه الشيطان على أن يطول فيه اللسان بالغيبة فيهلك أو يقصر في القيام بحقوقه أو يتوانى في إكرامه وينظر إليه بعين الاحتقار ويرى نفسه خيراً منه. وكل ذلك من المهلكات ولأجل ذلك منع الشرع من التعرض للتهم فقال ﷺ "اتقوا مواضع التهم" حتى احترز هو ﷺ من ذلك. روي عن علي بن حسين أن صفية بنت حي بن أخطب أخبرته أن النبي ﷺ كان معتكفاً في المسجد قالت: فأتيته فتحدثت عنده فلما أمسيت انصرفت فقام يمشي معي فمر به رجلان من الأنصار فسلما ثم انصرفا فناداهما وقال "إنها صفية بنت حي" فقالا يا رسول الله ما نظن بك إلا خيراً، فقال "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم من الجسد وإني خشيت أن يدخل عليكما فانظر كيف أشفق ﷺ على دينهما فحرسهما? وكيف أشفق على أمته فعلمهم طريق الاحتراز من التهمة حتى لا يتساهل العالم الورع المعروف بالدين في أحواله? فيقول: مثل لا يظن به إلا الخير إعجابا منه بنفسه. فإن أورع الناس وأتقاهم وأعلمهم لا ينظر الناس كلهم إليه بعين واحدة، بل بعين الرضا بعضهم وبعين السخط بعضهم ولذلك قال الشاعر: وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا

فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار فإن الأشرار لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر. فمهما رأيت إنساناً يسيء الظن بالناس طالباً للعيوب فاعلم أنه خبيث الباطن وأن ذلك خبثه يترشح منه، وإنما رأى غيره من حيث هو فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب، والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق. فهذه بعض مداخل الشيطان إلى القلب ولو أردت استقصاء جميعها لم أقدر عليه وفي هذا القدر ما ينبه على غيره فليس في الآدمي صفة مذمومة إلا وهي سلاح الشيطان ومدخل من مداخله.

فإن قلت: فما العلاج في دفع الشيطان وهل يكفي في ذلك ذكر الله تعالى وقول الإنسان لا حول ولا قوة إلا بالله فاعلم أن علاج القلب في ذلك سد هذه المداخل بتطهير القلب من هذه الصفات المذمومة وذلك مما يطول ذكره. وغرضنا في هذا الربع من الكتاب بيان علاج الصفات المهلكات وتحتاج كل صفة إلى كتاب منفرد على ما سيأتي شرحه - نعم إذا قطعت من القلب أصول هذه الصفات كان للشيطان بالقلب اجتيازات وخطرات ولم يكن له استقرار ويمنعه من الاجتياز ذكر الله تعالى لأن حقيقة الذكر لا تتمكن من القلب إلا بعد عمارة القلب بالتقوى وتطهيره من الصفات المذمومة، وإلا فيكون الذكر حديث نفس لا سلطان له على القلب فلا يدفع سلطان الشيطان. ولذلك قال الله تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" خصص بذلك المتقي فمثل الشيطان كمثل كلب جائع يقرب منك فإن لم يكن بين يديك خبز أو لحم فإنه ينزجر بأن تقول له: اخسأ، فمجرد الصوت يدفعه. فإن كان بين يديك لحم وهو جائع فإنه يهجم على اللحم ولا يندفع بمجرد الكلام، فالقلب الخالي عن قوت الشيطان ينزجر عنه بمجرد الذكر، فأما الشهوة إذا غلبت على القلب دفعت حقيقة الذكر إلى حواشي القلب فلم يتمكن من سويدائه فيستقر الشيطان في سويداء القلب. وأما قلوب المتقين الخالية من الهوى والصفات المذمومة فإنه يطرقها الشيطان لا للشهوات بل لخلوها بالغفلة عن الذكر، فإذا عاد إلى الذكر خنس الشيطان ودليل ذلك قوله تعالى "فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم" وسائر الأخبار والآيات الواردة في الذكر.

قال أبو هريرة: التقى شيطان المؤمن وشيطان الكافر فإذا شيطان الكافر دهين سمين كاس وشيطان المؤمن مهزول أشعث أغبر عار، فقال شيطان الكافر لشيطان المؤمن: مالك مهزول? قال: أنا مع رجل إذا أكل سمى الله فأظل جائعاً وإذا شرب سمى الله فأظل عطشاناً، وإذا لبس سمى الله فأظل عريانا، وإذا ادهن سمى الله فأظل شعثاً، فقال: لكني مع رجل لا يفعل شيئاً من ذلك فأنا أشاركه في طعامه وشرابه ولباسه. وكان محمد بن واسع يقول كل يوم بعد صلاة الصبح: اللهم إنك سلطت علينا عدواً بصيراً بعيوننا يرانا هو وقبيله من حيث لا نراهم اللهم فآيسه منا كما آيسته من رحمتك وقنطه منا كما قنطته من عفوك وباعد بيننا وبينه كما باعدت بينه وبين رحمتك إنك على كل شيء قدير. قال: فتمثل له إبليس يوماً في طريق المسجد فقال له: يا ابن واسع هل تعرفني? قال: ومن أنت? قال: أنا إبليس، فقال: وما تريد? قال: أريد أن لا تعلم أحد هذه الاستعاذة ولا أتعرض لك، قال: والله لا أمنعها ممن أراد فاصنع ما شئت. وعن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: كان شيطان يأتي النبي ﷺ بيده شعلة من نار فيقوم بين يديه وهو يصلي فيقرأ ويتعوذ فلا يذهب، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له: قل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها ومن فتن الليل والنهار ومن طوارق الليل والنهار إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن. فقال ذلك فطفئت شعلته وخر على وجهه وقال الحسن. نبئت أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي ﷺ فقال: إن عفريتاً من الجن يكيدك فإذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي وقال ﷺ "أتاني الشيطان فنازعني ثم نازعني فأخذت بحلقه فوالذي بعثني بالحق ما أرسلته حتى وجدت برد ماء لسانه على يدي ولولا دعوة أخي سليمان عليه السلام لأصبح طريحا في المسجد" وقال ﷺ "ما سلك عمر فجا إلا سلك الشيطان فجا غير الذي سلكه عمر وهذا لأن القلوب كانت مطهرة عن مرعى الشيطان وقوته وهي الشهوات فمهما طمعت في أن يندفع الشيطان عنك بمجرد الذكر كما اندفع عن عمر رضي الله عنه كان محالاً، وكنت كمن يطمع أن يشرب دواء قبل الاحتماء والمعدة مشغولة بغليظ الأطعمة، ويطمع أن ينفعه كما نفع الذي شربه بعد الاحتماء وتخلية المعدة، والذكر الدواء والتقوى احتماء وهي تخلي القلب عن الشهوات. فإذا نزل الذكر قلباً فارغاً عن غير الذكر اندفع الشيطان كما تندفع العلة بنزول الدواء في المعدة الخالية عن الأطعمة. قال الله تعالى "إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب" وقال تعالى "كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير" ومن ساعد الشيطان بعمله فهو مواليه وإن ذكر الله بلسانه. وإن كنت تقول الحديث قد ورد مطلقاً بأن الذكر يطرد الشيطان ولم تفهم أن أكثر عمومات الشرع مخصوصة بشروط نقلها علماء الدين فانظر إلى نفسك، فليس الخبر كالعيان، وتأمل أن منتهى ذكرك وعبادتك الصلاة؛ فراقب قلبك إذا كنت في صلاتك كيف يجاذبه الشيطان إلى الأسواق وحساب العالمين وجواب المعاندين وكيف يمر بك في أودية الدنيا ومهالكها حتى إنك لا تذكر ما قد نسيته من فضول الدنيا إلا في صلاتك ولا يزدحم الشيطان على قلبك إلا إذا صليت? فالصلاة محك القلوب فيها يظهر محاسنها ومساويها ؛ فالصلاة لا تقبل من القلوب المشحونة بشهوات الدنيا فلا جرم لا ينطرد عنك الشيطان بل ربما يزيد عليك الوسواس، كما أن الدواء قبل الاحتماء ربما يزيد عليك الضرر، فإن أردت الخلاص من الشيطان فقدم الاحتماء بالتقوى ثم أردفه بدواء الذكر يفر الشيطان منك كما فر من عمر رضي الله عنه. ولذلك قال وهب بن منبه: اتق الله ولا تسب الشيطان في العلانية وأنت صديقه في السر؛ أي أنت مطيع له. وقال بعضهم: يا عجبا لمن يعصى المحسن بعد معرفته بإحسانه ويطيع اللعين بعد معرفته بطغيانه. وكما أن الله تعالى قال "ادعوني أستجب لكم" وأنت تدعوه ولا يستجيب لك فكذلك تذكر الله ولا يهرب الشيطان منك لفقد شروط الذكر والدعاء.

قيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا وقد قال تعالى "ادعوني أستجب لكم"? قال: لأن قلوبكم ميتة، قيل وما الذي أماتها? قال: ثمان خصال؛ عرفتم حق الله ولم تقوموا بحقه، وقرأتم القرآن ولم تعملوا بحدوده، وقلتم نحب رسول الله ﷺ ولم تعملوا بسنته، وقلتم نخشى الموت ولم تستعدوا له، وقال تعالى "إن الشيطان لكم عدواً فاتخذوه عدواً" فواطأتموه على المعاصي، وقلتم نخاف النار وأرهقتم أبدانكم فيها، وقلتم نحب الجنة ولم تعملوا لها، وإذا قمتم من فرشكم رميتم عيوبكم وراء ظهوركم وافترشتم عيوب الناس أمامكم فأسخطتم ربكم، فكيف يستجيب لكم? فإن قلت فالداعي إلى المعاصي المختلفة شيطان واحد أو شياطين مختلفون? فاعلم أنه لا حاجة لك إلى معرفة ذلك في المعاملة فاشتغل بدفع العدو ولا تسأل عن صفته. كل البقل من حيث يؤتى ولا تسأل عن المبقلة، ولكن الذي يتضح بنور الاستبصار في شواهد الأخبار: أنهم جنود مجندة وأن لكل نوع من المعاصي شيطاناً يخصه ويدعو إليه فأما طريق الاستبصار فذكره يطول ويكفيك القدر الذي ذكرناه وهو أن اختلاف المسببات يدل على اختلاف الأسباب كما ذكرناه في نور النار وسواد الدخان.

وأما الأخبار فقد قال مجاهد: لإبليس خمسة من الأولاد قد جعل كل واحد منهم على شيء من أمره: ثبر والأعور ومبسوط وداسم وزلنبور. فأما ثبر: فهو صاحب المصائب الذي يأمر بالثبور وشق الجيوب ولطم الخدود ودعوى الجاهلية. وأما الأعور: فإنه صاحب الزنا يأمر به ويزينه. وأما مبسوط: فهو صاحب الكذب. وأما داسم: فإنه يدخل مع الرجل إلى أهله يرميهم بالعيب عنده ويغضبه عليهم وأما زلنبور: فهو صاحب السوق فبسببه لا يزالون متظلمين. وشيطان الصلاة يسمى خنزب وشيطان الوضوء يسمى الولهان وقد ورد في ذلك أخبار كثيرة.

وكما أن الشياطين فيهم كثرة فكذلك في الملائكة. وقد ذكرنا في كتاب الشكر السر في كثرة الملائكة واختصاص كل واحد منهم بعمل منفرد به، وقد قال أبو أمامة الباهلي قال رسول الله ﷺ "وكل بالمؤمن مائة وستون ملكاً يذبون عنه ما لم يقدر عليه من ذلك؛ للبصر سبعة أملاك يذبون عنه كما يذب الذباب عن قصعة العسل في اليوم الصائف، وما لو بدا لكم لرأيتموه على كل سهل وجبل كل باسط يده فاغر فاه، ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين".

وقال أيوب بن يونس بن يزيد: بلغنا أنه يولد مع أبناء الإنس من أبناء الجن ثم ينشئون معهم. وروى جابر ابن عبد الله: أن آدم عليه السلام لما هبط إلى الأرض قال يا رب هذا الذي جعلت بيني وبينه عداوة إن لم تعني عليه ولا أقوى عليه، قال: لا يولد لك ولد إلا وكل به ملك، قال: يا رب زدني، قال: أجزي بالسيئة سيئة وبالحسنة عشراً إلى ما أريد، قال: رب زدني، قال: باب التوبة مفتوح ما دام في الجسد الروح، قال إبليس: يا رب هذا العبد الذي كرمته على إن لا تعني عليه لا أقوى عليه? قال لا يولد له ولد إلا ولد لك ولد: قال: يا رب زدني، قال: تجري منهم مجرى الدم وتتخذون صدورهم بيوتاً، قال: رب زدني، قال: أجلب عليهم بخيلك ورجلك إلى قوله غروراً، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ "خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض، وصنف كالريح في الهواء، وصنف عليهم الثواب والعقاب. وخلق الله تعالى الإنس ثلاثة أصناف: صنف كالبهائم كما قال تعالى "لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل" وصنف أجسامهم أجسام بني آدم وأرواحهم أرواح الشياطين، وصنف في ظل الله تعالى يوم القيامة لا ظل إلا ظله"، وقال وهيب بن الورد: بلغنا أن إبليس تمثل ليحيى بن زكريا عليهما السلام وقال: إني أريد أن أنصحك، قال: لا حاجة لي في نصحك ولكن أخبرني عن بني آدم قال: هم عندنا ثلاثة أصناف: أما صنف منهم وهم أشد الأصناف علينا نقبل على أحدهم حتى نفتنه ونتمكن منه فيفزع إلى الاستغفار والتوبة فيفسد علينا كل شيء أدركنا منه ثم نعود إليه فيعود فلا نحن نيأس منه ولا نحن ندرك منه حاجتنا فنحن منه في عناء. وأما الصنف الآخر فهم في أيدينا بمنزلة الكرة في أيدي صبيانكم نقلبهم كيف شئنا قد كفونا أنفسهم. وأما الصنف الثالث فهم مثلك معصمون لا نقدر منهم على شيء.

فإن قلت: فكيف يتمثل الشيطان لبعض الناس دون البعض، وإذا رأى صورة فهل هي صورته الحقيقية أو هو مثال يمثل له به? فإن كان على صورته الحقيقية فكيف يرى بصورة مختلفة? وكيف يرى في وقت واحد في مكانين وعلى صورتين حتى يراه شخصان بصورتين مختلفتين? فاعلم أن الملك والشيطان لهما صورتان هي حقيقة صورتهما ولا تدرك حقيقة صورتهما بالمشاهدة إلا بأنوار النبوة، فما رأى النبي ﷺ جبرائيل عليه السلام في صورته إلا مرتين وذلك أنه سأله أن يريه نفسه على صورته فواعده بالبقيع وظهر له بحراء فسد الأفق من المشرق إلى المغرب ورآه مرة أخرى على صورته ليلة المعراج عند سدرة المنتهى وإنما كان يراه في صورة الآدمي غالباً فكان يراه في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً حسن الوجه. والأكثر أنه يكاشف أهل المكاشفة من أرباب القلوب بمثال صورته فيتمثل الشيطان له في اليقظة، فيراه بعينه ويسمع كلامه بأذنه فيقوم ذلك مقام حقيقة صورته كما ينكشف في المنام لأكثر الصالحين. وإنما المكاشف في اليقظة هو الذي انتهى إلى رتبة لا يمنعه اشتغال الحواس بالدنيا عن المكاشفة التي تكون في المنام فيرى في اليقظة ما يراه غيره في المنام، كما روي عن عمر بن عبد العزيز رجمه الله أن رجلاً سأل ربه أن يريه موضع الشيطان من قلب ابن آدم، فرأى في النوم جسد رجل شبه البلور يرى داخله من خارجه ورأى الشيطان في صورة ضفدع قاعد على منكبه الأيسر بين منكبه وأذنه، له خرطوم طويل دقيق قد أدخله من منكبه الأيسر إلى قلبه يوسوس إليه، فإذا ذكر الله تعالى خنس. ومثل هذا قد يشاهد بعينه في اليقظة، فقد رآه بعض المكاشفين في صورة كلب جاثم على جيفة يدعو الناس إليها، وكانت الجيفة مثال الدنيا. وهذا يجري مجرى مشاهدة صورته الحقيقية، فإن القلب لا بد وأن تظهر فيه حقيقة من الوجه الذي يقابل عالم الملكوت وعند ذلك يشرق أثره على وجهه الذي يقابل عالم الملك والشهادة لأن أحدهما متصل بالآخر. وقد بينا أن القلب له وجهان: وجه إلى عالم الغيب وهو مدخل الإلهام والوحي، ووجه إلى عالم الشهادة. فالذي يظهر منه في الوجه الذي يلي عالم الشهادة لا يكون إلا صورة متخيلة لأن عالم الشهادة كله متخيلات، إلا أن الخيال تارة يحصل من النظر إلى ظاهر عالم الشهادة بالحس فيجوز أن لا تكون الصورة على وفق المعنى، حتى يرى شخصاً جميل الصورة وهو خبيث الباطن قبيح السر لأن عالم الشهادة عالم كثير التبليس. أما الصورة التي تحصل في الخيال من إشراق عالم الملكوت على باطن سر القلوب فلا تكون إلا محاكية للصفة وموافقة لها، لأن الشيطان في صورة كلب وضفدع للصفة وموافقة لها، فلا جرم لا يرى المعنى القبيح إلا بصورة قبيحة، فيرى الشيطان في صورة كلب وضفدع وخنزير وغيرها، ويرى الملك في صورة جميلة فتكون تلك الصورة عنوان المعاني ومحاكية لها بالصدق، ولذلك يدل القرد والخنزير في النوم على إنسان خبيث، وتدل الشاة على إنسان سليم الصدر وهكذا جميع أبواب الرؤيا والتعبير. وهذه أسرار عجيبة وهي من أسرار عجائب القلب ولا يليق ذكرها بعلم المعاملة. وإنما المقصود أن تصدق بأن الشيطان ينكشف لأرباب القلوب وكذلك الملك، تارة بطريق التمثيل والمحاكاة كما يكون ذلك في النوم، وتارة بطريق الحقيقة. والأكثر هو التمثيل بصورة محاكية للمعنى - هو مثال المعنى لا عين المعنى - إلا أنه يشاهد بالعين مشاهدة محققة وينفرد بمشاهدته المكاشف دون من حوله كالنائم.

بيان ما يؤاخذ به العبد من وساوس القلوب

وهمها وخواطرها وقصودها وما يعفى عنه ولا يؤاخذ به

اعلم أن هذا أمر غامض، وقد وردت فيه آيات وأخبار متعارضة يلتبس طريق الجمع بينها إلا على سماسرة العلماء بالشرع. فقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال "عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها ما لم تتكلم به أو تعمل به وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم "إن الله تعالى يقول للحفظة: إذا هم عبدي بسيئة فلا تكتبوها فإن عملها فاكتبوها شيئة وإذا هم بحسنة لم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً وقد خرجه البخاري ومسلم في الصحيحين وهو دليل على العفو عن عمل القلب وهمه بالسيئة. وفي لفظ آخر "من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ومن هم بحسنة فعملها كتبت له إلى سبعمائة ضعف ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه وإن عملها كتبت" وفي لفظ آخر، "وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفرها له ما لم يعملها" وكل ذلك يدل على العفو فأما ما يدل على المؤاخذة فقوله سبحانه "إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" وقوله تعالى "ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً" فدل على أن عمل الفؤاد كعمل السمع والبصر فلا يعفى عنه وقوله تعالى "ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه" وقوله تعالى "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" والحق عندنا في هذه المسألة لا يوقف عليه ما لم تقع الإحاطة بتفصيل أعمال القلوب من مبدأ ظهورها إلى أن يظهر العمل على الجوارح.

فنقول. أول ما يرد على القلب الخاطر، كما لو خطر له مثلاً صورة امرأة وأنها وراء ظهره في الطريق لو التفت إليها لرآها. والثاني هيجان الرغبة إلى النظر وهو حركة الشهوة في الطبع وهذا يتولد من الخاطر الأول ونسميه ميل الطبع ويسمى الأول حديث النفس. والثالث حكم القلب بأن هذا ينبغي أن يفعل أي ينبغي أن ينظر إليها فإن الطبع إذا مال لم تنبعث الهمة والنية ما لم تندفع الصوارف، فإنه قد يمنعه حياء أو خوف من الالتفات وعدم هذه الصوارف ربما يكون بتأمل وهو على كل حال حكم من جهة العقل، ويسمى هذا اعتقاداً وهو يتبع الخاطر والميل. الرابع تصميم العزم على الالتفات وجزم النية فيه وهذا نسميه هما بالفعل ونية وقصداً، وهذا الهم قد يكون له مبدأ ضعيف ولكن إذا أصغى القلب إلى الخاطر الأول حتى طالت مجاذبته للنفس تأكد هذا الهم وصار إرادة مجزومة فإذا انجزمت الإرادة فربما يندم بعد الجزم فيترك العمل وربما يغفل بعارض فلا يعمل به ولا يلتفت إليه وربما يعوقه عائق فيتعذر عليه العمل.

فههنا أربع أحوال للقلب قبل العمل بالجارحة: الخاطر وهو حديث النفس، ثم الميل، ثم الاعتقاد، ثم الهم.

فنقول: أما الخاطر فلا يؤاخذ به لأنه لا يدخل تحت الاختيار وكذلك الميل وهيجان الشهوة لأنهما لا يدخلان أيضاً تحت الاختيار، وهما المرادان بقوله ﷺ "عفى عن أمتي ما حدثت به نفوسها" فحديث النفس عبارة عن الخواطر التي تهجس في النفس ولا يتبعها عزم على الفعل، فأما الهم والعزم فلا يسمى حديث النفس، بل حديث النفس كما روى عثمان بن مظعون حيث قال للنبي ﷺ: يا رسول الله نفسي تحدثني أن أطلق خولة، قال "مهلاً إن من سنتي النكاح" قال: نفسي تحدثني أن أجب نفسي، قال: "مهلاً خصاء أمتي دءوب الصيام" قال: نفسي تحدثني أن أترهب، قال "مهلاً رهبانية أمتي الجهاد والحج" قال: نفسي تحدثني أن أترك اللحم، قال "مهلاً فإني أحبه ولو أصبته لأكلته ولو سألت الله لأطعمنيه فهذه الخواطر التي ليس معها عزم على الفعل هي حديث النفس، ولذلك شاور رسول الله ﷺ إذ لم يكن معه عزم وهم بالفعل.

وأما الثالث: وهو الاعتقاد وحكم القلب بأنه ينبغي أن يفعل فهذا تردد بين أن يكون اضطراراً أو اختياراً، والأحوال تختلف فيه فالاختياري منه يؤاخذ به والا ضطراري لا يؤاخذ به.

وأما الرابع وهو الهم بالفعل: فإنه مؤاخذ به إلا أنه إن لم يفعل نظر فإن كان قد تركه خوفاً من الله تعالى وندما على همه كتبت له حسنة لأن همه سيئة وامتناعه ومجاهدته نفسه حسنة، والهم على وفق الطبع مما يدل على تمام الغفلة عن الله تعالى، والامتناع بالمجاهدة على خلاف الطبع يحتاج إلى قوة عظيمة فجده في مخالفة الطبع هو العمل لله تعالى والعمل لله تعالى أشد من جده في موافقة الشيطان بموافقة الطبع فكتب له حسنة لأنه رجح جده في الامتناع وهمه به على همه بالفعل، وإن تعوق الفعل بعائق أو تركه بعذر لا خوفاً من الله تعالى كتبت عليه سيئة، فإن همه فعل من القلب اختياري.

والدليل على هذا التفصيل ما روي في الصحيح مفصلاً في لفظ الحديث قال رسول الله ﷺ "قالت الملائكة عليهم السلام رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به فقال: ارقبوه، فإن هو عملها فاكتبوها له بمثلها وإن تركها فاكتبوها له حسنة إنما تركها من جرائي وحيث قال: فإن لم يعملها: أراد به تركها لله، فأما إذا عزم على فاحشة فتعذرت عليه بسبب أو غفلة فكيف تكتب له حسنة? وقد قال ﷺ "إنما يحشر الناس على نياتهم" ونحن نعلم أن من عزم ليلاً على أن يصبح ليقتل مسلماً أو يزني بامرأة فمات تلك الليلة مات مصراً ويحشر على نيته وقد هم بسيئة ولم يعملها.

والدليل القاطع فيه ما روي عن النبي ﷺ أنه قال "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار"، فقيل يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول? قال "لأنه أراد قتل صاحبه" وهذا نص في أنه صار بمجرد الإرادة من أهل النار مع أنه قتل مظلوماً فكيف يظن أن الله لا يؤاخذ بالنية والهم? بل كل هم دخل تحت اختيار العبد فهو مؤاخذ به إلا أنه يكفره بحسنة، ونقض العزم بالندم حسنة فلذلك كتبت له حسنة، فأما فوت المراد بعائق فليس بحسنة. وأما الخواطر وحديث النفس وهيجان الرغبة فكل ذلك لا يدخل تحت اختيار فالمؤاخذة به تكليف ما لا يطاق ولذلك لما نزل قوله تعالى "وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" جاء ناس من الصحابة إلى رسول الله ﷺ وقالوا: كلفنا ما لا نطيق إن أحدنا ليحدث نفسه بما لا يحب أن يثبت في قلبه ثم يحاسبه بذلك فقال ﷺ: "لعلكم تقولون كما قالت اليهود سمعنا وعصينا قولوا سمعنا وأطعنا فقالوا سمعنا وأطعنا" فأنزل الله الفرج بعد سنة بقوله "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها" فظهر به أن كل ما لا يدخل تحت الوسع من أعمال القلب هو الذي لا يؤاخذ به. فهذا هو كشف الغطاء عن هذا الالتباس. وكل من يظن أن ما يجري على القلب يسمى حديث النفس ولم يفرق بين هذه الأقسام الثلاثة فلا بد وأن يغلط وكيف لا يؤاخذ بأعمال القلب من الكبر والعجب والرياء والنفاق والحسد وجملة الخبائث من أعمال القلب? بل السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا? أي ما يدخل تحت الاختيار. فلو وقع البصر بغير اختيار على غير ذي محرم لم يؤاخذ به فإن أتبعها نظرة ثانية كان مؤاخذاً به لأنه مختار فكذا خواطر القلب تجري هذا المجرى بل القلب أولى بمؤاخذته لأنه الأصل. قال رسول الله ﷺ "التقوى ههنا وأشار إلى القلب" وقال الله تعالى "لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم" وقال ﷺ "الإثم حواز القلوب وقال "البر ما اطمأن إليه القلب وإن أفتوك وأفتوك" حتى إنا نقول إذا حكم القلب المفتى بإيجاب شيء وكان مخطئاً فيه صار مثاباً عليه بل من قد ظن أنه تطهر فعليه أن يصلي. فإن صلى ثم تذكر أنه لم يتوضأ كان له ثواب بفعله. فإن تذكر ثم تركه كان معاقباً عليه. ومن وجد على فراشه امرأة فظن أنها زوجته لم يعص بوطئها وإن كانت أجنبية. فإن ظن أنها أجنبية ثم وطئها عصى بوطئها وإن كانت زوجته. وكل ذلك نظر إلى القلب دون الجوارح.

بيان أن الوسواس هل يتصور أن ينقطع بالكلية

عند الذكر أم لا?

اعلم أن العلماء المراقبين للقلوب الناظرين في صفاتها وعجائبها اختلفوا في هذه المسألة على خمس فرق: فقالت فرقة: الوسوسة تنقطع بذكر الله عز وجل لأنه عليه السلام قال "فإذا ذكر الله خنس والخنس هو السكوت فكأنه يسكت.

وقالت فرقة: لا ينعدم أصله ولكن يجري في القلب ولا يكون له أثر لأن القلب إذا صار مستوعباً بالذكر كان محجوباً عن التأثر بالوسوسة كالمشغول بهمه فإنه قد يتكلم ولا يفهم وإن كان الصوت يمر على سمعه.

وقالت فرقة: لا تسقط الوسوسة ولا أثرها أيضاً ولكن تسقط غلبتها فكأنه يوسوس من بعد وعلى ضعف.

وقالت فرقة: ينعدم عند الذكر في لحظة وينعدم الذكر في لحظه، ويتعاقبان في أزمنة متقاربة يظن لتقاربها أنها متساوقة وهي كالكرة التي عليها نقط متفرقة فإنك إذا أدرتها بسرعة تواصلها بالحركة، واستدل هؤلاء بأن الخنس قد ورد ونحن نشاهد الوسوسة مع الذكر ولا وجه له إلا هذا.

وقالت فرقة: الوسوسة والذكر يتساوقان في الدوام على القلب تساوقاً لا ينقطع، وكما أن الإنسان قد يرى بعينيه شيئين في حالة واحدة فكذلك القلب قد يكون مجرى لشيئين فقد قال ﷺ "ما من عبد إلا وله أربعة أعين: عينان في رأسه يبصر بهما أمر دنياه، وعينان في قلبه يبصر بهما أمر دينه وإلى هذا ذهب المحاسبي. والصحيح عندنا أن كل هذه المذاهب صحيحة ولكن كلها قاصرة عن الإحاطة بأصناف الوسواس، وإنما نظر كل واحد منهم إلى صنف واحد من الوسواس فأخبر عنه.

والوسواس أصناف: الأول: أن يكون من جهة التلبيس بالحق، فإن الشيطان قد يلبس بالحق فيقول للإنسان تترك التنعم باللذات فإن العمر طويل والصبر عن الشهوات طول العمر ألمه عظيم، فعند هذا إذا ذكر العبد عظيم حق الله تعالى وعظيم ثوابه وعقابه وقال لنفسه: الصبر عن الشهوات شديد ولكن الصبر على النار أشد منه، ولا بد من أحدهما فإذا ذكر العبد وعد الله تعالى ووعيده وجدد إيمانه ويقينه خنس الشيطان وهرب، إذا لا يستطيع أن يقول له النار أيسر من الصبر على المعاصي ولا يمكنه أن يقول المعصية لا تفضي إلى النار، فإن إيمانه بكتاب الله عز وجل يدفعه عن ذلك فينقطع وسواسه. وكذلك يوسوس إليه بالعجب بعمله فيقول: أي عبد يعرف الله كما تعرفه ويعبده كما تعبده? فما أعظم مكانك عند الله تعالى! فيتذكر العبد حينئذ أن معرفته وقلبه وأعضاءه التي بها عمله وعلمه كل ذلك من خلق الله تعالى فمن أين يعجب به? فيخنس الشيطان إذ لا يمكنه أن يقول ليس هذا من الله فإن المعرفة والإيمان يدفعه. فهذا نوع من الوسواس ينقطع بالكلية عن العارفين المستبصرين بنور الإيمان والمعرفة.

الصنف الثاني: أن يكون وسواسه بتحريك الشهوة وهيجانها، وهذا ينقسم إلى ما يعلم العبد يقيناً أنه معصية وإلى ما يظنه بغالب الظن. فإن علمه يقيناً خنس الشيطان عن تهييج يؤثر في تحريك الشهوة ولم بخنس عن التهييج وإن كان مظنوناً، فربما يبقى مؤثراً بحيث يحتاج إلى مجاهدة في دفعه فتكون الوسوسة موجودة ولكنها مدفوعة غير غالبة.

الصنف الثالث: أن تكون وسوسة بمجرد الخواطر وتذكر الأحوال الغالبة والتفكر في غير الصلاة مثلاً فإذا أقبل على الذكر تصور أن يندفع ساعة ويعود، ويندفع ويعود، فيتعاقب الذكر والوسوسة وبتصور أن يتساوقا جميعاً حتى يكون الفهم مشتملاً على فهم معنى القراءة وعلى تلك الخواطر كأنهما في موضعين من القلب. وبعيد جداً أن يندفع هذا الخنس بالكلية بحيث لا يخطر، ولكنه ليس محالاً إذا قال عليه السلام "من صلى ركعتين لم يحدث فيهما نفسه بشيء من أمر الدنيا غفر له ما تقدم من ذنبه فلولا أنه متصور لما ذكره، إلا أنه لا يتصور ذلك إلا في قلب استولى عليه الحب حتى صار كالمستهتر، فإنا قد نرى المستوعب القلب بعدو تأذى به قد يتفكر بمقدار ركعتين وركعات في مجادلة عدوه بحيث لا يخطر بباله غير حديث عدوه، وكذلك المستغرق في الحب قد يتفكر في محادثة محبوبه بقلبه ويغوص في فكره بحيث لا يخطر بباله غير حديث محبوبه، ولو كلمه غيره لم يسمع ولو اجتاز بين يد أحد لكان كأن لا يراه. وإذا تصور هذا في خوف من عدو وعند الحرص على مال وجاه فكيف لا يتصور من خوف النار الحرص على الجنة ولكن ذلك عزيز لضعف الإيمان بالله تعالى واليوم الآخر، وإذا تأملت جملة هذه الأقسام وأصناف الوسواس علمت أن لكل مذهب من المذاهب وجهاً في محل مخصوص.

وبالجملة فالخلاص من الشيطان في لحظة أو ساعة غير بعيد ولكن الخلاص منه عمراً طويلاً بعيداً جداً، ومحال في الوجود ولو تخلص أحد من وساوس الشيطان بالخواطر وتهييج الرغبة لتخلص رسول الله ﷺ، فقد روي: أنه نظر إلى علم ثوبه في الصلاة فلما سلم رمى بذلك الثوب وقال "شغلني عن الصلاة" وقال "اذهبوا به إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته وكان في يده خاتم من ذهب فنظر إليه وهو على المنبر ثم رمى به قال "نظرة إليه ونظرة إليكم وكان ذلك لوسوسة الشيطان بتحريك لذة النظر إلى خاتم الذهب وعلم الثوب - وكان ذلك قبل تحريم الذهب فلذلك لبسه ثم رمى به - فلا تنقطع وسوسة عروض الدنيا ونقدها إلا بالرمي والمفارقة، فما دام يملك شيئاً وراء حاجته ولو ديناراً واحداً لا يدعه الشيطان في صلاته من الوسوسة في الفكر في ديناره، وأنه كيف يحفظه? وفيماذا ينفقه? وكيف يخفيه حتى لا يعلم به أحد وكيف يظهره حتى يتباهى به? إلى غير ذلك من الوساوس. فمن أنشب مخالبه في الدنيا وطمع في أن يتخلص من الشيطان كان كمن انغمس في العسل وظن أن الذباب لا يقع عليه فهو محال. فالدنيا باب عظيم لوسوسة الشيطان. وليس له باب واحد بل أبواب كثيرة. قال حكيم من الحكماء: الشيطان يأتي ابن آدم من قبل المعاصي، فإن امتنع أتاه من وجه النصيحة حتى يلقيه في بدعة، فإن أبى أمره بالتحرج والشدة حتى يحرم ما ليس بحرام، فإن أبى شككه في وضوئه وصلاته حتى يخرجه عن العلم، فإن أبى خفف عليه أعمال البر حتى يراه الناس صابراً عفيفاً فتميل قلوبهم إليه فيعجب بنفسه وبه يهلكه، وعند ذلك يشتد إلحاحه فإنها آخر درجة ويعلم أنه لو جاوزها أفلت منه إلى الجنة.

بيان سرعة تقلب القلب وانقسام القلوب

في التغير والثبات

اعلم أن القلب كما ذكرناه تكتنفه الصفات التي ذكرناها وتنصب إليه الآثار والأحوال من الأبواب التي وصفناها، فكأنه هدف يصاب على الدوام من كل جانب، فإذا أصابه شيء يتأثر به أصابه من جانب آخر ما يضاده فتتغير صفته. فإن نزل به الشيطان فدعاه إلى الهوى نزل به الملك وصرفه عنه، وإن جذبه شيطان إلى شر جذبه شيطان آخر إلى غيره. وإن جذبه مالك إلى خير جذبه آخر إلى غيره. فتارة يكون متنازعاً بين ملكين، وتارة بين شيطانين، وتارة بين ملك وشيطان - ولا يكون قط مهملا ً- وإليه الإشارة بقوله تعالى "ونقلب أفئدتهم وأبصارهم" ولاطلاع رسول الله ﷺ على عجيب صنع الله تعالى في عجائب القلب وتقلبه كان يحلف به فيقول "لا ومقلب القلوب وكان كثيراً ما يقول "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك" قالوا أو تخاف يا رسول الله? قال "وما يؤمنني والقلب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبه كيف يشاء وفي لفظ آخر "إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه".

وضرب له ﷺ ثلاثة أمثلة: فقال "مثل القلب مثل العصفور يتقلب في كل ساعة" وقال عليه السلام "مثل القلب في تقلبه كالقدر إذا استجمعت غليانا وقال "مثل القلب كمثل ريشة في أرض فلاة تقلبها الرياح ظهراً لبطن" وهذه التقلبات وعجائب صنع الله تعالى في تقلبها من حيث لا تهدى إليه المعرفة لا يعرفها إلا المراقبون والمراعون لأحوالهم مع الله تعالى.

والقلوب في الثبات على الخير والشر والتردد بينهما، ثلاثة: قلب عمر بالتقوى وزكا بالرياضة وطهر عن خبائث الأخلاق تنقدح فيه خواطر الخير من خزائن الغيب ومداخل الملكوت، فينصرف العقل إلى التفكر فيما خطر له ليعرف دقائق الخير فيه ويطلع على أسرار فوائده فينكشف له بنور البصيرة وجهه، فيحكم بأنه لا بد من فعله فيستحثه عليه ويدعوه إلى العمل به، وينظر الملك إلى القلب فيجده طيباً في جوهره طاهراً بتقواه مستنيراً بضياء العقل معموراً بأنوار المعرفة فيراه صالحاً لأن يكون له مستقراً ومهبطاً، فعند ذلك يمد بجنود لا ترى ويهديه إلى خيرات أخرى حتى ينجر الخير إلى الخير وكذلك على الدوام، ولا يتناهى إمداده بالترغيب بالخير وتيسير الأمر عليه. وإليه الإشارة بقوله تعالى "فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى" وفي مثل هذا القلب يشرق نور المصباح من مشكاة الربوبية حتى لا يخفي فيه الشرك الخفي الذي هو أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء، فلا يخفى على هذا النور خافية ولا يروج عليه شيء من مكايد الشيطان، بل يقف الشيطان ويوحي زخرف القول غروراً فلا يلتفت إليه وهذا القلب بعد طهارته من المهلكات يصير على القرب معموراً بالمنجيات - التي سنذكرها - من الشكر والصبر والخوف والرجاء والفقر والزهد والمحبة والرضا والشوق والتوكل والتفكر والمحاسبة وغير ذلك. وهو القلب الذي أقبل الله عز وجل بوجهه عليه، وهو القلب المطمئن المراد بقوله تعالى "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" وبقوله عز وجل "يا أيتها النفس المطمئنة".

القلب الثاني: القلب المخذول المشحون بالهوى، المدنس بالأخلاق المذمومة والخبائث، المفتوح فيه أبواب الشياطين، المسدود عنه أبواب الملائكة. ومبدأ الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويهجس فيه فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستفتي منه ويستكشف وجه الصواب فيه، فيكون العقل قد ألف خدمة الهوى وأنس به واستمر على استنباط الحيل له وعلى مساعدة الهوى، فتستولي النفس وتساعد عليه فينشرح الصدر بالهوى وتنبسط فيه ظلماته لانحباس جند العقل عن مدافعته. فيقوى سلطان الشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني، ويوحي بذلك زخرفاً من القول غروراً فيضعف سلطان الإيمان بالوعد والوعيد، ويخبو نور اليقين لخوف الآخرة إذ يتصاعد عن الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ جوانبه حتى تنطفئ أنواره، فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها فلا يقدر على أن ينظر، وهكذا تفعل غلبة الشهوة بالقلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف والاستبصار، ولو بصره واعظ وأسمعه ما هو الحق فيه عمى عن الفهم، وصم عن السمع، وهاجت الشهوة فيه، وسطا الشيطان، وتحركت الجوارح على وفق الهوى فظهرت المعصية إلى عالم الشهادة من عالم الغيب بقضاء من الله تعالى وقدره. وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى "أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً. أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا" وبقوله عز وجل "لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون" وبقوله "سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات كالذي يتورع عن بعض الأشياء ولكنه إذا رأى وجهاً حسناً لم يملك عينه وقلبه وطاش عقله وسقط مساك قلبه، أو كالذي لا يملك نفسه فيها فيه الجاه والرياسة والكبر، ولا يبقى معه مسكة للتثبت عند ظهور أسبابه، أو كالذي لا يملك نفسه عند الغضب مهما استحقر وذكر عيب من عيوبه، أو كالذي لا يملك نفسه عند القدرة على أخذ درهم أو دينار بل يتهالك عليه تهالك الواله المستهتر فينسى فيه المروءة والتقوى، فكل ذلك لتصاعد دخان الهوى إلى القلب حتى يظلم وتنطفئ منه أنواره فينطفئ نور الحياء والمروءة والإيمان ويسعى في تحصيل مراد الشيطان.

القلب الثالث: قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير، فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوى الشهوة وتحسن التمتع والتنعم، فينبعث العقل إلى خاطر الخير ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها وينسبها إلى الجهل ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر وقلة اكتراثها بالعواقب فتميل النفس إلى نصح العقل فيحمل الشيطان حملة على العقل فيقوي داعي الهوى ويقول ما هذا التحرج البارد ولم تمتنع عن هواك فتؤذي نفسك? وهل ترى أحداً من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه? أفتترك لهم ملاذ الدنيا يتمتعون بها وتحجر على نفسك حتى تبقى محروماً شقياً متعوباً يضحك عليك أهل الزمان? أفتريد أن يزيد منصبك على فلان وفلان قد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يتمنعوا? أما ترى العالم الفلاني ليس يحترز من مثل ذلك ولو كان ذلك شراً لامتنع عنه? فتميل النفس إلى الشيطان وتنقلب إليه؛ فيحمل الملك حملة على الشيطان ويقول هل لك إلا من اتبع لذة الحال ونسى العاقبة? أفتقنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد? أم تستثقل ألم الصبر عن شهوتك ولا تستثقل ألم النار? أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهم واتباعهم هواهم ومساعدتهم الشيطان مع أن عذاب النار لا يخففه عنك معصية غيرك? أرأيت لو كنت في يوم صائف شديد الحر ووقف الناس كلهم في الشمس وكان لك بيت بارد أكنت تساعد الناس أو تطلب لنفسك الخلاص? فكيف تخالف الناس خوفاً من حر الشمس ولا تخالفهم خوفاً من حر النار? فعند ذلك تمتثل النفس إلى قول الملك فلا يزال يتردد بين الجندين متجاذباً بين الحزبين إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به فإن كانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها غلب الشيطان ومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشيطان معرضاً عن حزب الله تعالى وأوليائه، ومساعداً لحزب الشيطان وأعدائه، وجرى على جوارحه بسابق القدر ما هو سبب بعده عن الله تعالى، وإن كان الأغلب على القلب الصفات الملكية لم يصغ القلب إلى إغواء الشيطان وتحريضه إياه على العاجلة وتهوينه أمر الآخرة، بل مال إلى حزب الله تعالى وظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه، فقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن - أي بين تجاذب هذين الجندين وهو الغالب - أعني التقليب والانتقال من حزب إلى حزب، أما الثبات على الدوام مع حزب الملائكة أو مع حزب الشيطان فنادر من الجانبين وهذه الطاعات والمعاصي تظهر من خزائن الغيب إلى عالم الشهادة بواسطة خزانة القلب فإنه من خزائن الملكوت، وهي أيضاً إذا ظهرت كانت علامات تعرف أرباب القلوب سابق القضاء. فمن خلق للجنة يسرت له أبواب الطاعات ومن خلق للنار يسرت له أسباب المعاصي وسلط عليه أقران السوء وألقي في قلبه حكم الشيطان، فإنه بأنواع الحكم يغر الحمقى بقوله: إن الله رحيم فلا تبال، وإن الناس كلهم ما يخافون الله فلا تخالفهم، وإن العمر طويل فاصبر حتى تتوب غداً "يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غروراً" يعدهم التوبة ويمنيهم المغفرة فيهلكهم بإذن الله تعالى بهذه الحيل وما يجري مجراها، فيوسع قلبه لقبول الغزور ويضيقه عن قبول الحق، وكل ذلك بقضاء من الله وقدر "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجاً كأنما يصعد في السماء - إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده" فهو الهادي والمضل يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه. خلق الجنة وخلق لها أهلاً فاستعملهم بالطاعة، وخلق النار وخلق لها أهلا فاستعملهم بالمعاصي. وعرف الخلق علامة أهل الجنة وأهل النار فقال "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" ثم قال تعالى فيما روى عن نبيه ﷺ "هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي فتعالى الله الملك الحق لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون.

ولنقتصر على هذا القدر اليسير من ذكر عجائب القلب فإن استقصاء لا يليق بعلم المعاملة، وإنما ذكرنا منه ما يحتاج إليه لمعرفة أغوار علوم المعاملة وأسرارها لينتفع بها من لا يقنع بالظواهر ولا يجتزئ بالقشر عن اللباب بل يتشوق إلى معرفة دقائق حقائق الأسباب. وفيما ذكرناه كفاية له ومقنع إن شاء الله تعالى والله ولي التوفيق.

تم كتاب عجائب القلب ولله الحمد والمنة. ويتلوه كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق، والحمد لله وحده وصلى الله على كل عبد مصطفى.

=================

وهو الكتاب الثاني من ربع المهلكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي صرف الأمور بتدبيره وعدله وتركيب الخلق فأحسن في تصويره، وزين صورة الإنسان بحسن تقويمه وتقديره، وحرسه من الزيادة والنقصان في شكله ومقاديره، وفوض تحسين الأخلاق إلى اجتهاد العبد وتشميره واستحثه على تهذيبها بتخويفه وتحذيره، وسهل على خواص عباده تهذيب الأخلاق بتوفيقه وتيسيره، وأمتن عليهم بتسهيل صعبه وعسيرة، والصلاة والسلام على محمد عبد الله ونبيه وحبيبه وصفيه وبشيره ونذيره، الذي كان يلوح أنوار النبوة من بين أساريره، ويستشرف حقيقة الحق من مخايله وتباشيره، وعلى آله وأصحابه الذين طهروا وجه الإسلام من ظلمة الكفر ودياجيره، وحسموا مادة الباطل فلم يتدنسوا بقليله ولا بكثيره.

أما بعد:فالخلق الحسن صفة سيد المرسلين وأفضل أعمال الصديقين، وهو على التحقيق شطر الدين وثمرة مجاهدة المتقين ورياضة المتعبدين. والأخلاق السيئة هي السموم القاتلة والمهلكات الدامغة والمخازي الفاضحة والرذائل الواضحة والخبائث المبعدة عن جوار رب العالمين، المنخرطة بصاحبها في سلك الشياطين، وهي الأبواب المفتوحة إلى نار الله تعالى الموقدة التي تطلع على الأفئدة، كما أن الأخلاق الجميلة هي الأبواب المفتوحة من القلب إلى نعيم الجنان وجوار الرحمن، والأخلاق الخبيثة أمراض القلوب وأسقام النفوس إلا أنه مرض يفوت حياة الأبد، وأين منه المرض الذي لا يفوت إلا حياة الجسد? ومهما اشتدت عناية الأطباء بضبط قوانين العلاج للأبدان وليس في مرضها إلا فوت الحياة الفانية، فالعناية بضبط قوانين العلاج لأمراض القلوب وفي مرضها فوت حياة باقية أولى، وهذا النوع من الطب واجب تعلمه على كل ذي لب إذ لا يخلو قلب من القلوب عن أسقام لو أهملت تراكمت وترادفت العلل وتظاهرت، فيحتاج العبد إلى تأنق في معرفة علمها وأسبابها ثم إلى تشمير في علاجها وإصلاحها، فمعالجتها هو المراد بقوله تعالى "قد أفلح من زكاها" وإهمالها هو المراد بقوله "وقد خاب من دساها" ونحن نشير في هذا الكتاب إلى جمل من أمراض القلوب وكيفية القول في معالجتها على الجملة من غير تفصيل لعلاج خصوص الأمراض، فإن ذلك يأتي في بقية الكتب من هذا الربع وغرضنا الآن النظر الكلي في تهذيب الأخلاق وتمهيد منهاجها. ونحن نذكر ذلك ونجعل علاج البدن مثالاً له ليقرب من الأفهام دركه ويتضح ذلك ببيان فضيلة حسن الخلق، ثم بيان حقيقة حسن الخلق، ثم بيان قبول الأخلاق للتغير بالرياضة، ثم بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق، ثم بيان الطرق التي بها يعرف تفصيل الطرق إلى تهذيب الأخلاق ورياضة النفوس، ثم بيان العلامات التي بها بعرف مرض القلب ثم بيان الطرق التي يعرف بها الإنسان عيوب نفسه، ثم بيان شواهد النقل على أن طريق المعالجة للقلوب بترك الشهوات لا غير، ثم بيان علامات حسن الخلق، ثم بيان الطريق في رياضة الصبيان في أول النشوء، ثم بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة فهي أحد عشر فصلاً يجمع مقاصدها هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

بيان فضيلة حسن الخلق ومذمة سوء الخلق

قال الله تعالى لنبيه وحبيبه مثنياً عليه ومظهراً نعمته لديه "وإنك لعلى خلق عظيم" وقالت عائشة رضي الله عنها كان رسول الله ﷺ خلقه القرآن وسأل رجل رسول الله ﷺ عن حسن الخلق فتلا قوله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف واعرض عن الجاهلين" ثم قال ﷺ "هو أن تصل قطعك وتعطي من حرمك وتعفو ظلمك وقال ﷺ: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" وقال ﷺ "أنقل ما يوضع في الميزان يوم القيامة تقوى الله وحسن الخلق وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ من بين يديه فقال: يا رسول الله ما الدين? قال "حسن الخلق" فأتاه من قبل يمينه فقال: يا رسول الله ما الدين? قال "حسن الخلق" ثم أتاه من قبل شماله فقال: ما الدين? فقال "حسن الخلق" ثم أتاه من ورائه فقال يا رسول الله ما الدين? فالتفت إليه وقال "أما تفقه? هو أن لا تغضب" وقيل يا رسول الله ما الشؤم? قال "سوء الخلق وقال رجل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أوصني فقال "اتق الله حيثما كنت" قال زدني قال "أتبع السيئة تمحها" قال زدني قال "خالق الناس بخلق حسن وسئل عليه السلام: أي الأعمال أفضل? قال "خلق حسن" وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "ما حسن الله خلق عبد وخلقه فيطعمه النار وقالالفضيل قيل لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وهي سيئة الخلق تؤذي جيرانها بلسانها قال "لا خير فيها هي من أهل النار" وقال أبو الدرداء سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم يقول "أول ما يوضع في الميزان حسن الخلق والسخاء ولما خلق الله الإيمان قال اللهم قوني فقواه بحسن الخلق والسخاء، ولما خلق الله الكفر قال اللهم قوني فقواه بالبخل وسوء الخلق وقال صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "إن الله استخلص هذا الدين لنفسه ولا يصلح لدينكم إلا السخاء وحسن الخلق ألا فزينوا دينكم بهما وقال عليه السلام "حسن الخلق خلق الله الأعظم وقيل: يا رسول الله أي المؤمنين أفضل إيماناً? قال "أحسنهم خلقاً وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فسعوهم ببسط الوجه وحسن الخلق وقال أيضاً صلى الله تعالى عليه وسلم "سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل" وعن جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ "إنك امرؤ قد حسن الله خلقك فحسن خلقك وعن البراء بن عازب قال كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً وعن أبي مسعود البدري قال: كان رسول الله ﷺ يقول في دعائه "اللهم حسنت خلقي فحسن خلقي" وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال" كان رسول الله ﷺ يكثر الدعاء فيقول "اللهم إني أسألك الصحة والعافية وحسن الخلق" وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال "كرم المؤمن دينه، وحسبه حسن خلقه، ومروءته عقله وعن أسامة بن شريك قال: شهدت الأعاريب يسألون النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقولون ما خير ما أعطى العبد? قال "خلق حسن" وقال ﷺ "إن أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ "ثلاث من لم تكن فيه أو واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله تقوى تحجزه عن معاصي الله أو حلم يكف به السفيه أو خلق يعيش به بين الناس وكان من دعائه صلى الله تعالى عليه وسلم في افتتاح الصلاة "اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت" وقال أنس: بينما نحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوماً إذ قال "إن حسن الخلق ليذيب الخطيئة كما تذيب الشمس الجليد وقال عليه السلام "من سعادة المرء حسن الخلق وقال ﷺ "اليمن حسن الخلق" وقال عليه السلام لأبي ذر "يا أبا ذر لا عقل كالتدبير ولا حسب كحسن الخلق وعن أنس قال: قالت أم حبيبة لرسول الله ﷺ: أرأيت المرأة يكون لها زوجان في الدنيا فتموت ويموتان ويدخلون الجنة لأيهما هي تكون? قال "لأحسنهما خلقاً كان عندها في الدنيا، يا أم حبيبة ذهب حسن الخلق بخيري الدنيا والآخرة وقال ﷺ "إن

المسلم المسدد ليدرك درجة الصائم القائم بحسن خلقه وكرم مرتبته وفي رواية "درجة الظمآن في الهواجر" وقال عبد الرحمن بن سمرة: كنا عند النبي ﷺ فقال "إني رأيت البارحة عجباً رأيت رجلاً من أمتي جاثياً على ركبتيه وبينه وبين الله حجاب فجاء حسن خلقه فأدخله على الله تعالى" وقال أنس: قال النبي ﷺ "إن العبد ليبلغ بحسن خلقه عظيم درجات الآخرة وشرف المنازل وإنه لضعيف في العبادة وروى: أن عمر رضي الله عنه استأذن على النبي ﷺ وعنده نساء من نساء قريش يكلمنه ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته فلما استأذن عمر رضي الله عنه تبادرن الحجاب فدخل عمر ورسول الله ﷺ يضحك فقال عمر رضي الله عنه: مم تضحك بأبي أنت وأمي يا رسول الله? فقال "عجبت لهؤلاء اللاتي كن عندي لما سمعن صوتك تبادرن الحجاب" فقال عمر: أنت كنت أحق أن يهبنك يا رسول الله، ثم أقبل عليهن عمر فقال: يا عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله ﷺ? قلن: نعم أنت أغلظ وأفظ من رسول الله ﷺ فقال ﷺ "إيهاً يا ابن الخطاب والذي نفسي بيده وا لقيك الشيطان قط سالكاً فجا إلا سلك فجا غير فجك" وقال ﷺ "سوء الخلق ذنب لا يغفر وسوء الظن خطيئة تفوح وقال عليه السلام "إن العبد ليبلغ من سوء خلقه أسفل درك جهنم.

الآثار: قال ابن لقمان الحكيم لأبيه: يا أبت أي الخصال من الإنسان خير? قال: الدين، قال: فإذا كانت اثنتين? قال: الدين والمال. قال: فإذا كانت ثلاثاً? قال: الدين والمال والحياء، قال: فإذا كانت أربعاً? قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق، قال: فإذا كانت خمساً? قال: الدين والمال والحياء وحسن الخلق والسخاء، قال: فإذا كانت ستاً? قال: يا بني إذا اجتمعت فيه الخمس خصال فهو نقي تقي ولله ولي ومن الشيطان بري، وقال الحسن من ساء خلقه عذب نفسه. وقال أنس بن مالك: إن العبد ليبلغ بحسن خلقه أعلى درجة في الجنة وهو غير عابد ويبلغ سوء خلقه أسفل درك في جهنم وهو عابد. وقال يحيى بن معاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق. وقال وهب ابن منبه: مثل السيئ الخلق كمثل الفخارة المكسورة لا ترقع ولا تعاد طيناً. وقال الفضيل: لأن يصحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق. وصحب ابن المبارك رجلاً سيئ الخلق في سفر فكان يحتمل منه ويداريه فلما فارقه بكى فقيل له في ذلك فقال: بكيته رحمة له، فارقته وخلقه معه لم يفارقه، وقال الجنيد: أربع ترفع العبد إلى أعلى الدرجات وإن قل عمله وعلمه، الحلم والتواضع والسخاء وحسن الخلق وهو كمال الإيمان. وقال الكناني التصوف خلق فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في التصوف. وقال عمر رضي الله عنه: خالطوا الناس بالأخلاق وزايلوهم بالأعمال. وقال يحيى بن معاذ: سوء الخلق سيئة لا تنفع معها كثرة الحسنات، وحسن الخلق حسنة لا تضر معها كثرة السيئات. وسئل ابن عباس: ما الكرم? فقال: هو ما بين الله في كتابه العزيز "إن أكرمكم عند الله أتقاكم" قيل فما الحسب? قال: أحسنكم خلقاً أفضلكم حسباً. وقال: لكل بنيان أساس وأساس الإسلام حسن الخلق. وقال عطاء ما ارتفع من ارتفع إلا بالخلق الحسن، ولم ينل أحد كماله إلا المصطفى ﷺ، فأقرب الخلق إلى الله عز وجل السالكون آثاره بحسن الخلق.

بيان حقيقة حسن الخلق وسوء الخلق

اعلم أن الناس قد تكلموا في حقيقة حسن الخلق وأنه ما هو، وما تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته، بل ذكر كل واحد من ثمراته ما خطر له وما كان حاضراً في ذهنه ولم يصرفوا العناية إلى ذكر حده وحقيقته بجميع ثمراته على التفصيل والاستيعاب، وذلك كقول الحسن: حسن الخلق بسط الوجه وبذل الندى وكف الأذى. وقال الواسطي: هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقال شاه الكرماني: هو كف الأذى واحتمال المؤن. وقال بعضهم: هو أن يكون من الناس قريباً وفيما بينهم غريباً. وقال الواسطي مرة: هو إرضاء الخلق في السراء والضراء. وقال أبو عثمان: هو الرضا عن الله تعالى. وسئل سهل التستري عن حسن الخلق فقال: أدناه الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه، وقال مرة: أن لا يتهم الحق في الرزق ويثق به ويسكن إلى الوفاء بما ضمن فيطيعه ولا يعصيه في جميع الأمور فيما بينه وبينه وفيما بينه وبين الناس. وقال علي رضي الله عنه. حسن الخلق في ثلاث خصال اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسعة على العيال. وقال الحسين بن منصور: هو أن لا يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق. وقال أبو سعيد الخراز: هو أن لا يكون لك هم غير الله تعالى. فهذا وأمثاله كثير، وهو تعرض لثمرات حسن الخلق لا لنفسه، ثم ليس هو محيطاً بجميع الثمرات أيضاً. وكشف الغطاء عن الحقيقة أولى من نقل الأقاويل المختلفة.

فنقول: الخلق والخلق عبارتان مستعملتان معاً، يقال: فلان حسن الخلق والخلق - أي حسن الباطن والظاهر- فيراد بالخلق الصورة الظاهرة، ويراد بالخلق الصورة الباطنة. وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدرك بالبصيرة. ولكل واحد منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة. فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدراً من الجسد المدرك بالبصر. ولذلك عظم الله أمره بإضافته إليه إذ قال تعالى "إني خالق بشراً من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين والروح إلى رب العالمين. والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد؛ فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً سميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً شيئاً. وإنما قلنا إنها هيئة راسخة، لأن من يصدر منه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ. وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية لأن من تكلف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال خلقه السخاء والحلم.

فههنا أربعة أمور؛ أحدها: فعل الجميل والقبيح. والثاني: القدرة عليهما. والثالث: المعرفة بهما. والرابع هيئة للنفس بها تميل إلى أحد الجانبين ويتيسر عليها أحد الأمرين؛ إما الحسن وإما القبيح.

وليس الخلق عبارة عن الفعل، فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء وليس هو عبارة عن القوة؛ لأن نسبة القوة إلى الإمساك والإعطاء بل إلى الضدين واحد. وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك، وذلك لا يوجب خلق البخل ولا خلق السخاء وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعاً على وجه واحد. بل هو عبارة عن المعنى الرابع، وهو الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر منها الإمساك أو البذل. فالخلق إذن عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة. وكما أن حسن الصورة الظاهرة مطلقاً لا يتم بحسن العينين دون الأنف والفم والخد بل لا بد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر؛ فكذلك في الباطن أربعة أركان لا بد من الحسن في جميعها حتى يتم حسن الخلق. فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهو: قوة العلم، وقوة الغضب وقوة الشهوة، وقوة العدل بين هذه القوى الثلاثة.

أما قوة العلم فحسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها درك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال، وبين الحق والباطل في الاعتقادات، وبين الجميل والقبيح في الأفعال فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة والحكمة رأس الأخلاق الحسنة - وهي التي قال الله فيها "ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيراً كثيراً".

وأما قوة الغضب: فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على حد ما تقتضيه الحكمة؛ وكذلك الشهوة حسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة، أعني إشارة العقل والشرع.

وأما قوة العدل فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع.

فالعقل مثاله مثال الناصح المشير. وقوة العدل هي القدرة، ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل. والغضب هو الذي تنفذ فيه الإشارة، ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس. والشهوة مثالها مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد فإنه تارة يكون مروضاً مؤدباً وتارة يكون جموحاً. فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقاً. ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض. وحسن القوة الغضبية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة، وحسن قوة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة.

فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهوراً، وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى جبناً وخوراً. وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرهاً، وإن مالت إلى النقصان تسمى جموداً.

والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة، والطرفان رذيلتان مذمومتان والعدل إذ فات فليس له طرفا زيادة ونقصان بل له ضد واحد ومقابل وهو الجور.

وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثاً وجربزة، ويسمى تفريطها بلهاً، والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة.

فإذن أمهات الأخلاق وأصولها أربعة: الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل. ونعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية. ونعني بالعدل حالة للنفس وقوة بها الغضب والشهوة وتحملها على مقتضى الحكمة وتضبطهما في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها. ونعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها. ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع.

فمن اعتدل هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها.

إذ من اعتدال قوة العقل: يحصل حسن التدبير وجودة الذهن وثقابة الرأي وإصابة الظن والتفطن لدقائق الأعمال وخفايا آفات النفوس. ومن إفراطها: تصدر الجربزة والمكر والخداع والدهاء. ومن تفريطها: يصدر البله والغمارة والحمق والجنون - وأعني بالغمارة قلة التربة في الأمور مع سلامة التخيل فقد يكون الإنسان غمراً في شيء دون شيء. والفرق بين الحمق والجنون: أن الأحمق مقصوده صحيح ولكن سلوكه الطريق فاسد فلا تكون له روية صحيحة في سلوك الطريق الموصل إلى الغرض، وأما المجنون فإنه يختار ما لا ينبغي أن يختار فيكون أصل اختياره وإيثاره فاسداً-.

وأما خلق الشجاعة: فيصدر منه الكرم والنجدة والشهامة وكسر النفس والاحتمال والحلم والثبات وكظم الغيظ والوقار والتودد وأمثالها وهي أخلاق محمودة. وأما إفراطها وهو التهور: فيصدر منه الصلف والبذخ والاستشاطة والتكبر والعجب. وأما تفريطها: فيصدر منه المهانة والذلة والجزع والخساسة وصغر النفس والانقباض عن تناول الحق الواجب.

وأما خلق العفة: فيصدر منه السخاء والحياء والصبر والمسامحة والقناعة والورع واللطافة والمساعدة والظرف وقلة الطمع. وأما ميلها إلى الإفراط أو التفريط: فيحصل منه الحرص والشره والوقاحة والخبث والتبذير والتقتير والرياء والهتكة والمجانة والعبث والملق والحسد والشماتة والتذلل للأغنياء واستحقار الفقراء وغير ذلك.

فأمهات محاسن الأخلاق هذه الفضائل الأربعة: وهي الحكمة، والشجاعة، والعفة، والعدل. والباقي فروعها.

ولم يبلغ كمال الاعتدال في هذه الأربع إلا رسول الله ﷺ، والناس بعده متفاوتون في القرب والبعد منه. فكل من قرب منه في هذه الأخلاق فهو قريب من الله تعالى بقدر قربه من رسول الله ﷺ وكل من جمع كمال هذه الأخلاق استحق أن يكون بين الخلق ملكاً مطاعاً يرجع الخلق كلهم إليه ويقتدون به في جميع الأفعال. ومن انفك عن هذه الأخلاق كلها واتصف بأضدادها استحق أن يخرج من بين البلاد والعباد فإنه قد قرب من الشيطان اللعين المبعد، فينبغي أن يبعد، كما أن الأول قريب من الملك المقرب فينبغي أن يقتدى به ويتقرب إليه فإن رسول الله ﷺ لم يبعث إلا ليتمم مكارم الأخلاق كما قال.

وقد أشار القرآن إلى هذه الأخلاق في أوصاف المؤمنين فقال تعالى "إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون" فالإيمان بالله وبرسوله من غير ارتياب هو قوة اليقين وهو ثمرة العقل. ومنتهى الحكمة والمجاهدة بالمال هو السخاء الذي يرجع إلى ضبط قوة الشهوة. والمجاهدة بالنفس هي الشجاعة التي ترجع إلى استعمال قوة الغضب على شرط العقل وحد الاعتدال. فقد وصف الله تعالى الصحابة فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" إشارة إلى أن للشدة موضعاً وللرحمة موضعاً، فليس الكمال في الشدة بكل حال ولا في الرحمة بكل حال. فهذا بيان معنى الخلق وحسنه وقبحه وبيان أركانه وثمراته وفروعه.

بيان قبول الأخلاق للتغيير بطريق الرياضة

اعلم أن بعض من غلبت البطالة عليه استثقل المجاهدة والرياضة والاشتغال بتزكية النفس وتهذيب الأخلاق، فلم تسمح نفسه بأن يكون ذلك لقصوره ونقصه وخبث دخلته فزعم أن الأخلاق لا يتصور تغييرها فإن الطباع لا تتغير.

واستدل فيه بأمرين؛ أحدهما: أن الخلق هو صورة الباطن كما أن الخلق هو صورة الظاهر. فالخلقة الظاهرة لا يقدر على تغييرها فالقصير لا يقدر أن يجعل نفسه طويلاً ولا الطويل يقدر أن يجعل نفسه قصيراً ولا القبيح يقدر على تحسين صورته، فكذلك القبح الباطن يجري هذا المجرى. والثاني: أنهم قالوا حسن الخلق يقمع الشهوة والغضب. وقد جربنا ذلك بطول المجاهدة وعرفنا أن ذلك من مقتضى المزاج والطبع فإنه قط لا ينقطع عن الآدمي فاشتغاله به تضييع زمان بغير فائدة. فإن المطلوب هو قطع التفات القلب إلى الحظوظ العاجلة وذلك محال وجوده.

فنقول: لو كانت الأخلاق لا تقبل التغيير لبطلت الوصايا والمواعظ والتأديبات، ولما قال رسول الله ﷺ "حسنوا أخلاقكم وكيف ينكر هذا في حق الآدمي وتغيير خلق البهيمة ممكن إذ ينقل البازي من الاستيحاش إلى الأنس، والكلب من شره الأكل إلى التأدب والإمساك والتخلية، والفرس من الجماح إلى السلاسة والانقياد وكل ذلك تغيير للأخلاق.

والقول الكاشف للغطاء عن ذلك أن نقول: الموجودات منقسمة إلى ما لا مدخل للآدمي واختياره في أصله وتفصيله، كالسماء والكواكب، بل أعضاء البدن داخلاً وخارجاً، وسائر أجزاء الحيوانات. وبالجملة كل ما هو حاصل كامل وقع الفراغ من وجوده وكماله وإلى ما وجد وجوداً ناقصاً وجعل فيه قوة لقبول الكمال بعد أن وجد شرطه. وشرطه قد يربط باختيار العبد فأن النواة ليس بتفاح ولا نخل وإلا أنها خلقت خلقة يمكن أن تصير نخلة إذا انضاف التربية إليها، ولا تصير تفاحاً أصلاً إلا بالتربية، فإذا صارت النواة متأثرة بالاختيار حتى تقبل بعض الأحوال دون بعض فكذلك الغضب والشهوة لو أردنا قمعهما وقهرهما بالكلية حتى لا يبقى لهما أثر لم نقدر عليه أصلاً، ولو أردنا سلاستهما وقودهما بالرياضة والمجاهدة قدرنا عليه. وقد أمرنا بذلك وصار ذلك سبب نجاتنا ووصولنا إلى الله تعالى. نعم الجبلات مختلفة بعضها سريعة القبول وبعضها بطيئة القبول ولاختلافها سببان.

أحدهما: قوة الغريزة في أصل الجبلة وامتداد مدة الوجود فإن قوة الشهوة والغضب والتكبر موجودة في الإنسان، ولكن أصعبها أمراً وأعصاها على التغيير قوة الشهوة، فإنها أقدم وجوداً، إذ الصبي في مبدأ الفطر تخلق له الشهوة، ثم بعد سبع سنين ربما يخلق له الغضب، وبعد ذلك يخلق له قوة التمييز.

والسبب الثاني: أن الخلق قد يتأكد بكثرة العمل بمقتضاه والطاعة له وباعتقاد كونه حسناً ومرضياً والناس فيه على أربع مراتب "الأولى" وهو الإنسان الغفل الذي لا يميز بين الحق والباطل والجميل والقبيح بل بقي كما فطر عليه خالياً عن جميع الاعتقادات ولم تستتم شهوته أيضاً باتباع اللذات، فهذا سريع القبول للعلاج جداً فلا يحتاج إلا إلى معلم ومرشد، وإلى باعث من نفسه يحمله على المجاهدة فيحسن خلقه في أقرب زمان. "والثانية" أن يكون قد عرف قبح القبيح، ولكنه لم يتعود العمل الصالح بل زين له سوء عمله فتعاطاه انقياداً لشهواته وإعراضاً عن صواب رأيه لاستيلاء الشهوة عليه، ولكن علم تقصيره في عمله فأمره أصعب من الأول، إذ قد تضاعفت الوظيفة عليه؛ إذ عليه قلع ما رشه في نفسه أولاً من كثرة الاعتياد للفساد، والآخر أن يغرس في نفسه صفة الاعتياد للصلاح ولكنه بالجملة محل قابل للرياضة إن انتهض لها بجد وتشمير وحزم. "والثالثة" أن يعتقد في الأخلاق القبيحة أنها الواجبة المستحسنة وأنها حق وجميل وتربى عليها، فهذا يكاد تمتنع معالجته ولا يرجى صلاحه إلا على الندور، وذلك لتضاعف أسباب الضلال. "والرابعة" أن يكون مع نشئه على الرأي الفاسد وتربيته على العمل به يرى الفضيلة في كثرة الشر واستهلاك النفوس ويباهي به ويظن أن ذلك يرفع قدره، وهذا هو أصعب المراتب. وفي مثله قيل: ومن العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب. والأول : من هؤلاء جاهل فقط. والثاني: جاهل وضال. والثالث: جاهل وضال وفاسق. والرابع: جاهل وضال وفاسق وشرير.

وأما الخيال الآخر الذي استدلوا به: وهو قولهم إن الآدمي ما دام حياً فلا تنقطع عنه الشهوة والغضب وحب الدنيا وسائرهذه الأخلاق، فهذا غلط وقع لطائفة ظنوا أن المقصود من المجاهدة قمع هذه الصفات بالكلية ومحوها وهيهات! فإن الشهوة خلقت لفائدة وهي ضرورية في الجبلة، فلو انقطعت شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولو انقطعت شهوة الوقاع لانقطع النسل، ولو انعدم الغضب بالكلية لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يهلكه ولهلك. ومهما بقي أصل الشهوة فيبقى لا محالة حب المال الذي يوصله إلى الشهوة حتى يحمله ذلك عن إمساك المال. وليس المطلوب إماطة ذلك بالكلية بل المطلوب ردها إلى الاعتدال الذي هو وسط بين الإفراط والتفريط. والمطلوب في صفة الغضب حسن الحمية وذلك بأن يخلو عن التهور وعن الجبن جميعاً. وبالجملة أن يكون في نفسه قوياً ومع قوته منقاداً للعقل. ولذلك قال الله تعالى "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وصفهم بالشدة وإنما تصدر الشدة عن الغضب ولو بطل الغضب لبطل الجهاد. وكيف يقصد قلع الشهوة والغضب بالكلية والأنبياء عليهم السلام لم ينفكوا عن ذلك، إذ قال ﷺ "إنما أنا بشر أغضب كما يغضب البشر. وكان إذا تكلم بين يديه بما يكرهه يغضب حتى تحمر وجنتاه ولكن لا يقول إلا حقاً فكان عليه السلام لا يخرجه غضب عن الحق وقال تعالى "والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس" ولم يقل والفاقدين الغيظ فرد الغضب والشهوة إلى حد الاعتدال بحيث لا يقهر واحد منهما العقل ولا يغلبه، بل يكون العقل هو الضابط لهما والغالب عليهما ممكن، وهو المراد بتغيير الخلق فإنه ربما تستولي الشهوة على الإنسان بحيث لا يقوى عقله على دفعها فيقدم على الانبساط إلى الفواحش. وبالرياضة تعود إلى حد الاعتدال فدل أن ذلك ممكن، والتجربة والمشاهدة تدل على ذلك دلالة لا شك فيها والذي يدل على أن المطلوب هو الوسط في الأخلاق دون الطرفين أن السخاء خلق محمود شرعاً، وهو وسط بين طرفي التبذير والتقتير. وقد أثنى الله تعالى عليه فقال "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" وقال تعالى "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وكذلك المطلوب في شهوة الطعام الاعتدال دون الشره والجمود قال الله تعالى "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" وقال في الغضب "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال ﷺ "خير الأمور أوساطها وهذا له سر وتحقيق وهو أن السعادة منوطة بسلامة القلب عن عوارض هذا العالم. قال الله تعالى "إلا من أتى الله بقلب سليم" والبخل من عوارض الدنيا، والتبذير أيضاً من عوارض الدنيا، وشرط القلب أن يكون سليماً منهما أي لا يكون ملتفتاً إلى المال ولا يكون حريصاً على إنفاقه ولا على إمساكه، فإن الحريص على الإنفاق مصروف القلب إلى الإنفاق كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك فكان كمال القلب أن يصفوا عن الوصفين جميعاً. وإذا لم يكن ذلك في الدنيا طلبنا ما هو الأشبه لعدم الوصفين وأبعد عن الطرفين وهو الوسط، فإن الفاتر لا حار ولا بارد بل هو وسط بينهما فكأنه خال عن الوصفين. فكذلك السخاء بين التبذير والتقتير. والشجاعة بين الجبن والتهور. والعفة بين الشره والجمود. وكذلك سائر الأخلاق فكلا طرفي الأمور ذميم؛ هذا هو المطلوب وهو ممكن. نعم يجب على الشيخ المرشد للمريد أن يقبح عنده الغضب رأساً، ويذم إمساك المال رأساً، ولا يرخص له في شيء منه لأنه لو رخص له في أدنى شيء اتخذ ذلك عذراً في استبقاء بخله وغضبه وظن أنه القدر المرخص فيه. فإذا قصد الأصل وبالغ فيه ولم يتيسر له إلا كسر سورته بحيث يعود إلى الاعتدال فالصواب له أن يقصد قلع الأصل حتى يتيسر له القدر المقصود. فلا يكشف هذا السر للمريد فإنه موضع غرور الحمقى إذ يظن بنفسه أن غضبه بحق وأن إمساكه بحق.

بيان السبب الذي به ينال حسن الخلق على الجملة

قد عرفت أن حسن الخلق يرجع إلى اعتدال قوة العقل وكمال الحكمة. وإلى اعتدال قوة الغضب والشهوة، وكونها للعقل مطيعة وللشرع أيضاً. وهذا الاعتدال يحصل على وجهين:

أحدهما: بجود إلهي وكمال فطري بحيث يخلق الإنسان ويولد كامل العقل حسن الخلق قد كفى سلطان الشهوة والغضب، بل خلقتا معتدلتين منقادتين للعقل والشرع فيصير عالماً بغير تعليم ومؤدباً بغير تأديب كعيسى بن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام وكذا سائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. ولا يبد أن يكون في الطبع والفطرة ما قد ينال بالاكتساب فرب صبي خلق صادق اللهجة سخياً جرياً، وربما يخلق بخلافه، فيحصل ذلك فيه بالاعتياد ومخالطة المتخلقين بهذه الأخلاق، وربما يحصل بالتعلم.

والوجه الثاني: اكتساب هذه الأخلاق بالمجاهدة والرياضة وأعني به حمل النفس على الأعمال التي يقتضيها الخلق المطلوب. فمن أراد مثلاً أن يحصل لنفسه خلق الجود فطريقه أن يتكلف تعاطي فعل الجواد وهو بذل المال، فلا يزال يطالب نفسه ويواظب عليه تكلفاً مجاهداً نفسه فيه حتى يصير ذلك طبعاً له ويتيسر عليه فيصير به جواداً، وكذا من أراد أن يحصل لنفسه خلق التواضع وقد غلب عليه الكبر فطريقه أن يواظب على أفعال المتواضعين مدة مديدة وهو فيها مجاهد نفسه ومتكلف إلى أن يصير ذلك خلقاً له وطبعاً فيتيسر عليه. وجميع الأخلاق المحمودة شرعاً تحصل بهذا الطريق، وغايته أن يصير الفعل الصادر منه لذيذاً فالسخي هو الذي يستلذ بذل المال الذي يبذله دون الذي يبذله عن كراهة، والمتواضع هو الذي يستلذ التواضع ولن ترسخ الأخلاق الدينية في النفس، ما لم تتعود النفس جميع العادات الحسنة وما لم تترك جميع الأفعال السيئة. وما لم تواظب عليه مواظبة من يشتاق إلى الأفعال الجميلة ويتنعم بها، ويكره الأفعال القبيحة ويتألم بها، كما قال ﷺ "وجعلت قرة عيني في الصلاة"ومهما كانت العبادات وترك المحظورات مع كراهة واستثقال فهو النقصان ولا ينال كمال السعادة به. نعم المواظبة عليه بالمجاهدة خير ولكن بالإضافة إلى تركها لا بالإضافة إلى فعلها عن طوع ولذلك قال الله تعالى "وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين" وقال ﷺ "اعبد الله في الرضا فإن لم تستطع ففي الصبر على ما تكره خير كثير" ثم لا يكن في نيل السعادة الموعودة على جسن الخلق استلذاذ الطاعة واستكراه المعصية في زمان دون زمان، بل ينبغي أن يكون ذلك على الدوام وفي جملة العمر. وكلما كان العمر أطول كانت الفضيلة ارسخ وأكمل ولذلك لما سئل ﷺ عن السعادة فقال، طول العمر في طاعة الله تعالى ولذلك كره الأنبياء والأولياء الموت فإن الدنيا مزرعة الآخرة. وكلما كانت العبادات أكثر بطول العمر كان الثواب أجزل والنفس أزكى وأطهر والأخلاق أقوى وأرسخ، وإنما مقصود العبادات تأثيرها في القلب، وإنما يتأكد تأثيرها بكثرة المواظبة على العبادات. وغاية هذه الأخلاق أن ينقطع عن النفس حب الدنيا ويرسخ فيها حب الله تعالى فلا يكون شيء أحب إليه من لقاء الله تعالى عز وجل، فلا يستعمل جميع ماله إلا على الوجه الذي يوصله إليه وغضبه وشهوته من المسخرات له فلا يستعملهما إلا على الوجه الذي يوصله إلى الله تعالى، وذلك بأن يكون موزوناً بميزان الشرع والعقل، ثم يكون بعد ذلك فرحاً به مستلذاً له، ولا ينبغي أن يستبعد مصير الصلاة إلى حد تصير هي قرة العين. ومصير العبادات لذيذة فإن العادة تقتضي في النفس عجائب أغرب من ذلك؛ فإنا قد نرى الملوك والمنعمين في أحزان دائمة، ونرى المقامر قد يغلب عليه من الفرح واللذة بقماره وما هو فيه ما يستثقل معه فرح الناس بغير قمار، مع أن القمار ربما سلبه ماله وخرب بيته وتركه مفلساً ومع ذلك فهو يحبه ويلتذ به، وذلك لطول إلفه له وصرف نفسه إليه مدة. وكذلك اللاعب بالحمام قد يقف طول النهار في حر الشمس قائماً على رجليه وهو لا يحس بألمها لفرحه بالطيور وحركاتها وطيرانها وتحليقها في جو السماء، بل نرى الفاجر العيار يفتخر بنفسه وبقوته في الصبر على ذلك، حتى يرى ذلك فخراً لنفسه، ويقطع الواحد منهم إرباً إربا على أن يقر بما تعاطاه أو تعاطاه غيره فيصر على الإنكار ولا يبالي بالعقوبات فرحاً بما يعتقده كمالاً وشجاعة ورجولية، فقد صارت أحوالها مع ما فيها من النكال قرة عينه وسبب افتخاره، بل لا حال أخس وأقبح من حال المخنث في تشبهه بالإناث في نتف الشعر ووشم الوجه ومخالطة النساء فترى المخنث في فرح بحاله وافتخار بكمال في تخنثه يتباهى به مع المخنثين، حتى يجري بين الحجامين والكناسين التفاخر والمباهاة كما يجري بين الملوك والعلماء. فكل ذلك نتيجة العادة والمواظبة على نمط واحد على الدوام مدة مديدة ومشاهدة ذلك في المخالطين والمعارف. فإذا كانت النفس بالعادة تستلذ الباطل وتميل إليه وإلى المقابح فكيف لا تستلذ الحق لو ردت إليه مدة والتزمت المواظبة عليه? بل ميل النفس إلى هذه الأمور الشنيعة خارج عن الطبع يضاهي الميل إلى أكل الطين فقد يغلب على بعض الناس ذلك بالعادة؛ فأما ميله إلى الحكمة وحب

الله تعالى ومعرفته وعبادته فهو كالميل إلى الطعام والشراب فإنه مقتضى طبع القلب فإنه أمر رباني، وميله إلى مقتضيات الشهوة غريب من ذاته وعارض على طبعه، وإنما غذاء القلب الحكمة والمعرفة وحب الله عز وجل ولكن انصرف عن مقتضى طبعه لمرض قد حل به كما قد يحل المرض بالمعدة فلا تشتهي الطعام والشراب وهما سببان لحياتها، فكل قلب مال إلى حب شيء سوى الله تعالى فلا ينفك عن مرض بقدر ميله، إلا إذا كان أحب ذلك الشيء لكونه معيناً له على حب الله تعالى وعلى دينه، فعند ذلك لا يدل على ذلك المرض.

فإذن قد عرفت بهذا قطعاً أن هذه الأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بالرياضة وهي تكلف الأفعال الصادرة عنها ابتداء لتصير طبعاً انتهاء، وهذا من عجيب العلاقة بين القلب والجوارح - أعني النفس والبدن- فإن كل صفة تظهر في القلب يفيض أثرها على الجوارح حتى لا تتحرك إلا على وفقها لا محالة، وكل فعل يجري على الجوارح فإنه قد يرتفع منه أثر إلى القلب، والأمر فيه دور، ويعرف ذلك بمثال: وهو أن من أراد أن يصير الحذق في الكتابة له صفة نفسية -حتى يصير كاتباً بالطبع - فلا طريق له إلا أن يتعاطى بجارحة اليد ما يتعاطاه الكاتب الحاذق ويواظب عليه مدة طويلة يحاكي الخط الحسن، فإن فعل الكاتب هوالخط الحسن فيتشبه بالكاتب تكلفاً، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يصير صفة راسخة في نفسه، فيصدر منه في الآخر الخط الحسن طبعاً كما كان يصدر منه في الابتداء تكلفاً، فكان الخط الحسن هو الذي جعل خطه حسناً، ولكن الأول بتكلف إلا أنه ارتفع منه أثر إلى القلب ثم انخفض من القلب إلى الجارحة فصار يكتب الخط الحسن بالطبع.

وكذلك من أراد أن يصير فقيه النفس فلا طريق له إلا أن يتعاطى أفعال الفقهاء، وهو التكرار للفقه حتى تنعطف منه على قلبه صفة الفقه فيصير فقيه النفس. وكذلك من أراد أن يصير سخياً عفيف النفس حليماً متواضعاً فيلزمه أن يتعاطى أفعال هؤلاء تكلفاً حتى يصير ذلك طبعاً له، فلا علاج له إلا ذلك وكما أن طال بفقه النفس لا ييأس من نيل هذه الرتبة بتعطيل ليلة ولا ينالها بتكرار ليلة، فكذلك طالب تزكية النفس وتكميلها وتحليتها بالأعمال الحسنة لا ينالها بعبادة يوم ولا يحرم عنها بعصيان يوم. وهو معنى قولنا أن الكبيرة الواحدة لا توجب الشقاء المؤبد ولكن العطلة في يوم واحد تدعو إلى مثلها، ثم تتداعى قليلاً قليلاً حتى تأنس النفس بالكسل وتهجر التحصيل رأساً فيفوتها فضيلة الفقه. وكذلك صغائر المعاصي يجر بعضها إلى بعض حتى يفوت أصل السعادة بهدم أصل الإيمان عند الخاتمة. وكما أن تكرار ليلة لا يحس تأثيره في فقه النفس بل يظهر فقه النفس شيئاً فشيئاً على التدريج - مثل نمو البدن وارتفاع القامة- فكذلك الطاعة الواحد لا يحس تأثيرهما في تزكية النفس وتطهيرها في الحال، ولكن لا ينبغي أن يستهان بقليل الطاعة فإن الجملة الكثيرة منها مؤثرة، وإنما اجتمعت الجملة من الآحاد، فلكل واحد منها تأثير، فما من طاعة إلا ولها أثر وإن خفي، فله ثواب لا محال. فإن الثواب بإزاء الأثر وكذلك المعصية. وكم من فقيه يستهين بتعطيل يوم وليلة وهكذا على التوالي يسوف نفسه يوماً فيوماً إلى أن يخرج طبعه عن قبول الفقه. فكذا من يستهين صغائر المعاصي ويسوف نفسه بالتوبة على التوالي إلى أن يختطفه الموت بغتة أو تتراكم ظلمة الذنوب على قلبه وتتعذر عليه التوبة، إذ القليل يدعو إلى الكثير فيصير القلب مقيداً بسلاسل شهوات لا يمكن تخليصه من مخالبها. وهو المعنى بانسداد باب التوبة وهو المراد بقوله تعالى "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً" الآية ولذلك قال رضي الله عنه" إن الإيمان ليبدو في القلب نكتة بيضاء، كلما ازداد الإيمان ازداد ذلك البياض فإذا استكمل العبد الإيمان أبيض القلب كله. وإن النفاق في القلب ليبدو نكتة سوداء كلما ازداد النفاق ازداد ذلك السواد فإذا استكمل النفاق أسود القلب كله.

فإذا عرفت أن الأخلاق الحسنة تارة تكون بالطبع والفطرة، تكون باعتياد الأفعال الجميلة، وتارة بمشاهدة أرباب الفعال الجميلة ومصاحبتهم وهم قرناء الخير وإخوان الصلاح، إذ الطبع يسرق من الطبع الشر والخير جميعاً. فمن تظاهرت في حقه الجهات الثلاث حتى صار ذا فضيلة طبعاً واعتياداً وتعلماً فهو في غاية الفضيلة، ومن كان رذلاً بالطبع واتفق له قرناء السوء فتعلم منهم وتيسرت له أسباب الشر حتى اعتادها فهو في غاية البعد من الله عز وجل، وبين الرتبتين من اختلفت فيه من هذه الجهات ولكل درجة في القرب والبعد بحسب ما تقتضيه صورته وحالته "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذر شراً يره وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون".

بيان تفصيل الطريق إلى تهذيب الأخلاق

قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها. كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له، والميل عن الاعتدال مرض فيه فلنتخذ البدن مثالاً. فنقول:

مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة عليها، مثال البدن في علاجه بمحو العلل عنه وكسب الصحة له وجلبها إليه. وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال وإنما تعتري المعدة الضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، فكذلك كل مولود يولد معتدلاً صحيح الفطرة، وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسناه - أي بالاعتياد والتعليم تكسب الرذائل - وكما أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملاً وإنما يكمل ويقوى بالنشو والتربية بالغذاء؛ فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال؛ وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم. وكما أن البدن إن كان صحيحاً فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة وإن كان مريضاً فشأنه جلب الصحة إليه؛ فكذلك النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة فينبغي أن تسعى لحفظها وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفائها، وإن كانت عديمة الكمال والصفاء فينبغي أن تسعى لجلب ذلك عليها. وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة للمرض لا تعالج إلا بضدها فإن كانت من حرارة فبالبرودة، وإن كانت من برودة فبالحرارة، فكذلك الرذيلة التي هي مرض القلب وعلاجها بضدها. فيعالج مرض الجهل بالتعلم، ومرض البخل بالتسخى، ومرض الكبر بالتواضع، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفاً. وكما أن لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى. فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد. وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كانت على حد مخصوص -ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه بالكثرة والقلة، ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد - فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار. وكما أن معيار لدواء مأخوذ من عيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة، فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية? فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها.

فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم. وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم. بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد وفي حاله وسنه ومزاجه وما تحتمله بنيته من الرياضة ويبني على ذلك رياضته. فإن كان المريد مبتدئاً جاهلاً بحدود الشرع فيعلمه أولاً الطهارة والصلاة وظواهر العبادات، وإن كان مشغولاً بمال حرام أو مقارفاً لمعصية فيأمره أولاً بتركها، فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه: فإن رأى معه مالاً فاضلاً عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلته منه حتى لا يلتفت إليه، وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال، فإن عزة النفس والرياسة لا تنكسر إلا بالذل ولا ذل أعظم من ذل السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه، فإن الكبر من الأمراض المهلكة وكذلك الرعونة، وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى قلبه مائلاً إلى ذلك فرحاً به ملتفتاً إليه استخدمه في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة. فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار، فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنماً فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله ومن راعى في ثوبه شيئاً سوى كونه حلالاً وطاهراً مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه.

ومن لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأساً أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة؛ فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه، كالذي يغسل الدم بالبول، ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم. كما يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه، ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه، ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة. فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه، وكذلك سائر الصفات. وكذلك إذا رأى شره الطعام غالباً عليه ألزمه بالصوم وتقليل الطعام، ثم يكلفه أن يهيئ الأطعمة اللذيذة ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه فيتعود الصبر وينكسر شرهه. وكذلك إذا رآه شاباً متشوقاً إلى النكاح وهو عاجز عن الطول فيأمره بالصوم، وربما تسكن شهوته بذلك فيأمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء. ويمنعه اللحم والأدم رأساً حتى تذل نفسه وتنكسر شوكته. فلا علاج في مبدأ الإرادة أنفع من الجوع. وإن رأى الغضب غالباً عليه ألزمه الحلم والسكوت وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق، ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه.

كما حكى عن بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر، ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل. وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب فأراد أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج. وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طوال الليل على نصبة واحدة. وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كان يكسل عن القيام فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل ليسمح بالقيام على الرجل عن طوع. وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورمى به في البحر؛ إذ خاب من تفرقته على الناس رعونة الجود والرياء بالبذل.

فهذه الأمثلة تعرفك طريق معالجة القلوب. وليس غرضنا ذكر دواء كل مرض - فإن ذلك سيأتي في بقى الكتب - وإنما غرضنا الآن التنبيه على أن الطريق الكلي فيه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميلإليه وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة فقال تعالى "وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" والأصل المهم في المجاهدة والوفاء بالعزم فإذا عزم على ترك شهوة فقد تيسرت أسبابها ويكون ذلك ابتلاء من الله تعالى واختباراً. فينبغي أن يصبر ويستمر، فإنه إن عود نفسه ترك العزم ألفت ذلك ففسدت وإذا اتفق منه نقض عزم فينبغي أن يلزم نفسه عقوبة عليه - كما ذكرناه في معاقبة النفس في كتاب المحاسبة والمراقبة - وإذا لم يخوف النفس بعقوبة غلبته وحسنت عنده تناول الشهوة فتفسد بها الرياضة بالكلية.

بيان علامات أمراض القلوب

وعلامات عودها إلى الصحة

اعلم أن كل عضو من أعضاء البدن خلق لفعل خاص به، وإنما مرضه أن يتعذر عليه فعله الذي خلق له حتى لا يصدر منه أصلاً أو يصدر منه مع نوع من الاضطراب. فمرض اليد أن يتعذر عليه فعله الخاص به الذي خلق لأجله؛ وهو العلم والحكمة والمعرفة وحب الله تعالى وعبادته والتلذذ بذكره وإيثاره ذلك على كل شهوة سواه والاستعانة بجميع الشهوات والأعضاء عليه قال الله تعالى "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون" ففي كل عضو فائدة وفائدة القلب الحكمة والمعرفة. وخاصية النفس التي للآدمي، ما يتميز بها عن البهائم، فإنه لم يتميز عنها بالقوة على الأكل والوقاع والإبصار أو غيرها: بل بمعرفة الأشياء على ما هي عليه. وأصل الأشياء وموجدها ومخترعها هو الله عز وجل الذي جعلها أشياء. فلو عرف كل شيء ولم يعرف الله عز وجل فكأنه لم يعرف شيئاً. وعلامة المعرفة المحبة فمن عرف الله تعالى أحبه وعلامة المحبة أن لا يؤثر عليه الدنيا، ولا غيرها من المحبوبات كما قال الله تعالى "قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم" إلى قوله "أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره" فمن عنده شيء أحب إليه من الله فقلبه مريض، كما أن كل معدة صار الطين أحب إليها من الخبز والماء أو سقطت شهوتها عن الخبز والماء فهي مريضة. فهذه علامات المرض وبهذا يعرف أن القلوب كلها مريضة إلا ما شاء الله إلا أن من الأمراض ما لا يعرفها صاحبها، ومرض القلب مما لا يعرفه صاحبه، فلذلك يغفل عنه. وإن عرفه صعب عليه الصبر على مرارة دوائه فإن دواءه مخالفة الشهوات وهو نزع الروح. فإن وجد من نفسه قوة الصبر عليه لم يجد طبيباً حاذقاً يعالجه، فإن الأطباء هم العلماء وقد استولى عليهم المرض فالطبيب المريض قلما يلتفت إلى علاجه، فلهذا صار الداء عضالاً والمرض مزمناً واندرس هذا العلم، وأنكر بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها، وأقبل الخلق على حب الدنيا، وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادات ومراءات. فهذه علامات أصول الأمراض.

وأما علامات عودها إلى الصحة بعد المعالجة فهو أن ينظر في العلة التي يعالجها، فإن كان يعالج داء البخل فهو المهلك المبعد عن الله عز وجل وإنما علاجه ببذل المال وإنفاقه، ولكنه قد يبذل المال إلى حد يصير به مبذراً فيكون التبذير أيضاً داء، فكان كما يعالج البرودة بالحرارة حتى تغلب الحرارة فهو أيضاً داء، بل المطلوب الاعتدال بين الحرارة والبرودة. وكذلك المطلوب الاعتدال بين التبذير والتقتير حتى يكون على الوسط وفي غاية من البعد عن الطرفين، فإن أردت أن تعرف الوسط فانظر إلى الفعل الذي يوجبه الخلق المحذور، فإن كان أسهل عليك وألذ من الذي يضاده فالغالب عليك ذلك الخلق الموجب له، مثل أن يكون إمساك المال وجمعه ألذ عندك وأيسر عليك من بذله لمستحقه فاعلم أن الغالب عليك خلق البخل فزد في المواظبة على البذل، فإن صار البذل على غير المستحق ألذ عندك وأخف من الإمساك بالحق فقد غلب عليك التبذير فارجع إلى المواظبة على الإمساك، فلا تزال تراقب نفسك وتستدل على خلقك بتيسير الأفعال وتعسيرها حتى تنقطع علاقة قلبك عن الالتفات إلى المال فلا تميل إلى بذله ولا إلى إمساكه، بل يصير عندك كالماء فلا تطلب فيه إلا إمساكه لحاجة محتاج أو بذله لحاجة محتاج، ولا يترجح عندك البذل على الإمساك فكل قلب صار كذلك فقد أتى الله سليماً عن هذا المقام خاصة. ويجب أن يكون سليماً عن سائر الأخلاق حتى لا يكون له علاقة بشيء مما يتعلق بالدنيا، حتى ترتحل النفس عن الدنيا منقطعة العلائق منها غير ملتفتة إليها ولا متشوقة إلى أسبابها، فعند ذلك ترجع إلى ربها رجوع النفس المطمئنة راضية مرضية داخلة في زمرة عباد الله المقربين من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

ولما كان الوسط الحقيقي بين الطرفين في غاية الغموض بل هو أدق من الشعر وأحد من السيف فلا جرم أن من استوى على هذا الصراط المستقيم في الدنيا، جاز على مثل هذا الصراط في الآخرة، وقلما ينفك العبد عن ميل عن الصراط المستقيم - أعني الوسط - حتى لا يميل إلى أحد الجانبين فيكون قلبه معلقاً بالجانب الذي مال إليه. ولذلك لا ينفك عن عذاب ما واجتياز على النار وإن كان مثل البرق قال الله تعالى "وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضياً. ثم ننجي الذين اتقوا" أي الذين كان قربهم إلى الصراط المستقيم أكثر من بعدهم عنه. ولأجل عسر الاستقامة وجب على كل عبد أن يدعو الله تعالى في كل يوم سبع عشرة مرة في قوله "اهدنا الصراط المستقيم" إذ وجب قراءة الفاتحة في كل ركعة.

فقد روي أن بعضهم رأى رسول الله ﷺ في المنام فقال: قد قلت يا رسول الله شيبتني هود، فلم قلت ذلك? فقال عليه السلام لقوله تعالى "فاستقم كما أمرت" فالاستقامة على سواء السبيل في غاية الغموض، ولكن ينبغي أن يجتهد الإنسان في القرب من الاستقامة إن لم يقدر على حقيقتها. فكل من أراد النجاة فلا نجاة له إلا بالعمل الصالح، ولا تصدر الأعمال الصالحة إلا عن الأخلاق الحسنة فليتفقد كل عبد صفاته وأخلاقه، وليعددها وليشتغل بعلاج واحد واحد فيها على الترتيب. فنسأل الله الكريم أن يجعلنا من المتقين.

بيان الطريق الذي يعرف به الإنسان عيوب نفسه

اعلم أن الله عز وجل إذا أراد بعبد خيراً بصره بعيوب نفسه، فمن كانت بصيرته نافذة لم تخف عليه عيوبه، فإذا عرف العيوب أمكنه العلاج، ولكن أكثر الخلق جاهلون بعيوب أنفسهم يرى أحدهم القذى في عين أخيه ولا يرى الجذع في عين نفسه. فمن أراد أن يعرف عيوب نفسه فله أربعة طرق: الأول: أن يجلس بين يدي شيخ بصير بعيوب النفس مطلع على خفايا الآفات ويحكمه في نفسه ويتبع إشارته في مجاهدته. وهذا شأن المريد مع شيخه والتلميذ مع أستاذه، فيعرفه أستاذه وشيخه عيوب نفسه ويعرفه طريق علاجه. وهذا قد عز في الزمان وجوده.

الثاني: أن يطلب صديقاً صدوقاً بصيراً متديناً فينصبه رقيباً على نفسه ليلاحظ أحوالها وأفعاله، فما كره من أخلاقه وأفعاله وعيوبه الباطنة الظاهرة ينبهه عليه. فهكذا كان يفعل الأكياس والأكابر من أئمة الدين.

كان عمر رضي الله عنه يقول: رحم الله امرأ أدهى إلى عيوبي. وكان يسأل سلمان عن عيوبه فلما قدم عليه قال له: ما الذي بلغك عني مما تكرهه? فاستعفى فألح عليه فقال: بلغني أنك جمعت بين إدامين على مائدة، وأن لك حلتين حلة بالنهار وحلة بالليل، قال: وهل بلغك غير هذا? قال: لا، فقال: أما هذان فقد كفيتهما. وكان يسأل حذيفة ويقول له أنت صاحب سر رسول الله ﷺ في المنافقين فهل ترى علي شيئاً من آثار النفاق? فهو على جلالة قدره وعلو منصبه هكذا كانت تهمته لنفسه رضي الله عنه!.

فكل من كان أوفر عقلاً وأعلى منصباً كان أقل إعجاباً وأعظم إتهاماً لنفسه، إلا أن هذا أيضاً قد عز فقل في الأصدقاء من يترك المداهنة فيخبر بالعيب، أو يترك الحسد فلا يزيد على قدر الواجب. فلا تخلو في أصدقائك عن حسود أو صاحب غرض يرى ما ليس بعيب عيباً، أو عن مداهن يخفي عنك بعض عيوبك.

ولهذا كان داود الطائي قد اعتزل الناس فقيل له: لم لا تخالط الناس? فقال: وماذا أصنع بأقوام يخفون عني عيوبي? فكانت شهوة ذوي الدين أن يتنبهوا لعيوبهم بتنبيه غيرهم، وقد آل الأمر في أمثالنا إلى أن أبغض الخلق إلينا من ينصحنا ويعرفنا عيوبنا. ويكاد هذا أن يكون مفصحاً عن ضعف الإيمان فإن الأخلاق السيئة حيات وعقارب لداغة، فلو نبهنا منبه على أن تحت ثوبنا عقرباً لتقلدنا منه منة وفرحنا به واشتغلنا بإزالة العقرب وإبعادها وقتلها، وإنما نكايتها على البدن ويدوم ألمها يوماً فما دونه، ونكاية الأخلاق الرديئة على صميم القلب أخشى أن تدوم بعد الموت أبداً وآلافاً من السنين. ثم إنا لا نفرح بمن ينبهنا عليها ولا نشتغل بإزالتها بل نشتغل بمقابلة الناصح بمثل مقالته فنقول له: وأنت أيضاً تصنع كيت وكيت وتشغلنا العداوة معه عن الانتفاع بنصحه، ويشبه أن يكون ذلك من قساوة القلب التي أثمرتها كثرة الذنوب. وأصل كل ذلك ضعف الإيمان. فنسأل الله عز وجل أن يلهمنا رشدنا ويبصرنا بعيوبنا ويشغلنا بمداواتها ويوفقنا للقيام بشكر من يطلعنا على مساوينا بمنه وفضله.

الطريق الثالث: أن يستفيد معرفة عيوب نفسه من ألسنة أعدائه فإن عين السخط تبدي المساويا. ولعل انتفاع الإنسان بعدو مشاحن يذكره عيوبه أكثر من انتفاعه بصديق مداهن يثني عليه ويمدحه ويخفي عنه عيوبه، إلا أن الطبع مجبول على تكذيب العدو وحمل ما يقوله على الحسد، ولكن البصير لا يخلو عن الانتفاع بقول أعدائه فإن مساويه لا بد وأن تنتشر على ألسنتهم.

الطريق الرابع: أن يخالط الناس فكل ما رآه مذموماً فيما بين الخلق فليطالب نفسه به وينسبها إليه، فإن المؤمن مرآة المؤمن، فيرى من عيوب غيره عيوب نفسه ويعلم أن الطباع متقاربة في اتباع الهوى. فما يتصف به واحد من الأقران لا ينفك القرن الآخر عن أصله أو عن أعظم منه أو عن شيء منه، فليتفقد نفسه ويطهرها من كل ما يذمه من غيره وناهيك بهذا تأديباً، فلو ترك الناس كلهم ما يكرهونه من غيرهم لاستغنوا عن المؤدب.

قيل لعيسى عليه السلام: من أدبك? قال ما أدبني أحد، رأيت جهل الجاهل شيناً فاجتنبيه. وهذا كله حيل من فقد شيخاً عارفاً ذكياً بصيراً بعيوب النفس مشفقاً ناصحاً في الدين فارغاً من تهذيب نفسه مشتغلاً بتهذيب عباد الله تعالى ناصحاً لهم، فمن وجد ذلك فقد وجد الطبيب فليلازمه فهو الذي يخلصه من مرضه وينجيه من الهلاك الذي هو بصدده.

بيان شواهد النقل من أرباب البصائر

وشواهد الشرع على أن الطريق في معالجة أمراض القلب ترك الشهوات وأن مادة أمراضها هي اتباع الشهوات

اعلم أن ما ذكرناه إن تأملته بعين الاعتبار انفتحت بصيرتك وانكشف لك علل القلوب وأمراضها وأدويتها بنور العلم واليقين، فإن عجزت عن ذلك فلا ينبغي أن يفوتك التصديق والإيمان على سبيل التلقي والتقليد لمن يستحق التقليد، فإن للإيمان درجة كما أن للعلم درجة، والعلم يحصل بعد الإيمان وهو وراءه قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فمن صدق بأن مخالفة الشهوات هي الطريق إلى الله عز وجل ولم يطلع على سببه وسره فهو من الذين آمنوا، وإذا اطلع على ما ذكرناه من أعوان الشهوات فهو من الذين أوتوا العلم وكلا وعد الله الحسنى.

والذي يقتضي الإيمان بهذا الأمر في القرآن والسنة وأقاويل العلماء أكثر من أن يحصر. قال الله تعالى "ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" وقال تعالى "أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى" قيل نزع منها محبة الشهوات. وقال ﷺ "المؤمن بين خمس شدائد: مؤمن يحسده ومنافق يبغضه وكافر يقاتله وشيطان يضله ونفس تنازعه فبين أن النفس عدو منازع يجب عليه مجاهدته.

ويروى أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات فإن القلوب المتعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة. وقال عيسى عليه السلام: طوبى لمن ترك شهوة حاضرة لموعود غائب لم يره وقال نبينا ﷺ لقوم قدموا من الجهاد "مرحباً بكم قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" قيل يا رسول الله ومال الجهاد الأكبر? قال "جهاد النفس وقال ﷺ "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله عز وجل وقال ﷺ "كف أذاك عن نفسك ولا تتابع هواها في معصية الله تعالى إذن تخاصمك يوم فليعن بعضك بعضاً إلا أن يغفر الله تعالى ويستر وقل سفيان الثوري: ما عالجت شيئاً أشد علي من نفسي مرة لي ومرة علي وكان أبو العباس الموصلي يقول لنفسه: يا نفس لا في الدنيا مع أبناء الملوك تتنعمين ولا في طلب الآخر مع العباد تجتهدين كأني بك بين الجنة والنار تحبسين يا نفس ألا تستحين! وقال الحسن: ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام الشديد من نفسك.

وقال يحيى بن معاذ الرازي: جاهد نفسك بأسياف الرياضة. والرياضة على أربعة أوجه: القوت من الطعام، والغمض من المنام، والحاجة من الكلام وحمل الأذى من جميع الأنام فيتولد من قلة الطعام موت الشهوات، ومن قلة المنام صفو الإرادات، ومن قلة الكلام السلامة من الآفات، ومن احتمال الأذى، البلوغ إلى الغايات وليس على العبد شيء أشد من الحلم عند الجفاء والصبر على الأذى وإذا تحركت من النفس إرادة الشهوات والآثام وهاجت منها حلاوة فضول الكلام جردت سيوف قلة الطعام من غمد التهجد وقلة المنام، وضربتها بأيدي الخمول وقلة الكلام حتى تنقطع عن الظلم والانتقام، فتامن من بواثقها من بين سائر الأنام وتصفيها من ظلمة شهواتها فتنجو من غوائل آفاتها، فتصير عند ذلك نظيفة ونورية خفيفة روحانية فتجول في ميدان الخيرات وتسير في مسالك الطاعات كالفرس الفارة في الميدان وكالملك المتنزه في البستان. وقال أيضاً: أعداء الإنسان ثلاثة: دنياه وشيطانه ونفسه، فاحترس من الدنيا بالزهد فيها، ومن الشيطان بمخالفته، ومن النفس بترك الشهوات.

قال بعض الحكماء: من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها؛ محصوراً في سجن هواها، مقهوراً مغلولاً زمامه في يدها تجره حيث ساءت فتمنع قلبه من الفوائد. وقال جعفر بن حميد: أجمعت العلماء والحكماء على أن النعيم لا يدرك إلا بترك النعيم. وقال أبو يحيى الوراق: من أرضى الجوارح بالشهوات فقد غرس في قلبه شجر الندامات. وقال وهيب بن الورد: ما زاد على الخبز فهو شهوة. وقال أيضاً: من أحب شهوات الدنيا فليتهيأ للذل.

ويروى أن امرأة العزيز قالت ليوسف عليه السلام - بعد أن أن ملك خزائن الأرض وقعدت له على رابية الطريق في يوم موكبه وكان يركب في زهاء اثني عشر ألفاً من عظماء مملكته - سبحان من جعل الملوك عبيداً بالمعصية وجعل العبيد ملوكاً بطاعتهم له. إن الحرص والشهوة صيرا الملوك عبيداً وذلك جزاء المفسدين، وإن الصبر والتقوى صيرا العبيد ملوكاً. فقال يوسف - كما أخبر الله تعالى عنه "إنه من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين".

وقال الجنيد: أرقت ليلة فقمت إلى وردي فلم أجد الحلاوة التي كنت أجدها فأردت أن أنام فلم أقدر، فجلست فلم أطق الجلوس، فخرجت فإذا رجل ملتف في عباءة مطروح على الطريق، فلما أحس بي قال: يا أبا القاسم إلى الساعة، فقلت: يا سيدي من غير موعد? قال: بلى سألت الله عز وجل أن يحرك إلى قلبك، فقلت: قد فعل فما حاجتك? قال: فمتى يصير داء النفس دواءها? فقلت: إذا خالفت النفس هواها، فأقبل على نفسه فقال: اسمعي فقد أجبتك بهذا سبع مرات فأبيت أن تسمعيه إلا من الجنيد ها قد سمعتيه، ثم انصرف وما عرفته وقال يزيد الرقائي: إليكم عني الماء البارد في الدنيا لعلي لا أحرمه في الآخرة. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: متى أتكلم? قال: إذا اشتهيت الصمت، قال: متى أصمت? قال: إذا اشتهيت الكلام. وقال علي رضي الله عنه: من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات في الدنيا. وكان مالك بن دينار يطوف فإذا رأى الشيء يشتهيه قال لنفسه: اصبري فوالله ما أمنعك إلا من كرامتك علي.

فإذن قد اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات فالإيمان بهذا واجب. وأما علم تفصيل ما يترك من الشهوات وما لا يترك فلا يدرك إلا بما قدمناه. وحاصل الرياضة وسرها أن لا تتمتع النفس بشيء مما لا يوجد في القبر إلا بقدر الضرورة، فيكون مقتصراً من الأكل والنكاح واللباس والمسكن وكل ما هو مضطر إليه على قدر الحاجة والضرورة، فإنه لم تمتع بشيء منه أنس به وألفه، فإذا مات تمنى الرجوع إلى الدنيا بسببه ولا يتمنى الرجوع إلى الدنيا إلا من لا حظ له في الآخرة بحال، ولا خلاص منه إلا بأن يكون القلب مشغولاً بمعرفة الله وحبه والتفكير فيه والانقطاع إليه، ولا قوة على ذلك إلا بالله، ويقتصر من الدنيا على ما يدفع عوائق الذكر والفكر فقط. فمن لم يقدر على حقيقة ذلك فليقرب منه والناس فيه أربعة: رجل مستغرق قلبه بذكر الله فلا يلتفت إلى الدنيا إلا في ضرورات المعيشة فهو من الصديقين. ولا ينتهي إلى هذه الرتبة إلا بالرياضة الطويلة والصبر عن الشهوات مدة مديدة.

الثاني: رجل استغرقت الدنيا قلبه ولم يبق الله تعالى ذكر في قلبه إلا من حيث حديث النفس، حيث يذكره باللسان لا بالقلب فهذا من الهالكين.

والثالث: رجل اشتغل بالدنيا والدين ولكن الغالب على قلبه هو الدين فهذا لا بد له من ورود النار إلا أنه ينجو منها سريعاً بقدر غلبة ذكر الله تعالى على قلبه.

والرابع: رجل اشتغل بهما جميعاً لكن الدنيا أغلب على قلبه فهذا يطول مقامه في النار لكن يخرج منها لا محال لقوة ذكر الله تعالى في قلبه وتمكنه من صميم فؤاده، وإن كان ذكر الدنيا أغلب على قلبه. اللهم إنا نعوذ بك من خزيك فإنك أنت المعاذ.

وربما يقول القائل إن التنعم بالمباح مباح فكيف يكون التنعم سبب البعد من الله عز وجل? وهذا خيال ضعيف بل حب الدنيا رأس كل خطيئة وسبب إحباط كل حسنة. والمباح الخارج عن قدر الحاجة أيضاً من الدنيا وهو سبب البعد - وسيأتي ذلك في كتاب ذم الدنيا - وقد قال إبراهيم الخواص كنت مرة في جبل اللكام فرأيت رماناً فاشتهيته فأخذت منه واحدة فشققتها فوجدتها حامضة فمضيت وتركتها، فرأيت رجلاً مطروحاً وقد اجتمعت عليه الزنابير فقلت: السلام عليك، فقال: وعليك السلام يا إبراهيم، فقلت: كيف عرفتني? فقال: من عرف الله عز وجل لم يخف عليه شيء، فقلت: أرى لك حالاً مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من هذه الزنابير? فقال: وأرى لك حالاً مع الله عز وجل فلو سألته أن يحميك من شهوة الرمان فإن لدغ الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة ولدغ الزنابير يجد ألمه في الدنيا، فتركته ومضيت. وقال السري: أنا منذ أربعين سنة تطالبني نفسي أن أغمس خبزة في دبس فما أطعمتها.

فإذن لا يمكن إصلاح القلب لسلوك طريق الآخرة ما لم يمنع نفسه عن التنعم بالمباح، فإن النفس إذا لم تمنع بعض المباحات طمعت في المحظورات فمن أراد حفظ لسانه عن الغيبة والفضول فحقه أن يلزمه السكوت؛ إلا عن ذكر الله وإلا عن المهمات في الدين، حتى تموت منه شهوة الكلام فلا يتكلم إلا بحق فيكون سكوته عبادة وكلامه عبادة. ومهما اعتادت العين رمي البصر إلى كل شيء جميل لم تتحفظ عن النظر إلى ما لا يحل، وكذلك سائر الشهوات، لأن الذي يشتهى به الحلال هو بعينه الذي يشتهي الحرام، فالشهوة واحدة وقد وجب على العبد منعها من الحرام فإن لم يعودها الاقتصاد على قدر الضرورة من الشهوات غلبته. فهذه إحدى المباحات ووراءها آفات عظيمة أعظم من هذه، وهو أن النفس تفرح بالتنعم في الدنيا وتركن إليها وتطمئن إليها أشراً وبطراً حتى تصير ثملة كالسكران الذي لا يفيق من سكره. وذلك الفرح بالدنيا سم قاتل يسري في العروق فيخرج من القلب الخوف والحزن وذكر الموت وأهوال يوم القيامة، وهذا هو موت القلب. قال الله تعالى "ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوابها" وقال تعالى "وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع" وقال تعالى "اعلموا إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" وكل ذلك ذم لها فنسأل الله السلامة.

فأولو الحزم من أرباب القلوب جربوا قلوبهم في حال الفرح بمؤاتاة الدنيا فوجدوها قاسية نفرة بعيدة التأثر عن ذكر الله واليوم الآخر، وجربوها في حالة الحزن فوجدوها لينة رقيقة صافية قابلة لأثر الذكر. فعلموا أن النجاة في الحزن الدائم والتباعد من أسباب الفرح والبطر، ففطموها عن ملاذها وعودوها الصبر عن شهواتها - حلالها وحرامهاوعلموا أن حلالها حساب وحرامها عقاب ومتشابهها عتاب وهو نوع عذاب، فمن نوقش الحساب في عرصات القيامة فقد عذب. فخلصوا أنفسهم من عذابها وتوصلوا إلى الحرية والملك الدائم في الدنيا والآخرة بالخلاص من أسر الشهوات ورقها والأنس بذكر الله عز وجل والاشتغال بطاعته. وفعلوا بها ما يفعل بالبازي إذا قصد تأديبه ونقله من التوثب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب؛ فإنه يحبس أولاً في بيت مظلم وتخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء، وينسى ما قد كان ألفه من طبع الاسترسال، ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفاً إذا دعاه أجابه، ومهما سمع صوته رجع إليه. فكذلك النفس لا تألف ربها ولا تأنس بذكره إلا إذا فطمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أولاً ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات، ثم عودت الثناء والذكر والدعاء ثانياً في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضاً عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات وذلك يثقل على المريد في البداية ثم ينعم به في النهاية، كالصبي يفطم عن الثدي وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام، ويشتد نفوره عن الطعام الذي يقدم إليه بدلاً عن اللبن، ولكنه إذا منع اللبن رأساً يوماً فيوماً وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفاً، ثم يصير له طبعاً. فلو رد بعد ذلك إلى الثدي لم يرجع إليه، فيهجر الثدي ويعاف اللبن ويألف الطعام. وكذلك الدابة في الابتداء تنفر عن السرج واللجام والركوب فتحمل على ذلك قهراً، وتمنع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولاً، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها فتقف فيه من غير قيد. فكذلك تؤدب النفس كما تؤدب الطير والدواب، وتأديبها بأن تمنع من النظر والأنس والفرح بنعيم الدنيا بل بكل ما يزايلها بالموت، إذ قيل له أحبب ما أحببت فإنك مفارقه. فإذا علم أنه من أحب شيئاً يلزمه فراقه ويشقى لا محالة لفراقه شغل قلبه بحب ما لا يفارقه وهو ذكر الله تعالى، فإن ذلك يصحبه في القبر ولا يفارقه. وكل ذلك يتم بالصبر أولاً أياماً قلائل فإن العمر قليل بالإضافة إلى مدة حياة الآخرة. وما من عاقل إلا وهو راض باحتمال سفر وتعلم صناعة وغيرها شهراً ليتنعم به سنة أو دهراً. وكل العمر بالإضافة إلى الأبد أقل من الشهر بالإضافة إلى عمر الدنيا. فلا بد من الصبر والمجاهدة فعند الصباح يحمد القوم السرى وتذهب عنهم عمايات الكرى كما قاله علي رضي الله عنه.

وطريق المجاهدة والرياضة لكل إنسان تختلف بحسب اختلاف أحواله. والأصل فيه أن يترك كل واحد ما به فرحه من أسباب الدنيا فالذي يفرح بالمال أو بالجاه أو بالقبول في الوعظ أو بالعز في القضاء والولاية أو بكثرة الأتباع في التدريس والإفادة فينبغي أن يترك أولاً ما به فرحه، فإنه إن منع عن شيء من ذلك وقيل له ثوابك في الآخرة لم ينقص بالمنع فكره ذلك وتألم به فهو ممن فرح بالحياة الدنيا واطمأن بها، وذلك مهلك في حقه. ثم إذا ترك أسباب الفرح فليعتزل الناس ولينفرد بنفسه وليراقب قلبه حتى لا يشتغل إلا بذكر الله تعالى والفكر فيه. وليترصد لما يبدو في نفسه من شهوة ووسواس حتى يقمع مادته مهما ظهر، فإن لكل وسوسة سبباً ولا تزول إلا بقطع ذلك السبب والعلاقة. وليلازم ذلك بقية العمر فليس للجهاد آخر إلا بالموت.

بيان علامات حسن الخلق

اعلم أن كل إنسان جاهل بعيوب نفسه، فإذا جاهد نفسه أدنى مجاهدة حتى ترك فواحش المعاصي ربما يظن بنفسه أنه هذب نفسه وحسن خلقه واستغنى عن المجاهدة، فلا بد من إيضاح علامة حسن الخلق. فإن حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق. وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق. فلنورد جملة من ذلك لتعلم آية حسن الخلق. قال الله تعالى "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون والذين هم عن اللغو معرضون" إلى قوله "أولئك هم الوارثون" وقال عز وجل "التائبون العابدون الحامدون" إلى قوله "وبشر المؤمنين" وقال عز وجل "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" إلى قوله "أولئك هم المؤمنون حقاً" وقال تعالى "وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما" إلى آخر السورة. من أشكل عليه حاله فليعرض نفسه على هذه الآيات فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض فليشتغل بتحصيل ما فقده وحفظ ما وجده. وقد وصف رسول الله ﷺ المؤمن بصفات كثيرة وأشار بجميعها إلى محاسن الأخلاق فقال "المؤمن يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال عليه السلام "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه" وقال ﷺ "من كان يؤمن باالله واليوم الآخر فليكرم جاره وقال "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت وذكر أن صفات المؤمنين هي حسن الخلق فقال ﷺ "أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً وقال ﷺ "إذا رأيتم المؤمن صموتاً وقوراً فادنوا منه فإنه يلقن الحكمة وقال "من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن وقال "لا يحل لمؤمن أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه وقال عليه السلام "لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً وقال ﷺ "إنما يتجالس المتجالسان بأمانة الله عز وجل فلا يحل لأحدهما أن يفشي على أخيه ما يكرهه.

وجمع بعضهم علامات حسن الخلق فقال: هو أن يكون كثير الحياء قليل الأذى كثير الصلاح صدوق اللسان، قليل الكلام كثير العمل، قليل الزلل قليل الفضول، براً وصولاً وقوراً صبوراً شكوراً رضياً حكيماً رفيقاً عفيفاً شفيقاً، لا لعاناً ولا سباباً ولا نماماً ولا مغتاباً ولا عجولاً ولا حقوداً ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشاشاً هشاشاً يحب في الله ويبغض في الله ويرضى في الله ويغضب في الله فهذا هو حسن الخلق.

وسئل رسول الله ﷺ عن علامة المؤمن والمنافق فقال "إن المؤمن همته في الصلاة والصيام والعبادة، والمنافق همته في الطعام والشراب كالبهيمة وقال حاتم الأصم: المؤمن مشغول بالفكر والعبر، والمنافق مشغول بالحرص والأمل، والمؤمن آيس من كل أحد إلا من الله، والمنافق راج كل أحد إلا الله، والمؤمن آمن كل أحد إلا من الله، والمنافق خائف من كل أحد إلا من الله، والمؤمن يقدم ماله دون دينه، والمنافق يقدم دينه دون ماله، والمؤمن يحسن ويبكي، والمنافق يسيء ويضحك، والمؤمن يحب الخلوة والوحدة، والمنافق يحب الخلطة والملأ، والمؤمن يزرع ويخشى الفساد، والمنافق يقلع ويرجو الحصاد، والمؤمن يأمر وينهى للسياسة فيصلح، والمنافق يأمر وينهى للرياسة فيفسد.

وأولى ما يمتحن به حسن الخلق الصبر على الأذى واحتمال الجفاء، ومن شكا من سوء خلق غيره دل ذلك على سوء خلقه، فإن حسن الخلق احتمال الأذى فقد روي أن رسول الله ﷺ كان يوماً يمشي ومعه أنس فأدركه أعرابي فجذبه جذباً شديداً وكان عليه برد نجراني غليظ الحاشية، قال أنس رضي الله عنه: حتى نظرت إلى عنق رسول الله ﷺ قد أثرت فيه حاشية البرد من شدة جذبه، فقال: يا محمد هب لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله ﷺ وضحك، ثم أمر بإعطائه ولما أكثرت قريش إيذاءه وضربه قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" قيل إن هذا يوم أحد فلذلك أنزل الله تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم" ويحكى أن إبراهيم بن أدهم خرج يوماً إلى بعض البراري فاستقبله رجل جندي فقال: أنت عبد? قال: نعم، فقال له: أين العمران? فأشار إلى المقبرة، فقال الجندي: إنما أردت العمران? فقال: هو المقبرة، فغاظه ذلك فضرب رأسه بالسوط فشجه ورده إلى البلد فاستقبله أصحابه فقالوا مال الخبر? فأخبرهم الجندي ما قال له فقالوا، هذا إبراهيم بن أدهم! فنزل الجندي عن فرسه وقبل يديه ورجليه وجعل يعتذر إليه، فقيل بعد ذلك له: لم قلت له أنا عبد? فقال: إنه لم يسألني: عبد من أنت بل قال: أنت عبد? فقلت: نعم، لأني عبد الله، فلما ضرب رأسي سألت الله له الجنة قيل كيف وقد ظلمك? فقال: علمت أنني أؤجر على ما نالني منه فلم أرد أن يكون نصيبي منه الخير ونصيبه مني الشر. ودعى أبو عثمان الحيري إلى دعوة - وكان الداعي قد أراد تجربته - فلما بلغ منزله قال له: ليس لي وجه، فرجع أبو عثمان فلما ذهب غير بعيد دعاه ثانياً فقال له: يا أستاذ ارجع فرجع أبو عثمان فقال له مثل مقالته الأولى فرجع، ثم دعاه الثالثة وقال: ارجع على ما يوجب الوقت فرجع، فلما بلغ الباب فإن له مثل مقالته الأولى فرجع أبو عثمان، ثم جاءه الرابعة فرده حتى عامله بذلك مرات وأبو عثمان لا يتغير من ذلك، فأكب على رجليه وقال له: يا أستاذ إنما أردت أن أختبرك فما أحسن خلقك! فقال: إن الذي رأيت مني هو خلق الكلب، إن الكلب إذا دعي أجاب وإذا زجر انزجر. وروي عنه أيضاً أنه اجتاز يوماً في سكة فطرحت عليه إجانة رماد فنزل عن دابته فسجد سجدة الشكر ثم جعل ينفض الرماد عن ثيابه ولم يقل شيئاً فقيل ألا زبرتهم فقال إن من استحق النار فصولح على الرماد لم يجز له أن يغضب وروي أن علي بن موسى الرضا رحمة الله عليه كان لونه يميل إلى السواد - إذ كانت أمه سوداء - وكان نيسابور حمام على باب داره، وكان إذا أراد دخول الحمام فرغه له الحمامي، فدخل ذات يوم فأغلق الحمامي الباب ومضى في بعض حوائجه، فتقدم رجل رستاقي إلى باب الحمام ففتحه ودخل فنزع ثيابه ودخل فرأى علي بن موسى الرضا فظن أنه بعض خدام الحمام، فقال له: قم واحمل إلي الماء فقام علي بن موسى وامتثل جميع ما كان يأمره به، فرجع الحمامي فرأى ثياب الرستاقي وسمع كلامه مع علي بن موسى الرضا فخاف وهرب وخلاهما، فلما خرج علي بن موسى سأل عن الحمامي فقيل له: إنه خاف مما جرى فهرب قال: لا ينبغي له أن يهرب إنما الذنب لمن وضع ماءه عند أمة سوداء. وروي أن أبا عبد الله الخياط كان يجلس على دكانه، وكان له حريف مجوسي يستعمله في الخياطة فكان إذا خاط له شيئاً حمل إليه دراهم زائفة، فكان أبو عبد الله يأخذ منه ولا يخبره بذلك ولا يردها عليه، فاتفق يوماً أن أبا عبد الله قام لبعض حاجته، فأتى المجوسي فلم يجده فدفع إلى تلميذه الأجرة واسترجع ما قد خاطه فكان درهماً زائفاً، فلما نظر إليه التلميذعرف أنه زائف فرده عليه، فلما عاد أبو عبد الله أخبره بذلك فقال: بئس ما عملت هذا المجوسي يعاملني بهذه المعاملة منذ سنة وأنا أصبر عليه وآخذ الدراهم منه وألقيها في البئر لئلا يغر بها مسلماً. وقال يوسف بن أسباط: علامة حسن الخلق عشر خصال؛ قلة الحلاف، وحسن الإنصاف، وترك طلب العثرات، وتحسين ما يبدو من السيئات، والتماس المعذرة، واحتمال الأذى، والرجوع بالملامة على النفس والتفرد بمعرفة عيوب نفسه دون عيوب غيره، وطلاقة الوجه للصغير والكبير، ولطف الكلام لمن دونه ولمن فوقه. وسئل سهل عن حسن الخلق فقال: أدناه احتمال الأذى وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه. وقيل للأحنف بن

قيس ممن تعلمت الحلم! فقال: من قيس بن عاصم، قيل ما وبلغ من حلمه? قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته جارية له بسفود عليه شواء فسقط من يدها فوقع على ابن له صغير فمات، فدهشت الجارية فقال لها: لا روع عليك أنت حرة لوجه الله تعالى. وقيل أن أويساً القرني كان إذا رآه الصبيان يرمونه بالحجارة فكان يقول لهم: يا إخوتاه إن كان ولا بد فارموني بالصغار حتى لا تدموا ساقي فتمنعوني عن الصلاة. وشتم رجل الأحنف بن قيس وهو لا يجيبه وكان يتبعه فلما قرب من الحي وقف وقال: إن كان قد بقي في نفسك شيء فقله كي لا يسمعك بعض سفهاء الحي فيؤذوك وروي أن علياً كرم الله وجهه دعا غلاماً فلم يجبه فدعاه ثانياً وثالثاً فلم يجبه. فقام إليه فرآه مضطجعاً فقال: أما تسمع يا غلام? قال: بلى، قال: فما حملك على ترك إجابتي? قال: أمنت عقوبتك فتكاسلت، فقال: امض فأنت حر لوجه الله تعالى. وقالت امرأة لمالك بن دينار رحمه الله: يا مرائي، فقال: يا هذه وجدت اسمي الذي أضله أهل البصرة. وكان ليحيى بن زياد الحارثي غلام سوء فقيل له: لم تمسكه? فقال: لأتعلم الحلم عليه.

فهذه نفوس قد ذللت بالرياضة فاعتدلت أخلاقها، ونقيت من الغش والغل والحقد بواطنها فأثمرت الرضا بكل ما قدره الله تعالى وهو منتهى حسن الخلق. فإن من يكره فعل الله تعالى ولا يرضى به فهو غاية سوء خلقه، فهؤلاء ظهرت العلامات على ظواهرهم كما ذكرناه. فمن لم يصادف من نفسه هذه العلامات فلا ينبغي أن يغتر بنفسه فيظن بها حسن الخلق، بل ينبغي أن يشتغل بالرياضة والمجاهدة إلى أن يبلغ درجة حسن الخلق فإنها درجة رفيعة لا ينالها إلا المقربون والصديقون.

بيان الطريق في رياضة الصبيان

في أول نشؤهم ووجه تأديبهم وتحسين أخلاقهم

اعلم أن الطريق في رياضة الصبيان من أهم الأمور وأوكدها والصبيان أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبوه وكل معلم له ومؤدب؛ وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك وكان الوزر في رقبة القيم عليه والوالي له. وقد قال الله عز وجل "يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً" ومهما كان الأب يصونه عن نار الدنيا فبأن يصونه عن نار الآخرة أولى؛ وصيانته بأن يؤدبه ويهذبه ويعلمه محاسن الأخلاق ويحفظه من القرناء السوء ولا يعوده التنعم، ولا يحبب عليه الزينة والرفاهية فيضيع عمره في طلبها إذا كبر فيهلك هلاك الأبد، بل ينبغي أن يراقبه من أول أمره فلا يستعمل في حضانته وإرضاعه إلا امرأة متدينة تأكل الحلال، فإن اللبن الحاصل من الحرام لا بركة فيه، فإذا وقع عليه نشو الصبي انعجنت طينته من الخبيث فيميل طبعه إلى ما يناسب الخبائث. ومهما رأى فيه مخايل التمييز فينبغي أن يحسن مراقبته، وأول ذلك ظهور أوائل الحياء، فإنه إذا كان يحتشم ويستحي ويترك بعض الأفعال فليس ذلك إلا لإشراق نور العقل عليه، حتى يرى بعض الأشياء قبيحاً ومخالفاً للبعض فصار يستحي من شيء دون شيء، وهذه هدية من الله تعالى إليه وبشارة تدل على اعتدال الأخلاق وصفاء القلب وهو مبشر بكمال العقل عند البلوغ فالصبي المستحي لا ينبغي أن يهمل بل يستعان على تأديبه بحيائه أو تمييزه، وأول ما يغلب عليه من الصفات شره الطعام فينبغي أن يؤدب فيه، مثل أن لا يأخذ الطعام إلا بيمينه، وأن يقول عليه بسم الله عند أخذه، وأن يأكل مما يليه وأن لا يبادر إلى الطعام قبل غيره، ولايحدق النظر إليه ولا إلى من يأكل، وأن لا يسرع في الأكل، وأن يجيد المضغ، وأن لا يوالي لين اللقم، ولا يلطخ يده ولا ثوبه، وأن يعود الخبز القفار في بعض الأوقات حتى لا يصير بحيث يرى الأدم حتماً، ويقبح عنده كثرة الأكل بأن يشبه كل من يكثر الأكل بالبهائم، وبأن يذم بين يديه الصبي الذي يكثر الأكل ويمدح عنده الصبي المتأدب القليل الأكل، وأن يحبب إليه الإيثار بالطعام وقلة المبالاة به والقناعة بالطعام الخشن أي طعام كان، وأن يحبب إليه من الثياب البيض دون الملون والإبريسم ويقرر عنده أن ذلك شأن النساء والمخنثين وأن الرجال يستنكفون منه ويكرر ذلك عليه، ومهما رأى على صبي ثوباً من إبريسم أو ملون فينبغي أن يستنكره ويذمه، ويحفظ الصبي عن الصبيان الذين عودوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة، وعن مخالطة كل من يسمعه ما يرغبه فيه فإن الصبي مهما أهمل في ابتداء نشؤه خرج في الأغلب رديء الأخلاق كذاباً حسوداً نماماً لحوحاً ذا فصول وضحك وكياد ومجانة، وإنما يحفظ عن جميع ذلك بحسن التأديب، ثم يشتغل في المكتب فيتعلم القرآن وأحاديث الأخبار وحكايات الأبرار وأحوالهم لينغرس في نفسه حب الصالحين ويحفظ من الأشعار التي فيها ذكر العشق وأهله، ويحفظ من مخالطة الأدباء الذين يزعمون أن ذلك من الظرف ورقة الطبع، فإن ذلك يغرس في قلوب الصبيان بذر الفساد.

ثم مهما ظهر من الصبي خلق جميل وفعل محمود فينبغي أن يكرم عليه ويجازى عليه بما يفرح به ويمدح بين أظهر الناس، فإن خالف ذلك في بعض الأحوال مرة واحدة فينبغي أن يتغافل عنه ولا يهتك ستره ولا يكاشفه ولا يظهر له أن يتصور أن يتجاسروا أحد على مثله، ولا سيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه؛ فإن إظهار ذلك عليه ربما يفيده جسارة حتى لا يبالي بالمكاشفة، فعند ذلك إن عاد ثانياً فينبغي أن يعاتب سراً ويعظم الأمر فيه ويقال له: إياك أن تعود بعد ذلك لمثل هذا وأن يطلع عليك في مثل هذا فتفتضح بين الناس، ولا تكثر القول عليه بالعتاب في كل حين فإنه يهون عليه سماع الملامة وركوب القبائح ويسقط وقع الكلام من قلبه، وليكن الأب حافظاً هيبة الكلام معه فلا يوبخه إلا أحياناً، والأم تخوفه بالأب وتزجره عن القبائح، وينبغي أن يمنع عن النوم نهاراً فإنه يورث الكسل ولا يمنع منه ليلاً ولكن يمنع الفرش الوطيئة حتى تتصلب أعضاؤه ولا يسمن بدنه فلا يصبر عن التنعم؛ بل يعود الخشونة في المفرش والملبس والمطعم، وينبغي أن يمنع من كل ما يفعله في خفية فإنه لا يخفيه إلا وهو يعتقد أنه قبيح، فإذا ترك تعود فعل القبيح، ويعود في بعض النهار المشي والحركة والرياضة حتى لا يغلب عليه الكسل، ويعود أن لا يكشف أطرافه ولا يسرع المشي، ولا يرخي يديه بل يضمها إلى صدره، ويمنع من أن يفتخر على أقرانه بشيء مما يملكه والداه أو بشي من مطاعمه وملابسه أو لوحه ودواته، بل يعود التواضع والإكرام لكل من عاشره والتلطف في الكلام معهم، ويمنع من أن يأخذ من الصبيان شيئاً بدا له حشمة إن كان من أولاد المحتشمين، بل يعلم أن الرفعة في الإعطاء لا في الأخذ وأن الأخذ لؤم وخسة ودناءة: وإن كان من أولاد الفقراء فليعلم أن الطمع والأخذ مهانة وذلة وأن ذلك من دأب الكلب فإنه يبصبص في انتظار لقمة والطمع فيها.

وبالجملة يقبح إلى الصبيان حب الذهب والفضة والطمع فيهما ويحذر منهما أكثر مما يحذر من الحيات والعقارب، فإنه آفة حب الذهب والفضة والطمع فيهما أضر من آفة السموم على الصبيان بل على الأكابر أيضاً، وينبغي أن يعود أن لا يبصق في مجلسه ولا يمتخط ولا يتثاءب بحضرة غيره ولا يستدبر غيره ولا يضع رجلاً على رجل ولا يضع كفه تحت ذقنه، ولا يعمد رأسه بساعده فإن ذلك دليل الكسل. ويعلم كيفية الجلوس ويمنع كثرة الكلام ويبين له أن ذلك يدل على الوقاحة وأنه فعل أبناء اللئام، ويمنع اليمين رأساً -صادقاً أو كاذباً- حتى لا يعتاد ذلك في الصغر، ويمنع أن يبتدئ بالكلام، ويعود أن لا يتكلم إلا جواباً وبقدر السؤال، وأن يحسن الاستماع مهما تكلم غيره ممن هو أكبر منه سناً، وأن يقوم لمن فوقه ويوسع له المكان ويجلس بين يديه، ويمنع من لغو الكلام وفحشه، ومن اللعن والسب، ومن مخالطة من يجري على لسانه شيء من ذلك فإن ذلك يسري لا محالة من القرناء السوء، وأصل تأديب الصبيان الحفظ من قرناء السوء، وينبغي إذا ضربه المعلم أن لا يكثر الصراخ والشغب، ولا يستشفع بأحد بل يصبر ويذكر له أن ذلك دأب الشجعان والرجال، وأن كثرة الصراخ دأب المماليك والنسوان. وينبغي أن يؤذن له بعد الإنصراف من الكتاب أن يلعب لعباً جميلاً يستريح إليه من تعب المكتب بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه إلى التعلم دائماً يميت قلبه ويبطل ذكاءه وينغص عليه العيش، حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأساً. وينبغي أن يعلم طاعة والديه ومعلمه ومؤدبه ومن هو أكبر منه سناً من قريب وأجنبي، وأن ينظر إليهم بعين الجلالة والتعظيم، وأن يترك اللعب بين أيديهم. ومهما بلغ سن التمييز، فينبغي أن لا يسامح في ترك الطهارة والصلاة ويؤمر بالصوم في بعض أيام رمضان، ويجنب لبس الديباج والحرير والذهب ويعلم كل ما يحتاج إليه من حدود الشرع.

ويخوف من السرقة وأكل الحرام ومن الخيانة والكذب والفحش، وكل ما يغلب على الصبيان، فإذا وقع نشوه كذلك في الصبا فمهما قارب البلوغ أمكن أن يعرف أسرار هذه الأمور، فيذكر له أن الأطعمة أدوية وإنما المقصود منها أن يقوى الإنسان بها على طاعة الله عز وجل، وأن الدنيا كلها لا أصل لها إذ لا بقاء لها، وإن الموت يقطع نعيمها، وأنها دار ممر لا دار مقر، وأن الآخرة دار مقر لا دار ممر، وأن الموت منتظر في كل ساعة، وأن الكيس العاقل من تزود من الدنيا للآخرة حتى تعظم درجته عند الله تعالى ويتسع نعيمه في الجنان، فإذا كان النشو صالحاً كان هذا الكلام عند البلوغ واقعاً مؤثراُ ناجعاً يثبت في قلبه كما يثبت النقش في الحجر. وإن وقع النشو بخلاف ذلك حتى ألف الصبي اللعب والفحش والوقاحة وشره الطعام واللباس والتزين والتفاخر نبا قبله عن قبول الحق نبوة الحائط على التراب اليابس. فأوائل الأمور هي التي ينبغي أن تراعى، فإن الصبي بجوهره خلق قابلاً للخير والشر جميعاً وإنما أبواه يميلان به إلى أحد الجانبين. قال ﷺ "كل مولود يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه قال سهل بن عبد الله التستري: كنت وأنا ابن ثلاث سنين أقوم بالليل فأنظر إلى صلاة خالي محمد بن سواء فقال لي يوماً: ألا تذكر الله الذي خلقك فقلت: كيف أذكره? قال: قل بقلبك عند تقلبك في ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسانك، الله معي الله ناظر إلي الله شاهدي، فقلت ذلك ليالي ثم أعلمته فقال: قل في كل ليلة سبع مرات، فقلت ذلك ثم أعلمته فقال: قل ذلك كل ليلة إحدى عشر مرة، فقلته فوقع في قلبي حلاوته، فلما كان بعد سنة قال لي خالي: احفظ ما علمتك ودم عليه إلى أن تدخل القبر فإنه ينفعك في الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لذلك حلاوة في سري، ثم قال لي خالي يوماً: يا سهل من كان الله معه وناظراً إليه وشاهده أيعصيه? إياك والمعصية، فكنت أخلو بنفسي فبعثوا بي إلى المكتب فقلت: إني لأخشى أن يتفرق على همي ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة فأتعلم ثم أرجع، فمضيت إلى الكتاب فتعلمت القرآن وحفظته وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين، وكنت أصوم الدهر وقوتي من خبز الشعير اثنتي عشرة سنة، فوقعت لي مسألة وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فسألت أهلي أن يبعثوني إلى أهل البصرة لأسأل عنها، فأتيت البصرة فسألت علماءها فلم يشف أحد عني شيئاً. فخرجت إلى عبادان إلى رجل يعرف بأبي حبيب حمزة بن أبي عبد الله العباداني فسألته عنها فأجابني، فأقمت عنده مدة أنتفع بكلامه وأتأدب بآدابه، ثم رجعت إلى تستر فجعلت قوتي اقتصاداً على أن يشترى لي بدرهم من الشعير الفرق فيطحن ويخبز لي، فأفطر عند السحر على أوقية كل ليلة بحنا من غير ملح ولا أدم، فكان يكفيني ذلك الدرهم سنة. ثم عزمت على أن أطوي ثلاث ليال ثم أفطر ليلة. ثم خمساً، ثم سبعاً، ثم خمساً وعشرين ليلة، فكنت على ذلك عشرين سنة، ثم خرجت أسيح في الأرض سنين، ثم رجعت إلى تستر وكنت أقوم الليل كله ما شاء الله تعالى قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى.

بيان شروط الإرادة ومقدمات المجاهدة

وتدريج المريد في سلوك سبيل الرياضة

واعلم أن من شاهد الآخرة بقلبه مشاهدة يقين أصبح بالضرورة مريداً حرث الآخرة مشتاقاً إليها سالكاً سبلها مستهيناً بنعيم الدنيا ولذاتها، فإن من كانت عنده خرزة فرأى نفيسة لم يبق له رغبة في الخرزة وقويت إرادته في بيعها بالجوهرة، ومن ليس مريداً حرث الآخرة ولا طالباً للقاء الله تعالى فهو لعدم إيمانه بالله واليوم الآخر - وليست أعني بالإيمان حديث النفس وحركة اللسان بكلمتي الشهادة من غير صدق وإخلاص. فإن ذلك يضاهي قول من صدق بأن الجوهرة خيرة من الخرزة إلا أنه لا يدري من الجوهرة إلا لفظها وأما حقيقتها فلا ومثل هذا المصدق إذا ألف الخرزة قد لا يتركها ولا يعظم اشتياقه إلى الجوهرة، فإذن المانع من الوصول عدم السلوك والمانع من السلوك عدم الإرادة والمانع من الإرادة عدم الإيمان، وسبب عدم الإيمان عدم الهداة والمذكرين والعلماء بالله تعالى الهادين إلى طريقه والمنبهين على حقارة الدنيا وانقراضها وعظم أمر الآخرة ودوامها - فالخلق غافلون قد انهمكوا في شهواتهم وغاصوا في رقدتهم وليس في علماء الدين من ينبههم، فإن تنبه منهم متنبه عجز عن سلوك الطريق لجهله، فإن طلب الطريق من العلماء وجدهم مائلين إلى الهوى عادلين عن نهج الطريق، فصار ضعف الإرادة ولجهل بالطريق ونطق العلماء بالهوى سبباً لخلق طريق الله تعالى عن السالكين فيه. ومهما كان المطلوب محجوباً والدليل مفقوداً والهوى غالباً والطالب غافلاً امتنع الوصول وتعطلت الطرق لا محالة. فإن تنبه متنبه من نفسه أو من تنبيه غيره وانبعث له إرادة في حرث الآخرة وتجارتها فينبغي أن يعلم له شروطاً لا بد من تقديمها في بداية الإرادة وله معتصم لا بد من التمسك به. وله حصن لا بد من التحصن به ليأمن من الأعداء القطاع لطريقه، وعليه وظائف لا بد من ملازمتها في وقت سلوك الطريق.

أما الشروط التي لا بد من تقديمها في الإرادة فهي رفع السد والحجاب الذي بينه وبين الحق. فإن حرمان الخلق عن الحق سببه تراكم الحجب ووقوع السد على الطريق قال الله تعالى "وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لا يبصرون".

والسد بين المريد وبين الحق أربعة: المال، والجاه، والتقليد، والمعصية. وإنما يرفع حجاب المال بخروجه عن ملكه حتى لا يبقى له إلا قدر الضرورة، فما دام يبقى له درهم يلتفت إليه فهو مقيد به محجوب عن الله عز وجل. وإنما يرتفع حجاب الجاه بالبعد عن موضع الجاه بالتواضع وإيثار الخمول والهرب من أسباب الذكر وتعاطي أعمال تنفر قلوب الخلق عنه. وإنما يرتفع حجاب التقليد بأن يترك التعصب للمذاهب وأن يصدق بمعنى قوله "لا إله إلا الله محمد رسول الله" تصديق إيمان ويحرص في تحقيق صدقه بأن يرفع كل معبود له سوى الله تعالى - وأعظم معبود له الهوى - حتى إذا فهل ذلك انكشف له حقيقة الأمر في معنى اعتقاده الذي تلقفه تقليداً فينبغي أن يطلب كشف ذلك من المجاهدة لا من المجادلة، فإن غلب عليه التعصب لمعتقده ولم يبق في نفسه متسع لغيره صار ذلك قيداً له وحجاباً إذ ليس من شرط المريد الانتماء إلى مذهب معين أصلاً. وأما المعصية فهي حجاب ولا يرفعها إلا التوبة والخروج من المظالم وتصميم العزم على ترك العود وتحقيق الندم على ما مضى ورد المظالم وإرضاء الخصوم، فإن من لم يصحح التوبة ولم يهجر المعاصي الظاهرة وأراد أن يقف على أسرار الدين بالمكاشفة كان كمن يريد أن يقف على أسرار القرآن وتفسيره وهو بعد لم يتعلم لغة العرب. فإن ترجمة عربية القرآن لا بد من تقديمها أولاً ثم الترقي منها إلى أسرار معانيه، فكذلك لا بد من تصحيح الشريعة أولاً وآخراً ثم الترقي إلى أغوارها وأسرارها.

فإذا قدم هذه الشروط الأربعة وتجرد عن المال والجاه كان كمن تطهر وتوضأ ورفع الحدث وصار صالحاً للصلاة فيحتاج إلى إمام يقتدى به، فكذلك المريد يحتاج إلى شيخ وأستاذ يقتدى به لا محالة ليهديه إلى سواء السبيل فإن سبيل الدين غامض وسبل الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طرقه لا محالة، فمن سلك سبل البوادي المهلكة بغير خفير فقد خاطر بنفسه وأهلكها، ويكون المستقل بنفسه كالشجرة التي تنبت بنفسها فإنها تجف على القرب، وإن بقيت مدة وأورقت لم تثمر. فمعتصم المريد بعد تقديم الشروط المذكورة شيخه فليتمسك به تمسك الأعمى على شاطئ النهر بالقائد بحيث يفوض أمره إليه بالكلية، ولا يخالفه في ورده ولا صدره ولا يبقى في متابعته شيئاً ولا يذر، وليعلم أن نفعه في خطأ أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب فإذا وجد مثل هذا المعتصم وجب على معتصمه أن يحميه ويعصمه بحصن حصين يدفع عنه قواطع الطريق وهو أربعة أمور: الخلوة، والصمت، والجوع، والسهر. وهذا تحصن من القواطع فإن مقصود المريد إصلاح قلبه ليشاهد به ربه ويصلح لقربه.

أما الجوع فإنه ينقص دم القلب ويبيضه وفي بياضه نوره، ويذيب شحم الفؤاد وفي ذوبانه رقته، ورقته مفتاح المكاشفة كما أن قساوته سبب الحجاب. ومهما نقص دم القلب ضاق مسلك العدو فإن مجاريه العروق الممتلئة بالشهوات. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين جوعوا بطونكم لعل قلوبكم ترى ربكم! وقال سهل بن عبد الله التستري: ما صار الأبدال أبدالاً إلا بأربع خصال، بإخماص البطون، والسهر، والصمت، والاعتزال عن الناس. ففائدة الجوع في تنوير القلب أمر ظاهر يشهد له التجربة وسيأتي بيان وجه التدريج فيه في كتاب كسر الشهوتين.

وأما السهر فإنه يجلو القلب ويصفيه وينوره، فيضاف ذلك إلى الصفاء الذي حصل من الجوع فيصير كالكوكب الدري والمرآة المجلوة فيلوح فيه جمال الحق، ويشاهد فيه رفيع الدرجات في الآخرة وحقارة الدنيا وآفاتها، فتتم بذلك رغبته عن الدنيا وإقباله على الآخرة. والسهر أيضاً نتيجة الجوع فإن السهر مع الشيع غير ممكن، والنوم يقسي القلب ويميته إلا إذا كان بقدر الضرورة فيكون سبب المكاشفة لأسرار الغيب. فقد قيل في صفة الأبدال: إن أكلهم فاقة ونومهم غلبة وكلامهم ضرورة. وقال إبراهيم الخواص رحمه الله: أجمع رأى سبعين صديقاً على أن كثرة النوم من كثرة شرب الماء.

وأما الصمت فإنه تسهله العزلة، ولكن المعتزل لا يخلو عن مشاهدة من يقوم له بطعامه وشرابه وتدبير أمره، فينبغي أن لا يتكلم إلا بقدر الضرورة فإن الكلام يشغل القلب وشره القلوب إلى الكلام عظيم، فإنه يستروح إليه ويستثقل التجرد للذكر والفكر فيستريح إليه. فالصمت يلقح العقل ويجلب الورع ويعلم التقوى.

وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل وضبط السمع والبصر فإنهما دهليز القلب. والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس، ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها ليتفجر أصل الحوض فيخرج منه الماء النظيف الطاهر، وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض والأنهار مفتوحة غليه فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص? فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق ويشاهد جلال الحضرة الربوبية. أما ترى أن نداء رسول الله ﷺ بلغه وهو على مثل هذه الصفة فقيل له "يا أيها المزمل-يا أيها المدثر .

فهذه الأربعة جنة وحصن بها تدفع عنه القواطع وتمنع العوارض القاطعة للطريق. فإذا فعل ذلك اشتغل بعده بسلوك الطريق. وإنما سلوكه بقطع العقبات ولا عقبة على طريقالله تعالى غلا صفات القلب التي سببها الالتفات إلى الدنيا وبعض تلك العقبات أعظم من بعض. والترتيب في قطعها أن يشتغل بالأسهل فالأسهل وهي تلك الصفات؛ أعني أسرار العلائق التي قطعها في أول الإرادة، وآثارها؛ أعني المال والجاه وحب الدنيا والالتفات إلى الخلق والتشوف إلى المعاصي، فلا بد أن يخلي الباطن عن آثارها كما أخلي الظاهر عن أسبابها الظاهرة، وفيه تطول المجاهدة، ويختلف ذلك باختلاف الأحوال؛ فرب شخص قد كفى أكثر الصفات فلا تطول عليه المجاهدة، وقد ذكرنا أن طريق المجاهدة مضادة الشهوات ومخالفة الهوى في كل صفة غالبة على نفس المريد -كما سبق ذكره- فإذا كفى ذلك أو ضعف بالمجاهدة ولم يبق في قلبه علاقة؛ شغله بعد ذلك بذكر يلزم قلبه على الدوام ويمنعه من تكثير الأوراد الظاهرة، بل يقتصر على الفرائض والرواتب ويكون ورده ورداً واحداً. وهو لباب الأوراد وثمرتها؛ أعني ملازمة القلب لذكر الله تعالى بعد الخلو من ذكر غيره، ولا يشغله به ما دام قلبه ملتفتاً إلى علائقه. قال الشبلي للحصري: إن كان يخطر بقلبك من الجمعة التي تأتيني فيها إلى الجمعة الأخرى شيء غير الله تعالى فحرام عليك أن تأتيني، وهذا التجرد لا يحصل إلا مع صدق الإرادة واستيلاء حب الله تعالى على القلب حتى يكون في صورة العاشق المستهتر الذي ليس له إلا هم واحد. فإذا كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ويوكل به من يقوم له بقدر يسير من القوت الحلال، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال، وعند ذلك يلقنه ذكراً من الأذكار حتى يشغل به لسانه وقلبه فيجلس ويقول مثلاً: . أو: سبحان الله سبحان الله. أو ما يراه الشيخ من الكلمات فلا يزال يواظب عليه حتى تسقط حركة اللسان وتكون الكلمة كأنها جارية على اللسان من غير تحريك، ثم لا يزال يواظب عليه حتى يسقط الأثر عن اللسان وتبقى صورة اللفظ في القلب، ثم لا يزال كذلك حتى يمحى عن القلب حروف اللفظ وصورته، وتبقى حقيقة معناه لازمة للقلب حاضرة معه غالبة عليه قد فرغ عن كل ما سواه، لأن القلب إذا شغل بشيء خلا عن غيره -أي شيء كان- فإذا اشتغل بذكر الله تعالى وهو المقصود خلا لا محالة عن غيره، وعند ذلك يلزمه أن يراقب وساوس القلب والخواطر التي تتعلق بالدنيا وما يتذكر فيه مما قد مضى من أحواله وأحوال غيره، فإنه مهما دفع الوساوس كلها ورد النفس إلى هذه الكلمة جاءته الوساوس من هذه الكلمة، وأنها: ما هي? وما معنى قولنا: الله? ولأي معنى كان إلهاً وكان معبوداً? ويعتريه عند ذلك خواطر تفتح عليه باب الفكر وربما يرد عليه من وساوس الشيطان ما هو كفر وبدعة. ومهما كان كارهاً لذلك ومتشمراً لإماطته عن القلب لم يضره ذلك. وهي منقسمة إلى ما يعلم قطعاً أن الله تعالى منزه عنه ولكن الشيطان يلقي ذلك في قلبه ويجريه على خاطره، فشرطه أن يبالي به ويفزع إلى ذكر الله تعالى ويبتهل إليه ليدفعه عنه كما قال الله تعالى "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" وقال تعالى "إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون" وإلى ما يشك فيه فينبغي أن يعرض ذلك على شيخه، بل كل ما يجد في قلبه من الأحوال من فترة أو نشاط أو التفات إلى علقة أو صدق في إرادة فينبغي أن يظهر ذلك لشيخه، وأن يستره عن غيره فلا يطلع عليه أحداً، ثم إن شيخه ينظر في حاله ويتأمل في ذكائه وكياسته، فلو علم أنه لو تركه وأمره بالفكر تنبه من نفسه على حقيقة الحق فينبغي أن يحيله على الفكر ويأمره بملازمته حتى يقذف في قلبه من النور ما يكشف له حقيقته، وإن علم أن ذلك مما لا يقوى عليه مثله رده إلى الاعتقاد القاطع بما يحتمله قلبه من وعظ وذلك ودليل قريب من فهمه، وينبني أن يتأنق الشيخ ويتلطف به فإن هذه مهالك الطريق ومواضع أخطارها. فكم من مريد اشتغل بالرياضة فغلب عليه خيال فاسد لم يقو على كشفه فانقطع عليه طريقه فاشتغل بالبطالة وسلك طريق الإباحة? وذلك هو الهلاك العظيم. ومن تجرد للذكر ودفع العلائق الشاغلة عن قلبه لم يخل عن أمثال هذه الأفكار فإنه قد ركب سفينة الخطر، فإن سلم كان من ملوك الدين وإن أخطأ كان من الهالكين.

ولذلك قال ﷺ "عليكم بدين العجائز وهو تلقي أصل الإيمان وظاهر الاعتقاد بطريق التقليد والاشتغال بأعمال الخير، فإن الخطر في العدول عن ذلك كثير. ولذلك قيل يجب على الشيخ أن يتفرس في المريد فإن لم يكن ذكياً فطناً متمكناً من اعتقاد الظاهر لم يشغله بالذكر والفكر، بل يرده إلى الأعمال الظاهرة والأوراد المتواترة، أو يشغله بخدمة المتجردين للفكر لتشمله بركتهم فإن العاجز عن الجهاد في صف القتال ينبغي أن يسقي القوم ويتعهد دوابهم ليحشر يوم القيامة في زمرتهم وتعمه بركتهم، وإن كان لا يبلغ درجتهم، ثم المريد المتجرد للذكر والفكر قد يقطعه قواطع كثيرة من العجب والرياء والفرح بما ينكشف له من الأحوال وما يبدو من أوائل الكرامات. ومهما التفت إلى شيء من ذلك وشغلت به نفسه كان ذلك فتوراً في طريقه ووقوفاً، بل ينبغي أن يلازم حاله جملة عمره ملازمة العطشان الذي لا ترويه البحار ولو أفيضت عليه ويدوم على ذلك، ورأس ماله الانقطاع عن الخلق إلى الحق والخلوة.

قال بعض السياحين: قلت لبعض الأبدال المنقطعين عن الخلق كيف الطريق إلى التحقيق? فقال أن تكون في الدنيا كأنك عابر طريق. وقال مرة: قلت له دلني على عمل أجد قلبي فيه مع الله تعالى على الدوام فقال لي: لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة، قلت: لا بد لي من ذلك، قال: فلا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة، قلت: لا بد لي من ذلك، قال: فلا تعاملهم فإن معاملتهم وحشة، قلت: أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم، قال فلا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة، قلت: هذه لعلة، قال: يا هذا أتنظر إلى الغافلين وتسمع كلام الجاهلين وتعامل البطالين وتريد أن تجد قلبك مع الله تعالى على الدوام? هذا ما لا يكون أبداً.

فإذاً منتهى الرياضة أن يجد قلبه مع الله تعالى على الدوام ولا يمكن ذلك غلا بأن يخلو عن غيره ولا يخلوا عن غيره إلا بطول المجاهدة، فإذا حصل قلبه مع الله انكشف له جلال الحضرة الربوبية وتجلى له الحق وظهر له من لطائف القواطع عليه أن يتكلم به وعظاً ونصحاً ويتصدى للتذكير فتجد النفس فيه لذة ليس وراءها لذة، فتدعوه تلك اللذة إلى أن يتفكر في كيفية إيراد تلك المعاني وتحسين الألفاظ المعبرة عنها وترتيب ذكرها وتزيينها بالحكايات وشواهد القرآن والأخبار وتحسين صنعة الكلام لتميل إليه القلوب والأسماع، فربما يخيل إليه الشيطان أن هذا إحياء منك لقلوب الموتى الغافلين عن الله تعالى، وإنما أنت واسطة بين الله تعالى وبين الخلق تدعو عباده إليه ومالك فيه نصيب ولا لنفسك فيه لذة، ويتضح كيد الشيطان بأن يظهر في أقرانه من يكون أحسن كلاماً منه وأجزل لفظاً وأقدر على استجلاب قلوب العوام، فإنه يتحرك في باطنه عقرب الحسد لا محالة إن كان محركه كيد القبول وإن كان محركه هو الحق حرصاً على دعوة عباد الله تعالى إلى صراطه المستقيم فيعظم به فرحه ويقول: الحمد لله الذي عضدني وأيدني بمن وازرني على إصلاح عباده. كالذي وجب عليه مثلاً أن يحمل ميتاً ليدفنه إذ وجده ضائعاً وتعين عليه ذلك شرعاً فجاء من أعانه عليه فإنه يفرح به ولا يحسد من يعينه، والغافلون موتى القلوب، والوعاظ هم المنبهون والمحيون لهم ففي كثرتهم استرواح وتناصر فينبغي أن يعظم الفرح بذلك، وهذا عزيز على الوجود جداً فينبغي أن يكون المريد على حذر منه فإنه أعظم حبائل الشيطان في قطع الطريق على من انفتحت له أوائل الطريق فإن إيثار الحياة الدنيا طبع غالب على الإنسان ولذلك قال الله تعالى "بل تؤثرون الحياة الدنيا" ثم بين أن الشر قديم في الطباع وأن ذلك مذكور في الكتب السالفة فقال "إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى" فهذا منهاج رياضة المريد وتربيته في التدريج إلى لقاء الله تعالى. فأما تفصيل الرياضة في كل صفة فسيأتي فإن أغلب الصفات على الإنسان بطنه وفرجه ولسانه -أعني به الشهوات المتعلقة بها- ثم الغضب الذي هو كالجند لحماية الشهوات، ثم مهما أحب الإنسان شهوة البطن والفرج وأنس بهما أحب الدنيا، ولم يتمكن منها إلا بالمال والجاه وإذا طلب المال والجاه حدث فيه الكبر والعجب والرياسة، وإذا ظهر ذلك لم تسمح نفسه بترك الدنيا رأساً وتمسك من الدين بما فيه الرياسة وغلب عليه الغرور.

فلهذا وجب علينا بعد تقديم هذين الكتابين أن نستكمل ربع المهلكات بثمانية كتب إن شاء الله تعالى: كتاب في كسر شهوة البطن والفرج، وكتاب في آفات اللسان، وكتاب في كسر الغضب والحقد والحسد، وكتاب في ذم الدنيا وتفصيل خدعها، وكتاب في كسر حب المال وذم البخل، وكتاب في ذم الرياء وحب الجاه، وكتاب في ذم الكبر والعجب، وكتاب في مواقع الغرور. وبذكر هذه المهلكات وتعليم طرق المعالجة فيها يتم غرضنا من ربع المهلكات إن شاء الله تعالى فإن ما ذكرناه في الكتاب الأول هو شرح لصفات القلب الذي هو معدن المهلكات والمنجيات، وما ذكرناه في الكتاب الثاني هو إشارة كلية إلى طريق تهذيب الأخلاق ومعالجة أمراض القلب. أما تفصيلها فإنه يأتي في هذه الكتب إن شاء الله تعالى. تم كتاب رياضة النفس وتهذيب الأخلاق بحمد الله وعونه وحسن توفيقه، يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب كسر الشهوتين والحمد لله وحده وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب.

================

إحياء علوم الدين

كتاب كسر الشهوتين

المؤلف: أبو حامد الغزالي

وهو الكتاب الثالث من ربع المهلكات

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله المنفرد بالجلال في كبريائه وتعاليه، المستحق للتحميد والتقديس والتسبيح والتنزيه، القائم بالعدل فيما يبرمه ويقضيه، المتطول بالفضل فيما ينعم به ويسديه، المتكفل بحفظ عبده في جميع موارده ومجاريه، المنعم عليه بما يزيد على مهمات مقاصده بل بما يفي بأمانيه، فهو الذي يرشده ويهديه، وهو الذي يميته ويحييه، وإذا مرض فهو يشفيه، وإذا ضعف فهو يقويه، وهو الذي يوفقه للطاعة ويرتضيه، وهو الذي يطعمه ويسقيه، ويحفظه من الهلاك ويحميه، ويحرسه بالطعام والشراب عما يهلكه ويرديه، ويمكنه من القناعة بقليل القوت ويقربه حتى تضيق به مجاري الشيطان الذي يناويه، ويكسر به شهوة النفس التي تعاديه، فيدفع شرها ثم يعبد ربه ويتقيه، هذا بعد أن يوسع عليه ما يلتذ به ويشتهيه، ويكثر عليه ما يهيج بواعثه ويؤكد دواعيه، كل ذلك يمتحنه به ويبتليه، فينظر كيف يؤثره على ما يهواه وينتحيه، وكيف يحفظ أوامره وينتهي عن نواهيه، ويواظب على طاعته وينزجر عن معاصيه. والصلاة على محمد عبده النبيه، ورسوله الوجيه، صلاة تزلفه وتحظيه، وترفع منزلته وتعليه، وعلى الأبرار من عترته وأقربيه، والأخيار من صحابته وتابعيه.

أما بعد: فأعظم المهلكات لابن آدم شهوة البطن، فبها أخرج آدم عليه السلام وحواء من دار القرار إلى دار الذل والافتقار؛ إذ نهيا عن الشجرة فغلبتهما شهواتهما حتى أكلا منها فبدت لهما سوآتهما. والبطن على التحقيق ينبوع الشهوات ومنبت الأدواء والآفات، إذ يتبعها شهوة الفرج وشدة الشبق إلى المنكوحات؛ ثم تتبع شهوة الطعام والنكاح شدة الرغبة في الجاه والمال اللذين هما وسيلة إلى التوسع في المنكوحات والمطعومات؛ ثم يتبع استكثار المال والجاه أنواع الرعونات وضروب المنافسات والمحاسدات؛ ثم يتولد بينهما آفة الرياء وغائلة التفاخر والتكاثر والكبرياء، ثم يتداعى ذلك إلى الحقد والحسد والعداوة والبغضاء، ثم يفضي ذلك بصاحبه إلى اقتحام البغي والمنكر والفحشاء، وكل ذلك ثمرة إهمال المعدة وما يتولد منها من بطر الشبع والامتلاء، ولو ذلل العبد نفسه بالجوع وضيق به مجاري الشيطان لأذعنت لطاعة الله عز وجل ولم تسلك سبيل البطر والطغيان، ولم ينجز به ذلك إلى الانهماك في الدنيا وإيثار العاجلة على العقبى ولم يتكالب كل هذا التكالب على الدنيا، وإذا عظمت آفة شهوة البطن إلى هذا الحد وجب شرح غوائلها وآفاتها تحذيراً منها، ووجب إيضاح طريق المجاهدة لها والتنبيه على فضلها ترغيباً فيها، وكذلك شرح شهوة الفرج فإنها تابعة لها. ونحن نوضح ذلك بعون الله تعالى في فصول يجمعها بيان فضيلة الجوع ثم فوائده، ثم طريق الرياضة في كسر شهوة البطن بالتقليل من الطعام والتأخير، ثم بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته باختلاف أحوال الناس، ثم بيان الرياضة في ترك الشهوة، ثم القول في شهوة الفرج، ثم بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله؛ ثم بيان فضيلة من يخالف شهوة البطن والفرج والعين.

بيان فضيلة الجوع وذم الشبع

قال رسول الله ﷺ "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك كأجر المجاهد في سبيل الله وأنه ليس من عمل أحب إلى الله من جوع وعطش [1]. وقال ابن عباس: قال النبي ﷺ "لا يدخل ملكوت السماء من ملأ بطنه" [2].

وقيل يا رسول الله أي الناس أفضل? قال "من قل مطعمه وضحكه ورضي مما يستر به عورته [3]

وقال النبي ﷺ "سيد الأعمال الجوع وذل النفس لباس الصوف. [4]

وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله ﷺ "البسوا وكلوا واشربوا في أنصاف البطون فإنه جزء من النبوة. [5]

وقال الحسن: قال النبي ﷺ "الفكر نصف العبادة وقلة الطعام هي العبادة. [6]

وقال الحسن أيضاً: قال رسول الله ﷺ "أفضلكم عند الله منزلة يوم القيامة أطولكم جوعاً وتفكراً في الله سبحانه، وأبغضكم عند الله عز وجل يوم القيامة كل نؤوم أكول شروب. [7]

وفي الخبر: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يجوع من غير عوز أي مختاراً لذلك وقال ﷺ "إن الله تعالى يباهي الملائكة بمن قل مطعمه ومشربه في الدنيا يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي ابتليته بالطعام والشراب في الدنيا فصبر وتركهما اشهدوا يا ملائكتي ما من أكلة يدعها إلا أبدلته بها درجات في الجنة [8]

وقال ﷺ "لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب فإن القلب كالزرع يموت إذا كثر عليه الماء [9] وقال ﷺ "ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه وإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرباه وثلث لنفسه [10]

وفي حديث أسامة بن زيد وحديث أبي هريرة الطويل ذكر فضيلة الجوع إذ قال فيه "إن أقرب الناس من الله عز وجل يوم القيامة من طال جوعه وعطشه وحزنه في الدنيا، الأحفياء الأتقياء الذين إن شهدوا لم يعرفوا وإن غابوا لم يفتقدوا، تعرفهم بقاع الأرض وتحف بهم ملائكة السماء نعم الناس بالدنيا ونعموا بطاعة الله عز وجل، افترش الناس الفرش الوثيرة وافترشوا الجباه والركب، ضيع الناس فعل النبيين وأخلاقهم وحفظوها هم، تبكي الأرض إذا فقدتهم ويسخط الجبار على كل بلدة ليس فيها منهم أحد لم يتكالبوا على الدنيا تكالب الكلاب على الجيف أكلوا العلق ولبسوا الخرق شعثاً غبراً يراهم الناس فيظنون أن بهم داء وما بهم داء، ويقال قد خولطوا فذهبت عقولهم وما ذهبت عقولهم ولكن نظر القوم بقلوبهم إلى أمر الله الذي أذهب عنهم الدنيا، فهم عند أهل الدنيا يمشون بلا عقول عقلوا حين ذهبت عقول الناس، لهم الشرف في الآخرة، يا أسامة إذا رأيتهم في بلدة فاعلم أنهم أمان لأهل تلك البلدة ولا يعذب الله قوماً هم فيهم. الأرض بهم فرحة والجبار عنهم راض. اتخذهم لنفسك إخواناً عسى أن تنجو بهم. وإن استطعت إن يأتيك الموت وبطنك جائع وكبدك ظمآن فافعل. فإنك تدرك بذلك شرف المنازل وتحل مع النبيين. وتفرح بقدوم روحك الملائكة ويصلي عليك الجبار [11]

روى الحسن بن أبي هريرة: أن النبي ﷺ قال "البسوا الصوف وشمروا وكلوا في أنصاف البطون تدخلوا في ملكوت السماء[12] وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين أجيعوا أكبادكم وأعروا أجسادكم لعل قلوبكم ترى الله عز وجل وروي ذلك أيضاً عن نبينا ﷺ رواه طاوس [13]. وقيل مكتوب في التوراة: إن الله ليبغضن الحبر السمين لأن السمين يدل على الغفلة وكثرة الأكل وذلك قبيح خصوصاً بالحبر. ولأجل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الله تعالى يبغض القارئ السمين وفي خبر مرسل "إن الشيطان لجري من ابن آدم مجرى الدم فضيقوا مجاريه بالجوع والعطش وفي الخبر "إن الأكل على الشيع يورث البرص وقال ﷺ "المؤمن يأكل في معي واحد والمنافق يأكل في سبعة أمعاء[14] أي يأكل سبعة أضعاف ما يأكل المؤمن أو تكون شهوته سبعة أضعاف شهوته وذكر المعي كناية عن الشهوة لأن الشهوة هي التي تقبل الطعام وتأخذه كما يأخذ المعي. وليس المعنى زيادة عدد معي المنافق على معي المؤمن. وروى الحسن عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول "أديموا قرع باب الجنة يفتح لكم" فقلت: كيف نديم قرع باب الجنة? قال "بالجوع والظمأ وروى "أنا أبا جحيفة تجشأ في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له "أقصر من جشائك فإن أطول الناس جوعاً يوم القيامة أكثرهم شبعاً في الدنيا وكانت عائشة رضي الله عنها تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تمتلئ قط شبعاً وربما بكيت رحمة مما أرى به من الجوع فأمسى بطنه بيدي وأقول: نفسي لك الفداء لو تبلغت من الدنيا بقدر ما يقويك ويمنعك من الجوع? فيقول "يا عائشة إخواني من أولي العزم من الرسل قد صبروا على ما هو أشد من هذا مضوا على حالهم فقدموا على ربهم فأكرم مآبهم وأجزل ثوابهم فأجدني أستحي إن ترفهت في معيشتي أن يقصر بي غداً دونهم فالصبر أياماً يسيرة أحب إلي من أن ينقص حظي غداً في الآخرة وما من شيء أحب إلي من اللحوق بأصحابي وإخواني" قالت عائشة: فوالله ما استكمل بعد ذلك جمعة حتى قبضه الله إليه وعن أنس قال: جاءت فاطمة رضوان الله عليها بكسرة خبر إلى رسول الله ﷺ فقال "ما هذه الكسرة" قالت: قرص خبزته ولم تطب نفسي حتى أتيتك منه بهذه الكسرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "أما إنه أول طعام دخل فم أبيك منذ ثلاثة أيام وقال أبو هريرة: ما أشبه النبي ﷺ أهله ثلاثة أيام تباعاً من خبز الحنطة حتى فارق الدنيا وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن أهل الجوع في الدنيا هم أهل الشبع في الآخرة وإن أبغض الناس إلى الله المتخمون الملأى وما ترك عبد أكلة يشتهيها إلا كانت له درجة في الجنة .

وأما الآثار: فقد قال عمر رضي الله عنه: إياكم والبطنة فإنها ثقل في الحياة نتن في الممات. وقال شقيق البلخي العبادة حرفة حانوتها الخلوة وآلتها المجاعة. وقال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وكان الفضيل بن عياض يقول لنفسه: أي شيء تخافين? أتخافين أن تجوعي? لا تخافي ذلك: أنت أهون على الله من ذلك إنما يجوع محمد ﷺ وأصحابه. وكان كهمس يقول إلهي أجعتني وأعريتني وفي ظلم الليالي بلا مصباح أجلستني فبأي وسيلة بلغتني ما بلغتني? وكان فتح الموصلي إذا اشتد مرضه وجوعه يقول: إلهي ابتليتني بالمرض والجوع وكذلك تفعل بأوليائك فبأي عمل أؤدي شكر ما أنعمت به علي? وقال مالك بن دينار: قلت لمحمد بن واسع يا أبا عبد الله طوبى لمن كانت له غليلة تقوته وتغنيه عن الناس فقال لي يا أبا يحيى طوبى لمن أمسى وأصبح جائعاً وهو عن الله راض. وكان الفضيل بن عياض يقول: إلهي أجعتني وأجعت عيالي وتركتني في ظلم الليالي بلا مصباح وإنما تفعل ذلك بأوليائك فبأي منزلة نلت هذا منك? وقال يحيى بن معاذ: جوع الراغبين منبهة وجوع التائبين تجربة وجوع المجتهدين كرامة وجوع الصابرين سياسة وجوع الزاهدين حكمة. وفي التوراة اتق الله وإذا شبعت فاذكر الجياع: وقال أبو سليمان: لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليلة إلى الصبح، وقال أيضاً: الجوع عند الله في خزائنه لا يعطيه إلا من أحبه. وكان سهل بن عبد الله التستري يطوي نيفاً وعشرين يوماً لا يأكل، وكان يكفيه لطعامه في السنة درهم، وكان يعظم الجوع ويبالغ فيه حتى قال: لا يوافى القيامة عمل بر أفضل من ترك فضول الطعام اقتداء بالنبي ﷺ في أكله. وقال: لم ير الأكياس شيئاً أنفع من الجوع للدين والدنيا. وقال: لا أعلم شيئاً أضر على طلاب الآخرة من الأكل. وقال: وضعت الحكمة والعلم في الجوع ووضعت المعصية والجهل في الشبع. وقال ما عبد الله بشيء أفضل من مخالفة الهوى في ترك الحلال. وقد جاء في الحديث "ثلث للطعام فمن زاد عليه فإنما يأكل من حسناته وسئل عن الزيادة فقل: لا يجد الزيادة حتى يكون الترك أحب إليه من الأكل، ويكون إذا جاع ليلة سأل الله أن يجعلها ليلتين، فإذا كان ذلك وجد الزيادة. وقال صار الأبدال أبدالاً إلا بإخماص البطون والسهر والصمت والخلوة. وقال: رأس كل بر نزل من السماء إلى الأرض الجوع، ورأس كل فجور بينهما الشبع. وقال: من جوع نفسه انقطعت عنه الوساوس. وقال: إقبال الله عز وجل على العبد بالجوع والسقم والبلاء إلا من شاء الله. وقال: اعلموا أن هذا زمان لا ينال أحد فيه النجاة إلا بذبح نفسه وقتلها بالجوع والسهر والجهد. وقال: ما مر على وجه الأرض أحد شرب من هذا الماء حتى روي فسلم من المعصية -وإن شكر الله تعالى- فكيف الشبع من الطعام? وسئل حكيم بأي قيد أقيد نفسي? قال: قيدها بالجوع والعطش، وذللها بإخمال الذكر وترك العز، وصغرها بوضعها تحت أرجل أبناء الآخرة، واكسرها بترك زي القراء عن ظاهرها، وانج من آفاتها بدوام سوء الظن بها، واصحبها بخلاف هواها. وكان عبد الواحد بن زيد يقسم بالله تعالى إن الله تعالى ما صافي أحداً إلا بالجوع ولا مشوا على الماء إلا به، ولا طويت لهم الأرض إلا بالجوع، ولا تولاهم الله تعالى إلا بالجوع، وقال أبو طالب المكي: مثل البطن مثل المزهر وهو العود المجوف ذو الأوتار -غنما حسن صوته لخفته ورقته لأنه أجوف غير ممتلئ، وكذلك الجوف إذا خلا كان أعذب للتلاوة وأدوم للقيام وأقل للمنام. وقال أبو بكر بن عبد الله المزني: ثلاثة يحبهم الله تعالى؛ رجل قليل النوم قليل الأكل قليل الراحة. وروي أن عيسى عليه السلام مكث يناجي ربه ستين صباحاً لم يأكل فخطر بباله الخبز فانقطع عن المناجاة فإذا رغيف موضوع بين يديه، فجلس يبكي على فقد المناجاة وإذا شيخ قد أظله فقال له عيسى: بارك الله فيك يا ولي الله ادع الله تعالى فإني كنت في حالة فخطر ببالي الخبز فانقطعت عني، فقال الشيخ: اللهم إن كنت تعلم أن الخبز خطر ببالي منذ عرفتك فلا تغفر لي، بل كان إذا حضر لي شيء أكلته من غير فكر وخاطر. وروي أن موسى عليه السلام لما قربه الله عز وجل نجياً كان قد ترك الأكل أربعين يوماً -ثلاثين ثم عشراً- على ما ورد به القرآن؛ لأنه أمسك

بغير تبييت يوماً فزيد عشرة لأجل ذلك.

بيان فوائد الجوع وآفات الشبع

قال رسول الله ﷺ "جاهدوا أنفسكم بالجوع والعطش فإن الأجر في ذلك" ولعلك تقول: هذا الفضل العظيم للجوع أين هو? وما سببه? وليس فيه إلا إيلام المعدة ومقاساة الأذى! فإن كان كذلك فينبغي أن يعظم الأجر في كل ما يتأذى به الإنسان من ضربه لنفسه وقطعه للحمه وتناوله الأشياء المكروهة وما يجري مجراه? فاعلم أن هذا يضاهي قول من شرب دواء فانتفع به وظن أن منفعته لكراهة الدواء ومرارته، فأخذ يتناول كل ما يكرهه من المذاق وهو غلظ، بل نفعه في خاصية في الدواء وليس كونه مراً، وإنما يقف على تلك الخاصية الأطباء، فكذلك لا يقف على علة نفع الجوع إلا سماسرة العلماء ومن جوع نفسه مصدقاً لما جاء في الشرع من مدح الجوع انتفع به وإن لم يعرف علة المنفعة، كما أن من شرب الدواء انتفع به وإن لم يعله وجه كونه نافعاً.

ولكنا نشرح لك إن أردت أن ترتقي من درجة الإيمان إلى درجة العلم قال الله تعالى "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات" فنقول: في الجوع عشر فوائد.

الفائدة الأولى: صفاء القلب وإيقاد القريحة وإنفاذ البصيرة، فإن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب ويكثر البخار في الدماغ شبه السكر حتى يحتوي على معادن الفكر فيثقل القلب بسبب عن الجريان في الأفكار وعن سرعة الإدراك، بل الصبي إذا أكثر الأكل بطل حفظه وفسد ذهنه وصار بطيء الفهم والإدراك. وقال أبو سليمان الداراني: عليك بالجوع فإنه مذلة للنفس ورقة للقلب وهو يورث العلم السماوي. وقال ﷺ "أحيوا قلوبكم بقلة الضحك وقلة الشبع وطهروها بالجوع تصفو وترق ويقال: مثل الجوع مثل الرعد، ومثل القناعة مثل السحاب، والحكمة كالمطر. وقال النبي ﷺ "من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه وقال ابن عباس: قال النبي ﷺ "من شبع ونام قسا قلبه" ثم قال "لكل شيء زكاة وزكاة البدن الجوع وقال الشبلي: ما جعت لله يوماً إلا رأيت في قلبي باباً مفتوحاً من الحكمة والعبرة ما رأيته قط. وليس يخفى أن غاية المقصود من العبادات الفكر الموصل إلى المعرفة والاستبصار بحقائق الحق، والشبع يمنع منع والجوع يفتح بابه، والمعرفة باب من أبواب الجنة فبالحرى أن تكون ملازمة الجوع قرعاً لباب الجنة. ولهذا قال لقمان لابنه: يا بني إذا امتلأت المعدة نامت الفكرة وخرست الحكمة وقعدت الأعضاء عن العبادة. وقال أبو يزيد البسطامي: الجوع سحاب فإذا جاع العبد أمطر القلب الحكمة. وقال النبي ﷺ "نور الحكمة الجوع، والتباعد من الله عز وجل الشبع، والقربة إلى الله عز وجل حب المساكين والدنو منهم. لا تشبعوا فتطفئوا نور الحكمة من قلوبكم ومن بات في خفة من الطعام بات الحور حوله حتى يصبح .

الفائدة الثانية: رقة القلب وصفاؤه الذي به يتهيأ لإدراك لذة المثابرة والتأثر بالذكر، فكم من ذكر يجري على اللسان مع حضور القلب ولكن القلب لا يلتذ به ولا يتأثر حتى كأن بينه وبينه حجاباً من قسوة القلب، وقد يرق في بعض الأحوال فيعظم تأثره بالذكر وتلذذه بالمناجاة، وخلو المعدة هو السبب الأظهر فيه، وقال أبو سليمان الداراني: أحلى ما تكون إلى العبادة إذا التصق ظهري ببطني. وقال الجنيد: يجعل أحدهم بينه وبين صدره مخلاة من الطعام ويريد أن يجد حلاوة المناجاة. وقال أبو سليمان: إذا جاع القلب وعطش صبا ورق، وإذا شبع عمى وغلط، فإذا تأثر القلب بلذة المناجاة أمر وراء تيسير الفكر واقتناص المعرفة على فائدة ثانية.

الفائدة الثالثة: الانكسار والذل وزوال البطر والفرح والأشر الذي هو مبدأ الطغيان والغفلة عن الله تعالى، فلا تنكسر النفس ولا تذل بشيء كما تذل بالجوع فعنده تسكن لربها وتخشع له وتقف على عجزها وذلها إذا ضعفت منتها وضاقت حيلتها بلقيمة طعام فاتتها، وأظلمت عليها الدنيا لشربة ماء تأخرت عنها وما لم يشاهد الإنسان ذل نفسه وعجزه لا برى عزة مولاه ولا قهره، وإنما سعادته في أن يكون دائماً مشاهداً نفسه بعين الذل والعجز ومولاه بعين العز والقدرة والقهر، فليكن دائماً جائعاً مضطراً إلى مولاه مشاهداً للاضطرار بالذوق، ولأجل ذلك لما عرضت الدنيا وخزائنها على النبي ﷺ قال "لا بل أجوع يوماً وأشبع يوماً فإذا جعت صبر وتضرعت وإذا شبعت شكرت أو كما قال "فالبطن والفرج باب من أبواب النار وأصله الشبع. والذي والانكسار باب من أبواب الجنة وأصله الجوع. ومن أغلق باباً من أبواب النار فقد فتح باباً من أبواب الجنة بالضرورة لأنهما متقابلاً كالمشرق والمغرب، فاقرب من أحدهما بعد من الآخر.

الفائدة الرابعة: أن لا ينسى بلاء الله وعذابه؛ ولا ينسى أهل البلاء فإن الشبعان ينسى الجائع وينسى الجوع، والعبد الفطن لا يشاهد بلاء من غيره إلا ويتذكر بلاء الآخرة، فيذكر من عطشه عطش الخلق في عرصات القيامة، ومن جوعه جوع أهل النار، حتى إنهم ليجوعون فيطعمون الضريع والزقوم ويسقون الغساق والمهل، فلا ينبغي أن يغيب عن العبد عذاب الآخرة وآلامها، فإنه هو الذي يهيج الخوف، فمن لم يكن في ذلة ولا علة ولا قلة ولا بلاء، وأولى ما يقاسيه من البلاء والجوع فإن فيه فوائد جمة سوى تذكر عذاب الآخرة. وهذا أحد الأسباب الذي اقتضى اختصاص البلاء بالأنبياء والأولياء والأمثل فالأمثل. ولذلك قيل ليوسف عليه السلام: لم تجوع وفي يديك خزائن الأرض? فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجائع. فذكر الجائعين والمحتاجين إحدى فوائد الجوع فإن ذلك يدعو إلى الرحمة والإطعام والشفقة على خلق الله عز وجل. والشبعان في غفلة عن ألم الجائع.

الفائدة الخامسة -وهي من أكبر الفوائد-: كسر شهوات المعاصي كلها والاستيلاء على النفس الأمارة بالسوء، فإن منشأ المعاصي كلها الشهوات والقوى. ومادة القوى والشهوات لا محالة الأطعمة، فتقليلها يضعف كل شهوة وقوة. وإنما السعادة كلها في أن يملك الرجل نفسه، والشقاوة في أن تملكه نفسه، وكما أنك لا تملك الدابة الجموع إلا بضعف الجوع فإذا شبعت قويت وشردت وجمحت، فكذلك النفس. كما قيل لبعضهم: ما بالك مع كبرك لا تتعهد بدنك وقد انهد? فقال: لأنه سريع المرح فاحش الأشر فأخاف أن يجمع بي فيورطني، فلأن أحمله على الشدائد أحب إلي من أن يحملني على الفواحش. وقال ذو النون: ما شبعت قط غلا عصيب أو هممت بمعصية: وقالت عائشة رضي الله عنها: أول بدعة حدثت بعد رسول الله ﷺ: الشبع.

إن القوم لما شبعت بطونهم جمحت بهم نفوسهم إلى هذه الدنيا وهذه ليست فائدة واحدة بل هي خزائن الفوائد. ولذلك قيل: الجوع خزانة من خزائن الله تعالى وأقل ما يندفع بالجوع: شهوة الفرج وشهوة الكلام، فإن الجائع لا يتحرك عليه شهوة فضول الكلام فيتخلص به من آفات اللسان كالغيبة والفحش والكذب والنميمة وغيرها، فيمنعه الجوع من كل ذلك وإذا شبع افتقر إلى فاكهة فيتفكه لا محالة بأعراض الناس، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم.

وأما شهوة الفرج: فلا تخفى غائلتها، والجوع يكفي شرها. وإذا شبع الرجل لم يملك فرجه، وإن منعته التقوى فلا يملك عينه، فالعين تزني كما أن الفرج يزني، فإن ملك عينه بغض الطرف فلا يملك فكره، فيخطر له من الأفكار الرديئة وحديث النفس بأسباب الشهوة ما يتشوش به مناجاته، وربما عرض له ذلك في أثناء الصلاة.

وإنما ذكرنا آفة اللسان والفرج مثالاً، وإلا فجميع معاصي الأعضاء السبعة سببها القوة الحاصلة بالشبع. قال حكيم: كل مريد صبر على السياسة فيصبر على الخبز البحت سنة لا يخلط به شيئاً من الشهوات ويأكل في نصف بطنه رفع الله عنه مؤنة النساء.

الفائدة السادسة: دفع النوم ودوام السهر، فإن من شبع شرب كثيراً، ومن كثر شربه كثر نومه. ولأجل ذلك كان بعض الشيوخ يقول عند حضور الطعام: معاشر المريدين لا تأكلوا كثيراً فتشربوا كثيراً فترقدوا كثيراً فتخسروا كثيراً. وأجمع رأي سبعين صديقاً على أن كثرة النوم من كثرة الشرب. وفي كثرة النوم ضياع العمر وفوت التهجد وبلادة الطبع وقساوة القلب، والعمر أنفس الجواهر وهو رأس مال العبد فيه يتجر، والنوم موت فتكثيره ينقص العمر، ثم فضيلة التهجد لا تخفى وفي النوم فواتها. ومهما غلب النوم فإن تهجد حلاوة العبادة، ثم المتعزب إذا نام على الشبع احتلم ويمنعه ذلك أيضاً من التهجد، ويحوجه إلى الغسل إما بالماء البارد فيتأذى به أو يحتاج إلى الحمام وربما لا يقدر عليه بالليل، فيفوته الوتر إن كان قد آخره إلى التهجد، ثم يحتاج إلى مؤنة الحمام وربما تقع عينه على عورة في دخول الحمام، فإن فيه أخطاراً ذكرناها في كتاب الطهارة وكل ذلك أثر الشبع. وقد قال أبو سليمان الداراني: الاحتلام عقوبة. وإنما قال ذلك لأن يمنع من عبادات كثيرة لتعذر الغسل في كل حال. فالنوم منبع الآفات، والشبع مجلبة له؛ والجوع مقطعة له.

الفائدة السابعة: تيسير المواظبة على العبادة فإن الأكل يمنع من كثرة العبادات لأنه يحتاج إلى زمان يشتغل فيه بالأكل، وربما يحتاج إلى زمان في شراء الطعام وطبخه، ثم يحتاج إلى غسل اليد والخلال، ثم يكثر ترداده إلى بيت الماء لكثرة شربه. والأوقات المصروفة إلى هذا لو صرفها إلى الذكر والمناجاة وسائر العبادات لكثر ربحه. قال السري رأيت مع علي الجرجاني سويقاً يستف منه فقلت: ما حملك على هذا? قال: إني حبست ما بين المضغ إلى الاستفاف سبعين تسبيحة فما مضغت الخبز منذ أربعين سنة. فانظر كيف أفق على وقته ولم يضيعه في المضغ. وكل نفس من العمر جوهرة نفيسة لا قيمة لها فينبغي أن يستوفى منه خزانة باقية في الآخرة لا آخر لها وذلك بصرفه إلى ذكر الله وطاعته.

ومن جملة ما يتعذر بكثرة الأكل الدوام على الطهارة وملازمة المسجد، فإنه يحتاج إلى الخروج لكثرة شرب الماء وإراقته. ومن جملته الصوم فإنه يتيسر لمن تعود الجوع، فالصوم ودوام الاعتكاف ودوام الطهارة وصرف أوقات شغله بالأكل وأسبابه إلى العبادة أرباح كثيرة، وإنما يستحقرها الغافلون الذين لم يعرفوا قدر الدين لكن رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها "يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون".

وقد أشار أبو سليمان الداراني إلى ست آفات من الشبع فقال: من شبع دخل عليه ست آفات: فقد حلاوة المناجاة وتعذر حفظ الحكمة، وحرمان الشفقة على الخلق لأنه إذا شبع ظن أن الخلق كلهم شباع، وثقل العبادة، وزيادة الشهوات، وأن سائر المؤمنين يدورون حول المساجد، والشباع يدورون حول المزابل.

الفائدة الثامنة: يستفيد من قلة الأكل صحة البدن ودفع الأمراض، فإن سببها كثرة الأكل وحصول فضلة الأخلاط في المعدة والعروق. ثم المرض يمنع من العبادات ويشوش القلب ويمنع من الذكر والفكر وينغص العيش ويحوج إلى الفصد والحجامة والدواء والطبيب، وكل ذلك يحتاج إلى مؤن ونفقات لا يخلو الإنسان منها بعد التعب عن أنواع من المعاصي واقتحام الشهوات، وفي الجوع ما يمنع ذلك كله.

حكي أن الرشيد جمع أربعة أطباء: هندي، ورومي، وعراقي، وسوادي. وقال ليصف كل واحد منكم الدواء الذي لا داء فيه. فقال الهندي: الدواء الذي لا داء فيه عندي هو الإهليلج الأسود. وقال العراقي: هو حب الرشاد الأبيض وقال الرومي هو عندي الماء الحار. وقال السوادي -وكان أعلمهم- الإهليلج يعفص المعدة وهذا داء، وحب الرشاد يزلق المعدة وهذا داء، والماء الحار يرخي المعدة وهذا داء. قالوا: فما عندك? فقال الدواء الذي لا داء معه عندي أن لا تأكل الطعام حتى تشتهيه؛ وأن ترفع يدك عنه وأنت تشتهيه. فقالوا: صدقت وذكر لبعض الفلاسفة من أطباء أهل الكتاب قول النبي ﷺ "ثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس فتعجب منه وقال ما سمعت كلاماً في قلة الطعام أحكم من هذا وإنه لكلام حكيم. وقال ﷺ "البطنة أصل لداء والحمية أصل الدواء وعودوا كل جسم ما اعتاد وأظن تعجب الطبيب جرى من هذا الخبر لا من ذاك. وقال ابن سالم: من أكل خبز الحنطة بحتا بأدب لم يعتل إلا علة الموت. قيل: وما الأدب? قال: تأكل بعد الجوع وترفع قبل الشبع. وقال بعض أفاضل الأطباء في ذم الاستكثار: إن أنفع ما أدخل الرجل بطنه الرمان وأضر ما أدخل معدته المالح؛ ولأن يقلل من المالح خير له من أن يستكثر من الرمان. وفي الحديث صوموا تصحوا ففي الصوم والجوع وتقليل الطعام صحة الأجسام وصحة القلوب من سقم الطغيان والبطر وغيرهما.

الفائدة التاسعة: خفة المؤونة فإن من تعود قلة الأكل كفاه من الماء قدر يسير، والذي تعود الشبع صار بطنه غريماً ملازماً له آخذاً بمخفته في كل يوم، فيقول ماذا تأكل اليوم فيحتاج إلى أن يدخل المداخل، فيكتسب من الحرام فيعصي أو من الحلال فيذل. وربما يحتاج إلى أن يمد أعين الطمع إلى الناس وهو غاية الذل والقماءة والمؤمن خفيف المؤنة. وقال بعض الحكماء: إني لأقضي عامة حوائجي بالترك فيكون ذلك أروح لقلبي. وقال آخر: إذا أردت أن أستقرض من غيري لشهوة أو زيادة استقرضت من نفسي فتركت الشهوة فهي خير غريم لي. وكان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله يسأل أصحابه عن سعر المأكولات فيقول إنها غالية فيقول: أرخصوها بالترك. وقال سهل رحمه الله: الأكول مذموم في ثلاثة أحوال، إن كان من أهل العبادة فيكسل، وإن كان مكتسباً فلا يسلم من الآفات وإن كان ممن يدخل عليه شيء فلا ينصف الله تعالى من نفسه.

وبالجملة سبب هلاك الناس حرصهم على الدنيا، وسبب حرصهم على الدنيا البطن والفرج، وسبب شهوة الفرج، شهوة البطن. وفي تقليل الأكل ما يحسم هذه الأحوال كلها وهي أبواب النار وفي حسمها فتح أبواب الجنة كما قال ﷺ "أديموا قرع باب الجنة بالجوع" فمن قنع برغيف في كل يوم قنع في سائر الشهوات أيضاً وصار حراً واستغنى عن الناس واستراح من التعب، وتخلى لعبادة الله عز وجل وتجارة الآخرة، فيكون من الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإنما لا تلهيهم لاستغنائهم عنها بالقناعة، وأما المحتاج فتلهيه لا محالة.

الفائدة العاشرة: أن يتمكن من الإيثار والتصدق بما فضل من الأطعمة على اليتامى والمساكين، فيكون يوم القيامة في ظل صدقته كما ورد به الخبر: فما يأكله كان خزانته الكنيف وما يتصدق به كان خزانته فضل الله تعالى، فليس للعبد من ماله إلا ما تصدق فأبقى أو اكل فأفني أو لبس فأبلى، فالتصدق بفضلات الطعام أولى من التخمة والشبع. وكان الحسن رحمة الله عليه إذا تلا قوله تعالى "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا" قال عرضها على السموات السبع الطباق والطرائق التي زينها بالنجوم وحملة العرش العظيم فقال لها سبحانه وتعالى: هل تحملين الأمانة بما فيها? قالت: وما فيها? قال: إن أحسنت جوزيت وإن أسأت عوقبت، فقالت: لا، ثم عرضها على الإنسان فحملها إنه كان ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر ربه. فقد رأيناهم والله اشتروا الأمانة بأموالهم فأصابوا آلافاً فماذا صنعوا فيها? وسعوا بها دورهم وضيقوا بها قبورهم، وأسمنوا براذينهم وأهزلوا دينهم، وأتعبوا أنفسهم بالغدو والرواح إلى باب السلطان يتعرضوا للبلاء وهم من الله في عافية، يقول أحدهم تبيعني أرض كذا وكذا وأزيدك كذا وكذا، يتكئ على شماله ويأكل من غير ماله، حديثه سخرة وماله حرام حتى إذا أخذته الكظة ونزلت به البطنة قال: يا غلام ائتني بشيء أهضم به طعامي، يالكع أطعامك تهضم? إنما تهضم دينك، أين الفقير أين الأرملة أين المسكين أين اليتيم الذي أمرك الله تعالى بهم? فهذه إشارة إلى هذه الفائدة وهو صرف فاضل الطعام إلى الفقير ليدخر به الأجر فذلك خير له من أن يأكله حتى يتضاعف الوزر عليه. ونظر رسول الله ﷺ إلى رجل سمين البطن فأومأ إلى بطنه بإصبعه وقال: والله لقد أدركت أقواماً كان الرجل منهم يمسي وعنده من الطعام ما يكفيه ولو شاء لأكله فيقول: والله لا أجعل هذا كله لبطني حتى أجعل بعض لله.

فهذه عشرة فوائد للجوع يتشعب من كل فائدة فوائد لا ينحصر عددها ولا تتناهى فوائدها، فالجوع خزانة عظيمة لفوائد الآخرة. ولأجل هذا قال بعض السلف: الجوع مفتاح الآخرة وباب الزهد، والشبع مفتاح الدنيا وباب الرغبة. بل ذلك صريح في الأخبار التي رويناها بالوقوف على تفصيل هذه الفوائد تدرك معاني تلك الأخبار إدراك علم وبصيرة. فإذا لم تعرف هذا وصدقت بفضل الجوع كانت لك رتبه المقلدين في الإيمان والله أعلم بالصواب.

بيان طريق الرياضة في كسر شهوة البطن

اعلم أن على المريد في بطنه ومأكوله أربع وظائف: الأول أن يأكل إلا حلالاً فإن العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار. وقد ذكرنا ما تجب مراعاته من درجات الورع في كتاب الحلال والحرام، وتبقى ثلاث وظائف خاصة بالأكل وهو تقدير قدر الطعام في القلة والكثرة وتقدير وقته في الإبطاء والسرعة وتعيين الجنس المأكول في تناول المشتهيات وتركها.

أما الوظيفة الأولى: في تقليل الطعام، فسبيل الرياضة فيه التدريج. فمن اعتاد الأكل الكثير وانتقل دفعة واحدة إلى القليل لم يحتمله مزاجه وضعف وعظمت مشقته، فينبغي أن يتدرج إليه قليلاً قليلاً وذلك بأن ينقص قليلاً قليلاً من طعامه المعتاد. فإن كان يأكل رغيفين مثلاً وأراد أن يرد نفسه إلى رغيف واحد فينقص كل يوم ربع سبع رغيف، وهو أن ينقص جزءاً من ثمانية وعشرين جزءاً، أو جزءاً من ثلاثين جزءاً، فيرجع إلى رغيف في شهر، ولا يستضر به ولا يظهر ثره، فإن شاء فعل في ذلك بالوزن وإن شاء بالمشاهدة، فيترك كل يوم مقدار قلمة وينقصه عما أكله بالأمس. ثم هذا فيه أربع درجات.

أقصاها: أن يرد نفسه إلى قدر القوام الذي لا يبقى دونه وهو عادة الصديقين. وهو اختيار سهل التستري رحمة الله عليه إذ قال: إن الله استعبد الخلق بثلاث، بالحياة، والعقل، والقوة. فإن خاف العبد على اثنين منها وهي الحياة والعقل، أكل وأفطر إن كان صائماً. وتكلف الطلب إن كان فقيراً. وإن لم يخف عليهما بل على القوة قال، فينبغي أن لا يبالي. ولو ضعف حتى صلى قاعداً وأرى أن صلاته قاعداً مع ضعف الجوع أفضل من صلاته قائماً مع كثرة الأكل. وسئل سهل عن بدايته وما كان يقتات به فقال. كان قوتي في كل سنة ثلاثة دراهم، كنت آخذ بدرهم دبساً، وبدرهم دقيق الأرز، وبدرهم سمناً. وأخلط الجميع وأسوي منه ثلثمائة وستين أكرة، آخذ في كل ليلة أكرة أفطر عليها، فقيل له: فالساعة كيف تأكل? قال: بغير حد ولا توقيت: ويحكى عن الوهابين أنهم قد يردون أنفسهم إلى مقدار دره من الطعام.

الدرجة الثانية: أن يرد نفسه بالرياضة في اليوم والليلة إلى نصف مد، وهو رغيف وشيء مما يكون الأربعة منه منا ويشبه أن يكون هذا مقدار ثلث البطن في حق الأكثرين -كما ذكر النبي ﷺ- وهو فوق اللقيمات لأن هذه الصيغة في الجمع للقلة فهو لما دون العشرة، وقد كان ذلك عادة عمر رضي الله عنه إذ كان يأكل سبع لقم أو تسع لقم.

الدرجة الثالثة: أن يردها إلى مقدار المد، وهو رغيفان ونصف، وهذا يزيد على ثلث البطن في حق الأكثرين، ويكاد ينتهي إلى ثلثي البطن، ويبقى ثلث للشراب ولا يبقى شيء للذكر. وفي بعض الألفاظ "ثلث للذكر" بدل قوله "للنفس".

الدرجة الرابعة: أن يزيد على المد إلى المن، ويشبه أن يكون ما وراء المن إسرافاً مخالفاً لقوله تعالى "ولا تسرفوا" أعني في حق الأكثرين، فإن مقدار الحاجة إلى الطعام يختلف بالسن، والشخص، والعمل الذي يشتغل به. وههنا طريق خامس لا تقدير فيه ولكنه موضع غلط، وهو أن يأكل إذا صدق جوعه ويقبض يده وهو على شهوة صادقة بعد، ولكن الأغلب أن من لم يقدر لنفسه رغيفاً أو رغيفين فلا يتبين له حد الجوع الصادق، ويشتبه عليه ذلك بالشهوة الكاذبة.

وقد ذكر للجوع الصادق علامات؛ إحداها: أن لا تطلب النفس الأدم بل تأكل الخبز وحده بشهوة -أي خبز كان- فمهما طلبت نفسه خبزاً بعينه أو طلبت أدماً فليس ذلك بالجوع الصادق. وقد قيل: من علامته أن يبصق فلا يقع الذباب عليه؛ أي لم يبق فيه دهنية ولا دسومة فيدل ذلك على خلو المعدة، ومعرفة ذلك غامض فالصواب للمريد أن يقدر مع نفسه القدر لذي لا يضعفه عن العبادة التي هو بصددها فإذا انتهى إليه وقف وإن بقيت شهوته.

وعلى الجملة: فتقدير الطعام لا يمكن لأنه يختلف بالأحوال والأشخاص. نعم قد كان قوت جماعة من الصحابة صاعاً من حنطة في كل جمعة، فإذا أكلوا التمر اقتاتوا منه صاعاً ونصفاً، وصاع الحنطة أربع أمداد، فيكون كل كل يوم قريباً من نصف مد -وهو ما ذكرناه أنه قدر ثلث البطن- واحتيج في التمر إلى زيادة لسقوط النوى منه. وقد كان أبو ذر رضي الله عنه يقول: طعامي في كل جمعة صاع من شعير على عهد رسول الله ﷺ والله لا أزيد عليه شيئاً حتى ألقاه فإني سمعته يقول "أقربكم مني مجلساً يوم القيامة وأحبكم إلي من مات على ما هو عليه اليوم وكان يقول -في إنكاره على بعض الصحابة: قد غيرتم، ينخل لكم الشعير ولم يكن ينخل، وخبزتم المرقق وجمعتم بين إدامين واختلف عليكم بألوان الطعام، وغدا أحدكم في ثوب وراح في آخر. ولم يكونوا هكذا على عهد رسول الله ﷺ وكان قوت أهل الصفة مداً من تمر بين اثنين في كل يوم والمد رطل وثلث ويسقط منه النوى. وكان الحسن رحمة الله عليه يقول المؤمن مثل العنيزة يكفيه الكف من الحشف والقبضة من السويق والجرعة من الماء، والمنافق مثل السبع الضاري بلعاً بلعاً وسرطاً سرطاً لا يطوي بطنه لجاره ولا يؤثر أخاه بفضله، وجهوا هذه الفضول أمامكم. وقال سهل لو كانت الدنيا دماً عبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً لأن أكل المؤمن عند الضرورة بقدر القوام فقط.

الوظيفة الثانية: في وقت الأكل ومقدار تأخيره وفيه أيضاً أربع درجات:

الدرجة العليا: أن يطوى ثلاثة أيام فما فوقها، وفي المريدين من رد الرياضة إلى الطي لا إلى المقدار، حتى انتهى بعضهم إلى ثلاثين يوماً وأربعين يوماً، وانتهى إليه جماعة من العلماء يكثر عددهم منهم: محمد بن عمرو المقرني، وعبد الرحمن بن إبراهيم، ورحيم، وإبراهيم التيمي، وحجاج بن فرافصة، وحفص العابد المصيصي، والمسلم بن سعيد، وزهير، وسليمان الخواص، وسهل بن عبد الله التستري، وإبراهيم بن أحمد الخواص، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يطوي ستة أيام، وكان عبد الله بن الزبير يطوي سبعة أيام، وكان أبو الجوزاء صاحب ابن عباس يطوي سبعاً. وروي أن الثوى وإبراهيم بن أدهم كانا يطويان ثلاثاً ثلاثاً، كل ذلك كانوا يستعينون بالجوع على طريق الآخرة.

قال بعض العلماء من طوى لله أربعين يوماً ظهرت له قدرة من الملكوت أي كوشف ببعض الأسرار الإلهية. وقد حكي أن بعض أهل هذه الطائفة مر براهب فذاكره بحاله وطمع في إسلامه وترك ما هو عليه من الغرور، فكلمه في ذلك كلامً كثيراً إلى أن قال له الراهب: إن المسيح كان يطوي أربعين يوماً وإن ذلك معجزة لا تكون إلا لنبي أو صديق، فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يوماً تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام وتعلم أنه حق وأنلك على باطل? قال؛ نعم، فجلس لا يبرح إلا حيث يراه حتى طوى خمسين يوماً، ثم قال؛ وأزيدك أيضاً فطوى إلى تمام الستين، فتعجب الراهب منه وقال؛ ما كنت أظن أن أحداً يجاوز المسيح? فكان ذلك سبب إسلامه. وهذه درجة عظيمة قل من يبلغها إلا مكاشف محمول بمشاهدة ما قطعه عن طبعه عن طبعه وعادته استوفى نفسه في لذته وأنساه جوعته وحاجته.

الدرجة الثانية: أن يطوى يومين إلى ثلاثة وليس ذلك خارجاً عن العادة بل هو قريب يمكن الوصول إليه بالجد والمجاهدة.

الدرجة الثالثة: وهي أدناها أن يقتصر في اليوم والليلة على أكلة واحدة وهذا هو الأقل وما جاوز ذلك إسراف ومداومة للشبع حتى لا يكون له حالة جوع، وذلك فعل المترفين وهو بعيد من السنة، فقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان إذا تغدى لم يتعش وإذا تعشى لم يتغد وكان السلف يأكلون في كل يوم أكلة، وقال النبي ﷺ لعائشة "إياك والسرف، فإن أكلتين في يوم من السرف، وأكلة واحدة في كل يومين إقتار، وأكلة في كل يوم قوام بين ذلك وهو المحمود في كتاب الله عز وجل.

ومن اقتصر في اليوم على أكلة واحدة فيستحب له أن يأكلها سحراً قبل طلوع الفجر فيكون أكله بعد التهجد وقبل الصبح، فيحصل له جوع النهار للصيام وجوع الليل للقيام، وخلو القلب لفراغ المعدة ورقة الفكر، واجتماع الهم وسكون النفس إلى المعلوم، فلا تنازعه قبل وقته. وفي حديث عاصم بن كليب عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ما قام رسول الله ﷺ قيامكم هذا قط، وإن كان ليقوم حتى تورم قدماه، وما واصل وصالكم هذا قط غير أنه قد أخر الفطر إلى السحر وفي حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي ﷺ يواصل إلى السحر فإن كان يلتفت قلب الصائم بعد المغرب إلى الطعام وكان ذلك يشغله عن حضور القلب في التهجد فالأولى أن يقسم طعامه نصفين، فإن كان رغيفين مثلاً أكل رغيفاً عند الفطر ورغيفاً عند السحر، لتسكن نفسه ويخف بدنه عند التهجد ولا يشتد بالنهار جوعه لأجل التسحر، فيستعين بالرغيف الأول على التهجد وبالثاني على الصوم. ومن كان يصوم يوماً ويفطر يوماً فلا بأس أن يأكل كل يوم فطره وقت الظهر، ويوم صومه وقت السحر، فهذه الطرق في مواقيت الأكل وتباعده وتقاربه.

الوظيفة الثالثة: في نوع الطعام وترك الإدام، وأعلى الطعام مخ البر فإن نخل فهو غاية الترفه، وأوسطه شعير منخول، وأدناه شعير لم ينخل. وأعلى الأدم اللحم والحلاوة، وأدناه الملح والخل، وأوسطه المزورات بالأدهان من غير لحم. وعادة سالكي طريق الآخرة الامتناع من الإدام على الدوام بل الامتناع عن الشهوات، فإن كل لذيذ يشتهيه الإنسان وأكله اقتضى ذلك بطراً في نفسه وقسوة في قلبه وأنساً له بلذات الدنيا حتى يألفها ويكره الموت ولقاء الله تعالى، وتصير الدنيا جنة في حقه ويكون الموت سجناً له. وإذا منع نفسه عن شهواتها وضيق عليها وحرمها لذاتها صارت الدنيا سجناً عليه ومضيقاً له فاشتهت نفسه الإفلات منها، فيكون الموت إطلاقها. وإليه الإشارة بقول يحيى ابن معاذ حيث قال: معاشر الصديقين جوعوا أنفسكم لوليمة الفردوس فإن شهوة الطعام على قدر تجويع النفس. فكل ما ذكرناه من آفات الشبع فإنه يجري في كل الشهوات وتناول اللذات فلا نطول بإعادته، فلذلك يعظم الثواب في ترك الشهوات من المباحات ويعظم الخطر في تناولها، حتى قال ﷺ "شرار أمتي الذين يأكلون مخ الحنطة وهذا ليس بتحريم بل هو مباح على معنى أن من أكله مرة أو مرتين لم يعص، ومن دام عليه أيضاً فلا يعصي بتناوله، ولكن تتربى نفسه بالنعيم فتأنس بالدنيا وتألف اللذات وتسعى في طلبها فيجرها ذلك إلى المعاصي فهم شرار الأمة، لأن مخ الحنطة يقودهم إلى اقتحام أمور، تلك الأمور معاص. وقال ﷺ "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم ونبتت عليه أجسامهم وإنما همتهم ألوان الطعام وأنواع اللباس ويتشدقون في الكلام. وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام اذكر أنك ساكن القبر فإن ذلك يمنعك من كثير الشهوات. وقد اشتد خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة وتمرين النفس عليها ورأوا أن ذلك علامة الشقاوة، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السعادة، حتى روى أن وهب بن منبه قال: التقى ملكان في السماء الرابعة فقال أحدهما للآخر: من أين? قال: أمرت بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله، وقال الآخر: أمرت بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد. فهذا تنبيه على أن تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير. ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل وقال: اعزلوا عني حسابها. فلا عبادة لله تعالى أعظم من مخالفة النفس في الشهوات وترك اللذات - كما أوردناه في كتاب رياضة النفس- وقد روى نافع أبن ابن عمر رضي عنهما كان مريضاً فاشتهى سمكة طرية فالتمست له بالمدينة فلم توجد، ثم وجدت بعد كذا وكذا، فاشتريت له بدرهم ونصف فشويت وحملت إليه على رغيف فقام سائل على الباب فقال للغلام: لفها برغيفها وادفعها له، فقال له الغلام: أصلحك الله قد اشتهيتها منذ كذا وكذا فلم نجدها فلما وجدتها اشتريتها بدرهم ونصف، فنحن نعطيه ثمنها، فقال: لفها وادفعها إليه، ثم قال الغلام للسائل: هل لك أن تأخذ درهماً وتتركها? قال: نعم فأعطاه درهماً وأخذها وأتى بها فوضعها بين يديه وقال: قد أعطيته درهماً وأخذتها منه، فقال: لفها وادفعها إليه ولا تأخذ منه الدرهم،فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر بها على نفسه غفر الله له وقال ﷺ "إذا سددت كلب الجوع برغيف وكوز من الماء القراح فعلى الدنيا وأهلها الدمار أشار إلى أن المقصود رد ألم الجوع والعطش ودفع ضررهما دون التنعم بلذات الدنيا، وبلغ عمر رضي الله عنه أن يزيد بن أبي سفيان يأكل أنواع الطعام فقال عمر لمولى له: إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه فأعلمني، فأعمله فدخل عليه فقرب عشاؤه فأتوه بثريد لحم فأكل معه عمر، ثم قرب الشواء وبسط يزيد يده وكف عمر يده وقال: يا يزيد بن أبي سفيان أطعام بعد طعام? والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم. وعن يسار بن عمير قال: ما نخلت لعمر دقيقاً قط إلا وأنا له عاص. وروي أن عتبة الغلام كان يعجن دقيقه ويجففه في الشمس، ثم يأكله ويقول كسرة وملح حتى يتهيأ في الآخرة الشواء والطعام الطيب. وكان يأخذ الكوز فيغرف به من جب كان في الشمس نهاره فتقول مولاة له: يا عتبة لو أعطيتني دقيقك فخبزته لك وبردت لك الماء? فيقول لها: يا أم فلان قد شردت عني كلب الجوع.

قال شقيق ابن إبراهيم: لقيت إبراهيم بن أدهم بمكة في سوق الليل - عند مولد النبي ﷺ- يبكى وهو جالس بناحية من الطريق فعدلت إليه وقعدت عنده وقلت: إيش هذا البكاء يا أبا إسحق? فقال: خير، فعاودته مرة واثنتين وثلاثاً، فقال: يا شقيق استر علي فقلت يا أخي قل ما شئت، فقال لي: اشتهت نفسي منذ ثلاثين سنة سكباجاً فمنعتها جهدي، حتى إذا كان البارحة كنت جالساً وقد غلبني النعاس إذ أنا بفتى شاب بيده قدح أخضر يعلو منه بخار ورائحة سكباج، قال: فاجتمعت بهمتي عنه فقربه وقال: يا إبراهيم كل، فقلت: ما آكل قد تركته لله عز وجل، فقال لي: قد أطعمك الله كل، فما كان لي جواب إلا أني بكيت، فقال لي: كل رحمك الله، فقلت: قد أمرنا أن لا نطرح في وعائنا إلا من حيث نعلم، فقال: كل عافاك الله فإنما أعطيته، فقيل لي يا خضر اذهب بهذا وأطعمه نفس إبراهيم بن أدهم فقد رحمها الله من طول صبرها على ما يحملها من منعها. اعلم يا إبراهيم أني سمعت الملائكة يقولون: من أعطى فلم يأخذ طلب فلم يعط، فقلت: إن كان كذلك فها أنا بين يديك لأجل العقد مع الله تعالى، ثم التفت فإذا أنا بفتى آخر ناوله شيئاً وقال: يا خضر لقمه أنت، فلم يزل يلقمني حتى نعست فانتبهت وحلاوته في فمي، قال شقيق: فقلت أرني كفك، فأخذت بكفه فقبلتها وقلت: يا من يطعم الجياع الشهوات إذا صححوا المنع، يا من يقدح في الضمير اليقين، يا من يشفى قلوبهم من محبته، أترى لشقيق عندك حالاً? ثم رفعت يد إبراهيم إلى السماء وقلت: بقدر هذا الكف عندك وبقدر صاحبه وبالجود الذي وجد منك جد على عبدك الفقير إلى فضلك وإحسانك ورحمتك وإن لم يستحق ذلك، قال: فقام إبراهيم ومشى حتى أدركنا البيت.

وروي عن مالك بن دينار أنه بقي أربعين سنة يشتهي لبناً فلم يأكله. وأهدى إليه يوماً رطب فقال لأصحابه: كلوا فما ذقته منذ أربعين سنة. وقال أحمد بن أبي الحواري: اشتهى أبو سليمان الداراني رغيفاً حاراً بملح فجئت به إليه فعض منه عضة ثم طرحه وأقبل يبكي وقال: عجلت إلى شهوتي بعد إطالة جهدي واشقوتي قد عزمت على التوبة فأقلني! قال أحمد: فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى. وقال مالك بن ضيغم مررت بالبصرة في السوق فنظرت إلى البقل فقالت لي نفسي: لو أطعمتني الليلة من هذا فأقسمت أن لا أطعمها إياه أربعين ليلة ومكث مالك بن دينار بالبصرة خمسين سنة ما أكل رطبة لأهل البصرة ولا بسرة قط وقال: يا أهل البصرة عشت فيكم خمسين سنة ما أكلت لكم رطبة ولا بسرة فما زاد فيكم ما نقص مني ولا نقص مني ما زاد فيكم. وقال: طلقت الدنيا، منذ خمسين سنة، اشتهت نفسي لبناً منذ أربعين سنة فوالله لا أطعمها حتى ألحق بالله تعالى. وقال حماد بن أبي حنيفة: أتيت داود الطائي والباب مغلق عليه فسمعته يقول: نفسي اشتهيت جزراً فأطعمتك جزراً، ثم اشتهيت تمراً فآليت أن لا تأكليه أبداً، فسلمت ودخلت فإذا وحده. ومر أبو حازم يوماً في السوق فرأى الفاكهة فاشتراها، فقال لابنه. اشتر لنا من هذه الفاكهة المقطوعة الممنوعة لعلنا نذهب إلى الفاكهة التي لا مقطوعة ولا ممنوعة، فلما اشتراها وأتى بها إليه قال لنفسه: قد خدعتيني حتى نظرت واشتهيت وغلبتيني حتى اشتريت والله لأذيقنه فبعث بها إلى يتامى من الفقراء وعن موسى الأشج أنه قال: نفسي تتشتهي ملحاً جريشاً منذ عشرين سنة. وأحمد بن خليفة قال: نفسي تشتهي منذ عشرين سنة ما طلبت مني إلا الماء حتى تروى فما أرويتها. وروي أي عتبة الغلام اشتهى لحماً سبع سنين فلما كان بعد ذلك قال استحييت من نفسي أن أدافعها منذ سبع سنين - سنة بعد سنة - فاشتريت قطعة لحم على خبز وشويتها وتركتها على رغيف فلقيت صباً فقلت، ألست أنت ابن فلان وقد مات أبوك? قال: بلى. فناولته إياها قالوا: وأقبل يبكي ويقرأ "ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا" ثم لم يذقه بعد ذلك. ومكث يشتهي تمراً سنين، فلما كان ذات يوم اشترى تمراً بقيراط ورفعه إلى الليل ليفطر عليه قال: فهبت ريح شديدة حتى أظلمت الدنيا ففزع الناس فأقبل عتبة على نفسه يقول: هذا لجراءتي عليك وشرائي التمر بقيراط، ثم قال لنفسه: ما أظن أخذ الناس إلا بذنبك? على أن لا تذوقيه. واشترى داود الطائي بنصف فلس بقلاً وبفلس خلاً، وأقبل ليلته كلها يقول لنفسه. ويلك يا داود ما أطول حسابك يوم القيامة، ثم لم يأكل بعده إلا قفاراً،وقال عتبة الغلام يوماً لعبد الواحد بن زيد. إن فلاناً يصف من نفسه منزلة ما أعرفها من نفسي فقال: لأنك تأكل مع خبزك تمراً وهو لا يزيد على الخبز شيئاً قال: فإن أنا تركت أكل التمر عرفت تلك المنزلة? قال: نعم؛ وغيرها فأخذ يبكي فقال له بعض أصحابه لا أبكى الله عينك أعلى التمر تبكي? فقال عبد الواحد دعه؛ فإن نفسه قد عرفت صدق عزمه في الترك، وهو إذا ترك شيئاً لم يعاوده. وقال جعفر بن نصر: أمرني الجنيد أن أشتري له التين الوزيري، فلما اشتريته أخذ واحدة عند الفطور فوضعها في فمه ثم ألقاها وجعل يبكي، ثم قال: احمله فقلت له في ذلك فقال: هتف بي هاتف أما تستحي? تركته من أجلي ثم تعود إليه! وقال صالح المري: قلت لعطاء السلمي إني متكلف لك شيئاً فلا ترد على كرامتي، فقال: افعل ما تريد، قال: فبعثت إليه مع ابني شربة من سويق قد لتته بسمن وعسل، فقلت: لا تبرح حتى يشربها، فلما كان من الغد جعله له نحوها فردها ولم يشربها، فعاتبته ولمته على ذلك وقلت. سبحان الله رددت على كرامتي! فلما رأى وجدي لذلك قال: لا يسوءك هذا، إني قد شربتها أول مرة وقد راودت نفسي في المرة الثانية على شربها فلم أقدر على ذلك، كلما أردت ذلك ذكرت قوله تعالى "يتجرعه ولا يكاد يسيغه" الآية قال صالح: فبكيت وقلت في نفسي: أنا في واد وأنت في واد آخر. وقال السري السقطي: نفسي منذ ثلاثين سنة تطالبني أن أمس جزرة في دبس فما أطعمتها. وقال أبو بكر الجلاء. أعرف رجلاً تقول له نفسه أنا أصبر لك على طي عشرة أيام وأطعمني بعد ذلك شهوة أشتهيها، فيقول لها: لا أريد أن تطوى عشرة أيام ولكن اتركي هذه الشهوة. وروي أن عابداً دعا بعض إخوانه

فقرب إليه رغفاناً فجعل أخوه يقلب الأرغفة ليختار أجودها فقال له العابد. مه أي شيء تصنع! أما علمت أن في الرغيف الذي رغبت عنه كذا وكذا حكمة وعمل فيه كذا وكذا صانعاً، حتى استدار من السحاب الذي يحمل الماء والماء الذي يسقي الأرض والرياح والأرض والبهائم وبني آدم حتى صار إليك، ثم أنت بعد هذا تقلبه ولا ترضى به.

وفي الخبر "لا يستدير الرغيف ويوضع بين يديك حتى يعمل في ثلثمائة وستون صانعاً أولهم ميكائيل عليه السلام الذي يكيل الماء من خزائن الرحمة، ثم الملائكة التي تزجي السحاب والشمس والقمر والأفلاك وملائكة الهواء ودواب الأرض، وآخرهم الخباز "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها وقال بعضهم: أتيت قاسماً الجرعي فسألته عن الزهد أي شيء هو? فقال: أي شيء سمعت فيه? فعددت أقوالاً فسكت فقلت: وأي شيء تقول أنت? فقال: اعلم أن البطن دنيا العبد فبقدر ما يملك من بطنه يملك من الزهد، وبقدر ما يملكه بطنه تملكه الدنيا وكان بشر بن الحرث قد اعتل مرة، فأتى عبد الرحمن الطبيب يسأله عن شيء يوافقه من المأكولات، فقال: تسألني فإذا وصفت لك لم تقبل مني، صف لي حتى أسمع، قال: تشرب سكنجبيناً وتمص سفرجلاً وتأكل بعد ذلك اسفيذباجا، فقال له بشر: هل تعلم شيئاً اقل من السكنجبين يقوم مقامه، قال: لا، قال: أنا أعرف، قال: ما هو? قال: الهندبا بالخل، ثم قال: أتعرف شيئاً اقل من السفرجل يقوم مقامه? قال: لا، قال أنا أعرف قال: ما هو? قال: الخرنوب الشامي، قال: فتعرف شيئاً أقل من الاسفيذباج يقوم مقامه? قال: لا، قال: أنا أعرف؛ ماء الحمص بسمن البقر في معناه، فقال له عبد الرحمن: أنت أعلم مني بالطب؛ فلم تسألني? فقد عرفت بهذا أن هؤلاء امتنعوا من الشهوات ومن الشبع من الأقوات، وكان امتناعهم للفوائد التي ذكرناها، وفي بعض الأوقات لأنهم كانوا لا يصفو لهم الحلال فلم يرخصوا لأنفسهم إلا في قدر الضرورة، والشهوات ليست من الضرورات حتى قال أبو سليمان: الملح شهوة لأنه زيادة على الخبز وما وراء الخبز شهوة. هذا هو النهاية. فمن لم يقدر على ذلك فينبغي أن لا يغفل عن نفسه ولا ينهمك في الشهوات، فكفى بالمرء إسرافاً أن يأكل كل ما يشتهيه، ويفعل كل ما يهواه فينبغي أن لا يواظب على أكل اللحم. وقال علي كرم الله وجهه من ترك اللحم أربعين يوماً ساء خلقه ومن داوم عليه أربعين يوماً قسا قلبه. وقيل أن للمداومة على اللحم ضراوة كضراوة الخمر. ومهما كان جائعاً وتاقت نفسه إلى الجماع فلا ينبغي أن يأكل ويجامع، فيعطي نفسه شهوتين فتقوى عليه، وربما طلبت النفس الأكل لينشط في الجماع. ويستحب أن لا ينام على الشبع فيجمع بين غفلتين فيعاد الفتور ويقسو قلبه لذلك، ولكن ليصل أو ليجلس فيذكر الله تعالى فإنه أقرب إلى الشكر. وفي الحديث "أذيبوا طعامكم بالذكر والصلاة ولا تناموا عليه فتقسو قلوبكم وأقل ذلك أن يصلي أربع ركعات أو يسبح مائة تسبيحة أو يقرأ جزءاً من القرآن عقيب أكله. فقد كان أبو سفيان الثوري إذا شبع ليلة أحياها، وإذا شبع في يوم واصله بالصلاة والذكر، وكان يقول: أشبع الزنجي وكده ومرة يقول: أشبع الحمار وكده. ومهما اشتهى شيئاً من الطعام وطيبات الفواكه فينبغي أن يترك الخبز ويأكلها بدلاً منه لتكون قوتاً، ولا تكون تفكها لئلا يجمع للنفس بين عادة وشهوة. نظر سهل إلى ابن سالم وفي يده خبز وتمر فقال له: ابدأ بالتمر فإن قامت كفايتك به وإلا أخذت من الخبز بعده بقدر حاجتك. ومهما وجد طعاماً لطيفاً وغليظاً فليقدم اللطيف فإنه لا يشتهي الغليظ بعده. ولو قدم الغليظ لأكل اللطيف أيضاً للطافته. وكان بعضهم يقول لأصحابه: لا تأكلوا الشهوات فإن أكلتموها فلا تطلبوها فإن طلبتموها فلا تحبوها، وطلب بعض أنواع الخبز شهوة. قال عبد الله ابن عمر رحمة الله عليهما: ما تأتينا من العراق فاكهة أحب إلينا من الخبز فرأى ذلك الخبز فاكهة.

وعلى الجملة لا سبيل إلى إهمال النفس في الشهوات المباحات وأتباعها بكل حال فبقدر ما يستوفي العبد من شهوته يخشى أن يقال له يوم القيامة "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها" وبقدر ما يجاهد نفسه ويترك شهوته يتمتع في الدار الآخر بشهواته. قال بعض أهل البصرة: نازعتني نفسي خبز أرز وسمكاً فمنعتها، فقويت مطالبتها واشتدت مجاهدتي لها عشرين سنة، فلما مات قال بعضهم: رأيته في المنام فقلت ماذا فعل الله بك? قال: لا أحسن أن أصف ما تلقاني به ربي من النعم والكرامات، وكان أول شيء استقبلني به خبز أرز وسمكاً. وقال: كل اليوم شهوتك هنيئاً بغير حساب. وقد قال تعالى "كلوا واشربوا هنيئاً بما أسلفتم في الأيام الخالية" وكانوا قد أسلفوا ترك الشهوات. ولذلك قال أبو سليمان: ترك شهوة من الشهوات أنفع للقلب من صيام سنة وقيامها. وفقنا الله لما يرضيه.

بيان اختلاف حكم الجوع وفضيلته

واختلاف أحوال الناس فيه

اعلم أن المطلوب الأقصى في جميع الأمور والأخلاق: الوسط، إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم. وما أوردناه في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب وهيهات، ولكن من أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى وكان فيه فساد جاء الشرع بالمبالغة في المنع فيه، على وجه يومئ عند الجاهل إلى أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع بغاية الإمكان. والعالم يدرك أن المقصود الوسط، لأن الطبع إذا طلب غاية الشبع فالشرع ينبغي أن يمدح غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيتقاومان ويحصل الاعتدال، فإن من يقدر على قمع الطبع بالكلية بعيد فيعلم أنه لا ينتهي إلى الغاية؛ فإنه إن أسرف مسرف في مضادة الطبع كان في الشرع أيضاً ما يدل على إساءته، كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم لما علم النبي ﷺ من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ويقوم الليل كله نهى عنه فإذا عرفت هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة ولا يحس بألم الجوع، بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلاً، فإن مقصود الأكل بقاء الحياة وقوة العبادة، وثقل المعدة يمنع من العبادة وألم الجوع أيضاً يشغل القلب ويمنع منها. فالمقصود أن يأكل أكلاً لا يبقى المأكول فيه أثر ليكون متشبهاً بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم. وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو الاعتدال.

ومثال طلب الآدمي البعد عن هذه الأطراف المتقابلة بالرجوع إلى الوسط مثال نملة ألقيت في وسط حلقة محمية على النار مطروحة على الأرض، فإن النملة تهرب من حرارة الحلقة وهي محيطة بها لا تقدر على الخروج منها. فلا تزال تهرب حتى تستقر على المركز الذي هو الوسط، فلو ماتت ماتت على الوسط لأن الوسط هو أبعد المواضع عن الحرارة التي في الحلقة المحيطة: فكذلك الشهوات محيطة بالإنسان إحاطة تلك الحلقة بالنملة، والملائكة خارجون عن تلك الحلقة، ولا مطمع للإنسان في الخروج وهو يريد أن يتشبه بالملائكة في الخلاص، فأشبه أحواله بهم البعد، وأبعد الموضع عن الأطراف الوسط، فصار الوسط مطلوباً في جميع هذه الأحوال المتقابلة. وعنه عبر بقوله ﷺ "خير الأمور أوساطها وإليه الإشارة بقوله تعالى "وكلوا وشربوا ولا تسرفوا" ومهما لم يحس الإنسان بجوع ولا شبع تيسرت له العبادة والفكر وخف في نفسه وقوي على العمل مع خفته، ولكن هذا بعد اعتدال الطبع.

أما في بداية الأمر إذا كانت النفس جموحاً متشوقة إلى الشهوات مائلة إلى الإفراط فالاعتدال لا ينفعها بل لا بد من المبالغة في إيلامها بالجوع، كما يبالغ في إيلام الدابة التي ليست مروضة بالجوع والضرب وغيره إلى أن تعتدل، فإذا ارتاضت واستوت ورجعت إلى الاعتدال ترك تعذيبها وإيلامها. ولأجل هذا السر يأمر الشيخ مريده بما لا يتعاطاه هو في نفسه فيأمره بالجوع وهو لا يجوع، ويمنعه الفواكه والشهوات، وقد لا يمتنع هو منها، لأنه قد فرغ من تأديب نفسه فاستغنى عن التعذيب. ولما كان أغلب أحوال النفس الشره والشهوة والجماح والامتناع عن العبادة، كان الأصلح لها الجوع الذي تحس بألمه في أكثر الأحوال لتنكسر نفسه. والمقصود أن تنكسر حتى تعتدل فترد بعد ذلك الغذاء أيضاً إلى الاعتدال. وإنما يمتنع من ملازمة الجوع من سالكي طريق الآخرة: إما صديق وإما مغرور أحمق.

أما الصديق المستقيم: فلاستقامة نفسه على الصراط المستقيم واستغنائه عن أن يساق بسياط الجوع إلى الحق. وأما المغرور: فلظنه بنفسه أنه الصديق المستغني عن تأديب نفسه الظان بها خيراً. وهذا غرور عظيم وهو الأغلب. فإن النفس قلما تتأدب تأدباً كاملاً، وكثيراً ما تغتر فتنظر إلى الصديق ومسامحته نفسه في ذلك فيسامح نفسه، كالمريض ينظر إلى من قد صح من مرضه فيتناول ما يتناوله ويظن بنفسه الصحة فيهلك. والذي يدل على أن تفسير الطعام بمقدار يسير- في وقت مخصوص ونوع مخصوص - ليس مقصوداً في نفسه - وإنما هو مجاهدة نفس متنائية عن الحق غير بالغة رتبة الكمال - أن رسول الله ﷺ لم يكن له تقدير وتوقيت لطعامه.

قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يصوم حتى نقول لا يفطر ويفطر حتى نقول لا يصوم وكان يدخل على أهله فيقول "هل عندكم من شيء" فإن قالوا نعم أكل وإن قالوا له قال "إني إذن صائم وكان يقدم إليه الشيء فيقول "أما إني قد أردت الصوم" ثم يأكل وخرج ﷺ يوماً وقال "إني صائم" فقالت له عائشة رضي الله عنها: قد أهدي إلينا حيس فقال "كنت أردت الصوم ولكن قربيه .

ولذلك حكي عن سهل أنه قيل له: كيف كنت في بدايتك? فأخبر بضروب من الرياضات، منها: أنه كان يقتات ورق النبق مدة. ومنها: أنه أكل دقاق التين مدة ثلاث سنين، ثم ذكر أنه اقتات بثلاثة دراهم في ثلاث سنين فقيل له: فكيف أنت في وقتك هذا? فقال: آكل بلا حد ولا توقيت. وليس المراد بقوله بلا حد ولا توقيت: أني آكل كثيراً، بل أني لا أقدر بمقدار واحد ما آكله. وقد كان معروف الكرخي يهدى إليه طيبات الطعام فيأكل، فقيل له: إن أخاك بشراً لا يأكل مثل هذا? فقال: إن أخي بشراً قبضه الورع وأنا بسطتني المعرفة، ثم قال: إنما أنا ضيف في دار مولاي فإذا أطعمني أكلت وإذا جوعني صبرت، مالي والاعتراض والتمييز? ودفع إبراهيم بن أدهم إلى بعض إخوانه دراهم وقال: خذ لنا بهذه الدراهم زبداً وعسلاً وخبزاً حوار يا فقيل: يا أبا إسحاق بهذا كله? قال ويحك إذا وجدنا أكلنا أكل الرجال وإذا عدمنا صبرنا صبر الرجال. وأصلح ذات يوم طعاماً كثيراً ودعا إليه نفراً يسيراً فيهم الأوزاعي والثوري فقال له الثوري: يا أبا إسحق أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً? فقال: ليس في الطعام إسراف إنما الإسراف في اللباس والأثاث.

فالذي أخذ العلم من السماع والنقل تقليداً يرى هذا من إبراهيم بن أدهم ويسمع عن مالك بن دينار أنه قال ما دخل بيتي الملح منذ عشرين سنة. وعن سري السقطي أنه منذ أربعين سنة يشتهي أن يغمس جزرة في دبس فما فعل فيراه متناقضاً فيتحير أو يقطع بأن أحدهما مخطئ. والبصير بأسرار القول يعلم أن كل ذلك حق ولكن بالإضافة إلى اختلاف الأحوال ثم هذه الأحوال المختلفة يسمعها فطن محتاج أو غبي مغرور. فيقول المحتاط: ما أنا من جملة العارفين حتى أسامح نفسي فليس أطوع من نفس سري السقطي ومالك بن دينار، وهؤلاء من الممتنعين عن الشهوات فيقتدى بهم. والمغرور يقول: ما نفسي بأعصى علي من نفس معروف الكرخي وإبراهيم بن أدهم فاقتدى بهم وأرفع التقدير في مأكولي، فأنا أيضاً ضيف في دار مولاي فما لي وللاعتراض? ثم إنه لو قصر أحد في حقه وتوقيره أو في ماله وجاهه بطريقة واحدة قامت القيامة عليه واشتغل بالاعتراض، وهذا مجال رحب للشيطان مع الحمقى، بل رفع التقدير في الطعام والصيام وأكل الشهوات لا يسلم إلا لمن ينظر من مشكاة الولاية والنبوة، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس عن طاعة الهوى والعادة بالكلية، حتى يكون أكله إذا أكل على نية كما يكون إمساكه بنية، فيكون عاملاً لله في أكله وإفطاره، فينبغي أن يتعلم الحزم من عمر رضي الله عنه فإنه كان يرى رسول الله ﷺ يحب العسل ويأكله ثم لم يقس نفسه عليه، بل لما عرضت عليه شربة باردة ممزوجة بعسل جعل يدير الإناء في يده ويقول: أشربها وتذهب حلاوتها وتبقى تبعتها. اعزلوا عني حسابها، وتركها.

وهذه الأسرار لا يجوز لشيخ أن يكاشف بها مريده بل يقتصر على مدح الجوع فقط، ولا يدعوه إلى الاعتدال فإنه يقصر لا محالة عما يدعوه إليه. فينبغي أن يدعوه إلى غاية الجوع حتى يتيسر له الاعتدال. ولا يذكر له أن العارف الكامل يستغني عن الرياضة،فإن الشيطان يجد متعلقاً من قلبه فيلقى إليه كل ساعة: إنك عارف كامل، وما الذي فاتك من المعرفة والكمال، بل كان من عادة إبراهيم الخواص أن يخوض مع المريد في كل رياضة كان يأمره بها، كيلا يخطر بباله أن الشيخ يأمره بما لم يفعل فينفره ذلك من رياضته. والقوي إذا اشتغل بالرياضة وإصلاح الغير لزمه النزول إلى حد الضعفاء تشبهاً بهم وتلطفاً في سياقتهم إلى السعادة. وهذا ابتلاء عظيم للأنبياء والأولياء وإذا كان الاعتدال خفياً في حق كل شخص فالحزم والاحتياط ينبغي أن لا يترك في كل حال. ولذلك أدب عمر رضي الله عنه ولده عبد الله إذ دخل عليه فوجده يأكل لحماً مأدوماً بسمن، فعلاه بالدرة وقال: لا أم لك كل يوماً خبزاً ولحماً، ويوماً خبزاً ولبناً، ويوماً خبزاً وسمناً، ويوماً خبزاً وزيتاً، ويوماً خبزاً وملحاً، ويوماً خبزاً قفاراً. وهذا هو الاعتدال، فأما المواظبة على اللحم والشهوات فإفراط وإسراف، ومهاجرة اللحم بالكلية إقتار. وهذا قوام بين ذلك والله تعالى أعلم.

بيان آفة الرياء المتطرق

إلى من ترك أكل الشهوات وقلل الطعام

اعلم أنه يدخل على تارك الشهوات آفتان عظيمتان هما أعظم من أكل الشهوات؛ إحداهما: أن لا تقدر النفس على ترك بعض الشهوات فتشتهيها، ولكن لا يريد أن يعرف بأنه يشتهيها فيخفي الشهوة ويأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذا هو الشرك الخفي، سئل بعض العلماء عن بعض الزهاد فسكت عنه فقيل له: هل تعلم به بأساً? قال يأكل في الخلوة ما لا يأكل مع الجماعة. وهذه آفة عظيمة، بل حق العبد إذا ابتلى بالشهوات وحبها أن يظهرها فإن هذا صدق الحال، وهو بدل عن فوات المجاهدات بالأعمال، فإن إخفاء النقص وإظهار ضده من الكمال هو نقصانان متضاعفان، والكذب مع الإخفاء كذبان، فيكون مستحقاً ولا يرضى منه إلا بتوبتين صادقتين. ولذلك شدد أمر المنافقين فقال تعالى "إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار" لأن الكافر كفر وأظهر وهذا كفر وستر، فكان ستره لكفره كفراً آخر لأنه استخف بنظر الله سبحانه وتعالى إلى قلبه وعظم نظر المخلوقين فمحا الكفر عن ظاهره. والعارفون يبتلون بالشهوات بل بالمعاصي ولا يبتلون بالرياء والغش والإخفاء. بل كمال العارف أن يترك الشهوات لله تعالى ويظهر من نفسه الشهوة إسقاطاً لمنزلته من قلوب الخلق. وكان بعضهم يشتري الشهوات ويعلقها في البيت وهو فيها من الزاهدين، وإنما يقصد به تلبيس حاله ليصرف عن نفسه قلوب الغافلين حتى لا يشوشون عليه حاله.

فنهاية الزهد: الزهد في الزهد بإظهار ضده وهذا عمل الصديقين. فإنه جمع بين صدقين كما أن الأول جمع بين كذبين. وهذا قد حمل على النفس ثقلين وجرعها كأس الصبر مرتين مرة بشربه ومرة برميه؛ فلا جرم أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا. وهذا يضاهي طريق من يعطي جهراً فيأخذ ويرد سراً ليكسر نفسه بالذل جهراً وبالفقر سراً. فمن فاته هذا فلا ينبغي أن يفوته إظهار شهوته ونقصانه والصدق فيه. ولا ينبغي أن يغره قول الشيطان: إنك إذا أظهرت اقتدى بك غيرك فاستره إصلاحاً لغيرك، فإنه لو قصد إصلاح غيره لكان إصلاح نفسه أهم عليه من غيره. فهذا إنما يقصد الرياء المجرد ويروجه الشيطان عليه في معرض إصلاح غيره، فلذلك ثقل عليه ظهور ذلك منه واعلم أن من اطلع عليه ليس يقتدى به في الفعل أو لا ينزجر باعتقاده أنه تارك للشهوات.

الآفة الثانية: أن يقدر على ترك الشهوات لكنه يفرح أن يعرف به فيشتهر بالتعفف عن الشهوات، فقد خالف شهوة ضعيفة وهي شهوة الأكل وأطاع شهوة هي شر منها وهي شهوة الجاه، وتلك هي الشهوة الخفية فمهما أحس بذلك من نفسه فكسر هذه الشهوة آكد من كسر شهوة الطعام فليأكل فهو أولى له. قال أبو سليمان: إذا قدمت إليك شهوة وقد كنت تاركاً لها فأصب منها شيئاً يسيراً ولا تعط نفسك مناها، فنكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة وتكون قد نغصت عليها إذ لم تعطها شهوتها. وقال محمد بن جعفر الصادق: إذا قدمت إلى شهوة نظرت إلى نفسي فإن هي أظهرت شهوتها أطعمتها منها وكان ذلك أفضل من منعها، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوب عنها عاقبتها بالترك ولم أنلها منها شيئاً، وهذا طريق في عقوبة النفس على هذه الشهوة الخفية.

وبالجملة من ترك شهوة الطعام ووقع في شهوة الرياء كان كمن هرب من عقرب وفزع إلى حية؛ لأن شهوة الرياء أضر كثيراً من شهوة الطعام والله ولي التوفيق.

القول في شهوة الفرج

اعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الإنسان لفائدتين؛ إحداهما: أن يدرك لذته فيقيس به لذات الآخرة. فإن لذة الوقاع لو دامت لكانت أقوى لذات الأجساد، كما أن النار وآلامها أعظم آلام الجسد. والترغيب والترهيب يسوق الناس إلى سعادتهم وليس ذلك إلا بألم محسوس ولذة محسوسة مدركة، فإن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق.

الفائدة الثانية: بقاء النسل ودوام الوجود فهذه فائدتها. ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط ولم تقهر ولم ترد إلى حد الاعتدال. وقد قيل في تأويل قوله تعالى "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" معناه شدة الغلبة، وعن ابن عباس: في قوله تعالى "ومن شر غاسق إذا وقب" قال: هو قيام الذكر. وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله ﷺ إلا أنه قال في تفسيره: الذكر إذا دخل. وقد قيل: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله . وكان ﷺ يقول في دعائه "اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وهني ومني وقال عليه السلام "النساء حبائل الشيطان ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال .

روي أن موسى عليه السلام كان جالساً في بعض مجالسه إذا أقبل إليه إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألواناً؛ فلما دنا منه خلع البرنس فوضعه، ثم أتاه فقال: السلام عليك يا موسى، فقال له موسى من أنت? فقال: أنا إبليس، فقال: لا حياك الله ما جاء بك? قال: جئت أسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانتك منه، قال: فما الذي رأيت عليك? قال: برنس أختطف به قلوب بني آدم قال: فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه، وأحذرك ثلاثاً: لا تخل بامرأة لا تحل لك فإن ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها وأفتنها به، ولا تعاهد الله عهداً إلا وفيت به، ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: علم موسى ما يحذر به بني آدم. وعن سعيد بن المسيب قال: ما بعث الله نبياً فيما خلا إلا لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء ولا شيء أخوف عندي منهن، وما بالمدينة بيت أدخله إلا بيتي وبيت ابنتي أغتسل فيه يوم الجمعة ثم أروح. وقال بعضهم: إن الشيطان يقول للمرأة أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ، وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي. فنصف جنده الشهوة ونصف جنده الغضب.

وأعظم الشهوات شهوة النساء. وهذه الشهوة أيضاً لها إفراط وتفريط واعتدال، فالإفراط: ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجال إلى الاستمتاع بالنساء والجواري، فيحرم عن سلوك طريق الآخرة أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش. وقد ينتهي إفراطها بطائفة إلى أمرين شنيعين: أحدهما: أن يتناولوا ما يقوى شهواتهم على الاستكثار من الوقاع -كما قد يتناول بعض الناس أودية تقوى المعدة لتعظم شهوة الطعام- وما مثال ذلك إلا كمن ابتلى بسباع ضارية وحيات عادية فتنام عنه في بعض الأوقات فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بإصلاحها وعلاجها، فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يريد الإنسان الخلاص منها فيدرك لذة بسبب الخلاص.

فإن قلت فقد روى في غريب الحديث أن رسول الله ﷺ قال "شكوت إلى جبرائيل ضعف الوقاع فأمرني بأكل الهريسة ? فاعلم أنه ﷺ كان تحته تسع نسوة ووجب عليه تحصينهن بالإمتاع، وحرم على غيره نكاحهن وإن طلقهن، فكان طلبه القوة لهذا لا للتمتع.

والأمر الثاني: أنه قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال إلى العشق وهو غاية الجهل بما وضع له الوقاع، وهو مجاوزة في البهيمية لحد البهائم لأن المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع وهي أقبح الشهوات وأجدرها أن يستحيي منه حتى أعتقد أن الشهوة لا تنقضي إلا من محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أين اتفق فتكتفي به? وهذا لا يكتفي إلا بشخص واحد معين حتى يزداد به ذلاً إلى ذل وعبودية إلى عبودية، وحتى يستسخر العقل لخدمة الشهوة وقد خلق ليكون مطاعاً لا ليكون خادماً للشهوة ومحتالاً لأجلها وما العشق إلا سعة إفراط الشهوة وهو مرض قلب فارع لا هم له. وإنما يجب الاحتراز من أوائله بترك معاودة النظر والفكر، وإلا فإذا استحكم عسر دفعه. فكذلك عشق المال والجاه والعقار والأولاد حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج، فإن هذه الأمور قد تستولي على طائفة بحيث تنغص عليهم الدين والدنيا ولا يصبرون عنها البتة.

ومثال من يكثر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله، وما أهون منعها بصرف عنانها. ومثال من يعالجها بعد استحكامها مثال من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها. وما أعظم التفاوت بين الأمرين في اليسر والعسر، فليكن الاحتياط في بدايات الأمور فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح.

فإذن إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد وهو مذموم جداً. وتفريطها: بالعفة أو بالضعف عن إمتاع المنكوحة، وهو أيضاً مذموم. وإنما المحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انقباضها وانبساطها. ومهما أفرطت فكسرها بالجوع والنكاح قال ﷺ "معاشر الشباب عليكم بالباءة فمن لم يستطع فعليه بالصوم فالصوم له وجاء .

بيان ما على المريد في ترك التزويج وفعله

اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك ويستجره إلى الأنس بالزوجة. ومن أنس بغير الله تعالى شغل عن الله ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله ﷺ فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى فلا تقاس الملائكة بالحدادين. ولذلك قال أبو سليمان الداراني: من تزوج فقد ركن إلى الدنيا? وقال: ما رأيت مريداً تزوج فثبت على حاله الأول. وقيل له مرة: ما أحوجك إلى امرأة تأنس بها? فقال: لا آنسني الله بها، أي أن الأنس بها يمنع الأنس بالله تعالى، وقال أيضاً: كل ما شغلك عن الله من أهل ومال وولد فهو عليك مشؤوم. فكيف يقاس غير رسول الله ﷺ به? وقد كان استغراقه بحب الله تعالى بحيث كان يجد احتراقه فيه إلى حد كان يخشى منه في بعض الأحوال أن يسري ذلك إلى قالبه فيهدمه. ولذلك كان يضرب بيده على فخذ عائشة أحياناً ويقول "كلميني يا عائشة" لتشغله بكلامها عن عظيم ما هو فيه لقصور طاقة قالبه عنه فقد كان طبعه الأنس بالله عز وجل، وكان أنسه بالخلق عارضاً رفقاً ببدنه، ثم إنه كان لا يطيق الصبر مع الخلق إذا جالسهم فإذا ضاق صدره قال "أرحنا بها يا بلال حتى يعود إلى ما هو قرة عينه فالضعيف إذا لاحظ أحواله في مثل هذه الأمور فهو مغرور لأن الأفهام تقصر عن الوقوف على أسرار أفعاله ﷺ. فشرط المريد العزبة في الابتداء إلى أن يقوى في المعرفة، هذا إذا لم تغلبه الشهوة فإن غلبته الشهوة فليكسرها بالجوع الطويل والصوم الدائم، فإن لم تنقمع الشهوة بذلك وكان بحيث لا يقدر على حفظ العين مثلاً وإن قدر على حفظ الفرج فالنكاح له أولى لتسكن الشهوة، وإلا فمهما لم يحفظ عينه لم يحفظ عليه فكره يوتفرق عليه همه، وربما وقع في بلية لا يطيقها. وزنا العين من كبائر الصغائر وهو يؤدي إلى القرب على الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج. ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ فرجه. قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة. وقال سعيد بن جبير: إنما جاءت الفتنة لداود عليه السلام من قبل النظرة. ولذلك قال لابنه عليه السلام: يا بني امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة وقيل ليحيى عليه السلام: ما بدء الزنا? قال: النظر والتمني. وقال الفضيل: يقول إبليس هو قوسي القديمة وسهمي الذي لا أخطئ به يعني النظر. وقال رسول الله ﷺ "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس فمن تركها خوفاً من الله تعالى أعطاه الله تعالى إيماناً يجد حلاوته في قلبه وقال ﷺ "ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء وقال ﷺ "اتقوا فتنة الدنيا وفتنة النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من قبل النساء وقال تعالى "قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم" الآية وقال عليه السلام "لكل ابن آدم حظ من الزنا فالعينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والفم يزني وزناه القبلة، والقلب يهم أو يتمنى ويصدق ذلك الفرج أو يكذبه وقالت أم سلمة: استأذن ابن أم مكتوم الأعمى على رسول الله ﷺ وأنا وميمونة جالستان، فقال عليه السلام "احتجبا" فقلنا: أوليس بأعمى لا يبصر? فقال "وأنتما لا تبصرانه? وهذا يدل على أنه لا يجوز للنساء مجالسة العميان كما جرت به العادة في المآتم والولائم، فيحرم على الأعمى الخلوة بالنساء، ويحرم على المرأة مجالسة الأعمى وتحديث النظر إليه لغير حاجة، وإنما جوز للنساء محادثة الرجال والنظر إليهم لأجل عموم الحاجة، وإن قدر على حفظ عينه عن النساء ولم يقدر على حفظها عن الصبيان فالنكاح أولى به، فإن الشر في الصبيان أكثر، فإنه لو مال قلبه إلى امرأة أمكنه الوصول إلى استباحتها بالنكاح. والنظر إلى وجه الصبي بالشهوة حرام، بل كل من يتأثر قلبه بجمال صورة الأمرد بحيث يدرك التفرقة بينه وبين الملتحي لم يحل له النظر إليه.

فإن قلت: كل ذي حس يدرك التفرقة بين الجميل والقبيح لا محالة ولم تزل وجوه الصبان مكشوفة? فأقول لست أعني تفرقة العين فقط، بل ينبغي أن يكون إدراكه التفرقة كإدراكه التفرقة بين شجرة خضراء وأخرى يابسة، وبين ماء صاف وماء كدر، وبين شجرة عليها أزهارها وأنوارها وشجرة تساقطت أوراقها، فإنه يميل إلى إحداهما بعينه وطبعه ولكن ميلاً خالياً عن الشهوة، ولأجل ذلك لا يشتهي ملامسة الأزهار والأنوار وتقبيلها، ولا تقبيل الماء الصافي، وكذلك الشيبة الحسنة قد تميل العين إليها وتدرك التفرقة بينها وبين الوجه القبيح ولكنها تفرقة لا شهوة فيها. ويعرف ذلك بميل النفس إلى القرب والملامسة. فمهما وجد ذلك الميل في قلبه وأدرك تفرقة بين الوجه الجيل وبين النبات الحسن والأثواب المنقشة والسقوف المذهبة فنظره نظر شهوة فهو حرام، وهذا مما يتهاون به الناس ويجرهم ذلك إلى المعاطب وهم لا يشعرون.

قال بعض التابعين ما أنا بأخوف من السبع الضاري على الشاب الناسك من غلام أمرد يجلس إليه. وقال سفيان: لو أن رجلاً عبث بغلام بين إصبعين من أصابع رجله يريد الشهوة لكان لواطاً. وعن بعض السلف قال: سيكون في هذه الأمة ثلاثة أصناف لوطيون: صنف ينظرون، وصنف يصافحون، وصنف يعملون.

فإذن آفة النظر إلى الأحداث عظيمة، فمهما عجز المريد عن غض بصره وضبط فكره فالصواب له أن يكسر شهوته بالنكاح، فرب نفس لا يسكن توقانها بالجوع.

وقال بعضهم: غلبت على شهوتي في بدء إرادتي بما لم أطق فأكثرت الضجيج إلى الله تعالى فرأيت شخصاً في المنام فقال: مالك? فشكوت إليه فقال: تقدم إلي، فتقدمت إليه فوضع يده على صدري فوجدت بردها في فؤادي وجميع جسدي، فأصبحت وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك فأكثرت الاستغاثة فأتاني شخص في المنام فقال لي: أتحب أن يذهب ما تجده وأضرب عنقك? قلت: نعم، فقال: مد رقبتك، فمددتها فجرد سيفاً من نور فضرب به عنقي فأصبح وقد زال ما بي فبقيت معافى سنة، ثم عاودني ذلك أو أشد منه فرأيت كأن شخصاً فيما بين جنبي وصدري يخاطبني ويقول: ويحك كم تسأل الله تعالى رفع ما لا يحب رفعه? قال: فتزوجت فانقطع ذلك عني وولد لي.

ومهما احتاج المريد إلى النكاح فلا ينبغي أن يترك شرط الإرادة في ابتداء النكاح ودوامه، أما في ابتدائه فبالنية الحسنة، وفي دوامه بحسن الخلق وسداد السيرة والقيام بالحقوق الواجبة -كما فصلنا جميع ذلك في كتاب آداب النكاح فلا نطول بإعادته- وعلامة صدق إرادته أن ينكح فقيرة متدينة ولا يطلب الغنية. قال بعضهم: من تزوج غنية كان له منها خمس خصال، مغالاة الصداق، وتسويف الزفاف، وفوت الخدمة، وكثرة النفقة. وإذا أراد طلاقها لم يقدر خوفاً على ذهاب مالها. والفقيرة بخلاف ذلك. وقال بعضهم: ينبغي أن تكون المرأة دون الرجل بأربع وإلا استحقرته: بالسن، والطول، والمال، والحسب، وأن تكون فوقه بأربع: بالجمال، والأدب، والورع والخلق وعلامة صدق الإرادة في دوام النكاح الخلق.

تزوج بعض المريدين بامرأة فلم يزل يخدمها حتى استحيت المرأة وشكت ذلك إلى أبيها وقالت: قد تحيرت في هذا الرجل أنا في منزله منذ سنين ما ذهبت إلى الخلاء قط إلى وحمل الماء قبلي إليه? وتزوج بعضهم امرأة ذات جمال فلما قرب زفافها أصابها الجدري فاشتد حزن أهلها لذلك خوفاً من أن يستحقبحها، فأراهم الرجل أنه قد أصابه رمد، ثم اراهم أن بصره قد ذهب حتى زفت إليه فزال عنهم الحزن، فبقيت عنده عشرين سنة ثم توفيت ففتح عينيه حين ذلك، فقيل له في ذلك فقال تعمدته لأجل أهلها حتى لا يحزنوا، فقيل له: قد سبقت إخوانك بهذا الخلق. وتزوج بعض الصوفية امرأة سيئة الخلق فكان يصبر عليها فقيل له: لم لا تطلقها? فقال: أخشى أن يتزوجها من لا يصبر عليها فيتأذى بها، فإن تزوج المريد فهكذا ينبغي أن يكون، وإن قدر على الترك فهو أولى له، إذ لم يمكنه الجمع بين فضل النكاح وسلوك الطريق وعلم أن ذلك يشغله عن حاله، كما روي أن محمد بن سليمان الهاشمي كان يملك من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم، فكتب إلى أهل البصرة وعلمائها في امرأة يتزوجها فأجمعوا كلهم على رابعة العدوية رحمها الله تعالى فكتب إليها: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الله تعالى قد ملكني من غلة الدنيا ثمانين ألف درهم في كل يوم، وليس تمضي الأيام والليالي حتى أتمها مائة ألف وأنا أصير لك مثلها ومثلها فأجيبيني. فكتبت إليه: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد، فإن الزهد في الدنيا راحة القلب والبدن والرغبة فيها تورث الهم والحزن، فإذا أتاك كتابي هذا فهيئ زادك وقدم لمعادك وكن وصي نفسك ولا تجعل الرجال أوصياءك ليقتسموا تراثك؛ فصم الدهر وليكن فطرك الموت. وأما أنا فلو أن الله تعالى خولني أمثال الذي خولك وأضعافه ما سرني أن أشتغل عن الله طرفة عين.

وهذه إشارة إلى أن كل ما يشغل عن الله تعالى فهو نقصان، فلينظر المريد إلى حاله وقلبه فإن وجده في العزوبة فهو الأقرب، وإن عجز عن ذلك فالنكاح أولى به. ودواء هذه العلة ثلاثة أمور: الجوع، وغض البصر، والاشتغال بشغل يستولي على القلب. فإن لم تنفع هذه الثلاثة فالنكاح هو الذي يستأصل مادتها فقط. ولهذا كان السلف يبادرون إلى النكاح وإلى تزويج البنات، قال سعيد بن المسيب ما أيس إبليس من أحد إلا وأتاه من قبل النساء، وقال سعيد أيضاً -وهو ابن أربع وثمانين سنة، وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعشو بالأخرى- ما شيء أخوف عندي من النساء، وعن عبد الله بن أبي وداعة قال: كنت أجالس سعيد بن المسيب فتفقدني أياماً فلما أتيته قال أين كنت? قلت: توفيت أهلي فاشتغلت بها، فقال: هلا أخبرتنا فشهدناها? قال: ثم أردت أن أقوم فقال: هل استحدثت امرأة? فقلت: يرحمك الله تعالى ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة? فقال: أنا، فقلت: وتفعل? قال: نعم، فحمد الله تعالى وصلى النبي ﷺ وزوجني على درهمين -أو قال ثلاثة- قال: فقمت وما أدري ما أصنع من الفرح? فصرت إلى منزلي وجعلت أفكر ممن آخذ وممن أستدين فصليت المغرب وانصرفت إلى منزلي فأسرجت، وكنت صائماً فقدمت عشائي لأفطر -وكان خبزاً وزيتاً- وإذا بابي يقرع فقلت: من هذا? قال: سعيد، قال: فأفكرت في كل إنسان اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيب -وذلك أنه لم ير أربعين سنة إلا بين داره والمسجد- قال: فخرجت إليه فإذا به سعيد بن المسيب فظنت أنه قد بدا له، فقلت: يا أبا محمد لو أرسلت إلي لأتيتك? فقال: لا، أنت أحق أن تؤتى، قلت: فما تأمر? قال: إنك كنت رجلاً عزباً فتزوجت فكرهت أن أبيتك الليلة وحدك، وهذه امرأتك، وإذا هي قائمة خلفه في طوله في أخذ بيدها فدفعها في الباب ورده فسقطت المرأة من الحياء، فاستوثقت من الباب ثم تقدمت إلى القصعة التي فيها الخبز والزيت فوضعتها في ظل السراج لكيلا تراه؛ ثم صعدت السطح فرميت الجيران فجاءوني وقالوا: ما شأنك? قتل: ويحكم زوجني سعيد بن المسيب ابنته اليوم وقد جاء بها الليلة على غفلة فقالوا: أو سعيد زوجك? قلت: نعم؛ قالوا وهي في الدار? قلت: نعم، فنزلوا إليها وبلغ ذلك أمي فجاءت وقالت: وجهي من وجهك حرام إن مسستها قبل أن أصلحها إلى ثلاثة أيام؛ قال: فأقمت ثلاثاً ثم دخلت بها؛ فإذا هي من أجمل النساء وأحفظ الناس لكتاب الله تعالى وأعلمهم بسنة رسول الله ﷺ وأعرفهم بحق الزوج? قال: فمكثت شهراً لا يأتيني سعيد ولا آتيه؛ فلما كان بعد الشهر أتيته وهو في حلقته فسلمت عليه فرد علي السلام ولم يكلمني حتى تفرق الناس من المجلس، فقال: ما حال ذلك الإنسان? فقلت: بخير يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك منه أمر فدونك والعصا فانصرفت إلى منزلي فوجه إلي بعشرين ألف درهم. قال عبد الله بن سليمان: وكانت بنت سعيد بن المسيب هذه قد خطبها منه عبد الملك بن مروان لابنه الوليد حين ولاه العهد فأبى سعيد أن يزوجه، فلم يزل عبد الملك يحتال على سعيد حتى ضربه مائة سوط في يوم بارد وصب عليه جرة ماء وألبسه جبة صوف. فاستعجال سعيد في الزفاف تلك الليلة يعرفك غائلة الشهوة ووجوب المبادرة في الدين إلى تطفئة نارها بالنكاح رضي الله تعالى عنه ورحمه.

بيان فضيلة من يخالف شهوة الفرج والعين

اعلم أن هذه الشهوة هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه ويخشى من اقتحامه، وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها إما لعجز أو لخوف أو لحياء أو لمحافظة على جسمه، وليس في شيء من ذلك ثواب فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر. نعم من العصمة أن لا يقدر ففي هذه العوائق فائدة وهي دفع الإثم، فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه? وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفاً من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب، لا سيما عند صدق الشهوة وهذه درجة الصديقين. ولذلك قال ﷺ "من عشق فعف فكتم فمات فهو شهيد وقال عليه السلام "سبعة يظلمهم الله يوم القيامة في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله -وعد منهم" رجل دعته امرأة ذات جمال وحسب إلى نفسها فقال إني أخاف الله رب العالمين وقصة يوسف عليه السلام وامتناعه من زليخا مع القدرة ومع رغبتها معروفة، وقد أثنى الله تعالى عليه بذلك في كتابه العزيز، وهو إمام لكل من وفق لمجاهدة الشيطان في هذه الشهوة العظيمة.

وروي أن سليمان بن يسار كان من أحسن الناس وجهاً فدخلت عليه امرأة فسألته نفسه فامتنع عليها وخرج هارباً من منزله وتركها فيه. قال سليمان: فرأيت تلك الليلة في المنام يوسف عليه السلام وكأني أقول له أنت يوسف? قال: نعم أنا يوسف الذي هممت وأنت سليمان الذي لم تهم أشار إلى قوله تعالى "ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه" وعنه أيضاً ما هو أعجب من هذا. وذلك أنه خرج من المدينة حاجاً ومعه رفيق له حتى نزلا بالأبواء فقام رفيقه وأخذ السفرة وانطلق إلى السوق ليبتاع شيئاً، وجلس سليمان في الخيمة وكان من أجمل الناس وجهاً وأورعهم، فبصرت به أعرابية من قلة الجبل وانحدرت إليه حتى وقفت بين يديه -وعليها البرقع والقفازان- فأسفرت عن وجه لها كأنه فلقة قمر وقالت أهنئني؛ فظن أنها تريد طعاماً فقام إلى فضلة السفرة ليعطيها فقالت: لست أريد هذا إنما أريد ما يكون من الرجل إلى أهله? فقال: جهزك إبليس? ثم وضع رأسه بين ركبتيه وأخذ في النحيب فلم يزل يبكي فلما رأت منه ذلك سدلت البرقع على وجهها وانصرفت راجعة حتى بلغت أهلها. وجاء رفيقه فرآه وقد انتفخت عيناه من البكاء وانقطع حلقه فقال ما يبكيك? قال: خير ذكرت صبيتي. قال: لا والله إلا أن لك قصة إنما عهدك بصبيتك منذ ثلاث أو نحوها، فلم يزل به حتى أخبره خبر الأعرابية، فوضع رفيقه السفرة وجعل يبكي بكاء شديداً فقال سليمان: وأنت ما يبكيك? قال: أنا أحق بالبكاء منك لأني أخشى أن لو كنت مكانك لما صبرت عنها، فلم يزالا يبكيان، فلما انتهى سليمان إلى مكة فسعى وطاف ثم أتى الحجر، فاحتبى بثوبه فأخذته عينه فنام وإذا رجل وسيم طوال له شارة حسنة ورائحة طيبة فقال له سليمان: رحمك الله من أنت? قال له: أنا يوسف، قال: يوسف الصديق? قال: نعم، قال: إن في شأنك وشأن امرأة العزيز لعبجا! فقال له يوسف: شأنك وشأن صاحبة الأبواء أعجب.

وروي عن عبد الله بن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "انطلق ثلاثة نفر مما كان قبلكم حتى آواهم المبيت إلى غار فدخلوا فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار، فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله تعالى بصالح أعمالكم فقال رجل منهم: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا مالاً، فنأى بي طلب الشجر يوماً فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن أغبق قبلهما أهلاً ومالاً، فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى طلع الفجر والصبية يتضاغون حول قدمي فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة، فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه. وقال الآخر: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم من أحب الناس إلي فراودتها عن نفسها فامتنعت مني، حتى ألمت بها سنة من السنين، فجاءتني فأعطيتها مائة وعشرين ديناراً على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت، حتى إذا قدرت عليها قالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي من أحب الناس إلي وتركت الذهب الذي أعطيتها، اللهم إن كنت فعلته ابتغاء وجهك ففرج عنها ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة عنهم غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها. وقال الثالث: اللهم إن استأجرت أجراء وأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد فإنه ترك الأجر الذي له وذهب فنميت له أجره حتى كثرت منه الأموال، فجاءني بعد حين فقال: يا عبد الله أعطني أجري، فقلت كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق؛ فقال يا عبد الله أتهزأ بي? فقلت: لا أستهزئ بك فخذه، فاستاقه وأخذه كله ولم يترك منه شيئاً، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء ففرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون .

فهذا فضل من تمكن من قضاء هذه الشهوة فعف وقريب منه من تمكن من قضاء شهوة العين، فإن العين مبدأ الزنا فحفظها مهم، وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه والآفات كلها منه تنشأ. والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها والمعاودة يؤاخذ بها قال ﷺ "لك الأولى وعليك الثانية أي النظرة. وقال العلاء بن زياد. لا تتبع بصرك رداء المرأة فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان. فمهما تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه هذه المعاودة عين الجهل، فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة وعجز عن الوصول فلا يحصل له إلا التحسر، وإن استقبح لم يلتذ وتألم لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه، فلا يخلو في كلتا حالتيه عن معصية وعن تألم وعن تحسر. ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات، فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق. فقد روي عن أبي بكر بن عبد الله المزني: أن قصاباً أولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها في حاجة لهم إلى قرية أخرى فتبعها وراودها عن نفسها فقالت له: لا تفعل لأنا أشد حباً لك منك لي ولكني أخاف الله، قال: فأنت تخافينه وأنا لا أخافه! فرجع تائباً فأصابه العطش حتى كاد يهلك فإذا برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل فسأله فقال: مالك? قال: العطش، قال: تعال حتى ندعو الله بأن تظلنا سحابة حتى ندخل القرية، قال: ما لي من عمل صالح فأدعوا، فادع أنت، قال: أنا أدعو وأمن أنت على دعائي فدعا الرسول وأمن هو فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية، فأخذ القصاب إلى مكانه فمالت السحابة معه فقال له الرسول ﷺ: زعمت أن ليس لك عمل صالح وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك، لتخبرني بأمرك، فأخبره فقال الرسم: إن التائب عند الله تعالى بمكان ليس أحد من الناس بمكانه. وعن أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب متعبد لازم المسجد الجامع لا يكاد يفارقه، وكان حسن الوجه حسن القامة حسن السمت، فنظرت غليه امرأة ذات جمال وعقل فشغفت به وطال عليها ذلك، فلما كان ذات يوم وقفت له الطريق وهو يريد المسجد فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها ثم اعمل ما شئت، فمضى ولم يكلمها، ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه وهو يريد منزله فقالت له: يا فتي اسمع مني كلمات أكلمك بها، فأطرق ملياً وقال لها: هذا موقف تهمة وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً، فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالة مني بأمرك ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في مثل هذا الأمر بنفسي لمعرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم معاشر العباد على مثال القوارير أدني شيء يعيبها، وجملة ما أقول لك إن جوارحي كلها مشغولة بك ف في أمري وأمرك، قال: فمضى الشاب إلى منزله وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي! فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً ثم خرج من منزله وإذا بالمرأة واقفة في موضعها فألقى الكتاب إليها ورجع إلى منزله، وكان فيه: بسم الله الرحمن الرحيم اعلمي أيتها المرأة أن الله عز وجل إذا عصاه العبد حلم فإذا عادة إلى المعصية مرة أخرى ستره، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله تعالى لنفسه غضبة تضق منها السموات والأرض والجبال والشجر والدواب فمن ذا يطيق غضبه، فإن كان ما ذكرت باطلاً فإني أذكرك يوماً تكون السماء فيه كالمهل وتصير الجبال كالعهن وتجثوا الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي فكيف بإصلاح غيري? وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب هدى يداوي الكلوم الممرضة والأوجاع المرمضة ذلك الله رب العالمين فاقصديه بصدق المسألة فإني مشغول عنك بقوله تعالى "وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع. يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" فأين المهرب من هذه الآية? ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على الطريق فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله كيلا يراها فقالت: يا فتى لا ترجع فلا كان الملتقى بعد هذا اليوم أبداً إلا غداً بين يدي الله تعالى، ثم بكت بكاء شديداً وقالت: اسأل لك الله الذي بيده مفاتيح

قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك، ثم إنها تبعته وقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك وأوصني بوصية أعمل عليها، فقال لها: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله تعالى "وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار" قال: فأطرقت وبكت بكاء شديداً أشد من بكائها الأول، ثم إنها أفاقت ولزمت بيتها وأخذت في العبادة فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، فكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي، فيقال له: مما بكاؤك وأنت قد أيأستها من نفسك? فيقول: إني قد ذبحت طمعها في أول أمرها وجعلت قطيعتها ذخيرة لي عند الله تعالى فأنا أستحي منه أن أسترد ذخيرة ادخرتها عنده تعالى.

تم كتاب كسر الشهوتين بحمد الله تعالى وكرمه. يتلوه إن شاء الله تعالى كتاب آفات اللسان، والحمد لله أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً وصلاته على سيدنا محمد خير خلقه وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء وسلم تسليماً كثيراً.

==========

كتاب آفات اللسان

وهو الكتاب الرابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحسن خلق الإنسان وعدله، وألهمه نور الإيمان فزينه وجمله، وعلمه البيان فقدمه به وفضله، وأفاض على قلبه خزائن العلوم فأكمله، ثم أرسل عليه ستراً من رحمته وأسبله، ثم أمده بلسان يترجم به عما حواه القلب وعقله، ويكشف عنه ستره الذي أرسله، وأطلق بالحق مقوله، وأفصح بالشكر عما أولاه وخوله، من علم حصله ونطق سهله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله الذي أكرمه وبجله، ونبيه الذي أرسله بكتاب أنزله، وأسمى فضله وبين سبله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن قبله ما كبر الله عند وهلله.

أما بعد: فإن اللسان من نعم الله العظيمة ولطائف صنعه الغريبه، فإنه صغير جرمه، عظيم طاعته وجرمه، إذا لا يستبين الكفر والإيمان إلا بشهادة اللسان وهما غاية الطاعة والعصيان، ثم إنه ما من موجود أو معدوم خالق أو مخلوق متخيل أو معلوم مظنون أو موهوم إلا واللسان يتناوله ويتعرض له بإثبات أو نفي، فإن كل ما يتناوله العلم يعرب عنه اللسان إما بحق أو باطل ولا شيء إلا والعلم متناول له وهذه خاصية لا توجد في سائر الأعضاء، فإن العين لا تصل إلى غير الألوان والصور، والآذان لا تصل إلى غير الأصوات، واليد لا تصل إلى غير الأجسام، وكذا سائر الأعضاء. واللسان رحب الميدان ليس له مرد ولا لمجاله منتهى وحد، له في الخير مجال رحب وله في الشر ذيل سحب، فمن أطلق عذبة اللسان وأهمله مرخى العنان سلك به الشيطان في كل ميدان وساقه إلى شفا جرف هار إلى أن يضطره إلى البوار، ولا يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم ولا ينجو من شر اللسان إلا من قيده بلجام الشرع، فلا يطلقه إلا فيما ينفعه في الدنيا والآخرة ويكفه عن كل ما يخشى غائلته في عاجله وآجله وعلم ما يحمد فيه إطلاق اللسان أو يذم غامض عزيز والعمل بمقتضاه على من عرفه ثقيل عسير، وأعصى الأعضاء على الإنسان اللسان فإنه لا تعب في إطلاقه ولا مؤنة في تحريكه وقد تساهل الخلق في الاحتراز عن آفاته وغوائله والحذر من مصائده وحبائله، وإنه أعظم آلة الشيطان في استغواء الإنسان. ونحن بتوفيق الله وحسن تدبيره نفصل مجامع آفات اللسان ونذكرها واحدة واحدة بحدودها وأسبابها وغوائلها. ونعرف طريق الاحتراز عنها، ونورد ما ورد من الأخبار والآثار في ذمها. فنذكر أولاً فضل الصمت ونردفه بذكر آفة الكلام فيما لا يعني، ثم آفة فضول الكلام، ثم آفة الخوض في الباطل، ثم آفة المراء والجدال؛ ثم آفة الخصومة، ثم آفة التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع والفصاحة والتصنع فيه وغير ذلك مما جرت به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة، ثم آفة الفحش والسب وبذاءة اللسان، ثم آفة اللعن إما لحيوان أو جماد أو إنسان، ثم آفة الغناء بالشعر -وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده- ثم آفة المزاح، ثم آفة السخرية والاستهزاء، ثم آفة إفشاء السر، ثم آفة الوعد الكاذب، ثم آفة الكذب في القول واليمين، ثم بيان التعارض في الكذب، ثم آفة الغيبة، ثم آفة النميمة، ثم آفة ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين فيكلم كل واحد بكلام يوافقه، ثم آفة المدح، ثم آفة الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته ويرتبط بأصول الدين، ثم آفة سؤال العوام عن صفات الله عز وجل وعن الحروف أهي قديمة أو محدثة? وهي آخر الآفات وما يتعلق بذلك وجملتها عشرون آفة ونسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه.

بيان عظيم خطر اللسان وفضيلة الصمت

اعلم أن خطر اللسان عظيم ولا نجاة من خطره إلا بالصمت، فلذلك مدح الشرع الصمت وحث عليه فقال ﷺ "من صمت نجا وقال عله السلام "الصمت حكم وقليل فاعله أي حمة وحزم. وروى عبد الله بن سفيان عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أخبرني عن الإسلام بأمر لا أسأل عنه أحداً بعدك قال "قل آمنت بالله ثم استقم" قال: قلت فما أتقي? فأوما بيده إلى لسانه وقال عقبة بن عامر: قلت يا رسول الله ما النجاة? قال "أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وأبك على خطيئتك وقال سهل بن سعد الساعدي. قال رسول الله ﷺ "من وفى شر قبقبه وذبذبه ولقلقه فقد وقى الشركله القبقب: هو البطن والذبذب: الفرج، واللقلق: اللسان. فهذه الشهوات الثلاث بها يهلك أكثر الخلق، ولذلك اشتغلنا بذكر آفات اللسان لما فرغنا من ذكر آفة الشهوتين البطن والفرج، وقد سئل رسول الله ﷺ عن أكثر ما يدخل الناس في الجنة فقال "تقوى الله وحسن الخلق" وسئل عن أكثر ما يدخل النار فقال "الأجوفان: الفم والفرج فيحتمل أن يكون المراد بالفم آفات اللسان لأنه محله، ويحتمل أن يكون المراد به البطن لأنه منفذه؛ فقد قال معاذ بن جبل: قلت يا رسول الله أنؤاخذ بما نقول? فقال "ثكلتك أمك يا ابن جبل وهل يكب الناس في النار على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم? وقال عبد الله الثقفي: قلت يا رسول الله حدثني بأمر أعتصم به فقال "قل ربي الله ثم استقم" قلت يا رسول الله ما أخوف ما تخاف علي? فأخذ بلسانه وقال "هذا وروي أن معاذاً قال: يا رسول الله أي الأعمال أفضل? فأخرج رسول الله ﷺ لسانه ثم وضع عليه أصبعه وقال أنس بن مالك: قال ﷺ "لا يستقيم إيمان العبد حتى يستقيم قلبه ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه، ولا يدخل الجنة رجل لا يأمن جاره بوائقه وقال ﷺ "من سره أن يسلم فليلزم الصمت وعن سعيد بن جبير مرفوعاً إلى رسول الله ﷺ أنه قال "إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تذكر اللسان أي تقول اتق الله فينا فإنك إن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو يمد لسانه بيده فقال له: ما تصنع يا خليفة رسول الله? قال؛ هذا أوردني الموارد إن رسول الله ﷺ قال "ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته وعن ابن مسعود أنه كان على الصفا يلبي ويقول: يا لسان قل خيراً تغنم واسكت عن شر تسلم من قبل أن تندم، فقيل له يا أبا عبد الرحمن أهذا شيء تقوله أو شيء سمعته? فقال: لا بل سمعت رسول الله ﷺ يقول "إن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه وقال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ "من كف لسانه ستر الله عورته ومن ملك غضبه وقاه الله عذابه ومن اعتذر إلى الله قبل الله عذره وروي أن معاذ بن جبل قال. يا رسول الله أوصني قال "اعبد الله كأنك تراه وعد نفسك في الموتى وإن شئت أنبأتك بما هو أملك لك من هذا كله" وأشار بيده إلى لسانه وعن صفوان بن سليم قال. قال رسول الله ﷺ "ألا أخبركم بأيسر العبادة وأهونها على البدن. الصمت وحسن الخلق .

وقال أبو هريرة. قال رسول الله ﷺ "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت وقال الحسن" ذكر لنا أن النبي ﷺ قال "رحم الله عبداً تكلم فغنم أو سكت فسلم وقيل لعيسى عليه السلام: دلنا على عمل ندخل به الجنة قال: لا تنطقوا أبداً، قالوا: لا نستطيع ذلك، فقال: فلا تنطقوا إلا بخير. وقال سليمان بن داود عليهما السلام: إن كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب. وعن البراء بن عازب قال: جاء أعرابي إلى رسول الله ﷺ فقال: دلني على عمل يدخلني الجنة، قال "أطعم الجائع واسق الظمآن وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن لم تطق فكف لسانك إلا من خير وقال ﷺ "اخزن لسانك إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان وقال ﷺ "إن الله عند لسان كل قائل فليتق الله امرؤ علم ما يقول" وقال عليه السلام "الناس ثلاثة: غانم وسالم وشاحب. فالغانم الذي يذكر الله تعالى، والسالم الساكت، والشاحب الذي يخوض في الباطل وقال عليه السلام "إن لسان المؤمن وراء قلبه فإذا أراد أن يتكلم بشيء تدبره بقلبه ثم أمضاه بلسانه، وإن لسان المنافق أمام قلبه، فإذا هم بشيء أمضاه بلسانه ولم يتدبره بقلبه وقال عيسى عليه السلام: العبادة عشرة أجزاء: تسعة منها في الصمت وجزء في الفرار من الناس، وقال نبينا ﷺ "من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به .

الآثار: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يضع حصاة في فيه يمنع بها نفسه عن الكلام، وكان يشير إلى لسانه ويقول: هذا الذي أوردني الموارد. وقال عبد الله بن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو ما شيء أحوج إلى طول سجن من لسان. وقال طاوس: لساني سبع إن أرسلته أكلني. وقال وهب بن منبه: في حكمة آل داود؛ حق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه حافظاً للسانه مقبلاً على شأنه. وقال الحسن: ما عقل دينه من لم يحفظ لسانه. وقال الأوزاعي: كتب إلينا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- أما بعد: فإن من أكثر ذكر الموت رضي من الدنيا باليسير، ومن عد كلامه من عمله قل كلامه إلا فيما يعنيه. وقال بعضهم: الصمت يجمع للرجل فضيلتين؛ السلامة في دينه والفهم عن صاحبه. وقال محمد بن واسع لمالك بن دينار: يا أبا يحيى حفظ اللسان أشد على الناس من حفظ الدينار والدرهم. وقال يونس بن عبيد: ما من الناس أحد يكون منه لسان على بال إلا رأيت صلاح ذلك في سائر عمله. وقال الحسن تكلم قوم عند معاوية رحمه الله والأحنف بن قيس ساكت فقال له: مالك يا أبا بحر لا تتكلم? فقال له: أخشى الله إن كذبت وأخشاك إن صدقت. وقال أبو بكر بن عياش: اجتمع أربعة ملوك؛ ملك الهند وملك الصين وكسرى وقيصر، فقال أحدهم: أنا أندم على ما قلت ولا أندم على ما لم أقل، وقال الآخر: إني إذا تكلمت بكلمة ملكتني ولم أملكها وإذا لم أتكلم بها ملكتها ولم تملكني، وقال الثالث: عجبت للمتكلم إن رجعت عليه كلمته ضرته وإن لم ترجع لم تنفعه، وقال الرابع: أنا على رد ما لم أقل أقدر مني على رد ما قلت. وقيل: أقام المنصور بن المعتز لم يتكلم بكلمة بعد العشاء الآخرة أربعين سنة. وقيل: ما تكلم الربيع بن خيثم بكلام الدنيا عشرين سنة وكان إذا أصبح وضع دواة وقرطاساً وقلماً فكل ما تكلم به كتبه ثم يحاسب نفسه عند المساء.

فإن قلت: فهذا الفضل الكبير للصمت ما سببه? فاعلم أن سببه كثرة آفات اللسان من الخطأ والكذب والغيبة والنميمة والرياء والنفاق والفحش والمراء وتزكية النفس والخوض في الباطل والخصومة والفضول والتحريف والزيادة والنقصان وإيذاء الخلق وهتك العورات. فهذه آفات كثيرة وهي سياقة إلى اللسان لا تثقل عليه ولها حلاوة في القلب وعليها بواعث من الطبع ومن الشيطان، والخائض فيها قلما يقدر أن يمسك اللسان فيطلقه بما يحب ويكفه عما لا يحب فإن ذلك من غوامض العلم -كما سيأتي تفصيله- ففي الخوض خطر وفي الصمت سلامة فلذلك عظمت فضيلته، هذا مع ما فيه من جمع الهم ودوام الوقار والفراغ للفكر والذكر والعبادة والسلامة من تبعات القول في الدنيا ومن حسابه في الآخرة. فقد قال الله تعالى "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد".

ويدلك على فضل لزوم الصمت أمر، وهو أن الكلام أربعة أقسام: قسم هو ضرر محض، وقسم هو نفع محض، وقسم فيه ضرر ومنفعة، وقسم ليس فيه ضرر ولا منفعة.

أما الذي هو ضرر محض فلا بد من السكوت عنه، وكذلك ما فيه ضرر ومنفعة لا تفي بالضرر.

وأما ما لا منفعة فيه ولا ضرر فهو فضول والاشتغال به تضييع زمان وهو عين الخسران، فلا يبقى إلا القسم الرابع، فقد سقط ثلاثة أرباع الكلام وبقي الربع، وهذا الربع فيه خطر إذ يمتزج بما فيه إثم من دقائق الرياء والتصنع والغيبة وتزكية النفس وفضول الكلام امتزاجا يخفى دركه فيكون الإنسان به مخاطراً. ومن عرف دقائق آفات اللسان -على ما سنذكره- علم قطعاً أن ما ذكره ﷺ هو فصل الخطاب حيث قال "من صمت نجا فلقد أوتى والله جواهر الحكم قطعا وجوامع الكلم ولا يعرف ما تحت آحاد كلماته من بحار المعاني إلا خواص العلماء وفيما سنذكره من الآفات وعسر الاحتراز عنها ما يعرفك حقيقة ذلك إن شاء الله تعالى. ونحن الآن نعد آفات اللسان ونبتدئ بأخفها ونترقى إلى الأغلظ قليلاً، ونؤخر الكلام في الغيبة والنميمة والكذب فإن النظر فيها أطول وهي عشرون آفة فاعلم ذلك ترشد بعون الله تعالى.

الآفة الأولى

الكلام فيما لا يعنيك

اعلم أن أحسن أحوالك أن تحفظ ألفاظك من جميع الآفات التي ذكرناها من الغيبة والنميمة والكذب والرياء والجدال وغيرها، وتتكلم فيما هو مباح لا ضرر عليك فيه وعلى مسلم أصلاً إلا أنك تتكلم بما أنت مستغن عنه ولا حاجة بك إليه، فإنك مضيع به زمانك ومحاسب على عمل لسانك وتستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، لأنك لو صرفت زمان الكلام إلى الفكر ربما كان ينفتح لك من نفحات رحمة الله عند الفكر ما يعظم جدواه، ولو هللت الله سبحانه وذكرته وسبحته لكان خيراً لك فكم من كلمة يبنى بها قصراً في الجنة? ومن قدر على أن يأخذ كنزاً من الكنوز فأخذ مكانه مدرة لا ينتفع بها كان خاسراً خسراناً مبيناً. وهذا مثال من ترك ذكر الله تعالى واشتغل بمباح لا يعنيه فإنه وإن لم يأثم فقد خسر حيث فاته الربح العظيم بذكر الله تعالى، فإن المؤمن لا يكون صمته إلا فكرا ونظرة وعبرة ونطقه إلا ذكراً هكذا قال النبي ﷺ. بل رأس مال العبد أوقاته ومهما صرفها إلى ما لا يعنيه ولم يدخر بها ثواباً في الآخرة فقد ضيع رأس ماله. ولهذا قال النبي ﷺ "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه بل ورد ما هو أشد من هذا قال أنس: استشهد غلام منا يوم أحد فوجدنا على بطنه حجراً مربوطاً من الجوع فمسحت أمه عن وجهه التراب وقالت هنيئاً لك الجنة يا بني، فقال ﷺ "وما يدرك لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه ويمنع ما لا يضره? وفي حديث آخر: أن النبي ﷺ فقد كعباً فسأل عنه فقالوا مريض فخرج يمشي حتى أتاه فلما دخل عليه قال "أبشر يا كعب" فقالت أمه هنيئاً لك الجنة يا كعب فقال ﷺ "من هذه المتألية على الله"? قال: هي أمي يا رسول الله قال "وما يدريك يا أم كعب لعل كعباً قال ما لا يعنيه أو منع ما لا يغنيه ومعناه أنه إنما تتهيأ الجنة لمن لا يحاسب ومن تكلم فيما لا يعنيه حوسب عليه، وإن كان كلامه غير مباح فلا تتهيأ الجنة مع المناقشة في الحساب فإنه نوع من العذاب.

وعن محمد بن كعب قال: قال رسول الله ﷺ "إن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة" فدخل عبد الله بن سلام فقال إليه ناس من أصحاب رسول الله ﷺ فأخبروه بذلك وقالوا: أخبرنا بأوثق عمل في نفسك ترجو به فقال: إني لضعيف وإن أوثق ما أرجو به الله سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني وقال أبو ذر: قال رسول الله ﷺ "ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان" قلت: بلى يا رسول الله قال "هو الصمت وحسن الخلق وترك ما لا يعنيك وقال مجاهد. سمعت ابن عباس يقول خمس لهن أحب إلى من الدهم الموقوفة: لا تتكلم فيما لا يعنيك فإنه فضل ولا آمن عليك الوزر، ولا تتكلم فيما يعنيك حتى تجد له موضعاً فإنه رب متكلم في أمر يعنيه قد وضعه في غير موضعه فعنت، ولا تمار حليماً ولا سفيهاً فإن الحليم يقليك والسفيه يؤذيك، واذكر أخاك إذا غاب عنك بما تحب أن يذكرك به، وأعفه مما تحب أن يعفيك منه، وعامل أخاك بما تحب أن يعاملك به، واعمل عمل رجل يعلم أنه مجازى بالإحسان مأخوذ بالاحترام. وقيل للقمان الحكيم: ما حكمتك? قال: لا أسأل عما كفيت ولا أتكلف ما لا يعنيني. وقال مورق العجلي: أمر أنا في طلبه منذ عشرين سنة لم أقدر عليه ولست بتارك طلبه قالوا: وما هو? قال: السكوت عما لا يعنيني. وقال عمر رضي الله عنه لا تتعرض لما لا يعنيك واعتزل وأحذر صديقك من القوم إلا الأمين، ولا أمين إلا من خشى الله تعالى، ولا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك، واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى.

وحد الكلام فيما لا يعنيك أن تتكلم بكلام لو سكت عنه لن تأثم ولم تستضر به في حال ولا مال، مثاله أن تجلس مع قوم فتذكر لهم أسفارك وما رأيت فيها من جبال وأنهار، وما وقع لك من الوقائع، وما استحسنته من الأطعمة والثياب، وما تعجبت منه من مشايخ البلاد ووقائعهم. فهذه أمور لو سكت عنها لم تأثم ولم تستضر. وإذا بالغت في الجهاد حتى لم يمتزج بحكايتك زيادة ولا نقصان، ولا تزكية نفس من حيث التفاخر بمشاهدة الأحوال العظيمة، ولا اغتياب لشخص ولا مذمة لشيء مما خلقه الله تعالى فأنت مع ذلك كله مضيع زمانك -وأنى تسلم من الآفات التي ذكرناها- ومن جملتها أن تسأل غيرك عما لا يعنيك فأنت بالسؤال مضيع وقتك وقد الجأت صاحبك أيضاً بالجواب إلى التضييع، هذا إذا كان الشيء مما يتطرق إلى السؤال عنه آفة، وأكثر الأسئلة فيها آفات. فإنك تسأل غيرك عن عبادته مثلاً فتقول له: هل أنت صائم? فإن قال نعم، كان مظهراً لعبادته فيدخل عليه الرياء، وإن لم يدخل سقطت عبادته من ديوان السر، وعبادة السر تفضل عبادة الجهر بدرجات، وإن قال: لا، كان كاذباً، وإن سكت كان مستحقراً لك وتأذيت به، وإن احتال لمدافعة الجواب افتقر إلى جهد وتعب فيه. فقد عرضته بالسؤال إما للرياء أو للكذب أو للاستحقار أو للتعب في حيلة الدفع، وكذلك سؤالك عن سائر عباداته، وكذلك سؤالك عن المعاصي وعن كل ما يخفيه ويستحي منه. وسؤالك عما حدث به غيرك فتقول له: ماذا تقول? وفيم أنت? وكذلك ترى إنساناً في الطريق فتقول: من أين? فربما يمنعه مانع من ذكره، فإن ذكره تأذى به واستحيا، وإن لم يصدق وقع في الكذب وكنت السبب فيه.. وكذلك تسأل عن مسألة لا حاجة بك إليها والمسئول ربما لم تسمح نفسه بأن يقول لا أدري، فيجيب عن غير بصيرة.

ولست أعني بالتكلم فيما لا يعني هذه الأجناس، فإن هذا يتطرق إليه إثم أو ضرر. وإنما مثال ما لا يعني ما روي أن لقمان الحكيم دخل على داود عليه السلام وهو يسرد درعاً ولم يكن رآها قبل ذلك اليوم فجعل يتعجب مما رأى فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته حكمته فأمسك نفسه ولم يسأله، فلما فرغ قام داود ولبسه ثم قال: نعم الدرع للحرب، فقال لقمان: الصمت حكم وقليل فاعله، أي حصل العلم بع من غير سؤال فاستغنى عن السؤال. وقيل أنه كان يتردد إليه سنة وهو يريد أن يعلم ذلك من غير سؤال. فهذا وأمثاله من الأسئلة إذا لم يكن فيه ضرر هتك ستر وتوريط في رياء وكذب هو مما لا يعني وتركه من حسن الإسلام فهذا حده.

وأما سببه الباعث عليه فالحرص على معرفة ما لا حاجة به إليه أو المباسطة بالكلام على سبيل التودد أو تزجية الأوقات بحكايات أحوال لا فائدة فيها.

وعلاج ذلك كله أن يعلم أن الموت بين يديه وأنه مسئول عن كل كلمة، وأن أنفاسه رأس ماله. وأن لسانه شبكة يقدر أن يقتنص بها الحور العين فإهماله ذلك وتضييعه خسران مبين. هذا علاج من حيث العلم وأما من حيث العمل فالعزلة أو أن يضع حصاة في فيه وأن يلزم نفسه السكوت بها عن بعض ما يعنيه حتى يعتاد اللسان ترك ما لا يعنيه، وضبط اللسان في هذا على غير المعتزل شديد جداً.

الآفة الثانية

فضول الكلام

وهو أيضاً مذموم، وهذا يتناول الخوض فيما لا يعني والزيادة فيما يعني على قدر الحاجة، فإن من يعنيه أمر يمكنه أن يذكره بكلام مختصر، ويمكنه أن يجسمه ويقرره ويكرره. ومهما تأدى مقصوده بكلمة واحدة فكذر كلمتين فالثانية فضول -أي فضل عن الحاجة- وهو أيضاً مذموم -لما سبق- وإن لم يكن فيه إثم ولا ضرر. قال عطاء بن أبي رباح: إن من كان قبلكم كانوا يكرهون فضول الكلام وكانوا يعدون فضول الكلام ما عدا كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ، أو أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر، أو أن تنطق بحاجتك في معيشتك التي لا بد لك منها، أتنكرون أن عليكم حافظين كراماً كاتبين عن اليمين وعن الشمال قعيد ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد، أما يستحي أحدكم إذا نشرت صحيفته التي أملاها صدر نهاره كان أكثر ما فيها ليس من أمر دينه ولا دنياه. وعن بعض الصحابة قال: إن الرجل ليكلمني بالكلام لجوابه أشهى إلى من الماء البارد إلى الظمآن فأترك جوابخ خيفة أن يكون فضولاً. وقال مطرف: ليعظم جلال الله في قلوبكم فلا تذكروه عند مثل قول أحدكم للكلب والحمار: الله اخزه وما أشبه ذلك.

واعلم أن فضول الكلام لا ينحصر بل المهم محصور في كتاب الله تعالى قال الله عز وجل "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح الناس" وقال ﷺ "طوبى لمن أمسك الفضل من لسانه وأنفق الفضل من ماله فانظر كيف قلب الناس الأمر في ذلك فأمسكوا فضل المال وأطلقوا فضل اللسان وعن مطرف بن عبد الله عن أبيه قال: قدمت على رسول ﷺ في رهط من بني عامر فقالوا: أنت والدنا وأنت سيدنا وأنت أفضلنا علينا فضلاً، وأنت أطولنا علينا طولاً، وأنت الجفنة الغراء وأنت وأنت فقال "قولوا قولكم ولا يستهوينكم الشيطان إشارة إلى أن اللسان إذا أطنب بالثناء ولو بالصدق فيخشى أن يستهويه الشيطان إلى الزيادة المستغنى عنها. وقال ابن مسعود: أنذركم فضول كلامكم؛ حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته. وقال مجاهد: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول، حسب امرئ من الكلام ما بلغ به حاجته. وقال مجاهد: إن الكلام ليكتب حتى إن الرجل ليسكت ابنه فيقول، أبتاع لك كذا وكذا. فيكتب كذاباً. وقال الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بها ملكان كريمان يكتبان أعمالك فاعمل ما شئت وأكثر أو أقل. وروي أن سليمان عليه السلام بعث بعض عفاريته وبعث نفراً ينظرون ما يقول ويخبرونه، فأخبروه بأنه مر في السوق فرفع رأسه إلى السماء ثم نظر إلى الناس وهز رأسه فسأله سليمان عن ذلك فقال: عجبت من الملائكة على رؤوس الناس ما أسرع ما يكتبون! ومن الذين أسفل منهم ما أسرع ما يملون! وقال إبراهيم التيمي: إذا أراد المؤمن أن يتكلم نظر فإن كان له تكلم وإلا أمسك، والفاجر إنما لسانه رسلاً رسلا. وقال الحسن: من كثر كلامه كثر كذبه، ومن كثر ماله كثرت ذنوبه، ومن ساء خلقه عذب نفسه، وقال عمرو بن دينار: تكلم رجل عند النبي ﷺ فأكثر فقال له ﷺ "كم دون لسانك من حجاب"? فقال: شفتاي وأسناني، قال "أفما كان لك ما يرد كلامك? وفي رواية: أنه قال ذلك في رجل أثنى عليه فاستهتر في الكلام ثم قال: ما أوتي رجلاً شراً من فضل في لسانه وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: إنه ليمنعني من كثير من الكلام خوف المباهاة. وقال بعض الحكماء: إذا كان الرجل في مجلس فأعجبه الحديث فليسكت وإن كان ساكتاً فأعجبه السكوت فليتكم. وقال يزيد بن أبي حبيب: من فتنة العالم أن يكون الكلام أحب إليه من الاستماع فإن وجد من يكفيه فإن في الاستماع سلامة، وفي الكلام تزيين وزيادة ونقصان. وقال ابن عمر: إن أحق ما طهر الرجل لسانه. ورأى أبو الدرداء امرأة سليطة فقال: لو كانت هذه خرساء كان خيراً لها. وقال إبراهيم: يهلك الناس خلتان: فضول المال وفضول الكلام. فهذه مذمة فضول الكلام وكثرته وسببه الباعث عليه. وعلاجه ما سبق في الكلام فيما لا يعني.

الآفة الثالثة

الخوض في الباطل

وهو الكلام في المعاصي كحكاية أحوال النساء ومجالس الخمر ومقامات الفساق وتنعم الأغنياء وتجبر الملوك ومراسمهم المذمومة وأحوالهم المكروهة، فإن كل ذلك مما لا يحل الخوض فيه وهو حرام. وأما الكلام فيما لا يعني أو أكثر مما يعني فهو ترك الأولى ولا تحريم فيه. نعم من يكثر الكلام فيما لا يعني لا يؤمن عليه الخوض في الباطل. وأكثر الناس يتجالسون للتفرج بالحديث ولا يعدو كلامهم التفكه بأعراض الناس أو الخوض في الباطل. وأنواع الباطل لا يمكن حصرها لكثرتها وتفننها فلذلك لا مخلص منها إلا بالاقتصار على ما يعني من مهمات الدين والدنيا. وفي هذا الجنس تقع كلمات يهلك بها صاحبها وهو يستحقرها، فقد قال بلال بن الحارث: قال رسول الله ﷺ "إن الرجل ليتكم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم القيامة، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ به ما بلغت فيكتب الله عليه بها سخطه إلى يوم القيامة وكان علقمة يقول: كم من كلام منعنيه حديث بلال بن الحارث. وقال النبي ﷺ "إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلسائه يهوي بها أبعد من الثريا وقال أبو هريرة إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يلقى لها بالاً يرفعه الله بها في أعلى الجنة. وقال ﷺ "أعظم الناس خطايا يوم القيامة أكثرهم خوضاً في الباطل وإليه الإشارة بقوله تعالى "وكنا نخوض مع الخائضين" وبقوله تعالى "فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذاً مثلهم" وقال سلمان: أكثر الناس ذنوباً يوم القيامة أكثرهم كلاماً في معصية الله. وقال ابن سيرين: كان رجل من الأنصار يمر بمجلس لهم فيقول لهم توضئوا فإن بعض ما تقولون شر من الحديث. فهذا هو الخوض في الباطل وهو وراء ما سيأتي من الغيبة والنميمة والفحش وغيرها، بل هو الخوض في ذكر محظورات سبق وجودها أو تدبر للتوصل إليها من غير حاجة دينية إلى ذكرها. ويدخل فيه أيضاً الخوض في حكاية البدع والمذاهب الفاسدة وحكاية ما جرى من قتال الصحابة على وجه يوهم الطعن في بعضهم. وكل ذلك باطل والخوض فيه خوض في الباطل نسأل الله حسن العون بلطفه وكرمه.

الآفة الرابعة

المراء والجدال

وذلك منهي عنه قال ﷺ "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه وقال عليه السلام "ذروا المراء فإنه لا تفهم حكمته ولا تؤمن فتنته وقال ﷺ "من ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة ومن ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله ﷺ "إن أول ما عهد إلي ربي ونهاني عنه بعد عبادة الأوثان وشرب الخمر ملاحاة الرجال وقال أيضاً "ما ضل قوم بعد أن هداهم الله تعالى إلا أوتوا الجدل وقال أيضاً "لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتى يدع المراء وإن كان محقاً وقال أيضاً "ست من كن فيه بلغ حقيقة الإيمان: الصيام في الصيف، وضرب أعداء الله بالسيف، وتعجيل الصلاة في اليوم الدجن، والصبر على المصيبات، وإسباغ الوضوء على المكاره، وترك المراء وهو صادق وقال الزبير لابنه: لا تجادل الناس بالقرآن فإنك لا تستطيعهم ولكن عليك بالسنة. وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل. وقال مسلم بن يسار: إياكم والمراء فإنه ساعة جهل العالم وعندها يبتغي الشيطان زلته. وقيل: ما ضل قوم بعد إذ هداهم الله إلا بالجدل. وقال مالك بن أنس رحمة الله عليه: ليس هذا الجدل من الدين في شيء. وقال أيضاً: المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تجادل العلماء فيمقتوك وقال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجاً ممارياً معجباً برأيه فقد تمت خسارته. وقال سفيان: لو خالفت أخي في رمانة فقال حلوة وقلت حامضة لسعى بي إلى السلطان. وقال أيضاً: صاف من شئت ثم أغضبه بالمراء فليرمينك بداهية تمنعك العيش. وقال ابن أبي ليلى: لا أماري صاحبي فإما أن أكذبه وإما أن أغضبه. وقال أبو الدرداء: كفى بك إثماً أن لا تزال ممارياً. وقال ﷺ "تكفين كل لحاء ركعتان وقال عمر رضي الله عنه: لا تتعلم العلم لثلاث ولا تتركه لثلاث. لا تتعلمه لتتمارى به، ولا لتباهي به، ولا لترائي به. ولا تتركه حياء من طلبه، ولا زهادة فيه، ولا رضا بالجهل به. وقال عيسى عليه السلام من كثر كذبه ذهب جماله ومن لاحى الرجال سقطت مروءته ومن كثر همه سقم جسمه ومن ساء خلقه عذب نفسه. وقيل لميمون بن مهران: ما لك لا تترك أخاك عن قلى? قال: لأني لا أشاريه ولا أماريه. وما ورد في ذم المراء والجدال أكثر من أن يحصى.

وحد المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه؛ إما في اللفظ وإما في المعنى وإما في قصد المتكلم. وترك المراء بترك الإنكار والاعتراض. فكل كلام سمعته فإن كان حقاً فصدق به، وإن كان باطلاً أو كذباً ولم يكن متعلقاً بأمور الدين فاسكت عنه.

والطعن في كلام الغير تارة يكون في لفظه بإظهار خلل فيه من جهة النحو أو من جهة اللغة أو من جهة العربية أو من جهة النظم والترتيب بسوء تقديم أو تأخير. وذلك يكون تارة من قصور المعرفة وتارة يكون بطغيان اللسان. وكيفما كان فلا وجه لإظهار خلله.

وأما في المعنى: فبأن يقول ليس كما تقول؛ وقد أخطأ فيه من وجه كذا وكذا.

وأما في قصده فمثل أن يقول هذا الكلام حق ولكن ليس قصدك منه الحق وإنما أنت فيه صاحب غرض، وما يجري مجراه، وهذا الجنس إن جرى في مسألة علمية ربما خص باسم الجدل وهو أيضاً مذموم بل الواجب السكوت أو السؤال في معرض الاستفادة لا على وجه العناد والنكارة، أو التلطف في التعريف لا في معرض الطعن.

وأما المجادلة فعبارة عن قصد إفحام الغير وتعجيزه وتنقيصه بالقدح في كلامه ونسبته إلى القصور والجهل فيه، وآية ذلك أن يكون تنبيهه للحق من جهة أخرى مكروهاً عند المجادل، يحب أن يكون هو المظهر له خطأ ليبين به فضل نفسه ونقص صاحبه، ولا نجاة من هذا إلا بالسكوت عن كل ما لا يأثم به لو سكت عنه.

وأما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها. أما إظهار الفضل: فهو من قبل تزكية النفس وهي من مقتضى ما في العبد من طغيان دعوى العلو والكبرياء وهي من صفات الربوبية. وأما تنقيض الآخر فهو من مقتضى طبع السبعية فإنه يقتضي أن يمزق غيره ويقصمه ويصدمه ويؤذيه، وهاتان صفتان مذمومتان مهلكتان، وإنما قوتهما المراء والجدال. فالمواظب على المراء والجدال مقو لهذه الصفات المهلكة، وهذا مجاوز حد الكراهة بل هو معصية مهما حصل فيه إيذاء الغير. ولا تنفك المماراة عن الإيذاء وتهييج الغضب وحمل المعترض عليه على أن يعود فينصر كلامه بما يمكنه من حق أو باطل، ويقدح في قائله بكل ما يتصور له؛ فيثور الشجار بين المتمارين كما يثور الهراش بين الكلبين يقصد كل واحد منهما أن يعض صاحبه بما هو أعظم نكاية وأقوى في إفحامه وإلجامه.

وأما علاجه: فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار فضله، والسبعية الباعث له على تنقيص غيره -كما سيأتي ذلك في كتاب ذم الكبر والعجب وكتاب ذم الغضب- فإن علاج كل على بإماطة سببها. وسبب المراء والجدال ما ذكرناه، ثم المواظبة عليه تجعله عادة طبعاً حتى يتمكن من النفس ويعسر الصبر عنه.

روي أن أبا حنيفة رحمة الله عليه قال لداود الطائي: لم آثرت الإنزواء? قال: لأجاهد نفسي بترك الجدال، فقال احضر المجالس واستمع ما يقال ولا تتكلم، قال: ففعلت فما رأيت مجاهدة أشد علي منها. وهو كما قال لأن من سمع الخطأ من غيره وهو قادر على كشفه يعسر عليه الصبر عند ذلك جداً. ولذلك قال ﷺ "من ترك المراء وهو محق بنى الله له بيتاً في أعلى الجنة، لشدة ذلك على النفس وأكثر ما يغلب ذلك في المذاهب والعقائد. فإن المراء طبع؛ فإذا ظن أن له عليه ثواباً اشتد عليه حرصه وتعاون الطبع والشرع عليه، وذلك خطأ محض، بل ينبغي للإنسان أن يكف لسانه عن أهل القبلة، وإذا رأى مبتدعاً تلطف في نصحه في خلوة لا بطريق الجدال. فإن الجدال يخيل إليه أنها حيلة منه في التلبيس وأن ذلك صنعة يقدر المجادلون من أهل مذهبه على أمثالها لو أرادوا، فتستمر البدعة في قلبه بالجدل وتتأكد فإذا عرف أن النصح لا ينفع اشتغل بنفسه وتركه، وقال ﷺ "رحم الله من كف لسانه عن أهل القبلة إلا بأحسن ما يقدر عليه وقال هشام بن عروة: كان عليه السلام يردد قوله هذا سبع مرات: وكل من اعتاد المجادلة مدة وأثنى الناس عليه ووجد لنفسه بسببه عزاً وقبولاً قويت فيه هذه المهلكات ولا يستطيع عنها نزوعاً إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل. وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها?

الآفة الخامسة

الخصومة

وهي أيضاً مذمومة وهي وراء الجدال والمراء؛ فالمراء طعن في كلام الغير بإظهار خلل فيه من غير أن يرتبط به غرض سوى تحقير الغير. وإظهار مزية الكياسة والجدال وعبارة عن أمر يتعلق بإظهار المذاهب وتقريرها. والخصومة لجاج في الكلام ليستوفي بها مال أو حق مقصود، وذلك تارة يكون ابتداء وتارة يكون اعتراضاً. والمراء لا يكون إلا باعتراض على كلام سبق. فقد قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ﷺ "إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "من جادل في خصومة بغير علم لم يزل في سخط الله حتى ينزع وقال بعضهم: إياك والخصومة فإنها تمحق الدين. ويقال: ما خاصم ورع قط في الدين. وقال ابن قتيبة: مر بي بشر بن عبد الله بن أبي بكرة فقال: ما يجلسك ههنا? قلت: خصومة بيني وبين ابن عم لي، فقال: إن لأبيك عندي يداً وإني أريد أن أجزيك بها، وإني والله ما رأيت شيئاً أذهب للدين ولا أنقص للمروءة ولا أضيع للذة وأشغل للقلب من الخصومة? قال: فقمت لأنصرف فقال لي خصمي: ما لك? قلت: لا أخاصمك، قال: إنك عرفت أن الحق لي، قلت: لا ولكن أكرم نفسي عن هذا قال: فإني لا أطلب منك شيئاً هو لك.

فإن قلت: فإذا كان للإنسان حق فلا بد له من الخصومة في طلبه أو في حفظه مهما ظلمه ظالم فكيف يكون حكمه وكيف تذم خصومته? فاعلم أن هذا الذم يتناول الذي يخاصم بالباطل والذي يخاصم بغير علم؛ مثل وكيف القاضي فإنه قبل أن يتعرف أن الحق في أي جانب هو يتوكل في الخصومة من أي جانب كان? فيخاصم بغير علم ويتناول الذي يطلب حقه، ولكنه لا يقتصر على قدر الحاجة بل يظهر اللدد في الخصومة على قصد التسلط أو على قصد الإيذاء ويتناول الذي يمزج بالخصومة كلمات مؤذية ليس يحتاج إليها في نصرة الحجة وإظهار الحق، ويتناول الذي يحمله على الخصومة محض العناد لقهر الخصم وكسره مع أنه قد يستحقر ذلك القدر من المال، وفي الناس من يصرح به ويقول: إنما قصدي عناده وكسر عرضه، وإني إن أخذت منه هذا المال ربما رميت به في بئر ولا أبالي، وهذا مقصوده اللدد والخصومة واللجاج وهو مذموم جداً.? فأما المظلوم الذي ينصر حجته بطريق الشرع من غير لدد وإسراف وزيادة لجاج على قدر الحاجة ومن غير قصد عناد وإيذاء ففعله ليس بحرام، ولكن الأولى تركه ما وجد إليه سبيلاً، فإنضبط اللسان في الخصومة على حد الاعتدال متعذر، والخصومة توغر الصدر وتهييج الغضب، وإذا هاج الغضب نسي المتنازع فيه وبقي الحقد بين المتخاصمين، حتى يفرح كل واحد بمساءة صاحبه ويحزن بمسرته ويطلق اللسان في عرضه، فمن بدأ بالخصومة فقد تعرض لهذه المحذورات، وقال ما فيه تشويش خاطره حتى إنه في صلاته يشتغل بمحاجة خصمه فلا يبقى الأمر على حد الواجب، فالخصومة مبدأ كل شر، وكذا المراء والجدل، فينبغي أن لا يفتح بابه إلا لضرورة، وعند الضرورة ينبغي أن يحفظ اللسان والقلب عن تبعات الخصومة وذلك متعذر جداً، فمن اقتصر على الواجب في خصومته سلم من الإثم ولا تذم خصومته، إلا أنه إن كان مستغنياً عن الخصومة فيما خاصم فيه لأن عنده ما يكفيه فيكون تاركاً للأولى ولا يكون آثماً، نعم أقل ما يفوته في الخصومة والمراء والجدال طيب الكلام وما ورد فيه من الثواب؛ إذ أقل درجات طيب الكلام إظهار، ولا خشونة في الكلام أعظم من الطعن والاعتراض الذي حاصله إما تجهيل وإما تكذيب، فإن من جادل غيره أو ماراه أو خاصمه فقد جهله أو كذبه فيفوت به طيب الكلام. وقد قال ﷺ "يمكنكم من الجنة طيب الكلام وإطعام الطعام وقد قال الله تعالى "وقولوا للناس حسناً" وقال ابن عباس رضي الله عنهما: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه السلام وإن كان مجوسياً إن الله تعالى يقول "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" وقال ابن عباس أيضاً: لو قال لي فرعون خيراً لرددت عليه. وقال أنس: قال رسول الله ﷺ "إن في الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام وألان الكلام وروي أن عيسى عليه السلام مر به خنزير فقال "مر بسلام، فقيل: يا روح الله أتقول هذا لخنزير? فقال: أكره أن أعود لساني الشر. وقال نبينا عليه السلام "الكلمة الطيبة صدقة وقال "اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة وقال عمر رضي الله عنه البر شيء هين وجه طليق وكلام لين. وقال بعض الحكماء: الكلام اللين يغسل الضغائن المستكنة في الجوارح. وقال بعض الحكماء: كل كلام لا يسخط ربك إلا أنك ترضي به جليسك فلا تكن به عليه بخيلاً، فإنه لعله يعوضك منه ثواب المحسنين. وهذا كله في فضل الكلام الطيب وتضاده الخصومة والمراء والجدال واللجاج، فإنه الكلام المستكره الموحش المؤذي للقلب المنغص للعيش المهيج للغضب الموغر للصدر. نسأل الله حسن التوفيق بمنه وكرمه.

الآفة السادسة

التقعر في الكلام بالتشدق وتكلف السجع

والفصاحة والتصنع فيه بالتشبيبات والمقدمات وما جرى به عادة المتفاصحين المدعين للخطابة

وكل ذلك من التصنع المذموم ومن التكلف الممقوت الذي قال فيه رسول الله ﷺ "أنا وأتقياء أمتي برءاء من التكلف" وقال ﷺ "إن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلساً الثرثارون المتفيقهون المتشدقون في الكلام وقالت فاطنة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم يأكلون ألوان الطعام ويلبسون ألوان الثياب ويتشدقون في الكلام وقال ﷺ "ألا هلك المتنطعون -ثلاث مرات- والتنطع هو التعمق والاستقصاء. وقال عمر رضي الله عنه: شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان. وجاء عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى أبيه سعد يسأله حاجة، فتكلم بين يدي حاجته بكلام فقال له سعد: ما كنت من حاجتك بأبعد منك اليوم! إني سمعت رسول الله ﷺ يقول "يأتي على الناس زمان يتخللون الكلام بألسنتهم كما تتخلل البقرة الكلأ بلسانها وكأنه أنكر عليه ما قدمه على الكلام من التشبب والمقدمة المصنوعة المتكلفة. وهذا أيضاً من آفات اللسان، ويدخل فيه كل سجع متكلف، وكذلك التفاصح الخارج عن حد العادة، وكذلك التكلف بالسجع في المحاورات "إذ قضى رسول الله ﷺ بغرة الجنين فقال بعض قوم الجاني: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل ومثل ذلك بطل? فقال "أسجعاً كسجع الأعراب وأنكر ذلك لأن أثر التكلف والتصنع بين عليه، بل ينبغي أن يقتصر في كل شيء على مقصوده: ومقصود الكلام التفهيم للغرض وما وراء ذلك تصنع مذموم. ولا يدخل في هذه تحسين ألفاظ الخطابة والتذكير من غير إفراد وإغراب، فإن المقصود منها تحريك القلوب وتشويقها وقبضها وبسطها، فرشاقة اللفظ تأثير فيه فهو لائق به. فأما المحاورات التي تجري لقضاء الحاجات فلا يليق بها السجع والتشدق والاشتغال به من التكلف المذموم، ولا باعث عليه إلا الرياء وإظهار الفصاحة والتميز بالبراعة وكل ذلك مذموم يكرهه الشرع ويزجر عنه.

الآفة السابعة

الفحش والسب وبذاءة اللسان

وهو مذموم ومنهي عنه ومصدره الخبث واللؤم قال ﷺ "إياكم والفحش فإن الله تعالى لا يحب الفحش ولا التفحش ونهى رسول الله ﷺ عن أن تسب قتلى بدر من المشركين فقال "لا تسبوا هؤلاء فإنه لا يخلص إليهم شيء مما تقولون وتؤذون الأحياء ألا إن البذاء لؤم وقال ﷺ ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذي وقال ﷺ "الجنة حرام على كل فاحش أن يدخلها وقال ﷺ "أربعة يؤذون أهل النار في النار على ما بهم من الأذى يسعون بين الحميم والجحيم يدعون بالويل والثبور: رجل يسيل فوه قيحاً ودماً فيقال له ما بال الأبعد قد آذاناً على ما بنا من الأذى? فيقول إن الأبعد كان ينظر إلى كل كلمة قذعة خبيثة فيستلذها كما يستلذ الرفث وقال ﷺ لعائشة يا عائشة "لو كان الفحش رجلاً لكان رجل سوء وقال ﷺ "البذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق فيحتمل أن يراد بالبيان في أمور الدين وفي صفات الله تعالى، فإن إلقاء ذلك مجملاً إلى أسماع العوام أولى من المبالغة في بيانه؛ إذ قد يثور من غاية البيان فيه شكوك ووساوس فإذا أجملت بادرت القلوب إلى القبول ولم تضطرب، ولكن ذكره مقروناً بالبذاء يشبه أن يكون المراد به المجاهرة بما يستحي الإنسان من بيانه، فإن الأولى في مثله الإغماض والتغافل دون الكشف والبيان، وقال ﷺ "إن الله لا يحب الفاحش المتفحش الصياح في الأسواق وقال جابر بن سمرة: كنت جالساً عند النبي ﷺ وأبي أمامي فقال ﷺ "إن الفحش والتفاحش ليسا من الإسلام في شيء وإن أحسن الناس إسلاماً أحاسنهم أخلاقاً وقال إبراهيم بن ميسرة يقال يؤتى بالفاحش المتفحش يوم القيامة في صورة كلب أو في جوف كلب. وقال الأحنف بن قيس: ألا أخبركم بأدوإ الداء: اللسان البذي والخلق الدني.

فهذه مذمة الفحش فأما حده وحقيقته فهو التعبير عن الأمور المستقبحة بالعبارات الصريحة، وأكثر ذلك يجري في ألفاظ الوقاع وما يتعلق به، فإن لأهل الفساد عبارات صريحة فاحشة يستعملونها فيه، وأهل الصلاح يتحاشون عنها بل يكنون عنها. ويدلون عليها بالرموز فيذكرون ما يقاربها ويتعلق بها، وقال ابن عباس: إن الله حي كريم يعفو ويكنو، كني باللمس عن الجماع فالمسيس واللمس والدخول والصحبة كنايات عن الوقاع وليست يفاحشة. وهناك عبارات فاحشة يستقبح ذكرها ويستعمل أكثرها في الشتم والتعيير، وهذه العبارات متفاوتة في الفحش وبعضها أفحش من بعض. وربما اختلف ذلك بعادة البلاد وأوائلها مكروهة وأواخرها محظورة وبينهما درجات يتردد فيه، وليس يختص هذا بالوقاع، بل بالكناية بقضاء الحاجة عن البول والغائط أولى من لفظ التغوط والخراء وغيرهما، فإن هذا أيضاً مما يخفى وكل ما يخفى يستحيا منه فلا ينبغي أن يذكر ألفاظه الصريحة فإنه فحش، وكذلك يستحسن في العادة الكناية عن النساء فلا يقال: قالت زوجتك كذا بل يقال قيل في الحجرة، أو من وراء الستر، أو قالت أم الأولاد. فالتلطف في هذه الألفاظ محمود والتصريح فيها يفضي إلى الفحش، وكذلك من به عيوب يستحيا منها فلا ينبغي أن يعبر عنها بصريح لفظها كالبرص والقرع والبواسير. بل يقال العارض الذي يشكوه وما يجري مجراه فالتصريح بذلك داخل في الفحش وجميع ذلك من آفات اللسان.

قال العلاء بن هرون: كان عمر بن عبد العزيز يتحفظ في من منطقه: فخرج تحت إبطه خراج فأتيناه نسأله لنرى ما يقول? فقلنا: من أين خرج? فقال: من باطن اليد. والباعث على الفحش إما قصد الإيذاء وإما الاعتياد الحاصل من مخالطة الفساق وأهل الخبث واللؤم ومن عادتهم السب. وقال أعرابي لرسول الله ﷺ: أوصني فقال "عليك بتقوى الله وإن امرؤ عيرك بشيء يعلمه فيك فلا تعيره بشيء فيه يكن وباله عليه وأجره لك ولا تسبن شيئاً" قال: فما سببت شيئاً بعده وقال عياض بن حمار: يا رسول الله إن الرجل من قومي يسبني وهو دوني هل علي من بأس أن أنتصر منه? فقال "المتسابان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم وقال ﷺ "ملعون من سب والديه وفي وراية "من أكبر الكبائر أن يسب الرجال والديه" قالوا يا رسول الله كيف يسب الرجل والديه? قال "يسب أبا الرجل فيسب الآخر أباه".

الآفة الثامنة

اللعن

إما لحيوان أو جماد أو إنسان وكل ذلك مذموم. قال رسول الله ﷺ "المؤمن ليس بلعان وقال ﷺ "لا تلاعنوا بلعنة الله ولا بغضبه ولا بجهنم وقال حذيفة: ما تلاعن قوم قط إلا حق عليهم القول. وقال عمران بن حصين: بينما رسول الله ﷺ في بعض أسفاره إذ امرأة من الأنصار على ناقة لها فضجرت منها فلعنتها فقال ﷺ "خذوا ما عليها وأعروها فإنها ملعونة قال: فكأني أنظر إلى تلك الناقة تمشي بين الناس لا يتعرض لها أحد. وقال أبو الدرداء: ما لعن أحد الأرض إلا قالت: لعن الله أعصانا لله: وقالت عائشة رضي الله عنها: سمع رسول الله ﷺ أبا بكر وهو يلعن بعض رقيقه فالتفت إليه وقال "يا أبا بكر أصديقين ولعانين كلا ورب الكعبة -مرتين أو ثلاثاً- فأعتق أبو بكر يومئذ رقيقه وأتى النبي ﷺ وقال: لا أعود. وقال رسول الله ﷺ "إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة وقال أنس: كان رجل يسير مع رسول الله ﷺ على بعير فلعن بعيره فقال ﷺ " يا عبد الله لا تسر معنا على بعين ملعون وقال ذلك إنكاراً عليه. واللعن عبارة عن الطرد والإبعاد من الله تعالى، وذلك غير جائز إلا على من اتصف بصفة تبعده من الله عز وجل وهو الكفر والظلم، بأن يقول لعنة الله على الظالمين وعلى الكافرين، وينبغي أن يتبع فيه لفظ الشرع فإن في اللعنة خطراً لأنه حكم على الله عز وجل بأنه قد أبعد الملعون وذلك غيب لا يطلع عليه غير الله تعالى، ويطلع عليه رسول الله ﷺ إذا أطلعه الله عليه.

والصفات المقتضية للعن ثلاثة: الكفر، والبدعة، والفسق. وللعن في كل واحد ثلاث مراتب.

الأولى: اللعن بالوصف الأعم كقولك لعنة الله الكافرين والمبتدعين والفسقة.

الثانية: اللعن بأوصاف أخص منه كقولك لعنة الله على اليهود والنصارى والمجوس وعلى القدرية والخوارج والروافض، أو على الزناة والظلمة وآكلي الربا، وكل ذلك جائز. ولكن في لعن أوصاف المبتدعة خطر لأن معرفة البدعة غامضة ولم يرد لفظ مأثور، فينبغي أن يمنع منه العوام لأن ذلك يستدعي المعارضة بمثله ويثير نزاعاً بين الناس وفساداً.

الثالثة: اللعن للشخص المعين وهذا فيه خطر كقولك: زيد لعنه الله، وهو كافر أو فاسق أو مبتدع، والتفصيل فيه أن كل شخص ثبتت لعنته شرعاً فتجوز لعنته كقولك. فرعون لعنه الله، وأبو جهل لعنه الله، لأنه قد ثبت أن هؤلاء ماتوا على الكفر وعرف ذلك شرعاً. وأما شخص بعينه في زماننا كقولك زيد لعنه الله، وهو يهودي مثلاً فهذا فيه خطر فإنه ربما يسلم فيموت مقرباً عند الله فكيف يحكم بكونه ملعوناً? فإن قلت: يلعن لكونه كافراً في الحال كما يقال للمسلم: رحمه الله، لكونه مسلماً في الحال، وإن كان يتصور أن يرتد? فاعلم أن معنى قولنا رحمه الله: أي ثبته الله على الإسلام الذي هو سبب الرحمة وعلى الطاعة، ولا يمكن أن يقال ثبت الله الكافر على ما هو سبب اللعنة فإن هذا سؤال للكفر وهو في نفسه كفر، بل الجائز أن يقال: لعنه الله إن مات على الكفر، ولا لعنه الله إن مات على الإسلام. وذلك غيب لا يدرى، والمطلق متردد بين الجهتين ففيه خطر، وليس في ترك اللعن خطر. وإذا عرفت هذا في الكافر فهو في زيد الفاسق أو زيد المبتدع أولى، فلعن الأعيان فيه خطر لأن الأعيان تتقلب في الأحوال إلا من أعلم به رسول الله ﷺ فإنه يجوز أن يعلم من يموت على الكفر، ولذلك عين قوماً باللعن فكان يقول في دعائه على قريش "اللهم عليك بأبي جهل بن هشام وعتبة بن ربيعة وذكر جماعة قتلوا على الكفر حتى إن من لم يعلم عاقبته كان يلعنه فنهى عنه إذ روي: أنه كان يلعن الذي قتلوا أصحاب بثر معونة في قنوته شهراً فنزل قوله تعالى "ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون يعني أنهم ربما يسلمون فمن أين تعلم أنهم ملعونون? وكذلك من بان لنا موته على الكفر جاز لعنه وجاز ذمه إن لم يكن فيه أذى على مسلم، فإن كان لم يجز كما روي أن رسول الله ﷺ سألا أبا بكر رضي الله عنه عن قبر مر به وهو يريد الطائف فقال: هذا قبر رجل كان عاتياً على الله ورسوله وهو سعيد بن العاص، فغضب ابنه عمرو بن سعيد وقال: يا رسول الله هذا قبر رجل كان أطعم للطعام وأضرب للهام من أبي قحافة فقال أبو بكر: يكلمني هذا يا رسول الله بمثل هذا الكلام? فقال ﷺ "اكفف عن أبي بكر" فانصرف ثم أقبل على أبي بكر فقال "يا أبا بكر إذا ذكرتم الكفار فعمموا فإنكم إذا خصصتم غضب الأبناء للآباء، فكف الناس عن ذلك وشرب نعيمان الخمر فحد مرات في مجلس رسول الله ﷺ فقال بعض الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به فقال ﷺ "لا تكن عوناً للشيطان على أخيك وفي وراية "لا تقل هذا فإنه يحب الله ورسوله" فنهاه عن ذلك، وهذا يدل على أن لعن فاسق بعينه غير جائز. وعلى الجملة ففي لعن الأشخاص خطر فليجتنب ولا خطر في السكوت عن لعن إبليس مثلاً فضلاً عن غيره.

فإن قيل: هل يجوز لعن يزيد لأنه قاتل الحسين أو آمر به? قلنا. هذا لم يثبت أصلاً فلا يجوز أن يقال إنه قتله أو أمر به ما لم يثبت، فضلاً عن اللعنة، لأنه لا تجوز نسبة مسلم إلى كبيرة من غير تحقيق. نعم يجوز أن يقال قتل ابن ملجم علياً وقتل أبو لؤلؤة عمر رضيالله عنهما فإن ذلك ثبت متواتراً. فلا يجوز أن يرمى مسلم بفسق أو كفر من غير تحقيق قال ﷺ "لا يرمى رجل رجلاً بالكفر ولا يرميه بالفسق إذا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك وقال ﷺ "ما شهد رجل على رجل بالكفر إلا باء به أحدهما، إن كان كافراً فهو كما قال، وإن لم يكن كافراً فقد كفر بتكفيره إياه وهذا معناه أن يكفره وهو يعلم أنه مسلم فإن ظن أنه كافر ببدعة أو غيرها كان مخطئاً لا كافراً. وقال معاذ: قال لي رسول الله ﷺ "أنهاك أن تشتم مسلماً أو تعصي إماماً عادلاً، والتعرض للأموات أشد قال مسروق دخلت على عائشة رضي الله عنها فقالت: ما فعل فلان لعنه الله? قلت توفى قالت: رحمه الله، قلت: وكيف هذا? قالت: قال رسول الله ﷺ "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا وقال عليه السلام "لا تسبوا الأموات فتؤذوا به الأحياء وقال عليه السالم "أيها الناس احفظوني في أصحابي وإخواني وأصهاري ولا تسبوهم، أيها الناس إذا مات الميت فاذكروا منه خيراً .

فإن قيل؛ فهل يجوز أن يقال: قاتل الحسين لعنه الله? أو الآمر بقتله لعنه الله? قلنا: الصواب أن يقال: قاتل الحسين إن مات قبل التوبة لعنه الله، لأنه يحتمل أن يموت بعد التوبة، فإن وحشياً قاتل حمزة عم رسول الله ﷺ قتله وهو كافر، ثم تاب عن الكفر والقتل جميعاً ولا يجوز أن يلعن، والقتل كبيرة ولا تنتهي إلى رتبة الكفر، فإذا لم يقيد بالتوبة وأطلق كان فيه خطر وليس في السكوت خطر فهو أولى.

وإنما أوردنا هذا لتهاون الناس باللعنة وإطلاق اللسان بها. والمؤمن ليس بلعان فلا ينبغي أن يطلق اللسان باللعنة إلا على من مات على الكفر، أو على الأجناس المعروفين بأوصافهم دون الأشخاص المعينين. فالاشتغال بذكر الله أولى فإن لم يكن ففي السكوت سلامة.

قال مكي بن إبراهيم: كنا عند ابن عون فذكروا بلال بن أبي بردة فجعلوا يلعنونه ويقعون فيه وابن عون ساكت فقالوا: يا ابن عون إنما تذكره لما ارتكب منك، فقال: إنما هما كلمتان تخرجان من صحيفتي يوم القيامة: لا إله إلا الله ولعن الله فلاناً، فلأن يخرج من صحيفتي لا إله إلا الله، أحب إلي من أن يخرج منها لعن الله فلاناً. وقال رجل لرسول الله ﷺ: أوصني فقال "أوصيك أن لا تكون لعاناً وقال ابن عمر: إن أبغض الناس إلى الله كل طعان ولعان. وقال بعضهم لعن المؤمن يعد قتله، وقال حماد بن زيد بعد أن روى هذا لو قلت إنه مرفوع لم أبال? وعن أبي قتادة قال: كان يقال "من لعن مؤمناً فهو مثل أن يقتله وقد نقل ذلك حديثاً مرفوعاً إلى رسول الله ﷺ.

ويقرب من اللعن الدعاء على الإنسان بالشر حتى الدعاء على الظالم كقول الإنسان مثلاً: لا صحح الله جسمه ولا سلمه الله وما يجري مجراه، فإن ذلك مذموم. وفي الخبر "إن المظلوم ليدعو على الظالم حتى يكافئه ثم يبقى للظالم عنده فضلة يوم القيامة .

الآفة التاسعة

الغناء والشعر

وقد ذكرنا في كتاب السماع ما يحرم من الغناء وما يحل فلا نعيده، وأما الشعر فكلام حسنه حسن وقبيحه قبيح غلا أن التجرد له مذموم. قال رسول الله ﷺ "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير له من أن يمتلئ شعراً وعن مسروق أن سئل عن بيت من الشعرفكرهه فقيل له في ذلك فقال: أنا أكره أن يوجد في صحيفتي شعر. وسئل بعضهم عن شيء من الشعر فقال: أجعل مكان هذا ذكراً فإن ذكر الله خير من الشعر وعلى الجملة فإنشاد الشعر ونظمه ليس بحرام إذا لم يكن في كلام مستكره قال ﷺ "إن من الشعر لحكمة نعم مقصود الشعر المدح والذم والتشبيب، وقد يدخله الكذب، وقد أمر رسول الله ﷺ حسان بن ثابت الأنصاري بهجاء الكفار والتوسع في المدح فإنه وإن كان كذباً فإنه لا يلتحق في التحريم بالكذب كقول الشاعر: ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق اللـه سـائلـه

فإن هذا عبارة عن الوصف بنهاية السخاء، فإن لم يكن صاحبه سخياً كان كاذباً، وإن كان سخياً فالمبالغة من صنعة الشعر فلا يقصد منه أن يعتقد صورته. وقد أنشدت أبيات بين يدي رسول الله ﷺ لو تتبعت لوجد فيها مثل ذلك فلم يمنع منه. قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله ﷺ يخصف نعله وكنت جالسة أغزل، فنظرت إليه فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً قالت: فبهت فنظر إلي فقال "مالك بهت? فقلت: يا رسول الله نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نوراً ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره قال "وما يقول يا عائشة أو كبير الهذلي" قلت: يقول هذين البيتين: ومبرأ من كل غبـر حـيضة وفساد مرضعة وداء مغـيل

وإذا نظرت إلى أسرة وجهـه برقت كبرق العارض المتهلل

قال فوضع ﷺ ما كان بيده وقام إلي وقبل ما بين عيني وقال "جزاك الله خيراً يا عائشة ما سررت مني كسروري منك ولما قسم رسول الله ﷺ الغنائم يوم حنين أمر للعباس بن مرداس بأربع قلائص فاندفع يشكو في شعر له وفي آخره: وما كان بدر ولا حابـس يسودان مردسا في مجمع

وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع

فقال ﷺ "اقطعوا لسانه" فذهب به أبو بكر الصديق رضي الله عنه حتى اختار مائة من الإبل ثم رجع وهو من أرض الناس، فقال له ﷺ "أتقول في الشعر?" فجعل يعتذر إليه ويقول: بأبي أنت وأمي إني لأجد للشعر دبيباً على لساني كدبيب النمل ثم يقرصني كما يقرص النمل فلا أجد بداً من قول الشعر، فتبسم ﷺ وقال "لا تدع العرب العشر حتى تدع الإبل الحنين

الآفة العاشرة

المزاح

وأصله مذموم منهي عنه إلا قدراً يسيراً يستثنى منه قال ﷺ "لا تمار أخاك ولا تمازحه فإن قلت: المماراة فيها إيذاء لأن فيها تكذيباً للأخ والصديق أو تجهيلاً له وأما المزاح فمطايبة وفيه انبساط وطيب قلب فلم ينهى عنه? فاعلم أن المنهي عنه الإفراط فيه أو المداومة عليه. أما المداومة فلأنه اشتغال باللعب والهزل فيه واللعب مباح ولكن المواظبة عليه مذمومة، وأما الإفراط فيه فإنه يورث كثرة الضحك وكثرة الضحك تميت القلب وتورث الضغينة في بعض الأحوال، وتسقط المهابة والوقار. فما يخلو عن هذه الأمور فلا يذم كما روي عن النبي ﷺ أنه قال "إن لأمزح ولا أقول إلا حقاً إلا أن مثله يقدر على أن يمزح ولا يقول إلا حقاً، وأما غيره إذا فتح باب المزاح كان غرضه أن يضحك الناس كيفما كان. وقد قال رسول الله ﷺ "إن الرجل ليتكم بالكلمة يضحك بها جلساءه يهوى في النار أبعد من الثريا وقال عمر رضي الله عنه: من كثير ضحكه قلت هيبته، ومن مزح استخف به، ومن أكثر من شيء عرف به، ومن كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه قل حياءه، ومن قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه. ولأن الضحك يدل على الغفلة عن الآخرة قال ﷺ "لو تعلمون ما أعلم لبكيتم كثيراً ولضحكتم قليلاً وقال رجل لأخيه: يا أخي هل أتاك أنك وارد النار? قال: نعم، قال: فهل أتاك أنك خارج منها? قال: لا، قال: ففيم الضحك? قيل فما رؤي ضاحكاً حتى مات. وقال يوسف بن أسباط: أقام الحسن ثلاثين سنة لم يضحك. وقيل أقام عطاء السلمي أربعين سنة لم يضحك ونظر وهيب بن الورد إلى قوم يضحكون في عيد فطر فقال: إن كان هؤلاء قد غفر لهم فما هذا فعل الشاكرين? وإن كان لم يغفر لهم فما هذا فعل الخائفين? وكان عبد الله بن أبي يعلى يقول: أتضحك ولعل أكفانك قد خرجت من عند القصار? وقال ابن عباس: من أذنب ذنباً وهو يضحك دخل النار وهو يبكي. وقال محمد بن واسع: إذا رأيت في الجنة رجلاً يبكي ألست تعجب من بكائه? قيل: بلى، قال: فالذي يضحك في الدنيا ولا يدري إلى ماذا يصير هو أعجب منه? فهذه آفة الضحك والمذموم منه أن يستغرق ضحكاً، والمحمود منه التبسم الذي ينكشف فيه السن ولا يسمع له صوت. وكذلك كان ضحك رسول الله ﷺ قال القاسم مولى معاوية: أقبل أعرابي إلى النبي ﷺ على قلوص له صعب فسلم فجعل كلما دنا من النبي ﷺ ليسأله يفر به فجعل أصحاب رسول الله ﷺ يضحكون منه، ففعل ذلك مراراً ثم وقصه فقتله فقيل: يا رسول الله إن الأعرابي قد صرعه قلوصه وقد هلك، فقال "نعم، وأفواهكم ملأى من دمه وأما أداء المزاح إلى سقوط الوقار فقد قال عمر رضي الله عنه: من مزح استخف به. وقال محمد بن المنكدر: قالت لي أمي يا بني لا تمازح الصبيان فتهون عندهم وقال سعيد بن العاص لابنه: يا بني لا تمازح الشريف فيحقد عليك ولا الدنيء فيجترئ عليك. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: اتقوا الله وإياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة ويجر إلى القبيح، تحدثوا بالقرآن وتجالسوا به فإن ثقل عليكم فحديث حسن من حديث الرجال. وقال عمر رضي الله عنه: أتدرون لم سمي المزاح مزاحاً? قالوا لا، قال: لأنه أزاح صاحبه عن الحق. وقيل: لكل شيء بذور وبذور العداوة المزاح. ويقال: المزاح مسلبة للنهي مقطعة للأصدقاء.

فإن قلت: قد نقل المزاح عن رسول الله ﷺ وأصحابه فكيف ينهى عنه? فأقول: إن قدرت على ما قدر عليه رسول الله ﷺ وأصحابه وهو أن تمزح ولا تقول إلا حقاً ولا تؤذي قلباً ولا تفرط فيه وتقتصر عليه أحياناً على الندور فلا حرج عليك فيه، ولكن من الغلط العظيم أن يتخذ الإنسان المزاح حرفة يواظب عليه ويفرط فيه ثم يتمسك بفعل الرسول ﷺ وهو كمن يدور نهاره مع الزنوج ينظر إليهم وإلى رقصهم ويتمسك بأن رسول الله ﷺ أذن لعائشة في النظر إلى رقص الزنوج في يوم عيد، وهو خطأ إذ من الصغائر ما يصير كبيرة بالإصرار، ومن المباحات ما يصير صغيرة بالإصرار، فلا ينبغي أن يغفل عن هذا نعم روى أبو هريرة أنهم قالوا يا رسول الله إنك تداعبنا فقال "إني وإن داعبتكم لا أقول إلا حقاً وقال عطاء: إن رجلاً سأل ابن عباس أكان رسول الله ﷺ يمزج? فقال: نعم، قال: فما كان مزاحه? قال: كان مزاحه أنه ﷺ كسا ذات يوم امرأة من نسائه ثوباً واسعاً فقال هلا "البسيه واحمدي وجري منه ذيلاً كذيل العروس وقال أنس: إن النبي ﷺ كان من أفكه الناس مع نسائه وروي أنه كان كثير التبسم وعن الحسن قال: أتت عجوز إلى النبي ﷺ فقال لها ﷺ "لا يدخل الجنة عجوز" فبكت فقال "إنك لست بعجوز يومئذ، قال الله تعالى "إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً" وقال زيد بن أسلم: إن امرأة يقال لها أم أيمن جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: إن زوجي يدعوك، قال "ومن هو أهو الذي بعينه بياض?" قالت: والله ما بعينه بياض! فقال "بل إن بعينه بياضاً" فقالت: لا والله، فقال ﷺ "ما من أحد إلا وبعينه بياض" وأراد به البياض المحيط بالحدقة وجاءت امرأة أخرى فقالت: يا رسول الله احملني على بعيد فقال "بل نحملك على ابن البعير" فقالت ما أصنع به إنه لا يحملني فقال ﷺ "ما من بعين إلا وهو ابن بعير فكان يمزح به وقال أنس: كان لأبي طلحة ابن يقال له أبو عمير وكان رسول الله ﷺ يأتيهم ويقول "يا أبا عمير ما فعل النغير لنغير كان يلعب به وهو فرخ العصفور. وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجت مع رسول الله ﷺ في غزوة بدر فقال "تعالي حتى أسابقك، فشددت درعي على بطني ثم خططنا خطاً فقمنا عليه واستبقنا فسبقني وقال "هذه مكان ذي المجاز وذلك أنه جاء يوماً ونحن بذي المجاز وأنا جارية قد بعثني أبي بشيء فقال "أعطينيه" فأبيت وسعيت وسعى في أثري فلم يدركني وقالت أيضاً: سابقني رسول الله ﷺ فسبقته، فلما حملت اللحم سابقني فسبقني، وقال "هذه بتلك وقالت أيضاً رضي الله عنها: كان عندي رسول الله ﷺ وسودة بنت زمعة فصنعت حريرة وجئت به فقلت لسودة: كلي، فقالت لا أحبه، فقلت: والله لتأكلن أو لألطخن به وجهك، فقالت: ما أنا بذائقته، فأخذت بيدي من الصحفة شيئاً مه فلطخت به وجههاً ورسول الله ﷺ جالس بيني وبينها، فخفض لها رسول الله ركبتيه لتستقيد مني فتناولت من الصحفة شيئاً فمسحت به وجهي وجعل رسول الله ﷺ يضحك وروي أن الضحاك بن سفيان الكلابي كان رجلاً دميماً قبيحاً، فلما بايعه النبي ﷺ قال: إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء -وذلك قبل أن تنزل آية الحجاب- أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها وعائشة جالسة تسمع، فقالت: أهي أحسن أم أنت? فقال: بل أنا أحسن منها وأكرم، فضحك رسول الله ﷺ من سؤالها إياه لأنه كان دميماً . وروى علقمة عن أبي سلمة أنه كان ﷺ يدلع لسانه للحسن ابن علي عليهما السلام فيرى الصبي لسانه فيهش له فقال له عيينة بن بدر الفزاري: والله ليكونن لي الإبن قد تزوج وبقل وجهه وما قبلته قط! فقال ﷺ "إن من لا يرحم لا يرحم فأكثر هذه المطايبات منقولة مع النساء والصبيان وكان ذلك منه ﷺ معالجة لضعف قلوبهم من غير ميل إلى هزل وقال ﷺ مرة لصهيب وبه رمد وهو يأكل تمراً "أتأكل التمر وأنت رمد? فقال: إنما آكل بالشق الآخر يا رسول الله فتبسم ﷺ قال بعض

الرواة حتى نظرت إلى نواجذه. وروي أن خوات ابن جبير الأنصاري كان جالساً إلى نسوة من بني كعب بطريق مكة فطلع عليه رسول الله ﷺ فقال "يا أبا عبد الله ما لك مع النسوة? فقال يفتلن ضفير الجمل لي شرود، قال: فمضى رسول الله ﷺ لحاجته ثم عاد فقال "يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد? قال: فسكت واستحييت وكنت بعد ذلك أتفرر منه كلما رأيته حياء منه، حتى قدمت المدينة وبعد ما قدمت المدينة قال: فرآني في المسجد يوماً أصلي فجلس إلي فطولت فقلا "لا تطول فإني أنتظرك" فلما سلمت قال يا أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد?" قال: فسكت واستحييت، فقام وكنت بعد ذلك أتفرر منه حتى لحقني يوماً وهو على حمار وقد جعل رجليه في شق واحد فقال "أبا عبد الله أما ترك ذلك الجمل الشراد بعد?" فقلت والذي بعثك بالحق ما شرد منذ أسلمت فقال "الله أكبر الله أكبر اللهم اهد أبا عبد الله" قال: فحسن إسلامه وهداه الله وكان نعيمان الأنصاري رجلاً مزاحاً فكان يشرب الخمر في المدينة فيؤتي به إلى النبي ﷺ فيضربه بنعله ويأمر أصحابه فيضربونه بنعالهم، فلما كثر ذلك منه قال له رجل من الصحابة: لعنك الله، فقال النبي ﷺ "لا تفعل فإنه يحب الله ورسوله" وكان لا يدخل المدينة رسل ولا طرفة إلا اشترى منها ثم أتى النبي ﷺ فيقول: يا رسول الله هذا قد اشتريته لك وأهديته لك فإذا جاء صاحبها يتقاضاه بالثمن جاء به إلى النبي ﷺ وقال: يا رسول الله أعطه ثمن متاعه، فيقول له ﷺ "أو لم تهده لنا" فيقول: يا رسول الله إنه لم يكن عندي ثمنه وأحببت أن تأكل منه، فيحضك النبي ﷺ ويأمر لصاحبه بثمنه فهذه مطايبات يباح مثلها على الندور لا على الدوام والمواظبة علياه هزل مذموم وسبب للضحك المميت للقلب.

الآفة الحادية عشر

السخرية والاستهزاء

وهذا محرم مهما كان مؤذياً كما قال تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن" ومعنى السخرية الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص على وجه يضحك منه: وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء، وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة وفيه معنى الغيبة. قالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت إنساناً فقال لي النبي ﷺ "والله ما أحب أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا وقال ابن عباس في قوله تعالى "يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك. وهذه إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب والكبائر. وعن عبد الله بن زمعة أنه قال سمعت رسول الله ﷺ وهو يخطب فوعظهم في ضحكهم من الضرطة فقال "علام يضحك أحدكم مما يفعل وقال ﷺ "إن المستهزئين بالناس يفتح لأحدهم باب من الجنة فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه، ثم يفتح له باب آخر فيقال هلم هلم فيجيء بكربه وغمه فإذا أتاه أغلق دونه فما يزال كذلك حتى إن الرجل ليفتح له الباب فيقال له هلم هلم فلا يأتيه وقال معاذ بن جبل: قال النبي ﷺ "من عير أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير والضحك عليها استهانة به واستصغاراً له. وعليه قوله تعالى "عسى أن يكونوا خيراً منهم" أي لا تستحقره استصغاراً فلعله خير منك.

وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به، فأما من جعل نفسه مسخرة وربما فرح من أن يسخر به كانت السخرية في حقه من جملة المزاح -وقد سبق ما يذم منه وما يمدح- وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به لما فيه من التحقير والتهاون. وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة كالضحك على خطه وعلى صنعته، أو على صورته وخلقته إذا كان قصيراً أو ناقصاً لعيب من العيوب. فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهي عنها.

الآفة الثانية عشر

إفشاء السر

وهو منهي عنه لما فيه من الإيذاء والتهاون بحق المعارف والأصدقاء. قال النبي ﷺ "إذا حدث الرجل الحديث ثم التفت فهي أمانة وقال مطلقاً "الحديث بينكم أمانة وقال الحسن: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك. ويروى أن معاوية رضي الله عنه أسر إلى الوليد بن عتبة حديثه فقال لأبيه: يا أبت إن أمير المؤمنين أسر إلي حديثاً وما أراه يطوى عنك ما بسطه إلى غيرك? قال: فلا تحدثني به فإن من كتم سره كان الخيار إليه، ومن أفشاه كان الخيار عليه قال: فقلت يا أبت وإن هذا ليدخل بين الرجل وبين ابنه? فقال: لا والله يا بني ولكن أحب أن لا تذلل لسانك بأحاديث السر، قال: فأتيت معاوية فأخبرته فقال: يا وليد أعتقك أبوك من رق الخطأ فإفشاء السر خيانة.

وهو حرام إذا كان فيه إضرار، ولؤم إن لم يكن في إضرار. وقد ذكرنا ما يتعلق بكتمان السر في كتاب آداب الصحبة فأغنى عن الإعادة.

الآفة الثالثة عشر

الوعد الكاذب

فإن اللسان سباق إلى الوعد، ثم النفس ربما لا تسمح بالوفاء فيصير الوعد خلفاً وذلك من أمارات النفاق قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" وقال ﷺ العدة عطية وقال ﷺ الوأي مثل الدين أو أفضل والوأي: الوعد. وقد أثنى الله تعالى على نبيه اسمعيل عليه السلام في كتابه العزيز فقال "إنه كان صادق الوعد" قيل إنه وعد إنساناً في موضع فلم يرجع إليه ذلك الإنسان بل نسي، فبقي اسمعيل اثنين وعشرين يوماً في انتظاره. ولما حضرت عبد الله بن عمر الوفاة قال: إنه كان خطب إلى ابنتي رجل من قريش وقد كان إليه مني شبه الوعد، فوالله لا ألقى الله بثلث النفاق! أشهدكم أني قد زوجته ابنتي. وعن عبد الله بن أبي الخنساء قال: بايعت النبي ﷺ قبل أن يبعث وبقيت له بقية فواعدته أن آتيه بها في مكانه ذلك فنسيت يومي والغد فأتيته اليوم الثالث وهو في مكانه، فقال "يا فتى لقد شققت علي أنا ههنا منذ ثلاث أنتظرك وقيل لإبراهيم: الرجل يواعد الرجل الميعاد فلا يجيء، قال: ينتظره إلى أن يدخل وقت الصلاة التي تجيء. وكان رسول الله ﷺ إذا وعد وعداً قال "عسى وكان ابن مسعود لا يعد وعداً إلا ويقول إن شاء الله وهو الأولى.

ثم إذا فهم مع ذلك الجزم في الوعد فلا بد من الوفاء إلا أن يتعذر، فإن كان عند الوعد عازماً على أن لا يفي فهذا هو النفاق. وقال أبو هريرة: قال النبي ﷺ "ثلاث من كن فيه فهو منافق،وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وقال عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: قال رسول الله ﷺ "أربع من كن فيه كان منافقاً ومن كانت فيه خلة منهن كان فيه خلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وهذا ينزل على عزم الخلف أو ترك الوفاء من غير عذر، فأما من عزم على الوفاء فعن له عذر منعه من الوفاء لم يكن منافقاً وإن جرى عليه ما هو صورة النفاق، ولكن ينبغي أن يحترز من صورة النفاق أيضاً كما يحترز من حقيقته، ولا ينبغي أن يجعل نفسه معذوراً من غير ضرورة حاجزة فقد روي أن رسول الله ﷺ كان وعد أبا الهيثم بن التهيان خادماً؛ فأتى بثلاثة من السبى فأعطى اثنين وبقي واحداً، فأتت فاطمة رضي الله عنها تطلب منه خادماً وتقول: ألا ترى أثر الرحى بيدي? فذكر موعده لأبي الهيثم فجعل يقول "كيف بموعدي لأبي الهيثم? فآخثره به على فاطمة -لما كان قد سبق من موعده له- مع أنها كانت تدير الرحى بيدها الضعيفة. ولقد كان ﷺ جالساً يقسم غنائم هوازن بحنين فوقف عليه رجل من الناس فقال: إن لي عندك موعداً يا رسول الله قال "صدقت، فاحتكم ما شئت، فقال: أحتكم ثمانين ضائنة وراعيها، قال "هي لك" وقال "احتكمت يسيراً ولصاحبه موسى عليه السلام التي دلته على عظام يوسف كانت أحزم منك وأجزل حكماً منك حين حكمها موسى عليه السلام فقالت حكمي أن تردني شابة وأدخل معك الجنة، قيل فكان الناس يضعفون ما احتكم به حتى جعلا مثلاً فقيل: أشح من صاحب الثمانين والراعي. وقد قال رسول الله ﷺ "ليس الخلف أن يعد الرجل الرجل وفي نيته أن يفي وفي لفظ آخر "إذا وعد لرجل أخاه وفي نيته أن يفي فلم يجد، فلا إثم عليه".

الآفة الرابعة عشرة

الكذب في القول واليمين

وهو من قبائح الذنوب وفواحش العيوب. قال اسمعيل بن واسط: سمعت أبا بكر الصديق رضي الله عنه يخطب بعد وفاة رسول الله ﷺ فقال قام فينا رسول الله ﷺ مقامي هذا عام أول -ثم بكى وقال "إياكم والكذب فإنه مع الفجور وهما في النار وقال أبو أمامة: قال رسول الله ﷺ "إن الكذب باب من أبواب النفاق وقال الحسن: كان يقال إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وإن الأصل الذي بني عليه النفاق الكذب. وقال عليه السلام "كبرت خيانة أن تحدث أخاك حديثاً هو لك به مصدق وأنت له به كاذب وقال ابن مسعود: قال النبي ﷺ "لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ومر رسول الله ﷺ برجلين يتبايعان شاة ويتحالفان، يقول أحدهما: والله لا أنقصك من كذا وكذا. ويقول الآخر: والله لا أزيدك على كذا وكذا، بالشاة وقد اشتراها أحدهما فقال "أوجب أحدهما بالإثم والكفارة وقال عليه السلام "الكذب ينقص الرزق وقال رسول الله ﷺ "إن التجار هم الفجار" فقيل يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع? قال "نعم ولكنهم يحلفون فيأثمون ويحدثون فيكذبون وقال ﷺ "ثلاثة نفر لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم: المنان بعطيته والمنفق سلعته بالحلف الفاجر والمسبل إزاره وقال ﷺ "ما حلف حالف بالله أدخل فيما مثل جناح بعوضة إلا كانت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة وقال أبو ذر قال رسول الله ﷺ "ثلاثة يحبهم الله: رجل كان في فئة فنصب نحره حتى يقتل أو يفتح الله عليه وعلى أصحابه، ورجل كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه حتى يفرق بينهما موت أو ظعن، ورجل كان معه قوم في سفر أو سرية فأطالوا السرى حتى أعجبهم أن يمسوا الأرض فنزلوا. فتنحى يصلى حتى يوقظ أصحابه للرحيل. وثلاثة يشنؤهم الله: التاجر أو البياع الحلاف، والفقير المختال والبخل المنان وقال ﷺ "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القول ويل له ويل له وقال ﷺ "رأيت كأن رجلاً جاءني فقال لي قم فقمت معه، فإذا أنا برجلين أحدهما قائم والآخر جالس، بيد القائم كلوب من حديد يلقمه في شدق الجالس فيجذبه حتى يبلغ كاهله، ثم يجذبه فليقمه الجانب الآخر فيمده فإذا مده رجع الآخر كما كان، فقلت للذي أقامني ما هذا? فقال: هذا رجل كذاب يعذب في قبره إلى يوم القيامة وعن عبد الله بن جراد قال: سألت رسول الله ﷺ فقلت يا رسول الله هل يزني المؤمن? قال "قد يكون ذلك" قال: يا نبي الله هل يكذب المؤمن? قال "لا" ثم أتبعها ﷺ بقول الله تعالى "إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله" وقال أبو سعيد الخدري: سمعت رسول الله ﷺ يدعو فيقول في دعائه "اللهم طهر قلبي من النفاق وفرجي من الزنا ولساني من الكذب وقال ﷺ "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: شيخ زان، وملك كذاب، وعائل مستكبر وقال عبد الله بن عامر: جاء رسول الله ﷺ إلى بيتنا وأنا صبي صغيرة فذهبت لألعب فقالت أمي: يا عبد الله تعالى حتى أعطيك فقال ﷺ "وما أردت أن تعطيه" قالت تمراً، فقال "أما إنك لو لم تفعلي لكتبت عليك كذبة وقال ﷺ "لو أفاء الله على نعماً عدد هذا الحصى لقسمتها بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً : وقال ﷺ وكان متكئاً "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين، ثم قعد وقال "إلا وقول الزور وقال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ "إن العبد ليكذب الكذبة ليتباعد الملك عنه مسيرة ميل من نتن ما جاء به وقال أنس: قال النبي ﷺ "تقبلوا إلي بست أتقبل لكم بالجنة" فقالوا وما هن? قال "إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا وعد فلا يخلف وإذا ائتمن فلا يخن وغضوا أبصاركم واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم وقال ﷺ "إن للشيطان كحلاً ولعوقاً ونشوقاً: أما لعوقه فالكذب، وأما نشوقه فالغضب، وأما كحله فالنوم وخطب عمر رضي الله عنه يوماً فقال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه

وسلم كقيامي هذا فيكم فقال "أحسنوا إلى أصحابي ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل على اليمين ولم يستحلف ويشهد ولم يستشهد وقال النبي ﷺ "من حدث عني بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين وقال ﷺ "من حلف على يمين بإثم ليقتطع بها مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله عز وجل وهو عليه غضبان وروي عن النبي ﷺ "أنه رد شهادة رجل في كذبة كذبها وقال ﷺ "كل خصلة يطبع أو يطوى عليها المسلم إلا الخيانة والكذب وقالت عائشة رضي الله عنها: ما كان من خلق أشد على أصحاب رسول الله ﷺ من الكذب ولقد كان رسول الله ﷺ يطلع على الرجل من أصحابه على الكذب فما ينجلي من صدره حتى يعلم أنه قد أحدث توبة لله عز وجل منها . وقال موسى عليه السلام: يا رب أي عبادك خير لك عملاً? قال من لا يكذب لسانه ولا يفجر قلبه ولا يزني فرجه. وقال لقمان لابنه: يا بني إياك والكذب فإنه شهي كلهم العصفور عما قليل يقلاه صاحبه. وقال عليه السلام في مدح الصدق "أربع إذا كن فيك لا يضرك ما فاتك من الدنيا: صدق الحديث وحفظ الأمانة وحسن خلق وعفة طعمة وقال أبو بكر رضي الله عنه في خطبة بعد وفاة رسول الله ﷺ: قام فينا رسول الله ﷺ مثل مقامي هذا عام أول -ثم بكى- وقال "عليكم بالصدق فإنه مع البر وهما في الجنة وقال معاذ: قال لي رسول الله ﷺ "أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث وأداء الأمانة والوفاء بالعهد وبذل السلام وخفض الجناح .

وأما الآثار: فقد قال علي رضي الله عنه: أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب وشر الندامة ندامة يوم القيامة وقال عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه: ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري. وقال عمر رضي الله عنه: أحبكم إلينا ما لم نركم أحسنكم اسماً فإذا رأيناكم فأحبكم إلينا أحسنكم خلقاً فإذا اختبرناكم فأحبكم إلينا أصدقكم حديثاً وأعظمكم أمانة. وعن ميمون بن أبي شبيب قال جلست أكتب كتاباً فأتيت على حرف إن أنا كتبته زينت الكتاب وكنت قد كذبت فعزمت على تركه فنوديت من جانب البيت "يثب الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة" وقال الشعبي: ما أدري أيهما أبعد غور في النار الكذاب أو البخيل? وقال ابن السماك: ما أراني أوجر على ترك الكذب لأني إنما أدعه أنفه. وقيل الخالد بن صبيح: أيسمى الرجل كاذباً بكذبة واحدة? قال: نعم وقال مالك بن دينار: قرأت بعض الكتب ما من خطيب إلا وتعرض خطبته على عمله فإن كان صادقاً صدق وإن كان كاذباً قرضت شفتاه بمقاريض من نار كلما قرضتا نبتتا. وقال مالك بن دينار: الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما صاحبه وكلم عمر بن عبد العزيز الوليد بن عبد الملك في شيء فقال له: كذبت، فقال عمر: والله ما كذبت منذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.

بيان ما رخص فيه من الكذب

اعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر الشيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل فيكون مأذوناً فيه، وربما كان واجباً.

قال ميمون بن مهران: الكذب في بعض المواطن خير من الصدق، أرأيت لو أن رجلاً سعى خلف إنسان بالسيف ليقتله فدخل داراً فانتهى إليك فقال: أرأيت فلاناً? ما كنت قائلاً? ألست تقول: لم أره? وما تصدق به. وهذا الكذب واجب.

فنقول: الكلام وسيلة إلى المقاصد فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً، كما أن عصمة دم المسلم واجبة. فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم فالكذب فيه واجب. ومهما كان لا يتم مقصود الحرب أو إصلاح ذات البين أن استمالة قلب المجني عليه إلا بكذب فالكذب مباح، إلا أنه ينبغي أن يحترز منه ما أمكن، لأنه إذا فتح باب الكذب على نفسه فيخشى أن يتداعى إلى ما يستغنى عنه وإلى ما لا يقتصر على حد الضرورة، فبكون الكذب حراماً في الأصل إلا لضرورة.

والذي يدل على الاستثناء ما روي عن أم كلثوم قالت: ما سمعت رسول الله ﷺ يرخص في شيء من الكذب إلا في ثلاث: الرجل يقول القول يريد به الإصلاح، والرجل يقول القول في الحرب، والرجل يحدث امرأته والمرأة تحدث زوجها وقالت أيضاً: قال رسول الله ﷺ "ليس بكذاب من اصلح بين اثنين فقال خيراً أو نمى خيراً وقالت أسماء بنت يزيد: قال رسول الله ﷺ "كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا رجل كذب بين مسلمين ليصح بينهما وروي عن أبي كامل قال: وقع بين اثنين من أصحاب النبي ﷺ كلام حتى تصارما فلقيت أحدهما فقلت: ما لك ولفلان فقد سمعته يحسن عليك الثناء? ثم لقيت الآخر فقلت له مثل ذلك حتى اصطلحا، ثم قلت: أهلكت نفسي وأصلحت بين هذين! فأخبرت النبي ﷺ فقال "يا أبا كاهل أصلح بين الناس أي ولو بالكذب. وقال عطاء بن يسار: قال رجل للنبي ﷺ أكذب على أهلي? قال "لا خير في الكذب" قال: أعدها وأقول لها، قال "لا جناح عليك .

وروي أن ابن أبي عذرة الدؤلي وكان في خلافة عمر رضي الله عنه كان يخلع النساء اللاتي يتزوج بهن فطارت له في الناس من ذلك أحدوثة يكرهها، فلما علم بذلك أخذ بيد عبد الله بن الأرقم حتى أتى به إلى منزله، ثم قال لامرأته: أنشدك بالله هل تبغضيني? قالت: لا تنشدني، قال: فإني أنشدك الله، قالت: نعم، فقال لابن الأرقم: أتسمع? ثم انطلقا حتى أتيا عمر رضي الله عنه فقال: إنكم لتحدثون إني أظلم النساء وأخلعهن فأسأل ابن الأرقم، فسأله فأخبره، فأرسل إلى امرأة بن أبي عذرة فجاءت هي وعمتها فقال: أنت التي تحدثين لزوجك أنك تبغضينه? فقالت: إني أول من تاب وراجع أمر الله تعالى إنه ناشدني فتحرجت أن أكذب أفأكذب يا أمير المؤمنين? قال: نعم فاكذبي فإن كانت إحداكن لا تحب أحدنا فلا تحدثه بذلك، فإن أقل البيوت الذي بيني على الحب ولكن الناس يتعاشرون بالإسلام والأحساب.

وعن النواس بن سمعان الكلابي قال: قال رسول الله ﷺ "ما لي أراكم تتهافتون في الكذب تهافت الفراش في النار? كل الكذب يكتب على ابن آدم لا محالة إلا أن يكذب الرجل في الحرب، فإن الحرب خدعة، أو يكون بين الرجلين شحناء فيصلح بينهما، أو يحدث امرأته يرضيها وقال ثوبان الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلماً أو دفع عنه ضرراً. وقال علي رضي الله عنه: إذا حدثتكم عني النبي ﷺ فلأن أخر من السماء أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيني وبينكم فالحرب خدعة.

فهذه الثلاث ورد فيها صريح الاستثناء، وفي معناها ما عداها إذا ارتبط به مقصود صحيح له أو لغيره. أما ماله: فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكره، أو يأخذه سلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكر ذلك، فيقول: ما زنيت وما سرقت. وقال ﷺ "من ارتكب شيئاً من هذه القاذورات فليستتر بستر الله وذلك أن إظهار الفاحشة فاحشة أخرى، فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلماً وعرضه بلسانه وإن كان كاذباً.

وأما عرض غيره: فبأن يسأله عن سر أخيه فله أن ينكره، وأن يصلح بين اثنين، وأن يصلح بين الضرات من نسائه بأن يظهر لكل واحد أنها أحب إليه، وإن كانت امرأته لا تطاوعه إلا بوعد لا يقدر عليه فيعدها في الحال تطييباً لقلبها، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد فلا بأس به. ولكن الحد فيه أن الكذب محذور ولو صدق في هذه المواضع تولد منه محذور. فينبغي أن يقابل أحدهما بالآخر ويزن بالميزان القسط، فإذا علم أن المحذور الذي يحصل بالصدق أشد وقعاً في الشرع من الكذب فله الكذب، وإن كان ذلك المقصود أهون من مقصود الصدق فيجب الصدق، وقد يتقابل الأمران بحيث يتردد فيهما، وعند ذلك الميل إلى الصدق أولى لأن الكذب يباح لضرورة أو حاجة مهمة. فإن شك في كون الحاجة مهمة فالأصل التحريم فيرجع إليه، ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، وكذلك مهما كانت الحاجة له فيستحب له أن يترك أغراضه ويهجر الكذب، فأما إذا تعلق بغرض غيره فلا تجوز المسامحة لحق الغير والإضرر به؛ وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم، ثم هو لزيادات المال والجاه ولأمور ليس فواتها محذوراً، حتى إن المرأة لتحكي عن زوجها ما تفخر به وتكذب لأجل مراغمة الضرات، وذلك حرام. وقالت أسماء سمعت امرأة سألت رسول الله ﷺ قالت: إن لي ضرة وإني أتكثر من زوجي بما لم يفعل أضارها بذلك فهل على شيء فيه? فقال ﷺ "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور وقال ﷺ "من تطعم بما لا يطعم أو قال لي وليس له أو أعطيت ولم يعط فهو كلابس ثوبي زور يوم القيامة ويدخل في هذا فنوى العالم بما لا يتحققه، وروايته الحديث الذي لا يتثبته إذ غرضه أن يظهر فضل نفسه، فهو لذلك يستنكف من أن يقول: لا أدري، وهذا حرم، ومما يلتحق بالنساء الصبيان، فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد أو عيد أو تخويف كاذب كان ذلك مباحاً. نعم روينا في الأخبار أن ذلك يكتب كذباً، ولكن الكذب المباح أيضاً قد يكتب ويحاسب عليه ويطالب بتصحيح قصده فيه ثم يعفى عنه، لأنه إنما أبيح بقصد الإصلاح ويتطرق إليه غرور كبير، فإنه قد يكون الباعث له حظه وغرضه الذي هو مستغن عنه وإنما يتعلل ظاهراً بالإصلاح فلهذا يكتب. وكل من أتي بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله هل هو أهم في الشرع من الصدق أم لا? وذلك غامض جداً والحزم تركه إلا أن يصير واجباً بحيث لا يجوز تركه كما لو أدى إلى سفك دم أو ارتكاب معصية كيف كان.

وقد ظن ظانون أنه يجوز وضع الأحاديث في فضائل الأعمال وفي التشديد في المعاصي، وزعموا أن القصد منه صحيح وهو خطأ محض، إذ قال ﷺ "من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار وهذا لا يرتكب إلا لضرورة ولا ضرورة إذ في الصدق مندوحة عن الكذب ففيما ورد من الآيات والأخبار كفاية عن غيرها. وقول القائل: إن ذلك قد تكرر على الأسماع وسقط وقعه، وما هو جديد فوقعه أعظم، فهذا هوس إذ ليس هذا من الأغراض التي تقاوم محذور الكذب على رسول الله ﷺ وعلى الله تعالى ويؤدي فتح بابه إلى أمور تشوش الشريعة فلا يقاوم خير هذا شره أصلى. والكذب على رسول الله ﷺ من الكبائر التي لا يقاومها شيء. نسأل الله العفو عنا وعن جميع المسلمين.

بيان الحذر من الكذب بالمعاريض

قد نقل عن السلف أن في المعاريض مندوحة عن الكذب قال عمر رضي الله عنه: أما في المعاريض ما يكفي الرجال عن الكذب? وروى ذلك عن ابن عباس وغيره. وإنما أرادوا بذلك إذا اضطر الإنسان إلى الكذب فأما إذا لم تكن حاجة وضرورة فلا يجوز التعويض ولا التصريح جميعاً، ولكن التعويض أهون. ومثال التعويض ما روى أن مطرفاً دخل على زياد فاستيطأه فتعلل بمرض وقال: ما رفعت جنبي مذ فارقت الأمير إلا ما رفعني الله. وقال إبراهيم: إذا بلغ الرجل عنك شيء فكرهت أن تكذب فقل: إن الله تعالى ليعلم ما قلت من ذلك من شيء. فيكون قوله "ما" حرف نفي عند المستمع، وعنده الإبهام. وكان معاذ بن جبل عاملاً لعمر رضي الله عنه فلما رجع قالت له امرأته ما جئت به مما يأتي به العمال إلى أهلهم? وما كان قد أتاها بشيء. فقال: كان عندي ضاغط، قالت: كنت أميناً عند رسول الله ﷺ وعند أبي بكر رضي الله عنه. فبعث عمر معك ضاغطاً? وقامت بذلك بين نسائها واشتكت عمر، فلما بلغه ذلك دعا معاذاً وقال: بعثت معك ضاغطاً? قال: لم أجد ما أعتذر به إليها إلا ذلك، فضحك عمر رضي الله عنه وأعطاه شيئاً فقال. أرضها به -ومعنى قوله ضاغطاً يعني رقيباً وأراد به الله تعالى- وكان النخعي لا يقول لابنته: أشتري لك سكراً بل يقول: أرأيت لو اشتريت لك سكراً? فإنه ربما لا يتفق له ذلك. وكان إبراهيم إذا طلبه من يكره أن يخرج إليه وهو في الدار قال للجارية: قولي له أطلبه في المسجد ولا تقولي له ليس ههنا كيلا يكون كذباً. وكان الشعبي إذا طلب في المنزل هو يكرهه خط دائرة وقال للجارية: ضعي الأصبع فيها وقولي ليس ههنا. وهذا كله في موضع الحاجة فأما في غير موضع الحاجة فلا، لأن هذا تفهيم للكذب وإن لم يكن اللفظ كذباً فهو مكروه على الجملة كما روى عبد الله بن عتبة قال: دخلت مع أبي على عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فخرجت وعلى ثوب، فجعل الناس يقولون هذا كساكه أمير المؤمنين? فكنت أقول جزى الله أمير المؤمنين خيراً، فقال لي أبي يا بني اتق الكذب وما أشبهه، فنهاه عن ذلك لأن فيه تقريراً لهم عن ظن كاذب لأجل غرض المفاخرة وهذا غرض باطل لا فائدة فيه.

نعم المعاريض تباح لغرض خفيف كتطييب قلب الغير بالمزاح كقوله ﷺ "لا يدخل الجنة عجوز وقوله للأخرى "الذي في عين زوجك بياض" وللأخرى "نحملك على ولد البعير" وما أشبهه. وأما الكذب الصريح كما فعله النعمان الأنصاري مع عثمان في قصة الضرير إذ قال له إنه نعيمان، وكما يعتاده الناس من ملاعبة الحمقى بتغريرهم بأن امرأة قد رغبت في تزويجك، فإن كان فيه ضرر يؤدي إلى إيذاء قلب فهو حرام، وإن لم يكن إلا لمطايبته فلا يوصف صاحبها بالفسق ولكن ينقص ذلك من درجة إيمانه. قال ﷺ "لا يكمل للمرء الإيمان حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وحتى يجتنب الكذب في مزاحه وأما قوله عليه السلام "إن الرجل ليتكلم بالكلمة ليضحك بها الناس يهوى بها في النار أبعد من الثريا أراد به ما فيه غيبة مسلم أو إيذاء قلب دون محض المزاح.

ومن الكذب الذي لا يوجب الفسق ما جرت به العادة في المبالغة كقوله طلبت كذا وكذا مرة وقلت لك كذا مائة مرة، فإنه لا يريد به تفهيم المرات بعددها بل تفهيم المبالغة، فإن لم يكن طلبه إلا مرة واحدة كان كاذباً، وإن كان طلبه مرات لا يعتاد مثلها في الكثرة لا يأثم وإن لم تبلغ مائة، وبينهما درجات يتعرض مطلق اللسان بالمبالغة فيها لخطر الكذب. ومما يعتاد الكذب فيه ويتساهل به أن يقال: كل الطعام، فيقول: لا أشتهيه؛ وذلك منهي عنه وهو حرام، وإن لم يكن فيه غرض صحيح قال مجاهد: قالت أسماء بنت عميس، كنت صاحبة عائشة في الليلة التي هيأتها وأدخلتها على رسول الله ﷺ ومعي نسوة قالت: فوالله ما وجدنا عنده قرى إلا قدحاً من لبن. فشرب ثم ناوله عائشة، قالت: فاستحيت الجارية فقلت: لا تردي يد رسول الله ﷺ خذي منه، قالت: فأخذت منه على حياء فشربت منه ثم قال "ناولي صواحبك" فقلت: لا نشتهيه، فقال "لا تجمعن جوعاً وكذباً" قالت: فقلت يا رسول الله إن قالت إحدانا لشيء تشتهيه لا أشتهيه أيعد ذلك كذباً? قال "إن الكذب ليكتب كذباً، حتى تكتب الكذيبة كذيبة وقد كان أهل الورع يحترزون عن لتسامح بمثل هذا الكذب.

قال الليث بن سعد: كانت عينا سعد بن المسيب ترمص حتى يبلغ الرمص خارج عينيه، فيقال له: لو مسحت عينيك? فيقول: وأين قول الطبيب: لا تمس عينيك فأقول: لا أفعل? وهذه مراقبة أهل الورع. ومن تركه انسل لسانه في الكذب عند حد اختياره فيكذب ولا يشعر. وعن خوات التيمي قال: جاءت أخت الربيع بن خثيم عائدة لابن له فانكبت عليه، فقالت: كيف أنت يا بني? فجلس الربيع وقال: أرضعتيه? قالت: لا، قال: ما عليك لو قلت، يا ابن أخي فصدقت? ومن العادة أن يقول: يعلم الله، فيما لا يعمله. قال عيسى عليه السلام: إن من عظم الذنوب عند الله أن يقول العبد إن الله يعلم، لما لا يعلم. وربما يكذب في حكاية المنام، والإثم فيه عظيم إذ قال عليه السلام "إن من أعظم الفرية أن يدعى الرجل إلى غير أبيه أو يرى عينيه في المنام ما لم ير أو يقول على ما لم أقل وقال عليه السلام "من كذب في حلم كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بعاقد بينهما أبداً .

الآفة الخامسة عشرة

الغيبة

والنظر فيها طويل فلنذكر أولاً مذمة الغيبة وما ورد فيها من شواهد الشرع، وقد نص الله سبحانه على ذمها في كتابه وشبه صاحبها بآكل لحم الميتة، فقال تعالى "ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه" وقال عليه السلام "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه والغيبة تتناول العرض وقد جمع الله بينه وبين المال والدم، وقال أبو برزة: قال عليه السلام "لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تفاحشوا ولا تدابروا ولا يغتب بعضكم بعضاً وكونوا عباد الله إخواناً وعن جابر وأبي سعيد قالا: قال رسول الله ﷺ "إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا، فإن الرجل يزني ويتوب فيتوب الله سبحانه عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه وقال أنس: قال رسول الله ﷺ "مررت ليلة سرى بي على أقوام يخمشون وجوههم بأظافيرهم فقلت يا جبريل من هؤلاء? قال هؤلاء الذين يغتابون الناس ويقعون في أعراضهم وقال سليم بن جابر: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فقلت علمني خيراً أنتفع به، فقال "لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تصب من دلوك في إناء المستقى، وأن تلقى أخاك ببشر حسن وإن أدبر فلا تغتابه وقال البراء: خطبنا رسول الله ﷺ حتى أسمع العواتق في بيوتهن فقال "يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته وقيل أوحي الله إلى موسى عليه السلام: من مات تائباً من الغيبة فهو آخر من يدخل الجنة، ومن مات مصراً عليها فهو أول من يدخل النار. وقال أنس: أمر رسول الله ﷺ الناس بصوم يوم فقال "لا يفطرن أحد حتى آذن له" فصام الناس حتى إذا أمسوا جعل الرجل يجيء فيقول: يا رسول الله ظللت صائماً فائذن لي لأفطر فيأذن له، والرجل والرجل حتى جاء رجل فقال: يا رسول الله فتاتان من أهلك ظلتا صائمتين وإنهما يستحيان أن يأتياك فائذن لهما أن يفطرا! فأعرض عنه ﷺ، ثم عاوده فأعرض عنه، ثم عاوده فقال "إنهما لم يصوما وكيف يوم من ظل نهاره يأكل لحم الناس? اذهب فمرهما إن كانتا صائمتين أن تستيئا" فرجع إليهما فأخبرهما فاستقاءتا، فقاءت كل واحدة منهما علقة من دم، فرجع إلى النبي ﷺ فأخبره فقال: والذي نفسي بيده لو بقيتا في بوطنهما لأكلتهما النار وفي رواية: أنه لما أعرض عنه جاء بعد ذلك وقال يا رسول الله والله إنهما قد ماتتا أو كادتا أن تموتا، فقال ﷺ "ائتوني بهما" فجاءتا فدعا رسول الله ﷺ بقدح فقال لإحداهما "قيئي" فقاءت من قيح ودم وصديد حتى ملأت القدح، وقال للأخرى "قيئي" فقاءت كذلك، فقال "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس وقال أنس: خطبنا رسول الله ﷺ فذكر الربا وعظم شأنه فقال "إن الدرهم يصيبه الرجل من الربا أعظم عند الله في الخطيئة من ست وثلاثة زنية يزنيها الرجل وأربى الربا عرض المسلم وقال جابر كنا مع رسول الله ﷺ في مسير فأتى على قبرين يعذب صاحباهما فقال "إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يغتاب الناس، وأما الآخر فكان لا يستنزه من بوله" فدعا بجريدة رطبة أو جريدتين فكسرهما ثم أمر بكل كسرة فغرست على قبر وقال "أما إنه سيهون من عذابهما ما كانتا رطبتين -أو ما لم ييبسا- . ولما رحم رسول الله ﷺ ماعزاً في الزنا قال رجل لصاحبه هذا أقعص كما يقعص الكلب، فمر ﷺ وهما معه بجيفة فقال "انهشا منها" فقالا: لا رسول الله ننهش جيفة? فقال "ما أصبتما من أخيكما أنتن من هذه وكان الصحابة رضي الله عنهم يتلاقون بالبشر ولا يغتابون عند الغيبة ويرون ذلك أفضل الأعمال ويرون خلافه عادة المنافقين. وقال أبو هريرة: من أكل لحم أخيه في الدنيا قرب إليه لحمه في الآخرة وقيل له كل ميتاً كما أكلته حياً، فيأكله فينضج ويكلح وروي مرفوعاً كذلك. وروي أن رجلين كانا قاعدين عند باب من أبواب المسجد فمر بهما رجل كان مخنثاً فترك ذلك. فقالا: لقد بقي فيه منه شيء وأقيمت الصلاة فدخلا فصليا مع الناس، فحاك

في أنفسهما ما قالا فأتيا عطاء فسألاه فأمرهما أن يعيدا الوضوء والصلاة وأمرهما أن يقضيا الصيام إن كانا صائمين. وعن مجاهد أنه قال في "ويل لكل همزة لمزة" الهمزة: الطعان في الناس، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس. وقال قيادة: ذكر لنا عذاب القبر ثلاث أثلاث: ثلث من الغيبة، وثلث من النميمة، وثلث من البول. وقال الحسن: والله للغيبة أسره في دين الرجل المؤمن من الأكله في الجسد. وقال بعضهم: أدركنا السلف وهم لا يرون العبادة في الصوم ولا في الصلاة ولكن في الكف عن أعراض الناس. وقال ابن عباس: إذا أردت ان تذكر عيوب صاحبك فاذكر عيوبك. وقال أبو هريرة يبصر أحدكم القذى في عين أخيه ولا يبصر الجذع في عين نفسه. وكان الحسن يقول: ابن آدم إنك لن تصيب حقيقة الإيمان حتى لا تغيب في الناس بعيب هو فيك، وحتى تبدأ بصلاح ذلك الغيب فتصلحه من، فإذا فعلت ذلك كان شعلك في خاصة نفسك، وأحب العباد إلى الله من كان هكذا. وقال مالك بن دينار: مر عيسى عليه السلام ومعه الحواريون بجيفة كلب فقال الحواريون: ما أنتن ريح هذا الكلب! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أشد بياض أسنانه! كأنه رضي الله عنهما رجلاً يغتاب آخر فقال له: إياك والغيبة فإنها إدام كلاب الناس. وقال عمر رضي الله عنه: عليكم بذكر الله تعالى فإنه شفاء وإياكم وذكر الناس فإنه داء. نسأل الله حسن التوفيق وطاعته.

بيان معنى الغيبة وحدودها

اعلم أن حد الغيبة أن تذكر أخاك بما يكرهه لو بلغه، سواء ذكرته بنقص في بدنه أو نسبه أو في حلقه أو في فعله أو في قوله أو في دينه أو في دنياه، حتى في ثوبه وداره ودابته.

أما البدن: فكذكرك العمش والحول والقرع والقصر والطول والسواد والصفرة، وجميع ما يتصور أن يوصف به مما يكرهه كيفما كان. وأما النسب: فبأن تقول أبوه نبطي أو هندي أو فاسق أو خسيس أو إسكاف أو زبال، أو شيء مما يكرهه كيفما كان. وأما الخلق: فبأن تقول هو سيئ الخلق بخيل متكبر مراء شديد الغضب جبال عاجز ضعيف القلب متهور وما يجري مجراه. وأما أفعاله المتعلقة بالدين: فكقولك هو سارق أو كذاب أو شارب خمر أو خائن أو ظالم أو متهاون بالصلاة أو الزكاة أو لا يحسن الركوع أو السجود أو لا يحترز من النجاسات أو ليس باراً بوالديه أو لا يضع الزكاة موضعها أو لا يحسن قسمها أو لا يحرص صومه عن الرفث والغيبة والتعرض لأعراض الناس. وأما فعله المتعلق بالدنيا: فكقولك إنه قليل الأدب متهاون بالناس، أو لا يرى لأحد على نفسه حقاً أو يرى لنفسه الحق على الناس، أو أنه كثير الكلام كثير الأكل نئوم ينام في غير وقت النوم ويجلس في غير موضعه. وأما في ثوبه فكقولك إنه واسع الكم طويل الذيل وسخ الثياب.

وقال قوم: لا غيبة في الدين لأنه ما ذمه الله تعالى فذكره بالمعاصي وذمه بها يجوز، بدليل ما روي أن رسول الله ﷺ ذكرت له امرأة وكثرة صلاحها وصومها ولكنها تؤذي جيرانها بلسانها فقال "هي في النار وذكرت عنده امرأة أخرى بأنها بخيلة فقال "فما خيرهم إذن فهذا فاسد لأنهم كانوا يذكرون ذلك لحاجتهم إلى تعرف الأحكام بالسؤال، ولم يكن غرضهم التنقيص ولا يحتاج إليه في غير مجلس الرسول ﷺ. والدليل عليه إجماع الأمة على أن من ذكر غيره بما يكرهه فهو مغتاب لأنه دخل فيما ذكره رسول الله ﷺ في حد الغيبة.

وكل هذا وإن كان صادقاً فيه فهو به مغتاب عاص لربه وآكل لحم أخيه، بدليل ما روي أن النبي ﷺ قال "هل تدرون ما الغيبة? قالوا: الله ورسوله أعلم قال "ذكرك أخاك بما يكرهه" قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقوله? قال "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه فقد بهته وقال معاذ بن جبل: ذكر رجل عند رسول الله ﷺ فقالوا: ما أعجزه! فقال ﷺ "اغتبتم أخاكم" قالوا يا رسول الله قلنا ما فيه، قال "إن قلتم ما ليس فيه فقد بهتموه وعن حذيفة عن عائشة رضي الله عنها أنها ذكرت عند رسول الله ﷺ امرأة فقالت: إنها قصيرة فقال ﷺ "اغتبتيها وقال الحسن ذكر الغير ثلاثة الغيبة والبهتان والإفك، وكل في كتاب الله عز وجل؛ فالغيبة أن تقول ما فيه، والبهتان أن تقول ما ليس فيه، والإفك أن تقول ما بلغك وذكر ابن سيرين رجلاً فقال: ذاك الرجل الأسود، ثم قال أستغفر الله إني أراني قد اغتبته. وذكر ابن سيرين غبراهيم النخعي فوضع يده على عينه ولم يقل الأعور. وقالت عائشة لا يغتابن أحدكم أحداً فإن قلت لامرأة مرة وأنا عند النبي ﷺ إن هذه لطويلة الذيل فقال لي "الفظى الفظى" فلفظت مضغة لحم .

بيان أن الغيبة لا تقتصر على اللسان

اعلم أن الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة وكل ما يفهم المقصود فهو داخل في الغيبة وهو حرام. فمن ذلك قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة فما ولت أومأت بيدي أنها قصير فقال عليه السلام "اغتبتيها ومن ذلك المحاكاة يمشي متعارجاً أو كما يمشي فهو غيبة بل هو أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم ولما رأى رسول الله ﷺ عائشة حاكت امرأة قال "ما يسرني أني حاكيت إنساناً ولي كذا وكذا . وكذلك الغيبة بالكتابة فإن القلم أحد اللسانين. وذكر المصنف شخصاً معيناً وتهجين كلامه في الكتاب غيبة إلا أن يقترن به شيء من الأعذار المحوجة إلى ذكره -كما سيأتي بيانه- وأما قوله: قال قوم كذا: فليس ذلك غيبة، وإنما الغيبة التعرض لشخص معين إما حي وإما ميت. ومن الغيبة أن تقول: بعض من مر بنا اليوم، أو بعض من رأيناه؛ إذا كان المخاطب يفهم منه شخصاً معيناً؛ لأن المحذور تفهيمه دون ما به التفهيم فأما إذا لم يفهم عينه جاز. كان رسول الله ﷺ إذا كره من إنسان شيئاً قال "ما بال أقوام يفعلون كذا وكذا فكان لا يعين. وقولك: بعض من قدم من السفر، أو بعض من يدعي العلم، إن كان معه قرينة تفهم عين الشخص فهي غيبة.

وأخبث أنواع الغيبة غيبة القراء المرائين فإنهم يفهمون المقصود على صيغة أهل الصلاح ليظهروا من أنفسهم التعفف عن الغيبة ويفهمون المقصود، ولا يدرون بجهلهم أنهم جمعوا بين فاحشتين الغيبة والرياء، وذلك مثل أن يذكر عنده إنسان فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلنا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام، أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء نسأل الله أن يعصمنا منها، وإنما قصده أن يفهم عيب الغي رفيذكره بصيغة الدعاء، وكذلك قد يقدم مدح من يريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان: ما كان يقصر في العبادات ولكن قد اعتراه فتور وابتلي بما يبتلي به كلنا وهو قلة الصبر. فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين بأن يذم نفسه، فيكون مغتاباً ومرائياً ومزكياً نفسه، فيجمع بين ثلاث فواحش وهو بجهله يظن أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة. ولذلك يلعب الشيطان بأهل الجهل إذا اشتغلوا بالعبادة من غير علم فإنه يتبعهم ويحبط بمكايده عملهم ويضحك عليهم ويسخر منهم. ومن ذلك أن يذكر عيب إنسان فلا يتنبه له بعض الحاضرين فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا! حتى يصغي إليه ويعلم ما يقول، فيذكر الله تعالى ويستعمل الاسم آلة في تحقيق خبثه، وهو يمثن على الله عز وجل بذكره جهلاً منه وغروراً "وكذلك يقول: ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به نسأل الله أن يروح نفسه، فيكون كاذباً في دعوى الاغتمام وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته عقيب صلاته، ولو كان يغتم به لاغتم أيضاً بإظهار ما يكرهه. وكذلك يقول: ذلك المسكين قد بلي بآفة عظيمة تاب الله علينا وعليه، فهو في كل ذلك يظهر الدعاء والله مطلع على خبث ضميره وخفي قصده، وهو لجهله لا يدري أنه قد تعرض لمقت أعظم مما تعرض له الجهال إذا جاهروا.

ومن ذلك الإصغاء إلى الغيبة على سبيل التعجب فإنه إنما تظهر التعجب ليزيد نشاط المغتاب في الغيبة فيندفع فيها وكأنه يستخرج الغيبة منه بهذا الطريق فيقول: عجب ما علمت أنه كذلك! ما عرفته إلى الآن إلى بالخير: وكنت أحسب فيه غير هذا، عافانا الله من بلائه، فإن كل ذلك تصديق للمغتاب والتصديق بالغيبة غيبة بل الساكت شريك المغتاب. قال ﷺ "المستمع أحد المغتابين وقد روي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أن أحدهما قال لصاحبه: إن فلاناً لنئوم ثم إنهما طلبا أدماً من رسول الله ﷺ ليأكلا به الخبز فقال ﷺ "قد ائتدمتما!" فقالا: ما نعلمه? قال "بلى إنكما أكلتما من لحم أخيكما فانظر كيف جمعهما وكان القائل أحدهما والآخر مستمعاً. وقال للرجلين اللذين قال أحدهما. أقعص الرجل كما يقعص الكلب "انهشا من هذا الجيفة فجمع بينهما فالمستع لا يخرج من إثم الغيبة غلا أن ينكر بلسانه أو بقلبه إن خاف، وإن قدر على القيام أو قطع الكلام بكلام آخر فلم يفعل لزمه، وإن قال بلسانه اسكت، وهو مشته لذلك بقلبه فذلك نفاق، ولا يخرجه من الإثم ما لم يكرهه بقلبه، ولا يكفي في ذلك أن يشير باليد أي اسكت، أو يشير بحاجبه وجبينه، فإن ذلك استحقار للمذكور بل ينبغي أن يعظم ذلك فيذب عنه صريحاً وقال ﷺ من أذل عنده مؤمن فلم ينصره وهو يقدر على نصره أذله الله يوم القيامة على رؤوس الخلائق وقال أبو الدرداء: قال رسول الله ﷺ "من رد عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يرد عن عرضه يوم القيامة وقال أيضاً "من ذب عن عرض أخيه بالغيب كان حقاً على الله أن يعتقه من النار وقد ورد في نصرة المسلم في الغيبة وفي فضل ذلك أخبار كثيرة أوردناها في كتاب آداب الصحبة وحقوق المسلمين فلا نطول بإعادتها.

بيان الأسباب الباعثة على الغيبة

اعلم أن البواعث على الغيبة كثيرة ولكن يجمعها أحد عشر سبباً: ثمانية منها تطرد في حق العامة، وثلاثة تختص بأهل الدين والخاصة.

أما الثمانية؛ فالأول أن يشفى الغيظ وذلك إذا جرى سبب غضب به عليه، فإنه إذا هاج غضبه يشتفى بذكر مساوية فيسبق اللسان إليه بالطبع إن لم يكن ثم دين وازع، وقد يمتنع الغيظ عند الغضب فيحتقن الغضب في الباطن فيصير حقداً ثابتاً فيكون سبباً دائماً لذكر المساوي، فالحقد والغضب من البواعث العظيمة على الغيبة.

الثاني: موافقة الأقران ومجاملة الرفقاء ومساعدتهم على الكلام، فإنهم إذا كانوا يتفكهون بذكر الأعراض فيرى أنه لو أنكر عليهم أو قطع المجلس استثقلوه ونفروا عنه فيساعدهم ويرى ذلك من حسن المعاشرة ويظن أنه مجاملة في الصحبة، وقد يغضب رفقاؤه فيحتاج إلى أن يغضب لغضبهم إظهاراً للمساهمة في السراء والضراء فيخوض معه في ذكر العيوب والمساوي.

الثالث: أن يستشعر من إنسان أن سيقصده ويطول لسانه عليه أو يقبح حاله عند محتشم، أو يشهد عليه بشهادة فيبادره قبل أن يقبح هو حاله ويطعن فيه ليسقط أثر شهادته، أو يبتدئ بذكر ما فيه صادقاً ليكذب عليه بعده فيروج كذبه بالصدق الأول ويستشهد ويقول: ما من عادتي الكذب، فإني أخبرتكم بكذا وكذا من أحواله فكان كما قلت.

الرابع: أن ينسب إلى شيء فيريد أن يتبرأ منه فيذكر الذي فعله، وكان من حقه أن يبرئ نفسه ولا يذكر الذي فعل فلا ينسب غيره إليه، أو يذكر غيره بأنه كان مشاركاً له في الفعل ليمهد بذلك عذر نفسه في فعله.

الخامس: إرادة التصنع والمباهاة، وهو أن يرفع نفسه بتنقيص غيره فيقول فلان جاهل وفهمه ركيك وكلامه ضعيف: وغرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضل نفسه ويريهم أنه أعلم منه، أو يحذر أن يعظم مثل تعظيمه فيقدح فيه لذلك.

السادس: الحسد وهو أنه ربما يحسد من يثني الناس عليه ويحبونه ويكرمونه، فيريد زوال تلك النعمة عنه فلا يجد سبيلاً إليه إلا بالقدح فيه، فيريد أن يسقط ماء وجهه عند الناس حتى يكفوا عن كرامته والثناء عليه لأنه يثقل عليه أن يسمع كلام الناس وثناءهم عليه وإكرامهم له، وهذا هو عين الحسد وهو غير الغضب والحقد، فإن ذلك يستدعي جناية من المغضوب عليه، والحسد قد يكون مع الصديق المحسن والرفيق الموافق.

السابع: اللعب والهزل والمطايبة وتزجية الوقت بالضحك، فيذكر عيوب غيره بما يضحك الناس على سبيل المحاكاة ومنشؤه التكبر والعجب.

الثامن: السخرية والاستهزاء استحقاراً له فإن ذلك قد يجري في الحضور ويجري أيضاً في الغيبة ومنشؤه التكبر واستصغار المستهزأ به.

وأما الأسباب الثلاثة التي هي في الخاصة فهي أغمضها وأدقها، لأنها شرور خبأها الشيطان في معرض الخيرات وفيها خير ولكن شباب الشيطان بها الشر.

الأول: أن تنبعث من الدين داعية التعجب في إنكار المنكر والخطأ في الدين، فيقول ما أعجب ما رأيت من فلا! فإنه قد يكون به صادقاً ويكون تعجبه من المنكر، ولكن كان حقه أن يتعجب ولا يذكر اسمه فيسهل الشطيان عليه ذكر اسمه في إظهار تعجبه، فصار به مغتاباً وآثماً من حيث لا يدري. ومن ذلك قول الرجل: تعجبت من فلا كيف يحب جاريته وهي قبيحة? وكيف يجلس بين يدي فلان وهو جاهل?.

الثاني: الرحمة وهو أن يغتم بسبب ما يبتلي به فيقول: مسكين فلان قد غمني أمره وما ابتلي به، فيكون صادقاً في دعوى الاغتمام ويلهيه الغم عن الحذر من ذكر اسمه فيذكره فيصيره به مغتاباً فيكون غمه ورحمته خيراً، وكذا تعجبه ولكن ساقه الشيطان إلى شر من حيث لا يدري، والترحم والاغتمام ممكن دون ذكر اسمه فيهيجه الشيطان على ذكر اسمه ليبطل به ثواب اغتمامه وترحمه.

الثالث: الغضب لله تعالى فإنه قد يغضب على منكر قارفه إنسان إذا رآه أو سمعه فيظهر غضبه ويذكر اسمه، وكان الواجب أن يظهر غضبه عليه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يظهره على غيره، أو يستر اسمه ولا يذكره بالسوء، فهذه الثلاثة مما يغمض دركها على العلماء فضلاً عن العوام، فإنهم يظنون أن التعجب والرحمة والغضب إذا كان لله تعالى كان عذراً في ذكر الاسم وهو خطأ، بل المرخص في الغيبة حاجات مخصوصة لا مندوحة فيها عن ذكر الاسم -كما سيأتي ذكره- روي عن عامر بن وائلة: أن رجلاً مر على قوم في حياة رسول الله ﷺ فسلم عليهم فردوا عليه السلام، فلما جاوزهم قال رجل منهم: إني لأبغض هذا في الله تعالى فقال أهل المجلس: لبئس ما قلت والله لننبئنه، ثم قالوا: يا فلان لرجل منهم -قم فأدركه وأخبره بما قال فأدركه رسولهم فأخبره فأتى الرجل رسول الله ﷺ وحكى له ما قال وسأله أن يدعو له، فدعاه وسأله فقال: قد قلت ذلك فقال ﷺ "لم تبغضه?" فقال: أنا جاره وأنا به خابرن والله ما رأيته يصلي صلاة قط إلا هذه المكتوبة، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني أخرتها عن وقتها أو أسأت الوضوء لها أو الركوع أو السجود فيها? فسأله فقال لا، فقال: واللهما رأيته يصوم شهراً قط إلا هذا الشهر الذي يصومه البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني قط أفطرت فيه أو نقصت من حقه شيئاً? فسأله عنه فقال: لا، فقال: والله ما رأيته يعطي سائلاً ولا مسكيناً قط ولا رأيته ينفق شيئاً من ماله في سبيل الله إلا هذه الزكاة التي يؤديها البر والفاجر، قال: فاسأله يا رسول الله هل رآني نقصت منها أو ماكست فيها طالبها الذي يسألها? فسأله فقال: لا، فقال ﷺ للرجل "قم فلعله خير منك .

بيان العلاج الذي يمنع اللسان عن الغيبة

اعلم أن مساوئ الأخلاق كلها إنما تعالج بمعجون العلم والعمل، وإنما علاج كل علة بمضادة سببها، فلنفحص عن سببها. وعلاج كف اللسان عن الغيبة على وجهين: أحدهما على الجملة، والآخر على التفصيل: أما على الجملة: فهو أن يعلم تعرض لسخط الله تعالى بغيبته بهذه الأخبار التي رويناها وأن يعلم أنها محبطة لحسناته يوم القيامة، فإنها تنقل حسناته يوم القيامة إلى من اغتابه بدلاً عما استباحه من عرض، فإن لم تكن له حسنات نقل إليه من سيئات خصمه، وهو مع ذلك متعرض لمقت الله عز وجل ومشبه عنده بآكل الميتة، بل العبد يدخل النار بأن تترجح كفة سيئاته على كفة حسناته وربما تنقل إليه سيئة واحدة ممن اغتابه فيحصل بها الرجحان ويدخل بها النار "وإنما أقل الدرجات أن تنقص من ثواب أعماله وذلك بعد المخاصمة والمطالبة والسؤال والجواب والحساب. قال ﷺ "ما النار في اليبس بأسرع من الغيبة في حسنات العبد وروي أن رجلاً قال للحسن: بلغني أنك تغتابني، فقال: ما بلغ من قدرك عندي أني أحكمك في حسناتي. فهما آمن العبد بما ورد من الأخبار في الغيبة لم يطلق لسانه بها خوفاً من ذلك، وينفعه أيضاً أن يتدبر في نفسه فإن وجد فيها عيباً فينبغي أن يستحي من أن يترك ذم نفسه ويذم غيره، بل ينبغي أن يتحقق أن عجز غيره عن نفسه في التنزه عن ذلك العيب كعجزه، وهذا إن كان عيباً يتعلق بفعله واختياره، وإن كان أمراً خلقياً فالذم للخالق فإن من ذم صنعة فقد ذم صانعها. قال رجل لحكيم: يا قبيح الوجه، قال: ما كان خلق وجهي إلي فأحسنه. وإذا لم يجد عيباً في نفسه فليشكر الله تعالى ولا يلوثن نفسه بأعظم العيوب، فإن ثلب الناس وأكل لحم الميتة من أعظم العيوب، بل لو أنصف لعلم أن ظنه بنفسه أنه بريء من كل عيب جهل بنفسه وهو من أعظم العيوب، وينفعه أن يعلم أن تألم غيره بغيبته كتألمه بغيبه غيره له، فإذا كان لا يرضى لنفسه أن يغتاب فينبغي أن لا يرضى لغيره ما لا يرضاه لنفسه. فهذه معالجات جملية.

أما التفصيل فهو أن ينظر في السبب الباعث له على الغيبة فإن علاج العلة بقطع سببها وقد قدمنا الأسباب.

أما الغضب فيعالجه بما سيأتي في كتاب آفات الغضب وهو أن يقول: إني إذا أمضيت غضبي عليه فلعل الله تعالى يمضي غضبه علي بسبب الغيبة إذ نهاني عنها فاجترأت على نهيه واستخففت بزجره وقد قال ﷺ "إن لجهنم باباً لا يدخل منه إلا من شفى غيظه بمعصية الله وقال ﷺ "من اتقى ربه كل لسانه ولم يشف غيظه وقال ﷺ "من كظم غظياً وهو يقدر على أن يمضيه دعاه الله تعالى يوم القيامة على رؤوس الخلائق حتى يخيره في أي الحور شاء وفي بعض الكتب المنزلة على بعض النبيين: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق.

وأما الموافقة فبأن تعلم أن الله تعالى يغضب عليك إذا طلب سخطه في رضا المخلوقين، فكيف ترضى لنفسك أن توقر عيرك وتحقر مولاك فتترك رضاه لرضاهم إلا أن يكون غضبك لله تعالى? وذلك لا يوجب أن نذكر المغضوب عليه بسوء بل ينبغي أن تغضب لله أيضاً على رفقائك إذا ذكروه بالسوء، فإنهم عصوا ربك بأفحش الذنوب وهي الغيبة.

وأما تنزيه النف بنسبة الغير إلى الخيانة حيث يستغنى عن ذكر الغير، فتعالجه بأن تعرف أن التعرض لمقت الخالق أشد من التعرض لمقت المخلوقين وأنت بالغيبة متعرض لسخط الله يقيناً ولا تدري أنك تتخلص من سخط الناس أم لا! فتخلص نفسك في الدنيا بالتوهم وتهلك بالآخرة وتخسر حسناتك بالحقيقة ويحصل لك ذم الله تعالى نقداً وتنتظر دفع ذم الخلق نسيئة وهذا غاية الجهل والخذلان.

وأما عذرك كقولك إن أكلت الحرام ففلان يأكله وإن قبلت مال السلطان ففلان يقبله فهذا جهل لأنك تعتذر بالاقتداء بمن لا يجوز الاقتداء به فإن من خالف أمر الله تعالى لا يقتدى به كائناً من كان ولو دخل غيرك النار وأنت تقدر على أن لا تدخلها لم توافقه ولو وافقته لسفه عقلك. ففيما ذكرته غيبة وزيادة معصية أضفتها إلى ما اعتذرت عنه وسجلت مع الجمع بين المعصيتين على جهلك وغباوتك وكنت كالشاة تنظر إلى المعزى تردى نفسها من قلة الجبل فهي أيضاً تردى نفسها، ولو كان لها لسان ناطق بالعذر وصرخت بالعذر وقالت: العنز أكيس مني وقد أهلكت نفسها فكذلك أنا أفعل، لكنت تضحك من جهلها وحالك مثل حالها ثم لا تعجب ولا تضحك من نفسك.

وأما قصدك المباهاة وتزكية النفس بزيادة الفضل بأن تقدح في غيرك فينبغي أن تعلم أنك بما ذكرته به أبطلت فضلك عند الله وأنت من اعتقاد الناس فضلك على خطر، وربما نقص اعتقادهم فيك إذا عرفوك بثلب الناس فتكون قد بعت ما عند الخالق يقيناً بما عند المخلوقين وهما، ولو حصل لك من المخلوقين اعتقاد الفضل لكانوا لا يغنون عنك من الله شيئاً.

وأما الغيبة لأجل الحسد فهو جمع بين عذابين لأنك حسدته على نعمة الدنيا وكنت في الدنيا معذباً بالحسد، فما قنعت بذلك حتى أضفت إليه عذاب الآخرة، فكنت خاسراً نفسك في الدنيا فصرت أيضاً خاسراً في الآخرة لتجمع بين النكالين، فقد قصدت محسودك فأصبت نفسك وأهديت إليه حسناتك. فإذا أنت صديقه وعدو نفسك إذ لا تضره غيبتك وتضرك، وتنفعه إذ تنقل إليه حسناتك أو تنقل إليك سيئاته ولا تنفعك وقد جمعت إلى خبث الحسد جهل الحماقة. وربما يكون حسدك وقدحك سبب انتشار فضل محسودك كما قيل: وإذا أراد الله نشر فضيلـه طويت أتاح لها لسان حسود

وأما الاستهزاء فمقصودك منه إخزاء غيرك عند الناس بإخزاء نفسك عند الله تعالى وعند الملائكة والنبيين عليهم الصلاة والسلام، فلو تفكرت في حسرتك وجنايتك وخجلتك وخزيك يوم القيامة يوم تحمل سيئات من استهزأت به وتساق إلى النار لأدهشك ذلك عن إخزاء صاحبك! ولو عرفت حالك لكنت أولى أن تضحك منك، فإنك سخرت به عند نفر قليل وعرضت نفسك لأن يأخذ يوم القيامة بيدك على ملأ من الناس ويسوقك تحت سيئاته كما يساق الحمار إلى النار، مستهزئاً بك وفرحاً بخزيك ومسروراً بنصرة الله تعالى إياه عليك وتسلطه على الانتقام منك.

وأما الرحمة له على إثمه فهو حسن، ولكن حسدك إبليس فأضلك، واستنطقك بما ينقل من حسناتك إليه ما هو أكثر من رحمتك، فيكون جبر الإثم المرحوم فيخرج عن كونه مرحومماً، وتنقلب أنت مستحقاً لأن تكون مرحوماً، إذ حبط أجرك ونقصت من حسناتك، وكذلك الغضب لله تعالى لا يوجد الغيبة، وإنما الشيطان حبب إليك الغيبة ليحبط أجر غضبك وتصير معرضاً لمقت الله عز وجل بالغيبة.

وأما التعجب إذا أخرجك إلى الغيبة فتعجب من نفسك أنت? كيف أهلكت نفسك ودينك بدين غيرك أو بدنياه وأنت مع ذلك لا تأمن من عقوبة الدنيا! وهو أن يهتك الله سترك كما هتكت بالتعجب ستر أخيك. فإذن علاج جميع ذلك المعرفة فقط والتحقق بهذه الأمور التي هي من أبواب الإيمان، فمن قوي إيمانه بجميع ذلك انكف لسانه عن الغيبة لا محالة.

بيان تحريم الغيبة بالقلب

اعلم أن سوء الظن حرام مثل سوء القول، فكما يحرم عليك أن تحدث غيرك بلسانك بمساوئ الغير فليس لك أن تحدث نفسك تسيء الظن بأخيك، ولست أعني به إلا عقد القلب وحكه على غيره بالسوء. فأما الخواطر وحديث النفس فهو معفو عنه بل الشك أيضاً معفو عنه، ولكن المنهي عنه أن يظن، والظن عبارة عما تركن إليه النفس ويميل إليه القلب. فقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" وسبب تحريمه أن أسرار القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءاً إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل، فعند ذلك لا يمكنك إلا أن تعتقد ما علمته وشاهدته، وما لم تشاهده بعينك ولم تسمعه بأذنك ثم وقع في قلبك فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذبه فإنه أفسق الفساق، وقد قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" فلا يجوز تصديق إبليس، وإن كان ثم مخيلة تدل على فساد واحتمل خلافه لم يجز أن تصدق به، لأن الفاسق يتصور أن بصدق في خيره ولكن لا يجوز لك أن تصدق به، حتى إن من استنكه فوجد منه رائحة الخمر لا يجوز أن يحد، إذ يقال يمكن أن يكون قد تمضمض بالخمر ومجها وما شربها، أو حمل عليه قهراً، فكل ذلك لا محالة دلالة محتملة فلا يجوز تصديقها بالقلب وإساءة الظن بالمسلم بها، وقد قال ﷺ "إن الله حرم من المسلم دمه وماله وأن يظن به ظن السوء فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال وهو نفس مشاهدته أو بينة عادلة، فإذا لم يكن كذلك وخطر لك وسواس سوء الظن فينبغي أن تدفعه عن نفسك وتقرر عليها أن حاله عندك مستور كما كان، وأن ما رأيته منه يحتمل الخير والشر.

فإن قلت: فبماذا يعرف عقد الظن والشكوك تختلج والنفس تحدث? فتقول: أمارة عقد سوء الظن أن يتغير القلب معه عما كان فينفر عنه نفوراً ما، ويستثقله ويفتر عن مراعاته وتفقده وإكرامه والاغتنام بسببه؛ فهذه أمارات عقد الظن وتحقيقه.

وقد قال ﷺ "ثلاث في المؤمن وله منهن مخرج فمخرجه من سوء الظن أن لا يحققه أي لا يحققه في نفسه بعقد ولا فعل ولا في القلب ولا في الجوارح. أما في القلب: فبتغيره إلى النفرة والكراهة. وأما في الجوارح: فبالعمل بموجبه. والشيطان قد يقرر على القلب بأدنى مخيلة مساءة الناس، ويلقي إليه أن هذا من فطنتك وسرعة فهمك وذكائك وأن المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التحقيق ناظر بغرور الشيطان وظلمته.

وأما إذا أخبرك به عدل فمال ظنك إلى تصديقه كنت معذرواً، لأنك لو كذبته لكنت جانياً على هذا العدل إذ ظننت به الكذب، وذلك أيضاً من سوء الظن، فلا ينبغي أن تحسن الظن بواحد وتسيء بالآخر. نعم ينبغي أن تبحث هل بينهما عداوة ومحاسدة وتعنت فتتطرق التهمة بسببه? فقد رد الشرع شهادة الأب العدل للولد للتهمة ورد شهادة العدو فلك عند ذلك أن تتوقف، وإن كان عدلاً فلا تصدقه ولا تكذبه، ولكن تقول في نفسك: المذكور حاله كان عندي في ستر الله تعالى، وكان أمره محجوباً عني وقد بقي كما كان لم ينكشف لي شيء من أمره، وقد يكون الرجل ظاهره العدالة ولا محاسدة بينه وبين المذكور، ولكن قد يكون من عادته التعرض للناس وذكر مساويهم، فهذا قد يظن أنه عدل وليس بعدل، فإن المغتاب فاسق، وإن كان ذلك من عادته ردت شهادته إلا أن الناس لكثرة الاعتياد تساهلوا في أمر الغيبة ولم يكترثوا بتناول أعراض الخلق.

ومهما خطر لك خاطر بسوء على مسلم فينبغي أن تزيد في مراعاته وتدعو له بالخير، فإن ذلك يغيظ الشيطان ويدفعه عنك فلا يلقى إليك الخاطر السوء خيفة من اشتغالك بالدعاء والمراعاة. ومهما عرفت هفوة مسلم بحجة فانصحه في السر ولا يخدعنك الشيطان فيدعوك إلى اغتيابه، وإذا وعظته فلا تعظه وأنت مسرور باطلاعك على نقصه لينظر إليك بعين التعظيم وتنظر إليه بعين الاستحقار وتترفع عليه، بإيذاء الواعظ. وليكن قصدك تخليصه من الإثم وأنت حزين، كما تحزن على نفسك إذا دخل عليلا نقصان في دينك: وينبغي أن يكون تركه لذلك من غير نصحك أحب إليك من تركه بالنصيحة. فإذا أنت فعلت ذلك كنت قد جمعت بين أجر الوعظ وأجر الغم بمصيبته وأجر الإعانة له على دينه.

ومن ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس وهو أيضاً منهي عنه، قال الله تعالى "ولا تجسسوا" فالغيبة وسوء الظن والتجسس منهي عنه في آية واحدة. ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله، فيتوصل إلا الإطلاع وهتك الستر حتى ينكشف له ما لو كان مستوراً عنه كان أسلم لقلبه ودينه. وقد ذكرنا في كتاب الأمر بالمعروف حكم التجسس وحقيقته.

بيان الأعذار المرخصة في الغيبة

اعلم أن المرخص في ذكر مساوئ الغير هو غرض صحيح في الشرع لا يمكن التوصل إليه إلا به فيدفع ذلك إثم الغيبة وهي ستة أمور: الأول: التظلم فإن من ذكر قاضياً بالظلم والخيانة وأخذ الرشوة كان مغتاباً عاصياً إن لم يكن مظلوماً. أما المظلوم من جهة القاضي فله أن يتظلم إلى السلطان وينسبه إلى الظلم إذ لا يمكنه استيفاء حقه إلا به قال ﷺ "إن لصاحب الحق مقالاً وقال عليه السلام "مطل الغنى ظلم وقال عليه السلام "لي الواجد يحل عقوبته وعرضه .

الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى منهج الصلاح، كما روي أن عمر رضي الله عنه مر على عثمان -وقيل على طلحة- رضي الله عنه فسلم عليه فلم يرد السلام. فذهب إلى أبي بكر رضي الله عنه فذكر له ذلك، فجاء أبو بكر إليه ليصلح ذلك ولم يكن ذلك غيبة عندهم. وكذلك لما بلغ عمر رضي الله عنه أن أبا جندل قا عاقر الخمر بالشام كتب إليه "بسم الله الرحمن الرحيم حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" الآية فتاب، ولم ير ذلك عمر ممن أبلغه غيبة، إذ كان قصده أن ينكر عليه ذلك فينفعه نصحه ما لا ينفعه نصح غيره، وإنما إباحة هذا بالقصد الصحيح فإن لم يكن ذلك هو المقصود كان حراماً.

الثالث: الاستفتاء كما يقول المفتي؛ ظلمتي أبي أو زوجتي أو أخي فكيف طريق في الخلاص? والأسلم التعريض بأن يقول: ما قولك في رجل ظلمه أبوه أو أخوه أو زوجته? ولكن التعيين مباح بهذا القدر لما روي عن هند بنت عتبة أنها قالت للنبي ﷺ "إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني أنا وولدي أفآخذ من غير علمه فقال "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فذكرت الشح والظلم لها ولولدها ولم يزجرها ﷺ إذ كان قصدها الاستفتاء.

الرابع: تحذير المسلم من الشر، فإذا رأيت فقيهاً يتردد إلى مبتدع أو فاسق وخفت أن تتعدى إليه بدعته وفسقه فلك أن تكشف له بدعته وفسقه، مهما كان الباعث لك الخوف عليه من سراية البدعة والفسق لا غيره، وذلك موضع الغرور إذ قد يكون الحسد هو الباعث ويلبس الشيطان ذلك بإظهار الشفقة على الخلق، وكذلك من اشترى مملوكاً وقد عرفت المملوك بالسرقة أو بالفسق أو بعيب آخر فلك أن تذكر ذلك، فإن سكوتك ضرر المشترى وفي ذكرك ضرر العبد، والمشترى أولى بمراعاة جانبه. وكذلك المزكي إذا سئل عن الشاهد فله الطعن فيه إن علم مطعناً، وكذلك المستشار في التزويج وإيداع الأمانة له أن يذكر ما يعرفه على قصد النصح للمستشير لا على قصد الوقيعة: فإن علم أن يترك التزويج بمجرد قوله: لا تصلح لك، فهو الواجب وفيه الكفاية وإن علم أنه لا ينزجر إلا بالتصريح بعيبه فله أن يصرح به، إذ قال رسول الله ﷺ "أترعوون عن ذكر الفاجر اهتكوه حتى يعرفه الناس اذكروه بما فيه حتى يحذره الناس وكانوا يقولون ثلاثة لا غيبة لهم: الإمام الجائر والمبتدع والمجاهر بفسقه.

الخامس: أن يكون الإنسان معروفاً بلقب يعرب عن عيبه كالأعرج والأعمش، فلا إثم على من يقول روى أبو الزناد عن الأعرج، وسلمان عن الأعمش، وما يجري مجراه فقد فعل العلماء ذلك لضرورة التعريف، ولأن ذلك قد صار بحيث لا يكرهه صاحبه لو علمه بعد أن صار مشهوراً به. نعم إن وجد عنه معدلاً وأمكنه التعريف بعبارة أخرى فهو أولى، ولذلك يقال للأعمى: البصير، عدولاً عن اسم النقص.

السادس: أن يكون مجاهراً بالفسق كالمخنث وصاحب الماخور والمجاهر بشرب الخمر ومصادرة الناس، وكان ممن يتظاهر به بحيث لا يستنكف. من أن يذكر له ولا يكره أن يذكر به، فإذا ذكرت فيه ما يتظاهر به فلا إثم عليك قال رسول الله ﷺ " من ألقى جلباب الحياء عن وجهه فلا غيبة له وقال عمر رضي الله عنه ليس لفاجر حرمة وأراد به المجاهر بفسقه دون المستتر إذ المستتر لا بد من مراعاة حرمته. وقال الصلت بن طريف: قلت للحسن: الرجل الفاسق المعلن بفجوره ذكرى له بما فيه غيبة له? قال: لا ولا كرامة. وقال الحسن: ثلاثة لا غيبة لهم؛ صاحب الهوى والفاسق المعلن بفسقه والإمام الجائر فهؤلاء الثلاثة بجمعهم أنهم يتظاهرون به وربما يتفاخرون به، فكيف يكرهون ذلك وهم يقصدون إظهاره? نعم لو ذكره بغير ما يتظاهر به إثم. وقال عوف: دخلت على ابن سيرين فتناولت عنده الحجاج فقال: إن الله حكم عدل، ينتقم للحجاج ممن اغتابه من الحجاج لمن ظلمه، وإنك إذا لقيت الله تعالى غداً كان أصغر ذنب أصبته أشد عليك من أعظم ذنب أصابه الحجاج.

بيان كفارة الغيبة

اعلم أن الواجب على المغتاب أن يندم ويتوب ويتأسف على ما فعله ليخرج به من حق الله سبحانه، ثم يستحل المغتاب ليحله فيخرج من مظلمته! وينبغي أن يستحله وهو حزين متأسف نادم على فعله? إذ المرائي قد يستحل ليظهر من نفسه الورع وفي الباطن لا يكون نادماً، فيكون قد قارف معصية أخرى وقال الحسن. يكفيه الاستغفار دون الاستحلال. وربما استدل في ذلك بما روى أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ، كفارة من اغتبته أن تستغفر له وقال مجاهد كفارة أكلك لحم أخيك: أن تثني عليه وتدعو له بخير. وسئل عطاء بن أبي رباح عن التوبة من الغيبة قال: أن تمشي إلى صاحبك فتقول له؛ كذبت فيما قلت وظلمتك وأسأت فإن شئت أخذت بحقك وإن شئت عفوت، وهذا هو الأصح، وقول القائل: العرض لا عوض له فلا يجب الاستحلال منه بخلاف المال كلام ضعيف، إذ قد وجب في العرض حد القذف وتثبت المطالبة به. بل في الحديث الصحيح ما روي أنه ﷺ قال "من كانت لأخيه عنده مظلمة في عرض أو مال فليستحللها منه من قبل أن يأتي يوم ليس هناك دينار ولا درهم، إنما يؤخذ من حسناته فإن لم يكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فزيدت على سيئاته وقالت عائشة رضي الله عنها لامرأة قالت لأخرى أنها طويلة الذيل: قد اغتبتيها فاستحليها. فإذن لا بد من الاستحلال إن قدر عليه، فإن كان غائباً أو ميتاً فينبغي أن يكثر له الاستغفار والدعاء ويكثر من الحسنات.

فإن قلت: فالتحليل هل يجب? فأقول: لا، لأنه تبرع والتبرع فضل، وليس بواجب ولكنه مستحسن وسبيل المعتذر أن يبالغ في الثناء عليه والتودد إليه ويلازم ذلك حتى يطيب قلبه، فإن لم يطب قلبه كان اعتذاره وتودده حسنة محسوبة له يقابل بها سيئة الغيبة في القيامة.

وكان بعض السلف لا يحلل. قال سعيد بن المسيب: لا أحلل من ظلمني. وقال ابن سيرين: إني لم أحرمها عليه فأحللها له عن الله حرم الغيبة عليه وما كنت لأحلل ما حرم الله أبداً.

فإن قلت: فما معنى قول النبي ﷺ ينبغي أن يستحلها وتحليل ما حرمه الله تعالى غير ممكن? فنقول: المراد به العفو عن المظلمة لا أن ينقلب الحرام حلالاً، وما قاله ابن سيرين حسن في التحليل قبل الغيبة فإنه لا يجوز له أن يحلل لغيره الغيبة.

فإن قلت: فما معنى قول النبي ﷺ "أيعجز أحدكم أن يكون كابي ضمضم كان إذا خرج من بيته قال اللهم إني قد تصدقت بعرضي على الناس فكيف يتصدق بالعرض ومن تصدق به فهل يباح تناوله فإن كان لا تنفيذ صدقته فما معنى الحث عليه? فنقول: معناه أني لا أطلب مظلمة في القيامة منه ولا أخاصمه، وإلا فلا تصير الغيبة حلالاً به ولا تسقط المظلمة عنه، لأنه عفو قبل الوجوب إلا أنه وعد، وله العزم على الوفاء بأن لا يخاصم، فإن رجع وخاصم كان القياس كسائر الحقوق أن له ذلك. بل صرح الفقهاء أن من أباح القذف لم يسقط حقه من حد القاذف، ومظلمة الآخرة مثل مظلمة الدنيا، وعلى الجملة فالعفو أفضل.

قال الحسن إذا جثت الأمم بين يدي الله عز وجل يوم القيامة نودوا ليقم من كان له أجر على الله فلا يقوم إلا العافون عن الناس في الدنيا. وقد قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فقال النبي ﷺ "يا جبريل ما هذا العفو?، قال: إن الله تعالى يأمرك أن تعفو عمن ظلمك وتصل من قطعك وتعطي من حرمك . وروي عن الحسن أن رجلاً قال له: إن فلاناً قد اغتباك فبعث إليه رطباً على طبق وقال: قد بلغني أنك أهديت إلي من حسناتك فأردت أن أكافئك عليها فاعذرني فإني لا أقدر أن أكافئك على التمام.

الآفة السادسة عشرة

النميمة

قال الله تعالى "هماز مشاء بنميم" ثم قال "عتل بعد ذلك زنيم" قال عبد الله بن المبارك: الزنيم ولد الزنا الذي لا يكتم الحديث، وأشار به إلى أن كل من لم يكتم الحديث ومشى بالنميمة دل على أنه ولد زنا استنباطاً من قوله عز وجل "عتل بعد ذلك زنيم" والزنيم هو الدعى وقال تعالى "ويل لكل همزة لمزة" قيل الهمزة: النمام، وقال تعالى "حمالة الحطب" قيل إنها كانت نمامة حمالة للحديث وقال تعالى "فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً" قيل كانت امرأة لوط تخبر بالضيفان وامرأة نوح تخبر أنه مجنون وقد قال ﷺ "لا يدخل الجنة نمام وفي حديث آخر "لا يدخل الجنة قتات" والقتات هو النمام وقال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ "أحبكم إلى الله أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، وإن أبغضكم إلى الله المشاءون بالنميمة، المفرقون بين الإخوان، الملتمسون للبرءاء العثرات وقال ﷺ "ألا أخبركم بشراركم" قالوا: بلى، قال "المشاءون بالنميمة المفسدون بين الأحبة الباغون للبرءاء العيب وقال أبو ذر: قال رسول الله ﷺ "من أشاع على مسلم كلمة ليشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة وقال أبو الدرداء: قال رسول الله ﷺ "أيما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا كان حقاً على الله أن يذيبه بها يوم القيامة في النار وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "من شهد على مسلم بشهادة ليس لها بأهل فليتبوأ مقعده من النار ويقال: إن ثلث عذاب القبر من النميمة. وعن ابن عمر عن النبي ﷺ "إن الله لما خلق الجنة قال لها تكلمي فقالت سعد من دخلني فقال الجبار جل جلاله وعزتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس، لا يسكنك مدمن خمر ولا مصر على الزنا ولا قتات وهو النمام ولا ديوث ولا شرطي ولا مخنث ولا قاطع رحم ولا الذي يقول على عهد الله إن لم أفعل كذا وكذا لم يف به وروى كعب الأحبار أن بني إسرائيل أصابهم قحط فاستسقى موسى عليه السلام مرات فما سقوا فأوحى الله تعالى إليه: إني لا أستجيب لك ولمن معك وفيكم نمام قد أصر على النميمة. فقال موسى: يا رب من هو? دلني عليه حتى أخرجه من بيننا. قال: يا موسى أنهاكم عن النميمة وأكون نماماً، فتابوا جميعاً فسقوا. ويقال اتبع رجل حكيماً سبعمائة فرسخ في سبع كلمات فلما قدم عليه قال: إني جئتك للذي آتاك الله تعالى من العلم أخبرني عن السماء وما أثقل منها? وعن الأرض وما أوسع منها? وعن الصخر وما أقسى منه? وعن النار وما أحر منها? وعن الزمهرير وما أبرد منه? وعن البحر وما أغنى منه? وعن اليتيم وما أذل منه? فقال له الحكيم: البهتان على البريء أثقل من السموات، والحق أوسع من الأرض، والقلب القانع أغنى من البحر، والحرص والحسد أحر من النار، والحاجة إلى القريب إذا لم تنجح أبرد من الزمهرير، وقلب الكافر أقسى من الحجر، والنمام إذا بان أمره أذل من اليتيم.

بيان حد النميمة وما يجب في ردها

اعلم أن اسم النميمية إنما يطلق في الأكثر على من ينم قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول فلان كان يتكلم فيك بكذا وكذا، وليست النميمة مختصة به. بل حدها كشف ما يكره كشفه، سواء كرهه المنقول عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث. وسواء كان ذلك عيباً ونقصاً في المنقول عنه أو لم يكن بل حقيقة النميمة إفشاء السر وهتك الستر عما يكره كشفه، بل كل ما رآه الإنسان من أحوال الناس مما يكره فينبغي أن يسكت عنه إلا ما في حكايته فائدة لمسلم أو دفع لمعصية، كما إذا رأى من يتناول مال غيره فعليه أن يشهد به مراعاة لحق المشهود له، فأما إذا رآه يخفي مالاً لنفسه فذكره هو نميمة وإفشاء للسر، فإن كان ما ينم به نقصاً وعيباً في المحكي عنه كان قد جمع بين الغيبة والنميمة. فالباعث على النميمة إما إرادة السوء للمحكي عنه أو إظهار الحب للمحكي له، أو التفرج بالحديث والخوض في الفضول والباطل.

وكل من حملت إليه النميمة وقيل له إن فلاناً قال فيك كذا وكذا أو فعل في حقك كذا أو هو يدبر في إفساد أمرك أو في ممالأة عدوك أو تقبيح حالك أو ما يجري مجراه فعليه ستة أمور، الأول: أن لا يصدقه لأن النمام فاسق وهو مردود الشهادة قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة" الثاني: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله قال الله تعالى "وأمر بالمعروف وانه عن المنكر" الثالث: أن يبغضه في الله تعالى فإنه بغيض عند الله تعالى ويجب بغض من يبغضه الله تعالى. والرابع: أن لا تظن بأخيك الغائب السوء لقول الله تعالى "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" الخامس: أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتحقق، اتباعاً لقول الله تعالى "ولا تجسسوا" السادس: أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه ولا تحكي نميمته فتقول فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نماماً ومغتاباً وقد تكون قد أتيت ما عنه نهيت. وقد روي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه دخل عليه رجل فذكر له عن رجل شيئاً فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية "إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا" وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية "هماز مشاء بنميم" وإن شئت عفونا عنك? فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً. وذكر أن حكيماً من الحكماء زاره بعض إخوانه فأخبره بخبر عن بعض أصدقائه فقال له الحكيم: قد أبطأت في الزيارة وأتيت بثلاث جنايات، بغضت أخي إلي، وشغلت قلبي الفارغ، واتهمت نفسك الأمينة. وروي أن سليمان بن عبد الملك كان جالساً وعنده الزهري فجاءه رجل فقال له سليمان: بلغني أنك وقعت في وقلت كذا وكذا، فقال الرجل: ما فعلت ولا قلت? فقال سليمان: إن الذي أخبرني صادق، فقال له الزهري: لا يكون النمام صادقاً، فقال سليمان: صدقت، ثم قال للرجل: اذهب بسلام.

وقال الحسن من نم إليك نم عليك. وهذه إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة وهو ممن يسعون في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض? وقال تعالى "إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق" والنمام منهم. وقال ﷺ "إن من شرار الناس من اتقاه الناس لشره والنمام منهم. وقال "لا يدخل الجنة قاطع" قيل وما القاطع? قال "قاطع بين الناس وهو النمام وقيل قاطع الرحم.

وروي عن علي رضي الله عنه أن رجلاً سعى إليه برجل فقال له: يا هذا نحن نسأل عما قلت فإن كنت صادقاً مقتناك وإن كنت كاذباً عاقبناك وإن شئت نقيلك أقلناك، فقال: أقلني يا أمير المؤمنين. وقيل لمحمد بن كعب القرظي أي خصال المؤمن أوضع له? فقال: كثرة الكلام وإفشاء السر وقبول قول كل أحد. وقال رجل لعبد الله ابن عامر -وكان أميراً- بلغني أن فلاناً أعلم الأمير أني ذكرته بسوء، قال: قد كان ذلك، قال: فأخبرني بما قال لك حتى أظهر كذبه عندك? قال: ما أحب أن أشتم نفسي بلساني وحسبي أني لم أصدقه فيما قال ولا أقطع عنك الوصال.

وذكرت السعاية عند بعض الصالحين فقال: ما ظنكم بقوم يحمد الصدق من كل طائفة من الناس إلا منهم? وقال مصعب بن الزبير: نحن نرى أن قبول السعاية شر من السعاية لأن السعاية دلالة والقبول إجازة، وليس من دل على شيء فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي فلو كان صادقاً في قوله لكان لئيماً في صدقه حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة. والسعاية هي النميمة إلا أنها إذا كانت إلى من يخاف جانبه سميت سعاية وقد قال ﷺ "الساعي بالناس إلى الناس لغيرة رشدة يعني ليس بولد حلال. ودخل رجل على سليمان بن عبد الملك فاستأذنه في الكلام وقال: إني مكلمك يا أمير المؤمنين بكلام فاحتمله إن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: قل، فقال: يا أمير المؤمنين إنه قد اكتنفك رجال ابتاعوا دنياك بدينهم ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله ولم يخافوا الله فيك، فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه ولا تصح إليهم فيما استحفظك الله إياه فإنهم لن يألوا في الأمة خسفاً وفي الأمانة تضييعاً والأعراض قطعاً وانتهاكاً، أعلى قربهم البغي والنميمة، وأجل وسائلهم الغيبة والوقيعة وأنت مسؤول عما أجرموا وليسوا المسؤولين عما أجرمت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره. وسعى رجل بزياد الأعجم إلى سليمان بن عبد الملك فجمع بينهما للموافقة فأقبل زيادة على الرجل وقال: فأنت امرؤ إما ائتمنتك خالـياً فخنت وإما قلت قولاً بلا علم

فأنت من الأمر الذي كان بيننا بمنزلة بين الخـيانة والإثـم

وقال رجل لعمرو بن عبيد: إن الأسواري ما يزال يذكرك في قصصه بشر، فقال له عمرو: يا هذا ما رعيت حق مجالسة الرجل حيث نقلت إلينا حديثه، ولا أديت حقي حين أعلمتني عن أخي ما أكره ولكن أعمله أن الموت يعمنا والقبر يضمنا والقيامة تجمعنا والله تعالى يحكم بيننا وهو خير الحاكمين. ورفع بعض السعاة إلى الصاحب بن عباد رقعة نبه فيها على مال يتيم يجمله على أخذه لكثرته، فوقع على ظهرها: السعاية قبيحة وإن كانت صحيحة، فإن كنت أجريتها مجرى النصح فخسرانك فيها افضل من الربح، ومعاذ الله أن نقبل مهتوكاً في مستور، ولولا أنك في خفارة شيبتك لقابلناك بما يقتضيه فعلك في مثلك، فتوق يا ملعون العيب فإن الله أعلم بالغيب، الميت رحمه الله، واليتيم جبره الله، والمال ثمره الله، والساعي لعنه الله. وقال لقمان لابنه: يا بني أوصيك بخلال إن تمسكت بهن لم تزل سيداً ابسط خلقك للقريب والبعيد. وأمسك جهلك عن الكريم واللئيم، واحفظ إخوانك وصل أقاربك وآمنهم من قبول قول ساع أو سماع باغ يريد فسادك ويروم خداعك، وليكن إخوانك من إذا فارقتهم وفارقوك لم تعبهم ولم يعيبوك. وقال بعضهم: النميمة مبنية على الكذب والحسد والنفاق وهي أثافي الذل. وقال بعضهم: لو صح ما نقله النمام إليك لكان المجترئ بالشتم عليك، والمنقول عنه أولى بحلمك لأنه لم يقابلك بشتمك.

وعلى الجملة فشر النمام عظيم ينبغي أن يتوقى. قال حماد بن سلمة: باع رجل عبداً وقال للمشتري؛ ما فيه عيب إلا النميمة، قال: رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً ثم قال زوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي المؤسى واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً وتريد أن تقتلك، فتناوم لهام حتى تعرف ذلك، فتناوم لها فجاءت المرأى بالموسى فظن أنها تريد قتله فقام إليها فقتلها. فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين. فنسأل الله حسن التوفيق.

الآفة السابعة عشرة

كلام ذي اللسانين الذي يتردد بين المتعاديين

ويكلم كل واحد منهما بكلام يوافقه، وقلما يخلو عنه من يشاهد متعاديين وذلك عين النفاق.

قال عمار بن ياسر: قال رسول الله ﷺ "من كان له وجهان في الدنيا كان له لسانان من نار يوم القيامة وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "تجدون من شر عباد الله يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بحديث وهؤلاء بحديث وفي لفظ آخر "الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" وقال أبو هريرة: لا ينبغي لذي الوجهين أن يكون أميناً عند الله. وقال مالك بن دينار: قرأت في التوارة بطلب الأمانة والرجل مع صاحبه بشفتين مختلفتين يهلك الله تعالى يوم القيامة كل شفتين مختلفتين. وقال ﷺ "أبغض خليقة الله إلى الله يوم القيامة الكذابون والمستكبرون والذين يكثرون البغضاء لإخوانهم في صدورهم فإذا لقوهم تملقوا لهم والذين إذا دعوا إلى الله ورسوله كانوا بكاء وإذا دعوا إلى الشيطان وأمره كانوا سراعاً وقال ابن مسعود: لا يكونن أحدكم إمعة، قالوا: وما الإمعة? قال الذي يجري مع كل ريح. واتفقوا على أن ملاقاة الاثنين بوجهين نفاق، وللنفاق علامات كثيرة وهذه من جملتها.

وقد روي أن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ مات فلم يصل عليه حذيفة فقال له عمر: يموت رجل من أصحاب رسول الله ﷺ ولم تصل عليه? فقال: يا أمير المؤمنين إنهم منهم، فقال: نشدتك الله أنا منهم أم لا? قال: اللهم لا ولا أؤمن منها أحداً بعدك.

فإن قلت: بماذا يصير الرجل ذا لسانين وما حد ذلك? فأقول: إذا دخل على متعاديين وجامل كل واحد منهما وكان صادقاً فيه لم يكن منافقاً ولا ذا لسانين، فإن الواحد قد يصادق متعاديين ولكن صداقة ضعيفة لا تنتهي إلى حد الأخوة، إذ لو تحققت الصداقة لاقتضت معاداة الأعداء -كما ذكرنا في كتاب آداب الصحبة والأخوة- نعم لو نقل كلام كل واحد منهما إلى الآخر فهو ذو لسانين وهو شر من النميمة، إذ يصير نماماً بأن ينقل من أحد الجانبين فقط فإذا نقل من الجانبين فهو شر من النمام، وإن لم ينقل كلاماً ولكن حسن لكل واحد منهما ما هو عليه من المعاداة مع صاحبه فهذا ذو لسانين، وكذلك إذا وعد كل واحد منهما بأن ينصره، وكذلك إذا أثنى على واحد منهما في معاداته. وكذلك إذا أثنى على أحدهما وكان إذا خرج من عنده يذمه فهو ذو لسانين. بل ينبغي أن يسكت أو يثني على المحق من المتعاديين. ويثني عليه في غيبته وفي حضوره وبين يدي عدوه.

قيل لابن عمر رضي الله عنهما: إنا ندخل على أمرائنا فنقول القول فإذا خرجنا قلنا غيره فقال: كنا نعد هذا نفاقاً في عهد رسول الله ﷺ وهذا نفاق مهما كان مستغنياً عن الدخول على الأمير وعن الثناء عليه، فلو استغنى عن الدخول لو قنع بالقليل وترك المال والجاه فدخل لضرورة الجاه والغنى وأثنى فهو منافق. وهذا معنى قوله ﷺ "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القبل كما ينبت الماء البقل لأنه يحوج إلى الأمراء وإلى مراعاتهم ومراءاتهم. فأما إذا ابتلى به لضرورة وخاف إن لم يثن فهو معذور، فإن اتقاء الشر جائز. قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إنا لنكشر في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال "ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو" ثم لما دخل ألان له القول، فلما خرج قلت: يا رسول الله قلت فيه ما قلت ثم ألنت له القول، فقال "يا عائشة إن شر الناس الذي يكرم اتقاء شره ولكن هذا ورد في الإقبال وفي الكشر والتبسم: فأما الثناء فهو كذب صراح ولا يجوز إلا لضرورة أو إكراه يباح الكذب بمثله -كما ذكرنا في آفة الكذب- بل لا يجوز الثناء ولا التصديق ولا تحريك الرأس في معرض التقرير على كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه في معرض التقرير على كل كلام باطل، فإن فعل ذلك فهو منافق، بل ينبغي أن ينكر، فإن لم يقدر فيسكت بلسانه وينكر بقلبه.

الآفة الثامنة عشرة

المدح

وهو منهي عنه في بعض المواضع. أما الذم فهو الغيبة والوقيعة وقد ذكرنا حكمها. والمدح يدخله ست آفات: أربع في المادح، واثنتان في الممدوح.

فأما المادح، فالأولى: أنه قد يفرط فينتهي به إلى الكذب. قال خالد بن معدان: من مدح إماماً أو أحداً بما ليس فيه على رؤوس الأشهاد بعثه الله يوم القيامة يتعثر بلسانه.

والثانية: أنه قد يدخله الرياء فإنه بالمدح مظهر للحب، وقد لا يكون مضمراً له ولا معتقداً لجميع ما يقوله فيصير به مرائياً منافقاً.

الثالثة: أنه قد يقول ما لا يتحققه ولا سبيل له إلى الإطلاع عليه، وروي أن رجلاً مدح رجلاً عند النبي ﷺ فقال له عليه السلام "ويحك قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" ثم قال "إن كان أحدكم لا بد مادحاً أخاه فليقل أحسب فلاناً ولا أزكى على الله أحداً حسيبه الله إن كان يرى أنه كذلك وهذه الآفة تتطرق إلى المدح بالأوصاف المطلقة التي تعرف بالأدلة كقولة إنه متق وورع وزاهد وخير وما يجري مجراه، فأما إذا قال رأيته يصلي بالليل ويتصدق ويحج فهذه أمور مستيقنة. ومن ذلك قوله إنه عدل رضا فإن ذلك خفي فلا ينبغي أن يجزم القول فيه إلا بعد خبرة باطنة. سمع عمر رضي الله عنه رجلاً يثني على رجل فقال: أسافرت معه? قال: لا، قال: أخالطته في المبايعة والمعاملة? قال: لا. قال: فأنت جاره صباحه ومساءه? قال: لا. فقال: والله الذي لا إله إلا هو لا أراك تعرفه.

الرابعة: أنه قد يفرح الممدوح وهو ظالم أو فاسق وذلك غير جائز قال رسول الله ﷺ "إن الله تعالى يغضب إذا مدح الفاسق وقال الحسن: من دعا لظالم بطول البقاء فقد أحب أن يعصي الله تعالى في أرضه، والظالم الفاسق ينبغي أن يذم ليغتم ولا يمدح ليفرح.

وأما الممدوح فيضره من وجهين؛ أحدهما: أنه يحدث فيه كبراً وإعجاباً وهما مهلكان. قال الحسن رضي الله عنه كان عمر رضي الله عنه جالساً ومعه الدرة والناس حوله إذ أقبل الجارود بن المنذر، فقال رجل: هذا سيد ربيعة، فسمعها عمر ومن حوله وسمعها الجارود، فلما دنا منه خفقه بالدرة فقال: ما لي ولك يا أمير المؤمنين? قال: ما لي ولك أما سمعتها? قال: سمعتها فمه، قال: خشيت أن يخالط قلبك منها شيء فأحببت أن أطأطئ منك.

الثاني: هو أنه إذا أنثى عليه بالخير فرح به وفتر ورضي عن نفسه ومن أعجب بنفسه قل تشمره وإنما يتشمر للعمل من يرى نفسه مقصراً. فأما إذا انطلقت الألسن بالثناء عليه ظن أنه قد أدرك ولهذا قال عليه السلام "قطعت عنق صاحبك لو سمعها ما أفلح" وقال ﷺ "إذا مدحت أخاك في وجهه فكأنما أمررت على حلقه موسى وميضاً وقال أيضاً لمن مدح رجلاً "عقرت الرجل عقرك الله وقال مطرف: ما سمعت قط ثناء ولا مدحة إلا تصاغرت إلى نفسي. وقال زياد بن أبي مسلم: ليس أحد يسمع ثناء عليه أو مدحة إلا تراءى له الشطيان، ولكن المؤمن يراجع، فقال ابن المبارك: لقد صدق كلاهما أما ما ذكره زياد فذلك قلب العوام، وأما ما ذكره مطرف فذلك قلب الخواص. وقال ﷺ "لو مشى رجل إلى رجل بسكين مرهف كان خيراً له من أن يثني عليه في وجهه وقال عمر رضي الله عنه: المدح هو الذبح. وذلك لأن المذبوح هو الذي يفتر عن العمل والمدح يوجب الفتور، أو لأن المدح يورث العجب والكبر وهما مهلكان كالذبح؛ لذلك شبهه به. فإن سلم المدح من هذه الآفات في حق المادح والممدوح لم يكن به بأس بل ربما كان مندوباً غليه. ولذلك أثنى رسول الله ﷺ على الصحابة فقال "لو وزن إيمان أبي بكر بإيمان العالم لرجح وقال في عمر "لو لم أبعث لبعثت يا عمر وأي ثناء يزيد على هذا? ولكنه ﷺ قال عن صدق وبصيرة. وكانوا رضي الله عنهم أجل رتبة من أن يورثهم ذلك كبراً وعجباً وفتوراً. بل مدح الرجل نفسه قبيح لما فيه من الكبر والتفاخر إذ قال ﷺ "أنا سيد ولد آدم ولا فخر أي لست أقول هذا تفاخراً كما يقصد الناس بالثناء على أنفسهم. وذلك لأن افتخاره ﷺ كان بالله وبالقرب من الله لا بولد آدم وتقدمه عليه؛ كما أن المقبول عند الملك قبولاً عظيماً إنما يفتخر بقبوله إياه وبه يفرح لا بتقدمهعلى بعض رعاياه. وبتفصيل هذه الآفات تقدر على جمع بين ذم المدح وبين الحث عليه قال ﷺ "وجبت لما أثنوا على بعض الموتى. وقال مجاهد: إن لبني آدم جلساء من الملائكة فإذا ذكر الرجل المسلم أخاه المسلم بخير قالت الملائكة: ولك بمثله، وإذا ذكره بسوء قالت الملائكة: يا ابن آدم المستور عورتك أربع على نفسك واحم الله الذي ستر عورتك. فهذه آفات المدح.

بيان ما على الممدوح

اعلم أن على الممدوح أن يكون شديد الاحتراز عن آفة الكبر والعجب وآفة الفتور، ولا ينجو منه إلا بأن يعرف نفسه ويتأمل ما في خطر الخاتمة ودقائق الرياء وآفات الأعمال، فإنه يعرف من نفسه ما لا يعرفه المادح ولو انكشف له جميع أسراره وما يجري على خواطره لكف المادح عن مدحه وعليه أن يظهر كراهة المدح بإذلال المادح. قال ﷺ "احثوا التراب في وجوه المادحين وقال سفيان بن عيينة: لا يضر المدح من عرف نفسه. وأثنى على رجل من الصالحين فقال: اللهم إن هؤلاء لا يعرفوني وأنت تعرفني. وقال آخر لما أثنى عليه: اللهم إن عبدك هذا تقرب إلي بمقتك وأنا أشهدك على مقته. وقال علي رضي الله عنه لما أثنى عليه: اللهم اغفر لي ما لا يعلمون ولا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيراً مما يظنون. وأثنى رجل على عمر رضي الله عنه فقال: أتهلكني وتهلك نفسك? وأثنى رجل على علي كرم الله وجهه في وجهه -وكان قد بلغه أنه يقع فيه- فقال: أنا دون ما قلت وفوق ما في نفسك.

الآفة التاسعة عشر

الغفلة عن دقائق الخطأ في فحوى الكلام

لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته

ويرتبط بأمور الدين فلا يقدر على تقويم اللفظ في أمور الدين إلا العلماء الفصحاء، فمن قصر في علم أو فصاحة لم يخل كلامه عن الزلل لكن الله تعالى يعفو عنه لجهله. مثاله: ما قال حذيفة: قال النبي ﷺ "لا يقل أحدكم ما شاء الله وشئت ولكن ليقل ما شاء الله ثم شئت وذلك لأن في العطف المطلق تشريكاً وتسوية وهو على خلاف الاحترام. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ يكلمه في بعض الأمر فقال ما شاء الله وشئت، فقال ﷺ "أجعلتني لله عديلاً بل ما شاء الله وحده . وخطب رجل عند رسول الله ﷺ فقال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى فقال "قل: ومن يعص الله ورسوله فقد غوى فكره رسول الله ﷺ قوله: ومن يعصهما، لأنه تسوية وجمع. وكان إبراهيم يكره أن يقول الرجل: أعوذ بالله وبك، ويجوز أن يقول: أعوذ بالله ثم بك. وأن يقول: لولا الله ثم فلان? ولا يقول: لولا الله وفلان? وكره بعضهم أن يقال: اللهم أعتقنا من النار، وكان يقول: العتق يكون بعد الورود. وكانوا يستجيرون من النار ويتعوذون من النار. وقال رجل: اللهم اجعلني ممن تصيبه شفاعة محمد ﷺ فقال حذيفة: إن الله يغني المؤمنين عن شفاعة محمد وتكون شفاعته للمذنبين من المسلمين. وقال إبراهيم: إذا قال الرجل للرجل يا حمار يا خنزير! قيل له يوم القيامة، حماراً رأيتني خلقته خنزيراً رأيتني خلقته؛ وعن ابن عباس رضي الله عنهما: إن أحدكم ليشرك حتى يشرك بكلبه، فيقول: لولاه لسرقنا الليلة. وقال عمر رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ "إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما حلفت بها منذ سمعتها: وقال ﷺ "لا تسموا العنب كرماً إنما الكرم الرجل المسلم4" وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "لا يقولن أحدكم عبدي ولا أمتي كلكم عبيد الله وكل نسائكم إماء الله وليقل غلامي وجاريتي وفتاي وفتاتي، ولا يقول المملوك ربي ولا ربتي وليق سيدي وسيدتي فكلكم عبيد الله الرب الله سبحانه وتعالى" وقال ﷺ "لا تقولوا للفاسق سيدنا فإنه إن يكن سيدكم فقد أسخطتم ربكم وقال ﷺ "من قال أنا بريء من الإسلام فإن كان صادقاً فهو كما قال وإن كان كاذباً فلن يرجع إلى الإسلام سالماً فهذا وأمثاله مما يدخل في الكلام ولا يمكن حصره.

ومن تأمل جميع ما أوردنا من آفات اللسان علم أنه إذا أطلق لسانه لم يسلم وعند ذلك يعرف سر قوله ﷺ "من صمت نجا لأن هذه الآفات كلها مهالك ومعاطب وهي على طريق المتكلم فإن سكت سلم من الكل، وإن نطق وتكلم خاطر بنفسه إلا أن يوافقه لسان فصيح وعلم غزير وورع حافظ ومراقبة لازمة، ويقلل من الكلام فعساه يسلم عند ذلك، وهو مع جميع ذلك لا ينفك عن الخطر، فإن كنت لا تقدر على أن تكون ممن تكلم فغنم فكن ممن سكت فسلم فالسلامة إحدى الغنيمتين.

الآفة العشرون

سؤال العوام عن صفات الله تعالى وعن كلامه

وعن الحروف وأنها قديمة أو محدثة?

ومن حقهم الاشتغال بالعمل بما في القرآن إلا أن ذلك ثقيل على النفوس والفضول خفيف على القلب. والعامي يفرح بالخوض في العلم، إذ الشيطان يخيل إليه أنك من العلماء وأهل الفضل، ولا يزال يحبب إليه ذلك حتى يتكلم في العلم بما هو كفر وهو لا يدري. وكل كبيرة يرتكبها العامي فهي أسلم له من أن يتكلم في العلم لا سيما فيما يتعلق بالله وصفاته. وإنما شأن العوام الاشتغال بالعبادات والإيمان بما ورد به القرآن، والتسليم لما جاء به الرسل من غير بحث، وسؤالهم عن غير ما يتعلق بالعبادات سوء أدب منهم يستحقون به المقت من الله عز وجل ويتعرضون لخطر الكفر، وهو كسؤال ساسة الدواب عن أسرار الملوك وهو موجب للعقوبة. وكل من سأل عن علم غامض ولم يبلغ فهمه تلك الدرجة فهو مذموم، فإنه بالإضافة إليه عامي. ولذلك قال ﷺ "ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وقال أنس: سأل الناس رسول الله ﷺ يوماً فأكثروا عليه وأغضبوه فصعد المنبر وقال "سلوني لا تسألوني عن شيء إلا أنبأتكم به، فقام إليه رجل فقال: يا رسول الله من أبي? فقال "أبوك حذافة" فقال إليه شابان أخوان فقالا: يا رسول الله من أبوناً? فقال: أبوكما الذي تدعيان إليه، ثم قام إليه رجل آخر فقال: يا رسول الله أفي الجنة أنا أم في النار? فقال "لا بل في النار" فلما رأى الناس غضب رسول الله ﷺ أمسكوا فقام إليه عمر رضي الله عنه فقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد ﷺ نبياً، فقال "اجلس يا عمر رحمك الله إنك ما علمت لموفق .

وفي الحديث: نهى رسول الله ﷺ عن القيل والقال وإضاعة المال وكثرة السؤال وقال ﷺ "يوشك الناس يتساءلون بينهم حتى يقولوا قد خلق الله الخلق فمن خلق الله? فإذا قالوا ذلك فقولوا "قل هو الله أحد الله الصمد" حتى تختموا السورة ثم ليتفل أحدكم عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان الرجيم .

وقال جابر: ما نزلت آية المتلاعنين إلا لكثرة السؤال . وفي قصة موسى والخضر عليهما السلام تنبيه على المنع من السؤال قبل أوان استحقاقه إذ قال "فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكراً" فلما سأل عن السفينة أنكر عليه حتى اعتذر وقال "لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسراً" فلم يصبر حتى سأل ثلاثاً قال "هذا فراق بيني وبينك" وفارقه.

فسؤال العوام عن غوامض الدين من أعظم الآفات وهو من المثيرات للفتن، فيجب قمعهم ومنعهم من ذلك. وخوضهم في حروف القرآن يضاهي حال من كتب الملك إليه كتاباً ورسم له فيه أموراً فلم يشتغل بشي منها، وضيع زمانه في أن قرطاس الكتاب عتيق أو حديث? فاستحق بذلك العقوبة لا محالة. فكذلك تضييع العامي حدود القرآن واشتغاله بحروفه أهي قديمة أم حديثة? وكذلك سائر صفات الله سبحانه وتعالى. والله تعالى أعلم.

=============

المؤلف: أبو حامد الغزالي كتاب ذم الغضب والحقد والحسد

وهو الكتاب الخامس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي لا يتكل على عفوه ورحمته إلا الراجون، ولا يحذر سوء غضبه وسطوته إلا الخائفون، الذي استدرج عباده من حيث لا يعلمون، وسلط عليهم الشهوات وأمرهم بترك ما يشتهون، وابتلاهم بالغضب وكلفهم كظم الغيظ فيما يغضبون، ثم حفهم بالمكاره واللذات وأملى لهم لينظر كيف يعملون، وامتحن بهم حبهم ليعلم صدقهم فيما يدعون، وعرفهم أنه لا يخفى عليه شيء مما يسرون وما يعلنون، وحذرهم أن يأخذهم بغتة وهم لا يشعرون فقال "ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون" والصلاة والسلام على محمد رسوله الذي يسير تحت لوائه النبيون، وعلى آله وأصحابه الأئمة المهديين، والسادة المرضيين، صلاة يوازي عددها عدد ما كان من خلق الله وما سيكون، ويحظى ببركتها الأولون والآخرون، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد فإن الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، وإنها لمستكنة في طي الفؤاد. استكنان الجمر تحت الرماد، ويستخرجها الكبر الدفين في قلب كل جبار عنيد، كاستخراج الحجر النار من الحديد، وقد انكشف للناظرين بنور اليقين، أن الإنسان ينزع منه عرق إلى الشيطان اللعين، فمن استفزته نار الغضب فقد قويت فيه قرابة الشيطان حيث قال "خلقتني من نار وخلقته من طين" فإن شأن الطين السكون والوقار، وشأن النار التلظي والاستعار، والحركة والاضطراب، ومن نتائج الغضب الحقد والحسد، وبهما هلك من هلك وفسد من فسد، ومفيضهما مضغة إذا صلحت صلح معها سائر الجسد، وإذا كان الحقد والحسد والغضب، مما يسوق العبد إلى مواطن العطب، فما أحوجه إلى معرفة معاطبه ومساويه! ليحذر ذلك ويتقيه، ويمطيه عن القلب إن كان وينفيه، ويعالجه إن رسخ في قلبه ويداويه، فإن من لا يعرف الشر يقع فيه، ومن عرفه فالمعرفة لا تكفيه، ما لم يعرف الطريق الذي به يدفع الشر ويقصيه.

ونحن نذكر ذم الغضب وآفات الحقد والحسد في هذا الكتاب، ويجمعهما بيان ذم الغضب، ثم بيان حقيقة الغضب ثم بيان أن الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا? ثم بيان الأسباب المهيجة للغضب، ثم بيان علاج الغضب بعد هيجانه، ثم بيان فضيلة كظم الغيظ، ثم بيان فضيلة الحلم، ثم بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام، ثم القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق، ثم القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه ومعالجته وغاية الواجب في إزالته، ثم بيان السبب في كثرة الحسد بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه، ثم بيان الدواء الذي به ينفى مرض الحسد عن القلب، ثم بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب وبالله التوفيق.

بيان ذم الغضب

قال الله تعالى "إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين" الآية. ذم الكفار بما تظاهروا به من الحمية الصادرة عن الغضب بالباطل، ومدح المؤمنين بما أنزل الله عليهم من السكينة وروى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله مرني بعمل وأقلل، قال "لا تغضب" ثم أعاد عليه فقال "لا تغضب وقال ابن عمر: قلت لرسول الله ﷺ: قل لي قولاً وأقلله لعلي أعقله، فقال "لا تغضب" فأعدت عليه مرتين كل ذلك يرجع إلى "لا تغضب وعن عبد الله بن عمرو: أنه سأل رسول الله ﷺ ماذا ينقذني من غضب الله? قال "لا تغضب وقال ابن مسعود قال النبي صلى اللهعليه وسلم "ما تعدون الصرعة فيكم قلنا: الذي لا تصرعه الرجال، قال "ليس ذلك ولكن الذي يملك نفسه عند الغضب وقال أبو هريرة: قال النبي ﷺ "ليس الشديد بالصرعة وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب وقال ابن عمر: قال النبي ﷺ "من كف غضبه ستر الله عورته وقال سليمان ابن داود عليهما السلام: يا بني إياك وكثرة الغضب فإن كثرة الغضب تستخف فؤاد الرجل الحليم. وعن عكرمة في قوله تعالى "وسيداً وحصوراً" قال: السيد الذي لا يغلبه الغضب. وقال أبو الدرداء: قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: "لا تغضب وقال يحيى لعيسى عليهما السلام: لا تغضب، قال: لا أستطيع أن لا أغضب إنما أنا بشر، قال: لا تقتن مالاً، قال: هذا عسى. وقال ﷺ "الغضب يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل وقال ﷺ "ما غضب أحد إلا أشفى على جهنم وقال له رجل: أي شيء أشد علي قال "غضب الله" قال: فما يبعدني عن غضب الله? قال "لا تغضب .

الآثار: قال الحسن: يا ابن آدم كلما غضبت وثبت ويوشك أن تثب وثبة فتقع في النار. وعن ذي القرنين أنه لقي ملكاً من الملائكة فقال: علمني علماً أزداد به إيماناً ويقيناً، قال: لا تغضب فإن الشيطان أقدر ما يكون على ابن آدم حين يغضب، فرد الغضب بالكظم، وسكنه بالتؤدة. وإياك والعجلة فإنك إذا عجلت أخطأت حظك، وكن سهلاً ليناً للقريب والبعيد ولا تكن جباراً عنيداً. وعن وهب بن منبه. أن راهباً كان في صومعته فأراد الشيطان أن يضله فلم يستطع، فجاءه حتى ناداه فقال له: افتح، فلم يجبه فقال: افتح فإني إن ذهبت ندمت، فلم يلتفت إليه فقال إني أنا المسيح، قال الراهب: وإن كنت المسيح فما أصنع بك! أليس قد أمرتنا بالعبادة والاجتهاد ووعدتنا القيامة فلو جئتنا اليوم بغيره لم نقبله منك? فقال: إني الشيطان وقد أردت أن أضلك فلم أستطع? فجئتك لتسألني عما شئت فأخبرك، فقال: ما أريد أن أسألك عن شيء، قال: فولى مدبراً، فقال الراهب: ألا تسمع، قال: بلى، أخبرني أي أخلاق بني آدم أعون لك عليهم? فقال: الحدة إن الرجل إذا كان حديداً قلبناه كما يقلب الصبيان الكرة. وقال خيثمة: الشيطان يقول كيف يغلبني ابن آدم وإذا رضي جئت حتى أكون في قلبه? وإذا غضب طرت حتى أكون في رأسه? وقال جعفر بن محمد: الغضب مفتاح كل شر. وقال بعض الأنصار: رأس الحمق الحدة وقائده الغضب، ومن رضي بالجهل استغنى عن الحلم، والحلم زين ومنفعهة، والجهل شين ومضرة، والسكوت عن جواب الأحمق جوابه. وقال مجاهد: قال إبليس ما أعجزني بنود آدم فلن يعجزوني في ثلاث: إذا سكر أحدهم أخذنا بخزامته فقدناه حيث شئنا وعمل لنا بما أحببنا، وإذا غضب قال بما لا يعلم وعمل بما يندم، ونبخله بما في يديه ونمنيه بما لا يقدر عليه. وقيل لحكيم: ما أملك فلاناً لنفسه! قال: إذاً لا تذله الشهوة ولا يصرعه الهوى ولا يغلبه الغضب. وقال بعضهم: إياك والغضب فإنه يصيرك إلى ذلة الاعتذار. وقيل: اتقوا الغضب فإنه يفسد الإيمان كما يفسد الصبر العسل. وقال عبد الله بن مسعود: انظروا إلى حلم الرجل عند غضبه، وأمانته عند طمعه وما علمك بحلمه إذا لم يغضب، وما علمك بأمانته إذا لم يطمع? وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عامله أن لا تعاقب عند غضبك وإذا غضبت على رجل فاحبسه، فإن سكن غضبك فأخرجه فعاقبه على قدر ذنبه، ولا تجاوز به خمسة عشر سوطاً. وقال علي بن يزيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول فأطرق عمر زماناً طويلاً ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً? وقال بعضهم لابنه: يا بني لا يثبت العقل عند الغضب كما لا تثبت روح الحي في التنانير المسجورة، فأقل الناس غضباً أعقلهم، فإن كان للدنيا كان دعاء ومكراً، وإن كان للآخرة كان حلماً وعلماً، فقد قيل: الغضب عدو العقل والغضب غول العقل. وكان عمر رضي الله عنه إذا خطب قال في خطبته: أفلح منكم من حفظ من الطمع والهوى والغضب. وقال بعضهم: من أطاع شهوته وغضبه قاداه إلى النار. وقال الحسن: من علامات المسلم قوة في دين وحزم في لين وإيمان في يقين وعلم في حلم وكيس في رفق وإعطاء في حق وقصد في غنى وتجمل في فاقة وإحسان في قدرة وتحمل في رفاقة وصبر في شدة، لا يغلبه الغضب ولا تجمح به الحمية ولا تغلبه شهوة ولا تفضحه بطنه ولا يستخفه حرصه ولا تقصر به نيته، فينصر المظلوم ويرحم الضعيف ولا يبخل ولا يبذر ولا يسرف ولا يقتر، يغفر إذا ظلم ويعفو عن الجاهل. نفسه منه في عناء والناس منه في رخاء. وقيل لعبد الله بن المبارك أجمل لنا حسن الخلق في كلمة. فقال اترك الغضب. وقال نبي من الأنبياء لمن تبعه: من يتكفل لي أن لا يغضب فيكون معي في درجتي ويكون بعدي خليفتي? فقال شاب من القوم: أنا، ثم أعاد عليه فقال الشاب: أنا أوفي به، فلما مات كان في منزلته بعده وهو ذو الكفل، سمي به لأنه تكفل بالغضب ووفى به. وقال وهب بن منبه: للكفر أربعة أركان؛ الغضب، والشهوة، والخرق، والطمع.

بيان حقيقة الغضب

اعلم أن الله تعالى لما خلق الحيوان معرضاً للفساد والموتان، بأسباب في داخل بدنه وأسباب خارجة عنه؛ أنعم عليه بما يحميه عن الفساد ويدفع عنه الهلاك إلى أجل معلوم سماه في كتابه.

أما السبب الداخلي: فهو أنه ركبه من الحرارة والرطوبة، وجعل بين الحرارة والرطوبة عداوة ومضادة، فلا تزال الحرارة تحلل الرطوبة وتجففها وتبخرها حتى تصير أجزاؤها بخاراً يتصاعد منها، فلو لم يصل بالرطوبة مدد من الغذاء بجبر ما انحل وتبخر من أجزائها لفسد الحيوان، فخلق الله الغذاء الموافق لبدن الحيوان وخلق في الحيوان شهوة تبعثه على تناول الغذاء؛ كالموكل به في جبر ما انكسر وسد ما انثلم ليكون ذلك حافظاً له من الهلاك بهذا السبب.

وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان: فكالسيف والسنان وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة وحمية تثور من باطنه فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها بطينته. فمهما صد عن غرض من أغراضه ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب وثارت ثوراناً يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن، كما ترتفع النار وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فلذلك ينصب إلى الوجه فيحمر الوجه والعين، والبشر لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم كما تحكي الزجاجة لون ما فيها. وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب وصار حزناً، ولذلك يصفر اللون، وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط فيحمر ويصفر ويضطرب.

وبالجملة فقوة الغضب محلها القلب ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات قبل وقوعها وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها. والانتقام قوت هذه القوة وشهوتها وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به. ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاثة في أول الفطرة من التفريط والإفراط والاعتدال.

أما التفريط: فبفقد هذه القوة أو ضعفها وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه إنه لا حمية له. ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب فلم يغضب فهو حمار. فمن فقد قوة الغضب والحمية أصلاً فهو ناقص جداً، وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي ﷺ بالشدة والحمية فقال "أشداء على الكفار رحماء بينهم" وقال لنبيه ﷺ "جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم" الآية وإنما الغلظة والشدة من آثار قوة الحمية وهو الغضب.

وأما الإفراط: فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل والدين وطاعته، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ونظر وفكرة ولا اختيار، بل يصير في صورة المضطر. وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية: فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب لأن الغضب من النار كما قال ﷺ. وإنما برودة المزاج تطفئه وتكسر سورته. وأما الأسباب الاعتيادية: فهو أن يخالط قوماً يتبجحون بتشفي الغيظ وطاعة الغضب ويسمون ذلك شجاعة ورجولية، فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ولا أحتمل من أحد مراً! ومعناه لا عقل في ولا حلم. ثم يذكره في معرض الفخر بجهله. فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب وحب التشبه بالقوم فيقوى به الغضب. ومهما اشتدت نار الغضب وقوى اضطرامها أعمت صاحبها وأصمته عن كل موعظة، فإذا وعظ لم يسمع بل زاده ذلك غضباً، وإذا استضاء بنور عقله وراجع نفسه لم يقدر إذ ينطفئ نور العقل وينمحي في الحال بدخان الغضب، فإن معدن الفكر الدماغ، ويتصاعد عند شدة الغضب من غليان دم القلب دخان مظلم إلى الدماغ يستولي على معادن الفكر، وربما يتعدى إلى معادن الحس فتظلم عينه حتى لا يرى بعينه، وتسود عليه الدنيا بأسرها، ويكون دماغه على مثال كهف اضطرمت فيه نار. فاسود جوه وحمى مستقره وامتلأ بالدخان جوانيه وكان فيه سراج ضعيف فانمحى أو انطفأ نوره فلا تثبت فيه قدم ولا يسمع فيه كلام ولا ترى فيه صورة، ولا يقدر على إطفائه لا من داخل ولا من خارج، بل ينبغي أن يصبر إلى أن يحترق جميع ما يقبل الاحتراق: فكذلك يفعل الغضب بالقلب والدماغ. وربما تقوى نار الغضب فتفني الرطوبة التي بها حياة القلب، فيموت صاحبه غيظاً كما تقوى النار في الكهف فينشق وتنهد أعاليه على أسفله، وذلك لإبطال النار ما في جوانبه من القوة الممسكة الجامعة لأجزائه، فهكذا حال القلب عند الغضب. وبالحقيقة فالسفينة في ملتطم الأمواج عند اضطراب الرياح في لجة البحر أحسن حالاً وأرجى سلامة من النفس المضطربة غيظاً؛ إذ في السفينة من يحتال لتسكينها وتدبيرها وينظر لها ويسوسها، وأما القلب فهو صاحب السفينة وقد سقطت حيلته إذ أعماه الغضب وأصمه. ومن آثار هذا الغضب في الظاهر تغير اللون وشدة الرعدة في الأطراف وخروج الأفعال عن الترتيب والنظام واضطراب الحركة والكلام، حتى يظهر الزبد على الأشداق وتحمر الأحداق وتنقلب المناخر وتستحيل الخلقة، ولو رأى الغضبان في حالة غضبه قبح صورته لسكن غضبه حياء من قبح صورته واستحالة خلقته، وقبح باطنه أعظم من قبح ظاهره فإن الظاهر عنوان الباطن، وإنما قبحت صورة الباطن أولاً ثم انتشر قبحها إلى الظاهر ثانياً، فتغير الظاهر ثمرة تغير الباطن فقس الثمرة بالمثمرة فهذا أثره في الجسد.

وأما أثره في اللسان فانطلاقه بالشتم والفحش من الكلام الذي يستحي منه ذو العقل ويستحي منه قائله عند فتور الغضب، وذلك مع تخبط النظم واضطراب اللفظ.

أما أثره على الأعضاء فالضرب والتهجم والتمزيق والقتل والجرح عند التمكن من غير مبالاة، فإن هرب منه المغضوب عليه أو فاته بسبب وعجز عن التشفي رجع الغضب على صاحبه فمزق ثوب نفسه ويطلم نفسه، وقد يضرب بيده على الأرض ويعدو عدو الواله السكران والمدهوش المتحير، وربما يسقط سريعاً لا يطيق العدو والنهوض بسبب شدة الغضب ويعتريه مثل الغشية، وربما يضرب الجمادات والحيوانات فيضرب القصعة مثلاً على الأرض وقد يكسر المائدة إذا غضب عليها. ويتعاطى أفعال المجانين فيشتم البهيمة والجمادات ويخاطبها ويقول: إلى متى منك هذا يا كيت وكيت? كأنه يخاطب عاقلاً، حتى ربما رفسته فيرفس الدابة ويقابلها بذلك.

وأما أثرة في القلب مع المغضوب عليه فالحقد والحسد وإضمار السوء والشماتة بالمساءات والحزن بالسرور والعزم على إفشاء السر وهتك الستر والاستهزاء وغير ذلك من القبائح، فهذه ثمرة الغضب المفرط.

وأما ثمرة الحمية الضعيفة فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة والأمة واحتمال الذل من الأخساء وصغر النفس والقماءة وهو أيضاً مذموم، إذ من ثمراته عدم الغيرة على الحرام وهو خنوثة قال ﷺ "إن سعداً لغيور وأنا أغير من سعد وأن الله أغير مني وإنما خلقت الغيرة لحفظ الأنساب. ولو تسامح الناس بذلك لاختلطت الأنساب. ولذلكقيل كل أمة وضعت الغيرة في رجالها وضعت الصيانة في نسائها. ومن ضعف الغضب الخور والسكوت عند مشاهدة المنكرات وقد قال ﷺ "خير أمتي أحداؤها يعني في الدين وقال تعالى "ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله" بل من فقد الغضب عجز عن رياضة نفسه، إذ لا تتم الرياضة إلا بتسليط الغضب على الشهوة، حتى يغضب على نفسه عند الميل إلى الشهوات الخسيسة. ففقد الغضب مذموم، وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية وينطفئ حيث يحسن الحلم، وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده وهو الوسط الذي وصفه رسول الله ﷺ حيث قال "خير الأمور أوساطها فمن مال غضبه إلى الفتور حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. ومن مال غضبه إلى الإفراط حتى جره إلى التهور واقتحام الفواحش فينبغي أن يعالج نفسه لينقص من سورة الغضب ويقف على الوسط الحق بين الطرفين؛ فهو الصراط المستقيم وهو أرق من الشعرة وأحد من السيف؛ فأن عجز عنه فليطلب القرب منه قال تعالى "ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" فليس كل من عجز عن الإتيان بالخير كله ينبغي أن يأتي بالشر كله؛ ولكن بعض الشر أهون من بعض وبعض الخير أرفع من بعض. فهذه حقيقة الغضب ودرجاته نسأله الله حسن التوفيق لما يرضيه إنه على ما يشاء قدير.

بيان الغضب هل يمكن إزالة أصله بالرياضة أم لا

اعلم أنه ظن ظانون أنه يتصور محو الغضب بالكلية، وزعموا أن الرياضة إليه تتوجه وإياه تقصد، وظن آخرون أنه أصل لا يقبل العلاج. وهذا رأي من يظن أن الخلق كالخلق وكلاهما لا يقبل التغيير، وكلا الرأيين ضعيف. بل الحق فيه ما نذكره وهو أنه ما بقي الإنسان يحب شيئاً ويكره شيئاً فلا يخلو من الغيظ والغضب، وما دام يوافقه شيء ويخالفه آخر فلا بد من أن يحب ما يوافقه ويكره ما يخالفه، والغضب يتبع ذلك فإنه مهما أخذ منه محبوبه غضب لا محالة، وإذا قصد بمكروه غضب لا محالة.

إلا أن ما يحبه الإنسان ينقسم إلى ثلاثة أقسام، الأول: ما هو ضرورة في حق الكافة كالقوت والمسكن والملبس وصحة البدن، فمن قصد بدنه بالضرب والجرح فلا بد وأن يغضب، وكذلك إذا أخذ منه ثوبه الذي يستر عورته، وكذلك إذا أخرج من داره التي هي مسكنه أو أريق ماؤه الذي لعطشه، فهذه ضرورات لا يخلو الإنسان من كراهة زوالها ومن غيظ على من يتعرض لها.

القسم الثاني: ما ليس ضرورياً لأحد من الخلق كالجاه والمال الكثير والغلمان والدواب، فإن هذه الأمور صارت محبوبة بالعادة والجهل بمقاصد الأمور، حتى صار الذهب والفضة محبوبين في أنفسهما فيكنزان، ويغضب على من يسرقهما وإن كان مستغنياً عنهما في القوت، فهذا الجنس مما يتصور أن ينفك الإنسان عن أصل الغيظ عليه، فإذا كانت له دار زائدة على مسكنه فهدمه ظالم فيجوز أن لا يغضب، إذ يجوز أن يكون بصيراً بأمر الدنيا فيزهد في الزيادة على الحاجة فلا يغضب بأخذها، فإنه لا يحب وجودها ولو أحب وجودها لغضب على الضرورة بأخذها وأكثر غضب الناس على ما هو غير ضروري كالجاه والصيت والتصدر في المجالس والمباهاة في العلم، فمن غلب هذا الحب عليه فلا محالة يغضب إذا زاحمه مزاحم على التصدر في المحافل، ومن لا يحب ذلك فلا يبالي ولو جلس في صف النعال، فلا يغضب إذا جلس غيره فوقه. وهذه العادات الرديئة هي التي أكثرت محاب الإنسان ومكارهه فأكثرت غضبه، وكلما كانت الإرادات والشهوات أكثر كان صاحبها أحط رتبة وأنقص، لأن الحاجة صفة نقص فمهما كثرت كثر النقص، والجاهل أبدا جهده في أن يزيد في حاجاته وفي شهواته، وهو لا يدري أنه مستكثر من أسباب الغم والحزن، حتى ينتى بعض الجهال بالعادات الرديئة ومخالطة قرناء السوء إلى أن يغضب لو قيل له: إنك لا تحسن اللعب بالطيور واللعب بالشطرنج ولا تقدر على شرب الخمر الكثير وتناول الطعام الكثير، وما يجري مجراه من الرذائل، فالغضب على هذا الجنس ليس بضروري لأن حبه ليس بضروري.

القسم الثالث؛ ما يكون ضرورياً في حق بعض الناس دون البعض، كالكتاب مثلاً في حق العالم لأنه مضطر إليه فيحبه فيغضب على من يحرقه ويغرقه، وكذلك أدوات الصناعات في حق المكتسب الذي لا يمكنه التوصل إلى القوت إلا بها، فإنما هو وسيلة إلى الضروري، والمحبوب يصير ضرورياً ومحبوباً، وهذا يختلف بالأشخاص وإنما الحب الضروري ما أشار إليه رسول الله ﷺ بقوله "من أصبح آمناً في سربه معافى في بدنه وله قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ومن كان بصيراً بحقائق الأمور وسلم له هذه الثلاثة يتصور أن لا يغضب في غيرها فهذه ثلاثة أقسام فلنذكر غاية الرياضة في كل واحد منها.

أما القسم الأول: فليست الرياضة فيه لينعدم غيظ القلب ولكن لكي يقدر على أن لا يطيع الغضب ولا يستعمله في الظالم إلا على حد يستحبه الشرع ويستحسنه العقل، وذلك ممكن بالمجاهدة وتكلف الحلم والاحتمال مدة، حتى يصير الحلم والاحتمال خلقاً راسخاً فأما قمع أصل الغيظ من القلب فذلك ليس مقتضى الطبع وهو غير ممكن نعم يمكن كسر سورته وتضعيفه حتى لا يشتد هيجان الغيظ في الباطن، وينتهي ضعفه إلى أن لا يظهر أثره في الوجه، ولكن ذلك شديد جداً وهذا حكم القسم الثالث أيضاً لأن ما صار ضرورياً في حق شخص فلا يمنعه من الغيظ استغناء غيره عنه. فالرياضة فيبه تمنع العمل به وتضعف هجيانه في الباطن حتى لا يشتد التألم بالصبر عليه.

وأما القسم الثاني: فيمكن التوصل بالرياضة إلى الانفكاك عن الغضب عليه إذ يمكن إخراج حبه من القلب، وذلك بأن يعلم الإنسان أن وطنه القبر ومستقره الآخرة وأن الدنيا معبر يعبر عليها ويتزود منها قدر الضرورة، وما وراء ذلك عليه وبال في وطنه ومستقره فيزهد في الدنيا ويمحو حبها عن قلبه، ولو كان للإنسان كلب لا يحبه لا يغضب إذا ضربه غيره، فالغضب تبع للحب. فالرياضة في هذا تنتهي إلى قمع أصل الغضب وهو نادر جداً، وقد تنتهي إلى المنع من استعمال الغضب والعمل بموجبه وهو أهون.

فإن قلت: الضروري من القسم الأول التألم بفوات المحتاج إليه دون الغضب، فمن له شاة مثلاً وهي قوته فماتت لا يغضب على أحد وإن كان يحصل فيه كراهة، وليس من ضرورة كل كراهة غضب، فإن الإنسان يتألم بالفصد والحجامة ولا يغضب على الفصاد والحجام فمن غلب عليه التوحيد حتى يرى الأشياء كلها بيد الله ومنه فلا يغضب على أحد من خلقه؛ إذ يراهم مسخرين في قبضة قدرته كالقلم في يد الكاتب، ومن وقع ملك بضرب رقبته لم يغضب على القلم، فلا يغضب على من يذبح شاته التي هي قوته كما لا يغضب على موتها، إذ يرى الذبح والموت من الله عز وجل لا يقدر له إلا ما فيه الخيرة، وربما تكون الخيرة في مرضه وجوعه وجرحه وقتله، فلا يغضب كما لا يغضب على الفصاد والحجام لأنه يرى أن الخيرة فيه، فيقول هذا على هذا الوجهغير محال، ولكن غلبة التوحيد إلى هذا الحد إنما تكون كالبرق الخاطف، تغلب في أحوال مختلفة ولا تدوم، ويرجع القلب إلى الالتفات إلى الوسائط رجوعاً طبيعياً لا يندفع عنه، ولو تصور ذلك على الدوام لبشر لتصور لرسول الله ﷺ فإنه كان يغضب حتى تحمر وجنتاه حتى قال "اللهم أنا بشر أغضب كما يغضب البشر فأيما مسلم سببته أو لعنته أو ضربته فاجعلها مني صلاة عليه وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة وقال عبد اله بن عمرو بن العاص: يا رسول الله أكتب عنك كل ما قلت في الغضب والرضا فقال "اكتب فوالذي بعثني بالحق نبياً ما يخرج منه إلا حق" وأشار إلى لسانه فلم يقل إني لا أغضب، ولكن قال إن الغضب لا يخرجني عن الحق، أي لا أعمل بموجب الغضب. وغضبت عائشة رضي الله تعالى عنها مرة فقال لها رسول الله ﷺ "مالك? جاءك شيطانك" فقال: وما لك شيطان? قال "بلى ولكني دعوت الله فأعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير ولم يقل: لا شيطان لي، وأراد شيطان الغضب لكن قال: لا يحملني على الشر. وقال علي رضي الله تعالى عنه: كان رسول الله ﷺ لا يغضب للدنيا فإذا أغضبه الحق لم يعرفه أحد ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له فكان يغضب على الحق، وإن كان غضبه لله فهو التفات إلى الوسائط على الجملة، بل كل من يغضب على من يأخذ ضرورة قوته وحاجته التي لا بد له في دينه منها فإنما غضب لله، فلا يمكن الانفكاك عنه. نعم قد يفقد أصل الغضب فيما هو ضروري إذا كان القلب مشغولاً بضروري أهم منه، فلا يكون في القلب متسع للغضب لاشتغاله بغيره، فإن استغراق القلب ببعض المهمات يمنع الإحساس بما عداه.

وهذا كما أن سلمان لما شتم قال: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول. فقد كان همه مصروفاً إلى الآخرة فلم يتأثر قلبه بالشتم. وكذلك شتم الربيع بن خثيم فقال: يا هذا قد سمع الله كلامك وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه فقال: ما ستر الله عنك أكثر؛ فكأنه كان مشغولاً بالنظر في تقصير نفسه عن أن يتقي الله حق تقاته ويعرفه حق معرفته، فلم يغضبه نسبة غيره إياه إلى نقصان، إذ كان ينظر إلى نفسه بعين النقصان، وذلك لجلالة قدره. وقالت امرأة لمالك بن دينار: يا مرائي، فقال: ما عرفني غيرك! فكأنه كان مشغولاً بأن ينفي عن نفسه آفة الرياء، ومنكراً على نفسه ما يلقيه الشيطان إليه فلم يغضب لما نسب إليه. وسب رجل الشعبي فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.

فهذه الأقاويل دالة في الظاهر على أنهم لم يغضبوا لاشتغال قلوبهم بمهمات دينهم، ويحتمل أن يكون ذلك قد أثر في قلوبهم ولكنهم لم يشتغلوا به واشتغلوا بما كان هو الأغلب على قلوبهم، فإذاً اشتغال القلب ببعض المهمات لا يبعد أن يمنع هيجان الغضب عند فوات بعض المحاب؛ فإذاً يتصور فقد الغيظ إما باشتعال القلب بمهم، أو بغلبة نظر التوحيد، أو بسبب ثالث: وهو أن يعلم أن الله يحب منه أن لا يغتاط فيطفئ شدة حبه لله غيظه، وذلك غير محال في أحوال نادرة. وقد عرفت بهذا أن الطريق للخلاص من نار الغضب محو حب الدنيا عن القلب وذلك بمعرفة آفات الدنيا وغوائلها -كما سيأتي في كتاب ذم الدنيا- ومن أخرج حب المزايا عن القلب تخلص من أكثر أسباب الغضب، وما لا يمكن محوره يمكن كسره وتضعيفه فيضعف الغضب بسببه ويهون دفعه. نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه إنه على كل شيء قدير والحمد لله وحده.

بيان الأسباب المهيجة للغضب

قد عرفت أن علاج كل علة حسم مادتها وإزالة أسبابها فلا بد من معرفة أسباب الغضب. وقد قال يحيى لعيسى عليهما السلام: أي شيء أشد? قال: غضب الله، قال فما يقرب من غضب الله، قال أن تغضب، قال: فما يبدي الغضب وما ينبته? قال عيسى: الكبر والفخر والتعزز والحمية.

والأسباب المهيجة للغضب هي: الزهور والعجب والمزاح والهزل والهزء والتعيير والمماراة والمضادة والغدر وشدة الحرص على فضول المال والجاه، وهي بأجمعها أخلاق رديئة مذمومة شرعاً ولا خلاص من الغضب مع بقاء هذه الأسباب فلا بد من إزالة هذه الأسباب بأضدادها.

فينبغي أن تميت الزهو بالتواضع. وتميت العجب بمعرفتك بنفسك -كما سيأتي بيانه في كتاب الكبر والعجب- وتزيل الفخر بأنك من جنس عبدك إذ الناس يجمعهم في الانتساب أب واحد؛ وإنما اختلفوا في الفضل أشتاتاً فبنو آدم جنس واحد وإنما الفخر بالفضائل؛ والفخر والعجب والكبر أكبر الرذائل وهي أصلها ورأسها، فإذا لم تخل عنها فلا فضل لك على غيرك، فلم تفتخر وأنت من جنس عبدك من حيث البنية والنسب والأعضاء الظاهرة والباطنة? وأما المزاح فتزيله بالتشاغل بالمهمات الدينية التي تستوعب العمر وتفضل عنه إذا عرفت ذلك. وأما الهزء فتزيله بالتكرم عن إيذاء الناس وبصيانة النفس عن أن يستهزأ بك. وأما التعيير فالحذر عن القول القبيح وصيانة النفس عن مر الجواب. وأما شدة الحرص على مزايا العيش فتزال بالقناعة بقدر الضرورة طلباً لعز الاستغناء وترفعاً عن ذل الحاجة.

وكل خلق من هذه الأخلاق وصفة من هذه الصفات يفتقر في علاجه إلى رياضة وتحمل مشقة، وحاصل رياضتها يرجع إلى معرفة غوائلها لترغب النفس عنها وتنفر عن قبحها، ثم المواظبة على مباشرة أضدادها مدة مديدة حتى تصير بالعادة مألوفة هينة على النفس، فإذا انمحت عن النفس فقد زكت وتطهرت عن هذه الرذائل وتخلصت أيضاً عن الغضب الذي يتولد منها. ومن أشد البواعث على الغضب عند أكثر الجهال تسميتهم الغضب شجاعة ورجولية وعزة نفس وكبر همة، وتلقيبه بالألقاب المحمودة غباوة وجهلاً حتى تميل النفس إليه وتستحسنه. وقد يتأكد ذلك بحكاية شدة الغضب عن الأكابر في معرض المدح بالشجاعة، والنفوس مائلة إلى التشبه بالأكابر فيهيج الغضب إلى القلب بسببه، وتسمية هذا عزة نفس وشجاعة جهل بل هو مرض قلب ونقصان عقل وهو لضعف النفس ونقصانها، وآية أنه لضعف النفس أن المريض أسرع غضباً من الصحيح، والمرأة أسرع غضباً من الرجل، والصبي أسرع غضباً من الرجل الكبير، والشيخ الضعيف أسرع غضباً من الكهل، وذو الخلق السيئ والرذائل القبيحة أسرع غضباً من صاحب الفضائل. فالرذل يغضب لشهوته إذا فاتته اللقمة، ولبخله إذا فاتته الحبة، حتى أنه يغضب على أهله وولده وأصحابه. بل القوي من يملك نفسه عند الغضب كما قال رسول الله ﷺ "ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب بل ينبغي أن يعالج هذا الجاهل بأن تتلى عليه حكايات أهل الحلم والعفو وما استحسن منهم من كظم الغيظ، فإن ذلك منقول عن الأنبياء والأولياء والحكماء والعلماء وأكابر الملوك الفضلاء، وضد ذلك منقول عن الأكراد والأتراك والجهلة والأغبياء الذين لا عقول لهم ولا فضل فيهم.

بيان علاج الغضب بعد هيجانه

ما ذكرناه هو حسم لمواد الغضب وقطع لأسبابه حتى لا يهيج، فإذا جرى سبب هيجه فعنده يجب التثبت حتى لا يضطر صاحبه إلى العمل به على الوجه المذموم، وإنما يعالج الغضب عند هيجانه بمعجون العلم والعمل.

أما العلم فهو ستة أمور؛ الأول: أن يتفكر في الأخبار التي سنوردها في فضل كظم الغيظ والعفو والحلم والاحتمال فيرغب في ثوابه، فتمنعه شدة الحرص على ثواب الكظم عن التشفي والانتقام وينطفئ عنه غيظه، قال مالك بن أوس ابن الحدثان: غضب عمر على رجل وأمر بضربه فقلت يا أمير المؤمنين "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فكان عمر يقول "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فكان يتأمل في الآية وكان وقافاً عند كتاب الله مهما تلي عليه كثير التدبر فيه فتدبر فيه وخلى الرجل. وأمر عمر بن عبد العزيز بضرب رجل ثم قرأ قوله تعالى "والكاظمين الغيظ" فقال لغلامه خل عنه.

الثاني: أن يخوف نفسه بعقاب الله وهو أن يقول قدرة الله على أعظم من قدرتي على هذا الإنسان، فلو أمضيت غضبي عليه لم آمن أن يمضي الله غضبه علي يوم القيامة أحوج ما أكون إلى العفو. فقد قال تعالى في بعض الكتب القديمة: يا ابن آدم اذكرني حين تغضب أذكرك حين أغضب فلا أمحقك فيمن أمحق. وبعث رسول الله ﷺ وصيفاً إلى حاجة فأبطأ عليه فلما جاء قال "لولا القصاص لأوجعتك أي القصاص في القيامة. وقيل ما كان في بني إسرائيل ملك إلا ومعه حكيم إذا غضب أعطاه صحيفة فيها: ارحم المسكين واخش الموت واذكر الآخرة، فكان يقرؤها حتى يسكن غضبه.

الثالث: أن يحذر نفسه عاقبة العداوة والانتقام وتشمر العدو لمقابلته والسعي في هدم أغراضه والشماتة بمصائبه وهو لا يخلو عن المصائب فيخوف نفسه بعواقب الغضب في الدنيا إن كان لا يخاف من الآخرة. وهذا يرجع إلى تسليط شهوة على غضب وليس هذا من أعمال الآخرة ولا ثواب عليه، لأنه متردد على حظوظه العاجلة يقدم بعضها على بعض، غلا أن يكون محذوره أن تتشوش عليه في الدنيا فراغته للعلم والعمل وما يعينه على الآخرة فيكون مثاباً عليه.

الرابع: أن يتفكر في قبح صورته عند الغضب بأن يتذكر صورة غيره في حالة الغضب، ويتفكر في قبح الغضب في نفسه ومشابهة صاحبه للكلب الضاري والسبع العادي، ومشابهة الحليم الهادئ التارك للغضب للأنبياء والأولياء والعلماء والحكماء، ويخير نفسه بين أن يتشبه بالكلاب والسباع وأرذال الناس وبين أن يتشبه بالعلماء والأنبياء في عادتهم لتميل نفسه إلى حب الاقتداء بهؤلاء إن كان قد بقي معه مسكة من عقل.

الخامس: أن يتفكر في السبب الذي يدعوه إلى الإنتقام ويمنعه من كظم الغيظ، ولا بد وأن يكون له سبب مثل قول الشيطان له: إن هذا يحمل منك على العجز وصغر النفس والذلة والمهانة وتصير حقيراً في أعين الناس! فيقول لنفسه: ما أعجبك! تأنفين من الاحتمال الآن ولا تأنفين من خزي يوم القيامة والافتضاح إذا أخذ هذا بيدك وانتقم منك? وتحذرين من أن تصغري في أعين الناس ولا تحذرين من أن تصغري عند الله والملائكة والنبيين? فمهما كظم الغيظ فينبغي أن يكظمه لله، وذلك يعظمه عند الله، فما له وللناس? وذل من ظلمه يوم القيامة أشد من ذله له انتقم الآن، أفلا يحب أن يكون هو القائم إذا نودي يوم القيامة: ليقم من أجره على الله، فلا يقوم إلا من عفا? فهذا وأمثاله من معارف الإيمان ينبغي أن يكرره على قلبه.

السادس: أن يعلم أن غضبه من تعجبه من جريان الشيء على وفق مراد الله لا على وفق مراده، فكيف يقول مرادي أولى من مراد الله? ويوشك أن يكون غضب الله عليه أعظم من غضبه.

وأما العمل فإن تقول بلسانك أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. هكذا أمر رسول الله ﷺ أن يقال عند الغيظ وكان رسول الله ﷺ إذا غضبت عائشة أخذ بأنفها وقال "يا عويش قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن فيستحب أن تقول ذلك، فإن لم يزل بذلك فاجلس إن كنت قائماً واضجع إن كنت جالساً واقرب من الأرض التي منها خلقت لتعرف بذلك ذل نفسك، واطلب بالجلوس والاضجاع السكون فإن سبب الغضب الحرارة وسبب الحرارة الحركة. فقد قال رسول الله ﷺ "إن الغضب جمرة توقد في القلب ألم تروا إلى انتفاخ أوداجه وحمره عينيه، فإذا وجد أحدكم من ذلك شيئاً فإن كان قائماً فليجلس وإن كان جالساً فلينم، فإن لم يزل ذلك فليتوضاً بالماء البارد أو يغتسل، فإن النار لا يطفئها إلا الماء: فقد قال ﷺ "إذا غضب أحدكم فليوضأ بالماء فإنما الغضب من النار وفي وراية "إن الغضب من الشيطان وإن الشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليتوضأ" وقال ابن عباس: قال رسول الله ﷺ "وإذا غضبت فاسكت وقال أبو هريرة: كان رسول الله ﷺ إذا غضب وهو قائم جلس وإذا غضب وهو جالس اضطجع فيذهب غضبه وقال أبو سعيد الخدري: قال النبي ﷺ "ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه فمن وجد من ذلك شيئاً فليلصق خده بالأرض" وكأن هذا إشارة إلى السجود وتمكين أعز الأعضاء من أذل المواضع وهو التراب لتستشعر به النفس الذل وتزايل به العزة والزهو الذي هو سبب الغضب.

وروي أن عمر غضب يوماً فدعا بماء فاستنشق وقال: إن الغضب من الشيطان وهذا يذهب الغضب. وقال عروة ابن محمد: لما استعملت على اليمن قال لي أبي: أوليت? قلت: نعم، قال: فإذا غضبت فانظر إلى السماء فوقك وإلى الأرض تحتك ثم عظم خالقهما. وروي أن أبا ذر قال لرجل: يا ابن الحمراء -في خصومة بينهما- فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال "يا أبا ذر بلغني أنك اليوم عيرت أخاك بأمه" فقال: نعم، فانطلق أبو ذر ليرضي صاحبه فسبقه الرجل فسلم عليه فذكر ذلك لرسول الله ﷺ فقال "يا أبا ذر ارفع رأسك فانظر ثم اعلم أنك لست بأفضل من أحمر فيها ولا أسود إلا أن تفضله بعمل" ثم قال "إذا غضبت فإن كنت قائماً فاقعد وإن كنت قاعداً فاتكئ وإن كنت متكئاً فاضطجع وقال المعتمر بن سليمان: كان رجل ممن كان قبلكم يغضب فيشتد غضبه فكتب صحائف وأعطى كل صحيفة رجلاً وقال للأول: إذا غضبت فأعطني هذه، وقال للثاني: إذا سكن بعض غضبي فأعطني هذه، وقال للثالث: إذا ذهب غضبي فأعطني هذه، فاشتد غضبه يوماً فأعطى الصحيفة الأولى فإذا فيها ما أنت وهذا الغضب إنك لست بإله إنما أنت بشر يوشك أن يأكل بعضك بعضاً، فسكن بعض غضبه، فأعطي الثانية فإذا فيها: ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء، فأعطي الثالثة فإذا فيها: خذ الناس بحق الله فإنه لا يصلهم إلا ذلك. أي لا تعطل الحدود. وغضب المهدي على رجل فقال شبيب: لا تغضب لله بأشد من غضبه لنفسه، فقال: خلوا سبيله.

فضيلة كظم الغيظ

قال الله تعالى "والكاظمين الغيظ" وذكر ذلك في معرض المدح. وقال رسول الله ﷺ "من غضبه كف الله عنه عذابه ومن اعتذر إلى ربه قبل الله عذره ومن خزن لسانه ستر الله عورته وقال ﷺ "أشدكم من غلب نفسه عند الغضب وأحلمكم من عفا عند القدرة وقال ﷺ "من كظم غيظاً ولو شاء أن يمضيه لأمضاه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضا" وفي وراية "ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً وقال ابن عمر: قال رسول الله ﷺ "ما جرع عبد جرعة أعظم أجراً من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله تعالى وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال ﷺ "إن لجهنم باباً لا يدخله إلى من شفى غيظه بمعصية الله تعالى وقال ﷺ "ما من جرعة أحب إلى الله تعالى من جرعة غيظ كظمها عبد وما كظمها عبد إلا ملأ الله قلبه إيمانا وقال ﷺ "من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق ويخيره من أي الحور شاء .

الآثار: قال عمر رضي الله عنه: من اتقى الله لم يشف غيظه ومن خاف الله لم يفعل ما يشاء ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون. وقال لقمان لابنه: يا بني لا تذهب ماء وجهك بالمسألة ولا تشف غيظك بفضيحتك واعرف قدرك تنفعك معيشتك. وقال أيوب: حلم ساعة يدفع شراً كثيراً. واجتمع سفيان الثوري وأبو خزيمة اليربوعي والفضيل بن عياض فتذاكروا الزهد، فأجمعوا على أن أفضل الأعمال الحلم عند الغضب والصبر عند الجزع. وقال رجل لعمر رضي الله عنه: والله ما تقضي بالعدل ولا تعطي الجزل، فغضب عمر حتى عرف ذلك في وجهه. فقال له رجل. يا أمير المؤمنين ألا تسمع إلى الله تعالى يقول "خذ العفو أمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" فهذا من الجاهلين، فقال عمر: صدقت، فكأنما كانت ناراً فأطفئت. وقال محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه استكمل الإيمان بالله، إذا رضي لم يدخله رضاه في الباطل وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق وإذا قدر لم يتناول ما ليس له. وجاء رجل إلى سلمان فقال: يا عبد الله أوصني، قال: لا تغضب، قال لا أقدر، قال: فإن غضبت فأمسك لسانك ويدك.

بيان فضيلة الحلم

اعلم أن الحلم أفضل من كظم الغيظ؛ لأن كظم الغيظ عبارة عن التحلم أي تكلف الحلم، ولا يحتاج إلى كظم الغيظ إلا من هاج غيظه ويحتاج فيه إلى مجاهدة شديدة، ولكن إذا تعود ذلك مدة صار ذلك اعتياداً فلا يهيج الغيظ، وإن هاج فلا يكون في كظمه تعب، وهو الحلم الطبيعي، وهو دلالة كمال العقل واستيلائه وانكسار قوة الغضب وخضوعها للعقل، ولكن ابتداؤه التحلم وكظم الغيظ تكلفاً. قال ﷺ "إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلم ومن يتخير الخير يعطه ومن يتوق الشر يوقه وأشار بهذا إلى أن اكتساب الحلم طريقه التحلم أولاً وتكلفه كما أن اكتساب العلم طريقه التعلم. وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "اطلبوا العلم واطلبوا مع العلم السكينة والحلم، لينوا لمن تعلمون ولمن تتعلمون منه، ولا تكونوا من جبابرة العلماء فيغلب جهلكم حلمكم وأشار بهذا إلى أن التكبر والتجبر هو الذي يهيج الغضب ويمنع من الحلم واللين. وكان من دعائه ﷺ اللهم أغنني بالعلم وزيني بالحلم وأكرمني بالتقوى وجملني بالعافية وقال أبو هريرة "قال النبي ﷺ "ابتغوا الرفعة عند الله. قالوا: وما هي يا رسول الله? قال "تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحلم عمن جهل عليك وقال ﷺ "خمس من سنن المرسلين: الحياء والحلم والحجامة والسواك والتعطر وقال علي كرم الله وجهه: قال النبي ﷺ "إن الرجل المسلم ليدرك بالحلم درجة الصائم القائم وإنه ليكتب جباراً عنيداً ولا يملك إلا أهل بيته وقال أبو هريرة: إن رجلاً قال يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني وأحسن إليهم ويسيئون إلي ويجهلون علي وأحلم عنهم، قال "إن كان كما تقول فكأنما تسفهم المل ولا يزال معك من الله ظهير ما دمت على ذلك المل: يعني به الرمل. وقال رجل من المسلمين: اللهم ليس عندي صدقة أتصدق بها فأيما رجل أصاب من عرضي شيئاً فهو عليه صدقة فأوحى الله تعالى إلى النبي ﷺ إني قد غفرت له وقال ﷺ "أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم" قالوا: وما أبو ضمضم? قال "رجل ممن كان قبلكم كان إذا أصبح يقول: اللهم إني تصدقت اليوم بعرضي على من ظلمني .

وقيل في قوله تعالى "ربانيين" أي حلماء علماء. وعن الحسن في قوله تعالى "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" قال حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال عطاء بن أبي رباح "يمشون على الأرض هوناً" أي حلماء. وقال ابن أبي حبيب في قوله عز وجل "وكهلا" قاله: الكهل منتهى الحلم. وقال مجاهد "وإذا مروا باللغو مروا كراما" أي إذا أوذوا صفحوا.

وروي أن ابن مسعود مر بلغو معرضاً فقال رسول الله ﷺ "أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً ثم تلا إبراهيم بن ميسرة وهو الراوي قوله تعالى "وإذا مروا باللغو مروا كراما" وقال النبي ﷺ "اللهم لا يدركني ولا أدركه زمان لا يتبعون فيه العليم ولا يستحيون فيه من الحليم، قلوبهم قلوب العجم وألسنتهم ألسنة العرب وقال ﷺ "ليليني منكم ذوو الأحلام والنهي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ولا تختلفوا فتخلف قلوبكم، وإياكم وهيشات الأسواق وروي أنه وفد على النبي ﷺ الأشج فأناخ راحلته ثم عقلها وطرح عنه ثوبين كانا عليه وأخرج من العيبة ثوبين حسنين فلبسهما. وذلك بعين رسول الله ﷺ يرى ما يصنع، ثم أقبل يمشي إلى رسول الله ﷺ فقال عليه السلام "إن فيك يا أشج خلقين يحبهما الله ورسوله "قال: ما هما بأبي أنت وأمي يا رسول الله? قال "الحلم والأناة" فقال: خلتان تخلقتهما أو خلقان جبلت عليهما? فقال: بل خلقان جبلك الله عليهما" فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله وقال ﷺ "إن الله يحب الحليم الحي الغني المتعفف أبا العيال التقي ويبغض الفاحش البذيء السائل الملحف الغبي وقال ابن عباس: قال النبي ﷺ "ثلاث من لم تكن فيه واحدة منهن فلا تعتدوا بشيء من عمله: تقوى تحجزه عن معاصي الله عز وجل. وحلم يكف به السفيه، وخلق يعيش به في الناس وقال رسول الله ﷺ "إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد: أين أهل الفضل? فيقوم ناس وهم يسير فينطلقون سراعاً إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة فتقولون لهم إنا نراكم سراعاً إلى الجنة فيقولون نحن أهل الفضل، فيقولون لهم ما كان فضلكم? فيقولون كنا إذا ظلمنا صبرنا وإذا أسيء إلينا عفونا وإذا جهل علينا حلمنا. فيقال لهم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين .

الآثار: قال عمر رضي الله عنه: تعلموا العلم وتعلموا للعلم السكينة والحلم. وقال علي رضي الله عنه: ليس الخير أن يكثر مالك وولدك، ولكن الخير أن يكثر علمك ويعظم حلمك، وأن لا تباهي الناس بعبادة الله، وإذا أحسنت حمدت الله تعالى، وإذا أسأت استغفرت الله تعالى. وقال الحسن: اطلبوا العلم وزينوه بالوقار والحلم. وقال أكثم بن صيفي: دعامة العقل الحلم وجماع الأمر الصبر. وقال أبو الدرداء: أدركت الناس ورقا لا شوك فيه فأصبحوا شوكاً لا ورق فيه، إن عرفتهم نقدوك وإن تركتهم لم يتركوك، قالوا: كيف نصنع? قال: تقرضهم عن عرضك ليوم فقرك. وقال علي رضي الله عنه: إن أول ما عوض الحليم عن حلمه جهله وصبره وشهوته، ولا يبلغ ذلك إلا بقوة العلم، وقال معاوية لعمرو بن الأهتم: أي الرجال أشجع? قال: من رد جهله بحلمه. قال: أي الرجال أسخى? قال: من بذل دنياه لصلاح دينه. وقال أنس بن مالك في قوله تعالى "فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" إلى قوله "عظيم" هو الرجل يشتمه أخوه فيقول: إن كنت كاذباً فغفر الله لك وإن كنت صادقاً فغفر الله لي. وقال بعضهم: شتمت فلاناً من أهل البصرة فحلم علي فاستعبدني بها زماناً. وقال معاوية لعرابة بن أوس: بم سدت قومك يا عرابة? قال: يا أمير المؤمنين كنت أحلم عن جاهلهم وأعطي سائلهم وأسعى في حوائجهم. فمن فعل فعلي فهو مثلي ومن جاوزني فهو أفضل مني ومن قصر عني فأنا خير منه. وسب رجل ابن عباس رضي الله عنهما فلما فرغ قال: يا عكرمة هل للرجل حاجة فنقضيها? فنكس الرجل رأسه واستحى. وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: أشهد أنك من الفاسقين، فقال: ليس تقبل شهادتك. وعن علي بن الحسين بن علي رضي الله عنهم أنه سبه رجل فرمى إليه بخميصة كانت عليه وأمر له بألف درهم، فقال بعضهم: جمع له خمس خصال محمودة: الحلم وإسقاط الأذى وتخليص الرجل مما يبعد من الله عز وجل وحمله على الندم والتوبة ورجوعه إلى مدح بعد الذم اشترى جميع ذلك بشيء من الدنيا يسير وقال رجل لجعفر بن محمد إنه قد وقع بيني وبين قوم منازعة في أمر وإني أريد أن أتركه فأخشى أن يقال لي: إن تركك له ذل، فقال جعفر: إنما الذليل الظالم. وقال الخليل بن أحمد: كان يقال من أساء فأحسن إليه فقد جعل له حاجز من قلبه يردعه عن مثل إساءته وقال الأحنف بن قيس: لست بحليم ولكني أتحلم. وقال وهب بن منبه: من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم، ومن يجهل يغلب، ومن يعجل يخطئ، ومن يحرص على الشر لا يسلم، ومن لا يدع المراء يشتم، ومن لا يكره الشر يأثم، ومن يكره الشر يعصم، ومن يتبع وصية الله يحفظ، ومن يحذر الله يأمن، ومن يتول الله يمنع ومن لا يسأل الله يفتقر، ومن يأمن مكر الله يخذل، ومن يستعن بالله يظفر. وقال رجل لمالك بن دينار: بلغني أنك ذكرتني بسوء، قال، أنت إذن أكرم علي من نفسي إني إذا فعلت ذلك أهديت لك حسناتي. وقال بعض العلماء الحلم أرفع من العقل لأن الله تعالى تسمى به. وقال رجل لبعض الحكماء: والله لأسبنك سباً يدخل معك في قبرك، فقال: معك يدخل لا معي. ومر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم من اليهود فقالوا له شراً فقال لهم خيراً فقيل له: إنهم يقولون شراً وأنت تقول خيراً? فقال: كل ينفق مما عنده. وقال لقمان: ثلاثة لا يعرفون إلا عند ثلاثة؛ لا يعرف الحليم إلا عند الغضب، ولا الشجاع إلا عند الحرب، ولا الأخ إلا عند الحاجة إليه. ودخل على بعض الحكماء صديق له فقدم إليه طعاماً فخرجت امرأة الحكيم -وكانت سيئة الخلق- فرفعت المائدة وأقبلت على شتم الحكيم، فخرج الصديق مغضباً فتبعه الحكيم وقال له تذكر يوم كنا في منزلك نطعم فسقطت دجاجة على المائدة فأفسدت ما عليها فلم يغضب أحد منا? قال: نعم، قال فاحسب أن هذه مثل تلك الدجاجة؛ فسرى عن الرجل غضبه وانصرف وقال: صدق الحكيم، الحلم شفاء من كل ألم. وضرب رجل قدم حكيم فأوجعه فلم يغضب فقيل له في ذلك فقال: أقمته مقام حجر تعثرت به فذبحت الغضب. وقال محمود الوراق: سألزم نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه علي الـجـرائم

وما الناس إلا واحـد مـن ثـلاثة شريف ومشروف ومثلي مقـام

فأما الذي فوق فأعـرف قـدره وأتبع فيه الحق والـحـق لازم

وأما الذي دوني فإن قال صنت عن إجابتـه عـرضـي وإن لام لائم

وأما الذي مثل فإن زل أو هـفـا تفضلت إن الفضل بالحلم حاكـم

بيان القدر الذي يجوز الانتصار والتشفي به من الكلام

اعلم أن كل ظلم صدر من شخص فلا يجوز مقابلته بمثله، فلا تجوز مقابلة الغيبة بالغيبة ولا مقابلة التجسس بالتجسس ولا السب بالسب. وكذلك سائر المعاصي. وإنما القصاص والغرامة على قدر ما ورد الشرع به وقد فصلناه في الفقه.

وأما السبب فلا يقال بمثله إذ قال رسول الله ﷺ "إن امرؤ عيرك بما فيك فلا تعيره بما فيه وقال "المستبان ما قالا فهو على البادئ ما لم يعتد المظلوم" وقال "المستبان شيطانان يتهاتران وشتم رجل أبا بكر الصديق رضي الله عنه وهو ساكت فلما ابتدأ ينتصر منه قام رسول الله ﷺ فقال أبو بكر: إنك كنت ساكتاً لما شتمني فلما تكلمت قمت قال "لأن الملك كان يجيب عنك فلما تكلمت ذهب الملك وجاء الشيطان فلم أكن لأجلس في مجلس فيه الشيطان وقال قوم: تجوز المقابلة بما لا كذب فيه، وإنما نهى رسول الله ﷺ عن مقابلة التعيير بمثله نهي تنزيه، والأفضل تركه ولكنه لا يعصى به. والذي يرخص فيه أن تقول: من أنت? وهل أنت إلا من بني فلان? كما قال سعد لابن مسعود: وهل أنت إلا من بني هذيل? وقال ابن مسعود: وهل أنت إلا من بني أمية، ومثل قوله: يا أحمق، قال مطرف: كل الناس أحمق فيما بينه وبين ربه إلا أن بعض الناس أقل حماقة من بعض. وقال ابن عمر في حديث طويل: حتى ترى الناس كلهم حمقى في ذات الله تعالى وكذلك قوله يا جاهل، إذ ما من أحد إلا وفيه جهل؛ فقد آذاه بما ليس بكذب. وكذلك قوله يا سيئ الخلق، يا صفيق الوجه يا ثلايا للإعراض، وكان ذلك فيه. وكذلك قوله: لو كان فيك حياء لما تكلمت، وما أحقرك في عيني بما فعلت، وأخزاك الله وانتقم منك.

فأما النميمة والغيبة والكذب وسب الوالدين فحرام بالاتفاق، لما روي أن كان بين خالد بن الوليد وسعد كلام، فذكر رجل خالداً عند سعد، فقال سعد: مه إن ما بيننا لم يبلغ ديننا. يعني أن يأثم بعضنا في بعض، فلم يسمع السوء فكيف يجوز له أن يقوله?

والدليل على جواز ما ليس بكذب ولا حرام كالنسبة إلى الزنا والفحش والسب: ما روت عائشة رضي الله عنها أن أزواج النبي ﷺ أرسلن إليه فاطمة، فجاءت فقالت: يا رسول الله أرسلني إليك أزواجك يسألنك العدل في ابنة أبي قحافة، والنبي ﷺ نائم، فقال "يا بنية أتحبين ما أحب? قالت: نعم، قال "فأحبي هذه" فرجعت إليهن فأخبرتهن بذلك فقلن: ما أغنيت عنا شيئاً: فأرسلن زينب بنت جحش، قالت: وهي التي كانت تساميني في الحب فجاءت فقالت: بنت أبي بكر وبنت أبي بكر، فما زالت تذكرني وأنا ساكتة أنتظر أن يأذن لي رسول الله ﷺ في الجواب فأذن لي، فسببتها حتى جف لساني فقال النبي ﷺ "كلا إنها ابنة أبي بكر يعني أنك لا تقاومينها في الكلام قط وقولها: سببتها، ليس المراد به الفحش بل هو الجواب عن كلامها بالحق ومقابلتها بالصدق. وقال النبي ﷺ "المستبان ما قالا فعلى البادئ منهما حتى يعتدي المظلوم فأثبت للمظلوم انتصار إلى أن يعتدي. فهذا القدر هو الذي أباحه هؤلاء وهو رخصة في الإيذاء جزاء على إيذائه السابق. ولا تبعد الرخصة في هذا القدر ولكن الأفضل تركه فإنه يجره إلى ما وراءه ولا يمكنه الاقتصار على قدر الحق فيه، والسكوت عن أصل الجواب لعله أيسر من الشروع في الجواب والوقوف على حد الشرع فيه، ولكن من الناس من لا يقدر على ضبط نفسه في فورة الغضب ولكن يعود سريعاً، ومنهم من يكف نفسه في الابتداء ولكن يحقد على الدوام. والناس في الغضب أربعة: فبعضهم كالحلفاء سريع الوقود سريع الخمود، وبعضهم كالغضا بطيء الوقود بطيء الخمود وبعضهم بطيء الوقود سريع الخمود وهو الأحمد ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة، وبعضهم سريع الوقود بطيء الخمود وهذا هو أشرهم. وفي الخبر "المؤمن سريع الغضب سريع الرضى فهذه بتلك وقال الشافعي رحمه الله: من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرض فهو شيطان. وقد قال أبو سعيد الخدري قال رسول الله ﷺ "ألا إن بني آدم خلقوا على طبقات شتى فمنهم بطيء الغضب سريع الفيء، ومنهم سريع الغضب سريع الفيء؛ فتلك بتلك، ومنهم سريع الغضب بطيء الفيء، ألا وإن خيرهم البطيء الغضب السريع الفيء وشرهم السريع الغضب البطيء الفيء ولما كان الغضب يهيج ويؤثر في كل إنسان وجب على السلطان أن لا يعاقب أحداً في حال غضبه، لأنه ربما يتعدى الواجب، ولأنه ربما يكون متغيظاً عليه فيكون متشفياً لغيظه ومريحاً نفسه من ألم الغيظ، فيكون صاحبه حظ نفسه، فينبغي أن يكون انتقامه وانتصاره لله تعالى لا لنفسه. ورأى عمر رضي الله عنه سكران فأراد أن يأخذه ويعزره فشتمه السكران فرجع عمر، فقيل له: يا أمير المؤمنين لما شتمك تركته? قال: لأنه أغضبني ولو عزرته لكان ذلك لغضبي لنفسي، ولم أحب أن أضرب مسلماً حمية لنفسي. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله لرجل أغضبه: لولا أنك أغضبتني لعاقبتك.

القول في معنى الحقد ونتائجه وفضيلة العفو والرفق

اعلم أن الغضب إذا لزم كظمه لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن واحتقن فيه فصار حقداً، ومعنى الحقد أن يلزم قلبه استثقاله والبغضة له والنفار عنه وأن يدوم ذلك ويبقى، وقد قال ﷺ "المؤمن ليس بحقود فالحقد ثمرة الغضب.

والحقد يثمر ثمانية أمور "الأول" الحسد: وهو أن يحملك الحقد على أن تتمنى زوال النعمة عنه فتغتم بنعمة إن أصابها وتسر بمصيبة إن نزلت به، وهذا من فعل المنافقين. وسيأتي ذمهإن شاء اللهتعالى. "الثاني" أن تزيد على إضمار الحسد في الباطن، فتشمت بما أصابه من البلاء. "الثالث" أن تهجره وتصارمه وتنقطع عنه وإن طلبك وأقبل عليك. "الرابع" وهو دونه أن تعرض عنه استصغاراً له. "الخامس" أن تتكلم فيه بما لا يحل من كذب وغيبة وإفشاء سر وهتك ستر وغيره. "السادس" أن تحاكيه استهزاء به وسخرية منه. "السابع" إيذاؤه بالضرب وما يؤلم بدنه. "الثامن" أن تمنعه حقه من قضاء دين أو صلة رحم أو رد مظلمة. وكل ذلك حرام.

وأقل درجات الحقد أن تحترز من الآفات الثمانية المذكورة ولا تخرج بسبب الحقد إلى ما تعصي الله به، ولكن تستثقله في الباطن ولا تنهي قلبك عن بغضه، حتى تمتنع عما كنت تطوع به من البشاشة والرفق والعناية والقيام بحاجاته والمجالسة معه على ذكر الله تعالى والمعاونة على المنفعة له، أو بترك الدعاء له والثناء عليه أو التحريض على بره ومواساته. فهذا كله مما ينقص درجتك في الدين ويحول بينك وبين فضل عظيم وثواب جزيل وإن كان لا يعرضك لعقاب الله.

ولما حلف أبو بكر رضي الله عنه أن لا ينفق على مسطح -وكان قريبه- لكونه تكلم في واقعة الإفك نزل قوله تعالى "ولا يأتل أولوا الفضل منكم" إلى قوله "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" فقال أبو بكر: نعم نحب ذلك وعاد إلى الإنفاق عليه .

والأولى أن يبقى على ما كان عليه، فإن أمكنه أن يزيد في الإحسان مجاهدة للنفس وإرغاماً للشيطان فذلك مقام الصديقين وهو من فضائل أعمال المقربين. فللمحقود ثلاثة أحوال عند القدرة "أحدها" أن يستوفي حقه الذي يستحقه من غير زيادة أو نقصان وهو العدل. "الثاني" أن يحسن إليه بالعفو والصلة وذلك هو الفضل. "الثالث" أن يظلمه بما لا يستحقه وذلك هو الجور، وهو اختيار الأرذال، والثاني: هو اختيار الصديقين، والأول: هو منتهى درجات الصالحين. ولنذكر الآن فضيلة العفو والإحسان.

فضيلة العفو والإحسان

اعلم أن معنى العفو أن يستحق حقاً فيسقطه ويبرئ عنه من قصاص أو غرامة، وهو غير الحلم وكظم الغيظ؛ فلذلك أفردناه. قال الله تعالى "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وقال الله تعالى "وأن تعفوا أقرب للتقوى" وقال رسول الله ﷺ "ثلاث والذي نفسي بيده لو كنت حلافاً لحلفت عليهن: ما نقص مال من صدقة فتصدقوا، ولا عفا رجل عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزاً يوم القيامة، ولا فتح رجل على نفسه باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر وقال ﷺ "التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة فتواضعوا يرفعكم الله، والعفو لا يزيد العبد إلا عزاً فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلا كثرة فتصدقوا يرحمكم الله وقال عائشة رضي الله عنها: ما رأيت رسول الله ﷺ منتصراً من مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان أشدهم في ذلك غضباً، وما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً وقال عقبة "لقيت رسول الله ﷺ يوماً فابتدرته فأخذت بيده أو بدرني فأخذ بيدي فقال "يا عقبة ألا أخبرك بأفضل أخلاق أهل الدنيا والآخرة: تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك وقال ﷺ "قال موسى عليه السلام يا رب أي عبادك أعز عليك? قال الذي إذا قدر عفا وكذلك سئل أبو الدرداء عن أعز الناس قال الذي يعفو إذا قدر فاعفوا يعزكم الله وجاء رجل إلى النبي ﷺ يشكو مظلمة فأمره النبي ﷺ أن يجلس وأراد أن يأخذ له بمظلمته، فقال له ﷺ "إن المظلومين هم المفلحون يوم القيامة فأبى أن يأخذها حين سمع الحديث: وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله ﷺ "من دعا على من ظلمه فقد انتصر" وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ "إذا بعث الله الخلائق يوم القيامة نادى مناد من تحت العرش ثلاثة أصوات: يا معشر الموحدين إن الله عفا عنكم فليعف بعضكم عن بعض وعن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ لما فتح مكة طاف بالبيت وصلى ركعتين ثم أتى الكعبة فأخذ بعضادتي الباب فقال "ما تقولون وما تظنون? فقالوا: نقول أخ وابن عم حليم رحيم -قالوا ثلاثاً- فقال ﷺ "أقول كما قال يوسف "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" قال فخرجوا كأنما نشروا من القبور فدخلوا في الإسلام. وعن سهيل بن عمرو قال: لما قدم رسول الله ﷺ مكة وضع يديه على باب الكعبة والناس حوله فقال "لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده" ثم قال "يا معشر قريش ما تقولون وما تظنون?" قال: قلت يا رسول الله نقول خيراً ونظن خيراً أخ كريم وابن عم رحيم وقد قدرت، فقال رسول الله ﷺ "أقول كما قال أخي يوسف "لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وعن أنس قال: قال رسول الله ﷺ "إذا وقف العباد نادى مناد ليقم من أجره على الله فليدخل الجنة، قيل ومن ذا الذي له على الله أجر? قال "العافون عن الناس، فيقوم كذا وكذا ألفاً فيدخلونها بغير حساب وقال ابن مسعود قال رسول الله ﷺ "لا ينبغي لوالي أمر أن يؤتي بحد إلا أقامه والله عفو يحب العفو ثم قرأ "وليعفوا أو ليصفحوا" الآية وقال جابر: قال رسول الله ﷺ "ثلاث من جاء بهن مع إيمان دخل من أي أبواب الجنة شاء وزوج من الحور العين حيث شاء: من أدى ديناً خفياً وقرأ في دبر كل صلاة "قل هو الله أحد" عشر مرات وعفا عن قاتله" قال أبو بكر: أو إحداهن يا رسول الله قال "أو إحداهن .

الآثار: قال إبراهيم التيمي: إن الرجل ليظلمني فأرحمه. وهذا إحسان وراء العفو لأنه يشتغل قلبه بتعرضه لمعصية الله تعالى بالظلم وأنه يطالب يوم القيامة فلا يكون له جواب. وقال بعضهم: إذا أراد الله أن يتحف عبداً قيض له من يظلمه. ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله فجعل يشكو إليه رجلاً ظلمه ويقع فيه فقال له عمر: إنك إن تلقى الله ومظلمتك كما هي، خير لك من أن تلقاه وقد اقتصصتها. وقال يزيد بن ميسرة: إن ظللت تدعو على من ظلمك فإن الله تعالى يقول إن آخر يدعو عليك بأنك ظلمته فإن شئت استجبنا لك وأجبنا عليك وإن شئت أخرتكما إلى يوم القيامة فيسعكما عفوي وقال مسلم بن يسار لرجل دعا على ظالمه: كل الظالم إلى ظلمه فإنه أسرع إليه من دعائك عليه غلا أن يتداركه بعمل وقمن أن لا يفعل. وعن ابن عمر عن أبي بكر أنه قال: بلغنا أن الله تعالى يأمر منادياً يوم القيامة فينادي من كان له عند الله شيء فليقم فيقوم أهل العفو، فيكافئهم الله بما كان من عفوهم عن الناس. وعن هشام بن محمد قال أتى النعمان بن المنذر برجلين قد أذنب أحدهما ذنباً عظيماً فعفا عنه والآخر أذنب ذنباً خفيفاً فعاقبه وقال: تعفو الملوك عن العظيم من الذنوب بفضلها

ولقد تعاقب في اليسير وليس ذاك لجهلهـا

إلا ليعرف حلمها ويخاف شدة دخـلـهـا

وعن مبارك بن فضالة قال: وفد سوار بن عبد الله في وفد من أهل البصرة إلى أبي جعفر، قال: فكنت عنده إذا أتى برجل فأمر بقتله فقلت يقتل رجل من المسلمين وأنا حاضر، فقلت يا أمير المؤمنين ألا أحدثك حديثاً سمعته من الحسن? قال: وما هو? قلت سمعته يقول: إذا كان يوم القيامة جمع الله عز وجل الناس في صعيد واحد حيث يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، فيقوم مناد فينادي من له عند الله يد فليقم، فلا يقوم إلا من عفا، فقال: والله لقد سمعته من الحسن? فقلت والله لسمعته منه، فقال: خلينا عنه. وقال معاوية: عليكم بالحلم والاحتمال حتى تمكنكم الفرصة، فإذا أمكنتكم فعليكم بالصفح والإفضال. وروي أن راهباً دخل على هشام بن عبد الملك فقال للراهب: أرأيت ذا القرنين أكان نبياً? فقال. لا، ولكنه إنما أعطى ما أعطى بأربع خصال كن فيه: كان إذا قدر عفا، وإذا وعد وفى، وإذا حدث صدق، ولا يجمع شغل اليوم لغد. وقال بعضهم: ليس الحليم من ظلم فحلم. حتى إذا قدر انتقم، ولكن الحليم من ظلم فحلم حتى إذا قدر عفا. وقال زياد: القدرة تذهب الحفيظة يعني الحقد والغضب وأتى هشام برجل بلغه عنه أمر فلما أقيم بين يديه جعل يتكلم بحجته فقال له هشام: وتتكلم أيضاً? فقال الرجل: يا أمير المؤمنين قال الله عز وجل "يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها" أفنجادل الله تعالى ولا نتكلم بين يديك كلاماً? قال هشام: بلى ويحك تكلم. وروي أن سارقاً دخل خباء عمار بن ياسر بصفين فقيل له اقطعه فإنه من أعدائنا، فقال بل أستر عليه لعل الله يستر علي يوم القيامة. وجلس ابن مسعود في السوق يبتاع طعاماً فابتاع ثم طلب الدراهم وكانت في عمامته فوجدها قد حلت فقال لقد جلست وإنها لمعي، فجعلوا يدعون على من أخذها ويقولون: اللهم اقطع يد السارق الذي أخذها اللهم افعل به كذا، فقال عبد الله: اللهم إن كان حمله على أخذها فبارك له فيها وإن كان حملته جراءة على الذنب فاجعله آخر ذنوبه. وقال الفضيل: ما رأيت أزهد من رجل من أهل خراسان جلس إلي في المسجد الحرام ثم قام ليطوف فسرقت دنانير كانت معه فجعل يبكي فقلت أعلى الدنانير تبكي? فقال: لا. ولكن مثلتني وإياه بين يدي الله عز وجل فأشرف عقلي على إدحاض حجته فبكائي رحمة له? وقال مالك بن دينار: أتينا منزل الحكم بن أيوب ليلاً وهو على البصر أمير. وجاء الحسن وهو خائف فدخلنا معه عليه فما كنا مع الحسن إلا بمنزله الفراريج، فذكر الحسن قصة يوسف عليه السلام وما صنع به إخوته من بيعهم إياه وطرحهم له في الجب فقال: باعوا أخاهم وأحزنوا أباهم، وذكر ما لقي من كيد النساء ومن الحبس ثم قال: أيها الأمير ماذا صنع الله به? أداله منهم ورفع ذكره وأعلى كلمته وجعله على خزائن الأرض، فما صنع حين أكمل له أمره وجمع أهله? "قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين" يعرض للحكم بالعفو عن أصحابه. قال الحكم فأنا أقول لا تثريب عليكم اليوم ولو لم أجد إلا ثوبي هذا لواريتكم تحته. وكتب ابن المقفع إلى صديق له يسأله العفو عن بعض إخوانه: فلان هارب من زلته إلى عفوك لائذ منك بك. واعلم أنه لن يزداد الذنب عظماً إلى ازدادالعفو فضلاً.وأتى عبد الملك بن مروان بأسارى ابن الأشعث فقال لرجاء بن حيوة. ما ترى? قال إن الله تعالى قد أعطاك ما تحب من الظفر فأعط الله ما يحب من العفو فعفا عنهم. وروي أن زياداً أخذ رجلاً من الخوارج فأفلت منه فأخذ أخاً له فقال له: إن جئت بأخيك وإلا ضربت عنقك، فقال: أرأيت إن جئتك بكتاب من أمير المؤمنين تخلي سبيلي? قال نعم قال فأنا آتيك بكتاب من العزيز الحكيم وأقيم عليه شاهدين إبراهيم وموسى ثم تلا "أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى" فقال زياد خلوا سبيله، هذا رجل قد لقن حجته، وقيل مكتوب في الإنجيل. من استغفر لمن ظلمه فقد هزم الشيطان.

فضيلة الرفق

اعلم أن الرفق محمود ويضاده العنف والحدة. والعنف نتيجة الغضب والفظاظة. والرفق واللين نتيجة حسن الخلق والسلامة، وقد يكون سبب الحد الغضب. وقد يكون سببها شدة الحرص واستيلاءه بحيث يدهش عن التفكر ويمنع من التثبت فالرفق في الأمور ثمرة لا يثمرها إلا حسن الخلق، ولا يحسن الخلق إلا بضبط قوة الغضب وقوة الشهوة وحفظهما على حد الاعتدال. ولأجل هذا أثنى رسول الله ﷺ على ارفق وبالغ فيه فقال "يا عائشة إنه من أعطى حظه من الرفق فقد أعطى حظه من خير الدنيا والآخرة، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الدنيا والآخرة وقال رسول الله ﷺ "إذا أحب الله أهل بيت أدخل عليهم الرفق وقال ﷺ "إن الله ليعطي على الرفق ما لا يعطي على الخرق وإذا أحب الله عبداً أعطاه الرفق وما من أهل بيت يحرمون الرفق إلا حرموا محبة الله تعالى وقالت عائشة رضي الله عنها قال النبي ﷺ "إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي عليه ما لا يعطي على العنف وقال ﷺ "يا عائشة ارفقي فإن الله إذا أراد بأهل بيت كرامة دلهم على باب الرفق وقال ﷺ "من يحرم الرفق يحرم الخير كله وقال ﷺ "أيما وال ولى فرفق ولان رفق الله تعالى به يوم القيامة وقال ﷺ "تدرون من يحرم على النار يوم القيامة كل عين لين سهل قريب وقال ﷺ "الرفق يمن والخرق شؤم وقال ﷺ "التأني من الله والعجلة من الشيطان وروي أن رسول الله ﷺ أتاه رجل فقال يا رسول الله "إن الله قد بارك لجميع المسلمين فيك فاخصصني منك بخير فقال "الحمد لله" مرتين أو ثلاثاً ثم أقبل عليه فقال "هل أنت مستوص" مرتين أو ثلاثاً قال: نعم، قال "إن أدرت أمراً فتدبر عاقبته فإن كان رشداً فأمضه وإن كان سوى ذلك فانته وعن عائشة رضي الله عنها أنها كانت مع رسول الله ﷺ في سفر على بعير صعب فجعلت تصرفه يميناً وشمالاً فقال رسول الله ﷺ "يا عائشة عليك بالرفق فإنه لا يدخل في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه .

الآثار: بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن جماعة من رعيته اشتكوا من عماله فأمرهم أن يوافوه، فلما أتوه قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس أيتها الرعية إن لنا عليكم حقاً النصيحة بالغيب والمعاونة على الخير، أيتها الرعاة إن للرعية عليكم حقاً فاعلموا أن لا شيء أحب إلى الله ولا أعز من حلم إمام ورفقه، ليس جهل أبغض إلى الله ولا أغم من جهل إمام وخرجه، واعلموا أنه من يأخذ بالعافية فيمن بين ظهريه يرزق العافية ممن هو دونه.

وقال وهب بن منبه: الرفق ثنى الحلم.

وفي الخبر موقوفاً ومرفوعاً "العلم خليل المؤمن والحلم وزيره والعقل دليله والعمل قيمه والرفق والده واللين أخوه والصبر أمير جنوده وقال بعضهم: ما أحسن الإيمان يزينه العلم وما أحسن العلم يزينه العمل وما أحسن العمل يزينه الرفق وما أضيف إلى شيء مثل حلم إلى عمل. وقال عمرو بن العاص لابنه عبد الله: ما الرفق? قال: تكون ذا أناة فتلاين الولاة. قال فما الخرق? قال: معاداة إمامك ومناوأة من يقدر على ضررك. وقال سفيان لأصحابه: تدرون ما الرفق? قالوا: قل يا أبا محمد، قال: أن تضع الأمور من مواضعها: الشدة في مواضعها واللين في موضعه والسيف في موضعه والسوط في موضعه؛ وهذه إشارة إلى أنه لا بد من مزج الغلظة باللين والفظاظة بالرفق كما قيل.

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى

فالمحمود وسط بين العنف واللين كما في سائر الأخلاق، ولكن لما كانت الطباع إلى العنف والحدة أميل كانت الحاجة إلى ترغيبهم في جانب الرفق أكثر، فلذلك كثر ثناء الشرع على جانب الرفق دون العنف، وإن كان العنف في محله حسناً كما أن الرفق في محله حسن، فإذا كان الواجب هو العنف فقد وافق الحق الهوى وهو ألذ من الزبد بالشهد وهكذا. وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: روي أن عمرو بن العاص كتب إلى معاوية يعاتبه في التأني فكتب إليه معاوية. أما بعد، فإن الفهم في الخير زبادة الشر، وإن الرشيد من رشد عن العجلة، وإن الجانب من خاب عن الأناة، وإن المتثبت مصيب أو كاد أن يكون مصيباً، وإن العجل مخطئ أو كاد أن يكون مخطئاً، وأن من لا ينفعه الرفق يضره الخرق، ومن لا ينفعه التجارب لا يدرك المعالي. وعن أبي عون الأنصاري قال: ما تكلم الناس بكلمة صعبة إلا وإلى جانبها كلمة ألين منها تجري مجراها. وقال أبو حمزة الكوفي: لا تتخذ من الخدم إلا ما لا بد منه فإن مع كل إنسان شيطاناً. واعلم أنهم لا يعطونك بالشدة شيئاً إلا أعطوك باللين ما هو أفضل منه. وقال الحسن: المؤمن وقاف متأن وليس كحاطب ليل. فهذا ثناء أهل العلم على الرفق وذلك لأنه محمود ومفيد في أكثر الأحوال وأغلب الأمور، والحاجة إلى العنف قد تقع ولكن على الندور، وإنما لكامل من يميز مواقع الرفق عن مواقع العنف فيطعى كل أمر حقه فإن كان قاصر البصيرة أو أشكل عليه حكم واقعة من الوقائع فليكن ميله إلى الرفق فإن النجح معه في الأكثر.

القول في ذم الحسد وفي حقيقته وأسبابه

ومعالجته وغاية الواجب في إزالته

بيان ذم الحسد

اعلم أن الحسد أيضاً من نتائج الحقد، والحقد من نتائج الغضب فهو فرع فرعه والغضب أصل أصله ثم إن للحسد من الفروع الذميمة ما لا يكاد يحصى. وقد ورد في ذم الحسد خاصة أخبار كثيرة: قال رسول الله ﷺ "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب وقال ﷺ في النهي عن الحسد وأسبابه وثمراته "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً وقال أنس: كنا يوماً جلوساً عند رسول الله ﷺ فقال "يطلع عليكم الآن من هذا الفج رجل من أهل الجنة" قال: فطلع رجل من الأنصار ينفض لحيته من وضوئه قد علق نعليه في يده الشمال فسلم، فلما كان الغد قال ﷺ مثل ذلك فطلع ذلك الرجل، وقاله في اليوم الثالث فطلع ذلك الرجل، فلما قام النبي ﷺ تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له. إني لاحيت أبي فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي الثلاث فعلت، فقال "نعم، فبات عنده ثلاث ليال فلم يره يقوم من الليل شيئاً غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله تعالى، ولم يقم لصلاة الفجر، قال: غير أني ما سمعته يقول إلا خيراً فلما مضت الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله لم يكن بيني وبين والدي غضب ولا هجرة، ولكني سمعت رسول الله ﷺ يقول كذا وكذا فأردت أن أعرف عملك فلم أرك تعمل عملاً كثيراً فما الذي بلغ بك ذلك? فقال: ما هو إلا ما رأيت، فلما وليت دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد على أحد من المسلمين في نفسي غشاً ولا حسداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فقلت له هي التي بلغت بك وهي التي لا نطيق . وقال ﷺ "ثلاث لا ينجو منهن أحد: الظن والطيرة والحسد، وسأحدثكم بالمخرج من ذلك: إذا ظننت فلا تحقق؛ وإذا تطيرت فامض، وإذا حسدت فلا تبغ وفي رواية "ثلاثة لا ينجو منهن أحد وقل من ينجو منهن" فأثبت في هذه الرواية إمكان النجاة. وقال ﷺ "دب إليكم داء الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضة هي الحالقة لا أقول حالقة الشعر ولكن حالقة الدين، والذي نفس محمد بيده لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا ألا أنبئكم بما يثب ذلك لكم أفشوا السلام بينكم وقال ﷺ "كاد الفقر أن يكون كفراً وكاد الحسد أن يغلب القدر وقال ﷺ "إنه سيصيب أمتي داء الأمم" قالوا. وما داء الأمم? قال "الأشر والبطر والتكاثر والتنافس في الدنيا والتباعد والتحاسد حتى يكون البغي ثم الهرج وقال ﷺ "لا تظهر الشماتة لأخيك فيعافيه الله ويبتليك وروي أن موسى عليه السلام لما تعجل إلى ربه تعالى رأى في ظل العرش رجلاً فغبطه بمكانه فقال: إن هذا لكريم على ربه، فسأل ربه تعالى أن يخبره باسمه فلم يخبره وقال أحدثك من عمله بثلاث: كان لا يحسد الناس على ما آتاهم الله من فضله، وكان لا يعق والديه، ولا يمشي بالنميمة. وقال زكريا عليه السلام: قال الله تعالى: الحاسد عدو لنعمتي متسخط لقضائي غير راض بقسمتي التي قسمت بين عبادي. وقال ﷺ "أخوف ما أخاف على أمتي أن يكثر فيهم المال فيتحاسدون ويقتتلون وقال ﷺ "استعينوا على قضاء الحوائج بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود وقال ﷺ "إن لنعم الله أعداء" فقيل ومن هم? فقال "الذين يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله وقال ﷺ "ستة يدخلون النار قبل الحساب بسنة" قيل يا رسول الله من هم? قال "الأمراء بالجور والعرب بالعصبية والدهاقين بالتكبر والتجار بالخيانة، وأهل الرستاق بالجهالة والعلماء بالحسد .

الآثار: قال بعض السلف: أول خطيئة هي الحسد حسد إبليس آدم عليه السلام على رتبته فأبى أن يسجد له فحمله على الحسد والمعصية. وحكي أن عون بن عبد الله دخل على الفضل بن المهلب وكان يومئذ على واسط فقال: إني أريد أن أعظك بشيء فقال: وما هو? قال: إياك والكبر فإنه أول ذنب عصي الله به، ثم قرأ "وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس" الآية، وإياك والحرص فإنه أخرج آدم من الجنة أمكنه الله سبحانه من جنة عرضها السموات والأرض يأكل منها إلا شجرة واحدة نهاه عنها فأكل منها فأخرجه الله تعالى منها، ثم قرأ "اهبطوا منها" إلى آخر الآية وإياك والحسد فإنما قتل ابن آدم أخاه حين حسده ثم قرأ "واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، الآيات وإذا ذكر أصحاب رسول الله ﷺ فأمسك، وإذا ذكر القدر فاسكت، وإذا ذكرت النجوم فاسكت. وقال بكر بن عبد الله: كان رجل يغشى بعض الملوك فيقوم بحذاء الملك فيقول: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فحسده رجل على ذلك المقام والكلام فسعى به إلى الملك فقال: إن هذا الذي يقوم بحذائك ويقول ما يقول زعم أن الملك أبخر، فقال له الملك: وكيف يصح ذلك عندي? قال: تدعوه إليك فإنه إذا دنا منك وضع يده على أنفه لئلا يشم رائحة البخر، فقال له: انصرف حتى أنظر، فخرج من عند الملك فدعا الرجل إلى منزله فأطعمه طعاماً فيه ثوم فخرج الرجل من عنده وقام بحذاء الملك على عادت فقال: أحسن إلى المحسن بإحسانه فإن المسيء سيكفيكه إساءته، فقال له الملك: أدن مني فدنا منه فوضع يده على فيه مخافة أن يشم الملك منه رائحة الثوم، فقال الملك في نفسه: ما أرى فلا إلا قد صدق? قال: وكان الملك لا يكتب بخطه إلا بجائزة أو صلة فكتب له كتاباً بخطه إلى عامل من عماله: إذا أتاك حامل كتابي فاذبحه واسلخه واحش جلده تبناً وابعث به إلي فأخذ الكتاب وخرج فلقيه الرجل الذي سعى به فقال: ما هذا الكتاب قال خط الملك لي بصلة، فقال: هبه لي! فقال: هو لك، فأخذه ومضى به إلى العامل: فقال العامل: في كتابك أن أذبحك وأسلخك، قال: إن الكتاب ليس هو لي ف في أمري حتى تراجع الملك؛ فقال: ليس لكتاب الملك مراجعة، فذبحه وسلخه وحشا جلده تبناً وبعث به ثم عاد الرجل إلى الملك كعادته وقال مثل قوله؛ فعجب الملك وقال: ما فعل الكتاب? فقال: لقيني فلان فاستوهبه مني فوهبته له، قال له الملك: إنه ذكر لي أنك تزعم أني أبخر، قال: ما قلت ذلك? قال: فلم وضعت يدك على فيك? قال: لأنه أطعمني طعاماً فيه ثوم فكرهت أن تشمه، قال: صدقت ارجع إلى مكانك فقد كفى المسيء إساءته. وقال ابن سيرين رحمه الله: ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على الدنيا وهي حفيرة في الجنة? وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على أمر الدنيا وهو يصير إلى النار? وقال رجل للحسن: هل يحسد المؤمن? قال: ما أنساك بني يعقوب? نعم، ولكن غمه في صدرك فإنه لا يضرك ما لم تعد به يداً ولا لساناً. وقال أبو الدرداء: ما أكثر عبد ذكر الموت إلا قل فرحه وقل حسده! وقال معاوية: كل الناس أقدر على رضاه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها ولذلك قيل: كل العداوات قد ترجى إماتتها إلا عداوة من عاداك من حسد

وقال بعض الحكماء: الحسد جرح لا يبرأ أو حسب الحسود ما يلقى. وقال أعرابي: ما رأيت ظالماً أشبه بمظلوم من حاسد، إنه يرى النعمة عليك نقمة عليه. وقال الحسن: يا ابن آدم لم تحسد أخاك? فإن كان الذي أعطاه لكرامته عليه فلم تحسد من أكرمه الله? وإن كان غير ذلك فلم تحسد من مصيره إلى النار? وقال بعضهم: الحاسد لا ينال من المجالس إلا مذمة وذلاً، ولا ينال من الملائكة إلا لعنة وبغضاً، ولا ينال من الخلق إلا جزعاً وغماً، ولا ينال عند النزع إلا شدة وهولاً، ولا ينال عند الموقف إلا فضيحة ونكالاً.

بيان حقيقة الحسد وحكمه وأقسامه ومراتبه

اعلم أنه لا حسد إلا على نعمة، فإذا أنعم الله على أخيك بنعمة فلك فيها حالتان: إحداهما: أن تكره تلك النعمة وتحب زوالها، وهذه الحالة تسمى حسداً. فالحسد حده كراهة النعمة وحب زوالها عن المنعم عليه.

الحالة الثانية: أن لا تحب زوالها ولا تكره وجودها ودوامها ولكن تشتهي لنفسك مثلها. وهذه تسمى غبطة، وقد تختص باسم المنافسة.

وقد تسمى المنافسة حسداً والحسد منافسة ويوضع أحد اللفظين موضع الآخر، ولا حجر في الأسامي بعد فهم المعاني: وقد قال ﷺ "إن المؤمن يغبط والمنافق يحسد .

فأما الأول فهو حرام بكل حال، إلا نعمة أصابها فاجر أو كافر وهو يستعين بها على تهييج الفتنة وإفساد ذات البين وإيذاء الحق، فلا يضرك كراهتك لها ومحبتك لزوالها، فإنك لا تحب زوالها من حيث هي نعمة بل من حيث هي آلة الفساد، ولو أمنت فساده لم يغمك بنعمته، ويدل على تحريم الحسد الأخبار التي نقلناها وأن هذه الكراهة تسخط لقضاء الله في تفضيل بعض عباده على بعض، وذلك لا عذر فيه ولا رخصة، وأي معصية تزيد على كراهتك لراحة مسلم من غير أن يكون لك منه مضرة? وإلى هذا أشار القرآن بقوله "إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها" وهذا الفرح شماتة والحسد والشماتة يتلازمان. وقال تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" فأخبر تعالى أن حبهم زوال نعمة الإيمان حسد. وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وذكر الله تعالى حسد إخوة يوسف عليه السلام وعبر عما في قلوبهم بقوله تعالى "إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين. اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً يخل لكم وجه أبيكم" فلما كرهوا حب أبيهم له وساءهم ذلك وأحبوا زواله عنه غيبوه عنه وقال تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" أي لا تضيق صدورهم به ولا يغتمون فأثنى عليهم بعدم الحسد. وقال تعالى في معرض الإنكار "أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" وقال تعالى "كان الناس أمة واحدة" إلى قوله "إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم" قيل في التفسير: حسداً. وقال تعالى "وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم" فأنزل الله العلم ليجمعهم ويؤلف بينهم على طاعته، وأمرهم أن يتألفوا بالعلم فتحاسدوا واختلفوا إذ أراد كل واحد منهم أن ينفرد بالرياسة وقبول القول فرد بعضهم على بعض. قال ابن عباس: كانت اليهود قبل أن يبعث النبي ﷺ إذا قاتلوا قوماً قالوا نسألك بالنبي الذي وعدتنا أن ترسله وبالكتاب الذي تنزله إلا ما نصرتنا . فكانوا ينصرون. فلما جاء النبي ﷺ من ولد إسماعيل عليه السلام عرفوه وكفروا به بعد معرفتهم إياه فقال تعالى "وكانوا من يقبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به" إلى قوله "أن يكفروا بما أنزل الله بغياً" أي حسداً. وقالت صفية بنت حي للنبي ﷺ: جاء أبي وعمي من عندك يوماً، فقال أبي لعمي: ما تقول فيه? قال: أقول أنه النبي الذي بشر به موسى. قال: فما ترى? قال: أرى معاداته أيام الحياة فهذا حكم الحسد في التحريم.

وأما المنافسة: فليست بحرام بل هي إما واجبة وإما مندوبة وإما مباحة. وقد يستعمل لفظ الحسد بدل المنافسة والمنافسة بدل الحسد، قال قثم بن العباس: لما أراد هو والفضل أن يأتيا النبي ﷺ فيسألاه أن يؤمرهما على الصدقة -قالا لعلي حين قال لهما: لا تذهبا إليه فإنه لا يؤمر كما عليها- فقالا له: ما هذا منك إلا نفاسة والله لقد زوجك ابنته فما نفسنا ذلك عليك أي هذا منك حسد وما حسدناك على تزويجه إياك فاطمة.

والمنافسة في اللغة مشتقة من النفاسة والذي يدل على إباحة المنافسة قوله تعالى "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" وقال تعالى "سابقوا إلى مغفرة من ربكم" وإنما المسابقة عند خوف الفوت وهو كالعبدين يتسابقان إلى خدمة مولاهما؛ إذ يجزع كل واحد أن يسبقه صاحبه فيحظى عند مولاه بمنزلة لا يحظى هو بها، فكيف وقد صرح رسول الله ﷺ بذلك فقال "لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله تعالى علماً فهو يعمل به ويعلمه الناس ثم فسر ذلك في حديث أبي كبشة الأتماري فقال "مثل هذه الأمة مثل أربعة: رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه في ماله ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فيقول رب لو أن لي مالاً مثل مال فلان لكنت أعمل فيه بمثل عمله فهما في الأجر سواء -وهذا منه حب لأن يكون له مثل ماله فيعمل ما يعمل من غير حب زوال النعمة عنه قال- ورجل آتاه الله مالاً ولا لم يؤته علماً فهو ينفقه في معاصي الله، ورجل لم يؤته علماً ولم يؤته مالاً فيقول لو أن لي مثل مال فلان لكنت أنفقته في مثل ما أنفقه فيه من العاصي فهما في الوزر سواء فذمه رسول الله ﷺ من جهة تمنيه للمعصية لا من جهة حبه أن يكون له من النعمة مثل ما له. فإذاً لا حرج على من يغبط غيره في نعمة ويشتهي لنفسه مثلها مهما لم يحب زوالها عنه ولم يكره دوامها له. نعم إن كانت تلك النعمة نعمة دينية واجبة كالإيمان والصلاة والزكاة فهذه المنافسة واجبة، وهو أن يحب أن يكون مثله لأنه إذا لم يكن يحب ذلك فيكون راضياً بالمعصية وذلك حرام، وإن كانت النعمة من الفضائل كإنفاق الأموال في المكارم والصدقات فالمنافسة فيها مندوب إليها، وإن كانت نعمة يتنعم بها على وجه مباح فالمنافسة فيها مباحة، وكل ذلك يرجع إلى إرادة مساواته واللحوق به في النعمة وليس فيها كراهة النعمة، وكان تحت هذه النعمة أمران، أحدهما: راحة المنعم عليه، والآخر: ظهور نقصان غيره وتخلفه عنه وهو يكره أحد الوجهين وهو تخلف نفسه ويحب مساواته له.

ولا حرج على من يكره تخلف نفسه ونقصانها في المباحات، نعم ذلك ينقص من الفضائل ويناقض الزهد والتوكل والرضا ويحجب عن المقامات الرفيعة ولكنه لا يوجب العصيان. وههنا دقيقة غامضة: وهو أنه إذا أيس من أن ينال مثل تلك النعمة وهو يكره تخلفه ونقصانه فلا محالة يحب وزال النقصان، وإنما يزول نقصانه إما بأن ينال مثل ذلك أو بأن تزول نعمة المحسود، فإذا انسد أحد الطريقين فيكاد القلب لا ينفك عن شهوة الطريق الآخر، حتى إذا زالت النعمة عن المحسود كان ذلك أشفى عنده من دوامها إذ بزوالها يزول تخلفه وتقدم غيره، وهذا يكاد لا ينفك القلب عنه فإن كان بحيث لو ألقى الأمر إليه ورد إلى اختياره لسعى في إزالة النعمة عنه فهو حسود حسداًمذموماً. وإن كان تدعه التقوى عن إزالة ذلك، فيعفى عما يجده في طبعه من الارتياح إلى زوال النعمة عن محسوده مهما كان كارهاً لذلك من نفسه بعقله ودينه، ولعله المعنى بقوله ﷺ "ثلاث لا ينفك المؤمن عنهن: الحسد والظن والطيرة ثم قال وله منهن مخرج: "إذا حسدت فلا تبغ" أي إن وجدت في قلبك شيئاً فلا تعمل به. وبعيد أن يكون الإنسان مريداً للحاق بأخيه في النعمة فيعجز عنها ثم ينفك عن ميل إلى زوال النعمة؛ إذ يجد لا محالة ترجيحاً له على دوامها. فهذا الحد من المنافسة يزاحم الحسد الحرام فينبغي أن يحتاط فيه فإنه موضع الخطر، وما من إنسان إلا وهو يرى فوق نفسه جماعة من معارفه وأقرانه يحب مساواتهم، ويكاد ينجر ذلك إلى الحسد المحظور إن لم يكن قوي الإيمان رزين التقوى. ومهما كان محركه خوف التفاوت وظهور نقصانه عن غيره جره ذلك إلى الحسد المذموم وإلى ميل الطبع إلى زوال النعمة عن أخيه، حتى ينزل هو إلى مساواته إذ لم يقدر هو أن يرتقي إلى مساواته بإدراك النعمة، وذلك لا رخصة فيه أصلاً بل هو حرام سواء كان في مقاصد الدين أو مقاصد الدنيا، ولكن يعفى عنه في ذلك ما لم يعمل به إن شاء الله تعالى، وتكون كراهته لذلك من نفسه كفارة له. فهذه هي حقيقة الحسد وأحكامه.

وأما مراتبه فأربع "الأولى" أن يحب زوال النعمة عنه وإن كان ذلك لا ينتقل إليه وهذا غاية الخبث. "الثانية" أن يحب زوال النعمة إليه لرغبته في تلك النعمة، مثل رغبته في دار حسنة أو امرأة جميلة أو ولاية نافذة أو سعة نالها غيره وهو يحب أن تكون له، ومطلوبه تلك النعمة لا زوالها عنه، ومكروهه فقد النعمة لا تنعم غيره بها "الثالثة" أن لا يشتهي عينها لنفسه بل يشتهي مثلها، فإن عجز عن مثلها أحب زوالها كيلاً يظهر التفاوت بينهما. "الرابعة" أن يشتهي لنفسه مثلها فإن لم تحصل فلا يحب زوالها عنه.

وهذا الأخير هو المعفو عنه إن كان في الدنيا، والمندوب إليه إن كان في الدين، والثالثة فيها مذموم وغير مذموم، والثانية أخف من الثالثة، والأولى مذموم محض. وتسمية الرتبة حسداً فيه تجوز وتوسع ولكنه مذموم لقوله تعالى "ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض" فتمنيه لمثل ذلك غير مذموم، وأما تمنيه عين ذلك فهو مذموم.

بيان أسباب الحسد والمنافسة

أما المنافسة فسببها حب ما فيه النافسة، فإن كان ذلك أمراً دينياً فسببه حب الله تعالى وحب طاعته، وإن كان دنيوياً فسببه حب مباحات الدنيا والتنعم فيها. وإنما نظرنا الآن في الحسد المذموم ومداخله كثيرة جداً، ولكن يحصر جملتها سبعة أبواب: العداوة، والكبر، والتعجب، والخوف من فوت المقاصد المحبوبة، وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها. فإنه مما يكره النعمة على غيره إما لأنه عدوه فلا يريد له الخير، وهذا لا يختص بالأمثال بل يحسد الخسيس الملك بمعنى أنه يحب زوال نعمته لكونه مبغضاً له بسبب إساءته إليه، أو إلى من يحبه. وإما أن يكون من حيث يعلم أنه يستكبر بالنعمة عليه وهو لا يطيق احتمال كبره وتفاخره لعزة نفسه، وهو المراد بالتعزز. وإما أن يكون في طبعه أن يتكبر على المحسود ويمتنع ذلك عليه لنعمته وهو المراد بالتكبر. وإما أن تكون النعمة عظيمة والمنصب عظيم فيتعجب من فوز مثله بمثل تلك النعمة وهو المراد بالتعجب. وإما أن يخاف من فوات مقاصده بسب نعمته بأن يتوصل بها إلى مزاحمته في أغراضه. وإما أن يكون يحب الرياسة التي تنبني على الاختصاص بنعمة لا يساوي فيها. وإما لا يكون بسبب من هذه الأسباب بل لخبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى. ولا بد من شرح هذه الأسباب.

السبب الأول: العداوة والبغضاء، وهذا أشد أسباب الحسد، فإن من آذاه شخص بسبب من الأسباب وخالفه في غرض بوجه من الوجوه أبغضه قلبه وغضب عليه ورسخ في نفسه الحقد. والحقد يقتضي التشفي والانتقام، فإن عجز المبغض عن أن يتشفى بنفسه أحب أن يتشفى منه الزمان، وربما يحيل ذلك على كرامة نفسه عند الله تعالى فمهما أصابت عدوة بلية فرح بها وظنها مكافأة له من جهة الله على بغضه وأنها لأجله، ومهما أصابته نعمة ساءه ذلك لأنه ضد مراده، وربما يخطر له أنه لا منزلة له عند الله حيث لم ينتقم له من عدوه الذي آذاه بل أنعم عليه. وبالجملة فالحسد يلزم البغض والعداوة ولا يفارقهما، وإنما غاية التقى أن لا يبغي وأن يكره ذلك من نفسه، فأما أن يبغض إنساناً ثم يستوي عند مسرته ومساءته، فهذا غير ممكن، وهذا مما وصف الله تعالى الكفار به أعني الحسد بالعداوة إذ قال الله تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلو عضوا عليكم الأنامل من الغيظ قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور. إن تمسسكم حسنة تسؤهم" الآية. وكذلك قال "ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر" والحسد بسبب البغض ربما يفضي إلى التنازع والتقاتل واستغراق العمر في إزالة النعمة بالحيل والسعاية وهتك الستر وما يجري مجراه.

السبب الثاني: التعزز؛ وهو أن يثقل عليه أن يترفع عليه غيره. فإذا أصاب بعض أمثاله ولاية أو علماً أو مالاً خاف أن يتكبر عليه وهو لا يطيق تكبره ولا تسمح نفسه باحتمال صلفه وتفاخره عليه، وليس من غرضه أن يتكبر بل غرضه أن يدفع كبره، فإنه قد رضي بمساواته مثلاً، ولكن لا يرضى بالترفع عليه.

السبب الثالث: الكبر؛ وهو أن يكون في طبعه أن يتكبر عليه ويستصغره ويستخدمه ويتوقع منه الانقياد له والمتابعة في أغراضه، فإذا نال نعمة خاف أن لا يحتمل تكبره ويترفع عن متابعته، أو ربما يتشوف إلى مساواته أو إلى أن يرتفع عليه فيعود متكبراً بعد أن كان متكبراً عليه. ومن التكبر والتعزز كان حسد أكثر الكفار لرسول الله ﷺ إذ قالوا: كيف يتقدم علينا غلام يتيم وكيف نطأطئ رؤوسنا? فقالوا "لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين أعظم" أي كان لا يثقل علينا أن نتواضع له ونتبعه إذا كان عظيماً وقال تعالى يصف قول قريش "أهؤلاء من الله عليهم من بيننا" كالاستحقار لهم والأنفة منهم.

السبب الرابع: التعجب، كما أخبر الله تعالى عن الأمم السالفة إذ قالوا "ما أنتم إلا بشر مثلنا" "وقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا" "ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون" فتعجبوا من أن يفوز برتبة الرسالة والوحي والقرب من الله تعالى بشر مثلهم فحسدوهم، وأحبوا زوال النبوة عنهم جزعاً أن يفضل عليهم من هو مثلهم في الخلقة، لا عن قصد تكبر وطلب رياسة وتقدم عداوة أو سبب آخر من سائر الأسباب، وقالوا متعجبين "أبعث الله بشراً رسولاً" وقالوا "لولا أنزل علينا الملائكة" وقال تعالى "أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم" الآية.

السبب الخامس: الخوف من فوت المقاصد، وذلك يختص بمتزاحمين على مقصود واحد، فإن كان واحد يحسد صاحبه في كل نعمة تكون عوناً له في الانفراد بمقصوده، ومن هذا الجنس تحاسد الضرات في التزاحم على مقاصد الزوجية، وتحاسد الأخوة في التزاحم على نيل المنزلة في قلب الأبوين للتوصل به إلى مقاصد الكرامة والمال، وكذلك تحاسد التلميذين لأستاذ واحد على نيل المرتبة من قلب الأستاذ، وتحاسد ندماء الملك وخواصه في نيل المنزلة من قلبه للتوصل به إلى المال والجاه، وكذلك تحاسد الواعظين المتزاحمين على أهل بلدة واحدة إذا كان غرضهما نيل المال بالقبول عندهم، وكذلك تحاسد العالمين المتزاحمين على طائفة من المتفقهه محصورين، إذ يطلب كل واحد منزلة في قلوبهم للتوصل بهم إلى أغراض له.

السبب السادس: حب الرياسة وطلب الجاه لنفسه من غير توصل إلى مقصود. وذلك كالرجل الذي يريد أن يكون عديم النظير في فن من الفنون إذا غلب عليه حب الثناء واستفزه الفرح بما يمدح به من أنه واحد الدهر وفريد العصر في فنه وأنه لا نظير له، فإنه لو سمع بنظير له في أقصى العالم لساءه ذلك وأحب موته أو زوال النعمة عنه التي بها يشاركه المنزلة من شجاعة أو علم أو عبادة أو صناعة أو جمال أو ثروة أو غير ذلك مما يتفرد هو به ويفرح بسبب تفرده، وليس السبب في هذا عداوة ولا تعزز ولا تكثر على المحسود ولا خوف من فوات مقصود سوى محض الرياسة بدعوى الانفراد. وهذا وراء ما بين آحاد العلماء من طلب الجاه والمنزلة في قلوب الناس للتوصل إلى مقاصد سوى الرياسة. وقد كان علماء اليهود ينكرون معرفة رسول الله ﷺ ولا يؤمنون به خيفة من أن تبطل رياستهم واستتباعهم مهما نسخ علمهم.

السبب السابع: خبث النفس وشحها بالخير لعباد الله تعالى، فإنك تجد من لا يشتغل برياسة وتكبر ولا طلب مال إذا وصف عنده حسن حال عبد من عباد الله تعالى فيما أنعم الله به عليه يشق ذلك عليه، وإذا وصف له اضطراب أمور الناس وإدبارهم وفوات مقاصدهم وتنغص عيشهم فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه وخزانته. ويقال البخيل من يبخل بمال نفسه والشحيح هو الذي يبخل بمال غيره، فهذا يبخل بنعمة الله تعالى على عباده الذين ليس بينه وبينهم عداوة ولا رابطة، هذا ليس له سبب ظاهر إلا خبث في النفس ورذالة في الطبع عليه وقعت الجبلة، ومعالجته شديدة لأن الحسد الثابت بسائر الأسباب أسبابه عارضة يتصور زوالها فيطمع في إزالتها، وهذا خبث في الجبلة لا عن سبب عارض فتعسر إزالته إذ يستحيل في العادة إزالته. فهذه هي أسباب الحسد وقد يجتمع بعض هذه الأسباب أو أكثرها أو جميعها في شخص واحد فيعظم فيه الحسد بذلك، ويقوى قوة لا يقدر معها على الإخفاء والمجاملة، بل ينتهك حجاب المجاملة وتظهر العداوة بالمكاشفة. وأكثر المحاسدات تجتمع فيها جملة من هذه الأسباب، وقلما يتجرد سبب واحد منها.

بيان السبب في كثرة الحسد

بين الأمثال والأقران والأخوة وبني العم والأقارب وتأكده وقلته في غيرهم وضعفه

اعلم أن الحسد إنما يكثر بين قوم تكثر بينهم الأسباب التي ذكرناها، وإنما يقوى بين قوم تجتمع جملة من هذه الأسباب فيهم وتتظاهر، إذ الشخص الواحد يجوز أن يحسد لأنه قد يمتنع عن قبول التكبر ولأنه يتكبر ولأنه عدو ولغير ذلك من الأسباب. وهذه الأسباب إنما تكثر بين أقوام تجمعهم روابط يجتمعون بسببها في مجالس المخاطبات ويتواردون على الأغراض، فإذا خالف واحد منهم صاحبه في غرض من الأغراض نفر طبعه عنه وأبغضه وثبت الحقد في قلبه، فعند ذلك يريد أن يستحقره ويتكبر عليه ويكافئه على مخالفته لغرضه، ويكره تمكنه من النعمة التي توصله إلى أغراضه وتترادف جملة من هذه الأسباب، إذ لا رابطة بين شخصين في بلدتين متنائيتين فلا يكون بينهما محاسدة، وكذلك في محلتين، نعم إذا تجاورا في مسكن أو سوق أو مدرسة أو مسجد تواردا على مقاصد تتناقض فيها أغراضهما، فيثور من التناقض التنافر والتباغض، ومنه تثور بقية أسباب الحسد، ولذلك ترى العالم يحسد العالم دون العابد، والعابد يحسد العابد دون العالم، والتاجر يحسد التاجر، بل الإسكاف يحسد الإسكاف ولا يحسد البزاز إلا بسبب آخر سوى الاجتماع في الحرفة، ويحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب والمرأة تحسد ضرتها وسرية زوجها أكثر مما تحسد أم الزوج وابنته. لأن مقصد البزاز غير مقصد الإسكاف فلا يتزاحمون على المقاصد، إذ مقصد البزاز الثروة ولا يحصلها إلا بكثرة الزبون، وإنما ينازعه فيه بزاز آخر؛ إذ حريف البزاز لا يطلبه الإسكاف بلل البزاز. ثم مزاحمة البزاز المجاور له أكثر من مزاحمة البعيد عنه إلى طرف السوق، فلا جرم يكون حسده للجار أكثر. وكذلك الشجاع يحسد الشجاع ولا يحسد العالم لأن مقصده أن يذكر بالشجاعة ويشتهر بها وينفرد بهذه الخصلة، ولا يزاحمه العالم على هذا الغرض وكذلك يحسد العالم العالم ولا يحسد الشجاع. ثم حسد الواعظ للواعظ أكثر من حسده للفقيه والطبيب، لأن التزاحم بينهما على مقصود واحد أخص. فأصل هذه المحاسدات العداوة، وأصل العداوة التزاحم بينهما على غرض واحد، والغرض الواحد لا يجمع متباعدين بل متناسبين، فلذلك يكثر الحسد بينهما. نعم من اشتد حرصه على الجاه وأحب الصيت في جميع أطراف العالم بما هو فيه فإنه يحسد كل من هو في العالم وإن بعد ممن يساهمه في الخصلة التي يتفاخر بها، ومنشأ جميع ذلك حب الدنيا، فإن الدنيا هي التي تضيق على المتزاحمين: أما الآخرة فلا ضيق فيها، وإنما مثال الآخرة نعمة العلم فلا جرم من يحث معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وملائكته وأنبيائه وملكوت سمواته وأرضه لم يحسد غيره إذا عرف ذلك أيضاً، لأن المعرفة لا تضيق على العارفين. بل المعلوم الواحد يعلمه ألف ألف عالم ويفرح بمعرفته ويلتذ به، ولا تنقص لذة واحد بسبب غيره، بل يحصل بكثرة العارفين زيادة الأنس وثمرة الاستفادة والإفادة. فلذلك لا يكون بين علماء الدين محاسدة لأن مقصدهم معرفة الله تعالى وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق أيضاً، فيما عند الله تعالى لأن أجل ما عند الله سبحانه من النعيم لذة لقائه وليس فيها ممانعة ومزاحمة، ولا يضيق بعض الناظرين على بعض بل يزيد الأنس بكثرتهم. نعم إذا قصد العلماء بالعلم المال والجاه تحاسدوا لأن المال أعيان وأجسام إذا وقعت في يد واحد خلت عنها يد الآخر، ومعنى الجاه ملك القلوب ومهما امتلأ قلب شخص بتعظيم عالم انصرف عن تعظيم الآخر أو نقص عنه لا محالة: فيكون ذلك سبباً للمحاسدة، وإذا امتلأ قلب بالفرح بمعرفة الله تعالى لم يمنع ذلك أن يمتلئ قلب غيره بها وأن يفرح بذلك. والفرق بين العلم والمال أن المال لا يحل في يد ما لم يرتحل عن اليد الأخرى والعلم في قلب العالم مستقر ويحل في قلب غيره بتعليمه من غير أن يرتحل من قلبه، والمال أجسام وأعيان ولها نهاية فلو ملك الإنسان جميع في الأرض لم يبق بعده مال يمتلكه غيره، والعلم لا نهاية له ولا يتصور استيعابه، فمن عود نفسه الفكر في جلال الله وعظمته وملكوت أرضه وسمائه صار ذلك ألذ عنده من كل نعيم، ولم يكن ممنوعاً منه ولا مزاحماً فيه، فلا يكون في قلبه حسد لأحد من الخلق لأن غيره أيضاً لو عرف مثل معرفته لم ينقص من لذته بل زادت لذته بمؤانسته، فتكون لذة هؤلاء في مطالعة عجائب الملكوت على الدوام أعظم من لذة من ينظر إلى أشجار

الجنة وبساتينها بالعين الظاهرة، فإن نعيم العارف وجنته معرفته التي هي صفة ذاته، يأمن زوالها وهو أبداً يجني ثمارها؛ فهو بروحه وقلبه مغتذ بفاكهة علمه وهي فاكهة غير مقطوعة ولا ممنوعة بل قطوفها دانية، فهو وإن غمض العين الظاهرة فروحه أبداً ترتع في جنة عالية ورياض زاهرة، فإن فرض كثرة في العارفين لم يكونوا متحاسدين بل كانوا كما قال فيهم رب العالمين "ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواننا على سرر متقابلين" فهذا حالهم وهم بعد في الدنيا، فماذا يظن بهم عند انكشاف الغطاء، أمشاهدة المحبوب في العقبى? فإذن لا يتصور أن يكون في الجنة محاسدة ولا أن يكون بين أهل الدنيا في الجنة محاسدة، لأن الجنة لا مضايقة فيها ولا مزاحمة، ولا تنال إلا بمعرفة الله تعالى التي لا مزاحمة فيها في الدنيا أيضاً، فأهل الجنة بالضرورة برءاء من الحسد في الدنيا والآخرة جميعاً، بل الحسد من صفات المبعدين عن سعة عليين إلى مضيق سجين، ولذلك وسم به الشيطان اللعين، وذكر من صفاته أنه حسد آدم عليه السلام على ما خص به من الاجتباء، ولما دعى إلى السجود استكبر وأبى وتمرد وعصى. فقد عرفت أنه لا حسد إلا للتوارد على مقصود يضيق عن الوفاء بالكل. ولهذا لا ترى الناس يتحاسدون على النظر إلى زينة السماء ويتحاسدون على رؤية البساتين التي هي جزء يسير من جملة الأرض، وكل الأرض لا وزن لها بالإضافة إلى السماء، ولكن السماء لسعة الأقطار وافيه بجميع الأبصار فلم يكن فيها تزاحم ولا تحاسد أصلاً. فعليك إن كنت بصيراً وعلى نفسك مشفقاً أن تطلب نعمة لا زحمة فيها ولذة لا كدر لها? ولا يوجد ذلك في الدنيا إلا في معرفة الله عز وجل ومعرفة صفاته وأفعاله وعجائب ملكوت السموات والأرض. ولا ينال ذلك في الآخرة إلا بهذه المعرفة أيضاً. فإن كنت لا تشتاق إلى معرفة الله تعالى ولم تجد لذتها وفتر عنها رأيك وضعفت فيها رغبتك فأنت في ذلك معذور؛ إذ العنين لا يشتاق إلى لذة الوقاع، والصبي لا يشتاق إلى لذة الملك، فإن هذه لذات يختص بإدراكها الرجال دون الصبيان والمخنثين فكذلك لذة المعرفة يختص بإدراكها الرجل "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله" ولا يشتاق إلى هذه اللذة غيرهم، لأن الشوق بعد الذوق، ومن لم يذق لم يعرف، ومن لم يعرف لم يشتق، ومن لم يشتق لم يطلب، ومن لم يطلب لم يدرك، ومن لم يدرك بقي مع المحرومين في أسفل السافلين "ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين".

بيان الدواء الذي ينفي مرض الحسد عن القلب

اعلم أن الحسد من الأمراض العظيمة للقلوب، ولا تداوى أمراض القلوب إلا بالعلم والعمل. والعلم النافع لمرض الحسد هو أن تعرف تحقيقاً أن الحسد ضرر عليك في الدنيا والدين، وأنه لا ضرر فيه على المحسود في الدنيا والدين بل ينتفع به فيهما. ومهما عرفت هذا عن بصيرة ولم تكن عدو نفسك وصديق عدوك فارقت الحسد لا محالة. أما كونه ضرراً عليك في الدين فهو أنك بالحسد سخطت قضاء الله تعالى، وكرهت نعمته التي قسمها بين عباده، وعدله الذي أقامه في ملكه بخفي حكمته، فاستنكرت ذلك واستبشعته. وهذه جناية على حدقة التوحيد وقذى في عين الإيمان، وناهيك بهما جناية على الدين. وقد انضاف إلى ذلك أنك غششت رجلاً من المؤمنين وتركت نصيحته، وفارقت أولياء الله وأنبياءه في حبهم الخير لعباده تعالى، وشاركت إبليس وسائر الكفار في محبتهم للمؤمنين البلايا وزوال النعم. وهذه خبائث في القلب تأكل حسنات القلب كما تأكل النار الحطب، وتمحوها كما يمحو الليل النهار.

وأما كونه ضرراً عليك في الدنيا فهو أنك تتألم بحسدك في الدنيا أو تتعذب به، ولا تزال في كمد وغم إذ أعداؤك لا يخليهم الله تعالى عن نعم يفيضها عليهم، فلا تزال تتعذب بكل نعمة تتراها وتتألم بكل بلية تنصرف عليهم، فتبقى مغموماً محروماً متشعب القلب ضيق الصدر قد نزل بك ما يشتهيه الأعداء لك وتشتهيه لأعدائك، فقد كنت تريد المحنة لعدوك فتنجزت في الحال محنتك وغمك نقداً، ومع هذا فلا تزول النعمة عن المحسود بحسدك. ولو لم تكن تؤمن بالبعث والحساب لكان مقتضى الفطنة إن كنت عاقلاً أن تحذر من الحسد لما فيه من ألم القلب ومساءته مع عدم النفع، فكيف وأنت عالم بما في الحسد من العذاب الشديد في الآخرة? فما أعجب من العاقل كيف يتعرض لسخط الله تعالى من غير نفع يناله بل مع ضرر يحتمله وألم يقاسيه فيهلك دينه ودنياه من غير جدوى ولا فائدة? وأما أنه لا ضرر على المحسود في دينه ودنياه فواضح لأن النعمة لا تزول عنه بحسدك، بل ما قدره الله تعالى من إقبال ونعمة فلا بد أن يدوم إلى أجل غير معلوم قدره الله سبحانه. فلا حيلة في دفعه، بل كل شيء عنده بمقدار، ولكل أجل كتاب. ولذلك شكا نبي من الأنبياء من امرأة ظالمة مستولية على الخلق فأوحى الله إليه: فر من قدامها حتى تنقضي أيامها أي ما قدرناه في الأزل لا سبيل إلى تغيير فاصبر حتى تنقضي المدة التي سبق القضاء بدوام إقبالها فيها. ومهما لم تزل النعمة بالحسد لم يكن على المحسود ضرر في الدنيا ولا يكون عليه إثم في الآخرة، ولعلك تقول ليت النعمة كانت تزول عن المحسود بحسدي. وهذا غاية الجهل فإنه بلاء تشتهيه أولاً لنفسك، فإنك أيضاً لا تخلو عن عدو يحسدك، فلو كانت النعمة تزول بالحسد لم يبق لله تعالى عليك نعمة ولا على أحد من الخلق ولا نعمة الإيمان أيضاً، لأن الكفار يحسدون المؤمنين على الإيمان. قال الله تعالى "ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفاراً حسداً من عند أنفسهم" إذ ما يريد الحسود لا يكون. نعم هو يضل بإرادته الضلال لغيره فإن أراد الكفر كفر. فمن اشتهى أن تزول النعمة عن المحسود بالحسد فكأنما يريد أن يسلب نعمة الإيمان بحسد الكفار وكذا سائر النعم. وإن اشتهيت أن تزول النعمة عن الخلق بحسدك ولا تزول عنك بحسد غيرك فهذا غاية الجهل والغباوة، فإن كل واحد من حمقى الحساد أيضاً يشتهي أن يخص بهذه الخاصية ولست بأولى من غيرك، فنعمة الله تعالى عليك في إن لم تزل النعمة بالحسد مما يجب عليك شكرها وأنت بجهلك تكرهها.

وأما أن المحسود ينتفع به في الدين والدنيا فواضح. أما منفعته في الدين: فهو أنه مظلوم من جهتك لا سيما إذا أخرجك الحسد إلى القول والفعل بالغيبة والقدح فيه وهتك ستره وذكره مساويه، فهذه هدايا تهديها إليه؛ أعني أنك بذلك تهدي إليه حسناتك حتى تلقاه يوم القيامة مفلساً محروماً عن النعمة كما حرمت في الدنيا عن النعمة، فكأنك أردت زوال النعمة عنه فلم تزل. نعم كان عليه نعمة إذ وفقك للحسنات فنقلتها إليه فأضفت إليه نعمة إلى نعمة وأضفت إلى نفسك شقاوة إلى شقاوة.

وأما منفعته في الدنيا فهو أن أهم أغراض الخلق مساءة الأعداء وغمهم وشقاوتهم وكونهم معذبين مغمومين، ولا عذاب أشد مما أنت فيه من ألم الحسد، وغاية أماني أعدائك أن يكونوا في نعمة وأن تكون في غم وحسرة بسببهم وقد فعلت بنفسك ما هو مرادهم، ولذلك لا يشتهي عدوك موتك بل يشتهي أن تطول حياتك ولكن في عذاب الحسد لتنظر إلى نعمة الله عليه فيتقطع قلبك حسداً. ولذلك قيل: لا مات أعداؤك بل خلـدوا حتى يروا فيك الذي يكمد

لا زلت محسوداً على نعمة فإنما الكامل من يحـسـد

ففرح عدوك بغمك وحسدك أعظم من فرحه بنعمته، ولو علم خلاصك من ألم الحسد وعذابه لكان ذلك أعظم مصيبة وبليه عنده، فما أنت فيما تلازمه من غم الحسد إلا كما يشتهيه عدوك، فإذا تأملت هذا عرفت أنك عدو نفسك وصديق عدوك إذ تعاطيت ما تضررت به في الدنيا والآخرة وانتفع به عدوك في الدنيا والآخرة. وصرت مذموماً عند الخالق والخلائق شقياً في الحال والمآل، ونعمة المحسود دائمة شئت أم أبيت باقية، ثم لم تقتصر على تحصيل مراد عدوك حتى وصلت إلى إدخال أعظم سرور على إبليس الذي هو أعدى أعدائك، لأنه لما رآك محروماً من نعمة العلم والورع والجاه والمال الذي اختص به عدوك عنك خاف أن تحب ذلك له فتشاركه في الثواب بسبب المحبة، لأن من أحب الخير للمسلمين كان شريكاً في الخير، ومن فاته اللحاق بدرجة الأكابر في الدنيا لم يفته ثواب الحب لهم مهما أحب ذلك، فخاف إبليس أن تحب ما أنعم الله به على عبده من صلاح دينه ودنياه فتفوز بثواب الحب فبغضه إليك حتى لا تلحقه بحبك كما لم تلحقه بعملك.

وقد قال أعرابي للنبي ﷺ: يا رسول الله الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم فقال النبي ﷺ "المرء مع من أحب وقام أعرابي إلى رسول الله ﷺ وهو يخطب فقال: يا رسول الله متى الساعة? فقال "ما أعددت لها?" قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام إلا أني أحب الله ورسوله، فقال ﷺ "أنت مع من أحببت قال أنس: فما فرح المسلمون بعد إسلامهم كفرحهم يومئذ. إشارة إلى أن أكبر بغيتهم كانت حب الله ورسوله. قال أنس: فنحن نحب رسول الله وأبا بكر وعمر ولا نعمل مثل عملهم ونرجو أن نكون معهم. وقال أبو موسى: قلت يا رسول الله الرجل يحب المصلين ولا يصلي ويحب الصوام ولا يصوم، حتى عد أشياء. فقال النبي ﷺ "هو مع من أحب وقال رجل لعمر بن عبد العزيز: إنه كان يقال إن استطعت أن تكون عالماً فكن عالماً، فإن لم تستطع أن تكون عالماً فكن متعلماً، فإن لم تسطع أن تكون متعلماً فأحبهم، فإن لم تستطع فلا تبغضهم، فقال: سبحان الله لقد جعل الله لنا مخرجاً.

فانظر الآن كيف حسدك إبليس ففوت عليك ثواب الحب، ثم لم يقنع به حتى بغض إليك أخاك وحملك على الكراهة حتى أثمت، وكيف لا وعساك تحاسد رجلاً من أهل العلم وتحب أن يخطئ في دين الله تعالى وينكشف خطؤه ليفتضح? وتحب أن يخرس لسانه حتى لا يتكلم أو يمرض حتى لا يعلم ولا يتعلم وأي إثم يزيد على ذلك? فليتك إذ فاتك اللحاق به ثم اغتممت بسببه سلمت من الإثم وعذاب الآخرة وقد جاء في الحديث "أهل الجنة ثلاثة: المحسن والمحب له والكاف عنه أي من يكف عنه الأذى والحسد والبغض والكراهة فانظر كيف أبعدك إبليس عن جميع المداخل الثلاثة حتى لا تكون من أهل واحد منها البتة، فقد نفذ فيك حسد إبليس وما نفذ حسدك في عدوك بل على نفسك، بل لو كوشفت بحالك في يقظة أو منام لرأيت نفسك أيها الحاسد في صورة من يرمي سهماً فيرجع إلى عينه ليصيب مقتله فلا يصيبه بل يرجع إلى حدقته اليمني فيقلعها، فيزيد غضبه فيعود ثانية فيرمي أشد من الأولى فيرجع إلى عينه الأخرى فيعميها، فيزداد غيظه فيعود على رأسحه فيشجه، وعدوه سالم في كل حال وهو إليه راجع مرة بعد أخرى، وأعداؤه حوله يفرحون به ويضحكون عليه. وهذا حال الحسود وسخرية الشيطان منه، بل حالك في الحسد أقبح من هذا لأن الرمية العائدة لم تفوت إلا العينين ولو بقيتا لفاتتا بالموت لا محالة. والحسد يعود بالإثم والإثم لا يفوت بالموت، ولعله يسوقه إلى غضب الله وإلى النار، فلأن تذهب عينه في الدنيا خير له من أن تبقى له عين يدخل بها النار فيقلعها لهيب النار. فانظر كيف انتقم الله من الحاسد إذا أراد زوال النعمة عن المحسود فلم يزلها عنه ثم أزالها عن الحاسد؛ إذ السلامة من الإثم نعمة والسلامة من الغم والكمد نعمة قد زالتا عنه تصديقاً لقوله تعالى "ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله" وربما يبتلي بعين ما يشتهيه لعدوه، وقلما يشمت شامت بمساءة غلا ويبتلى بمثلها، حتى قالت عائشة رضي الله عنها: ما تمنيت لعثمان شيئاً إلى نزل بي، حتى لو تمنيت له القتل لقتلت. فهذا إثم الحسد نفسه فكيف ما يجر إليه لحسد من الاختلاف وجحود الحق وإطلاق اللسان واليد بالفواحش في التشفي من الأعداء? وهو الداء الذي فيه هلك الأمم السالفة.

فهذه هي الأدوية العلمية فمهما تفكر الإنسان فيها بذهن صاف وقلب حاضر انطفأت نار الحسد من قلبه، وعلم أنه مهلك نفسه ومفرح عدوه ومسخط ربه ومنغص عيشه.

وأما العمل النافع فيه فهو أن يحكم الحسد فكل ما يتقاضاه الحسد من قول وفعل فينبغي أن يكلف نفسه نقيضه، فإن حمله الحسد على القدح في محسوده كلف لسانه المدح له والثناء عليه، وإن حمله على التكبر عليه ألزم نفسه التواضع له والاعتذار إليه، وإن بعثه على كف الإنعام عليه ألزم نفسه الزيادة في الإنعام عليه، فمهما فعل ذلك عن تكلف وعرفه المحسود طاب قلبه وأحبه، ومهما ظهر حبه عاد الحاسد فأحبه، وتولد من ذلك الموافقة التي تقطع مادة الحسد، لأن التواضع والثناء والمدح وإظهار السرور بالنعمة يستجلب قلب المنعم عليه ويسترقه ويستعطفه ويحمله على مقابلة ذلك بالإحسان، ثم ذلك الإحسان يعود إلى الأول فيطيب قلبه ويصبر ما تكلفه أولاً: طبعاً آخر ولا يصدنه عن ذلك قول الشيطان له: لو تواضعت وأثنيت عليه حملك العدو على العجز أو على النفاق أو الخوف وأن ذلك مذلة ومهانة، وذلك من خداع الشيطان ومكايده بل المجاملة -تكلفاً كانت أو طبعاً- تكسر سورة العداوة من الجانبي وتقل مرغوبها وتعود القلب التآلف والتحاب، وبذلك تستريح القلوب من ألم الحسد وغم التباغض.

فهذه هي أدوية الحسد وهي نافعة جداً إلا أنها مرة على القلوب جداً ولكن النفع في الدواء المر. فمن لم يصبر على مرارة الدواء لم ينقل حلاوة الشفاء؛ وإنما تهون مرارة هذا الدواء، أعني التواضع للأعداء والتقرب إليهم، بالمدح والثناء بقوة العلم بالمعاني التي ذكرناها وقوة الرغبة في ثواب الرضا بقضاء الله تعالى وحب ما أحبه. وعزة النفس وترفعها عن أن يكون في العالم شيء على خلاف مرادها جهل، وعند ذلك يريد ما لا يكون، إذ لا مطمع في أن يكون ما يريد وفوات المراد ذل وخسة، ولا طريق إلى الخلاص من هذا الذل إلا بأحد أمرين: إما بأن يكون ما تريد أو بأن تريد ما يكون، والأول ليس إليك ولا مدخل للتكلف والمجاهدة فيه. وأما الثاني: فللمجاهدة فيه مدخل، وتحصيله بالرياضة ممكن، فيجب تحصيله على كل عاقل هذا هو الدواء الكلي.

فأما الدواء المفصل: فهو تتبع أسباب الحسد من الكبر وغيره وعزة النفس وشدة الحرص على ما لا يغني -وسيأتي تفصيل مداواة هذه الأسباب في مواضعها إن شاء الله تعالى- فإنها مواد هذا المرض ولا ينقمع المرض إلا بقمع المادة، فإن لم تقمع المادة لم يحصل بما ذكرناه إلا تسكين وتطفئة، ولا يزال يعود مرة بعد أخرى ويطول الجهد في تسكينه مع بقاء مواده، فإنه ما دام محباً للجاه فلا بد وأن يحسد من استأثر بالجاه والمنزلة في قلوب الناس دونه، ويغمه ذلك لا محالة، وإنما غايته أن يهون الغم على نفسه ولا يظهر بلسانه ويده، فأما الخلو عنه رأساً فلا يمكنه والله الموفق.

بيان القدر الواجب في نفي الحسد عن القلب

اعلم أن المؤذي ممقوت بالطبع، ومن آذاك فلا يمكنك أن لا تبغضه غالباً، فإذا تيسرت له نعمة فلا يمكنك أن لا تكرهها له حتى يستوي عندك حسن حال عدوك وسوء حاله، بل لا تزال تدرك في النفس بينهما تفرقة، ولا يزال الشيطان ينازعك إلى الحسد له، ولكن عن قوي ذلك فيك حتى بعثك على إظهار الحسد بقول أو فعل بحيث يعرف ذلك من ظاهرهك بأفعالك الاختيارية فأنت حسود عاص بحسدك، وإن كففت ظاهرك بالكلية إلا أنك بباطنك تحب زوال النعمة وليس في نفسك كراهة لهذه الحالة فأنت أيضاً حسود عاص، لأن الحسد صفة القلب لا صفة الفعل، قال الله تعالى "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا" وقال عز وجل "ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء" وقال "إن تمسسكم حسنة تسؤهم" أما الفعل فهو غيبة وكذب وهو عمل صادر عن الحسد وليس هو عين الحسد، بل محل الحسد القلب دون الجوارح. نعم هذا الحسد ليس مظلمة بحب الاستحلال منها بل هو معصية بينك وبين الله تعالى، وإنما يجب الاستحلال من الأسباب الظاهرة على الجوارح، فأما إذا كففت ظاهرك وألزمت مع ذلك قلبك كراهة ما يترشح منه بالطبع من حب زوال النعمة حتى كأنك تمقت نفسك على ما في طبعها فتكون تلك الكراهة من جهة العقل في مقالة الميل من جهة الطبع، فقد أديت الواجب عليك، ولا يدخل تحت اختيارك في أغلب الأحوال أكثر من هذا، فأما تغيير الطبع ليستوي عنده المؤذي والمحسن ويكون فرحه أو غمه بما تيسر لهما من نعمة أو تنصب عليهما من بلية سواء، فهذا مما لا يطاوع الطبع عليه ما دام ملتفتاً إلى حظوظ الدنيا، إلا أن يصير مستغرقاً بحيث الله تعالى مثل السكران الواله، فقد ينتهي أمره إلى أن لا يلتفت قلبه إلى تفاصيل أحوال العباد، بل ينظر إلى الكل بعين واحدة وهي عين الرحمة، ويرى الكل عباد الله وأفعالهم أفعال الله، ويراهم مسخرين وذلك إن كان فهو كالبرق الخاطف لا يدوم، ثم يرجع القلب بعد ذلك إلى طبعه ويعود العدو إلى منازعته -أعني الشطيان- فإنه ينازع بالوسوسة.فمهما قابل ذلك بكراهته وألزم قلبه هذه الحالة فقد أدى ما كلفه. وقد ذهب ذاهبون إلى أنه لا يأثم إذا لم يظهر الحسد على جوارحه لما روي عن الحسن أنه سئل عن الحسد فقال: غمه فإنه لا يضرك ما لم تبده. وروي عنه موقوفاً ومرفوعاً إلى النبي ﷺ أنه قال "ثلاثة لا يخلو منهن المؤمن وله مهن مخرج" فمخرجه من الحسد أن لا يبغي، والأولى أن يحمل هذا على ما ذكرناه من أن يكون فيه كراهة من جهة الدين والعقل في مقابلة حب الطبع لزوال نعمة الدعو، وتلك الكراهة تمنعه من البغي والإيذاء، فإن جميع ما ورد من الأخبار في ذم الحسد يدل ظاهره على أن كل حاسد آثم، ثم الحسد عبارة عن صفة القلب لا عن الأفعال. فكل من يحب إساءة مسلم فهو حاسد. فإذن كونه آثماً بمجرد حسد القلب من غير فعل هو في محل الاجتهاد، والأظهر ما ذكرناه من حيث ظواهر الآيات والأخبار ومن حيث المعنى، إذ يبعد أن يعفى عن العبد في إرادته إساءة مسلم واشتماله بالقلب على ذلك من غير كراهة.

وقد عرفت من هذا أن لك في أعدائك ثلاثة أحوال، أحدها: أن تحب مساءتهم بطبعك، وتكره حبك لذلك ميل قلبك إليه بعقلك وتمقت نفسك عليه وتود لو كانت لك حيلة في إزالة ذلك الميل منك، وهذا معفو عنه قطعاً لأنه لا يدخل تحت الاختيار أكثر منه.

الثاني: أن تحب ذلك وتظهر الفرح بمساءته إما بلسانك أو بجوارحك، فهذا هو الحسد المحظور قطعاً.

الثالث: وهو بين الطرفين أن تحسد بالقلب من غير مقت لنفسك على حسدك، ومن غير إنكار منك على قلبك ولكن تحفظ جوارحك عن طاعة الحسد في مقتضاه، وهذا في محل الخلاف. والظاهر أنه لا يخلوا عن إثم بقدر قوة ذلك الحب وضعفه. والله أعلم والحمد لله رب العالمين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

==========

المؤلف: أبو حامد الغزالي كتاب ذم الدنيا

وهو الكتاب السادس من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي عرف أولياءه غوائل الدنيا وآفاتها. وكشف لهم عن عيوبها وعوراتها حتى نظروا في شواهدها وآياتها، ووزنوا بحسناتها سيئاتها فعلموا أنه يزيد منكرها على معروفها ولا يفي مرجوها بمخوفها ولا يسلم طلوعها من كسوفها، ولكنها في صورة امرأة مليحة تستميل الناس بجمالها، ولها أسرار سوء قبائح تهلك الراغبين في وصالها، ثم هي فرارة عن طلابها شحيحة بإقبالها، وإذا أقبلت لم يؤمن شرها ووبالها، إن أحسنت ساعة أساءت سنة. وإن أساءت مرة جعلتها سنة، فدوائر إقبالها على التقارب دائرة، وتجارة بنيها خاسرة بائرة، وآفاتها على التوالي لصدور طلابها راشقة، ومجاري أحوالها بذل طالبيها ناطقة. فكل مغرور بها إلى الذل مصيره. وكل متكبر بها إلى التحسر مسيره. شأنها الهرب من طالبها والطلب لهاربها، ومن خدمها فاتته، ومن أعرض عنها واتته لا يخلو صفوها عن شوائب الكدورات ولا ينفك سرورها عن المنغصات، سلامتها تعقب السقم، وشبابها يسوق إلى الهرم، ونعيمها لا يثمر إلا الحسرة والندم فهي خداعة مكارة، طيارة فرارة، لا تزال تتزين لطلابها حتى إذا صاروا من أحبابها، كشرت لهم عن أنيابها، وشوشت عليهم مناظم أسبابها؛ وكشفت لهم عن مكنون عجائبها، فأذاقتهم قواتل سمامها؛ ورشقتهم بصوائب سهامها. بينما أصحابها منها في سرور وإنعام إذ ولت عنها كأنها أضغاث أحلام. ثم عكرت عليهم بدواهيها فطحنتهم طعن الحصيد ووارتهم في أكفانهم تحت الصعيد، إن ملكت واحداً منهم جميع ما طلعت عليه الشمس جعلته حصيداً كأن لم يغن بالأمس. تمنى أصحابها سروراً وتعدهم غروراً حتى يأملون كثيراً ويبنون قصورا. فتصبح قصورهم قبورا وجمعهم بورا. وسعيهم هباء منثورا ودعاؤهم ثبورا، هذه صفتها وكان أمر الله قدراً مقدورا. والصلاة والسلام على محمد عبده ورسوله المرسل إلى العالمين بشيراً ونذيرا وسراجاً منيرا. وعلى من كان من أهله وأصحابه له في الدين ظهيرا وعلى الظالمين نصيرا وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فإن الدنيا عدوة لله وعدوة لأولياء الله وعدوة لأعداء الله. أما عداوتها لله فإنها قطعت الطريق على عباد الله. ولذلك لم ينظر الله إليها منذ خلقها. وأما عداوتها لأولياء الله عز وجل: فإنها تزينت لهم بزينتها وعمتهم بزهرتها ونضارتها حتى تجرعوا مرارة الصبر في مقاطعتها. وأما عداوتها لأعداء الله: فإنها استدرجتهم بمكرها وكيدها فاقتنصتهم بشبكتها حتى وثقوا بها. وعولوا عليها فخذلتهم أحوج ما كانوا إليها. فاجتنوا منها حسرة تتقطع دونها الأكباد. ثم حرمتهم السعادة أبد الآباد. فهم على فراقها يتحسرون ومن مكايدها يستغيثون ولا يغاثون. بل يقال لهم "اخسئوا فيها ولا تكلمون. أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون".

وإذا عظمت غوائل الدنيا وشرورها فلا بد أولاً من معرفة حقيقة الدنيا وما هي? وما الحكمة في خلقها مع عداوتها? وما مدخل غرورها وشرورها? فإن من لا يعرف الشر لا يتقيه ويوشك أن يقع فيه. ونحن نذكر ذم الدنيا وأمثلتها، وحقيقتها وتفصيل معانيها، وأصناف الأشغال المتعلقة بها، ووجه الحاجة إلى أصولها، وسبب انصراف الخلق عن الله التشاغل بفضولها إن شاء الله تعالى. وهو المعين على ما يرتضيه.

بيان ذم الدنيا

الآيات الواردة في ذم الدنيا وأمثلتها كثيرة. وأكثر القرآن مشتمل على ذم الدنيا وصرف الخلق عنها ودعوتهم إلى الآخرة. بل هو مقصود الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولم يبعثوا إلا لذلك، فلا حاجة إلا الاستشهاد بآيات لقرآن لظهورها، وإنما نورد بعض الأخبار الواردة فيها. فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر شاة ميتة فقال "أترون هذه الشاة هينة على أهلها?" قالوا: من هوانها ألقوها. قال "والذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ولو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء وقال ﷺ "الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر وقال رسول الله ﷺ "من أحب دنياه أضر بآخرته إلا ما كان لله منها وقال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله ﷺ "حب الدنيا رأس كل خطيئة وقال زيد بن أرقم: كما مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه فدعا بشراب فأتي بماء وعسل، فلما أدناه من فيه بكى حتى أبكى أصحابه وسكتوا وما سكت: ثم عاد وبكى حتى ظنوا أنهم لا يقدرون على مسألته قال: ثم مسح عينيه فقالوا: يا خليفة رسول الله ما أبكاك? قال: كنت مع رسول الله ﷺ فرأيته يدفع عن نفسه شيئاً ولم أر معه أحداً؛ فقلت يا رسول الله ما الذي تدفع عن نفسك? قال "هذه الدنيا مثلت لي فقلت لها: إليك عني ثم رجعت فقالت: إنك إن أفلت مني لم يفلت مني من بعدك وقال ﷺ "يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الخلود وهو يسعى لدار الغرور وروي أن رسول الله ﷺ وقف على مزبلة فقال "هلموا إلى الدنيا وأخذ خرقاً قد بليت على تلك المزبلة وعظاماً قد نخرت فقال: هذه الدنيا وهذه إشارة إلى أن زينة الدنيا ستخلق مثل تلك الخرق وأن الأجسام التي ترى بها ستصير عظاماً بالية. وقال ﷺ "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون إن بني إسرائيل لما بسطت لهم الدنيا ومهدت تاهوا في الحلية والنساء والطيب والثياب وقال عيسى عليه السلام: لا تتخذوا الدنيا رباً فتخذكم عبيداً اكنزوا كنزكم عند من لا يضيعه فإن صاحب كنز الدنيا يخاف عليه الآفة وصاحب كنز الله لا يخاف عليه الآفة. وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: يا معشر الحواريين إني قد كببت لكم الدنيا على وجهها فلا تنعشوها بعدي فإن من خبث الدنيا أن عصي الله فيها وإن من خبث الدنيا أن الآخرة لا تدرك إلا بتركها، ألا فاعبروا الدنيا ولا تعمروها واعلموا أن أصل كل خطيئة حب الدنيا، ورب شهوة ساعة أورثت أهلها حزناً طويلاً. وقال أيضاً: بطحت لكم الدنيا وجلستم على ظهرها فلا ينازعنكم فيها الملوك والنساء، فأما الملوك فلا تنازعوهم الدنيا فإنهم لن يعرضوا لكم ما تركتموهم ودنياهم، وأما النساء فاتقوهن بالصوم والصلاة. وقال أيضاً: الدنيا طالبة ومطلوبة فطالب الآخرة تطلبه الدنيا حتى يستكمل فيها رزقه، وطالب الدنيا تطلبه الآخرة حتى يجيء الموت فيأخذ بعنقه. وقال موسى ابن يسار: قال النبي ﷺ "إن الله عز وجل لم يخلق خلقاً أبغض إليه من الدنيا وأنه منذ خلقها لم ينظر إليها وروي أن سليمان بن داود عليهما السلام مر في موكبه والطير تظله والجن والإنس عن يمينه وشماله قال: فمر بعابد من بني إسرائيل فقال والله يا ابن داود لقد آتاك الله ملكاً عظيماً، قال: فسمع سليمان وقال: لتسبيحة في صحيفة مؤمن خير مما أعطى ابن داودن فإن ما أعطى ابن داود يذهب والتسبيحة تبقى. وقال ﷺ "ألهاكم التكاثر يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت? وقال ﷺ "إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له، وعليها يعادى من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له وقال ﷺ "من أصبح والدنيا أكبر همه فليس من الله في شيء وألزم الله قلبه أربع خصال: هما لا ينقطع عنه أبداً، وشغلاً لا يتفرغ منه أبداً، وفقراً لا يبلغ غناه أبداً، وأملاً لا يبلغ منتهاه أبداً وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله ﷺ "يا أبا هريرة ألا أريك الدنيا جميعها بما فيها" فقلت: بل يا رسول الله، فأخذ بيده وأتى بي وادياً

من أودية المدينة فإذا مزبلة فيها رؤوس أناس وعذرات وخرق وعظام، ثم قال "يا أبا هريرة هذه الرؤوس كانت تحرص كحرصكم وتأمل كأملكم ثم هي اليوم عظام بلا جلد ثم هي صائرة رماداً. وهذه العذرات هي ألوان أطعمتهم اكتسبوها من حيث اكتسبوها ثم قذفوها في بطونهم فأصبحت والناس يتحامونها، وهذه الخرق البالية كانت رياشهم ولباسهم فأصبحت والرياح تصفقها، وهذه العظام عظام دوابهم التي كانوا ينتجعون عليها أطراف البلاد؛ فمن كان باكياً على الدنيا فليبك" قال: فما برحنا حتى اشتد بكاؤنا ويروى أن الله عز وجل لما أهبط آدم إلى الأرض قال له: ابن للخراب ولد للفناء.

وقال داود بن هلال مكتوب في صحف إبراهيم عليه السلام: يا دنيا ما أهونك على الأبرار الذين تصنعت وتزينت لهم، إني قذفت في قلوبهم بعضك والصدور عنك وما خلقت خلقاً أهون علي منك، كل شأنك صغير وإلى الفناء يصير قضيت عليك يوم خلقتك أن لا تدومي لأحد ولا يدوم لك أحد، وإن بخل بك صاحبك وشح عليك، طوبى للأبرار الذين أطلعوني من قلوبهم على الرضا ومن ضميرهم على الصدق والاستقامة، طوبى لهم ما لهم عندي من الجزاء إذا وفدوا إلي من قبورهم إلا النور يسعى أمامهم والملائكة حافون بهم حتى أبلغهم ما يرجون من رحمتي. وقال رسول الله ﷺ "الدنيا موقوفة بين السماء والأرض، منذ خلقها الله تعالى لم ينظر غليها، وتقول يوم القيامة يا رب اجعلني لأدنى أوليائك اليوم نصيباً فيقول اسكتي يا لا شيء إني لم أرضك لهم في الدنيا أرضاك لهم اليوم وروي في أخبار آدم عليه السلام أنه لما أكل من الشجرة تحركت معدته لخروج الثفل، ولم يكن ذلك مجعولاً في شيء من أطعمة الجنة إلا في هذه الشجرة فلذلك نهيا عن أكلها، قال فجعل يدور في الجنة، فأمر الله تعالى ملكاً يخاطبه فقال له: قل له أي شيء تريد? قال آدم: أريد أن أضع ما في بطني من الأذى، فقيل للملك: قل له في أي مكان تريد أن تضعه أعلى الفرش أم على السرر أم على الأنهار أم تحت ظلال الأشجار هل ترى ههنا مكاناً يصلح لذلك? اهبط إلى الدنيا وقال ﷺ في بعض خطبه "المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه? فليتزود العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته ومن حياته لموته ومن شبابه لهرمه فإن الدنيا خلقت لكم وأنتم خلقتم للآخرة، والذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار وقال عيسى عليه السلام: لا يستقيم حب الدنيا والآخرة في مؤمن كما لا يستقيم الماء والنار في إناء واحد. وروي أن جبريل عليه السلام قال لنوح عليه السلام: يا أطول الأنبياء عمراً كيف وجدت الدنيا? فقال: كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر. قيل لعيسى عليه السلام: لو اتخذت بيتاً يكنك: قال: يكفينا خلقان من كان قبلها. وقال نبينا ﷺ "احذروا الدنيا فإنها أسحر من هاروت وماروت وعن الحسن قال: خرج رسول الله ﷺ ذات يوم على أصحابه فقال "هل منكم من يريد أن يذهب الله عنه العمى ويجعله بصيراً: ألا إنه من رغب في الدنيا وطال أمله فيها أعمى الله قلبه على قدر ذلك، ومن زهد في الدنيا وقصر فيها أمله أعطاه الله علماً بغير تعلم، وهدى بغير هداية: ألا أنه سيكون بعدكم قوم لا يستقيم لهم الملك إلا بالقتل والتجبر، ولا الغنى إلا بالفخر والبخل، ولا المحبة إلا باتباع الهوى؛ إلا فمن أدرك ذلك الزمان منكم فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى، وصبر على البغضاء وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز لا يريد بذلك إلا وجه الله تعالى أعطاه الله ثواب خمسين صديقاً وروي أن عيسى عليه السلام اشتد عليه المطر والرعد والبرق يوماً فجعل يطلب شيئاً يلجأ إليه فوقعت عينه على خيمة من بعيد فأتاها فإذا فيها امرأة فحاد عنها، فإذا هو بكهف في جبل فأتاه فإذا فيه أسد فوضع يده عليه وقال: إلهي جعلت لكل شيء مأوى ولم تجعل لي مأوى، فأوحى الله تعالى إليه: مأواك في مستقر رحمتي لأزوجنك يوم القيامة مائة حوراء خلقتها بيدي ولأطعمن في عرسك أربعة آلاف عام يوم منها كعمر الدنيا، ولآمرن منادياً ينادي أين الزهاد في الدنيا زوروا عرس الزاهد في الدنيا عيسى ابن مريم. وقال عيسى ابن مريم عليه السلام: ويل لصاحب الدنيا كيف يموت ويتركها وما فيها، وتغره ويأمنها، ويثق بها وتخذله، وويل للمغترين كيف أرتهم ما يكرهون وفارقهم ما يحبون وجاءهم ما يوعدون? وويل لمن الدنيا همه والخطايا عمله كيف يفتضح غداً بذنبه? وقيل أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى ما لك ولدار الظالمين إنها ليست لك بدار أخرج منها همك وفارقها بعقلك، فبئست الدار هي إلا لعامل يعمل فيها فنعمت الدار هي، يا موسى إني مرصد للظالم حتى آخذ منه للمظلوم" وروي أن رسول الله ﷺ بعث أبا عبيدة بة الجراح فجاء بمال من البحرين؛ فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة فوافوا

صلاة الفجر مع رسول الله ﷺ فلما صلى رسول الله ﷺ انصرف فتعرضوا له، فتبسم رسول الله ﷺ حين رآهم ثم قال "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء" قالوا: أجل يا رسول الله، قال "فأبشروا وأملوا ما يسركم فوالله ما الفقر أخشى عليكم ولكني أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكنم وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله ﷺ "إن أكثر ما أخاف عليكم ما يخرج الله لكم من بركات الأرض" فقيل ما بركات الأرض? قال "زهرة الدنيا وقال ﷺ "لا تشغلوا قلوبكم بذكر الدنيا فنهى عن ذكرها فضلاً عن إصابة عينها. وقال عمار بن سعيد: مر عيسى عليه السلام بقرية فإذا أهلها موتى في الأفنية والطرق، فقال: يا معشر الحواريين إن هؤلاء ماتوا عن سخطة ولو ماتوا عن غير ذلك لتدافنوا، فقالوا: يا روح الله وددنا أن لو علمنا خبرهم. فسأل الله تعالى فأوحى إليه إذا كان الليل فنادهم يجيبوك. فلما كان الليل أشرف على نشز ثم نادى: يا أهل القرية فأجابه مجيب لبيك يا روح الله! فقال: ما حالكم وما قصتكم? قال: بتنا في عافية وأصبحنا في الهاوية، قال: وكيف ذاك? قال: بحبنا الدنيا وطاعتنا أهل المعاصي، قال: وكيف كان حبكم للدنيا? قال: حب الصبي لأمه إذا أقبلت فرحنا بها وإذا أدبرت حزنا وبكينا عليها، قال: فما بال أصحابك لم يجيبوني? قال لأنهم ملجمون بلجم من نار بأيدي ملائكة غلاظ شداد، قال: فكيف أجبتني أنت من بينهم? قال: لأني كنت فيهم ولم أكن منهم، فلما نزل بهم العذاب أصابني معهم، فأنا معلق على شفير جهنم لا أدري أأنجوا منها أم أكبكب فيها? فقال المسيح للحواريين: لأكل خبز الشعير بالملح الجريش ولبس المسوح والنوم على المزابل كثير مع عافية الدنيا والآخرة. وقال أنس: كانت ناقة رسول الله ﷺ العضباء لا تسبق فجاء أعرابي بناقة له فسبقها، فشق ذلك على المسلمين فقال ﷺ "إنه حق على الله أن لا يرفع شيئاً من الدنيا إلى وضعه وقال عيسى عليه السلام: من الذي يبني على موج البحر داراً? تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً. وقيل لعيسى عليه السلام: علمنا واحداً يحبنا الله عليه، قال: ابغضوا الدنيا يحبكم الله تعالى. وقال أبو الدرداء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولهانت عليكم الدنيا ولآثرتم الآخرة ثم قال أبو الدرداء -من قبل نفسه- لو تعلمون ما أعلم لخرجتم إلى الصعدات تجأرون وتبكون على أنفسكم، ولتركتم أموالكم لا حارس لها ولا راجع إليها إلا ما لا بد لكم منه، ولكن يغيب عن قلوبكم ذكر الآخرة، وحضرها الأمل فصارت الدنيا أملك بأعمالكم، وصرتم كالذين لا يعلمون فبعضكم شر من البهائم التي لا تدع هواها مخافة مما في عاقبته، مالكم لا تحابون ولا تناصحون وأنتم إخوان على دين الله ما فرق بين أهوائكم إلا خبث سرائركم، ولو اجتمعتم على البر لتحاببتم، ما لكم تناصحون في أمر الدنيا ولا تناصحون في أمر الآخرة? ولا يملك أحدكم النصيحة لمن يحبه ويعينه على أمر آخرته، ما هذا إلا من قلة الإيمان في قلوبكم، لو كنتم توقنون بخير الآخرة وشرها كما توقنون بالدنيا لآثرتم طلب الآخرة لأنها أملك لأموركم. فإن قلتم: حب العاجلة غالب? فإنا نراكم تدعون العاجلة من الدنيا للآجل منها، تكدون أنفسكم بالمشقة والاحتراف في طلب أمر لعلكم لا تدركونه، فبئس القوم أنتم ما حققتم إيمانكم بما يعرف به الإيمان البالغ فيكم! فإن كنتم في شك مما جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم فائتونا لنبين لكم ولنريكم من النور ما تطمئن إليه قلوبكم! والله ما أنتم بالمنقوصة عقولكم فنعذركم إنكم تستبينون صواب الرأي في دنياكم وتأخذون بالحزم في أموركم، ما لكم تفرحون باليسير من الدنيا تصيبونه وتحزنون على اليسير منها يفوتكم، حتى يتبين ذلك في وجوهكم ويظهر على ألسنتكم، وتسمونها المصائب وتقيمون فيها المآتم، وعامتكم قد تركوا كثيراً من دينهم ثم لا يتبين ذلك في وجوهكم ولا يتغير حالكم، إني لأرى الله قد تبرأ منكم يلقى بعضكم بعضاً بالسرور، وكلكم يكره أن يستقبل صاحبه بما يكره مخافة أن يستقبله صاحبه بمثله فاصطحبتم على الغل ونبتت مراعيكم

على الدمن وتصافيتم على رفض الأجل، ولوددت أن الله تعالى أراحني منكم وألحقني بمن أحب رؤيته ولو كان حياً لم يصابركم، فإن كان فيكم خير فقد أسمعتكم وإن تطلبوا ما عند الله تجدوه يسيراً، وبالله أستعين على نفسي وعليكم. وقال عيسى عليه السلام: يا معشر الحواريين ارضوا بدنئ الدنيا مع سلامة الدين كما رضى أهل الدنيا بدنئ الدين مع سلامة الدنيا. وفي معناه قيل: أرى رجـالاً بـأدنـى الـــدين قـــد قـــنـــعـــوا ومـا أراهـم رضـوا فـي الـــعـــيش بـــالـــدون

فاستغن بالدين عن دنيا الملوك كما استغنى الملوك بدنياهم عن الدين

وقال عيسى عليه السلام: يا طالب الدنيا لتبر تركك الدنيا أبر. وقال نبينا ﷺ "لتأتينكم بعدي دنيا تأكل إيمانكم كما تأكل النار الحطب وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: يا موسى لا تركنن إلى حب الدنيا فلن تأتيني بكبيرة هي أشد منها. ومر موسى عليه السلام برجل وهو يبكي ورجع وهو يبكي، فقال موسى: يا رب عبدك يبكي من مخافتك فقال: يا ابن عمران لو سال دماغه مع دموعه عينيه ورفع يديه حتى يسقطا لم أغفر له وهو يحب الدنيا.

الآثار: قال علي رضي الله عنه: من جمع فيه ست خصال لم يدع للجنة مطلباً ولا عن النار مهرباً؛ أولها: من عرف الله وأطاعه، وعرف الشيطان فعصاه، وعرف الحق فاتبعه، وعرف الباطل فاتقاه، وعرف الدنيا فرفضها، وعرف الآخرة فطلبها. وقال الحسن: رحمالله أقواماً كانت الدنيا عندهم وديعة فأدوها إلى من ائتمنهم عليها، ثم راحوا خفافاً. وقال أيضاً رحمه الله: من نافسك في دينك فنافسه في دنياك فألقها في نحره. وقال لقمان عليه السلام لابنه: يا بني إن الدنيا بحر عميق وقد غرق فيه ناس كثير فلتكن سفينتك فيه تقوى الله عز وجل، وحشوها الإيمان بالله تعالى، وشراعها التوكل على الله عز وجل، لعلك تنجو وما أراك ناجياً. وقال الفضيل: طالت فكرتي في هذه الآية "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً وإنا لجاعلون ما عليها صعيداً حرزاً" وقال بعض الحكماء: إنك لن تصبح في شيء من الدنيا إلا وقد كان له أهل قبلك وسيكون له أهل بعدك، وليس لك من الدنيا إلا عشاء ليلة وغداء يوم، فلا تهلك في أكله، وصم عن الدنيا وأفطر على الآخرة، وإن رأس مال الدنيا الهوى وربحها النار. وقيل لبعض الرهبان: كيف ترى الدهر? قال: يخلق الأبدان ويجدد الآمال ويقرب المنية يبعد الأمنية: قيل: فما حال أهله? قال: من ظفر به تعب ومن فاته نصب. وفي ذلك قيل: ومن يحمد الدنيا لعـيش يسـره فسوف لعمري عن قليل يلومها

إذا أدبرت كانت المرة حسـرة وإن أقبلت كانت كثيراً همومها

وقال بعض الحكماء: كانت الدنيا ولم أكن فيها، وتذهب الدنيا ولا أكون فيها، فلا أسكن إليها فإن عيشها نكد وصفوها كدر وأهلها منها على وجل، إما بنعمة زائلة أو بلية أو منية قاضية. وقال بعضهم من عيب الدنيا أنها لا تعطي أحد ما يستحق، لكنها إما أن تزيد وإما أن تنقص. وقال سفيان: أما ترى النعم كأنها مغضوب عليها قد وضعت في غير أهلها. وقال أبو سليمان الداراني: من طلب الدنيا على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. ومن طلب الآخرة على المحبة لها لم يعط منها شيئاً إلا أراد أكثر. وليس لهذا غاية. وقال رجل لأبي حازم: أشكو إليك حبالدنيا وليست لي بدار، فقال: انظر ما آتاكه الله عز وجل منها فلا تأخذه إلا من حلة ولا تضعه إلى في حقه. ولا يضرك حب الدنيا. وإنما قال هذا لأنه لو آخذ نفسه بذلك لأنعبه حتى يتبرم بالدنيا ويطلب الخروج منها. وقال يحيى بن معاذ: الدنيا حانوت الشيطان، فلا تسرق من حانوته شيئاً فيجيء في طلبه فيأخذك. وقال الفضيل: لو كانت الدنيا من ذهب يفنى والآخرة من خزف يبقى؛ لكان ينبغي لنا أن نختار خزفاً يبقى على ذهب يفنى. فكيف وقد اخترنا خزفاً يفني على ذهب يبقى? وقال أبو حازم: إياكم والدنيا فإنه بلغني أنه يوقف العبد يوم القيامة إذا كان معظماً الدنيا فيقال: هذا عظم ما حقره الله. وقال ابن مسعود: ما أصبح أحد من الناس إلا وهو ضيف وماله عارية فالضيف مرتحل والعارية مردودة. وفي ذلك قيل: ومال المال والأهلون إلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الـودائع

وزار رابعة أصحابها، فذكروا الدنيا فأقبلوا على ذمها، فقالت: اسكتوا عن ذكرها فلولا موقعها من قلوبكم ما أكثرتم من ذكرها. ألا من أحب شيئاً أكثر من ذكره. وقيل لإبراهيم بن أدهم: كيف أنت? فقال: نرقع دنيانا بتمزيق دينـنـا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع

فطوبى لعبد آثر الله ربـه وجاد بدنياه لما يتـوقـع

وقيل أيضاً في ذلك: أرى طالب الدنيا وإن طال عمره ونال من الدنيا سروراً وأنعمـا

كبان بنى بنـيانـه فـأقـامـه فلما استوى ما قد بناه تهـدمـا

وقيل أيضاً في ذلك: هب الدنيا تساق إليك عفـواً أليس مصير ذاك إلى انتقال

وما دنياك إلا مثـل فـيء أظلك ثـم آذن بـالـزوال

وقال لقمان لابنه: يا بني بع دنياك بآخرتك تربحهما جميعاً، ولا تبع آخرتك بدنياك تخسرهما جميعاً. وقال مطرف ابن الشخير: لا تنظر إلى خفض عيش الملوك ولين رياشهم، ولكن انظر إلى سرعة ظعنهم وسوء منقلبهم. وقال ابن عباس: إن الله تعالى جعل الدنيا ثلاثة أجزاء: جزء للمؤمن، وجزء للمنافق، وجزء للكافر. فالمؤمن يتزود، والمنافق يتزين، والكافر يتمتع. وقال بعضهم: الدنيا جيفة، فمن أراد منها شيئاً فليصبر على معاشرة الكلاب.

وفي ذلك قيل: يا خاطب الدنيا إلى نفسها تنح عن خطبتها تسلـم

إن التي تخطب غـدارة قريبة العرس من المأتم

وقال أبو الدرداء: من هوان الدنيا على الله أنه لا يعصى إلا فيها ولا ينال ما عنده إلا بتركها. وفي ذلك قيل: إذا امتحن الدنيا لبيب تكشفت له عن عدو في ثياب صديق

وقيل أيضاً: يا راقد الليل مـسـروراً بـأولـه إن الحوادث قد يطرقن أسـحـارا

أفنى القرون التي كانت مـنـعـمة كر الـجـديدين إقـبـالاً وإدبـارا

كم قد أبادت صروف الدهر من مل ك قد كان في الدهر نفاعاً وضرارا

يا من يعانق دنـيا لا بـقـاء لـهـا يمسي ويصبح في دنـياه سـفـارا

هلا تركت من الدنـيا مـعـانـقة حتى تعانق في الفردوس أبـكـارا

إن كنت بغى جنان الخلد تسكنـهـا فينبغي لك أن لا تـأمـن الـنـارا

وقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه: لما بعث محمد ﷺ أتت إبليس جنوده فقالوا: قد بعث نبي وأخرجت أمة، قال: يحبون الدنيا? قالوا نعم، قال: لئن كانوا يحبون الدنيا ما أبالي أن لا يعبدوا الأوثان، وإنما أغدو عليهم وأروح بثلاث: أخذ المال من غير حقه، وإنفاقه في غير حقه، وإمساكه عن حقه، والشر كله من هذا نبع. وقال رجل لعلي كرم الله وجهه: يا أمير المؤمن صف لنا الدنيا، قال: وما أصف لك من دار من صح فيها سقم، ومن أمن فيها ندم، ومن افتقر فيها حزن، ومن استغنى فيها افتتن، في حلالها الحساب، وفي حرامها العقاب، ومتشابهها العتاب. وقيل له ذلك مرة أخرى فقال: أطول أم أقصر? فقيل: قصر فقال: حلالها حساب، وحرامها عذاب. وقال مالك بن دينار: اتقوا السحارة فإنها تسحر قلوب العلماء يعني الدنيا. وقال أبو سليمان الداراني: إذا كانت الآخرة في القلب جاءت الدنيا تزاحمها، فإذا كانت الدنيا في القلب لم تزاحمها الآخرة، لأن الآخرة كريمة والدنيا لئيمة. وهذا تشديد عظيم ونرجو أن يكون ما ذكره سيار بن الحكم أصح، إذ قال: الدنيا والآخرة يجتمعان في القلب فأيهما غلب كان الآخر تبعاً له. وقال مالك بن دينار: بقدر ما تحزن للدنيا يخرج هم الآخر من قلبك، وبقدر ما تحزن للآخرة يخرج هم الدنيا من قلبك. وهذا اقتباس مما قاله علي كرم الله وجهه حيث قال: الدنيا والآخرة ضرتان، فبقدر ما ترضى إحداهما تسخط الأخرى. وقال الحسن: والله لقد أدركت أقواماً كانت الدنيا أهون عليهم من التراب الذي تمشون عليه، ما يبالون أشرقت الدنيا أم غربت، ذهبت إلى ذا أو ذهبت إلى ذا? وقال رجل للحسن: ما تقول في رجل آتاه الله مالاً فهو يتصدق منه ويصل منه، أيحسن له أن يتعيش فيه? -يعني يتنعم- فقال: لا، لو كانت له الدنيا كلها ما كان له منها إلا الكفاف ويقدم ذلك ليوم فقره. وقال الفضيل: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت على حلالاً لا أحاسب عليها في الآخرة لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه وقيل: لما قدم عمر رضي الله عنه الشام فاستقبله أبو عبيدة بن الجراح على الناقة مخطومة بحبل، فسلم وسأله، ثم أتى منزله فلم ير فيه إلا سيفه وترسه ورحله فقال له عمر رضي الله عنه: لو اتخذت متاعاً? فقال: يا أمير المؤمن إن هذا يبلغنا المقيل. وقال سفيان: خذ من الدنيا لبدنك وخذ من الآخرة لقلبك. وقال الحسن: والله لقد عبدت بنو إسرائيل الأصنام بعد عبادتهم الرحمن بحبهم الدنيا. وقال وهب: قرأت في بعض الكتب، الدنيا غنيمة الأكياس وغفلة الجهل لم يعرفوها حتى خرجوا منها، فسألوا الرجعة فلم يرجعوا. وقال لقمان لابنه: يا بني إنك استدبرت الدنيا من يوم نزلتها واستقبلت الآخرة، فأنت إلى دار تقرب منها أقرب من دار تباعد عنها. وقال سعيد بن مسعود: إذا رأيت العبد تزداد دنياه وتنقص آخرته وهو به راض فذلك المغبون الذي يلعب بوجهه وهو لا يشعر. وقال عمرو بن العاص على المنبر: والله ما رأيت قوماً قط أرغب فيما كان رسول الله ﷺ يزهد فيه منكم، والله ما مر برسول الله ﷺ ثلاث إلا والذي عليه أكثر من الذي له وقال الحسن بعد أن تلا قولى تعالى "فلا تغرنكم الحياة الدنيا" من قال ذا? قاله من خلقها ومن هو أعلم بها، إياكم وما شغل من الدنيا فإن الدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه باب شغل إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب. وقال أيضاً: مسكين ابن آدم يستقل ماله ولا يستقل عمله، يفرح بمصيبته في دينه ويجزع من مصيبته في دنياه. وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: سلام عليك، أما بعد: فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات. فأجابه عمر: سلام عليك، كأنك بالدنيا ولم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل. وقال الفضيل بن عياض الدخول في الدنيا هين ولكن الخروج منها شديد. وقال بعضهم: عجباً لمن يعرف أن الموت حق كيف يفرح? وعجباً لمن يعرف أن النار حق كيف يضحك? وعجباً رأى تقلب الدنيا بأهلها كيف يطمئن لها? وعجباً لمن يعلم أن القدر حق كيف ينصب!? وقدم على معاوية رضي الله عن رجل من نجران عمره مائتا سنة فسأله عن الدنيا كيف وجدها? فقال: سنيات بلاء وسنيات رخاء، يوم فيوم وليلة فليلة يولد ولد ويهلك هالك، فلولا المولود لباد الخلق ولولا الهالك ضاقت الدنيا بمن فيها. فقال له: سل ما

شئت، قال: عمر مضى فترده أو أجل حضر فتدفعه، قال: لا أملك ذلك، قال: لا حاجة لي إليك. وقال داود الطائي رحمه الله: يا ابن آدم فرحت ببلوغ أملك، وإنما بلغته بانقضاء أجلك، ثم سوفت بعملك كان منفعته لغيرك. وقال بشر: من سأل الله الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف بين يديه. وقال أبو حازم: ما في الدنيا شيء يسرك إلا وقد ألصق الله إليه شيئاً يسوءك. وقال الحسن: لا تخرج نفس ابن آدم من الدنيا إلا بحسرات ثلاث: أنه لم يشبع مما جمع، ولم يدرك ما أمل، ولم يحسن الزاد لما يقدم عليه. وقيل لبعض العباد؛ قد نلت الغنى، فقال: إنما نال الغنى من عتق من رق الدنيا. وقال أبو سليمان: لا يصبر عن شهوات الدنيا إلا من كان في قلبه ما يشغله بالآخرة. وقال مالك بن دينار: اصطلحنا على حب الدنيا فلا يأمر بعضنا بعضاً ولا ينهى بعضنا بعضاً، ولا يدعنا الله على هذا، فليت شعري أي عذاب الله ينزل علينا? وقال أبو حازم: يسير الدنيا يشغل عن كثير الآخرة، وقال الحسن: أهينوا الدنيا فو الله ما هي لأحد بأهنأ منها لمن أهانها. وقال أيضاً: إذا أراد الله بعبد خيراً أعطاه من الدنيا عطية ثم يمسك، فإذا نفد أعاد عليه، وإذا هان عليه عبد بسط له الدنيا بسطاً. وكان بعضهم يقول في دعائه: يا ممسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنك أمسك الدنيا عني. وقال محمد بن المنكدر: أرأيت لو أن رجلاً صام الدهر لا يفطر، وقام الليل لا ينام، وتصدق بماله، وجاهد في سبيل الله، واجتنب محارم الله، غير أنه يؤتى به يوم القيامة فيقال: إن هذا عظم في عينه ما صغره الله، وصغر في عينه ما عظمه الله كيف ترى يكون حاله? فمن منا ليس هكذا الدنيا عظيمة عنده مع ما اقترفنا من الذنوب والخطايا? وقال أبو حازم: اشتدت مؤنة الدنيا والآخرة، فأما مؤنة الآخرة فإنك لا تجد عليها أعواناً، وأما مؤنة الدنيا فإنك لا تضرب بيدك إلى شيء منها إلا وجدت فاجراً قد سبقك إليه. وقال أبو هريرة: الدنيا موقوفة بين السماء والأرض كالشن البالي تنادي ربها منذ خلقها إلى يوم يفنيها. يا رب يا رب لم تبغضني? فيقول لها: اسكتي يا لا شيء. وقال عبد الله بن المبارك: حب الدنيا والذنوب في القلب قد احتوشته، فمتى يصل الخير إليه? وقال وهب بن منبه: من فرح قلبه بشيء من الدنيا فقط أخطأ الحكمة، ومن جعل شهوته تحت قدميه فرق الشيطان من ظله، ومن غلب عليه هواه فهو الغالب. وقيل لبشر: مات فلان فقال: جمع الدنيا وذهب إلى الآخرة، ضيع نفسه قيل له: إنه كان يفعل ويفعل -وذكروا أبواباً من البر- فقال: وما ينفع هذا وهو يجمع الدنيا? وقال بعضهم: الدنيا تبغض إلينا نفسها ونحن نحبها فكيف لو تحببت إلينا? وقيل لحكيم: الدنيا لمن هي قال: لمن تركها? فقيل الآخرة لمن هي? قال: لمن طلبها وقال حكيم: الدنيا دار خراب وأخرب منها قلب من يعمرها، والجنة دار عمران وأعمر منها قلب من يطلبها. وقال الجنيد: كان الشافعي رحمه الله من المريدين الناطقين بلسان الحق في الدنيا، وعظ أخاً لهفي الله وخوفه بالله فقال: يا أخي إن الدنيا دحض مزلة ودار مذلة، عمرانها إلى الخراب صائر، وساكنها إلى القبور زائر، شملها على الفرقة موقوف، وغناها إلى الفقر مصروف، الإكثار فيها إعسار، والإعسار فيها يسار، فافزع إلى الله وارض برزق الله لا تتسلف من دار بقائك إلى دار فنائك، فإن عيشتك فيء زائل وجدار مائل، أكثر من عملك وأقصر من أملك وقال إبراهيم بن أدهم لرجل: أدرهم في المنام أحب إليك أم دينار في اليقظة. فقال دينار في اليقظة فقال: كذبت، لأن الذي تحبه في الدنيا كأنك تحبه في المنام، والذي لا تحبه في الآخرة كأنك لا تحبه في اليقظة. وعن إسماعيل بن عياش قال: كان أصحابنا يسمون الدنيا خنزيرة فيقولون إليك عنا يا خنزيرة، فلو وجدوا لها أسماء أقبح من هذا لسموها به. وقال كعب: لتحببن إليكم الدنيا حتى تعبدوها وأهلها. وقال يحيى بن معاذ الرازي رحمه الله: العقلاء ثلاثة، من ترك الدنيا قبل أن تتركه، وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى خالقه قبل أن يلقاه. وقال أيضاً: الدنيا بلغ شؤمها أن تمنيك لما يلهيك عن طاعة الله، فكيف الوقوع فيها. وقال بكر بن عبد الله: من أراد أن يستغني عن الدنيا بالدنيا كان كمطفئ النار بالتبن. وقال بندار: إذا رأيت أبناء الدنيا يتكلمون في الزهد فاعلم أنهم في سخرة الشيطان. وقال أيضاً: من

أقبل على الدنيا أحرقته نيرانها -يعني الحرص- حتى يصير رماداً؛ ومن أقبل على الآخرة صفته بنيرانها فصار سبيكة ذهب ينتفع به، ومن أقبل على الله عز وجل أحرقته نيران التوحيد فصار جوهراً لا حد لقيمته. وقال علي كرم الله وجهه: إنما الدنيا ستة أشياء، مطعوم ومشروب وملبوس ومركوب ومنكوح ومشموم، فأشرف المطعومات العسل وهو مذقة ذباب، وأشرف المشروبات الماء ويستوي فيه البر والفاجر، وأشرف الملبوسات الحرير وهو نسج دودة، وأشرف المركوبات الفرس وعليه يقتل الرجال، وأشرف المنكوحات المرأة وهي مبال في مبال، وإن المرأة لتزين أحسن شيء منها ويراد أقبح شيء منها وأشرف المشمومات المسك وهو دم.

\//بيان المواعظ في ذم الدنيا وصفتها

قال بعضهم: يا أيها الناس اعملوا على مهل، وكونوا من الله على وجل، ولا تغتروا بالأمل ونسيان الأجل، ولا تركنوا إلى الدنيا فإنها غدارة خداعة، قد تزخرف لكم بغرورها وفتنتكم بأمانيها، وتزينت لخطابها فأصبحت كالعروس المجلية، العيون إليها ناظرة والقلوب عليها عاكفة والنفوس لها عاشقة، فكم من عاشق لها قتلت، ومطمئن إليها خذلت، فانظروا إليها بعين الحقيقة فإنها دار كثير بوائقها وذمها خالقها، جديدها يبلى، وملكها يفنى، وعزيزها يذلن وكثيرها يقل، ودها يموت، وخيرها يفوت، فاستيقظوا رحمكم الله من غفلتكم، وانتبهوا من رقدتكم قبل أن يقال فلان عليل أو مدنف ثقيل، فهل على الدواء من دليل، وهل إلى الطبيب من سبيل? فتدعي لك الأطباء ولا يرجى لك الشفاء ثم يقال فلان أوصى ولماله أحصى، ثم يقال قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه ولا يعرف جيرانه، وعرق عند ذلك جبينك، وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك، وقيل لك هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان ومنعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطلق، ثم حل بك القضاء وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عواك واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهناً بأعمالك. وقال بعضهم لبعض الملوك: إن أحق الناس بذم الدنيا وقلاها من بسط له فيها وأعطى حاجته منها، لأنه يتوقع آفة تعدو على ماله فتجتاحه أو على جمعه فتفرقه، أو تأتي سلطانه فتهدمه من القواعد، أو تدب إلى جسمه فتسقمه، أو تفجعه بشيء هو ضنين به بين أحبابه، فالدنيا أحق بالذم، هي الآخذة ما تعطي، الراجعة فيها تهب، بينا هي تضحك صاحبها إذ أضحكت منه غيره، وبينا تبكي له إذ أبكت عليه، وبنيا هي تبسط كفها بالإعطاء إذ بسطتها بالاسترداد، فتعقد التاج على رأس صاحبها اليوم وتعفره بالتراب غداً، سواء عليها ذهاب ما ذهب وبقاء ما بقي، تجد في الباقي من الذاهب خلفاً، وترضى بكل من كل بدلاً. وكتب الحسن البصري إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فإن الدنيا دار ظعن ليست بدار إقامة، وإنما أنزل آدم عليه السلام من الجنة إلى عقوبة، فاحذرها يا أمير المؤمنين فإن الزاد منها تركها. والغني منها فقرها. لها في كل حين قتيل. تذل من أعزها. وتفقر من جمعها. هي كالسم يأكله من لا يعرفه وفيه حتفه. فكن فيها كالمداوي جراحه يحتمي قليلاً مخافة ما يكره طويلاً. ويصبر على شدة الدواء مخافة طول الداء. فاحذر هذه الدار الغدارة الختالة الخداعة التي قد تزينت بخدعها وفتنت بغرورها وحلت بآماها وسوفت بخطابها. فأصبحت كالعروس المجلية. العيون إليها ناظرة والقلوب عليها والهة والنفوس لها عاشقة وهي لأزواجها كلهم قالية. فلا الباقي بالماضي معتبر ولا الآخر بالأول مزدجر. ولا العارف بالله عز وجل حين أخبره عنها مدكر. فعاشق لها قد ظفر منها بحاجته فاغتر وطغى ونسي الميعاد، فشغل فيها لبه حتى زلت به قدمه، فعظمت ندامته وكثرت حسرته، واجتمعت عليه سكرات الموت وتألمه وحسرات الفوت بغضته. وراغب فيها لم يدرك منها ما طلب ولم يروح نفسه من التعب، فخرج بغير زاد وقدم على غير مهاد، فاحذرها يا أمير المؤمنين وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها؛ فإن صاحب الدنيا كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصته إلى مكروه، السار في أهلها غار، والنافع فيها غدار ضار، وقد وصل الرخاء منها بالبلاء وجعل البقاء فيها إلى فناء، فسرورها مشوب بالأحزان لا يرجع منها ما ولى وأدبر، ولا يدري ما هو آت فينتظر. أمانيها كاذبة وآمالها باطلة وصفوها كدر، وعيشها نكد، وابن آدم فيها على خطر، إن عقل ونظر فهو من النعماء على خطر ومن البلاء على الحذر، فلو كان الخالق لم يخبر عنها خبراً ولم يضرب لها مثلاً لكانت الدنيا قد أيقظت النائم ونبهت الغافل، فكيف وقد جاء من الله عز وجل عنها زاجر وفيها واعظ? فما لها عند الله جل ثناؤه قدر وما نظر إليها منذ خلقها، ولقد عرضت على نبيك ﷺ بمفاتيحها وخزائنها لا ينقصه ذلك عند الله جناح بعوضة فأبى أن يقبلها اذكره أن يخالف على الله أمره أو يحب ما أبغضه خالقه أو يرفع ما وضع مليكه، فزواها عن الصالحين اختباراً وبسطها لأعدائه اغترارا، فيظن المغرور بها المقتدر عليها أنه أكرم بها؛ ونسي ما

صنع الله عز وجل بمحمد ﷺ حين شد الحجر على بطنه ولقد جاءت الرواية عنه عن ربه عز وجل أنه قال لموسى عليه السلام؛ إذا رأيت الغنى مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته، وإذا رأيت الفقر فقل مرحباً بشعار الصالحين، وإن شئت اقتديت بصاحب الروح والكلمة عيسى بن مريم عليه السلام فإنه كان يقول: إدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف، وصلائي في الشتاء في مشارق الشمس، وسراج القمر، ودابتي رجلاي، وطعامي وفاكهتي ما أنبتت الأرض، أبيت وليس لي شيء، وأصبح وليس لي شيء، وليس على الأرض أحد أغنى مني. وقال وهب بن منبه: لما بعث الله عز وجل موسى وهرون عليهما السلام إلى فرعون قال: لا يروعنكما لباسه الذي لبس من الدنيا، فإن ناصيته بيدي ليس ينطق ولا يطرف ولا يتنفس إلا بإذني، ولا يعجبنكما ما تمتع به منها فإنما هي زهرة الحياة الدنيا وزينة المترفين، فلو شئت أن أزينكما بزينة من الدنيا يعرف فرعون حين يراها أن قدرته تعجز عما أوتيتما لفعلت، ولكني أرغب بكم عن ذلك فأزوي ذلك عنكما، وكذلك أفعل بأوليائي إني لأوذهم عن نعيمها كما يذود الراعي الشفيق غنمه عن مراتع الهلكة، وإن لأجنبهم ملاذها كما يجنب الراعي الشفيق إبله عن منازل الغرة، وما ذاك لهوانهم علي ولكن ليستكملوا نصيبهم من كرامتي سالماً موفراً، إنما يتزين لي أوليائي بالذل والخوف والخضوع والتقوى تنبت في قلوبهم وتظهر على أجسادهم، فهي ثيابهم التي يلبسون ودثارهم الذي يظهرون، وضميرهم الذي يستشعرون، ونجاتهم التي بها يفوزون، ورجاؤهم الذي إياه يأملون، ومجدهم الذي به يفخرون، وسيماهم التي بها يعرفون، فإذا لقيتم فاخفض لهم جناحك، وذلل لهم قلبك ولسانك، واعلم أنه من أخاف لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، ثم أنا الثائر له يوم القيامة.

وخطب علي كرم الله وجهه يوماً خطبة فقال فيها: اعلموا أنكم ميتون ومبعوثون من بعد الموت وموقوفون على أعمالكم ومجزيون بها، فلا تغرنكم الحياة الدنيا فإنها بالبلاء محفوفة وبالفناء معروفة وبالغدر موصوفة، وكل ما فيها إلى زوال وهي بين أهلها دول وسجال، لا تدوم أحوالها ولا يسلم من شرها نزالها، بينا أهلها منها في رخاء وسرور إذا هم منها في بلاء وغرور. أحوال مختلفة وتارات منصرفة، العيش فها مذموم والرخاء فيها لا يدوم وإنما أهلها فيها أغراض مستهدفة. ترميهم بسهامها وتقصيهم بحمامها. وكل حتفه فيها مقدور وحظه فيها موفور. واعلموا عباد الله أنكم وما أنتم فيه من هذه الدنيا على سبيل من قد مضى ممن كان أطول منكم أعماراً وأشد منكم بطشاً وأعمر دياراً وأبعد آثاراً. فأصبحت أصواتهم هامدة خامدة من بعد طول تقلبها وأجسادهم بالية وديارهم على عروشها خاوية وآثارهم عافية. واستبدلوا بالقصور المشيدة والسرر والنمارق الممهدة. الصخور والأحجار المسندة في القبور اللاطئة الملحدة. فمحلها مقترب وساكنها مغترب بين أهل عمارة موحشين وأهل محلة متشاغلين. لا يستأنسون بالعمران ولا يتواصلون تواصل الجيران والإخوان على ما بينهم من قرب المكان والجوار ودنو الدار. وكيف يكون بينهم تواصل وقد طحنهم بكلكله البلا وأكلتهم الجنادل والثرى? وأصبحوا بعد الحياة أمواتاً وبعد نضارة العيش رفاتاً فجع بهم الأحباب وسكنوا تحت التراب ظعنوا فليس لهم إياب. هيهات هيهات "كلا إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون" فكأن قد صرتم إلى ما صاروا إليه من البلاء والوحدة في دار المثوى وارتهنتم في ذلك المضجع وضمكم ذلك المستودع. فكيف بكم لو عاينتم الأمور وبعثرت القبور وحصل ما في الصدور وأوقفتم للتحصيل بين يدي الملك الجليل فطارت القلوب لإشفاقها من سالف الذنوب وهتكت عنكم الحجب والأستار وظهرت منكم العيوب والأسرار? هنالك تجزى كل نفس بما كسبت إن الله عز وجل يقول "ليجزى الذي أساءوا بما عملوا ويجزى الذي أحسنوا بالحسنى" وقال تعالى "ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه" الآية جعلنا الله وإياكم عاملين بكتابة متبعين لأوليائه حتى يحلنا وإياكم دار المقامة من فضله إنه حميد مجيد.

وقال بعض الحكماء: الأيام سهام والناس أغراض، والدهر يرميك كل يوم بسهامه ويخترمك بلياليه وأيامه حتى يستغرق جميع أجزائك، فكيف بقاء سلامتك مع وقوع الأيام بك وسرعة الليالي في بدنك? لو كشف لك عما أحدثت الأيام فيك من النقص لاستوحشت من كل يوم يأتي عليك واستثقلت ممر الساعة بك ولكن تدبير الله فوق تدبير الاعتبار، وبالسلو عن غوائل الدنيا وجد طعم لذاتها، وإنها لأمر من العلقم إذا عجنها الحكيم، وقد أعيت الواصف لعيوبها بظاهر أفعالها، وما تأتي به من العجائب أكثر مما يحيط به الواعظ، اللهم أرشدنا إلى الصواب وقال بعض الحكماء وقد استوصف الدنيا وقدر بقائها فقال. الدنيا وقتك الذي يرجع إليك فيه طرفك، لأن ما مضى عنك فقد فاتك إدراكه، وما لم يأت فلا علم لك به، والدهر يوم مقبل تنعاه ليلته وتطويه ساعاته، وأحداثه تتوالى على الإنسان بالتغيير والنقصان، والدهر موكل بتشتيت الجماعات وانخرام الشمل وتنقل الدول، والأمل طويل والعمر قصير وإلى الله تصير الأمور.

وخطب عمر بن عبد العزيز رحمة الله عليه فقال: يا أيها الناس إنكم خلقتم لأمر إن كنتم تصدقون به فإنكم حمقى، وإن كنتم تكذبون به فإنكم هلكى، إنما خلقتم للأبد ولكنكم من دار إلى دار تنقلون، عباد الله إنكم في دار لكم فيها من طعامكم غصص، ومن شرابكم شرق، لا تصفو لكم نعمة تسرون بها إلا بفراق أخرى تكرهون فراقها، فاعملوا لما أنتم صائرون إليه وخالدون فيه. ثم غلبه البكاء ونزل.

قال علي كرم الله وجهه في خطبته: أوصيكم بتقوى الله والترك للدنيا التاركة لكم وإن كنتم لا تحبون تركها، المبلية أجسامكم وأنتم تريدون تجديدها، فإنما مثلكم ومثلها كمثل قوم في سفر سلكوا طريقاً وكأنهم قطعوه، وأفضوا إلى علم فكأنهم بلغوه، وكم عسى أن يجري المجرى حتى ينتهي إلى الغاية? وكم عسى أن يبقى من له يوم في الدنيا وطالب حثيث يطلبه حتى يفارقها? فلا تجزعوا لبؤسها وضرائها فإنه إلى انقطاع، ولا تفرحوا بمتاعها ونعمائها فإنه إلى زوال، عجبت لطالب الدنيا والموت يطلبه، وغافل وليس بمغفول عنه.

وقال محمد بن الحسين: لما علم أهل الفضل والعلم والمعرفة والأدب أن الله عز وجل قد أهان الدنيا، وأنه لم يرضها لأوليائه، وأنها عنده حقيرة قليلة، وأن رسول الله ﷺ زهد فيها وحذر أصحابه من فتنتها، أكلوا منها قصداً وقدموا فضلاً، وأخذوا منها ما يكفي وتركوا ما يلهي، لبسوا من الثياب ما ستر العورة، وأكلوا من الطعام أدناه مما سد الجوعة، ونظروا إلى الدنيا بعين أنها فانية؛ وإلى الآخرة أنها باقية، فتزودوا من الدنيا كزاد الراكب فخربوا الدنيا وعمروا بها الآخرة، ونظروا إلى الآخرة بقلوبهم فعلموا أنهم سينظرون إليها بأعينهم فارتحلوا إليها بقلوبهم لما علموا أنهم سيرتحلون إليها بأبدانهم، تعبوا قليلاً وتنعموا طويلاً، كل ذلك بتوفيق مولاهم الكريم، أحب ما أحب لهم وكرهوا ما كره لهم.

بيان صفة الدنيا بالأمثلة

اعلم أن الدنيا سرعية الفناء قريبة الانقضاء، تعد بالبقاء ثم تخلف في الوفاء، تنظر إليها فتراها ساكنة مستقرة، وهي سائرة سيراً عنيفاً ومرتحلة ارتحالاً سريعاً، ولكن الناظر إليها قد لا يحس بحركتها فيطمئن إليها، وإنما يحس عند انقضائها، ومثالها الظل فإنه متحرك ساكن متحرك في الحقيقة ساكن الظاهر، لا تدرك حركته بالبصر الظاهر، بل البصيرة الباطنة، ولما ذكرت الدنيا عند الحسن البصري رحمه الله أنشد وقال: أحلام نوم أو كظل زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع

وكان الحسن بن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه يتمثل كثيراً ويقول: يا أهل لذات دنيا لا بقال لها إن اغتراراً بظل زائل حمق

وقيل إن هذا من قوله. ويقال: إن أعرابياً نزل بقوم فقدموا إليه طعاماً فأكل، ثم قام إلى ظل خيمة لهم فنام هناك فاقتلعوا الخيمة فأصابته الشمس فانتبه، فقام وهو يقول: ألا إنما الدنيا كظل ثـنـية ولا بد يوماً أن ظلك زائل

وكذلك قيل: وإن امرأ دنياه أكبر همـه لمستمسك منها بحبل غرور

مثال آخر للدنيا من حيث التغرير بخيالاتها ثم الإفلاس منها بعد إفلاتها. تشبه خيالات المنام وأضغاث الأحلام قال رسول الله ﷺ "الدنيا حلم وأهلها عليها مجازون ومعاقبون وقال يونس بن عبيد. ما شبهت نفسي في الدنيا إلا كرجل نام فرأى في منامه ما يكره وما يحب فبينما هو كذلك إذ انتبه، فكذلك الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا، فإذا ليس بأيديهم شيء مما ركنوا إليه وفرحوا به. وقيل لبعض الحكماء. أي شيء أشبه بالدنيا? قال أحلام النائم.

مثل آخر للدنيا في عداوتها لأهلها وإهلاكها لبنيا. اعلم أن طبع الدنيا التلطف في الاستدراج أولاً والتوصل إلى الإهلاك آخراً، وهي كامرأة تتزين للخطاب حتى إذا نكحتهم ذبحتهم. وقد روي أن عيسى عليه السلام كوشف بالدنيا فرآها في صورة عجوز هتماء عليها من كل زينةن فقال لها: كم تزوجت? قالت: لا أحصيهم، قال: فكلهم مات عنك أم كلهم طفلك? قالت: بل كلهم قتلت، فقال عيسى عليه السلام: بؤساً لأزواجك الباقين كيف لا يعتبرون بأزواجك الماضين! كيف تهلكينهم واحداً بعد واحد ولا يكونون منك على حذر!.

مثال آخر للدنيا في مخالفة ظاهرها لباطنها: اعلم أن الدنيا مزينة الظواهر قبيحة السرائر وهي شبه عجوز متزينة تخدع الناس بظاهرها، فإذا وقفوا على باطنها وكشفوا القناع عن وجهها تمثل لهم قبائحها فندموا على اتباعها وخجلوا من ضعف عقولهم في الاغترار بظاهرها. وقال العلاء بن زياد: رأيت في المنام عجوزاً كبيرة متعصبة الجلد عليها من كل زينة الدنيا والناس عكوف عليها معجبون ينظرون إليها، فجئت ونظرت وتعجبت من نظرهم إليها وإقبالهم عليها فقلت لها: ويلك من أنت? قالت: أو ما تعرفني? قلت: لا أدري! من أنت? قالت: أنا الدنيا، قلت: أعوذ بالله من شرك! قالت: إن أحببت أن تعاذ من شري فابغض الدرهم. قال أبو بكر بن عياش: رأيت الدنيا في النوم عجوزاً مشوهة شمطاء تصفق بيديها وخلفها خلق يتبعونها ويصفقون ويرقصون، فلما كانت بحذائي أقبلت علي فقالت: لو ظفرت بك لصنعت بك مثل ما صنعت بهؤلاء. ثم بكى أبو بكر وقال: رأيت هذا قبل أن أقدم إلى بغداد. وقال الفضيل بن عياض: قال ابن عباس يؤتى بالدنيا يوم القيامة في صورة عجوز شمطاء زرقاء، أنيابها بادية ومشوه خلقها، فتشرف على الخلائق فيقال لهم أتعرفون هذه? فيقولون: نعوذ بالله من معرفة هذه! فيقال: هذه الدنيا التي تناحرتم عليها، بها تقاطعتم الأرحام، وبها تحاسدتم وتباغضتم واغتررتم، ثم يقذف بها في جهنم فتنادي: أي رب أين أتباعي وأشياعي? فيقول الله عز وجل? ألحقوا بها أتباعها وأشياعها. وقال الفضيل: بلغني أن رجلاً عرج بروحه فإذا امرأة على قارعة الطريق عليها من كل زينة من الحلي والثياب، وإذا لا يمر بها أحد إلا جرحته، فإذا هي أدبرت كانت أحسن شيء رآه الناس، وإذا هي أقبلت كانت أقبح شيء رىه الناس، عجوز شمطاء زرقاء عمشاء، قال: فقلت: أعوذ بالله منك! قالت: لا والله. لا يعيذنك الله مني حتى تبغض الدرهم! قال: فقلت من أنت? قالت: أنا الدنيا.

مثال آخر للدنيا وعبور الإنسان بها: اعلم أن الأحوال ثلاثة: حالة للم تكن فيها شيئاً وهي ما قبل وجودك إلى الأزل، وحالة لا تكون فيها مشاهداً للدنيا وهي ما بعد موتك إلى الأبد، وحالة متوسطة بين الأبد والأزل وهي أيام حياتك في الدنيا؛ فانظر إلى مقدار طولها وانسبه إلى طرفي الأزل والأبد حتى تعلم أنه أقل من منزل قصير في سفر بعيد. ولذلك قال ﷺ "ما لي وللدنيا! وإنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب سار في يوم صائف فرفعت شجرة فقال تحت ظلها ساعة ثم راح وتركها ومن رأى الدنيا بهذه العين لم يركن إليها ولم يبال كيف انقضت أيامه في ضر وضيق أو في سعة ورفاهية، بل لا يبني لبنة على لبنة. توفي رسول الله ﷺ وما وضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة ورأى بعض الصحابة يبني بيتاً من جص فقال "أرى الأمر أعجل من هذا وأنكر ذلك وإلى هذا أشار عيسى عليه السلام حيث قال:الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها. وهو مثال واضح فإن الحياة الدنيا معبر إلى الآخرة، والمهد هو الميل الأول على رأس القنطرة، واللحد هو الميل الآخر، وبينهما مسافة محدودة، فمن الناس من قطع نصف القنطرة، ومنهم من قطع ثلثها، ومنهم من قطع ثلثيها، ومنهم من لم يبق له إلا خطوة واحدة وهو غافل عنها. وكيفما كان فلا بد له من العبور، والبناء على القنطرة وتزيينها بأصناف الزينة وأنت عابر عليها غاية الجهل والخذلان.

مثال آخر للدنيا في لين موردها وخشونة مصدرها: اعلم أن أوائل الدنيا تبدو عينة لينة يظن الخائض فهيا أن حلاوة خفضها كحلاوة الخوض فيها وهيهات! فإن الخوض في الدنيا سهل والخروج منها مع السلامة شديد، وقد كتب علي رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي بمثالها فقال: مثل الدنيا مثل الحية لين مسها ويقتل سمها، فأعرض عما يعجبك منها لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك همومها بما أيقنت من فراقها، وكن أسر ما تكون فيها أحذر ما تكون لها، فإن صاحبها كلما اطمأن منها إلى سرور أشخصه عنه مكروه والسلام.

مثال آخر للدنيا في تعذر الخلاص من تبعتها بعد الخوض فيها: قال رسول الله ﷺ "إنما مثل صاحب الدنيا كالماشي في الماء هل يستطيع الذي يمشي في الماء أن لا تبتل قدماه وهذا يعرفك جهالة قوم ظنوا أنهم يخوضون في نعيم الدنيا بأبدانهم وقلوبهم منها مطهرة، وعلائقها عن بواطنهم منقطعة، وذلك مكيدة من الشيطان بل لو أخرجوا مما هم فيه لكانوا من أعظم المتفجعين بفراقها، فكما أن المشي على الماء يقتضي بللاً لا محالة يلتصق بالقدم فكذلك ملابسة الدنيا تقتضي علاقة وظلمة في القلب، بل علاقة الدنيا مع القلب تمنع حلاوة العبادة. قال عيسى عليه السلام: بحق أقول لكم، كما ينظر المريض إلى الطعام فلا يلتذ به من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب الدنيا، وبحق أقول لكم، إن الدابة إذا لم تركب وتمتهن تصعب ويتغير خلقها كذلك القلوب إذا لم ترقق بذكر الموت ونصب العبادة تقسو وتغلظ، وبحق أقول لكم، إن الزق ما لم ينخرق أو يقحل يوشك أن يكون وعاء للعسل كذلك القلوب ما لم تخرقها الشهوات أو يدنسها الطمع أو يقسيها النعيم فسوف تكون أوعية للحكمة. وقال النبي ﷺ "إنما بقي من الدنيا بلاء وفتنة وإنما مثل عمل أحدكم كمثل الوعاء إذا طاب أعلاه طاب أسفله وإذا خبث أعلاه خبث أسفله .

مثال آخر لما بقي من الدنيا وقتلته بالإضافة لما سبق: قال رسول الله ﷺ "مثل هذه الدنيا مثل ثوب شق من أوله إلى آخره فبقي متعلقاً بخيط في آخره فيوشك ذلك الخيط أن ينقطع .

مثال آخر لتأدية علائق الدنيا بعضها إلى بعض حتى الهلاك: قال عيسى عليه السالم: مثل طالب الدنيا مثل شارب ماء البحر كلما شرب ازداد عطشاً حتى يقتله.

مثال آخر لمخالفة آخر الدنيا أولها ولنضارة أوائلها وخبث عواقبها، اعلم أن شهوات الدنيا في القلب لذيذة كشهوات الأطعمة في المعدة، وسيجد العبد عند الموت لشهوات الدنيا في قلبه من الكراهة والنتن والقبح ما يده للأطعمة اللذيذة إذا بلغت في المعدة غايتها، وكما أن الطعام كلما كان ألذ طعماً وأكثر دسماً وأظهر حلاوة كان رجيعه أقذر وأشد نتناً، فكذلك كل شهوة في القلب هي أشهى وألذ وأقوى، فنتنها وكراهتها والتأذي بها عند الموت أشد بل هي في الدنيا مشاهدة، فإن من نبهث داره وأخذ ماله وولده، فتكون مصيبته وألمه وتفجعه في كل ما فقد بقدر لذته به وحبه له وحرصه عليه، فكل ما كان عند الوجود أشهى عنده وألذ فهو عند الفقد أدهى وأمر، ولا معنى للموت إلا فقد ما في الدنيا. وقد روي أن النبي ﷺ قال للضحاك بن سفيان الكلابي "الست تؤتى بطعامك وقد ملح وقزح ثم تشرب عليه اللبن والماء? قال: بلى؛ قال "فإلام يصير" قال: إلى ما قد علمت يا رسول الله، قال: "فإن الله عز وجل ضرب مثل الدنيا بما يصير إليه طعام ابن آدم وقال أبي بن كعب: قال رسول الله ﷺ "إن الدنيا ضربت مثلاً لابن آدم فانظر إلى ما يخرج من ابن آدم وإن قزحه وملحه إلام يصير وقال ﷺ "إن الله ضرب الدنيا لمطعم ابن آدم وضرب مطعم بن آدم للدنيا مثلاً وإن قزحه وملحه وقال الحسن: قد رأيتهم يطيبونه بالأفاويه والطيب ثم يرمون به حيث رأيتم وقد قال الله عز وجل "فلينظر الإنسان إلى طعامه" قال ابن عباس إلى رجيعه وقال رجل لابن عمر إني أريد أن أسألك وأستحي قال فلا تستحي واسأل قال إذا قضى أحدنا حاجته فقام ينظر إلى ذلك منه قال نعم إن الملك يقول له انظر إلى ما بخلت به انظر إلى ماذا صار. وكان بشر بن كعب يقول انطلقوا حتى أريكم الدنيا فيذهب بهم إلى مزبلة فيقول انظروا إلى ثمارهم ودجاجهم وعسلهم وسمنهم.

مثال آخر في نسبة الدنيا إلى الآخرة: قال رسول الله ﷺ "ما الدنيا في الآخرة إلا كمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر أحدكم بم يرجع إليه .

مثال آخر للدنيا وأهلها في اشتغالهم بنعيم الدنيا وغفلتهم عن الآخرة وخسرانهم العظيم بسببها: علم أن أهل الدنيا مثلهم في غفلتهم مثل قوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة فأمرهم الملاح بالخروج إلى قضاء الحاجة وحذرهم المقام وخوفهم مرور السفينة واستعجالها، فتفرقوا في نواحي الجزيرة فقضى بعضهم حاجته وبادر إلى السفينة فصادف المكان خالياً فأخذ أوسع الأماكن وألينها وأفقها لمراده، وبعضهم توقف في الجزيرة ينظر إلى أنوارها وأزهارها العجيبة وغياضها الملتفة ونغمات طيورها الطيبة وألحانها الموزونة الغريبة وصار يلحظ من بريتها أحجارها وجواهرها ومعادنها المختلفة الألوان والأشكال الحسنة المنظر العجيبة النقوش السالبة أعين الناظرين بحسن زبرجدها وعجائب صورها، ثم تنبه لخطر فوات السفينة فرجع إلهيا فلم يصادف إلا مكاناً ضيقاً حرجاً فاستقر فيه: وبعضهم أكب على تلك الأصداف والأحجار وأعجبه حسنها ولم تسمح نفسه بإهمالها فاستصحب منها جملة، فلم يجد في السفينة إلا مكاناً ضيقاً وزاده ما حمله من الحجارة ضيقاً وصار ثقيلاً عليه ووبالاً، فندم على أخذه ولم يقدر على رميه ولم يجد مكاناً لوضعه، فحمله في السفينة على عنقه وهو متأسف على أخذه وليس ينفعه التأسف. وبعضه تولج الغياض ونسي المركب وبعد في متفرجه ومتنزهه منه حتى لم يبلغه نداء الملاح لاشتغاله بأكل تلك الثمار واستشمام تلك الأنوار والتفرج بين تلك الأشجار، وهو مع ذلك خائف على نفسه من السباع وغير خال من السقطات والنكبات، ولا منفعك عن شوك ينشب بثيابه وغضن يجرح بدنه وشوكة تدخل في رجله وصوت هائل يفزع منه وعوسج يخرق ثيابه ويهتك عورته ويمنعه عن الانصراف لو أراده، فلما بلغه نداء أهل السفينة انصرف مثقلاً بما معه ولم يجد في المركب موضعاً فبقي في الشط حتى مات جوعاً. وبعضهم لم يبلغه النداء وسارت السفينة فمنهم من افترسته السباع، ومنهم من تاه فهام على وجهه حتى هلك، ومنهم من مات في الأوحال، ومنهم من نهشته الحيات، فتفرقوا كالجيف المنتنة.

وأما من وصل إلى المركب بثقل ما أخذه من الأزهار والأحجار، فقد استرقته وشغله الحزن بحفظها والخوف من فوتها وقد ضيقت عليه مكانه، فلم يلبث أن ذبلت تلك الأزهار وكمدت تلك الألوان والأحجار فظهر نتن رائحتها فصارت مع كونها مضيقة عليه مؤذية له بنتنها ووحشتها. فلم يجد حيلة إلا أن ألقاها في البحر هرباً منها، وقد أثر فيه ما أكل منها فلم ينته إلى الوطن إلا بعد أن ظهرت عليه الأسقام بتلك الروائح فبلغ سقيماً مدبراً. ومن رجع قريباً ما فاته إلا سعة المحل فتأدى بضيق المكان مدة، ولكن لما وصل إلى الوطن استراح، ومن رجع أولاً وجد المكان الأوسع ووصل إلى الوطن سالماً. فهذا مثال أهل الدنيا في اشتغالهم بحظوظهم العاجلة ونسيانهم موردهم ومصدرهم وغفلتهم عن عاقبة أمورهم. وما أقبح من يزعم أنه بصير عاقل أن تغره أحجار الأرض وهي الذهب والفضة وهشيم النبت وهي زينة الدنيا، وشيء من ذلك لا يصبحه عند الموت بل يصير كلاً ووبالاً عليه وهو في الحال شاغل له بالحزن والخوف عليه. وهذه حال الخلق كلهم إلا من عصمه الله عز وجل.

مثال آخر لاغتزار الخلق بالدنيا وضعيف إيمانهم: قال الحسن رحمه الله بلغني أن رسول الله ﷺ قال لأصحابه "إنما مثلي ومثلكم ومثل الدنيا كمثل قوم سلكوا مفازة غبراء، حتى إذا لم يدروا، ما سلكوا منها أكثر أو ما بقي? أنفدوا الزاد وخسروا الظهر وبقوا بين ظهراني المفازة ولا زاد ولا حمولة فأيقنوا بالهلكة، فبينما هم كذلك إذ خرج عليهم رجل في حلة تقطر رأسه، فقالوا: هذا قريب عهد بريف وما جاءكم هذا إلا من قريب، فلما انتهى إليهم قال: يا هؤلاء: فقالوا: يا هذا! فقال علام أنتم? فقالوا: على ما ترى، فقال: أرأيتم إن هديتكم إلى ماء رواء ورياض خضر ما تعملون? قالوا: لا نعصيك شيئاً، قال: عهودكم مواثيقكم بالله، فأعطوه عهودهم ومواثيقهم بالله لا يعصونه شيئاً قال: فأوردهم ماء رواء ورياضاً خضراً فمكث فيهم ما شاء الله ثم قال: يا هؤلاء! قالوا: يا هذا! قال: الرحيل! قالوا: إلى أين? قال: إلى ماء ليس كمائكم وإلى رياض ليست كرياضكم، فقال أكثرهم: والله ما وجدنا هذا حتى ظننا أنا لن نجده وما نصنع بعيش خير من هذا? وقالت طائفة -وهم أقلهم- ألم تعطوا هذا الرجل عهودكم ومواثيقكم بالله أن لا تعصوه شيئاً وقد صدقكم في أول حديثه فوالله ليصدقنكم في آخره? فراح فيمن اتبعه وتخلف بقيتهم فبدرهم عدو فأصبحوا بين أسير وقتيل .

ومثال آخر لتنعم الناس بالدنيا ثم تفجعهم على فراقها: اعلم أن مثل الناس فيما أعطوا من الدنيا مثل رجل هيأ داراً وزينها وهو يدعو إلى داره على الترتيب قوماً، واحداً بعد واحد، فدخل واحد داره فقدم إليه طبق ذهب عليه بخور ورياحين ليشمه ويتركه لمن يلحقه، لا ليتملكه ويأخذه، فجهل رسمه وظن أنه قد وهب ذلك فتعلق به قلبه لما ظن أنه له، فلما استرجع منه ضجر وتفجع، ومن كان عالماً برسمه انتفع به وشكره ورده بطيب قلب وانشراح صدر، وكذلك من عرف سنة الله في الدنيا علم أنها دار ضيافة سبلت على المجتازين لا على المقيمين ليتزودوا منها وينتفعوا بما فيها كما ينتفع المسافرون بالعواري، ولا يصرفون إليها كل قلوبهم حتى تعظم مصيبتهم عند فراها. فهذه أمثلة الدنيا وآفاتها وغوائلها نسأل الله تعالى اللطيف الخبير حسن العون بكرمه وحلمه.

بيان حقيقة الدنيا وماهيتها في حق العبد

اعلم أن معرفة ذم الدنيا لا تكفيك ما لم تعرف الدنيا المذمومة ما هي? وما الذي ينبغي أن يجتنب منها وما الذي لا يجتنب? فلا بد وأن نبين الدنيا المذمومة المأمور باجتنابها لكونها عدوة قاطعة لطريق الله ما هي? فنقول دنياك وآخرتك عبارة عن حالتين من أحوال قلبك، فالقريب الداني منها يسمى دنيا وهو كل ما قبل الموت، والمتراخي المتأخر يسمى آخرة وهو ما بعد الموت، فكل ما لك فيه حظ ونصيب وغرض وشهوة ولذة عاجل الحال قبل الوفاة فهي الدنيا في حقك إلا أن جميع ما لك إليه ميل وفيه نصيب وحظ فليس بمذموم بل هو ثلاثة أقسام. القسم الأول: ما يصحبك في الآخرة وتبقى معك ثمرته بعد الموت وهو شيئان: العلم والعمل فقط؛ وأعني بالعلم: العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكوت أرضه وسمائه والعلم بشريعة نبيه وأعني بالعمل العبادة الخالصة لوجه الله تعالى، وقد يأنس العالم بالعلم حتى يصير ذلك ألذ الأشياء عنده فيهجر النوم والمطعم والمنكح في لذته لأنه أشهى عنده من جميع ذلك فقد صار حظاً عاجلاً في الدنيا. ولكنا إذا ذكرنا الدنيا المذمومة لم نعد هذا من الدنيا أصلاً بل قلنا إنه من الآخرة، وكذلك العابد قد يأنس بعبادته فيستلذها بحيث لو منع عنها لكان ذلك أعظم العقوبات عليه، حتى قال بعضهم: ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بيني وبين قيام الليل، وكان آخر يقول: اللهم ارزقني قوة الصلاة والركوع والسجود في القبر. فهذا قد صارت الصلاة عنده من حظوظه العاجلة وكل حظ عاجل فاسم الدنيا ينطلق عليه من حيث الاشتقاق من الدنو، ولكنا لسنا نعني بالدنيا المذمومة ذلك، وقد قال ﷺ "حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وقرة عيني في الصلاة فجعل الصلاة من جملة ملاذ الدنيا. وكذلك كل ما يدخل في الحس والمشاهدة فهو من عالم الشهادة وهو من الدنيا، والتلذذ بتحريك الجوارح بالركوع والسجود إنما يكون في الدنيا فلذلك أضافها إلى الدنيا إلا أنا لسنا في هذا الكتاب نتعرض إلا للدنيا المذمومة، فنقول هذه ليست من الدنيا.

القسم الثاني: وهو المقابل له على الطرف الأقصى كل ما فيه حظ عاجل ولا ثمرة له في الآخرة أصلاً، كالتلذذ بالمعاصي كلها والتنعم بالمباحاة الزائدة على قدر الحاجات، والضرورات الداخلة في جملة الرفاهية والرعونات، كالتنعم بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث والغلمان والجواري والخيول والمواشي والقصور والدور ورفيع الثياب ولذائذ الأطعمة، فحظ العبد من هذا كله هي الدنيا المذمومة وفيما يعد فضولاً أو في محل الحاجة نظر طويل، إذ روي عن عمر رضي الله عنه أنه استعمل أبا الدرداء على حمص فاتخذ كنيفاً أنفق عليه درهمين، فكتب إليه عمر: من عمر بن الخطاب أمير المؤمنين إلى عويمر، قد كان لك في بناء فارس والروم ما تكتفي به عن عمران الدنيا حين أراد الله خرابها، فإذا أتاك كتابي هذا فقد سيرتك إلى دمشق أنت وأهلك. فلم يزل بها حتى مات. فهذا رآه فضولاً من الدنيا فتأمل فيه.

القسم الثالث: وهو متوسط بين الطرفين كل حظ في العاجل معين على أعمال الآخرة كقدر القوت من الطعام والقميص الواحد الخشن "وكل ما لا بد منه ليتأتى للإنسان البقاء والصحة التي بها يتوصل إلى العلم والعمل. وهذا ليس من الدنيا كالقسم الأول، لأنه معين على القسم الأول ووسيلة إليه. فمهما تناوله العبد على قصد الاستعانة به على العلم والعمل لم يكن به متناولاً للدنيا ولم يصر به من أبناء الدنيا، وإن كان باعثه الحظ العاجل دون الاستعانة على التقوى التحق بالقسم الثاني وصار من جملة الدنيا. ولا يبقى مع العبد عند الموت إلا ثلث صفات: صفاء القلب؛ أعني طهارته عن الأدناس، وأنسه بذكر الله تعالى، وحبه لله عز وجل. وصفاء القلب وطهارته لا يحصلان إلا بالكف عن شهوات الدنيا والأنس لا يحصل إلا بكثرة ذكر الله تعالى والمواظبة عليه والحب لا يحصل إلا بالمعرفة. ولا تحصل معرفة الله إلا بدوام الفكر وهذه الصفات الثلاث هي المنجيات المسعدات بعد الموت.

أما طهارة القلب عن شهوات الدنيا فهي من المنجيات إذ تكون جنة بين العبد وبين عذاب الله كما ورد في الأخبار "إن أعمال العبد تناضل عنه فإذا جاء العذاب من قبل رجليه جاء قيام الليل يدفع عنه وإذا جاء من جهة يديه جاءت الصدقة تدفع عنه الحديث.

وأما الأنس والحب فهما من المسعدات وهما موصلان العبد إلى لذة اللقاء والمشاهدة، وهذه السعادة تعجل عقيب الموت إلى أن يدخل أوان الرؤية في الجنة، فيصير القبر روضة من رياض الجنة، وكيف لا يكون القبر عليه روضة من رياض الجنة ولم يكن له إلا محبوب واحد? وكانت العوائق تعوقه عن دوام الأنس بدوام ذكره ومطالعة جماله، فارتفعت العوائق وأفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه فقدم عليه مسروراً سليماً من الموانع آمناً من العوائق? وكيف لا يكون محب الدنيا عند الموت معذباً ولم يكن له محبوب إلا الدنيا وقد غصب منه وحيل بينه وبينه وسدت عليه طرق الحيلة في الرجع إليه? ولذلك قيل: ما حال من كان له واحد غيب عنه ذلك الواحـد

وليس الموت عدماً إنما هو فراق لمحاب الدنيا وقدوم على الله تعالى. فإذا سالك طريق الآخرة هو المواظب على أسباب هذه الصفات الثلاث وهي الذكر والفكر والعمل الذي يفطمه عن شهوات الدنيا ويبغض إليه ملاذها ويقطعه عنها، وكل ذلك لا يمكن إلا بصحة البدن، وصحة البدن لا تناول إلا بقوت وملبس ومسكن، ويحتاج كل واحد إلى أسباب. فالقدر الذي لا بد منه من هذه الثلاثة إذا أخذه العبد من الدنيا للآخرة لم يكن من أبناء الدنيا وكانت الدنيا في حقه مرزعة للآخرة، وإن أخذ ذلك لحظ النفس وعلى قصد التنعم صار من أبناء الدنيا والراغبين في حظوظها، إلا أن الرغبة في حظوظ الدنيا تنقسم إلى ما يعرض صاحبه لعذاب الآخرة ويسمى ذلك حراماً، وإلى ما يحول بينه وبين الدرجات العلا ويعرضه لطول الحساب ويسمى ذلك حلالاً. والبصير يعلم أن طول الموقف في عرصات القيامة لأجل المحاسبة أيضاً عذاب فمن نوقش الحساب عذب إذ قال رسول الله ﷺ "حلالها حساب وحرامها عذاب وقد قال أيضاً "حلالها عذاب" إلا أنه عذاب أخف من عذاب الحرام، بل لو لم يكن الحساب لكان ما يفوت من الدرجات العلا في الجنة وما يدر على القلب من التحسر على تفوتها لحظوظ حقيرة خسيسة لا بقاء لها هو أيضاً عذاب، وقس به حالك في الدنيا إذا نظرت إلى أقرانك وقد سبقوك بسعادات دنيوية كيف يتقطع قلبك عليها حسرات مع علمك بأنها سعادات منصرمة لا بقاء لها? منغصة بكدورات لا صفاء لها فما حالك في فوات سعادة لا يحيط الوصف بعظمتها وتنقطع الدهور دون غايتها? فكل من تنعم في الدنيا ولو بسماع صوت من طائر أو بالنظر إلى خضرة أو شربة ماء بارد فإنه ينقص من حظه في الآخرة أضعافه، وهو المعنى بقوله ﷺ لعمر رضي الله عنه "هذا من النعيم الذي تسئل عنه أشار به إلى الماء البارد. والتعرض لجواب السؤال فيه ذل وخوف وخر ومشقة وانتظار، وكل ذلك من نقصان الحظ، ولذلك قال عمر رضي الله: اعزلوا عني حسابها، حين كان به عطش فعرض عليه ماء بارد بعسل فأداره في كفه ثم امتنع عن شربه فالدنيا قليلها وكثيرها حرامها وحلالها ملعونة إلا ما أعان على تقوى الله، فإن ذلك القدر ليس من الدنيا، وكل من كانت معرفته أقوى وأتقن كان حذره من نعيم الدنيا أشد، حتى إن عيسى عليه السلام وضع رأسه على حجر لما نام ثم رماه، إذ تمثل له إبليس وقال: رغبت في الدنيا! وحتى إن سليمان عليه السلام في ملكه كان يطعم الناس لذائذ الأطعمة وهو يأكل خبز الشعير، فجعل الملك على نفسه بهذا الطريق امتهاناً وشدة، فإن الصبر عن لذائذ الأطعمة مع القدرة عليها ووجودها أشد ولهذا روي أن الله تعالى زوى الدنيا عن نبينا ﷺ فكان يطوي أياماً وكان يشد الحجر على بطنه من الجوع ولهذا سلط الله البلاء والمحن على الأنبياء والأولياء ثم الأمثل فالأمثل، كل ذلك نظراً لهم وامتناناً عليهم ليتوفر من الآخرة حظهم كما يمنع الوالد الشفيق ولده لذة الفواكه، ويلزم ألم الفصد والحجامة شفقة عليه وحباً له لا بخلاً عليه. وقد عرفت بهذا أن كل ما ليس لله فهو من الدنيا وما هو لله فذلك ليس من الدنيا.

فإن قلت: فما الذي هو لله? فأقول: الأشياء ثلاثة أقسام: منها ما لا يتصور أن يكون لله وهو الذي يعبر عنه بالمعاصي والمحظورات وأنواع التنعمات في المباحات، وهي الدنيا المحضة المذمومة، فهي الدنيا صورة ومعنى ومنها ما صورته لله ويمكن أن يجعل لغير الله وهو ثلاثة: الفكر والذكر والكف عن الشهوات فإن هذه الثلاثة إذا جرت سراً ولم يكن عليها باعث سوى أمر الله واليوم الآخر فهي لله وليست من الدنيا، وإن كان الغرض من الفكر طلب العلم للتشرف به وطلب القبول بين الخلق بإظهار المعرفة أو كان الغرض من ترك الشهوة حفظ المال أو الحمية لصحة البدن والاشتهار بالزهد، فقد صار هذا من الدنيا بالمعنى وإن كان يظن بصورته أنه لله تعالى. ومنها ما صورته لحظ النفس ويمكن أن يكون معناه لله، وذلك كالأكل والنكاح وكل ما يرتبط به بقاؤه وبقاء ولده، فإن كان القصد حفظ النفس فهو من الدنيا وإن كان القصد الاستعانة به على التقوى فهو لله بمعناه وإن كانت صورته صورة الدنيا. قال ﷺ "من طلب الدنيا حلالاً مكاثراً مفاخراً لقي الله وهو عليه غضبان ومن طلبها استعفافاً عن المسألة وصيانة لنفسه جاء يوم القيامة ووجهة كالقمر ليلة البدر فانظر كيف اختلف ذلك بالقصد، فإذاً الدنيا حظ نفسك العاجل الذي لا حاجة إليه لأمر الآخرة ويعبر عنه بالهوى، وإليه الإشارة بقوله تعالى "ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى" ومجامع الهوى خمسة أمور: وهي ما جمعه الله تعالى في قوله "إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد" والأعيان التي تحصل منها هذه الخمسةسبعة: يجمعها قوله تعالى "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا" فقد عرفت أن كل ما هو لله فليس من الدنيا، وقدر ضرورة القوت وما لا بد منه من مسكن وملبس هو لله إن قصد به وجه الله، والاستكثار منه تنعم وهو لغير الله. وبين التنعم والضرورة درجة يعبر عنها بالحاجة. ولها طرفان وواسطة: طرف يقرب من حد الضرورة فلا يضر فإن الاقتصار على حد الضرورة غير ممكن، وطرف يزاحم جانب التنعم ويقرب منه وينبغي أن يحذر منه، وبينهما وسائط متشابهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.

والحزم في الحذر والتقوى والتقرب من حد الضرورة ما أمكن اقتداء بالأنبياء والأولياء عليهم السلام؛ إذ كانوا يردون أنفسهم إلى حد الضرورة حتى إن أويسا القرنى كان يظن أهله أنه مجنون لشدة تضييقه على نفسه، فبنوا له بيتاً على باب دارهم فكان يأتي عليهم السنة والسنتان والثلاث لا يرون له وجهاً، وكان يخرج أول الآذان ويأتي إلى منزله بعد العشاء الآخرة، وكان طعامه أن يلتقط النوى، وكلما أصاب حشفة خبأها لإفطاره وإن لم يصب ما يقوته من الحشف باع النوى واشترى بثمنه ما يقوته، وكان لباسه مما يلتقط من المزابل من قطع الأكسية فيغسلها في الفرات ويلفق بعضها إلى بعض ثم يلبسها، فكان ذلك لباسه وكان ربما مر الصبيان فيرمونه ويظنون أنه مجنون، فيقول لهم يا أخوتاه إن كنتم ولا بد أن ترموني فارموني بأحجار صغار فإني أخاف أن تدموا عقبي، فيحضر وقت الصلاة ولا أصيب الماء، فهكذا كانت سيرته. ولقد عظم رسول الله ﷺ أمره فقال "إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن إشارة إليه رحمه الله ولما ولي الخلافة عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: أيها الناس من كان منكم من العراق فليقم، قال: فقاموا. فقال: اجلسوا إلا من كان من أهل الكوفة، فجلسوا، فقال: اجلسوا إلا من كان من مراد، فجلسوا فقال: اجلسوا إلا من كان من قرن، فجلسوا كلهم إلا رجلاً واحداً فقال له عمر: أقرني أنت? فقال: نعم فقال: أتعرف أويس بن عامر القرني? فوصفه له، فقال: ونعم وما ذاك تسأله عنه يا أمير المؤمنين! والله ما فينا أحمق منه ولا أجن منه ولا أوحش منه ولا أدنى منه، فبكى عمر رضي الله تعالى عنه ثم قال: ما قلت ما قلت إلا لأني سمعت رسول الله ﷺ يقول "يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر فقال هرم بن حيان: لما سمعت هذا القول من عمر بن الخطاب قدمت الكوفة فلم يكن لي هم غلا أن أطلب أويساً القرني وأسأل عنه، حتى سقطت عليه جالساً على شاطئ الفرات نصف النهار يتوضأ ويغسل ثوبه، قال: فعرفته بالنعت الذي نعت لي، فإذا رجل لحيم شديد الأدمة محلوق الرأس كث اللحية متغير جداً كريه الوجه متهيب المنظر قال: فسلمت عليه فرد علي والسلام ونظر إلي، فقلت: حياك الله من رجل ومددت يدي لأصافحه فأبى أن يصافحني، فقلت: رحمك الله يا أويس وغفر لك كيف أنت رحمك الله? ثم خنقتني العبرة من حبي إياه ورقتي عليه إذ رأيت من حاله ما رأيت حتى بكيت وبكى، فقال: وأنت فحياك الله يا هرم بن حيان كيف أنت يا أخي ومن دلك علي? قلت الله فقال: لا إله إلا الله سبحان الله "إن كان وعد ربنا لمفعولا" قال: فعجبت حين عرفني ولا والله ما رأيته قبل ذلك ولا رآني! فقلت: من أين عرفت اسمي واسم أبي وما رأيتك قبل اليوم? "قال نبأني العليم الخبير" وعرفت روحي روحك حين كلمت نفسي نفسك، إن الأرواح لها أنفس كأنفس الأجساد وإن المؤمنين ليعرف بعضهم بعضاً ويتحابون بروح الله وإن لم يلتقوا، يتعارفون ويتكلمون وإن نأت بهم الدار وتفرقت بهم المنازل، قال: قلت حدثني رحمك الله عن رسول الله ﷺ بحديث أسمعه منك قال إني لم أدرك رسول الله ﷺ ولم تكن لي معه صحبة بأبي وأمي ورسول الله، ولكن رأيت رجالاً قد صحبوه وبلغني من حديثه كما بلغك ولست أحب أن أفتح على نفسي هذا الباب أن أكون محدثاً أو مفتياً أو قاضياً في نفسي شغل عن الناس يا هرم بن حيان! فقلت: يا أخي اقرأ علي آية من القرآن أسمعها منك وادع لي بدعوات وأوصني بوصية أحفظها عنك فإني أحبك في الله حباً شديداً، قال: فقام وأخذ بيدي على شاطئ الفرات ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، ثم بكى. ثم قال: قال ربي والحق قول ربي وأصدق الحديث حديثه وأصدق الكلام كلامه، ثم قرأ "وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهم إلا بالحق ولكن أكثرهم لا يعلمون" حتى انتهى إلى قوله "إنه هو العزيز الرحيم" فشهق شهقة ظننت أنه قد غشي عليه ثم قال: يا ابن حيان مات أبوك حيان ويوشك أن تموت فإما إلى جنة وإما إلى نار، ومات أبوك آدم وماتت أمك حواء ومات نوح ومات إبراهيم خليل الرحمن ومات موسى نجى الرحمن ومات داود خليفة الرحمن ومات محمد ﷺ وعليهم وهو رسول رب العالمين، ومات أبو بكر خليفة المسلمين ومات عمر بن الخطاب أخي وصفيي، ثم قال:

يا عمراه يا عمراه، قال: فقلت رحمك الله إن عمر لم يمت، قال: فقد نعاه إلي ربي ونعى إلى نفسي! ثم قال: أنت وأنت في الموتى كأنه قد كان، ثم صلى على النبي ﷺ، ثم دعا بدعوات خفيات، ثم قال: هذه وصيتي إياك يا هرم بن حيان كتاب الله ونهج الصالحين المؤمنين فقد نعيت إلى نفسي ونفسك، عليك بذكر الموت لا يفارق قلبك طرفة عين ما بقيت، وأنذر قومك إذا رجعت إليهم وانصح للأمة جميعاً، وإياك أن تفارق الجماعة قيد شبر فتفارق دينك وأنت لا تعلم فتدخل النار يوم القيامة، ادع لي ولنفسك، ثم قال: اللهم إن هذا يزعم أنه يحبني فيك وزارني من أجلك فعرفني وجهه في الجنة وأدخله علي في دارك دار السلام واحفظه ما دام في الدنيا حيثما كان وضم عليه ضيعته وأرضه من الدنيا باليسير وما أعطيته من الدنيا فيسره له تيسيراً واجعله لما أعطيته من نعمائك من الشاكرين وأجزه عني خير الجزاء ثم قال: أستودعك الله يا هرم بن حيان والسلام عليك ورحمة الله وبركاته لا أراك بعد اليوم رحمك الله تطلبني فإني أكره الشهرة والوحدة أحب إلي إني كثير الهم شديد الغم مع هؤلاء الناس ما دمت حياً فلا تسأل عني ولا تطلبني، واعلم أنك مني على بال وإن لم أرك ولم ترني فاذكرني وادع لي فإني سأذكرك وأدعو لك إن شاء الله، انطلق أنت ههنا حتى أنطلق أنا ههنا. فحرصت أن أمشي معه ساعة فأبى علي وفارقته فبكى وأبكاني وجعلت أنظر في قفاه حتى دخل بعض السكك، ثم سألت عنه ذلك فما وجدت أحداً يخبرني عنه بشيء رحمه الله وغفر له.

فهكذا كانت سيرة أبناء الأخوة المعرضين عن الدنيا.

وقد عرفت مما سبق في بيان الدنيا ومن سيرة الأنبياء والأولياء أن حد الدنيا كل ما أظلته الخضراء وأقلته الغبراء إلا ما كان لله عز وجل من ذلك وضد الدنيا الآخرة وهو كل ما أريد به الله تعالى مما يؤخذ بقدر الضرورة من الدنيا لأجل قوة طاعة الله وذلك ليس من الدنيا. ويتبين هذا بمثال وهو أن الحاج إذ حلف أنه في طريق الحج لا يشتغل بغير الحج بل يتجرد له، ثم اشتغل بحفظ الزاد وعلف الجمل وخرز الراوية وكل ما لا بد للحج منه لم يحنث في يمينه ولم يكن مشغولاً بغير الحج فكذلك البدن مركب النفس تقطع به مسافة العمر، فتعهد البدن بما تبقى به قوته على سلوك الطريق بالعلم والعمل هو من الآخرة لا من الدنيا. نعم إذا قصد تلذذ البدن وتنعمه بشيء من هذه الأسباب كان منحرفاً عن الآخرة ويخشى على قلبه القسوة قال الطنافسي: كنت على باب بني شيبة في المسجد الحرام سبعة أيام طاوياً فسمعت في الليلة الثامنة منادياً وأنا بين اليقظة والنوم ألا من أخذ من الدنيا أكثر مما يحتاج إليه أعمى الله عين قلبه. فهذا بيان حقيقة الدنيا في حقك. فاعلم ذلك ترشد إن شاء الله تعالى.

بيان حقيقة الدنيا في نفسها وأشغالها

التي استغرقت همم الخلق حتى أنستهم أنفسهم وخالقهم ومصدرهم وموردهم

اعلم أن الدنيا عبارة عن أعيان موجود وللإنسان فيها حظ وله في إصلاحها شغل. فهذه ثلاثة أمور قد يظن أن الدنيا عبارة عن آحادها وليس كذلك، أما الأعيان الموجودة التي الدنيا عبارة عنها فهي الأرض وما عليها قال الله تعالى "إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" فالأرض فراش للآدميين ومهاد ومسكن ومستقر، وما عليها لهم ملبس ومطعم ومشرب ومنكح.

ويجمع ما على الأرض ثلاثة أقسام: المعادن والنبات والحيوان. أما النبات: فيطلبه الآدمي للاقتيات والتداوي وأما المعادين: فيطلبها للآلات والأواني، كالنحاس والرصاص، وللنقد كالذهب والفضة، ولغير ذلك من المقاصد وأما الحيوان فينقسم إلى الإنسان والبهائم، أما البهائم: فيطلب منها لحومها للمآكل وظهورها للمركب والزينة. وأما الإنسان: فقد يطلب الأدمى: أن يملك أبدان الناس ليستخدمهم ويستسخرهم كالغلمان؛ أو ليتمتع بهم كالجواري والنسوان؛ ويطلب قلوب الناس ليملكها بأن يغرس فيها التعظيم والإكرام وهو الذي يعبر عنه بالجاه؛ إذ معنى الجاه ملك قلوب الآدميين. فهذه هي الأعيان التي يعبر عنها بالدنيا وقد جمعها الله تعالى في قوله "زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين" وهذا من الإنس "والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة" وهذا من الجواهر والمعادن؛ وفيه تنبيه على غيرها من اللآلئ واليواقيت وغيرها "والخيل المسومة والأنعام" وهي البهائم والحيوانات "والحرث" وهو النبات والزرع.

فهذه هي أعيان الدنيا، إلا أن لها مع العبد علاقتين: علاقة مع القلب وهو حبه وحظه منها وانصراف همه إليها، حتى يصير قلبه كالعبد أو المحب المستهتر بالدنيا. ويدخل في هذه العلاقة جميع صفات القلب المعلقة بالدنيا كالكبر والغل والحسد والرياء والسمعة وسوء الظن والمداهنة وحب الثناء وحب التكاثر والتفاخر، وهذه هي الدنيا الباطنة. وأما الظاهرة فهي الأعيان التي ذكرناها.

العلاقة الثانية مع البدن؛ وهو اشتغاله بإصلاح هذه الأعيان لتصلح لحظوظه وحظوظ غيره، وهي جملة الصناعات والحرف التي الخلق مشغولون بها، والخلق إنما نسوا أنفسهم ومآبهم ومنقلبهم بالدنيا لهاتين العلاقتين: علاقة القلب بالحب، وعلاقة البدن بالشغل. ولو عرف نفسهوعرف ربه وعرف حكمة الدنيا وسرها علم أن هذه الأعيان التي سميناها دنيا لم تخلق إلا لعلف الدابة التي يسير بها إلى الله تعالى، وأعنى بالدابة البدن، فإنه لا يبقى إلا بمطعم ومشرب وملبس ومسكن كما لا يبقى الجمل في طريق الحج إلا يعلف وماء وجلال.

ومثال العبد في الدنيا في نسيانه نفسه ومقصده: مثال الحاج الذي يقف في منازل الطريق ولا يزال يعلف الناقة ويتعهدها وينظفها ويكسوها ألوان الثياب، ويحمل إليها أنواع الحشيش ويبر لها الماء بالثلج، حتى تفوته القافلة وهو غافل عن الحج وعن مرور القافلة وعن بقائه في البادية فريسة للسباع هو وناقته. والحاج البصير لا يهمه من أمر الجمل إلا القدر الذي يقوى به على المشي، فيتعهده وقلبه إلى الكعبة والحج. وإنما يلتفت إلى الناقة بقدر الضرورة. فكذلك البصير في السفر إلى الآخرة لا يشغل بتعهد البدن إلا بالضرورة كما لا يدخل بيت الماء إلا لضرورة، ولا فرق بين إدخال الطعام في البطن وبين إخراجه من البطن في أن كل واحد منهما ضرورة البدن، ومن همته ما يدخل بطنه فقيمته ما يخرج منها. وأكثر ما شغل عن الله تعالى هو البطن، فإن الفوت ضروري وأمر المسكن والملبس أهون، ولو عرفوا سبب الحاجة إلى هذه الأمور واقتصروا عليه لم تستغرقهم أشغال الدنيا وإنما استغرقتهم لجهلهم بالدنيا وحكمتها وحظوظهم منها ولكنهم جهلوا وغفلوا وتتابعت أشغال الدنيا عليهم واتصل بعضهم ببعض وتداعت إلى غير نهاية محدودة، فتاهوا في كثرة الأشغال ونسوا مقاصدها.

ونحن نذكر تفاصيل أشغال الدنيا، وكيفية حدوث الحاجة إليها، وكيفية غلط الناس في مقاصدها حتى تضح لك أشغال الدنيا، كيف صرفت الخلق عن الله تعالى وكيف أنستهم عاقبة أمورهم? فنقول: الأشغال الدنيوية هي الحرف والصناعات والأعمال التي ترى الخلق منكبين عليها. وسبب كثرة الأشغال هو أن الإنسان مضطر إلى ثلاث: القوت، والمسكن، والملبس. فالقوت: للغذاء والبقاء. والملبس: لدفع الحر والبرد. والمسكن: لدفع الحر والبرد ولدفع أسباب الهلاك عن الأهل والمال. ولم يخلق الله القوت والمسكن والملبس مصلحاً بحيث يستغني عن صنعة الإنسان فيه.

نعم خلق ذلك للبهائم، فإن النبات يغذي الحيوان من غير طبخ. والحر والبرد لا يؤثر في بدنه فيستغني عن البناء ويقنع بالصحراء، ولباسها شعورها وجلودها، فتستغني عن اللباس.

والإنسان ليس كذلك فحدثت الحاجة لذلك إلى خمس صناعات هي أصول الصناعات، وأوائل الأشغال الدنيوية، وهي الفلاحة، والرعاية، والاقتناص، والحياكة، والبناء. أما البناء فللمسكن. والحياكة وما يكتنفاه من أمر الغزل والخياطة فللملبس. والفلاحة للمطعم. والرعاية للمواشي والخيل أيضاً للمطعم والمركب. والاقتناص نعني به تحصيل ما خلقه الله من صيد أو معدن أو حشيش أو حطب، فالفلاح يحصل النباتات والراعي يحفظ الحيوانات ويستنتجها. والمقتنص يحصل ما نبت ونتج بنفسه من غير صنع آدمي، وكذلك يأخذ من معادن الأرض ما خلق فيها من غير صنعة آدمي، ونعني بالاقتناص ذلك ويدخل تحته صناعات وأشغال عدة، ثم هذه الصناعات تفتقر إلى أدوات وآلات كالحياكة والفلاحة والبناء والاقتناص، والآلات إنما تؤخذ إما من النبات وهو الأخشاب، أو من المعادن كالحديد والرصاص وغيرهما، أو من جلود الحيوانات. فحدثت الحاجة إلى ثلاث أنواع أخر من الصناعات: النجارة والحدادة والخز. وهؤلاء هم عمال الآلات، ونعني بالنجارة كل عامل في الخشب كيفما كان. وبالحداد؛ كل عامل في الحديد وجواهر المعادن حتى النحاس والإبرى وغيرهما. وغرضنا ذكر الأجناس فأما آحاد الحرف فكثيرة. وأما الخراز؛ فنعني به كل عامل في جلود الحيوانات وأجزائها. فهذه أمهات الصناعات.

ثم عن الإنسان خلق بحيث لا يعيش وحده بل يضطر إلى الاجتماع مع غيره من أبناء جنسه وذلك لسببين؛ أحدهما: حاجته إلى النسل لبقاء جنس الإنسان، ولا يكون ذلك إلا باجتماع الذكر والأنثى وعشرتهما. والثاني: التعاون على تهيئة أسباب المطعم والملبس ولتربية الولد، فإن الاجتماع يفضي إلى الولد لا محالة، والواحد لا يشتغل بحفظ الولد وتهيئة أسباب القوت. ثم ليس يكفيه الاجتماع مع الأهل والولد في المنزل بل لا يمكنه أن يعيش كذلك ما لم تجتمع طائفة كثيرة ليتكفل كل واحد بصناعة. فإن الشخص الواحد كيف يتولى الفلاحة وحده وهو يحتاج إلى آلاتها، وتحتاج الآلة إلى حداد ونجار، ويحتاج الطعام إلى طحان وخباز? وكذلك كيف ينفرد بتحصيل الملبس وهو يفتقر إلى حراسة القطن وآلات الحياكة والخياطة وآلات كثيرة? فلذلك امتنع عيش الإنسان وحده وحدثت الحاجة إلى الاجتماع. ثم لو اجتمعوا في صحراء مكشوفة لتأذوا بالحر والبرد والمطر واللصوص فافتقروا إلى أبنية محكمة ومنازل ينفرد كل أهل بيت به وبما معه الآلات والأثاث والمنازل تدفع الحر والبرد والمطر وتدفع أذى الجيران من اللصوصية وغيرها، لكن المنازل قد تقصدها جماعة من اللصوص خارج المنازل، فافتقر أهل المنازل إلى التناصر والتعاون والتحصن بسور يحيط بجميع المنازل، فحدثت البلاد لهذه الضرورة.

ثم مهما اجتمع الناس في المنازل والبلاد وتعاملوا تولدت بينهم خصومات، إذ تحدث رياسة وولاية للزوج على الزوجة، وولاية للأبوين على الولد لأنه ضعيف يحتاج إلى قوام به. ومهما حصلت الولاية على عاقل أفضى إلى الخصومة بخلاف الولاية على البهائم، إذ ليس لها قوة المخاصمة وإن ظلمت. فأما المرأة فتخاصم الزوج، والولد يخاصم الأبوين. هذا في المنزل.

وأما أهل البلد أيضاً فيتعاملون في الحاجات ويتنازعون فيها، ولو تركوا كذلك لتقاتلوا وهلكوا، وكذلك الرعاة وأرباب الفلاحة يتواردون على المراعي والأراضي والمياه وهي لا تفي بأغراضهم فيتنازعون لا محالة. ثم قد يعجز بعضهم عن الفلاحة والصناعة بعمى أو مرض أو هرم وتعرض عوارض مختلفة ولو ترك ضائعاً لهلك، ولو وكل تفقده إلى الجميع لتخاذلوا ولو خص واحد من غير سبب يخصه لكان لا يذعن له.

فحدث بالضرورة من هذه العوارض الحاصلة بالاجتماع صناعات أخرى. فمنها صناعة المساحة التي بها تعرف مقادير الأرض لتمكن القسمة بينهم بالعدل. ومنها صناعة الجندية لحراسة البلد بالسيف ودفع اللصوص عنهم. ومنها صناعة الحكم والتوصل لفصل الخصومة، ومنها الحاجة إلى الفقه وهو معرفة القانون الذي ينبغي أن يضبط به الخلق، ويلزموا الوقوف على حدوده حتى لا يكثر النزاع وهو معرفة حدود الله تعالى في المعاملات وشروطها. فهذه أمور سياسية لا بد منها ولا يشتغل بها إلا مخصوصون بصفات مخصوصة من العلم والتمييز والهداية، وإذا اشتغلوا بها لم يتفرغوا لصناعة أخرى ويحتاجون إلى المعاش، ويحتاج أهل البلد إليهم إذ لو اشتغل أهل البلد بالحرب مع الأعداء مثلاً تعطلت الصناعات، ولو اشتغل أهل الحرب والسلاح بالصناعات لطلب القوت تعطلت البلاد عن الحراس واستضر الناس، فمست الحاجة إلى أن يصرف إلى معايشهم وأرزاقهم الأموال الضائعة التي لا مالك لها إن كانت، أو تصرف الغنائم إليهم إن كانت العداوة مع الكفار، فإن كانوا أهل ديانة وورع قنعوا بالقليل من أموال المصالح وإن أرادوا التوسع فتمس الحاجة لا محالة إلى أن يمدهم أهل البلد بأموالهم ليمدوهم بالحراسة، فتحدث الحاجة إلى الخراج. ثم يتولد بسبب الحاجة إلى الخراج الحاجة لصناعات أخر؛ إذ يحتاج إلى من يوظف الخراج بالعدل على الفلاحين وأرباب الأموال وهم العمال. وإلى من يستوفي منهم بالرفق وهم الجباة والمتخرجون، وإلى من يجمع عنده ليحفظه إلى وقت التفرقة وهم الخزان، وإلى من يفرق عليهم بالعدل وهو الفارض للعساكر. وهذه الأعمال لو تولاها عدد لا تجمعهم رابطة انخرم النظام فتحدث منه الحاجة إلى ملك يدبرهم وأمير مطاع يعين لكل عمل شخصاً، ويختار لكل واحد ما يليق به ويراعي النصفة في أخذ الخراج وإعطائه، واستعمال الجند في الحرب وتوزيع أسلحتهم وتعين جهات الحرب ونصب الأمير والقائد على كل طائفة منهم إلى غير ذلك من صناعات الملك، فيحدث من ذلك بعد الجند الذين هم أهل السلاح، وبعد الملك الذي يراقبهم بالعين الكالئة ويدبرهم الحاجة إلى الكتاب والخزان والحساب والجباة والعمال. ثم هؤلاء أيضاً يحتاجون إلى معيشة ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف فتحدث الحاجة إلى مال الأصل وهو المسمى فرع الخراج. وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاثة طوائف؛ الفلاحون والرعاة والمحترفون، والثانية: الجندية الحماة بالسيوف. والثالثة: المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء وهم العمال والجباة وأمثالهم. فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس والمسكن وإلى ماذا انتهى. وهكذا أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسبب أبواب أخر. وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها هاوية لا نهاية لعمقها، من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى، وهكذا على التوالي. فهذه هي الحرف والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات. والمال عبارة عن أعيان الأرض وما عليها مما ينتفع به، وأعلاها الأغذية، ثم الأمكنة التي يأوي الإنسان إليها وهي الدور، ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت والأسواق والمزارع، ثم الكسوة ثم أثاث البيت وآلاته، ثم آلات الآلات، وقد يكون في الآلات ما هو حيوان كالكلب آلة الصيد، والبقر آلة الحراثة، والفرس آلة الركوب في الحرب. ثم يحدث من ذلك حاجة البيع فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة، والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة. فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح، فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده لآخر حتى يأخذ منه غرضه وذلك بطريق المعاوضة، إلا أن النجار مثلاً إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته فلا يبيعه، والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت فلا يحتاج إليه فتتعوق الأغراض، فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات؛ وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد به أرباب الحاجات، فظهرت لذلك الأسواق والمخازن فيحمل الفلاح الحبوب فإذا لم يصادف محتاجاً باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها في انتظار أرباب الحاجات طمعاًفي ربح، وكذلك في جميع الأمتعة والأموال. ثم يحدث لا محالة بين

البلاد والقرى تردد فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ومن البلاد الآلات، وينقلون ذلك ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم؛ إذ كل بلد ربما لا توجد في كل آلة، وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام، فالبعض يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل، فيحدث التجار المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة، فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم، ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم؛ إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم، ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاماً للبلاد ومصلحة للعباد. بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة وخسة الهمة. ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا، ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش، ولو بطلت لهلكوا ولهلك الزهاد أيضاً.

ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها، وصاحب المال قد لا تكون له دابة فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة، ويصير الكراء نوعاً من الاكتساب أيضاً، ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاماً بثوب فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو? والمعاملة تجري في أجناس مختلفة كما يباع ثوب بطعام وحيوان بثوب وهذه أمور لا تتناسب، فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال، ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه لأن الحاجة إليه تدوم. وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب والفضة والنحاس، ثم مست الحاجة إلى الضرب والنقش والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة. وهكذا تتداعى الأشغال والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه. فهذه أشغال الخلق وهي معاشهم. وشيء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم وتعب في الابتداء.

وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا فلا يشتغل به أو يمنعه مانع فيبقى عاجزاً عن الاكتساب لعجزه عن الحرف فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره، فيحدث منه حرفتان خسيستان: اللصوصية والكداية؛ إذ يجمعهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ثم الناس يحترزون من اللصوص والمكدين ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير.

أما اللصوص: فمنهم من يطلب أعواناً ويكون في يديه شوكة وقوة فيجتمعون ويتكاثرون ويقطعون الطريق كالأعراب والأكراد. وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة، وإما بأن يكون طراراً أو سلالاً، إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها.

وأما المكدي فإنه إذا طلب ما سعى فيه غيره وقيل له اتعب واعمل كما عمل غيرك فما لك والبطالة فلا يعطى شيئاً، فافتقروا إلى حيلة في استخراج الأموال وتمهيد العذر لأنفسهم في البطالة، فاحتالوا للتعلل بالعجز إما بالحقيقة كجماعة يعمون أولادهم وأنفسهم بالحيلة ليعذروا بالعمى فيعطون، وإما بالتعامي والتفالج والتجانن والتمارض، وإظهار ذلك بأنواع من الحيل مع بيان أن تلك محنة أصابت من غير استحقاق، ليكون ذلك سبب الرحمة، وجماعة يلتمسون أقوالاً وأفعالاً يتعجب الناس منها حتى تنبسط قلوبهم عند مشاهدتها، فيسخوا برفع اليد عن قليل من المال في حال التعجب، ثم قد يندم بعد زوال التعجب ولا ينفع الندم. وذلك قد يكون بالتمسخر والمحاكاة والشعبذة والأفعال المضحكة، وقد يكون بالأشعار الغريبة والكلام المنثور المسجع مع حسن الصوت. والشعر الموزون أشد تأثيراً في النفس ولا سيما إذا كان فيه تعصب يتعلق بالمذاهب كأشعار مناقب الصحابة وفضائل أهل البيت، أو الذي يحرك داعية العشق من أهل المجانة كصنعة الطبالين في الأسواق، وصنعة ما يشبه العوض وليس بعوض كبيع التعويذات، والحشيش الذي يخيل بائعه أنها أدوية فيخدع بذلك الصبيان والجهال، وكأصحاب القرعة والفأل من المنجمين. ويدخل في هذا الجنس الوعاظ والمكدون على رؤوس المنابر إذ لم يكن وراءهم طائل علمي وكان غرضهم استمالة قلوب العوام وأخذ أموالهم بأنواع الكدية، وأنواعها تزيد على ألف نوع وألفين. وكل ذلك استنبط بدفيق الفكرة لأجل المعيشة. فهذه هي أشغال الخلق وأعمالهم التي أكبوا عليها، وجرهم إلى ذلك كله الحاجة إلى القوت والكسوة ولكنهم نسوا في أثناء ذلك أنفسهم ومقصودهم ومنقلبهم ومآبهم فتاهوا وضلوا، وسبق إلى عقولهم الضعيفة بعد أن كدرتها زحمة الاشتغالات بالدنيا خيالات فاسدة، فانقسمت مذاهبهم واختلفت آراؤهم على عدة أوجه: فطائفة علبهم الجهل والغفلة فلم تتفتح أعينهم للنظر إلى عاقبة امورهم فقالوا: المقصود أن نعيش أياماً في الدنيا فنجتهد حتى نكسب القوت ثم نأكل حتى نقوى على الكسب، ثم نكسب حتى نأكل، فيأكلون ليكسبوا ثم يكسبون ليأكلوا، وهذا مهذب الفلاحين والمحترفين ومن ليس له تنعم في الدنيا ولا قدم في الدين؛ فإنه يتعب نهاراً ليأكل ليلاً ويأكل ليلاً ليتعب نهاراً، وذلك كسير السواني فهو سفر لا ينقطع إلا بالموت.

وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ولا يتنعم في الدنيا؛ بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا وهي شهوة البطن والفرج، فهؤلاء نسوا أنفسهم وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم الآخر.

وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز، فأسهروا ليلهم وأتعبوا نهارهم في الجمع، فهم يتعبون في الأسفار طوال الليل والنهار ويترددون في الأعمال الشاقة ويكتسبون، ويجمعون ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحاً وبخلاً عليها أن تنقص، وهذه لذتهم وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت؛ فيبقى تحت الأرض أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات؛ فيكون الجامع تعبه ووباله وللآكل لذته. ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أملا ذلك ولا يعتبرون.

وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء والمدح بالتجمل والمروءة؛ فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة، ويزخرفون أبواب الدور وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال إنه غني وإنه ذو ثروة ويظنون أن ذلك هو السعادة، فهمتهم في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس.

وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس وانقياد الخلق بالتواضع والتوقير، فصرفوا همهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات وتقلد الأعمال السلطانية لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة، وأن ذلك غاية المطلب. وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس، فهؤلاء شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله وعن عبادته وعن التفكر في آخرتهم ومعادهم.

ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة، كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل، وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم والملبس والمسكن ونسوا ما تراد له هذه الأمور الثلاثة والقدر الذي يكفي منها. وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها، وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها، فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب والأشغال وعف غاية المقصود منها فلا يخوض في شغل وحرفة وعمل إلا وهو عالم بمقصوده وعالم بحظه ونصيبه منه، وأن غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك، وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له، وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال وتداعى البعض إلى البعض وتسلسل إلى غير نهاية، فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها. فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا. وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا فحسدهم الشيطان ولم يتركهم، وأضلهم في الإعراض أيضاً حتى انقسموا إلى طوائف: فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا أو لم يتعبد، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا، وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق، ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا.

وظنت طائفة أخرى أن القتل لا يخلص بل لا بد أولاً من إماتة الصفات البشرية وقطعها عن النفس بالكلية، وأن السعادة في قطع الشهوة والغضب، ثم أقبلوا على المجاهدة وشددوا على أنفسهم، حتى هلك بعضهم بشدة الرياضة وبعضهم فسد عقله وجن. وبعضهم مرض وانسد عليه الطريق في العبادة. وبعضهم عجز عن قمع الصفات بالكلية فظن أن ما كلفه الشرع محال وأن الشرع تلبيس لا أصل له فوقع في الإلحاد. وظهر لبعضهم أن هذا التعب كله لله وأن الله تعالى مستغن عن عباده لا ينقصه عصيان عاص ولا تزيده عبادة متعبد، فعادوا إلى الشهوات وسلكوا مسلك الإباحة وطووا بساط الشرع والأحكام، وزعموا أن ذلك من صفاء توحيدهم حيث اعتقدوا أن الله مستغن عن عبادة العباد.

وظن طائفة أن المقصود من العبادات المجاهدة حتى يصل العبد بها إلى معرفة الله تعالى، فإذا حصلت المعرفة فقد وصل وبعد الوصول يستغني عن الوسيلة والحيلة، فتركوا السعي والعبادة وزعموا أنه ارتفع محلهم في معرفة الله سبحانه عن أن يمتهنوا بالتكاليف، وإنما التكليف على عوام الخلق.

ووراء هذا مذاهب باطلة وضلالات هائلة يطول إحصاؤها إلى ما يبلغ نيفاً وسبعين فرقة، وإنما الناجي منها فرقة واحدة؛ وهي السالكة ما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه، وهو أن لا يترك الدنيا بالكلية ولا يقمع الشهوات بالكلية. أما الدنيا فيأخذ منها قدر الزاد. وأما الشهوات فيقمع منها ما يخرج عن طاعة الشرع والعقل. ولا يتبع كل شهوة ولا يترك كل شهوة، بل يتبع العدل ولا يترك كل شيء من الدنيا، ولا يطلب كل شيء من الدنيا بل يعلم مقصود كل خلق من الدنيا ويحفظه على حد مقصوده، فيأخذ من القوت ما يقوي به البدن على العبادة ومن المسكن ما يحفظ عن اللصوص والحر والبرد، ومن الكسوة كذلك، حتى إذا فرغ القلب من شغل البدن أقبل على الله تعالى بكنه همته واشتغل بالذكر والفكر طول العمر، وبقي ملازماً لسياسة الشهوات ومراقباً لها حتى لا يجاوز حدود الورع والتقوى، ولا يعلم تفصيل ذلك إلا بالاقتداء بالفرقة الناجية وهم الصحابة فإنه عليه السلام لما قال "الناجي منها واحدة" قالوا: يا رسول الله ومن هم? قال "أهل السنة والجماعة" فقيل: ومن أهل السنة والجماعة? قال "ما أنا عليه وأصحابي وقد كانوا على النهج القصد وعلى السبيل الواضح الذي فصلناه من قبل، فإنهم ما كانوا يأخذون الدنيا للدنيا بل للدين، وما كانوا يترهبون ويهجرون الدنيا بالكلية، وما كان لهم في الأمور تفريط ولا إفراط، بل كان أمرهم بين ذلك قواماً، وذلك هو العدل والوسط بين الطرفيين وهو أحب الأمور إلى الله تعالى -كما سبق ذكره في مواضع- والله أعلم.

تم كتاب ذم الدنيا والحمد لله أولاً وآخراً وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

=======

المؤلف: أبو حامد الغزالي كتاب ذم البخل وذم حب المال

وهو الكتاب السابع من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله مستوجب الحمد برزقه المبسوط، وكاشف الضر بعد القنوط، الذي خلق الخلق، ووسع الرزق، وأفاض على العالمين أصناف الأموال، وابتلاهم فيها بتقلب الأحوال، ورددهم فيها بين العسر واليسر، والغنى والفقر، والطمع واليأس، والثروة والإفلاس، والعجز والاستطاعة، والحرص والقناعة، والبخل والجود، والفرح بالموجود، والأسف على المفقود، والإيثار والإنفاق، والتوسع والإملاق، والتبذير والتقتير، والرضا بالقليل واستحقار الكثير، كل ذلك ليبلوهم أيهم أحسن عملاً، وينظر أيهم آثر الدنيا على الآخرة بدلاً، وابتغى عن الآخرة عدولاً وحولاً، واتخذ الدنيا ذخيرة وخولا، والصلاة على محمد الذي نسخ بملته مللاً، وطوى بشريعته أدياناً ونحلاً، وعلى آله وأصحابه الذين سلكوا سبيل ربهم ذللاً، وسلم تسليماً كثيرا.

أما بعد: فإن فتن الدنيا كثيرة الشعب والأطراف واسعة الأرجاء والأكناف، ولكن الأموال أعظم فتنها وأطم محنها، وأعظم فتنة فيها أنه لا غنى لأحد عنها، ثم إذا وجدت فلا سلامة منها، فإن فقد المال حصل منه الفقر الذي يكاد أن يكون كفراً، وإن وجد حصل منه الغطيان الذي لا تكون عاقبة أمره إلى خسرا. وبالجملة فهي لا تخلو من الفوائد والآفات، وفوائدها من المنجيات، وآفاتها من المهلكات، وتمييز خيرها عن شرها من المعوصات التي لا يقوى عليها إلا ذوو البصائر في الدين من العلماء الراسخين دون المسترسمين المغترين. وشرح ذلك مهم على الانفراد، فإن ما ذكرناه في كتاب ذم الدنيا لم يكن نظراً في المال خاصة بل في الدنيا عامة؛ إذ الدنيا تتناول كل حظ عاجل، والمال بعض أجزاء الدنيا، والجاه بعضها، واتباع شهوة البطن والفرج بعضها، وتشفي الغيظ بحكم الغضب والحسد بعضها، والكبر وطلب العلو بعضها. ولها أبعاض كثيرة. ويجمعها كل ما كان للإنسان فيه حظ عاجل. ونظرنا الآن في هذا الكتاب في المال وحده، إذ فيه آفات وغوائل. وللإنسان من فقده صفة الفقر، ومن وجوده وصف الغنى. وهما حالتان يحصل بهما الاختبار والامتحان.

ثم للفاقد حالتان: القناعة والحرص، وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللحريص حالتان: طمع فيما في أيدي الناس، وتشمر للحرف والصناعات مع اليأس عن الخلق، والطمع شر الحالتين.

وللواجد حالتان: إمساك بحكم البخل والشح، وإنفاق. وإحداهما مذمومة والأخرى محمودة. وللمنفق حالتان: تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد.

وهذه أمور متشابهة وكشف الغطاء عن الغموض فيها مهم. ونحن نشرح ذلك في أربعة عشر فصلاً إن شاء الله تعالى وهو: بيان ذم المال، ثم مدحه ثم تفصيل فوائد المال وآفاته ثم ذم الحرص والطمع ثم علاج الحرص والطمع. ثم فضيلة السخاء. ثم حكايات الأسخياء، ثم ذم البخل، ثم حكايات البخلاء. ثم الإيثار وفضله. ثم حد السخاء والبخل. ثم علاج البخل. ثم مجموع الوظائف في المال. ثم ذم الغنى ومدح الفقر؛ إن شاء الله تعالى.

بيان ذم المال وكراهة حبه

قال الله تعالى "يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون" وقال تعالى "إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم" فمن اختار ماله وولده على ما عند الله فقد خسر وغبن خسراناً عظيماً. وقال عز وجل "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها" الآية. وقال تعالى "إن الإنسان ليطغى إن رآه استغنى" فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وقال تعالى "ألهاكم التكاثر".

وقال رسول الله ﷺ "حب المال والشرف ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال ﷺ "ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساداً فيها من حب الشرف والمال والجاه في دين الرجل المسلم وقال ﷺ "هلك المكثرون إلا من قال به في عباد الله هكذا وهكذا وقليل ما هم وقيل: يا رسول الله أي أمتك شر? قال "الأغنياء وقال ﷺ "سيأتي بعدكم قوم يأكلون أطايب الدنيا وألوانها ويركبون فره الخيل وألوانها وينكحون أجمل النساء وألوانها ويلبسون أجمل الثياب وألوانها، لهم بطون من القليل لا تشبع وأنفس بالكثير لا تقنع، عاكفون على الدنيا يغدون ويروحون إليها، اتخذوها آلهة من دون إلههم ورباً دون ربهم، إلى أمرها ينتهون ولهواهم يتبعون، فعزيمة من محمد بن عبد الله لمن أدركه ذلك الزمان من عقب عقبكم وخلف خلفكم أن لا يسلم عليهم ولا يعود مرضاهم ولا يتبع جنائزهم ولا يوقر كبيرهم، فمن فعل ذلك فقد أعان على هدم الإسلام وقال ﷺ "دعوا الدنيا لأهلها، من أخذ من الدنيا فوق ما يكفيه أخذ حتفه وهو لا يشعر وقال ﷺ "يقول ابن آدم مالي مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت? وقال رجل: يا رسول الله مالي لا أحب الموت! فقال "هل معك من مال?" قال: نعم يا رسول الله؛ قال "قدم مالك فإن قلب المؤمن مع ماله، إن قدمه أحب أن يلحقه وإن خلفه أحب أن يتخلف معه وقال ﷺ "أخلاء بن آدم ثلاثة. واحد يتبعه إلى قبض روحه، والثاني إلى قبره، والثالث إلى محشرة. فالذي يتبعه إلى قبض روحه فهو ماله، والذي يتبعه إلى قبره فهو أهله، والذي يتبعه إلى محشره فهو عمله .

وقال الحواريون لعيسى عليه السلام: مالك تمشي على الماء ولا نقدر على ذلك? فقال لهم؛ ما منزلة الدينار والدرهم عندكم? قالوا: حسنة، قال: لكنهما والمدر عندي سواء. وكتب سلمان الفارسي إلى أبي الدرداء رضي الله عنهما: يا أخي إياك أن تجمع من الدنيا مالاً تؤدي شكره، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول "يجاء بصاحب الدنيا الذي أطاع الله فيها وماله بين يديه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله امض فقد أديت حق الله في، ثم يجاء بصاحب الدنيا الذي لم يطع الله فيها وماله بين كتفيه كلما تكفأ به الصراط قال له ماله ويلك ألا أديت حق الله في فما يزال كذلك حتى يدعو بالويل والثبور .

وكل ما أوردناه في كتاب الزهد والفقر في ذم الغنى ومدح الفقر يرجع جميعه إلى ذم المال، فلا نطول بتكريره، وكذا كل ما ذكرناه في ذم الدنيا فيتناول ذم المال بحكم العموم، لأن المال أعظم أركان الدنيا. وإنما نذكر الآن ما ورد في المال خاصة.

قال ﷺ "إذا مات العبد قالت الملائكة ما قدم وقال الناس ما خلف وقال ﷺ "لا تتخذوا الضيعة فتحبوا الدنيا .

الآثار: روي أن رجلاً نال من أبي الدرداء وأراه سوءاً فقال: اللهم من فعل بي سوءاً فأصح جسمه وأطل عمره وأكثر ماله. فانظر كيف رأى كثرة المال غاية البلاء مع صحة الجسم وطول العمر? لأنه لا بد وأن يفضي إلى الطغيان ووضع علي كرم الله وجهه درهماً على كفه ثم قال: أما إنك ما لم تخرج عني لا تنفعني. وروي أن عمر رضي الله عنه أرسل إلى زينت بنت جحش بعطائها فقالت: ما هذا? قالوا: أرسل إليك عمر بن الخطاب، قال: غفر الله له، ثم سلت ستراً كان لها فقطعته وجعلته صرراً وقسمته في أهل بيتها ورحمها وأيتامها، ثم رفعت يديها وقالت اللهم لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا. فكانت أول نساء رسول الله ﷺ لحوقاً به. وقال الحسن: والله ما أعز الدرهم أحد إلا أذله الله. وقيل: إن أول ما ضرب الدينار والدرهم رفعها إبليس ثم وضعهما على جبهته ثم قبلهما وقال. من أحبكما فهو عبدي حقاً. وقال سميط بن عجلان: إن الدراهم والدنانير أزمة المنافقين يقادون بها إلى النار. وقال يحيى بن معاذ: الدرهم عقرب فإن لم تحسن رقيته فلا تأخذه، فإنه إن لدغك قتلك سمه، قيل: وما رقيته? قال: أخذه من حله ووضعه في حقه. وقال العلاء بن زياد: تمثلت لي الدنيا وعليها من كل زينة فقلت: أعوذ بالله من شرك فقالت: إن سرك أن يعيذك الله مني فابغض الدرهم والدينار. وذلك لأن الدرهم والدينار هما الدنيا كلها إذ يتوصل بهما إلى جميع أصنافها، فمن صبر عنهما صبر عن الدنيا وفي ذلك قيل: إني وجدت فلا تظنوا غيره أن التورع عند هذا الدرهم

فإذا قدرت عليه ثم تركتـه فاعلم بأن تقاك تقوى المسلم

وفي ذلك قيل أيضاً: لا يغرنك من الـمـر قيمـص رقـعــه

أو إزار فوق عظم الس اق مـنـه رفـعـه

أو جـبـين لاح فـيه أثـر قـد خـلـعـه

أره الدرهم تـعـرف حبـه أو ورعـــه

ويروى عن مسلمة بن عبد الملك أنه دخل على عمر بن عبد العزيز رحمه الله عند موته فقال يا أمير المؤمنين صنعت صنيعاً لم يصنعه أحد قبلك، تركت ولدك ليس له درهم ولا دينار -وكان له ثلاثة عشر من الولد- فقال عمر: أقعدوني! فأقعدوه فقال: أما قولك لم أدع لهم ديناراً ولا درهماً فإني لم أمنعهم حقاً لهم ولم أعطهم حقاً لغيرهم! وإنما ولدي أحد رجلين: إما مطيع لله فالله كافيه والله يتولى الصالحين، وإما عاص لله فلا أبالي على ما وقع. وروي أن محمد بن كعب القرظي أصاب مالاً كثيراً فقيل له: لو ادخرته لولدك من بعدك? قال: لا ولكني أدخره لنفسي عند ربي وأدخر ربي لولدي. ويروى أن رجلاً قال لأبي عبد ربه: يا أخي لا تذهب بشر وتترك أولادك بخير! فأخرج أبو عبد ربه من ماله مائة ألف درهم. وقال يحيى بن معاذ: مصيبتان لم يسمع الأولون والآخرون بمثلهما للعبد في ماله عند موته، قيل: وما هما? قال: يؤخذ منه كله ويسئل عنه كله.

بيان مدح المال والجمع بينه وبين الذم

اعلم أن الله تعالى قد سمى المال خيراً في مواضع من كتابه العزيز فقل جل وعز "إن ترك خيراً" الآية وقال رسول الله ﷺ "نعم المال الصالح للرجل الصالح وكل ما جاء في ثواب الصدقة والحج فهو ثناء على المال إذ لا يمكن الوصول إليهما إلا به. وقال تعالى "ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك" وقال تعالى ممتناً على عباده "ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً" وقال ﷺ "كاد الفقر أن يكون كفراً وهو ثناء على المال. ولا تقف على وجه الجمع بعد الذم والمدح إلا بأن تعرف حكمة المال ومقصوده وآفاته وغوائله؛ حتى ينكشف لك أنه خير من وجه وشر من وجه، وأنه محمود من حيث هو خير ومذموم من حيث هو شر، فإنه ليس بخير محض ولا شر محض، بل هو سبب للأمرين جميعاً وما هذا وصفه فيمدح لا محالة تارة ويذم أخرى، ولكن البصير المميز يدرك أن المحمود منه غير المذموم، وبيانه بالاستمداد مما ذكرناه في كتاب الشكر من بيان الخيرات وتفصيل درجات النعم، والقدر المقنع فيه هو أن مقصد الأكياس وأرباب البصائر سعادة الآخرة التي هي النعيم الدائم والملك والمقيم. والقصد إلى هذا دأب الكرام والأكياس، إذ قيل لرسول الله ﷺ: من أكرم الناس وأكيسهم? فقال "أكثرهم للموت ذكراً وأشدهم له استعداداً وهذه السعادة لا تنال إلا بثلاث وسائل في الدنيا وهي الفضائل النفسية، كالعلم وحسن الخلق، والفضائل البدنية: كالصحة والسلامة، والفضائل الخارجة عن البدن: كالمال وسائر الأسباب. وأعلاها النفسية، ثم البدنية، ثم الخارجة.

فالخارجة أخسها والمال من جملة الخارجات،وأدناها الدراهم والدنانير، فإنهما خادمان ولا خادم لهما، ومرادان لغيرهما. ولا يرادان لذاتهما؛ إذ النفس هي الجوهر النفيس المطلوب سعادتها، وأنها تخدم العلم والمعرفة ومكارم الأخلاق لتحصلها صفة في ذاتها، والبدن يخدم النفس بواسطة الحواس والأعضاء، والمطاعم والملابس تخدم البدن. وقد سبق أن المقصود من المطاعم إبقاء البدن. ومن المناكح إبقاء النسل، ومن البدن تكميل النفس وتزكيتها وتزيينها بالعلم والأخلاق. ومن عرف هذا الترتيب فقد عرف قدر المال ووجه شرفه، وأنه من حيث هو ضرورة المطاعم والملابس التي هي ضرورة بقاء البدن الذي هو ضرورة كمال النفس الذي هو خير ومن عرف فائدة الشيء وغايته ومقصده واستعمله لتلك الغاية ملتفتاً إليها غير ناس لها فقد أحسن وانتفع، وكان ما حصل له الغرض محموداً في حقه، فإذا المال آلة ووسيلة إلى مقصود صحيح، ويصلح أن يتخذ آلة ووسيلة إلى مقاصد فاسدة وهي المقاصد الصادة عن سعادة الآخرة وتسد سبيل العلم والعمل. فهو إذا محمود مذموم، محمود بالإضافة إلى المقصد المحمود، ومذموم بالإضافة إلى المقصد المذموم. فمن أخذ من الدنيا أكثر مما يكفيه فقد أخذ حتفه وهو لا يشعر كما ورد به الخبر.

ولما كانت الطباع مائلة إلى اتباع الشهوات القاطعة لسبيل الله وكان المال مسهلاً لها وآلة إليها، عظم الخطر فيما يزيد على قدر الكفاية فاستعاذ الأنبياء من شره حتى قال نبينا عليه الصالة والسلام "الله اجعل قوت آل محمد كفافاً فلم يطلب من الدنيا غلا ما يتمحض خيره وقال "الله أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين واستعاذ إبراهيم ﷺ فقال "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام" وعنى بها هذين الحجرين الذهب والفضة، إذ رتبة النبوة أجل من أن يخشى عليها أن تعتقد الإلهية في شيء من هذه الحجارة، إذ قد كفى قبل النبوة مع الصغر، وإنما معنى عبادتهما حبهما والاغترار بهما والركون إليهما قال نبينا ﷺ تعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم تعس ولا انتعش وإذا شيك فلا انتفش فبين أن محبهما عابد لهما ومن عبد حجراً فهو عابد صنم. بل كل من كان عبداً لغير الله فهو عابد صنم، أي قطعه ذلك عن الله تعالى وعن أداء حقه فهو كعابد صنم، وهو شرك إلا أن الشرك شركان: شرك خفي لا يوجب الخلود في النار وقلما ينفك عنه المؤمنون فإنه أخفى من دبيب النمل، وشرك جلي يوجب الخلود في النار نعوذ بالله من الجميع.

بيان تفصيل آفات المال وفوائده

اعلم أن المال مثل حية فيها سم وترياق، ففوائده ترياقه، وغوائله سمومه. فمن عرف غوائله وفوائده أمكنه أن يحترز من شره ويستدر من خيره.

أما الفوائد: فهي تنقسم إلى دنيوية ودينية: أما الدنيوية فلا حاجة إلى ذكرها فإن معرفتها مشهورة مشتركة بين أصناف الخلق، ولولا ذلك لم يتهالكوا على طلبها. وأما الدينية فتنحصر جميعها في ثلاثة أنواع.

النوع الأول أن ينفقه على نفسه إما في عبادة أو في الاستعانة على عبادة. أما في العبادة: فهو كالاستعانة به على الحج والجهاد فإنه لا يتوصل إليهما إلا بالمال، وهما من أمهات القربات والفقير محروم من فضلهما. وأما فيما يقويه على العبادة: فذلك هو المطعم والملبس والمسكن والمنكح وضرورات المعيشة فإن هذه الحاجات إذا لم تتيسر كان القلب مصروفاً إلى تدبيرها فلا يتفرغ للدين، ومالا يتوصل إلى العبادة إلا به فهو عبادة، فأخذ الكفاية من الدنيا لأجل الاستعانة على الدين من الفوائد الدينية. ولا يدخل في هذا التنعم والزيادة عن الحاجة فإن ذلك من حظوظ الدنيا فقط.

النوع الثاني ما يصرفه إلى الناس، وهو أربعة أقسام: الصدقة، والمروءة، ووقاية العرض، وأجرة الاستخدام.

أما الصدقة فلا يخفى ثوابها وإنها لتطفئ غضب الرب تعالى، وقد ذكرنا فضلها فيما تقدم.

وأما المروءة فنعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة وهدية وإعانة ما يجري مجراها، فإن هذه لا تسمى صدقة، بل الصدقة ما يسلم إلى المحتاج إلا أن هذا من الفوائد الدينية إذ به يكتسب العبد الإخوان والأصدقاء وبه يكتسب صفة السخاء ويلتحق بزمرة الأسخياء. فلا يوصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل المروءة والفتوة، وهذا أيضاً مما يعظم الثواب فيه فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها.

وأما وقاية العرض فنعني بها بذل المال لدفع هجو الشعراء وثلب السفهاء وقطع ألسنتهم ودفع شرهم، وهو أيضاً مع تنجز فائدته في العاجلة من الحظوظ الدينية. قال رسول الله ﷺ "وما وقى به المرء عرضه كتب له به صدقة وكيف لا وفيه منع المغتاب عن معصية الغيبة واحتراز عما يثور من كلامه من العداوة التي تحمل في المكافأة والانتقام على مجاوزة حدود الشريعة.

وأما الاستخدام فهو أن الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاه بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له فيفتقر إلى أن يتولى بنفسه خدمة نفسه من شراء الطعام وطحنه وكنس البيت حتى نسخ الكتاب الذي يحتاج إليه، وكل ما يتصور أن يقوم به غيرك ويحصل به غرضك فأنت متعوب إذا اشتغلت به، إذ عليك من العلم والعمل والذكر والفكر ما ر يتصور أن يقوم به غيرك فتضييع الوقت في غيره خسران.

النوع الثالث ما لا يصرفه إلى إنسان معين ولكن يحصل به خير عام كبناء المساجد والقناطر والرباطات ودور المرضى ونصب الجباب في الطريق، وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات، وهي من الخيرات المؤبدة الدارة بعد الموت المستجلبة بركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية، وناهيك بها خيراً. فهذه جملة فوائد المال في الدين سوى ما يتعلق بالحظوظ العاجلة من الخلاص من ذل السؤال وحقارة الفقر، والوصول إلى العز والمجد بين الخلق، وكثرة الإخوان والأعوان والأصدقاء، والوقار والكرامة في القلوب، فكل ذلك مما يقتضيه المال من الحظوظ الدنيوية.

وأما الآفات فدينية ودنيوية أما الدينية فثلاث.

الأول أن تجر إلى المعاصي فإن الشهوات متفاضلة والعجز قد يحول بين المرء والمعصية، ومن العصمة أن لا يجد. ومهما كان الإنسان آيساً عن نوع من المعصية لم تتحرك داعيته، فإذا استشعر القدرة عليها انبعث داعيته والمال نوع من القدرة يحرك داعية المعاصي وارتكاب الفجور، فإن اقتحم ما اشتهاه هلك وإن صبر وقع في شدة؛ إذ الصبر مع القدرة أشد، وفتنة السراء أعظم من فتنة الضراء.

الثانية أن يجر إلى التنعم في المباحات، وهذا أول الدرجات، فمتى يقدر صاحب المال على أن يتناول خبز الشعير ويلبس الثوب الخشن ويترك لذائذ الأطعمة كما كا يقدر عليه سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام في ملكه فأحسن أحواله أن لا يتنعم بالدنيا ويمرن عليها نفسه، فيصير التنعم مألوفاً عنده ومحبوباً لا يصبر عنه، ويجره البعض منه إلى البعض، فإذا اشتد أنسه به ربما لا يقدر على التوصل إليه بالكسب الحلال فيقتحم الشبهات ويخوض في المراءاة والمداهنة والكذب والنفاق وسائر الأخلاق الرديئة، لينتظم له أمر دنياه ويتيسر له تنعمه، فإن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بد وأن ينافقهم ويعصي الله في طلب رضاهم، فإن سلم الإنسان من الآفة الأولى وهي مباشرة الحظوظ فلا يسلم عن هذه أصلاً. ومن الحاجة إلى الخلق تثور العداوة والصداقة، وينشأ عنه الحسد والحقد والرياء والكبر والكذب والنميمة والغيبة وسائر المعاصي التي تخص القلب واللسان، ولا يخلو عن التعدي أيضاً إلى سائر الجوارح. وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه.

الثالثة وهي التي لا ينفك عنها أحد وهو أنه يلهيه إصلاح ماله عن ذكر الله تعالى، وكل ما شغل العبد عن الله فهو خسران، ولذلك قال عيسى عليه الصلاة والسلام: في المال ثلاث آفات، أن يأخذه من غير حله، فقيل: إن أخذه من حله? فقال: يضعه في غير حقه، فقيل: إن وضعه في حقه? فقال: يشغله إصلاحه عن الله تعالى. وهذا هو الداء العضال. فإن أصل العبادات ومخها وسرها ذكر الله والتفكر في جلاله، وذلك يستدعي قلباً فارغاً وصاحب الضيعة يمسي ويصبح متفكراً في خصومة الفلاح ومحاسبته، وفي خصومة الشركاء ومنازعتهم في الماء والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء على التقصير في العمارة، وخصومة الفلاحين في خيانتهم وسرقتهم. وصاحب التجارة يكون متفكراً في خيانة شريكه وانفراده بالربح وتقصيره في العمل وتضييعه للمال. وكذلك صاحب المواشي. وهكذا سائر أصناف الأموال. وأبعدها عن كثرة الشغل: النقد المكنوز تحت الأرض، ولا يزال الفكر متردداً فيما يصرف إليه وفي كيفية حفظه وفي الخوف مما يعثر عليه وفي دفع أطماع الناس عنه. وأودية أفكار الدنيا لا نهاية لها، والذي معه قوت يومه في سلامة من جميع ذلك. فهذه جملة الآفات الدنيوية سوى ما يقاسيه أرباب الأموال في الدنيا من الخوف والحزن والغم والهم والتعب في دفع الحساد وتجشم المصاعب في حفظ المال وكسبه، فإذن ترياق المال أخذ القوت منه وصرف الباقي إلى الخيرات وما عدا ذلك سموم وآفات. نسأل الله تعالى السلامة وحسن العون بلطفه وكرمه إنه على ذلك قدير.

بيان ذم الحرص والطمع

ومدح القناعة واليأس مما في أيدي الناس

اعلم أن الفقر محمود -كما أوردناه في كتاب الفقر- ولكن ينبغي أن يكون الفقير قانعاً منقطع الطمع عن الخلق غير ملتفت إلى ما في أيديهم ولا حريصاً على اكتساب المال كيف كان، ولا يمكنه ذلك إلا بأن يقنع بقدر الضرورة من المطعم والملبس والمسكن، ويقتصر على أقله قدراً وأخسه نوعاً، ويرد أمله إلى يومه أو إلى شهره، ولا يشغل قلبه بما بعد شهر. فإن تشوق إلى الكثير أو طول أمله فاته عز القناعة وتدنس لا محالة بالطمع وذل الحرص، وجره الحرص والطمع إلى مساوئ الأخلاق وارتكاب المنكرات الخارقة للمروءات، وقد جبل الآدمي على الحرص والطمع وقلة القناعة. قال رسول الله ﷺ "لو كان لبن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وعن أبي واقد الليثي قال: كان رسول الله ﷺ إذا أوحىإليه أتيناه بعلمنا مما أوحى إليه، فجئته ذات يوم فقال "إن الله عز وجل يقول: إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو كان لابن آدم واد من ذهب لأحب أن يكون له ثان ولو كان له الثاني لأحب أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب وقال أبو موسى الأشعري: نزلت سورة نحو براءة ثم رفعت وحفظ منها: إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم ولو أن لابن آدم واديين من مال لتمنى وادياً ثالثاً ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب . وقال ﷺ "منهومان لا يشعبان منهوم العلم ومنهوم المال وقال ﷺ "يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الأمل وحب المال" أو كما يقال .

ولما كانت هذه جبلة للآدمي مضلة وغريزة مهلكه أثنى الله تعالى ورسوله على القناعة فقال ﷺ "طوبى لمن هدى للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به وقال ﷺ "ما من أحد فقير ولا غني إلا ود يوم القيامة أن كان أوتى قوتاً في الدنيا وقال ﷺ "ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ونهى عن شدة الحرص والمبالغة في الطلب فقال "أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة وروى أن موسى عليه السلام سأل ربه تعالى فقال: أي عبادك أغنى? قال: أقنعهم مما أعطيته، قال: فأيهم أعدل? قال: من أنصف من نفسه. وقال ابن مسعود: قال رسول الله ﷺ "إن روح القدس نفث في روعى إن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب وقال أبو هريرة: قال لي رسول الله ﷺ "يا أبا هريرة إذا اشتد بك الجوع فعليك برغيف وكوز من ماء وعلى الدنيا الدمار" وقال أبو هريرة رضي الله عنه. قال رسول الله ﷺ "كن ورعاً، تكن أعبد الناس وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً ونهى رسول الله ﷺ عن الطمع فيما رواه أبو أبو أيوب الأنصاري: أن أعرابياً أتى النبي ﷺ فقال" يا رسول الله عظني وأوجز فقال "إذا صليت فصل صلاة مودع ولا تحدثن بحديث تعتذر منه غداً، وأجمع اليأس مما في أيدي الناس وقال عوف بن مالك الأشجعي: كنا عند رسول الله ﷺ -تسعة أو ثمانية أو سبعة- فقال "ألا تبايعون رسول الله" قلنا: أوليس قد بايعناك يا رسول الله? ثم قال "ألا تبايعون رسول الله" فبسطنا أيدينا فبايعناه فقال قائل منا: قد بايعناك فعلى ماذا نبايعك? قال "أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وتصلوا الخمس، وأن تسمعوا وتطيعوا" وأسر كلمة خفية "ولا تسألوا الناس شيئاً قال: فلقد كان بعض أولئك النفر يسقط سوطه فلا يسأل أحداً أن يناوله إياه.

الآثار: قال عمر رضي الله عنه: إن الطمع فقر وإن اليأس غنى وإنه من ييأس عما في أيدي الناس استغنى عنهم وقيل لبعض الحكماء: ما الغنى? قال: قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك، وفي ذلك قيل: العيش ساعـات تـمـر وخطـب أيام تـكـر

أقنع بعيشـك تـرضـه واترك هواك تعيش حر

فلرب حتـف سـاقـه ذهـب وياقـوت ودر

وكان محمد بن واسع يبل الخبز بالماء ويأكل ويقول: من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد. وقال سفيان: خير دنياكم ما لم تبتلوا به وخير ما ابتليتم به ما خرج من أيديكم وقال ابن مسعود: ما من يوم إلا ومسلك ينادى؛ يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك. وقال سميط بن عجلان: إنما بطنك يا بن آدم شبر فلم يدخلك النار? وقيل لحكيم: ما مالك? قال: التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس. ويروى أن الله عز وجل قال: يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت، وإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن. وقال ابن مسعود: إذا طلب أحدكم الحاجة فليطلبها طلباً يسيراً ولا يأتي الرجل فيقول: إنك وإنك فيقطع ظهره، فإنما يأتيه ما قسم له من الرزق أو ما رزق. وكتب بعض بني أمية إلى أبي حازم -يعزم عليه إلا رفع إليه حوائجه- فكتب إليه: قد رفعت حوائجي إلى موالاي فما أعطاني منها قبلت وما أمسك عني قنعت. وقيل لبعض الحكماء: أي شيء أسر للعاقل وإيما شيء أعون على دفع الحزن? فقال: أسرها إليه ما قدم من صالح العمل، وأعونها له على دفع الحزن الرضا بمحتوم القضاء وقال بعض الحكماء: وجدت أطول الناس غماً الحسود، وأهنأهم عيشاً القنوع، وأصبرهم على الأذى الحريص إذ طمع، وأخفضهم عيشاً أرفضهم للدنيا، وأعظمهم ندامة العالم المفرط. وفي ذلك قيل: آرفه ببال فتى أمسى على ثقة أن الذي قسم الأرزاق يرزقه

فالعرض منه مصون لا يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتهـا لم يلق في دهره شيئاً يؤرقه

وقد قيل أيضاً: حتى متى أنـا فـي حـل وتـرحـال وطـول سـعـي وإدبـار إقـبــال

ونازح الدار لا أنـفـك مـغـتـربـاً عن الأحـبة لا يدرون مـا حـالــي

بمشرق الأرض طوراً ثم مغـربـهـا لا يخطر الموت من حرصي على بالي

ولو قنعت أتانـي الـرزق فـي دعـه إن القنوع الغنى لا كـثـرة الـمـال

وقال عمر رضي الله عنه: ألا أخبركم بما أستحل من مال الله تعالى: حلتان لشتائي وقيظي، وما يسعني من الظهر لحجي وعمرتي، وقوتي بعد ذلك كقوت رجل من قريش لست بأرفعهم ولا بأوضعهم، فوالله ما أدري أيحل ذلك أم لا? كأنه شك في أن هذا القدر هل هو زيادة على الكفاية التي تجب القناعة بها? وعاتب أعرابي أخاه على الحرس فقال يا أخي أنت طالب ومطلوب، يطلبك من لا تفوته وتطلب أنت ما قد كفيته، وكأن ما غاب عنك قد كشف لك، وما أنت فيه قد نقلت عنه، كأنك يا أخي لم تر حريصاً محروماً وزاهداً مرزوقاً. وفي ذلك قيل: أراك يزيدك الإثراء حرصاً على الدنيا كأنك لا تمـوت

فهل لك غاية إن صرت يوماً إليها قلت حسبي قد رضيت

وقال الشعبي: حكي أن رجلاً صاد قنبرة فقالت: ما تريد أن تصنع بي? قال: أذبحك وآكلك، قالت: والله ما أشفى من قرم ولا أشبع من جوع ولكن أعلمك ثلاث خصال هي خير لك من أكلي: أما واحدة: فأعلمك وأنا في يدك، وأما الثانية: فإذا صرت على الشجرة، وأما الثالثة: فإذا صرت على الجبل، قال: هات الأولى، قالت: لا تلهفن على ما فاتك، فخلاها فلما صارت على الشجرة قال: هات الثانية: لا تصدقن بما لا يكون أنه يكون، ثم طارت فصارت على الجبل فقالت: يا شقي لو ذبحتني لأخرجت من حوصلتي درتين زنة كل درة عشرون مثقالاً، قال: فعض على شفته وتلهف وقال: هات الثالثة: قالت: أنت قد نسيت اثنتين فكيف أخبرك الثالثة? ألم أقل لك لا تلهفن على ما فاتك ولا تصدقن بما لا يكون أن يكون، أنا لحمي ودمي وريش لا يكون عشرين مثقالاً فكيف يكون في حوصلتي درتان كل واحدة عشرون مثقالاً? ثم طارت فذهبت. وهذا مثال لفرط طمع الآدمي فإنه يعميه عن درك الحق حتى يقدر ما لا يكون أنه يكون. وقال ابن السماك: إن الرجاء حبل في قلبك وقيد في رجلك فأخرج الرجاء من قلبك يخرج القيد من رجلك. وقال أبو محمد اليزيدي: دخلت على الرشيد فوجدته ينظر في ورقة مكتوب فيها بالذهب، فلما رآني ابتسم، فقلت: فائدة أصلح الله أمير المؤمنين? قال: نعم وجدت هذين البيتين في بعض خزائن بني أمية فاستحسنتهما وقد أضفت إليهما ثالثاً. وأنشدني:

إذا سد باب عنك من دون حاجة فدعه لأخرى ينفتح لك بابـهـا

فإن قراب البطن يكفيك ملـؤه ويكفيك سوءات الأمور اجتنابها

ولا تك مبذالاً لعرضك واجتنب ركوب المعاصي يجتنبك عقابها

وقال عبد الله بن سلام لكعب: ما يذهب العلوم من قلوب العلماء إذ وعوها وعقلوها? قال: الطمع وشره النفس وطلب الحوائج. وقال رجل للفضيل: فسر لي قول كعب، قال: يطمع الرجل في الشيء يطلبه فيذهب عليه دينه، وأما الشره فشره النفس في هذا حتى لا تحب أن يفوتها شيء، ويكون لك إلى هذا حاجة وإلى هذا حاجة فإذا قضاها لك خرم أنفك وقادك حيث شاء واستمكن منك وخضعت له. فمن حبك للدنيا سلمت عليه إذا مررت به وعدته إذا مرض؛ لم تسلم عليه لله عز وجل ولم تعده لله، فلو لم يكن لك إليه حاجة كان خيراً لك. ثم قال: هذا خير لك من مائة حديث عن فلان عن فلان. قال بعض الحكماء: من عجيب أمر الإنسان أنه لو نودي بدوام البقاء في أيام الدنيا لم يكن في قوى خلقته من الحرص على الجمع أكثر مما قد استعمله مع قصر مدة التمتع وتوقع الزوال. وقال عبد الواحد بن زيد: مررت براهب فقلت له: من أين تأكل? قال: من بيدر اللطيف الخبير، الذي خلق الرحا يأتيها بالطحين -وأومأ بيده إلى رحل أضراسه- فسبحان القدير الخبير.

بيان علاج الحرص والطمع

والدواء الذي يكتسب به صفة القناعة

اعلم أن هذا الدواء مركب من ثلاثة أركان: الصبر والعلم والعمل، ومجموع ذلك خمسة أمور: الأول: وهو العمل؛ الاقتصاد في المعيشة والرفق في الإنفاق، فمن أراد عز القناعة فينبغي أن يسد عن نفسه أبواب الخروج ما أمكنه ويرد نفسه إلا ما لا بد له منه، فمن كثر خرجه واتسع إنفاقه لم تمكنه القناعة، بل إن كان وحده فينبغي أن يقنع بثوب واحد خشن، ويقنع بأي طعام كان؛ ويقلل من الإدم ما أمكنه، ويوطن نفسه عليه وإن كان له عيال فيرد كل واحد إلى هذا القدر؛ فإن هذا القدر يتيسر بأدنى جهد. ويمكن معه الإجمال في الطلب والاقتصاد في المعيشة وهو الأصل في القناعة؛ ونعني به الرفق في الإنفاق وترك الخرق فيه، قال رسول الله ﷺ "إن الله يحب الرفق الأمر كله" وقال ﷺ "ما عال من اقتصد وقال ﷺ "ثلاث منجيات؛ خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، والعدل في الرضا والغضب وروي أن رجلاً أبصر أبا الدرداء يلتقط حباً من الأرض وهو يقول: إن من فقهك رفقك في معيشتك. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال النبي ﷺ "الاقتصاد وحسن السمت والهدى الصالح جزء من بضع وعشرين جزءاً من النبوة .

وفي الخبر "التدبير نصف المعيشة وقال ﷺ "من اقتصد أغناه الله ومن بذر أفقره الله ومن ذكر الله عز وجل أحبه الله وقال ﷺ "إذا أردت أمراً فعليك بالتؤدة حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً والتؤدة في الإنفاق من أهم الأمور.

الثاني: أنه إذا تيسر له في الحال ما يكفيه فلا ينبغي أن يكون شديد الاضطراب لأجل المستقبل، ويعينه على ذلك قصر الأمل، والتحقق بأن الرزق الذي قدر له لا بد وأن يأتيه وإن لم يشتد حرصه، فإن شدة الحرص ليست هي السبب لوصول الأرزاق، بل ينبغي أن يكون واثقاً بوعد الله تعالى إذ قال عز وجل "وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها" وذلك لأن الشيطان يعده الفقر ويأمره بالفحشاء ويقول: إن لم تحرص على الجمع والادخار فربما تمرض وربما تعجز وتحتاج إلى احتمال الذل في السؤال، فلا يزال طول العمر يتعبه في الطلب خوفاً من الفقر، ويضحك عليه في احتماله التعب نقداً مع الغفلة عن الله لتوهم تعب في ثاني الحال وربما لا يكون وفي مثله قيل: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل: الفقـر

وقد دخلا ابنا خالد على رسول الله ﷺ فقال لهما، "لا تيأسا من الرزق ما تهزهزت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر ثم يرزقه الله تعالى ومر رسول الله ﷺ بابن مسعود وهو حزين فقال له "لا تكثر همك ما قدر يكن وما ترزق يأتك وقال ﷺ "ألا أيها الناس أجملوا في الطلب فإنه ليس لعبد إلا ما كتب له ولن يذهب عبد من الدنيا حتى يأتيه ما كتب له من الدنيا وهي راغمة ولا ينفك الإنسان عن الحرص إلا بحسن ثقته بتدبير الله تعالى في تقدير أرزاق العباد، وأن ذلك يحصل لا محالة مع الإجمال في الطلب، بل ينبغي أن يعلم أن رزق الله للعبد من حيث لا يحتسب أكثر قال الله تعالى "ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب" فإذا انسد عليه الباب كان ينتظر الرزق منه فلا ينبغي أن يضطرب قلبه لأجله، وقال ﷺ "أبى الله أن يرزق عبده المؤمن إلا من حيث لا يحتسب وقال سفيان: اتق الله فما رأيت تقياً محتاجاً. أي لا يترك التقى فاقداً لضرورته، بل يلقى الله في قلوب المسلمين أن يوصلوا إليه رزقه. وقال المفضل الضبي: قلت لأعرابي من أين معاشك? قال نذر الحاج، قلت: فإذا صدروا، فبكى وقال: لو لم نعش إلا من حيث ندري لم نعش. وقال أبو حازم رضي الله عنه: وجدت الدنيا شيئين: شيئاً منهما هو لي، فيما أعجله قبل وقته ولو طلبته بقوة السماوات والأرض. وشيئاً منهما هو لغيري فلذلك لم أنله فيما مضى فلا أرجوه فيما بقى، يمنع الذي لغيري مني كما يمنع الذي لي من غيري، ففي أي هذين أفني عمري? فهذا دواء من جهة المعرفة لا بد منه لدفع تخويف الشيطان. وإنذاره بالفقر.

الثالث: أن يعرف ما في القناعة من عز الاستغناء وما في الحرص والطمع من الذل، فإذا تحقق عنده ذلك انبعث رغبته إلى القناعة لأنه في الحرص لا يخلو من تعب، وفي الطمع لا يخلو من ذل. وليس في القناعة إلا ألم الصبر عن الشهوات والفضول. وهذا ألم لا يطلع عليه أحد إلا الله وفيه ثواب الآخرة. وذلك مما يضاف إليه نظر الناس وفيه الوبال والمأثم. ثم يفوته عز النفس والقدرة على متابعة الحق فإن من كثر طمعه وحرصه كثرت حاجته إلى الناس فلا يمكنه دعوتهم إلى الحق ويلزمه المداهنة، وذلك يهلك دينه ومن لا يؤثر عز النفس على شهوة البطن فهو ركيك العقل ناقص الإيمان، قال ﷺ "عز المؤمن استغناؤه عن الناس ففي القناعة الحرية والعز. ولذلك قيل: استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره وأحسن إلى من شئت تكن أميره.

الرابع: أن يكثر تأمله في تنعم اليهود والنصارى وأراذل الناس والحمقى من الأكراد والأعراب الأجلاف ومن لا دين لهم ولا عقل. ثم ينظر إلى أحوال الأنبياء والأولياء وإلى سمت الخلفاء الراشدين وسائر الصحابة والتابعين ويستمع أحاديثهم ويطالع أحوالهم. ويخير عقله بين أن يكون على مشابهة أراذل الناس أو على الاقتداء بمن هو أعز أصناف الخلق عند الله، حتى يهون عليه بذلك الصبر على الضنك والقناعة باليسير، فإنه إن تنعم في البطن فالحمار أكثر أكلاً منه وإن تنعم في الوقاع فالخنزير أعلى رتبة منه، وإن تزين في الملبس والحلي ففي اليهود من هو أعلى رتبة منه، وإن قنع بالقليل ورضي به لم يساهمه في رتبته إلا الأنبياء والأولياء.

الخامس: أن يفهم ما في جمع المال من الخطر -كما ذكرنا في آفات المال- وما فيه من خوف السرقة والنهب والضياع؛ وما في خلو اليد من الأمن والفراغ، ويتأمل ما ذكرناه في آفات المال مع ما يفوته من المدافعة عن باب الجنة إلى خمسمائة عام، فإنه إذا لم يقنع مما يكفيه ألحق بزمرة الأغنياء وأخرج من جريدة الفقراء. ويتم ذلك بأن ينظر أبداً إلى من دونه في الدنيا لا إلى من فوقه، فإن الشيطان أبداً يصرف نظره في الدنيا إلى من فوقه فيقول: لم تفتر عن الطلب وأرباب الأموال يتنعمون في المطاعم والملابس? ويصرف نظره في الدين إلى من دونه فيقول: ولم تضيق على نفسك وتخاف الله وفلان أعلم منك وهو لا يخاف الله? والناس كلهم مشغولون بالتنعم فلم تريد أن تتميز عنهم? قال أبو ذر: أوصاني خليلي صلوات الله عليه أن أنظر إلى من هو دوني لا إلى من هو فوقي أي في الدنيا. وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "إذا نظر أحدكم إلى من فضله الله عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه فبهذه الأمور يقدر على اكتساب خلق القناعة. وعماد الأمر الصبر وقصر الأمل، وأن يعلم أن غاية صبره في الدنيا أيام قلائل للتمتع دهراً طويلاً، فيكون كالمريض الذي يصبر على مرارة الدواء لشدة طعمه في انتظار الشفاء.

بيان فضيلة السخاء

اعلم أن المال إن كان مفقوداً فينبغي أن يكون حال العبد القناعة وقلة الحرص، وإن كان موجوداً فينبغي أن يكون حاله الإيثار والسخاء واصطناع المعروف والتباعد عن الشح والبخل، فإن السخاء من أخلاق الأنبياء عليهم السلام وهو أصل من أصول النجاة. وعنه عبر النبي ﷺ حيث قال "السخاء شجرة من شجر الجنة أغصانها متدلية إلى الأرض فمن أخذ بغصن منها قاده ذلك الغصن إلى الجنة وقال جابر. قال رسول الله ﷺ "قال جبريل عليه السلام. قال الله تعالى إن هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما استطعتما وفي رواية "فأكرموه بهما ما صحبتموه" وعن عائشة الصديقية رضي الله عنها قال. قال رسول الله ﷺ "ما جبل الله تعالى ولياً له إلا على حسن الخلق والسخاء وعن جابر قال. قيل يا رسول الله أي الأعمال أفضل? قال "الصبر والسماحة وقال عبد الله بن عمرو. قال رسول الله ﷺ "خلقان يحبهما الله عز وجل وخلقان يبغضهما الله عز وجل، فأما اللذان يحبهما الله تعالى فحسن الخلق والسخاء، وأما اللذان يبغضهما الله فسوء الخلق والبخل، وإذا أراد الله بعبد خيراً استعمله في قضاء حوائج الناس وروى المقدام بن شريح عن أبيه عن جده قلت يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة قال "إن موجبات المغفرة بذل الطعام وإفشاء السلام وحسن الكلام وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ "السخاء شجرة في الجنة فمن كان سخياً أخذ بغصن منها فلم يتركه ذلك الغصن حتى يدخله الجنة وقال أبو سعيد الخدري. قال النبي ﷺ "يقول الله تعالى أطلبوا الفضل من الرحماء من عبادي تعيشوا في أكنافهم فإني جعلت فيهم رحمتي، ولا تطلبوه من القاسية قلوبهم فإني جعلت فيهم سخطي وعن ابن عباس قال. قال رسول الله ﷺ "تجافوا عن ذنب السخي فإن الله أخذ بيده كلما عثر وقال ابن مسعود قال ﷺ "الرزق إلى مطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير وإن الله تعالى لباهى بمطعم الطعام الملائكة عليهم السلام وقال ﷺ "إن الله جواد يحب الجود ويحب مكارم الأخلاق ويكرف سفسافها وقال أنس. إن رسول الله ﷺ لم يسأل على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، وأتاه رجل فسأله فأمر له بشاء كثير بين جبلين من شاء الصدقة، فرجع قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخاف الفاقة وقال ابن عمر: قال صلى الله عليهوآله وسلم "إن لله عباداً يخصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن يخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره وعن الهلالي قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأسرى من بني العنبر فأمر بقتلهم وأفرد منهم رجلاً، فقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: يا رسول الله الرب واحد والدين واحد والذنب واحد فما بال هذا من بينهم? فقال صلى الله عليه وآله وسلم "نزل علي جبريل فقال "اقتل هؤلاء واترك هذا فإن الله تعالى شكر له سخاء فيه وقال صلى الله عليه وآله وسلم "إن لكل شيء ثمرة وثمرة المعروف تعجيل السراح وعن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ "طعام الجواد دواء وطعام البخيل داء وقال ﷺ "من عظمن نعمة الله عنده عظمت مؤنة الناس عليه فمن لم يحتمل تلك المؤنة عرض تلك النعمة للزوال. وقال عيسى عليه السلام: استكثروا من شيء لا تأكله النار، وقيل: وما هو? قال: المعروف. وقالت عائشة رضي الله عنها. قال رسول الله ﷺ "الجنة دار الأسخياء وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم "إن السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد عن النار، وإن البخيل بعيد من الله من الناس بعيد من الجنة قريب من النار، وجاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل، وأدوأ الداء البخل وقال ﷺ "اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى من ليس بأهله، فإن أصبت أهله فقد أصبت أهله، وإن لم تصب أهله فأنت من أهله وقال صلى الله تعالى عليه وسلم "إن بدلاء أمتي لم يدخلوا الجنة بصلاة ولا صيام ولكن دخلوها بسخاء الأنفس وسلامة الصدور والنصح للمسلمين وقال أبو سعيد الخدري: قال رسول الله ﷺ "إن الله عز

وجل جعل للمعروف وجوهاً من خلقه حبب إليهم المعروف وحبب إليهم فعاله ووجه طلاب المعروف إليهم ويسر عليهم إعطاءه كما يسر الغيث إلى البلدة الجدية فيحييها ويحيي به أهلها وقال ﷺ "كل معروق صدقة وكل ما أنفق الرجل على نفسه وأهله كتب له صدقة وما وقى به الرجل عرضه فهو له صدقة وما أنفق الرجل من نفقة فعلى الله خلفها وقال ﷺ "كل معروف فعلته إلى غني أو فقير صدقة وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام لا تقتل السامري فإنه سخي وقال جابر: بعث رسول الله ﷺ بعثاً عليهم قيس بن سعد بن عبادة فجهدوا فنحر لهم قيس تسع ركائب فحدثوا رسول الله ﷺ بذلك فقال ﷺ "إن الجود لمن شيمة أهل ذلك البيت . الآثار: قال علي كرم الله وجهه: إذا أقبلت عليك الدنيا فأنفق منها فإنها لا تفنى، وإذا أدبرت عليك فأنفق منها فإنها لا تبقى وأنشد: لا تبخلن بدنيا وهي مـقـبـلة فليس ينقصها التبذير والسرف

وإن تولت فأحرى أن تجود بها فالحمد منها إذا ما أدبرت خلف

وسأل معاوية الحسن بن علي رضي الله عنهم عن المروءة والنجدة والكرم فقال: أما المروءة فحفظ الرجل دينه وحذره نفسه وحسن قيامه بضيفه وحسن المنازعة والأقدام في الكراهية. وأما النجد فالذب عن الجار والصبر في المواطن وأما الكرم فالتبرع بالمعروف قبل السؤال والإطعام في المحل والرأفة بالسائل مع بذل النائل. ورفع رجل إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما رقعة فقال حاجتك مقضية فقيل له يا ابن رسول الله لو نظرت في رقعته ثم رددت الجواب على قدر ذلك فقال يسألني الله عز وجل عن ذل مقامه بين يدي حتى أقرأ رقعته. وقال ابن السماك عجبت لمن يشتري المماليك بماله ولا يشتري الأحرار بمعروفه. وسئل بعض الأعراب من سيدكم فقال من احتمل شتمنا وأعطى سائلنا وأغضى عن جاهلنا وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما من وصف ببذل ماله لطلابه لم يكن سخياً وإنما السخي من يبتدئ بحقوق الله تعالى في أهل طاعته ولا تنازعه نفسه إلى حب الشكر له إذا كان يقينه بثواب الله تعالى تاماً. وقيل للحسن البصري ما السخاء? فقال أن تجود بمالك في الله عز وجل. قيل فما الحزم? قال أن تمنع مالك فيه قيل فما الإسراف? قال الإنفاق لحب الرياسة. وقال جعفر الصادق رحمة الله عليه لا مال أعون من العقل ولا مصيبة أعظم من الجهل ولا مظاهرة كالمشاورة ألا وإن الله عز وجل يقول: إني جواد كريم لا يجاورني لئيم واللؤم من الكفر وأهل الكفر في النار والجود والكرم من الإيمان وأهل الإيمان في الجنة. وقال حذيفة رضي الله عنه رب فاجر في دينه أخرق في معيشته يدخل الجنة بسماحته. وروي أن الأحنف بن قيس رأى رجلاً في يده درهم فقال لمن هذا الدرهم فقال لي فقال أما إنه ليس لك حتى يخرج من يدك وفي معناه قيل: أنت للمال إذا أمسكته فإذا أنفقته فالمال لك

وسمي واصل بن عطاء: الغزال، لأنه كان يجلس إلى الغزلين؛ فإذا رأى امرأة ضعيفة أعطاها شيئاً. وقال الأصمعي كتب الحسن بن علي إلى الحسين بن علي رضوان الله عليهم يعتب عليه في إعطاء الشعراء فكتب إليه خير المال ما وقي به العرض. وقيل لسفيان بن عيينة ما السخاء? قال السخاء البر بالإخوان والجود بالمال. قال وورث أبي خمسين ألف درهم فبعث بها صرراً إلى إخوانه. وقال قد كنت أسأل الله تعالى لإخواني الجنة في صلاتي أفأبخل عليهم بالمال? وقال الحسن بذل المجهود في بذل الموجود منتهى الجود. وقيل لبعض الحكماء من أحب الناس إليك? قال: من كثرت أياديه عندي، قيل: فإن لم يكن، قال من كثرت أيادي عنده. وقال عبد العزيز بن مروان إذا الرجل أمكنني من نفسه حتى أضع معروف عنده فيده عندي مثل يدي عنده. وقال المهدي لشبيب بن شبة كيف رأيت الناس في داري? فقال يا أمير المؤمنين إن الرجل منهم ليدخل راجياً ويخرج راضياً وتمثل متمثل عند عبد الله بن جعفر فقال: إن الصنيعة لا تكون صـنـيعة حتى يصاب بها طريق المصنع

فإذا اصطنعت صنيعة فاعمد بها لله أو لـذوي الـقـرابة أو دع

فقال عبد الله بن جعفر إن هذين البيتين ليبخلان الناس، ولكن أمطر المعروف مطراً، فإن أصاب الكرام كانوا له أهلاً وإن أصاب اللئام كنت له أهلاً.

حكايات الأسخياء

عن محمد بن المنكدر عن أم درة -وكانت تخدم عائشة رضي الله عنها- قالت إن معاوية بعث إليها بمال في غرارتين ثمانين ومائة ألف درهم، فدعت بطبق فجعلت تقسمه بين الناس، فلما أمست قالت يا جارية هلم فطوري فجاءتها بخبز وزيت فقالت لها أم درة. ما استطعت فيما قسمت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه? فقالت: لو كنت ذكرتيني لفعلت.

وعن أبان بن عثمان قال أراد رجل أن يضار عبيد الله بن عباس فأتى وجوه قريش فقال يقول لكم عبيد الله تغدوا عندي اليوم، فأتوه حتى ملئوا عليه الدار، فقال ما هذا? فأخبر الخبر، فأمر عبيد الله بشراء فاكهة، وأمر قوماً فطبخوا وخبزوا، وقدمت الفاكهة إليهم فلم يفرغوا منها حتى وضعت الموائد فأكلوا حتى صدروا، فقال عبيد الله لوكلائه أو موجود لنا هذا كل يوم? قالوا: نعم، قال فليتغد عندنا هؤلاء في كل يوم.

وقال مصعب بن الزبير حج معاوية فلما انصرف مر بالمدينة، فقال الحسين بن علي لأخيه الحسن لا تلقه ولا تسلم عليه، فلما خرج معاوية، قال الحسن إن علينا ديناً فلا بد لنا من إتيانه فركب في أثره ولحقه فسلم عليه وأخبره بدينه، فمروا عليه ببخي عليه ثمانون ألف دينار وقد أعيا وتخلف عن الإبل وقوم يسوقونه، فقال معاوية ما هذا? فذكر له، فقال اصرفوه بما عليه إلى أبي محمد.

وعن واقد بن محمد الواقدي قال حدثن يأبي أنه رفع رقعة إلى المأمون يذكر فيها كثرة الدين وقلة صبره عليه، فوقع المأمون على ظهر رقعته إنك رجل اجتمع فيك خصلتان، السخاء والحياء، فأما السخاء فهو الذي أطلق ما في يديك، وأما الحياء فهو الذي يمنعك عن تبليغنا ما أنت عليه، وقد أمرت لك بمائة ألف درهم فإن كنت قد أصبت فازدد في بسط يدك، وإن لم أكن قد أصبت فجنايتك على نفسك. وأنت حدثتني وكنت على قضاء الرشيد؛ عن محمد بن إسحاق عن الزهري عن أنس: أن النبي ﷺ قال للزبير بن العوام "يا زبير اعلم أن مفاتيح أرزاق العباد بإزاء العرش يبعث الله عز وجل إلى كل عبد بقدر نفقته، فمن كثر كثر له، ومن قلل قلل له وأنت أعلم قال الواقدي: فوالله لمذاكرة المأمون إياي بالحديث أحب إلى من الجائزة وهي مائة ألف درهم.

وسأل رجل الحسن بن علي رضي الله عنهما حاجة فقال له: يا هذا حق سؤالك إياي يعظم لدي ومعرفتي بما بحب لك تكبر علي، ويدي تعجز عن نيلك بما أنت أهله، والكثير في ذات الله تعالى قليل، وما في ملكي وفاه لشكرك، فإن قبلت الميسور ورفعت عني مؤنة الاحتمال والاهتمام لما أتكلفه من واجب حقك فعلت، فقال: يا ابن رسول الله أقبل وأشكر العطية، وأعذر علي المنع، فدعا الحسن بوكيله وجعل يحاسبه على نفقاته حتى استقصاها فقال: هات الفضل من الثلثمائة ألف درهم، فأحضر خمسين ألفاً قال: فما فعلت بالخمسمائة دينار? قال: هي عندي، قال أحضرها، فأحضرها فدفع الدنانير والدراهم إلى الرجل وقال: هات من يحملها لك، فأتاه بحمالين فدفع إليه الحسن رداءه لكراء الحملين، فقال له مواليه: والله ما عندنا درهم! فقال: أرجو أن يكون لي عند الله أجر عظيم.

واجتمع قراء البصرة إلى ابن عباس وهو عامل بالبصرة فقالوا: لنا جار صوام قوام يتمنى كل واحد منا أن يكون مثله، وقد زوج بنته من ابن أخيه وهو فقير وليس عنده ما يجهزها به، فقام عبد الله بن عباس فأخذ بأيديهم وأدخلها داره وفتح صندوقاً فأخرت من ست بدر فقال: احملوا، فحملوا فقال: ابن عباس ما أنصفناه أعطيناه ما يشغله عن قيامه وصيامه، ارجعوا بنا نكن أعوانه على تجهيزها فليس للدنيا من القدر ما يشغل مؤمناً عن عبادة ربه، وما بنا من الكبر ما لا نخدم أولياء الله تعالى ففعل وفعلوا.

وحكي أنه لما أجدب الناس بمصر وعبد الحميد بن سعد أميرهم فقال: والله لأعلمن الشيطان أني عدوه؛ فعال محاويجهم إلى أن رخصت الأسعار، ثم عزل عنهم فرحل وللتجار عليه ألف ألف درهم، فرهنهم بها حلي نسائه وقيمتها خمسمائة ألف ألف، فلما تعذر عليه ارتجاعها كتب إليهم ببيعها ودفع الفاضل منها عن حقوقهم إلى من لم تنله صلاته.

وكان أبو طاهر بن كثير شيعياً فقال له رجل. بحق عليبن أبي طالب لما وهب لي نخلتك بموضع كذا وكذا، فقال: قد فعلت، وحقه لأعطينك ما يليها، وكان ذلك أضعاف ما طلب الرجل.

وكان أبو مرثد أحد الكرماء فمدحه بعض الشعراء فقال للشاعر: والله ما عندي ما أعطيك ولكن قدمني إلى القاضي وادع علي بعشرة آلاف درهم حتى أقر لك بها ثم احبسني، فإن أهلي لا يتركوني محبوساً، ففعل ذلك فلم يمس حتى دفع إليه عشرة آلاف درهم وأخرج أبو مرثد من الحبس.

وكان معن بن زائدة عاملاً على العراقين بالبصرة فحضر بابه شاعر فأقام مدة وأراد الدخول على معن فلم يتهيأ له فقال يوماً لبعض خدام معن: إذا دخل الأمير البستان فعرفني، فلما دخل الأمير البستان أعلمه، فكتب الشاعر بيتاً على خشبة وألقاها في الماء الذي يدخل البستان وكان معن على رأس المال فلما بصر بالخشبة أخذها وقرأها فإذا مكتوب عليها: أيا جود معن ناج معنا بحاجتي فما لي إلى معن سواك شفيع

فقال: من صاحب هذه? فدعي بالرجل، فقال له: كيف قلت? فقال له، فأمر له بعشر بدر، فأخذها ووضع الأمير الخشية تحت بساطه، فلما كان اليوم الثاني أخرجها من تحت البساط وقرأها ودعا بالرجل فدفع إليه مائة ألف درهم، فلما أخذها الرجل تفكر وخاف أن يأخذ منه ما أعطاه فخرج، فلما كان في اليوم الثالث قرأ ما فيها ودعا بالرجل فطلب فلم يوجد فقال معن: حق علي أن أعطيه حتى لا يبقى في بيت مالي ولا دينار.

وقال أبو الحسن المدائني: خرج الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر حجاجاً ففاتهم أثقالهم فجاعوا وعطشوا، فمروا بعجوز في خباء لها فقالوا: هل من شراب? فقالت نعم، فأناخوا إليها وليس لها إلا شويهة في كسر الخيمة فقالت: احلبوها وامتذقوا لبنها. ففعلوا ذلك ثم قالوا لها: هل من طعام? قالت: لا، إلا هذه الشاة فليذبحها أحدكم حتى أهيئ لكم ما تأكلون، فقام إليها أحدهم وذبحها وكشطها ثم هيأت لهم طعاماً فأكلوا وأقاموا حتى أبردوا فلما ارتحلوا قالوا لها: نحن نفر من قريش نريد هذا الوجه، فإذا رجعنا سالمين فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً ثم ارتحلوا وأقبل زوجها فأخبرته بخبر القوم والشاة فغضب الرجل وقال: ويلك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم، ثم تقولين نفر من قريش? قال: ثم بعد مدة ألجأتهما الحاجة إلى دخول المدينة، فدخلاها وجعلا ينقلان البعر إليها ويبيعانه ويتعيشان بثمه، فمرت العجوز ببعض سكك المدينة، فإذا الحسن بن علي جالس على باب داره فعرف العجوز وهي له منكرة، فبعث غلامه فدعا بالعجوز وقال لها: يا أمة الله أتعرفيني? قالت: لا، قال: أنا ضيفك يوم كذا ويوم كذا، فقالت العجوز: بأبي أنت وأمي أنت هو? قال: نعم. ثم أمر الحسن فاشتروا لها من شياه الصدقة ألف شاة، وأمر لها معها بألف دينار، وبعث بها مع غلامه إلى الحسين فقال لها الحسين: بكم وصلك أخي? قالت: بألف شاة وألف دينار، فأمر لها الحسين أيضاً بمثل ذلك ثم بعث بها مع غلامه إلى عبد الله بن جعفر، فقال لها بكم وصلك الحسن والحسين? قالت: بألفي شاة وألفي دينار، فأمر لها عبد الله بألفي شاة وألفي دينار، وقال لها: لو بدأت بي لأتعبتهما، فرجعت العجوز إلى زوجها بأربعة آلاف شاة وأربعة آلاف دينار.

وخرج عبد الله بن عامر بن كريز من المسجد يريد منزله وهو وحده، فقام إليه غلام من ثقيف فمشى إلى جانبه فقال له عبد الله: ألك حاجة يا غلام? قال: صلاحك وفلاحك رأيتك تمشي وحدك فقلت أقيك بنفسي وأعوذ بالله إن طار بجنابك مكروه، فأخذ عبد الله بيده ومشى معه إلى منزله، ثم دعا بألف دينار فدفعها إلى الغلام وقال: استنفق هذه فنعم ما أدبك أهلك.

وحكي أن قوماً من العرب جاءوا إلى قبر بعض أسخيائهم للزيارة، فنزلوا عند قبره وباتوا عنده وقد كانوا جاءوا من سفر بعيد؛ فرأى رجل منهم في النوم صاحب القبر وهو يقول له: هل لك أن تبادل بعيرك بنجيبي? وكان السخي الميت قد خلف نجيباً معروفاً به، ولهذا الرجل بعير سمين، فقال له في النوم: نعم، فباعه في النوم بعيره بنجيبه، فملا وقع بينهما العقد عمد هذا الرجل إلى بعيره فنحره في النوم، فانتبه الرجل من نومه فإذا الدم يثج من نحر بعيره، فقام الرجل فنحره وقسم لحمه فطبخوه وقضوا حاجتهم منه ثم رحلوا وساروا، فلما كان اليوم الثاني وهم في الطريق استقبلهم ركب، فقال رجل منهم: من فلان بن فلان منكم? -باسم ذلك الرجل- فقال: أنا، فقال له هل بعث من فلان بن فلان شيئاً? وذكر الميت صاحب القبر، قال: نعم بعث بعيري بنجيبه في النوم، فقال: خذ هذا نجيبه، ثم قال: هو أبي وقد رأيته في النوم وهو يقول: إن كنت ابني فادفع نجيبي إلى فلان بن فلان وسماه.

وقدم رجل من قريش من السفر فمر برجل من الأعراب على قارعة الطريق قد أقعده الدهر وأضر به المرض، فقال: يا هذا أعنا على الدهر فقال الرجل لغلامه: ما بقي معك من النفقة فادفعه إليه، فصب الغلام في حجر الأعرابي أربعة آلاف درهم، فذهب لينهض فلم يقدر من الضعف، فبكى فقال له الرجل ما يبكيك لعلك استقللت ما أعطيناك? قال: لا، ولكن ذكرت ما تأكل الأرض من كرمك فأبكاني.

واشترى عبد الله بن عامر من خالد بن عقبة بن أبي معيط داره في السوق بتسعين ألف درهم، فلما كان الليل سمع بكاء أهل خالد فقال لأهله: ما لهؤلاء? قالوا يبكون لدارهم، فقال يا غلام ائتهم فأعلمهم أن المال والدار لهم جميعاً.

وقيل بعث هارون الرشيد إلى مالك بن أنس رحمه الله بخمسمائة دينار، فبلغ ذلك الليث بن سعد فأنفذ إليه ألف دينار، فغضب هارون وقال أعطيته خمسمائة وتعطيه ألفاً وأنت من رعيتي? فقال يا أمير المؤمنين إن لي من غلتي كل يوم ألف دينار؛ فاستحييت أن أعطى مثل أقل من دخل يوم. وحكي أنه لم تجب عليه الزكاة مع أن دخله كل يوم ألف دينار. وحكي أن امرأة سألت الليث بن سعد رحمة الله عليه شيئاً من عسل، فأمر لها بزق من عسل، فقيل له إنها كانت تقنع بدون هذا? فقال: إنها سألت على قدر حاجتها ونحن نعطيها على قدر النعمة علينا. وكان الليث ابن سعد لا يتكلم كل يوم حتى يتصدق على ثلثمائة وستين مسكيناً.

وقال الأعمش: اشتكت شاة عندي فكان خيثمة بن عبد الرحمن يعودها بالغداة والعشي ويسألني هل استوفت علفها? وكيف صبر الصبيان منذ فقدوا لبنها? وكان تحت لبد أجلس عليه فإذا خرج قال: خذ ما تحت اللبد، حتى وصل إلي في علة الشاة أكثر من ثلثمائة دينار من بره حتى تمنيت أن الشاة لم تبرأ.

وقال عبد الملك بن مروان لأسماء بن خارجة: بلغني عنك خصال فحدثني لها، فقال: هي من غيري أحسن منها مني، فقال: عزمت عليك إلا حدثتني بها? فقال: يا أمير المؤمنين ما مددت رجلي بين يدي جليس لي قط، ولا صنعت طعاماً قد فدعوت عليه قوماً إلا كانوا أمن علي مني عليهم، ولا نصب لي رجل وجهه قط يسألني شيئاً فاستكثرت شيئاً أعطيته إياه.

ودخل سعيد بن خالد على سليمان بن عبد الملك وكان سعيد رجلاً جواداً فإذا لم يجد شيئاً كتب لمن سأله صكاً على نفسه حتى يخرج عطاؤه، فلما نظر إليه سليمان تمثل بهذا البيت فقال: إني سمعت مع الصباح منـاديا يا من يعين على الفتى المعوان

ثم قال: ما حاجتك? قال: ديني، قال: وكم هو? قال: ثلاثون ألف درهم، قال: لك دينك ومثله.

وقيل مرض قيس بن سعد بن عبادة فاستبطأ إخوانه فقيل لهم: إنهم يستحيون مما لك عليهم من الدين، فقال: أخزي الله ما لا يمنع الإخوان من الزيارة، ثم أمر منادياً فنادى من كان عليه لقيس بن سعد حق فهو منه بريء، قال: فانكسرت درجته بالعشي لكثرة من زاره وعاده.

وعن أبي إسحاق قال: صليت العصر في مسجد الأشعث بالكوفة أطلب غريماً لي، فلما صليت وضع بين يدي حلة ونعلان، فقلت: لست أهل هذا المسجد، فقالوا: إن الأشعث بن قيس الكندي قدم البارحة من مكة فأمر لكل من صلى في المسجد بحلة ونعلين.

وقال الشيخ أبو سعد الحركوشي النيسابوري رحمه الله: سمعت محمد بن محمد الحافظ يقول، سمعت الشافعي المجاور بمكة يقول: كان بمصر رجل عرف بأن يجمع للفقراء شيئاً، فولد لبعضهم مولود قال: فجئت إليه وقلت له: ولد لي مولود وليس معي شيء فقام معي ودخل على جماعة فلم يفتح بشيء، فجاء إلى قبر رجل وجلس عنده وقال: رحمك الله كنت تفعل وتصنع وإني درت اليوم على جماعة فكلفتهم دفع شيء لمولود فلم يتفق لي شيء، قال: ثم قام وأخرج ديناراً وقسمه نصفين وناولني نصفه، وقال: هذا دين عليك إلى أن يفتح الله عليك بشيء، قال: فأخذته وانصرفت فأصلحت ما اتفق لي به قال: فرأى ذلك المحتسب تلك الليلة ذلك الشخص في منامه فقال: سمعت جميع ما قلت وليس لنا إذن في الجواب، ولكن أحضر منزلي وقل لأولادي يحفروا مكان الكانون يخرجوا قرابة فيها خمسمائة دينار فاحملها إلى هذا الرجل فلما كان من الغد تقدم إلى منزل الميت وقص عليهم القصة فقالوا له: اجلس وحفروا الموضع وأخرجوا الدنانير وجاءوا بها فوضعوها بين يديه، فقال: هذا مالكم وليس لرؤياي حكم، فقالوا: هو يتسخى ميتاً ولا نتسخى نحن أحياء? فلما ألحوا عليه حمل الدنانير إلى رجل صاحب المولود وذكر له القصة، قال: فأخذ منها ديناراً فكسره نصفين فأعطاه النصف الذي أقرضه وحمل النصف الآخر، وقال: يكفيني هذا وتصدق به على الفقراء، فقال أبو سعيد: فلا أدري أي هؤلاء أسخى?

وروي أن الشافعي رحمه الله لما مرض مرض موته بمصر قال: مروا فلاناً يغسلني، فلما توفي بلغه خبر وفاته فحضر وقال: ائتوني بتذكرته، فأتي بها فنظر فيها فإذا على الشافعي سبعون ألف درهم دين، فكتبها على نفسه وقضاها عنه، وقال هذا غسلي إياه؛ أي أراد به هذا. وقال أبو سعيد الواعظ الحركوشي لما قدمت مصر طلبت منزل ذلك الرجل فدلوني عليه، فرأيت جماعة من أحفاده وزرتهم فرأيت فيهم سيما الخير وآثار الفضل فقلت بلغ أثره في الخير إليهم وظهرت بركته فيهم مستدلاً بقوله تعالى "وكان أبوهما صالحاً" وقال الشافعي رحمه الله لا أزال أحب حماد بن أبي سليمان لشيء بلغني عنه أنه كان ذات يوم راكباً حماره فحركه فانقطع زره، فمر على خياط فأراد أن ينزل إليه ليسوي زره فقال الله والله لا نزلت فقام الخياط إليه فسوى زره فأخرج إليه صرة فيها عشرة دنانير فسلمها إلى الخياط واعتذر إليه من قلتها، وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه: يا لهف قلب على مال أجـود بـه على المقلين من أهل المـروءات

إن اعتذاري إلى من جاء يسألـنـي ما ليس عندي لمن إحدى المصيبات

وعن الربيع بن سليمان قال أخذ رجل بركاب الشافعي رحمه الله فقال يا ربيع أعطه أربعة دنانير واعتذر إليه عني وقال الربيع سمعت الحميدي يقول قدم الشافعي من صنعاء إلى مكة بعشرة آلاف دينار فضرب خباءه في موضع خارج عن مكة ونثرها على ثوب، ثم أقبل على كل من دخل عليه يقبض له قبضة ويعطيه حتى صلى الظهر ونفض الثوب وليس عنده شيء. وعن أبي ثور قال أراد الشافعي الخروج إلى مكة ومعه مال، وكان قلما يمسك شيئاً من سماحته، فقلت له ينبغي أن تشتري بهذا المال ضيعة تكون لك ولولدك، قال فخرج ثم قدم علينا فسألته عن ذلك المال، فقال ما وجدت بمكة ضيعة يمكنني أن أشتريها بمعرفتي بأصلها وقد وقفف أكثرها، ولكني بنيت بمنى مضرباً يكون لأصحابنا إلى حجوا أن ينزلوا فيه. وأنشد الشافعي رحمه الله لنفسه يقول: أرى نفسي تتوق إلى أمور يقصر دون مبلغهن مالي

فنفسي لا تطاوعني ببخـل ومالي لا يبلغني فعالـي

وقال محمد بن عباد المهبلي: دخل أبي على المأمون فوصله بمائة ألف درهم فلما قام من عنده تصدق بها فأخبر بذلك المأمون، فلما عاد إليه عاتبه المأمون في ذلك فقال: يا أمير المؤمنين منع الموجود سوء ظن بالمعبود، فوصله بمائة ألف أخرى.

وقام رجل إلى سعيد بن العاص فسأله فأمر له بمائة ألف درهم فبكى، فقال له سعيد: ما يبكيك! قال: أبكي على الأرض أن تأكل مثلك، فأمر له بمائة ألف أخرى.

ودخل أبو تمام على إبراهيم بن شكلة بأبيات امتدحه بها فوجده عليلاً فقبل منه المدحة وأمر حاجبه بنيله ما يصلحه، وقال: عسى أن أقوم من رضي فأكافئه، فأقام شهرين فوحشه طول المقام فكتب إليه يقول: إن حـرامـاً قـبـول مـدحــتـــنـــا وتـرك مـا نـرتـجـي مـن الـصـفـد

كما الدراهم والدنانير في البيع حرام إلا يدا بيد

فلما وصل البيتان إلى إبراهيم قال لحاجبه. كم أقام بالباب? قال: شهرين، قال: أعطه ثلاثين ألفاً وجئني بدواة، فكتب إليه: أعجبتنا فأتاك عاجل برنـا قلا ولو أمهلتنا لم نقـلـل

فخذ القلي وكن كأنك لم تقل ونقول ونحن كأننا لم نفعل

وروي أنه كان لعثمان على طلحة رضي الله عنهما خمسون ألف درهم، فخرج عثمان يوماً إلى المسجد فقال له طلحة. قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال: هو لك يا أبا محمد معونة لك على مروءتك. وقالت سعدى بنت عوف: دخلت على طلحة فرأيت منه ثقلاً فقلت له مالك? فقال اجتمع عندي مال وقد غمني، فقلت وما يغمك ادع قومك? فقال يا غلام علي بقومي، فقسمه فيهم فسألت الخادم كم كان? قال: أربعمائة ألف. وجاء أعرابي إلى طلحة فسأله وتقرب إليه برحم فقال: إن هذه الرحم ما سألني بها أحد قبلك، إن لي أرضاً قد أعطاني بها عثمان ثلثمائة ألف فإن شئت فاقبضها، وإن شئت فعتها من عثمان ودفعت إليك الثمن، فقال: الثمن، فباعها من عثمان ودفع إليه الثمن.

وقيل بكى علي كرم الله وجهه يوماً فقيل: ما يبكيك? فقال: لم يأتني ضيف منذ سبعة أيام، أخاف أن يكون الله قد أهانيي.

وأتى رجل صديقاً له فدفق عليه الباب فقال، ما جاء بك? قال علي أربعمائة درهم دين، فوزن أربعمائة درهم وأخرجها إليه وعاد يبكي، فقالت امرأته لم أعطيته إذ شق عليك? فقال إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج إلى مفاتيحي. فرحم الله من هذه صفاتهم وغر لهم أجمعين.

بيان ذم البخل

قال الله تعالى "ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" وقال تعالى "ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة" وقال تعالى "الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله" وقال ﷺ "إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم وقال ﷺ "إياكم والشح فإنه دعا من كان قبلكم فسفكوا دماءهم ودعاهم فاستحلوا محارمهم ودعاهم فقطعوا أرحامهم وقال ﷺ "لا يدخل الجنة بخيل ولا خب ولا خائن لا سيئ الملكة وفي رواية "ولا جبار" وفي رواية "ولا منان" وقال ﷺ "ثلاث مهلكات؛ شح مطاع وهوى متبع وإعجاب المرء بنفسه وقال ﷺ "إن الله يبغض ثلاثة: الشيخ الزاني، والبخيل المنان، والمعيل المختال وقال ﷺ "مثل المنفق والبخيل كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من لدن ثديهما إلى تراقيهما، فأما المنفق فلا ينفق شيئاً إلا سبغت أو وفرت على جلده حتى تخفي بنانه، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا قلصت ولزمت كل حلقه مكانه حتى أخذت بتراقيه فهو يوسعها ولا تتسع وقال ﷺ "خصلتان لا تجتمعان في مؤمن: البخل وسوء الخلق وقال ﷺ "اللهم إني أعوذ بك من البخل وأعوذ بك من الجبن وأعوذ بك أن أرد إلى ارذل العمر وقال ﷺ "إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإياكم والفحش إن الله لا يحب الفاحش ولا المتفحشين، وإياكم والشح فإنما أهلك من كان قبلكم الشح أمرهم بالكذب فكذبوا وأمرهم بالظلم فظلموا وأمرهم بالقطيعة فقطعوا وقال ﷺ "شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع وقتل شهيد على عهد رسول الله ﷺ فبكته باكية فقالت: واشهيداه! فقال ﷺ "وما يدريك أنه شهيد فلعله كان يتكلم فيما لا يعنيه أو يبخل بما لا ينقصه وقال جبير بن مطعم: بينا نحن نسير مع رسول الله ﷺ ومعه الناس مقفلة من خيبر إذا علقت برسول الله ﷺ الأعراب يسألونه، حتى اضطروه إلى سمرة فخطفت رداءه، فوقف ﷺ فقال "أعطوني ردائي فوالذي نفسي بيده لو كان لي عدد هذه العصاة نعماً لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذاباً ولا جباناً وقال عمر رضي الله عنه: قسم رسول الله ﷺ قسماً فقلت غير هؤلاء كان أحق به منهم? فقال "إنهم يخيروني بين أن يسألوني بالفحش أو يبخلوني ولست بباخل وقال أبو سعيد الخدري: دخل رجلان على رسول الله ﷺ فسألاه ثمن بعير فأعطاهما دينارين؛ فخرجا من عنده فلقيهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأثنيا وقالا معروفاً وشكراً ما صنع بهما، فدخل عمر على رسول الله ﷺ فأخبره بما قالا. فقال ﷺ "لكن فلان أعطيته ما بين عشرة إلى مائة ولم يقل ذلك إن أحدكم ليسألني فينطلق في مسألته متأبطها وهي نار؛ فقال عمر فلم تعطهم ما هو نار؛ فقال "يأبون إلا أن يسألون ويأبى الله لي البخل وعن ابن عباس قال: قال رسول الله ﷺ "الجود من جود الله تعالى فجودوا يجد الله لكم ألا إن الله عز وجل خلق الجود فجعله في صورة رجل وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة طوبى، وشد أغصانها بأغصان سدرة المنتهى، ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا، فمن تعلق بغضن منه أدخله الجنة، ألا إن السخاء من الإيمان، والإيمان في الجنة. وخلق البخل من مقته وجعل رأسه راسخاً في أصل شجرة الزقوم ودلى بعض أغصانها إلى الدنيا فمن تعلق بغصن منها أدخله النار، ألا إن البخل من الكفر والكفر في النار وقال ﷺ "السخاء شجرة تنبت في الجنة فلا يلج الجنة إلا سخي، والبخل شجرة تنبت في النار فلا يلج النار إلا بخيل وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ لوفد بني لحيان "من سيدكم يا بني لحيان?" قالوا: سيدنا جد بن قيس إلا أنه رجل فيه بخل، فقال ﷺ "وأي داء أدوأ من البخل ولكن سيدكم عمرو بن الجموح وفي رواية أنهم قالوا: سيدنا جد بن قيس، فقال "بما تسودونه?" قالوا: إنه أكثر مالاً وأنا على ذلك لنرى منه البخل، فقال عليه

السلام "وأي داء أدوأ من البخل ليس ذلك سيدكم" قالوا" فمن سيدنا يا رسول الله? قال "سيدكم بشر بن البراء" وقال علي رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ "إن الله يبغض البخيل في حياته السخي عند موته وقال أبو هريرة: قال رسول الله ﷺ السخي الجهول أحب إلى الله من العابد البخيل وقال أيضاً: قال ﷺ "الشح والإيمان لا يجتمعان في قلب عبد وقال أيضاً "خصلتان لا يجتمعان في مؤمن البخل وسوء الخلق وقال ﷺ "لا ينبغي لمؤمن أن يكون بخيلاً ولا جباناً وقال ﷺ "يقول قائلكم الشحيح أعذر من الظالم وأي ظلم أظلم عند الله من الشح، حلف الله تعالى بعزته وعظمته وجلاله لا يدخل الجنة شحيح ولا بخيل .

وروي أن رسول الله ﷺ: كان يطوف بالبيت فإذا رجل متعلق بأستار الكعبة وهو يقول: بحرمة هذا البيت إلا غفرت لي ذنبي فقال ﷺ "وما ذنبك صفه لي?" فقال: هو أعظم من أن أصفه لك! فقال "ويحك ذنبك أعظم أم الأرضون?" فقال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال: "فذنبك أعظم أم الجبال?" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم البحار?" قال" بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم السموات?" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم العرش?" قال: بل ذنبي أعظم يا رسول الله، قال "فذنبك أعظم أم الله?" قال: بل الله أعظم وأعلى، قال "ويحك فصف لي ذنبك" قال: يا رسول الله إني رجل ذو ثروة من المال وإن السائل ليأتيني يسألني فكأنما يستقبلني بشعلة من نار، فقال ﷺ "إليك عني لا تحرقني بنارك فو الذي بعثني بالهداية والكرامة لو قمت بين الركن والمقام ثم صلت ألفي ألف عام ثم بكيت حتى تجري من دموعك الأنهار وتسقى بها الأشجار ثم مت وأنت لئيم لأكبك الله في النار، ويحك! أما علمت أن البخل كفر وأن الكفر في النار، ويحك! أما علم أن الله تعالى يقول "ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه... ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" .

الآثار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لما خلق الله جنة عدن قال لها تزيني فتزينت، ثم قال لها: أظهري أنهارك فأظهرت عين السلسبيل وعين الكافور وعين التنسيم فتفجر منها في الجنان أنهار الخمر وأنها العسل واللبن ثم قال لها أظهري سررك وحجالك وكراسيك وحليك وحللك وحور عينك فأظهرت فنظر إليها فقال تكلمى فقالت طوبى لمن دخلني فقال الله تعالى وعزتي لا أسكنك بخيلاً. وقالت أم البنين أخت عمر بن عبد العزيز: أف للبخيل لو كان البخل قميصاً ما لبسته ولو كان طريقاً ما سلكته. وقال طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه: إنا لنجد بأموالنا ما يجد البخلاً لكننا نتبصر. وقال محمد بن المنكدر: كان يقال إذا أراد الله بقوم شراً أمر الله عليهم شرارهم وجعل أرزاقهم بأيدي بخلائهم. وقال علي كرم الله وجهه في خطبته: إنه سيأتي على الناس زمان عضوض يعض الموسر على ما فيده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى "ولا تنسوا الفضل بينكم" وقال عبد الله بن عمرو: الشح أشد من البخل لأن الشحيح هو الذي يشح على ما في يد غيره حتى يأخذه ويحش بما في يده فيحبسه، والبخيل هو الذي يبخل بما في يده. وقال الشعبي لا أدري أيهما أبعد غوراً في نار جهنم البخل أو الكذب? وقيل ورد على أنوشروان حكيم الهند وفيلسوف الروم فقال للهندي: تكلم، فقال: خير الناس من ألفى سخياً وعند الغضب وقوراً وفي القول متأنياً وفي الرفعة متواضعاً وعلى كل ذي رحم مشفقاً. وقام الرومي فقال: من كان بخيلاً ورث عدوه ماله ومن قل شكره لم ينل النجح وأهل الكذب مذمومون وأهل النميمة يموتون فقراء ومن لم يرحم سلط عليه من لا يرحمه. وقال الضحاك في قوله تعالى "إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً" قال: البخل، أمسك الله تعالى أيديهم عن النفقة في سبيل الله فهم لا يبصرون الهدى. وقال كعب: ما من صباح إلى وقد وكل به ملكان يناديان اللهم عجل لممسك تلفاً وعجل لمنفق خلفاً. وقال الأصمعي سمعت أعرابياً وقد وصف رجلاً فقال لقد صغر فلان في عيني لعظم الدنيا في عينه، وكأنما يرى السائل ملك الموت إذا أتاه. وقال أبو حنيفة رحمه الله لا أرى أن أعدل بخيلاً لأن البخل يحمله على الاستقصاء فيأخذ فوق حقه خيفة من أن يغبن، فمن كان هكذا لا يكون مأمون الأمانة. وقال علي كرم الله وجهه والله ما استقصى كريم قط حقه. قال الله تعالى "عرف بعضه وأعرض عن بعض" وقال الجاحظ ما بقي من اللذات إلا ثلث ذم البخلاء، وأكل القديد، وحك الجرب. وقال بشر بن الحارث البخيل لا غيبة له قال النبي ﷺ "إنك إذاً لبخيل" ومدحت امرأة عند رسول الله ﷺ فقالوا صوامة قوامة إلا أنها فيها بخلاً قال "فما خيرها إذاً وقال بشر النظر إلى البخيل يقسي القلب ولقاء البخلاء كرب على قلوب المؤمنين. وقال يحيى بن معاذ ما في القلب للأسخياء إلا حب ولو كانوا فجاراً، وللبخلاء إلا بعض ولو كانوا أبراراً. وقال ابن المغتر: أبخل الناس بماله أجودهم بعرضه، ولقي يحيى بن زكريا عليهما السلام. إبليس في صورته فقال له: يا إبليس أخبرني بأحب الناس إليك وأبغض الناس إليك قال: أحب الناس إلي المؤمن البخيل، وأبغض الناس إلي الفاسق السخي، قال له: لم? قال: لأن البخيل قد كفاني بخله والفاسق السخي أتخوف أن يطلع الله عليه في سخائه فيقبله، ثم ولى وهو يقول لولا أنك يحيى لما أخبرتك.

حكايات البخلاء

قيل كان بالبصرة رجل موسر بخيل، فدعاه بعض جيرانه وقدم إليه طباهجة بببيض فأكل منه فأكثر وجعل يشرب الماء فانتفخ بطنه ونزل به الكرب والموت، فجعل يتلوى فلما جهده الأمر وصف حاله للطبيب فقال: لا بأس عليك، تقيأ ما أكلت، فقال: هاه! أتقيأ طباهجة ببيض!? الموت ولا ذلك. وقيل: أقبل أعرابي يطلب رجلاً، وبين يديه تين فغطى التين بكسائه، فجلس الأعرابي فقال له الرجل: هل تحسن من القرآن شيئاً? قال: نعم، فقرأ "...والزيتور وطور سينين" فقال: وأين التين? قال: هو تحت كسائك. ودعا بعضهم أخاً له ولم يطعمه شيئاً، فحبسه إلى العصر حتى اشتد جوعه وأخذه مثل الجنون، فأخذ صاحب البيت العود وقال له: بحياتي أي صوت تشتهي أن أسمعك? قال: صوت المقلى. ويحكى أن محمد بن يحيى بن خالد بن برمك كان بخيلاً قبيح البخل، فسئل نسيب له كان يعرفه عنه فقال له قائل: صف لي مائدته فقال: هي فتر في فتر، وصحافه منقورة من حب الخشخاش، قيل فمن يحضرها? قال: الكرام الكاتبون! قال: فما يأكل معه أحد? قال: بلى الذباب، فقال: سوأتك بدت وأنت خاص به وثوبك مخرق، قال أنا والله ما أقدر على إبرة أخطيه بها، ولو ملك محمد بيتاً من بغداد إلى النوبة مملوءاً إبراً، ثم جاءه جبريل وميكائيل ومعهما يعقوب النبي عليه السلام يطلبون منه إبرة ويسألونه إعارتهم إياها ليخيط بها قميص يوسف الذي قد من دبر ما فعل ويقال كان مروان بن أبي حفصة لا يأكل اللحم بخلاً حتى يقرم غليه فإذا قرم غليه أرسل غلامه فاشترى له رأساً فأكله فقيل له. نراك لا تأكل إلا الرؤوس في الصيف والشتاء فلم تختار ذلك? قال نعم الرأس أعرف سعره فآمن خيانة الغلام ولا يستطيع أن يغبنني فيه، وليس بلحم يطبخه الغلام فيقدر أن يأكل منه، إن مس عيناً أو أذناً أو خداً وقفت على ذلك، وآكل منه ألواناً، عينه لوناً، وأذنه لوناً، ولسانه لوناً، وغلصمته لوناً، ودماغه لوناً، وأكفي مؤونة طبخه؛ فقد اجتمعت لي فيه مرافق. وخرج يوماً يريد الخليفة المهدي فقالت له امرأة من أهله: ما لي عليك إن رجعت بالجائزة? فقال: إن أعطيت مائة ألف أعطيتك درهماً! فأعطي ستين ألفاً فأعطاها أربعة دوانق. واشترى مرة لحماً بدرهم فدعاه صديق له فرد اللحم إلى القصاب بنقصان دانق! وقال: أكره الإسراف. وكان للأعمش جار وكان لا يزال يعرض عليه المنزل ويقول: لو دخلت فأكلت كسرة وملحاً! فيأبى عليه الأعمش فعرض عليه ذات يوم فوافق جوع الأعمش فقال: سر بنا، فدخل منزله فقرب إليه كسرة وملحاً، فجاء سائل فقال له رب المنزل: بورك فيك، فأعاد عليه المسألة فقال له بورك فيك، فلما سأل الثالثة قال له اذهب والله وإلا خرجت إليك بالعصا! قال فناداه الأعمش وقال اذهب ويحك! فلا والله ما رأيت أحداً أصدق مواعيد منه! هو منذ مدة يدعوني على كسرة وملح فوالله ما زادني عليهما!.

بيان الإيثار وفضله

اعلم أن السخاء والبخل كل منهما ينقسم إلى درجات. فأرفع درجة السخاء الإيثار، وهو أن يجود بالمال مع الحاجة. وإنما السخاء عبارة عن بذل ما لا يحتاج إليه لمحتاج أو لغير محتاج، والبذل مع الحاجة أشد. وكما أن السخاوة قد تنتهي إلى أن يسخو الإنسان على غيره مع الحاجة فالبخل قد ينتهي إلى أن يبخل على نفسه مع الحاجة، فكم من بخيل يمسك المال ويمرض فلا يتداوى، ويشتهي الشهوة فلا يمنعه منها إلا البخل بالثمن؛ ولو وجدها مجاناً لأكلها. فهذا بخيل على نفسه مع الحاجة؛ وذلك يؤثر على نفسه غيره مع أنه محتاج إليه. فانظر ما بين الرجلين? فإن الأخلاق عطايا يضعها الله حيث يشاء وليس بعد الإيثار درجة في السخاء. وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم به فقال "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" وقال النبي ﷺ "أيما امرئ اشتهى شهوة فرد شهوته وآثر على نفسه غفر له وقالت عائشة رضي الله عنها ما شبع رسول الله ﷺ ثلاثة أيام متوالية حتى فارق الدنيا، ولو شئنا لشبعنا ولكنا كنا نؤثر على أنفسنا ونزل برسول الله ﷺ ضيف فلم يجد عند أهله شيئاً، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله، ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل ولا يأكل، حتى أكل الضيف، فلما اصبح قال له رسول الله ﷺ "لقد عجب الله من صنيعكم الله إلى ضيفكم" ونزلت "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة فالسخاء خلق من أخلاق الله تعالى؛ والإيثار أعلى درجات السخاء. وكان ذلك من أدب رسول الله ﷺ حتى سماه الله تعالى عظيماً فقال تعالى "وإنك لعلى خلق عظيم" وقلا سهل بن عبد الله التستري قال موسى عليه السلام، يا رب أرني بعض درجات محمد ﷺ وأمته! فقال يا موسى إنك لن تطيق ذلك، ولكن أريك منزلة من منازله جليلة عظيمة فضلته بها عليك وعلى جميع خلقي، قال فكشف له عن ملكوت السموات فنظر إلى منزلة كادت تتلف نفسه من أنوارها وقربها من الله تعالى، فقال: يا رب بماذا بلغت به إلى هذه الكرامة? قال: بخلق اختصصته به من بينهم وهو الإيثار، يا موسى لا يأتيني أحد منهم قد عمل به وقتاً من عمره إلا استحييت من محاسبته، وبوأته من جنتي حيث يشاء: وقيل خرج عبد الله بن جعفر إلى ضيعة له فنزل على نخيل قوم وفيه غلام أسود يعمل فيه؛ إذ أتى الغلام بقوته، فدخل الحائط كلب ودنا من الغلام فرمى إليه الغلام بقرص فأكله، ثم رمى إليه الثاني والثالث فأكله، وعبد الله ينظر إليه فقال يا غلام كم قوتك كل يوم? قال ما رأيت! قال فلم آثرت به هذا الكلب? قال ما هي بأرض كلاب، إنه جاء من مسافة بعيدة جائعاً فكرهت أن أشبع وهو جائع! قال فما أنت صانع اليوم? قال: أطوي يومي هذا فقال عبد الله بن جعفر ألام على السخاء! إن هذا الغلام لأسخى مني، فاشترى الحائط والغلام وما فيه من الآلات فأعتق الغلام ووهبه منه. وقال عمر رضي الله عنه: أهدي إلى رجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة فقال: إن أخي كان أحوج مني إليه فبعث به إليه، فلم يزل واحد يبعث به إلى آخر حتى تداوله سبعة أبيات ورجع إلى الأول. وبات علي كرم الله وجهه على فراش رسول الله ﷺ فأوحى الله تعالى إلى جبريل وميكائيل عليهما السلام: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من عمر الآخر فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة? فاختارا كلاهما الحياة وأحباها؛ فأوحى الله عز وجل إليهما أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب آخيت بينه وبين نبيي محمد ﷺ فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة? اهطبا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه فكان جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل عليه السلام يقول: بخ بخ من مثلك يا بن أبي طالب والله تعالى يباهى بك الملائكة! فأنزل الله تعالى "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد" وعن أبي الحسن الأنطاكي: أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون نفساً -وكانوا في قرية بقرب الري- ولهم أرغفة معدودة لم تشبع جميعهم "فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج وجلسوا للطعام، فلما رفع فإذا الطعام بحاله ولم يأكل أحد منه شيئاً إيثاراً لصاحبه على نفسه. وروي أن شعبة جاءه سائل وليس عنده شيء؛ فنزع خشبة

من سقف بيته فأعطاه ثم اعتذر غليه: وقال حذيفة العدوي: انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي ومعي شيء من ماء وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت به وجهه، فإذا أنا به فقلت: أسقيك? فأشار إلي أن نعم، فإذا رجل يقول: آه.. فأشار ابن عمي إلى أن أنطلق به إليه، فجئته فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك? فسمع به آخر فقال: آه... فأشار هشام انطق به إليه، فجئته فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات رحمة الله عليهم أجمعين. وقال عباس بن دهقان: ما خرج أحد من الدنيا كما دخلها إلى بشر بن الحرث فإنه أتاه رجل في مرضه فشكا إليه الحاجة فنزع قميصه وأعطاه إياه، واستعار ثوباً فمات فيه. وعن بعض الصوفية قال: كنا بطرسوس فاجتمعنا جماعة وخرجنا إلى باب الجهاد، فتبعنا كلب من البلد، فلما بلغنا ظاهر الباب إذا نحن بدابة ميتة فصعدنا إلى موضع عال وقعدنا. فلما نظر الكلب إلى الميتة رجع إلى البلد ثم عاد بعد ساعة ومعه مقدار عشرين كلباً، فجاء إلى تكل الميتة وقعد ناحية ووقعت الكلاب في الميتة، فما زالت تأكلها وذلك الكلب قاعد ينظر إليها حتى أكلت الميتة وبقي العظم ورجعت الكلاب إلى البلد، فقام ذلك الكلب وجاء إلى تلك العظام فأكل مما بقي عليها قليلاً ثم انصرف.

وقد ذكرنا جملة من أخبار الإيثار وأحوال الأولياء في كتاب الفقر والزهد فلا حاجة إلى الإعادة ههنا وبالله التوفيق وعليه التوكل فيما يرضيه عز وجل.

بيان حد السخاء والبخل وحقيقتهما

لعلك تقول: قد عرف بشواهد الشرع أن البخل من المهلكات، ولكن ما حد البخل وبماذا يصير الإنسان بخيلاً? وما من إنسان وهو يرى نفسه سخياً وربما يراه غيره بخيلاً، وقد يصدر فعل من إنسان فيختلف فيه الناس فيقول قوم: هذا بخل ويقول آخرون ليس هذا من البخل. وما من إنسان إلا ويجد من نفسه حباً للمال ولأجله يحفظ المال ويمسكه، فإن كان يصير بإمساك المال بخيلاً فإذا لا ينفك أحد عن البخل. وإذا كان الإمساك مطلقاً لا يوجب البخل، ولا معنى للبخل إلا الإمساك فما البخل الذي يوجب الهلاك? وما حد السخاء الذي يستحق به البعد صفة السخاوة وثوابها? فنقول: قد قال قائلون حد البخل منه الواجب، فكل من أدى مايجب عليه فليس ببخيل، وهذا غير كاف؛ فإن من يرد اللحم مثلاً إلى القصاب والخبز للخباز بنقصان حبة أو نصف حبة فإنه يعد بخيلاً بالاتفاق. وكذلك من يسلم إلى عياله القدر الذي يفرضه القاضي ثم يضايقهم في لقمة ازدادوها عليه أو تمرة أكلوها من ماله يعد بخيلاً. ومن كان بين يديه رغيف فحضر من يظن أنه يأكل معه فأخفاه عنه عد بخيلاً. وقال قائلون البخيل هو الذي يستصعب العطية، وهو أيضاً قاصر، فإنه إن أريد به أنه يستصعب كل عطية فكم من بخيل لا يستصعب العطية القليلة كالحبة وما يقرب منها، ويستصعب ما فوق ذلك? وإن أريد به أن يستصعب بعض العطايا فما من جواد إلا وقد يستصعب بعض العطايا? وهو ما يستغرق جميع ماله أو المال العظيم. فهذا لا يوجب الحكم بالبخل. وكذلك تكلموا في الجود، فقيل الجور عطاء بلا منن وإسعاف من غير روية. وقيل: الجود عطاء من غير مسألة على رؤية التقليل. وقيل: الجود السرور بالسائل والفرح بالعطاء لما أمكن. وقيل: الجود عطاء على رؤية أن المال لله تعالى والعبد لله عز وجل فيعطى عبد الله مال الله على غير رؤية الفقر. وقيل: من أعطى البعض وأبقى البعض فهو صاحب سخاء، ومن بذل الأكثر وأبقى لنفسه شيئاً فهو صاحب جود، ومن قاسى الضر وآثر غيره بالبلغة فهو صاحب إيثار، ومن لم يبذل شيئاً فهو صاحب بخل.

وجملة هذه الكلمات غير محيطة بحقيقة الجود والبخل، بل نقول: المال خلق لحكمة ومقصود وهو صلاحه لحاجات الخلق، ويمكن إمساكه عن الصرف إلى ما خلق للصرف إليه، ويمكن بذله بالصرف إلى ما لا يحسن الصرف إليه، ويمكن التصرف فيه بالعدل، وهو أن يحفظ حيث يجب الحفظ، ويبذل حيث يجب البذل. فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير. وبينهما وسط وهو المحمود وينبغي أن يكون السخاء والجود عبارة عنه؛ إذ لم يؤمر رسول الله ﷺ إلا بالسخاء، وقد قيل له "ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط" وقال تعالى "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً" فالجود وسط بين الإسراف والإقتار وبين البسط والقبض، وهو أن يقدر بذله وإمساكه بقدر الواجب، ولا يكفي أن يفعل ذلك بجوارحه ما لم يكن قلبه طيباً به غير منازع له فيه. فإن بذل في محل وجوب البذل ونفسه تنازعه وهو يصابرها فهو متسخ وليس بسخي، بل ينبغي أن لا يكون لقلبه علاقة مع المال إلا من حيث يراد المال له وهو صرفه إلى ما يجب صرفه إليه.

فإن قلت: فقد صار هذا موقوفاً على معرفة الواجب فما الذي يجب بذله? فأقول: إن الواجب قسمان: واجب بالشرع، وواجب بالمروءة والعادة. والسخي هو الذي لا يمنع واجب الشرع ولا واجب المروءة، فإن منع واحداً منهما فهو بخيل، ولكن الذي يمنع واجب الشرع أبخل كالذي يمنع أداء الزكاة ويمنع عياله وأهله النفقة، أو يؤديها ولكنه يشق عليه، فإنه بخيل بالطبع، وإنما يتسخى بالتكلف، أو الذي يتيمم الخبيث من ماله ولا يطيب قلبه أن يعطي من أطيب ماله، أو من وسطه، فهذا كله بخل.

وأما واجب المروءة فهو ترك المضايقة والاستقصاء، فإن ذلك مستقبح، واستقباح ذلك يخلف بالأحوال والأشخاص. فمن كثر ماله استقبح منه مالا يستقبح مع العبد، ويستقبح في الضيافة من المضايقة ما لا يستقبح في المعاملة، فيختلف ذلك بما فيه من المضايقة في ضيافة أو معاملة وبما به المضايقة من طعام أو ثوب، إذ يستقبح في الأطعمة ما لا يستقبح في غيرها، ويستقبح في شراء الكفن مثلاً أو شراء الأضحية أو شراء خبز الصدقة ما لا يستقبح في غيره من المضايقة. وكذلك بمن معه المضايقة من صديق أو أخ أو قريب أو زوجة أو ولد أو أجنبي. وبمن منه المضايقة من صبي أو امرأة أو شيخ أو شاب أو عالم أو جاهل أو موسر أو فقير.

فالبخيل هو الذي يمنع حيث ينبغي أن لا يمنع إما بحكم الشرع وإما بحكم المروءة، وذلك لا يمكن التنصيص على مقداره. ولعل حد البخل هو إمساك المال عن غرض، ذلك الغرض هو أهم من حفظ المال، فإن صيانة الدين أهم من حفظ المال، فمانع الزكاة والنفقة بخيل. وصيانة المروءة أهم من حفظ المال، والمضايق في الدقائق مع من لا تحسن المضايقة معه هاتك ستر المروءة لحب المال فهو بخيل. ثم تبقى درجة أخرى، وهو أن يكون الرجل ممن يؤدي الواجب ويحفظ المروءة ولكن معه مال كثير قد جمعه ليس يصرفه إلى الصدقات وإلى المحتاجين، فقد تقابل غرض حفظ المال ليكون له عدة على نوائب الزمان وغرض الثواب ليكون رافعاً لدرجاته في الآخرة، وإمساك المال عن هذا الغرض بخل عند الأكياس وليس ببخل عند عوام الخلق، وذلك لأن نظر العوام مقصور على حظوظ الدنيا فيرون إمساكه لدفع نوائب الزمان مهماً، وربما يظهر عند العوام أيضاً سمة البخل عليه إن كان في جواره محتاج فمنعه وقال: قد أديت الزكاة الواجبة وليس على غيرها. ويختلف استقباح ذلك باختلاف مقداره ما له، وباختلاف شدة حاجة المحتاج وصلاح دينه واستحقاقه. فمن أدى واجب الشرع وواجب المروءة اللائقة به فقد تبرأ من البخل. نعم لا يتصف بصفة الجود والسخاء ما لم يبذل زيادة على ذلك لطلب الفضيلة ونيل الدرجات، فإذا اتسعت نفسه لبذل المال حيث لا يوجبه الشرع ولا تتوجه إليه الملامة في العادة فهو جواد بقدر ما تتسع له نفسه من قليل أو كثير. ودرجات ذلك لا تحصر وبعض الناس أجود من بعض، فاصطناع المعروف وراء ما توجبه العادة والمروءة هو الجود، ولكن بشرط أن يكون عن طيب نفس ولا يكون طمع ورجاء خدمة أو مكافأة أو شكر أو ثناء فإن من طمع في الشكر والثناء فهو بياع وليس بجواد، فإنه يشتري المدح بماله والمدح لذيذ وهو مقصود في نفسه، والجود هو بذل الشيء من غير عوض. هذا هو الحقيقة ولا يتصور ذلك إلا من الله تعالى، أما الآدمي فاسم الجود عليه مجاز إذ لا يبذل الشيء إلا لغرض، ولكنه إذا لم يكن غرضه إلا الثواب في الآخرة أو اكتساب فضيلة الجود وتطهير النفس عن رذالة البخل فيسمى جواداً، فإن كان الباعث عليه الخوف من الهجاء مثلاً أو من ملامة الخلق أو ما يتوقعه من نفع يناله من المنعم عليه فكل ذلك ليس من الجود، لأنه مضطر إليه بهذه البواعث، وهي أعواض معجلة له عليه فهو معتاض لا جواد، كما روي عن بعض المتعبدات أنها وقفت على حيان بن هلال وهو جالس مع أصحابه فقالت: هل فيكم من أسأله عن مسألة? فقالوا لها: سلي عما شئت -وأشاروا إلى حيان بن هلال- فقالت: ما السخاء عندكم? قالوا: العطاء والبذل والإيثار، قالت: هذا السخاء في الدنيا فما السخاء في الدين? قالوا: أن نعبد الله سبحانه سخية بها أنفسنا غير مكرهة، قالت: فتريدون على ذلك أجراً? قالوا: نعم، قالت ولم? قالوا لأن الله تعالى وعدنا بالحسنة عشر أمثاله، قالت سبحان الله! فإذا أعطيتم واحدة وأخذتم عشرة فبأي شيء تسخيتم عليه? قالوا لها فما السخاء عندك يرحمك الله? قالت السخاء عندي أن تعبدوا الله متنعمين متلذذين بطاعته غير كارهين ولا تريدون على ذلك أجراً حتى يكون مولاكم يفعل بكم ما يشاء! ألا تستحيون من الله أن يطلع على قلوبكم فيعلم منها أنكم تريدون شيئاً بشيء? إن هذا في الدنيا لقبيح! وقالت بعض المتعبدات أتحسبون أن السخاء في الدرهم والدينار فقط? قيل ففيم? قالت السخاء عندي في المهج. وقال المحاسبي السخاء في الدين أن تسخو بنفسك تتلفها لله عز وجل ويسخو قلبك ببذل مهجبتك وإهراق دمك لله تعالى بسماحة من غير إكراه، ولا تريد بذلك ثواباً عاجلاً ولا آجلاً، وإن كنت غير مستغن عن الثواب ولكن يغلب على ظنك حسن كمال السخاء بترك الاختيار على الله، حتى يكون مولاك هو الذي يفعل لك ما لا تحسن أن تختار لنفسك.

بيان علاج البخل

اعلم أن البخل سبب حب المال. ولحب المال سببان أحدهما حب الشهوات التي لا وصول إليها إلا بالمال مع طول الأمل، فإن الإنسان لو علم أنه يموت بعد يوم ربما أنه كان لا يبخل بما له، إذ القدر الذي يحتاج إليه في يوم أو في شهر أو في سنة قريب، وإن كان قصير الأمل ولكن كان له أولاد أقام الولد مقام طول الأمل،فإنه يقدر بقاءهم كبقاء نفسه فيمسك لأجلهم. ولذلك قال عليه السلام "الولد مبخلة مجبنة مجهلة فإذا انضاف إلى ذلك خوف الفقر وقلة الثقة بمجيء الرزق قوي البخل لا محالة.

السبب الثاني: أن يحب عين المال؛ فمن الناس من معه ما يكفيه لبقية عمره إذا اقتصر على ما جرت به عادته بنفقته وبتفضل آلاف وهو شيخ بلا ولد ومعه أموال كثيرة ولا تسمح نفسه بإخراج الزكاة ولا بمداواة نفسه عند المرض بل صار محباً للدنانير عاشقاً لها يلتذ بوجودها في يده وبقدرته عليها، فيكنزها تحت الأرض وهو يعلم أنه يموت فتضيع أو يأخذها أعداؤه، ومع هذا فلا تسمح نفسه بأن يأكل أو يتصدق منها بحبة واحدة، وهذا مرض للقلب، عظيم عسير العلاج لا سيما في كبر السن، وهو مرض مزمن لا يرجى علاجه. ومثال صاحبه: مثال رجل عشق شخصاً فأحب رسوله لنفسه ثم نسي محبوبه واشتغل برسوله، فإن الدنانير رسول يبلغ إلى الحاجات فصارت محبوبة لذلك، لأن الموصل إلى اللذيذ لذيذ، ثم قد تنسى الحاجات ويصير الذهب عنده كأنه محبوب في نفسه وهو غاية الضلال، بل من رأى بينه وبين الحجر فرقاً فهو جاهل إلا من حيث قضاء حاجته به، فالفاضل عن قدر حاجته والحجر بمثابة واحدة. فهذه أسباب حب المال. وإنما علاج كل علة بمضادة سببها، فتعالج حب الشهوات بالقناعة باليسير وبالصبر، وتعالج طول الأمل بكثرة ذكر الموت والنظر في موت الأقران وطول تعبهم في جمع المال وضياعه بعدهم، وتعالج التفات القلب إلى الولد بأن خالقه خلق معه رزقه، وكم من ولد ولم يرث من أبيه مالاً وحاله أحسن ممن ورث? وبأن يعلم أنه يجمع المال لولده يريد أن يترك ولده بخير وينقلب هو إلى شر، وأن ولده إن كان تقياً صالحاً فالله كافيه، وإن كان فاسقاً فيستعين بماله على المعصية وترجع مظلمته إليه. ويعالج أيضاً قلبه بكثرة التأمل في الأخبار الواردة في ذم البخل ومدح السخاء وما توعد الله به على البخل من العقاب العظيم. ومن الأدوية النافعة: كثرة التأمل في أحوال البخلاء ونفرة الطبع عنهم واستقباحهم له، فإنه ما من بخيل إلا ويستقبح البخل من غيره، ويستثقل كل بخيل من أصحابه، فيعلم أنه مستثقل ومستقذر في قلوب الناس مثل سائر البخلاء في قلبه. ويعالج أيضاً قلبه بأن يتفكر في مقاصد المال، وأنه لماذا خلق? ولا يحفظ من المال إلا بقدر حاجته إليه والباقي يدخره لنفسه في الآخرة بأن يحصل له ثواب بذله. فهذه الأدوية من جهة المعرفة والعلم، فإذا عرف بنور البصيرة أن البذل خير له من الإمساك في الدنيا والآخرة هاجت رغبته في البذل إن كان عاقلاً، فإن تحركت الشهوة فينبغي أن يجيب الخاطر الأول ولا يتوقف، فإن الشيطان يعده الفقر ويخوفه ويصده عنه.

حكي أن أبا الحسن البوشنجي كان ذات يوم في الخلاء فدعا تلميذاً له وقال: انزع عني القميص وادفعه إلى فلان، فقال: هلا صبرت حتى تخرج? قال: لم آمن على نفسي أن تتغير، وكان قد لي بذله! ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفاً كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره؛ حتى إذا سافر وفارق تكلفاً وصبر عنه مدة تسلى عنه قلبه، فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله، بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له. ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم والاشتهار بالسخاء، فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعاً في حشمة الجود، فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل واكتسب بها خبث الرياء، ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ويزيله بعلاجه، ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال، كما يسلي الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير وغيرها لا ليخلى واللعب، ولكن لينفك عن الثدي إليه، ثم ينقل عنه إلى غيره، فكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب وتكسر سورته بها، ويسلط الغضب على الشهوة وتكسر رعونتها به، إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء، فيبذل الأقوى بالأضعف، فإن كان الجاه محبوباً عنده كالمال فلا فائدة فيه فإن يقلع من علة ويزيد في أخرى مثلها، إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء، فلذلك يتبين أن الرياء أغلب عليه، فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء فينبغي أن يبذل فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه.

ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال إن الميت تستحيل جميع أجزائه دوداً ثم يأكل بعض الديدان البعض، حتى يقل عددها ثم يأكل بعضها بعضاً حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين، ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى فتأكلها وتسمن بها، ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت، فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها، ويجعل الأضعف قوتاً للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة، ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة وهو منع القوت عنها. ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها، فإنها تقتضي لا محالة أعمالاً، وإذا خولفت خمدت الصفات وماتت. مثل البخل فإنه يقتضي إمساك المال فإذا منع مقتضاه وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل وصار البذل طبعاً وسقط التعب فيه، فإن علاج البخل بعلم وعمل، فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل وفائدة الجود، والعمل يرجع إلى الجود والبذل على سبيل التكلف، ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه، وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة فلم يتيسر العمل فتبقى العلة مزمنة، كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء وإمكان استعماله فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت.

وكان من عادة بعض شيوخ الصوفية في معالجة علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص بزواياهم. وكان إذا توهم في مريد فرحه بزاويته وما فيها، نقله إلى زاوية غيرها، ونقل زاوية غيره إليه وأخرجه عن جميع ما ملكه، وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه أو سجادة يفرح بها يأمره بتسليمها إلى غيره ويلبسه ثوباً خلقاً لا يميل إليه قلبه.

فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا. فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها، فإن كان له أفل متاع كل له ألف محبوب، ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له، فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة لأنه كان يحب الكل وقد سلب عنه، بل هو في حياته على خطر بالفقد والهلاك.

حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير، ففرح الملك بذلك فرحاً شديداً فقال لبعض الحكماء عنده. كيف ترى هذا? قال: أراه مصيبة أو فقراً، قال: كيف? قال: إن كسر كان مصيبة لا جبر لها وإن سرق صرت فقيراً إليه ولم تجد مثله، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة والفقر، ثم اتفق يوماً أن كسر أو سرق وعظمت مصيبة الملك عليه فقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا! وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن الدنيا عدوة لأعداء الله تسوقهم إلى النار، وعدوة أولياء الله إذ تغمهم بالصبر عنها، وعدوة الله إذ تقطع طريقه على عباده، وعدوة نفسها فإنها تأكل نفسها، فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس. والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال وهو بذل الدراهم والدنانير، فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى، ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته، ومن قنع بقدر الحاجة فلا يبخل لأن ما أمسكه لحاجته فليس ببخل، ولا يحتاج إليه، فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله، بل هو كالماء على شط الدجلة إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة.

بيان مجموع الوظائف التي على العبد في ماله

اعلم أن المال كما وصفناه خير من وجه وشر من وجه. ومثاله مثال حية يأخذها الراقي ويستخرج منها الترياق، ويأخذها الغافل فيقتله سمها من حيث لا يدري ولا يخلو أحد عن سم المال إلا بالمحافظة على خمس وظائف.

الأولى: أن يعرف مقصود المال وأنه لماذا خلق وأنه لم يحتج إليه حتى يكتسب ولا يحفظ إلا قدر الحاجة، ولا يعطيه من همته فوق ما يستحقه.

الثانية: أن يراعي جهة دخل المال فيجتنب الحرام المحض، وما الغالب عليه الحرام كمال السلطان، ويجتنب الجهات المكروهة القادحة في المروءة كالهدايا التي فيها شوائب الرشوة، وكالسؤال الذي فيه الذلة وهتك المروءة وما يجري مجراه.

الثالثة: في المقدار الذي يكتسبه فلا يستكثر منه ولا يستقل، بل القدر الواجب ومعياره الحاجة، والحاجة ملبس ومسكن ومطعم. ولكل واحد ثلاث درجات: أدنى، وأوسط، وأعلى. وما دام مائلاً إلى جانب القلة ومتقرباً من حد الضرورة كان محقاً ويجيء من جملة المحقين، وإن جاوز ذلك وقع في هاوية لا آخر لعمقها. وقد ذكرنا تفصيل هذه الدرجات في كتاب الزهد.

الرابعة: أن يراعي جهة المخرج ويقتصد في الإنفاق غير مبذر ولا مقتر كما ذكرناه، فيضع ما اكتسبه من حله في حقه ولا يضعه في غير حقه، فإن الإثم في الأخذ من غير حقه والوضع في غير حقه سواء.

الخامسة: أن يصلح نيته في الأخذ والترك والإنفاق والإمساك، فيأخذ ما يأخذ ليستعين به على العبادة، ويترك ما يترك زهداً فيه واستحقاراً له إذا فعل ذلك لم يضره وجود المال، ولذلك قال علي رضي الله عنه: لو أن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله تعالى فهو زاهد، ولو أنه ترك الجميع ولم يرد به وجه الله تعالى فليس بزاهد. فلتكن جميع حركاتك وسكناتك لله مقصورة على عبادة أو ما يعين على العبادة، فإن أبعد الحركات عن العبادة الأكل وقضاء الحاجة وهما معينان على العبادة، فإذا كان ذلك قصدك بهما صار ذلك عبادة في حقك. وكذلك ينبغي أن تكون نيتك في كل ما يحفظ من قميص وإزار وفراش وآنية، لأن كل ذلك مما يحتاج إليه في الدين، وما فضل من الحاجة ينبغي أن يقصد به أن ينتفع به عبد من عباد الله ولا يمنعه منه عند حاجته، فمن فعل ذلك فهو الذي أخذ من حية المال جوهرها وترياقها واتقى سمها فلا تضره كثرة المال، ولكن لا يتأتى ذلك إلا لمن رسخ في الدين قدمه وعظم فيه علمه. والعامي إذا تشبه بالعالم في الاستكثار من المال وزعم أنه يشبه أغنياء الصحابة شابه الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ الحية ويتصرف فيها فيخرج ترياقها فيقتدي به، ويظن أنه أخذها مستحسناً صورتها وشكلها ومستليناً جلدها، فيأخذها اقتداء به فتقتله في الحال، إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف. وقد شبهت الدنيا بالحية فقيل: هي دنيا كحية تنفث السم وإن كانت المجسة لانت

وكما يستحيل أن يتشبه الأعمى بالبصير في تخطي قلل الجبال وأطراف البحر والطرق المشوكة فمحال أن يتشبه العامي بالعالم الكامل في تناول المال.

بيان ذم الغنى ومدح الفقر

اعلم أن الناس قد اختلفوا في تفضيل الغني الشاكر على الفقير الصابر -وقد أوردنا ذلك في كتاب الفقر والزهد وكشفنا عن تحقيق الحق فيه- ولكنا في هذا الكتب ندل على أن الفقر أفضل وأعلى من الغني على الجملة من غير التفات إلى تفصيل من الأغنياء، حيث احتج بأغنياء الصحابة وبكثرة مال عبد الرحمن بن عوف وشبه نفسه بهم والمحاسبي رحمه الله حبر الأمة في علم المعاملة وله السبق على جميع الباحثين عن عيوب النفس وآفات الأعمال وأغوار العبادات، وكلامه جدير بأن يحكى على وجهه. وقد قال بعد كلام له في الرد على علماء السوء: بلغنا أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: يا علماء السوء تصومون وتصلون وتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون، وتدرسون ما لا تعملون فيا سوء ما تحكمون، تتوبون بالقول والأماني وتعملون بالهوى، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة، بحق أقول لكم لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة؛ كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم؛ يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته ولا تنقطع منها رغبته? بحق أقول لكم إن قلوبكم تبكي من أعمالكم، جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم والعمل تحت أقدامكم؛ بحق أقول لكم أفسدتم آخرتكم فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة؛ فأي الناس أخسر منكم لو تعلمون? ويلكم حتام تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محل المتحيرين! كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم، مهلاً مهلاً! ويلكم ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم? كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم وأجوافكم منه وحشة متعطلة! يا عبيد الدنيا لا كعبيد أتقياء ولا كأحرار كرام؛ توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم، ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم ثم تدفعكم من خلفكم حتى تسلمكم إلى الملك الديان عراة فرادى، فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم. ثم قال الحارث رحمه الله: إخواني فهؤلاء علماء السوء شياطين الإنس وفتنه على الناس، رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة، وأدلوا الدين للدنيا فهم في العاجل عار وشين، وفي الآخرة هم الخاسرون أو يعفو الكريم بفضله.

وبعد: فإني رأيت الهالك المؤثر للدنيا سروره ممزوج بالتنغيص، فيتفجر عنه أنواع الهموم وفنون المعاصي وإلى البوار والتلف مصيره، فرح الهالك برجائه فلم تبق له دنياه ولم يسلم له دينه "خسر الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين" فيا لها من مصيبة ما أفظعها ورزية ما أجلها، ألا فراقبوا الله إخواني ولا يغرنكم الشيطان وأولياؤه من الآنسين بالحجج الداحضة عند الله، فإنهم يتكالبون على الدنيا ثم يطلبون لأنفسهم المعاذير والحجج، ويزعمون أن أصحاب رسول الله ﷺ كانت لهم أموال فيتزين المغرورون بذكر الصحابة ليعذرهم الناس على جمع المال، ولقد دهاهم الشيطان وما يشعرون. ويحك أيها المفتون إن احتجاجك بمال عبد الرحمن بن عوف مكيدة من الشيطان ينطق بها على لسانك فتهلك! لأنك متى زعمت أن أخيار الصحابة أرادوا المال للتكاثر والشرف والزينة فقد اغتبت السادة ونسبتهم إلى أمر عظيم، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى وأفضل من تركه فقد ازدريت محمداً والمرسلين? ونسبتهم إلى قلة الرغبة والزهد في هذا الخير الذي رغبت فيه أنت وأصحابك من جمع المال، ونسبتهم إلى الجهل إذ لم يجمعوا المال كما جمعت، ومتى زعمت أن جمع المال الحلال أعلى من تركه، فقد زعمت أن رسول الله ﷺ لم ينصح للأمة إذ نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير للأمة? فقد غشهم بزعمك حين نهاهم عن جمع المال، كذبت ورب السماء على رسول الله ﷺ! فلقد كان للأمة ناصحاً وعليهم مشفقاً وبهم رؤوفاً. ومتى زعمت أن جمع المال أفضل فقد زعمت أن الله عز وجل لم ينظر لعباده حين نهاهم عن جمع المال وقد علم أن جمع المال خير لهم? أو زعمت أن الله تعالى لم يعلم أن الفضل في الجمع فلذلك نهاهم عنه، وأنت عليم بما في المال من الخير والفضل لذلك رغبت في الاستكثار كأنك أعلم بموضع الخير والفضل من ربك تعالى الله عن جهلك أيها المفتون? تدبر بعقلك ما دهاك به الشيطان حين زين لك الاحتجاج بمال الصحابة! ويحك ما نفعك الاحتجاج بمال عبد الرحمن بن عوف وقد ود عبد الرحمن بن عوف في القيامة أنه لم يؤت من الدنيا إلا قوتاً? وقد بلغني أنه لما توفي عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال أناس من أصحاب رسول الله ﷺ: إنا نخاف على عبد الرحمن فيما ترك! فقال كعب: سبحان الله! وما تخافون على عبد الرحمن كسب طيباً وأنفق طيباً وترك طيبا! فبلغ ذلك أبا ذر فخرج مغضباً يريد كعباً فمر بعظم لحي بعير فأخذه بيده ثم انطق يريد كعباً، فقيل لكعب. إن أبا ذر يطلبك، فخرج هارباً حتى دخل على عثمان يستغيث به وأخبره الخبر، وأقبل أبو ذر يقص الأثر في طلب كعب حتى انتهى إلى دار عثمان، فلما دخل قام كعب فجلس خلف عثمان هارباً من أبي ذر، فقال له أبو ذر: هيه يا بن اليهودية! تزعم أن لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف، ولقد خرج رسول الله ﷺ يوماً نحو أحد وأنا معه فقال "يا أبا ذر" فقلت: لبيك يا رسول الله فقال "الأكثرون هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله وقدامه وخلفه وقليل ما هم" ثم قال "يا أبا ذر" قلت: نعم يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال "ما يسرني أن لي مثل أحد أنفقه في سبيل الله أموت يوم أموت وأترك منه قيراطين" قلت أو قنطارين يا رسول الله? قال "بل قيراطان" ثم قال "يا أبا ذر أنت تريد الأكثر وأنا أريد الأقل فرسول الله يريد هذا وأنت تقول يا ابن اليهودية لا بأس بما ترك عبد الرحمن بن عوف? كذبت وكذب من قال! فلم يرد عليه خوفاً حتى خرج.

وبلغنا أن عبد الرحمن بن عوف قدمت عليه عير من اليمن فضجت المدينة ضجة واحدة فقالت عائشة رضي الله عنها: ما هذا? قيل عير قدمت لعبد الرحمن، قالت: صدق الله ورسوله ﷺ، فبلغ ذلك عبد الرحمن فسألها فقالت سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إني رأيت الجنة فرأيت فقراء المهاجرين والمسلمين يدخلون سعياً، ولم أرد أحداً من الأغنياء يدخلها معهم إلا عبد الرحمن بن عوف يدخلها معهم حبوا فقال عبد الرحمن: إن العير وما عليها في سبيل الله، وإن إرقاءها أحراراً لعلي أدخلها معهم سعياً.

وبلغنا أن النبي ﷺ قال لعبد الرحمن بن عوف "أما إنك أول من يدخل الجنة من أغنياء أمتي وما كدت أن تدخلها إلا حبواً .

ويحك أيها المفتون، فما احتجاجك بالمال وهذا عبد الرحمن في فضله وتقواه وصنائعه المعروف وبذله الأموال في سبيل الله مع صبحته لرسول الله ﷺ وبشراه بالجنة أيضاً يوقف في عرصات القيامة وأهوالها بسبب مال كسبه من حلال للتعفف ولصنائع المعروف، وأنفق منه قصداً، وأعطي في سبيل الله سمحاً، منع من السعي إلى الجنة مع الفقراء المهاجرين وصار يحبو في آثارهم حبواً? فما ظنك بأمثالها الغرقى في فتن الدنيا? وبعد: فالعجب كل العجب لك يا مفتون تمرغ في تخاليط الشبهات والسحت، وتتكالب على أوساخ الناس، وتتقلب في الشهوات والزينة والمباهاة، وتتقلب في فتن الدنيا ثم تحتج بعبد الرحمن وتزعم أنك إن جمعت المال فقد جمعه الصحابة كأنك أشبهت السلف وفعلهم? ويحك إن هذا من قياس إبليس ومن فتياه لأوليائه! وسأصف لك أحوالك وأحوال السلف لتعرف فضائحك وفضل الصحابة. ولعمري لقد كان لبعض الصحابة أموال أرادوها للتعفف والبذل في سبيل الله، فكسبوا حلالاً وأكلوا طيباً وأنفقوا قصداً، وقدموا فضلاً، ولم يمنعوا منها حقاً، ولم يبخلوا بها، لكنهم جادوا لله بأكثرها، وجاد بعضهم بجميعها، وفي الشدة آثروا الله على أنفسهم كثيراً، فبالله أكذلك أنت? والله إنك لعبيد الشبه بالقوم.

وبعد: فإن أخيار الصحابة كانوا للمسكنة محبين، ومن خوف الفقر آمنين، وبالله في أرزاقهم واثقين، وبمقادير الله مسرورين، وفي البلاء راضين، وفي الرخاء شاكرين، وفي الضراء صابرين، وفي السراء حامدين، وكانوا لله متواضعين، وعن حب العلو والتكاثر ورعين. لم ينالوا من الدنيا إلا المباح لهم بالبلغه منها وزجوا الدنيا وصبروا على مكارهها وتجرعوا مرارتها وزهدوا في نعميها وزهرتها. فبالله أكذلك أنت? ولقد بلغنا أنهم كانوا إذا أقبلت الدنيا عليهم حزنوا وقالوا: ذنب عجلت عقوبته من الله، وإذا رأوا الفقر مقبلاً قالوا: مرحباً بشعار الصالحين. وبلغنا أن بعضهم كان إذا أصبح وعند عياله شيء أصبح كئيباً حزيناً، وإذا لم يكن عندهم شيء أصبح فرحاً مسروراً، فقيل له: إن الناس إذا لم يكن عندهم شيء حزنوا، وإذا كان عندهم شيء فرحوا، وأنت لست كذلك! قال: إني إذا أصبحت وليس عند عيالي شيء فرحت إذ كان لي برسول الله ﷺ أسوة، وإذا كان عند عيالي شيء اغتممت إذ لم يكن لي بآل محمد أسوة. وبلغنا أنهم كانوا إذا سلك بهم سبيل الرخاء حزنوا وأشفقوا وقالوا: ما لنا وللدنيا وما يراد بها فكأنهم على جناح خوف، وإذا سلك بهم سبيل البلاء فرحوا واستبشروا وقالوا: الآن تعاهدنا ربنا. فهذه أحوال السلف ونعتهم وفيهم من الفضل أكثر مما وصفنا. فبالله أكذلك أنت? إنك لبعيد الشبه بالقوم.

وسأصف لك أحوالك أيها المفتون ضداً لأحوالهم، وذلك أنك تطغي عند الغنى، وتبطر عند الرخاء، وتمرح عند السراء، وتغفل عن شكر ذي النعماء، وتقنط عن الضراء، وتسخط عند البلاء، ولا ترضى بالقضاء. نعم وتبغض الفقر وتأنف من المسكنة؛ وذلك فخر المرسلين وأنت تأنف من فخرهم. وأنت تدخر المال وتجمعه خوفاً من الفقر وذلك من سوء الظن بالله عز وجل وقلة اليقين بضمانه، وكفى به إثماً، وعساك تجمع المال لنعيم الدنيا وزهرتها وشهواتها ولذاتها. ولقد بلغنا أن رسول الله ﷺ قال "شرار أمتي الذين غذوا بالنعيم فربت عليهم أجسامهم وبلغنا أن بعض أهل العلم قال: ليجيء يوم القيامة قوم يطلبون حسنات لهم فيقال لهم "أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها" وأنت في غفلة قد حرمت نعيم الآخرة بسبب نعيم الدنيا فيا لها حسرة ومصيبة! نعم وعساك تجمع المال للتكاثر والعلو والفخر والزينة في الدنيا، وقد بلغنا أنه من طلب الدنيا للتكاثر أو للتفاخر لقي الله وهو عليه غضبان، وأنت غير مكترث بما حل بك من غضب ربك حين أردت التكاثر والعلو نعم عساك المكث في الدنيا أحب إليك من النقلة إلى جوار الله، فأنت تكره لقاء الله والله للقائك أكره، وأنت في غفلة وعساك تأسف على ما فاتك من عرض الدنيا؛ وقد بلغنا أن رسول الله ﷺ قال "من أسف على دنيا فاتته اقترب من النار مسيرة شهر. وقيل سنة." وأنت تأسف على ما فاتك غير مكترث بقربك من عذاب الله. نعم ولعلك تخرج من دينك أحياناً لتوفير دنياك وتفرح بإقبال الدنيا عليك وترتاح لذلك سروراً بها، وقد بلغنا أن رسول الله ﷺ قال "من أحب الدنيا وسر بها ذهب خوف الآخرة من قلبه وبلغنا أن بعض أهل العلم قال إنك تحاسب على التحزن على ما فاتك من الدنيا، وتحاسب بفرحك في الدنيا إذا قدرت عليها وأنت فرح بدنياك وقد سلبت الخوف من الله تعالى، وعساك تعنى بأمور دنياك أضعاف ما تعنى بأمور آخرتك، وعساك ترى مصيبتك في معاصيك أهون من مصيبتك في انتقاص دنياك، ونعم وخوفك من ذهاب مالك أكثر من خوفك من الذنوب، وعساك تبذل للناس ما جمعت من الأوساخ كلها للعلو والرفعة في الدنيا، وعساك ترضى المخلوقين مساخطاً لله تعالى كيما تكرم وتعظم. ويحك! فكأن احتقار الله تعالى لك في القيامة أهون عليك من احتقار الناس إياك، وعساك تخفى من المخلوقين مساويك ولا تكترث باطلاع الله عليك فيها فكأن الفضيحة عند الله أهون عليك من الفضيحة عند الناس، فكأن العبيد أعلى عندك قدراً من الله، تعالى الله عن جهلك! فكيف تنطق عند ذوي الألباب وهذه المثالب فيك? أف لك! متلوثاً بالأقذار وتحت بمال الأبرار? هيهات هيهات ما أبعدك عن السلف الأخيار، والله لقد بلغني أنهم كانوا فيما أحل لهم أزهد منكم لكبائر المعاصي، فليت صومك على مثال إفطارهم? وليت اجتهادك في العبادة مثل فتورهم ونومهم? وليت جميع حسناتك مثل واحدة من سيئاتهم، فمن لم يكن كذلك فليس معهم في الدنيا ولا معهم في الآخرة، فسبحان الله! كم بين الفريقين من التفاوت? فريق خيار الصحابة في العلو عند الله وفريق أمثالكم في السفالة، أو يعفو الله الكريم بفضله.

وبعد: فإنك إن زعمت أنك متأس بالصحابة بجمع المال للتعفف والبذل في سبيل الله فتدبر أمرك، ويحك هل تجد من الحلال في دهرك كما وجدوا في دهرهم? أو تحسب أنك محتاط في طلب الحلال كما احتاطوا، لقد بلغني أن بعض الصحابة قال: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام، أفتطمع من نفسك في مثل هذا الاحتياط? لا ورب الكعبة ما أحسبك كذلك! ويحك! كن على يقين أن جمع المال لأعمال البر مكر من الشيطان ليوقعك بسبب البر في اكتساب الشبهات الممزوجة بالسحت والحرام، وقد بلغنا أن رسول الله ﷺ قال "من اجترأ على الشبهات أوشك أن يقع في الحرام أيها المغرور، أما علمت أن خوفك من اقتحام الشبهات أعلى وأفضل وأعظم لقدرك عند الله من اكتساب الشبهات، وبذلها في سبيل الله وسبيل البر? بلغنا ذلك عن بعض أهل العلم قال: لأن تدع درهماً واحداً مخافة أن لا يكون حلالاً خير لك من أن تتصدق بألف دينار من شبهة لا تدري أيحل لك أم لا? فإن زعمت أنك أتقى وأورع من أن تتلبس بالشبهات وإنما تجمع المال بزعمك من الحلال للبذل في سبيل الله! ويحك! إن كنت كما زعمت بالغاً في الورع فلا تتعرض للحاسب، فإن خيار الصحابة خافوا المسألة، وبلغنا أن بعض الصحابة قال: ما سرني أن أكتسب كل يوم ألف دينار من حلال وأنفقها في طاعة الله ولم يشغلني الكسب عن صلاة الجمعة، قالوا: ولم ذاك رحمك الله? قال: لأني غني عن مقام يوم القيامة فيقول عبدي من أين اكتسبت وفي أي شيء أنفقت? فهؤلاء المتقون كانوا في جدة الإسلام والحلال موجود لديهم، تركوا المال وجلا من الحساب مخافة أن لا يقوم خير المال بشره، وأنت بغاية الأمن والحلال في دهرك مفقود. تتكالب على الأوساخ ثم تزعم أنك تجمع المال من حلال، ويحك! أين الحلال فتجمعه.

وبعد: فلو كان الحلال موجوداً لديك أما تخاف أن يتغبر عند الغنى قلبك، وقد بلغنا أن بعض الصحابة كان يرث المال الحلال فيتركه مخافة أن يفسد قلبه? أفتطمع أن يكون قلبك أنقى من قلوب الصحابة فلا يزول عن شيء من الخلق في أمرك وأحوالك? لئن ظننت ذلك لقد أحسنت الظن بنفسك الأمارة بالسوء، ويحك! إني لك ناصح أرى لك أن تقنع بالبلغة ولا تجمع المال لأعمال البر ولا تتعرض للحساب، فإنه بلغنا عن رسول الله ﷺ أنه قال "من نوقش الحساب عذب وقال عليه السلام "يؤتى برجل يوم القيامة وقد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار، ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حرام فيقال اذهبوا به إلى النار، ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حرام وأنفقه في حلال فيقال اذهبوا به إلى النار، ويؤتى برجل قد جمع مالاً من حلال وأنفقه في حلال فيقال له: قف لعلك قصرت في طلب هذا بشيء مما فرضت عليك من صلاة لم تصلها لوقتها، وفرطت في شيء من ركوعها وسجودها ووضوئها فيقول: لا يا رب كسبت من حلال وأنفقت في حلال ولم أضيع شيئاً فرضت علي، فيقال: لعلك اختلت في هذا المال في شيء من مركب أو ثوب باهيت به فيقول: لا يا رب لم أختل ولم أباه في شيء، فيقال: لعلك منعت حق أحد أمرتك أن تعطيه من ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، فيقول: لا يا رب كسبت من حلال وأنفق في حلال ولم أضيع شيئاً مما فرضت علي ولم أختل ولم أباه ولم أضيع حق أحد أمرتني أن أعطيه، قال: فيجيء أولئك فيخاصمونه فيقولون: يا رب أعطيته وأغنيته وجعلته بين أظهرنا وأمرته أن يعطينا، فإن كان أعطاهم وما ضيع من ذلك شيئاً من الفرائض ولم يختل في شيء فيقال: قف، الآن هات شكر كل نعمة أنعمتها عليك من أكلة أو شربة أو لذة فلا يزال يسئل ويحك فمن ذا الذي يتعرض لهذه المسألة التي كانت لهذا الرجل الذي تقلب في الحلال وقام بالحقوق كلها وأدى الفرائض بحدودها، حوسب هذه المحاسبة فكيف ترى يكون حال أمثالها الغرقى في فتن الدنيا وتخاليطها وشبانها وشهواتها وزينتها? ويحك لأجل هذه المسائل يخاف المتقون أن يتلبسوا بالدنيا فرضوا بالكفاف منها وعملوا بأنواع البر من كسب المال، فلك ويحك بهؤلاء الأخيار أسوة، فإن أبيت ذلك وزعمت أنك بالغ من الورع والتقوى، ولم تجمع المال إلا من حلال -بزعمك- للتعفف والبذل في سبيل الله، ولم تنفق شيئاً من الحلال إلا بحق، ولم يتغير بسبب المال قلبك عما يحب الله، ولم تسخط الله في شيء من سرائرك وعلانيتك ويحك فإن كنب كذلك، ولست كذلك، فقد ينبغي لك أن ترضى بالبلغة وتعتزل ذوي الأموال إذا وقفوا للسؤال وتسق مع الرعيل الأول في زمرة المصطفى، لا حبس عليك للمسألة والحساب، فإما سلامة وإما عطب. فإنه بلغنا أن رسول الله ﷺ قال "يدخل صعاليك المهاجرين قبل أغنيائهم الجنية بخمسمائة عام وقال عليه السلام "يدخل فقراء المؤمنين الجنة قبل أغنيائهم فيأكلون ويتمتعون والآخرون جثاة على ركبهم فيقولون قبلكم طلبتي أنتم حكام الناس وملوكهم فأروني ماذا صنعتم فيما أعطيتكم .

وبلغنا أن بعض أهل العلم قال: ما سرني أن لي حمر النعم ولا أكون في الرعيل الأول مع محمد عليه السلام وحزبه. يا قوم فاستبقوا السباق مع المخفين في زمرة المرسلين عليهم السلام، وكونوا وجلين من التخلف والانقطاع عن رسول الله ﷺ وجل المتقين. لقد بلغني أن بعض الصحابة وهو أبو بكر رضي الله عنه عطش فاستسقى فأتي بشربة من ماء وعسل فلما ذاقه خنقته العبرة ثم بكى وأبكى، ثم مسح الدموع عن وجهه وذهب ليتكم فعاد في البكاء، فلما أكثر البكاء قيل له: أكل هذا من أجل هذه الشربة? قال: نعم، بينا أنا ذات يوم عند رسول الله ﷺ وما معه أحد في البيت غيري، فجعل يدفع عن نفسه وهو يقول "إليك عني!" فقلت له: فداك أبي وأمي ما أرى بين يديك أحداً فمن تخاطب? فقال "هذه الدنيا تطاولت إلي بعنقها ورأسها فقالت لي: يا محمد خذني، فقلت: إليك عني، فقالت: إن تنج مني يا محمد فإنه لا ينجو مني من بعدك" فأخاف أن تكون هذه قد لحقتني تقطعني عن رسول اللهﷺ يا قوم فهؤلاء الأخبار بكوا وجلا أن تقطعهم عن رسول الله ﷺ شربة من حلال! ويحك أنت في أنواع من النعم والشهوات من مكاسب السحت والشبهات لا تخشى الانقطاع? أف لك ما أعظم جهلك! ويحك فإن تخلفت في القيامة عن رسول الله ﷺ محمد المصطفى لتنظرن إلى أهوال جزعت منها الملائكة والأنبياء، ولئن قصرت عن السباق فليطولن عليك اللحاق، ولئن أردت الكثرة لتصيرن إلى حساب عسير، ولئن لم تقنع بالقليل لتصيرن إلى وقوف طويل وصراخ وعويل؛ ولئن رضيت بأحوال المتخلفين لتقطعن عن أصحاب اليمين وعن رسول رب العالمين ولتبطئن عن نعيم المتنعمين، ولئن خالفت أحوال المتقين لتكونن من المحتسبين في أهوال يوم الدين. فتدب رويحك ما سمعت وبعد. فإن زعمت أنك في مثال خيار السلف، قانع بالقليل، زاهد في الحلال، بذول لما لك، مؤثر على نفسك، لا تخشى الفقر ولا تدخر شيئاً لغدك، مبغض للتكاثر والغنى، راض بالفقر والبلاء، فرح بالقلة والمسكنة، مسرور بالذل والضعة، كاره للعلو والرفعة قوي في أمرك لا يتغير عن الرشد قلبك، قد حاسبت نفسك في الله، وحكمت أمورك كلها على ما وافق رضوان الله ولن توقف في المسألة، ولن يحاسب مثلك من المتقين. وإنما تجمع المال الحلال للبذل في سبيل الله، ويحك أيها المغرور فتدبر الأمر وأمعن النظر! أما علمتأن ترك الاشتغال بالمال وفراغ القلب للذكر والتذكر والتذكار والفكر والاعتبار. أسلم للدين وأيسر للحساب وأخف للمسألة وآمن من روعات القيامة وأجزل للثواب وأعلي لقدرك عند الله أضعافاً. بلغنا عن بعض الصحابة أنه قال: لو أن رجلاً في حجره دنانير يعطيها والآخر يذكر الله لكان الذاكر أفضل. وسئل بعض أهل العلم عن الرجل يجمع المال لأعمال البر قال تركه أبر به. وبلغنا أن بعض خيار التابعين سئل عن رجلين، أحدهما طلب الدنيا حلالاً فأصابها، فوصل بها رحمه وقدم لنفسه. وأما الآخر فإنه جانبها فلم يطلبها ولم يتناولها، فأيهما أفضل? قال: بعيد والله ما بينهما الذي جانبها أفضل كما بين مشارق الأرض ومغاربها. ويحك فهذا الفضل لك بترك الدنيا على من طلبها، ولك في العاجل إن تركت الاشتغال بالمال، وإن ذلك أروح لبدنك وأقل لتعبك وأنعم لعيشك وأرضى لبالك وأقل لهمومك، فما عذرك في جمع المال وأنت بترك المال أفضل ممن طلب المال لأعمال البر? نعم وشغلك بذكر الله أفضل من بذل المال في سبيل الله فاجتمع لك راحة العاجل مع السلامة والفضل في الآجل.

وبعد: فلو كان في جمع المال فضل عظيم لوجب عليك في مكارم الأخلاق أن تتأسى بنبيك إذ هداك الله به، وترضى ما اختاره لنفسه من مجانبة الدنيا. ويحك! تدبر ما سمعت وكن على يقين أن السعادة والفوز في مجانبة الدنيا، فسر مع لواء المصطفى سابقاً إلى جنة المأوى. فإنه بلغنا أن رسول الله ﷺ قال "سادات المؤمنين في الجنة من إذا تغدى لم يجد عشاء، وإذا استقرض لم يجد قرضاً، وليس له فضل كسوة إلا ما يواريه، ولم يقدر على أن يكتسب ما يغنيه، يمسي مع ذلك ويصبح راضياً عن ربه "فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً" ألا يا أخي متى جمعت هذا المال بعد هذا البيان فإنك مبطل فيما ادعيت أنك للبر وللفضل تجمعه، لا! ولكنك خوفاً من الفقر تجمعه، وللنعم والزينة والتكاثر والفخر والعلو والرياء والسمعة والتعظيم والتكرمة تجمعه، ثم تزعم إنك لأعمال البر تجمع المال: راقب الله واستحي من دعواك أيها المغرور. ويحك إن كنت مفتوناً بحب المال والدنيا فكن مقراً أن الفضل والخير في الرضا بالبلغة ومجانبة الفضول، نعم وكن عن جمع المال مزرياً على نفسك معترفاً بإساءتك وجلا من الحساب، فذلك أنجى لك وأقرب إلى الفضل من طلب الحجج لجمع المال. إخواني اعلموا أن دهر الصحابة كان الحال فيه موجوداً وكانوا مع ذلك من أورع الناس وأزهدهم في المباح لهم، ونحن في دهر الحلال فيه مفقوداً وكيف لنا من الحلال مبلغ القوت وستر العورة. فأما جمع المال في دهرنا فأعاذنا الله وإياكم منه.

وبعد: فأين لنا بمثل تقوى الصحابة وورعهم ومثل زهدهم واحتياطهم? وأين لنا مثل ضمائرهم وحسن نياتهم? دهينا ورب السماء بأدواء النفوس وأهوائها، وعن قريب يكون الورود؛ فيا سعادة المخفين يوم النشور وحزن طويل لأهل التكاثر والتخاليط، وقد نصحت لكم إن قبلتم والقابلون فهذا قليل. وفقنا الله وإياكم فكل خير برحمته آمين. هذا آخر كلامه وفيه كفاية في إظهار فضل الفقر على الغنى ولا مزيد عليه. ويشهد لذلك جميع الأخبار التي أوردناها في كتاب ذم الدنيا، وفي كتاب الفقر والزهد.

ويشهد له أيضاً ما روي عن أبي أمامة الباهلي: أن ثعلبة بن حاطب قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال "يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه" قال: يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً، قال "يا ثعلبة أما لك في أسوة أما ترضى أن تكون مثل نبي الله تعالى? أما والذي نفسي بيده لو شئت أن تسير معي الجبال ذهباً وفضة لسارت" قال: والذي بعثك بالحق نبياً لئن دعوت الله أن يرزقني مالاً لأعطين كل ذي حق حقه، ولأفعلن ولأفعلن، قال رسول الله ﷺ "اللهم ارزق ثعلبة مالاً" فاتخذ غنماً فنمت كما ينمو الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها فنزل واديا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في الجماعة ويدع ما سواهما، ثم نمت وكثرت فتنحى حتى ترك الجماعة إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود حتى ترك الجمعة، وطفق يلقى الركبان يوم الجمعة فيسألهم عن الأخبار في المدينة، وسأل رسول الله ﷺ عنه فقال "ما فعل ثعلبة بن حاطب?" فقيل يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة؛ وأخبر بأمره كله، فقال "يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة" قال وأنزل الله تعالى "خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" وأنزل الله تعالى فرائض الصدقة، فبعث رسول الله ﷺ رجلاً من جهينة ورجلاً من بني سليم على الصدقة، وكتب لهما كتاباً بأخذ الصدقة وأمرهما أن يخرجا فيأخذا من المسلمين: وقال "مرا بثعلبة بن حاطب وبفلان -رجل من بني سليم- وخذا صدقاتهما: فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة وأقرآه كتاب رسول الله ﷺ فقال ما هذه إلا جزية ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم تعودا إلي فانطلقا نحو السليمي فسمع بهما فقام إلى خيار أسنان إبله فعز لها للصدقة، ثم استقبلهما بها؛ فلما رأوها قالوا: لا يجب عليك ذلك وما نريد نأخذ هذا منك، قال بلى خذوها، فلما فرغا من صدقاتهما رجعا حتى مرا بثعلبة فسألاه الصدقة فقال: أروني كتابكما، فنظر فيه فقال: هذه أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي فانطلقا حتى أتيا النبي ﷺ فلما رآهما قال "يا ويح ثعلبة" قبل أن يكلماه ودعا للسليمي فأخبراه بالذي صنع ثعلبة وبالذي صنع السليمي فأنزل الله تعالى في ثعلبة "ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين، فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون، فأعقبهم نفاقاً في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون" وعند رسول الله ﷺ رجل من أقارب ثعلبة، فسمع ما أنزل الله فيه، فخرج حتى أتى ثعلبة فقال: لا أم لك يا ثعلبة! قد أنزل الله فيك كذا، فخرج ثعلبة حتى أتي النبي ﷺ فسأله أن يقبل منه صدقته فقال "إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك، فجعل يحثو على التراب على رأسه فقال رسول الله ﷺ "هذا عملك أمرتك فلم تطعني" فلما أبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله، فلما قبض رسول الله ﷺ جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبل منه شيئاً رجع إلى منزله، فلما قبض ﷺ جاء بها إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه، وجاء بها إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأبى أن يقبلها منه، وتوفي ثعلبة بعد في خلافه عثمان فهذا طغيان المال وشؤمه وقد عرفته من هذا الحديث، ولأجل بركة الفقر وشؤم الغني آثر رسول الله ﷺ الفقر لنفسه ولأهل بيته، حتى روى عن عمران بن حصين رضى الله عنه أنه قال: كانت لي من رسول الله منزلة وجاه فقال "يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله ﷺ?" فقلت: نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله، فقام وقمت معه حتى وقفت بباب منزل فاطنة فقرع الباب وقال "السلام عليكم أأدخل? "فقالت: ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معي?" قالت ومن معك يا رسول الله? فقال عمران بن حصين، فقالت: والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة! فقال، اصنعي بها هكذا وهكذا، وأشار بيده، فقالت: هذا جسدي فقد واريته، فكيف برأسي? فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال "شدي بها على رأسك" ثم أذنت له فدخل،

فقال "السلام عليك يا بنتاه كيف أصبحت?" قالت: أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله، فقد أجهدني الجوع، فبكى رسول الله ﷺ وقال "لا تجزعي يا بنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاثة، وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني، ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها "أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة" فقالت: فأين آسية امرأة فرعون ومريم ابنة فرعون? فقال "آسية سيدة نساء عالمها، ومريم سيد نساء عالمها، وخديجة سيدة نساء عالمها، وأنت سيدة نساء عالمك، إنكن في بيوت منن قصب لا أذى فيها ولا صخب، ثم قال لها "اقنعي بابن عمك فواالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا سيداً في الآخرة فانظر الآن إلى حال فاطمة رضي الله عنها وهي بضعة من رسول الله ﷺ كيف آثرت الفقر وتركت المال? ومن راقب أحوال الأنبياء والأولياء وأقوالهم وما ورد من أخبارهم وآثارهم؛ لم يشك في أن فقد المال أفضل من وجوده وإن صرف إلى الخيرات؛ إذ أقل ما فيه من أداء الحقوق والتوقي من الشبهات والصرف إلى الخيرات اشتغال الهم بإصلاحه وانصرافه عن ذكر الله، إذ لا ذكر إلا مع الفراغ، ولا فراغ مع شغل المال.

وقد روي عن جرير عن ليث قال: صحب رجل عيسى ابن مريم عليه السلام فقال: أكون معك وأصحابك، فانطلقا فانتهيا إلى شط نهر فجلسا يتغديان ومعهما ثلاثة أرغفة، فأكلا رغيفين وبقي رغيف ثالث، فقام عيسى عليه السلام إلى النهر فشرب ثم رجع فلم يجد الرغيف، فقال للرجل: من أخذ الرغيف? فقال: لا أدري، قال: فانطلق ومعه صاحبه فرأى ظبية ومعها خشفان لها، قال: فدعا أحدهما فأتاه، فذبحه فاشتوى منه فأكل هو وذلك الرجل، ثم قال للخشف: ثم بإذن الله فقام فذهب، فقال للرجل: أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف? فقال: لا أدري، ثم انتهيا إلى وادي ماء، فأخذ عيسى بيد الرجل فمشيا على الماء، فلما جاوزوا قال له أسألك بالذي أراك هذه الآية من أخذ الرغيف? فقال لا أدري، فانتهيا إلى مفازة فجلسا، فأخذ عيسى عليه السلام يجمع تراباً وكثيباً ثم قال كن ذهباً بإذن الله تعالى، فصار ذهباً، فسمه ثلاثة أثلاث ثم قال ثلث لي وثلث لك وثلث لمن أخذ الرغيف، فقال أنا الذي أخذت الرغيف، فقال كله لك، وفارقه عيسى عليه السلام، فانتهى إليه رجلان في المفازة ومعه المال فأرادا أن يأخذاه منه ويقتلاه، فقال هو بيننا أثلاثاً، فابعثوا أحدكم إلى القرية حتى يشتري لنا طعاماً نأكله، قال فبعثوا أحدهم فقال الذي بعث لأي شيء أقاسم هؤلاء هذا المال? لكني أضع في هذا الطعام سماً فأقتلهما وآخذ المال وحدي، قال ففعل، وقال ذانك الرجلان لأي شيء نجعل لهذا ثلث المال? ولكن إذا رجع قتلناه واقتسمنا المال بيننا، قال فلما رجع إليهما قتلاه وأكلا الطعام فماتا، فبقي ذلك المال في المفازة وأولئك الثلاثة عنده قتلى، فمر بهم عيسى عليه السلام على تلك الحالة فقال لأصحابه هذه الدنيا فاحذروها.

وحكي أن ذا القرنين أتى على أمة من الأمم ليس بأيديهم شيء مما يستمتع به الناس من دنياهم قد احتفروا قبرواً، فإذا أصبحوا تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها ورعوا البقل كما ترعى البهائم، وقد قيض لهم في ذلك معايش من نبات الأرض، وأرسل ذو القرنين إلى ملكهم فقال له أجب ذو القرنين، فقال ما لي إليه حاجة، فإن كان له حاجة فليأتني! فقال ذو القرنين صدق فأقبل إليه ذو القرنين وقال له أرسلت إليك لتأتيني فأبيت، فها أنا قد جئت، فقال لو كان لي إليك حاجة لأتيتك، فقال له ذو القرنين ما لي أراكم على حالة لم أر أحداً من الأمم عليها? قال وما ذاك? قال ليس لكم دنيا ولا شيء أفلا اتخذتم الذهب والفضة فاستمتعتم بهما? قالوا إنما كرهناهما لأن أحداً لم يعط منهما شيئاً إلا تاقت نفسه ودعته إلى ما هو أفضل منه. فقال ما بالكم قد احتقرتم قبوراً فإذا أصبحتم تعاهدتموها فكنستموها وصليتم عندها? قالوا أردنا إذا نظرنا إليها وأملنا الدنيا منعتنا قبورنا من الأمل. قال وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض. أفلا اتخذتم البهائم من الأنعام فاحتلبتموها وركبتموها فاستمتعتم بها? قالوا كرهنا أن نجعل بطوننا قبوراً لها ورأينا في نبات الأرض بلاغاً وإنما يكفي ابن أدنى العيش من الطعام وأيما ما جاوز الحنك من الطعام لم نجد له طعماً كائناً ما كان من الطعام? ثم بسط ملك تلك الأرض يده خلف ذي القرنين فتناول جمجمة؛ فقال: يا ذا القرنين أتدري من هذا? قال: لا؛ ومن هو? قال: ملك من ملوك الأرض أعطاه الله سلطاناً على أهل الأرض فغشم وظلم وعتا؛ فلما رأى الله سبحانه ذلك منه جسمه بالموت فصار كالحجر الملقى؛ وقد أحصى الله عليه عمله حتى يجزيه به في آخرته. ثم تناول جمجمة أخرى بالية فقال: يا ذا القرنين هل تدري من هذا? قال: لا أدري ومن هو? قال: هذا ملك ملكه الله بعده؛ قد كان يرى ما يصنع الذي قبله بالناس من الغشم والظلم والتجبر؛ فتواضع وخشع لله عز وجل وأمر بالعدل في أهل مملكته؛ فصار كما ترى قد أحصى الله عليه عمله، حتى يجزيه في آخرته. ثم أهوى إلى جمجمة ذي القرنين فقال: وهذه الجمجمة قد كانت كهذين فانظر يا ذا القرنين ما أنت صانع? فقال له ذو القرنين: هل لك في صبحتي فأتخذك أخاً ووزيراً وشريكاً فيما أتاني الله من هذا المال? قال: ما أصلح أنا وأنت في مكان ولا أن نكون جميعاً، قال ذو القرنين: ولم? قال: من أجل أن الناس كلهم لك عدو ولي صديق، قال: ولم? قال: يعادونك لما في ديك من الملك والمال والدنيا! ولا أجد أحداً يعاديني لرفضي لذلك ولما عندي من الحاجة وقلة الشيء، قال: فانصرف عنه ذو القرنين متعجباً منه ومتعظاً به، فهذه الحكايات تدلك على آفات الغنى مع ما قدمناه من قبل وبالله التوفيق.

تم كتاب ذم المال والبخل بحمد الله تعالى وعونه، ويليه كتاب ذم الجاه والرياء.

=============

المؤلف: أبو حامد الغزالي كتاب ذم الجاه والرياء

وهو الكتاب الثامن من ربع المهلكات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله علام الغيوب، المطلع على سرائر القلوب، المتجاوز عن كبائر الذنوب، العالم بما تجنه الضمائر من خفايا الغيوب، البصير بسرائر النيات وخفايا الطويات، الذي لا يقبل من الأعمال إلا ما كمل ووفي، وخلص عن شوائب الرياء والشرك وصفا، فإنه المنفرد بالملكوت، فهو أغنى الأغنياء عن الشرك. والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه المبرئين من الخيانة والإفك، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فقد قال رسول الله ﷺ "إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية التي هي أخفى من دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ولذلك عجز عن الوقوف على غوائلها سماسرة العلماء فضلاً عن عامة العباد والأتقياء، وهو من أواخر غوائل النفس وبواطن مكاديها. وإنما يبتلي به العلماء والعباد والمشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة، فإنهم مهما قهروا أنفسهم وجاهدوها وفطموها عن الشهوات وصانوها عن الشهبات وحملوها بالقهر وعلى أصناف العبادات عجزت نفوسهم عن الطمع في المعاصي الظاهرة الواقعة على الجوارح، فطلبت الاستراحة إلى التظاهر بالخير وإظهار العمل والعلم؛ فوجدت مخلصاً من مشقة المجاهدة إلى لذة القبول عند الخلق ونظرهم إليه بعين الوقار والتعظيم، فسارعت إلى إظهار الطاعة وتوصلت إلى اطلاع الخلق ولم تقنع باطلاع الخالق، وفرحت بحمد الناس ولم تقنع بحمد الله وحده، وعلمت أنهم إذا عرفوا تركه الشهوات وتوقيه الشبهات وتحمله مشاق العبادات أطلقوا ألسنتهم بالمدح والثناء وبالغوا في التقريظ والإطراء ونظروا إليه بعين التوقير والاحترام وتبركوا بمشاهدته ولقائه ورغبوا في بركة دعائه، وحرصوا على اتباع رأيه وفاتحوه بالخدمة والسلام، وأكرموه في المحافل غاية الإكرام، وسامحوه في البيع والمعاملات، وقدموه في المجالس وآثروه بالمطاعم والملابس، وتصاغروا له متواضعين وانقادوا له في أغراضه موقرين، فأصابت النفس في ذلك لذة هي أعظم اللذات وشهوة هي أغلب الشهوات، فاستحقرت فيه ترك المعاصي والهفوات واستلانت خشونة المواظبة على العبادات لإدراكها في الباطن لذة اللذات وشهوة الشهوات، فهو يظن أن حياته بالله وبعبادته المريضة، وإنما حياته بهذه الشهوة الخفية التي تعمى عن دركها العقول النافذة القوية، ويرى أنه مخلص في طاعة الله ومجتنب لمحارم الله، والنفس قد أبطنت هذه الشهوة تزييناً للعباد وتصنعاً للخلق وفرحاً بما نالت من المنزلة والوقار، وأحبطت بذلك ثواب الطاعات وأجور الأعمال، وقد أثبتت اسمه في جريد المنافقين وهو يظن أنه عند الله من المقربين. وهذه مكيدة للنفس لا يسلم منها إلا الصديقون، ومهواة لا يرقى منها إلا المقربون، ولذلك قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة.

وإذا كان الرياء هو الداء الدفين الذي هو أعظم شبكة للشيطانين، وجب شرح القول في سببه وحقيقته ودرجاته وأقسامه وطرق معالجته والحذر منه، ويتضح الغرض منه في ترتيب الكتاب على شطرين

===========

الشطر الأول

في حب الجاه والشهرة

وفيه بيان ذم الشهرة وبيان فضيلة الخمول، وبيان ذم الجاه، وبيان معنى الجاه وحقيقته، وبيان السبب في كونه محبوباً أشد من حب المال، وبيان أن الجاه كمال وهمي وليس بكمال حقيقي، وبيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم، وبيان السبب في حب المدح والثناء وكراهية الذم. وبيان العلاج في حب الجاه وبيان علاج حب المدح، وبيان علاج كراهة الذم، وباين اختلاف أحوال الناس في المدح والذم. فهي إثنا عشر فصلاً منها تنشأ معاني الرياء، فلا بد من تقديمها والله الموفق للصواب بلطفه ومنه وكرمه.

بيان ذم الشهرة وانتشار الصيت

اعلم أصلحك الله أن أصل الجاه هو انتشار الصيت والاشتهار وهو مذموم، بل المحمود الخمول إلا من شهرة الله تعالى لنشر دينه م غير تكلف طلب الشهرة منه. قال أنس رضي الله عنه: قال رسو الله ﷺ "حسب امرئ من الشر أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه إلا من عصمه الله وقال جابر بن عبد الله: قال رسول الله ﷺ "يحسب المرء من الشر إلا من عصمه الله من السوء أن يشير الناس إليه بالأصابع في دينه ودنياه. إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ولكن ذكر الحسن رحمه الله الحديث تأويلاً، ولا بأس به، إذ روى هذا الحديث فقيل له: يا أبا سعيد إن الناس إذا رأوك أشاروا إليك بالأصابع، فقال: إنه لم يعن هذا وإنما عنى به المبتدع في دينه والفاسق في دنياه وقال علي كرم الله وجهه: تبذل ولا تشتهر ولا ترفع شخصك لتذكر، وتعلم واكتم، واصمت تسلم، تسر الأبرار وتغيظ الفجار. وقال إبراهيم ابن أدهم رحمه الله: ما صدق الله من أحب الشهرة. وقال أيوب السختياني: والله ما صدق الله عبد إلا سره أن لا يشعر بمكانه. وعن خالد بن معدان، أنه كان إذا كثرت حلقته قام مخافة الشهرة. وعن أبي العالية أنه كان إذا جلس إليه أكثر من ثلاثة قام. ورأى طلحة قوماً يمشون معه نحواً من عشرة، فقال: ذياب طمع وفراش نار. وقال سليم بن حنظلة: بينا نحن حول أبي بن كعب نمشي خلفه إذ رآه عمر فعلاه بالدرة. فقال أنظر يا أمير المؤمنين ما تصنع? فقال: إن هذه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع وعن الحسن قال: خرج ابن مسعود يوماً من منزله فاتبعه ناس فالتفت إليهم فقال: علام تتبعوني فوالله لو تعلمون ما أغلق عليه باب ما اتبعني منكم رجلان? وقال الحسن: إن خفق النعال حول الرجال قلما تلبث عليه قلوب الحمقى. وخرج الحسن ذات يوم فاتبعه قوم فقال: هل لكم من حاجة? وإلا فما عسى أن يبقى هذا من قلب المؤمن. وروي أن رجلاً صحب ابن محيريز في سفر فلما فارقه قال: أوصني، فقال: إن استطعت أن تعرف ولا تعرف وتمشي ولا يمشي إليك وتسأل ولا تسئل فافعل. وخرج أيوب في سفر فشيعه ناس كثيرون فقال: لولا أني أعلم أن الله يعلم من قلبي أني لهذا كاره لخشيت المقت من الله عز وجل. وقال معمر: عاتبت أيوب على طول قميصه فقال. إن الشهرة فيما مضى كانت في طوله وهي اليوم في تشميره. وقال بعضهم: كنت مع أبي قلابة إذ دخل عليه رجل عليه أكسية فقال: إياكم وهذا الحمار الناهق! يشير به إلى طلب الشهرة. وقال الثوري: كانوا يكرهون الشهرة من الثياب الجيدة والثياب الرديئة إذ الأبصار تمتد إليهما جميعاً. وقال رجل لبشر بن الحارث: أوصني، فقال أخمل ذكرك وطيب مطعمك. وكان حوشب يبكي ويقول: بلغ اسمي مسجد الجامع. وقال بشر: ما أعرف رجلاً أحب أن يعرف إلا ذهب دينه وافتضح. وقال أيضاً: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس. رحمة الله عليه وعليهم أجمعين.

بيان فضيلة الخمول

قال رسول الله ﷺ "رب أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره منهم البراء بن مالك" وقال ابن مسعود: قال النبي ﷺ "رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره لو قال اللهم إني أسألك الجنة لأعطاه الجنة ولم يعطه من الدنيا شيئاً وقال ﷺ "ألا أدلكم على أهل الجنة: كل ضعيف مستضعف لو أقسم على الله لأبره وأهل النار كل متكبر مستكبر جواظ وقال أبو هريرة: قال ﷺ "إن أهل الجنة كل أشعث غير ذي طمرين لا يؤبه له الذي إذا استأذنوا على الأمراء لم يؤذن لهم وإذا خطبوا النساء لم ينكحوا وإذا قالوا لم ينصت لقولهم حوائج أحدهم تتخلل في صدره لو قسم نوره يوم القيامة على الناس لوسعهم" وقال ﷺ "إن من أمتي من لو أتى أحدكم يسأله ديناراً لم يعطه إياه ولو سأله فلساً لم يعطه إياه، ولو سأل الله الجنة لأعطاه إياها، ولو سأله الدنيا لم يعطه إياها، وما منعها إياه إلا لهوانها عليه، رب ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره وروي أن عمر رضي الله عنه دخل المسجد فرأى معاذ بن جبل يبكي عند قبر رسول الله ﷺ فقال ما يبكيك فقال: سمعت رسول الله ﷺ يقول "إن اليسير من الرياء شرك وإن الله يحب الأتقياء الأخفياء الذين إن غابوا لم يفتقدوا وإن حضروا لم يعرفوا قلوبهم مصابيح الهدى ينجون من كل غبراء مظلمة .

وقال محمد بن سويد: قحط أهل المدينة وكان بها رجل صالح لا يؤبه له ملازم لمسجد النبي ﷺ، فبينما هم في دعائهم إذ جاءهم رجل عليه طمران خلقان فصلى ركعتين أوجز فيهما ثم بسط يديه فقال: يا رب أقسمت عليك إلا أمطرت علينا الساعة! فلم يرد يديه ولم يقطع دعاءه حتى تغشت السماء بالغمام، وأمطروا حتى صاح أهل المدينة من مخافة الغرق، فقال: يا رب إن كنت تعلم أنهم قد اكتفوا فارفع عنهم، وسكن، وتبع الرجل صاحبه الذي استسقى حتى عرف منزله، ثم بكر عليه فخرج إليه فقال إني أتيك في حاجة! فقال ما هي? قال تخصني بدعوة، قال: سبحان الله! أنت أنت وتسألني أن أخصك بدعوة? ثم قال ما الذي بلغك ما رأيت? قال: أطع الله فيما أمرني ونهاني فسألت الله فأعطاني. وقال ابن مسعود: كونوا ينابيع العلم مصابيح الهدى، أحلاس البيوت سرج الليل جدد القلوب خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون في أهل الأرض. وقال أبو أمامة: قال رسول الله ﷺ "يقول الله تعالى إن أغبط أوليائي عبد مؤمن خفيف الحاذر ذو حظ من صلاة أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر كان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع ثم صبر على ذلك" قال: ثم نقر رسول الله ﷺ بيده فقال "عجلت منينه وقل تراثه وقلت بواكيه وقال عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما: أحب عباد الله إلى الله الغرباء، قيل: ومن الغرباء: قال: الفارون بدينهم يجتمعون يوم القيامة إلى المسيح عليه السلام. وقال الفضيل بن عياض: بلغني أن الله تعالى يقول في بعض ما يمن به على عبده؛ ألم أنعم عليك! ألم أسترك! ألم أخمل ذكرك! وكان الخليل بن أحمد يقول: اللهم اجعلني عندك من أرفع خلقك، واجعلني عند نفسي من أوضع خلقك، واجعلني عند الناس من أوسط خلقك. وقال الثوري: وجدت قلبي يصلح بمكة والمدينة مع قوم غرباء أصحاب قوت وعناء. وقال إبراهيم بن أدهم: ما قرت عيني يوماً في الدنيا قط إلا مرة، بت ليلة في بعض مساجد قرى الشام وكان بي البطن، فجرني المؤذن برجلي حتى أخرجني من المسجد. وقال الفضيل: إن قدرت على أن لا تعرف فافعل، وما عليك أن لا تعرف وما عليك أن لا يثنى عليك وما عليك أن تكون مذموماً عند الناس إذا كنت محموداً عند الله تعالى? فهذه الآثار والأخبار تعرفك مذمة الشهرة وفضيلة الخمول. وإنما المطلوب بالشهرة وانتشار الصيت هو الجاه والمنزلة في القلوب، وحب الجاه هو منشأ كل فساد.

فإن قلت: فأي شهرة تزيد على شهرة الأنبياء والخلفاء الراشدين وأئمة العلماء! فكيف فاتهم فضيلة الخمول? فاعلم أن المذموم طلب الشهرة، فأما وجودها من جهة الله سبحانه من غير تكلف من العبد فليس بمذموم. نعم فيه فتنة على الضعفاء دون الأقوياء، وهم كالغريق إذا كان معه جماعة منن الغرقى فالأولى به أن لا يعرفه أحد منهم فإنهم يتعلقون به فيضعف عنهم فيهلك معهم، وأما القوي فالأولى أن يعرفه الغرقى ليتعلقوا به فينجيهم ويثاب على ذلك.

بيان ذم الجاه ومعناه

قال الله تعالى "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً" جمع بين إرادة الفساد والعلو، وبين أن الدار الآخرة للخالي عن الإرادتين جميعاً. وقال عز وجل "من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون. أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون" وهذا أيضاً متناول بعمومه لحب الجاه فإنه أعظم لذة من لذات الحياة الدنيا وأكثر زينة من زينتها. وقال رسول الله ﷺ "حب المال والجاه ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل وقال ﷺ "ما ذئبان ضاريان أرسلاً في زريبة غنم بأسرع إفساداً من حب الشرف والمال في دين الرجل المسلم وقال ﷺ لعلي كرم الله وجهه "إنما هلاك الناس باتباع الهوى وحب الثناء نسأل الله العفو والعافية بمنه وكرمه.

بيان معنى الجاه وحقيقته

اعلم أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا. ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها وطاعتها. وكما أن الغني هو الذي يملك الدراهم والدنانير، أي يقدر عليهما ليتوصل بهما إلى الأغراض والمقاصد وقضاء الشهوات وسائر حظوظ النفس، فكذلك ذو الجاه هو الذي يملك قلوب الناس، أي يقدر على أن يتصرف فيها ليستعمل بواسطتها أربابها في أغراضه ومآربه. وكما أنه يكتسب الأموال بأنواع من الحرف والصناعات فكذلك يكتسب قلوب الخلق بأنواع من المعاملات، ولا تصير القلوب مسخرة إلا بالمعارف والاعتقادات، فكل من اعتقد القلب فيه وصفاً من أوصاف الكمال انقاد له وتسخر له بحسب قوة اعتقاد القلب وبحسب درجة ذلك الكمال عنده، وليس يشترط أن يكون الوصف كمالاً في نفسه بل يكفي أن يكون كمالاً عنده وفي اعتقاده، وقد يعتقد ما ليس كمالاً كمالاً، ويذعن قلبه للموصوف به انقياداً ضرورياً بحسب اعتقاده، فإن انقياد القلب حال للقلب. وأحوال القلوب تابعة لاعتقادات القلوب وعلومها وتخيلاتها، وكما أن محب المال يطلب ملك الأرقاء والعبيد فطالب الجاه يطلب أن يسترق الأحرار ويستعبدهم ويملك رقابهم بملك قلوبهم، بل الرق الذي يطلبه صاحب الجاه أعظم، لأن المالك يملك العبد قهراً والعبد متأب بطبعه، ولو خلى ورأيه انسل عن الطاعة وصاحب الجاه يطلب الطاعة طوعاً ويبغي ان كون له الأحرار عبيداً بالطبع والطوع، مع الفرح بالعبودية والطاعة له، فما يطلبه فوق ما يطلبه مالك الرق بكثير. فإذاً معنى الجاه: قيام المنزلة في قلوب الناس، أي اعتقاد القلوب لنعت من نعوت الكمال فيه، فبقدر ما يعتقدون من كماله تذعن له قلوبهم، وبقدر إذعان القلوب تكون قدرته على القلوب وبقدر قدرته على القلوب يكون فرحه وحبه للجاه. فهذا هو معنى الجاه وحقيقته وله ثمرات كالمدح والإطراء، فإن المعتقد للكمال لا يسكت عن ذكر ما يعتقده، فيثني عليه، وكالخدمة والإعانة فإنه لا يبخل ببذل نفسه في طاعته بقدر اعتقاده فيكون سخرة له مثل العبد في أغراضه، وكالإيثار وترك المنازعة والتعظيم والتوقير بالمفاتحة بالسلام وتسليم الصدر في المحافل والتقديم في جميع المقاصد، فهذه آثار تصدر عن قيام الجاه في القلب ومعنى قيام الجاه في القلب اشتمال القلوب على اعتقاد صفات الكمال في الشخص إما بعلم أو عبادة أو حسن خلق أو نسب أو ولاية أو جمال في صورة أو قوة في بدن أو شيء مما يعتقده الناس كمالاً، فإن هذه الأوصاف كلها تعظم محله في القلوب فتكون سبباً لقيام الجاه والله تعالى أعلم.

بيان سبب كون الجاه محبوباً بالطبع

حتى لا يخلو عنه قلب إلا بشديد المجاهدة

اعلم أن السبب الذي يقتضي كون الذهب والفضة وسائر أنواع الأموال محبوباً هو بعينه يقتضي كون الجاه محبوباً، بل يقتضي أن يكون أحب من المال، كما يقتضي أن يكون الذهب أحب من الفضة مهما تساويا في المقدار، وهو أنك تعلم أن الدراهم والدنانير لا غرض في أعيانهما إذ لا تصلح لمطعم ولا مشرب ولا منكح ولا ملبس، وإنما هي والحصباء بمثابة واحدة، ولكنهما محبوبان لأنهما وسيلة إلى جميع المحاب وذريعة إلى قضاء الشهوات، فكذلك الجاه لأن معنى الجاه ملك القلوب من الأحرار والقدرة على استسخارها يفيد قدرة على التوصل إلى جميع الأغراض، فالاشتراك في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة، وترجيح الجاه على المال اقتضى أن يكون الجاه أحب من المال، ولملك الجاه ترجيح على ملك المال من ثلاثة أوجه.

الأول: أن التوصل بالجاه إلى المال أيسر من التوصيل بالمال إلى الجاه، فالعالم أو الزاهد الذي تقرر له جاه في القلوب لو قصد اكتساب المال تيسر له، فإن أموال أرباب القلوب مسخرة للقلوب ومبذولة لمن اعتقد فيه الكمال، وأما الرجل الخسيس الذي لا يتصف بصفة كمال إذا وجد كنزاً ولم يكن له جاه يحفظ ماله وأراد أن يتوصل بالمال إلى الجاه لم يتيسر له، فإذاً الجاه آلة ووسيلة إلى المال، فمن ملك الجاه فقد ملك المال، ومن ملك المال لم يملك الجاه بكل حال، فلذلك صار الجاه أحب.

الثاني: هو أن المال معرض للبلوى والتلف بأن يسرق ويغصب ويطمع فيه الملوك والظلمة، ويحتاج فيه إلى الحفظة والحراس والخزائن، ويتطرق إليه أخطار كثيرة، وأما القلوب إذا ملكت فلا تتعرض لهذه الآفات فهي على التحقيق خزائن عتيدة، لا يقدر عليها السراق ولا تتناولاه أيدي النهاب والغصاب، وأثبت الأموال العقار ولا يؤمن فيه الغصب والظلم ولا يستغني عن المراقبة والحفظ، وأما خزائن القلوب فهي محفوظة محروسة بأنفسها، والجاه في أمن وأمان من الغصب والسرقة فيها. نعم إنما تغصب القلوب بالتصريف وتقبيح الحال وتغيير الاعتقاد فيما صدق به من أوصاف الكمال، وذلك مما يهون دفعه ولا يتيسر على محاولة فعله.

الثالث: أن ملك القلوب يسري ونمي ويتزايد منغير حاجة إلى تعب ومقاساة، فإن القلوب إذا أذعنت لشخص واعتقدت كماله بعلم أو عمل أو غيره أفصحت الألسنة لا محالة بما فيها، فيصف ما يعتقده لغيره ويقتنص ذلك القلب أيضاً له، ولهذا المعنى يحب الطبع الصيت وانتشار الذكر. لأن ذلك إذا استطار في الأقطار اقتنص القلوب ودعاها إلى الإذعان والتعظيم، فلا يزال يسري من واحد إلى واحد ويتزايد وليس له مرد معين، وأما المال فمن ملك منه شيئاً فهو مالكه ولا يقدر على استنمائه إلا بتعب ومقاساة، والجاه أبداً في النماء بنفسه ولا مرد لموقعه والمال واقف، ولهذا إذا عظم الجاه وانتشر الصيت وانطلقت الألسنة بالثناء استحقرت الأموال في مقابلته، فهذه مجامع ترجيحات الجاه على المال. وإذا فصلت كثرت وجوه الترجيح.

فإن قلت فالإشكال قائم في المال والجاه جميعاً فلا ينبغي أن يحب الإنسان المال والجاه. نعم القدر الذي يتوصل به إلى جلب الملاذ ودفع المضار معلوم، كالمحتاج إلى الملبس والمسكن والمطعم أو كالمبتلي بمرض أو بعقوبة إذا كان لا يتوصل إلى دفع العقوبة عن نفسه إلا بمال أو جاه، فحبه للمال والجاه معلوم، إذ كل ما لا يتوصل إلى المحبوب إلا به فهو محبوب، وفي الطباع أمر عجيب وراء هذا وهو حب جميع الأموال وكنز الكنوز وادخار الذخائر واستكثار الخزائن وراء جميع الحاجات، حتى لو كان للعبد واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً، وكذلك يحب الإنسان اتساع الجاه وانتشار الصيت إلى أقاصي البلاد التي يعلم قطعاً أنه لا يطؤها ولا يشاهد أصحابها، ليعظموه أو ليبرون بمال أو ليعينوه على غرض من أغراضه، ومع اليأس من ذلك فإنه يلتذ به غاية الالتذاذ وحب ذلك ثابت في الطبع، ويكاد يظن أن ذلك جهل فإنه حب لما لا فائدة فيه لا في الدنيا ولا في الآخرة? فنقول: نعم هذا الحب لا تنفك عنه القلوب. وله سببان? أحدهما: جلي تدركه الكافة. والآخر: خفي وهو أعظم السببين ولكنه أدقهما وأخفاهما وأبعدهما عن أفهام الأذكياء فضلاً عن الأغبياء، وذلك لاستمداده من عرق خفي في النفس وطبيعة مستكنة في الطبع لا يكاد يقف عليها إلا الغواصون.

فأما السبب الأول: فهو دفع ألم الخوف، لأن الشفيق بسوء الظن مولع، والإنسان وإن كان مكفياً في الحال فإنه طويل الأمل ويخطر بباله أن المال فيه كفايته ربما يتلف فيحتاج إلى غيره، فإذا خطر ذلك بباله هاج الخوف من قلبه ولا يدفع ألم الخوف إلا الأمن الحاصل بوجود مال آخر يفزغ إليه إن أصابت هذا المال جائحة، فهو أبدا لشفقته على نفسه وحبه للحياة يقدر طول الحياة؛ ويقدر هجوم الحاجات؛ ويقدر إمكان تطرق الآفات إلى الأموال، ويستشعر الخوف من ذلط فيطلب ما يدفع خوفه وهو كثرة المال، حتى إن أصيب بطائفة من ماله استغنى بالآخر، وهذا خوف لا يوقف له على مقدار مخصوص من المال، فلذلك لم يكن لمثله موقف إلى أن يملك جميع ما في الدنيا ولذلك قال رسول الله ﷺ "منهومان لا يشبعان منهوم العلم ومنهوم المال ومثل هذه العلة تطرد في حبه قيام المنزلة والجاه في قلوب الأباعد عن وطنه وبلده، فإنه لا يخلو عن تقدير سبب يزعجه عن الوطن أو يزعج أولئك عن أوطانهم إلى وطنه، ويحتاج إلى الاستعانة بهم؛ ومهما كان ذلك ممكناً ولم يكن احتياجه إليهم مستحيلاً إحالة ظاهرة كان للنفس فرح ولذة بقيام الجاه في قلوبهم لما فيه من الأمن من هذا الخوف.

وأما السبب الثاني وهو الأقوى: لأن أمر رباني، به وصفه الله تعالى إذ قال سبحانه "ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي" أو معنى كونه ربانياً أنه من أسرار علوم المكاشفة ولا رخصة في إظهاره إذا لم يظهره رسول الله ﷺ ولكنك قبل معرفة ذلك تعلم أن للقلب ميلاً إلى صفات بهيمية كالأكل والوقاع، وإلى صفات سبعية كالقتل والضرب والإيذاء؛ وإلى صفات شيطانية كالمكر والخديعة والإغواء، وإلى صفات ربوبية كالكبر والعز والتجبر وطلب الاستعلاء، وذلك لأنه مركب من أصول مختلفة يطول شرحها وتفصيلها، فهو لما فيه من الأمر الرباني يحب الربوبية بالطبع، ومعنى الربوبية التوحد بالكمال والتفرد بالوجود على سبيل الاستقلال. فصار الكمال من صفات الإلهية فصار محبوباً بالطبع للإنسان، والكمال بالتفرد بالوجود فإن المشاركة في الوجود نقص لا محالة، فكمال الشمس أنها موجودة وحدها، فلو كان معها شمس أخرى لكان ذلك نقصاً في حقها، إذ لم تكن منفردة بكمال معنى الشمسية، والمنفرد بالوجود هو الله تعالى إذ ليس معه موجود سواه، فإن ما سواه أثر من آثار قدرته لا قوام له بذاته، بل هو قائم به، فلم يكن موجوداً معه لأن المعية توجب المساواة في الرتبة، والمساواة في الرتبة نقصان في الكمال، بل الكامل من لا نظير له في رتبته. وكما أن إشراق نور الشمس في أقطار الآفاق ليس نقصاناً في الشمس بل هو من جملة كمالها، وإنما نقصان الشمس بوجود شمس أخرى تساويها في الرتبة مع الاستغناء عنها، فكذلك وجود كل ما في العالم يرجع إلى إشراق أنوار القدرة فيكون تابعاً ولا يكون متبعاً فإذن معنى الربوبية التفرد بالوجود وهو الكمال. وكل إنسان فإنه بطبعه محب لأن يكون هو المنفرد بالكمال، ولذلك قال بعض مشايخ الصوفية: ما من إنسان إلا وفي باطنه ما صرح به فرعون من قوله "أنا ربكم الأعلى" ولكنه ليس يجد له مجالاً وهو كما قال، فإن العبودية قهر على النفس. والربوبية محبوبة بالطبع وذلك للنسبة الربانية التي أومأ إليها قوله تعالى "قل الروح من أمر ربي" ولكن لما عجزت النفس عن درك منتهى الكمال لمتسقط شهوتها للكمال، فهي محبة للكمال ومشتهية له وملتذة به لذاته لا لمعنى آخر وراء الكمال، وكل موجود فهو محب لذاته ولكمال ذاته؛ ومبغض للهلاك الذي هو عدم ذاته أو عدم صفات الكمال من ذاته. وإنما الكمال بعد أن يسلم التفرد بالوجود في الاستيلاء على كل الموجودات؛ فإن أكمل الكمال أن يكون وجود غيرك منك فإن لم يكن منك إن تكون مستولياً عليه، فصار الاستيلاء على الكل محبوباً بالطبع، لأنه نوع كمال. وكل موجود يعرف ذاته فإنه يحب ذاته ويحب كمال ذاته ويلتذ به، إلا أن الاستيلاء على الشيء بالقدرة على التأثير فيه، وعلى تغييره بحسب الإرادة وكونه مسخراً لك تردده كيف تشاء، فأحب الإنسان أن يكون له استيلاء على كل الأشياء الموجودة مع. إلا أن الموجودات منقسمة إلى ما لا يقبل التغيير في نفسه كذات الله تعالى وصفاته. وإلى ما يقبل التغيير ولكن لا يستولى عليه قدرة الخلق، كالأملاك والكواكب وملكوت السموات ونفوس الملائكة والجن والشياطين؛ وكالجبال والبحار. وإلى ما يقبل التغيير بقدرة العبد كالأرض وأجزائها وما عليها من المعادن والنبات والحيوان ومن جملتها قلوب الناس، فإنها قابلة للتأثير والتغيير مثل أجسادهم وأجساد الحيوانات.

فإذا انقسمت الموجودات إلى ما يقدر الإنسان على التصرف فيه كالأرضيات، وإلى ما لا يقدر عليه كذات الله تعالى والملائكة والسموات، أحب الإنسان أن يستولي على السموات بالعلم والإحاطة والإطلاع على أسرارها فإن ذلك نوع استيلاء؛ إذ المعلوم المحاط به كالداخل تحت العلم، والعالم كالمستولي عليه، فلذلك أحب أن يعرف الله تعالى والملائكة والأفلاك والكواكب، وجميع عجائب السموات، وجميع عجائب البحار والجبال وغيرها لأن ذلك نوع استيلاء عليها، والاستيلاء نوع كمال. وهذا يضاهي اشتياق منن عجز عن صنعة عجيبة إلى معرفة طريق الصنعة فيها، كمن يعجز عن وضع الشطرنج، فإنه قد يشتهي أن يعرف اللعب به وأنه كيف وضع? وكمن يرى صنعة عجيبة في الهندسة أو الشعبذة أو جر الثقيل أو غيره وهو مستشعر في نفسه بعض العجز والقصور عنه ولكنه يشتاق إلى معرفة كيفيته فهو متألم ببعض العجز متلذذ بكمال العلم إن علمه.

وأما القسم الثاني: وهو الأرضيات التي قدر الإنسان عليها، إن يحب بالطبع أن يستولي عليها بالقدرة على التصرف فيها كيف يريد وهي قسمان: أجساد وأرواح.

"أما الأجساد" فهي الدراهم والدنانير والأمتعة فحب أن يكون قادراً عليها يفعل فيها ما شاء من الرفع والوضع والتسليم والمنع، فإن ذلك قدرة والقدرة كمال، والكمال من صفات الربوبية، والربوبية محبوبة بالطبع، فلذلك أحب الأموال وإن كان لا يحتاج إليها في ملبسه ومطعمه وفي شهوات نفسه، وبذلك طلب استرقاق العبيد واستعباد الأشخاص الأحرار ولو بالقهر والغلبة حتى يتصرف في أجسادهم وأشخاصهم بالاستسخار، وإن لم يملك قلوبهم، فإنها ربما لم تعتقد كماله حتى يصير محبوباً لها ويقوم القهر منزلته فيها، إن الحشمة القهرية أيضاً لذيذة لما فيها من القدرة.

"القسم الثاني" نفوس الآدميين وقلوبهم وهي أنفس ما على وجه الأرض، فهو يحب أن يكون له استيلاء وقدرة عليها لتكون مسخرة له متصرفة تحت إشارته وإرادته لما فيه من كمال الاستيلاء والتشبه بصفات الربوبية، والقلوب إنما تتسخر بالحب ولا تحب إلا باعتقاد الكمال، فإن كل كمال محبوب لأن الكمال من الصفات الإلهية والصفات الإلهية كلها محبوبة بالطبع للمعنى الرباني من جملة معاني الإنسان، وهو الذي لا يبليه الموت فيعدمه ولا يتسلط عليه التراب فيأكله، فإنه محل الإيمان والمعرفة وهو الواصل إلى لقاء الله تعالى والساعي إليه فإذن معنى الجاه تسخير القلوب، ومن تسخرت له القلوب كانت له قدرة واستيلاء عليها، والقدرة والاستيلاء كما وهو من أوصاف الربوبية. فإذن محبوب القلب بطبعه الكمال بالعلم والقدرة، والمال والجاه من أسباب القدرة، ولا نهاية للمعلومات ولا نهاية للمقدورات، وما دام يبقى معلوم، أو مقدور فالشوق لا يسكن والنقصان لا يزول. ولذلك قال ﷺ "منهومان لا يشبعان" فإذن مطلوب القلوب الكمال، والكمال بالعلم والقدرة وتفاوت الدرجات فيه غير محصور، فسرور كل إنسان ولذته بقدر ما يدركه من الكمال، فهذا هو السبب في كون العلم والمال والجاه محبوباً، وهو أمر وراء كونه محبوباً لأجل التوصل إلى قضاء الشهوات فإن هذه العلة قد تبقى مع سقوط الشهوات، بل يحب الإنسان من العلوم ما لا يصلح للتوصل به إلى الأغراض، بل ربما يفوت عليه جملة من الأغراض والشهوات، ولكن الطبع يتقاضى طلب العلم في جميع العجائب والمشكلات، لأن في العلم استيلاء على المعلوم وهو نوع من الكمال الذي هو من صفات الربوبية فكان محبوباً بالطبع، إلا أن في حب كمال العلم والقدرة أغاليط لا بد من بيانها إن شاء الله تعالى.

بيان الكمال الحقيقي والكمال الوهمي

الذي لا حقيقة له

قد عرفت أنه لا كمال بعد فوات التفرد بالوجود إلا في العلم والقدرة، ولكن الكمال الحقيقي فيه متلبس بالكمال الوهمي، وبيانه أن كمال العلم لله تعالى وذلك من ثلاثة أوجه: "أحدها" من حيث كثرة المعلومات وسعتها، فإنه محيط بجميع المعلومات، فلذلك كلما كانت علوم العبد أكثر كان أقرب إلى الله تعالى "الثاني" من حيث تعلق العلم بالمعلوم على ما هو به، وكون المعلوم مكشوفاً به كشفاً تاماً، فإن المعلومات مكشوفة لله تعالى بأتم أنواع الكشف على ما هي عليه، فلذلك مهما كان علم العبد أوضح وأيقن وأصدق وأوفق للمعلوم في تفاصيل صفات العلوم كان أقرب إلى الله تعالى "الثالث" من حيث بقاء العلم أبد الآباد بحيث لا يتغير ولا يزول، فإن علم الله تعالى باق لا يتصور أن يتغير فكذلك مهما كان علم العبد بمعلومات لا يقبل التغير والانقلاب كان أقرب إلى الله تعالى.

والمعلومات قسمان: متغيرات وأزليات.

أما المتغيرات: فمثالها العلم بكون زيد في الدار، فإنه علم له معلوم، ولكنه يتصور أن يخرج زيد من الدار ويبقى اعتقاد كونه في الدار كما كان فينقلب جهلاً، فيكون نقصاناً لا كمالاً، فكلما اعتقدت اعتقاداً موافقاً وتصور أن ينقلب المعتقد فيه عما اعتقدته كنت بصدد أن ينقلب كمالك نقصاً، ويعود علمك جهلاً. ويلتحق بهذا المثال جميع متغيرات العالم، كعلمك مثلاً بارتفاع جبل ومساحة أرض، وبعد البلاد وتباعد ما بينها من الأميال والفراسخ، وسائر ما يذكر في المسالك والممالك، وكذلك العلم باللغات التي هي اصطلاحات تغير بتغير الأعصار والأمم والعادات فهذه علوم معلوماتها مثل الزئبق تتغير من حال إلى حال، فليس فيه كمال إلا في الحال ولا يبقى كمالاً في القلب.

القسم الثاني: هو المعلومات الأزلية وهو جواز الجائزات ووجوب الواجبات واستحالة المستحيلات، فإن هذه معلومات أزلية أبدية، إذ لا يستحيل الواجب قط جائزاً ولا الجاز محالاً ولا المحال واجباً. فكل هذه الأقسام داخلة في معرفة الله وما يجب له، وما يستحيل في صفاته، ويجوز في أفعاله، فالعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله وحكمته في ملكوت السموات والأرض وترتيب الدنيا والآخرة ومايتعلق به هو الكمال الحقيقي الذي يقرب من يتصف به من الله تعالى، ويبقى كمالاً للنفس بعد الموت، وتكون هذه المعرفة نور للعارفين بعد الموت "يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا" أي تكون هذه المعرفة رأس مال يوصل إلى كشف ما لم ينكشف في الدنيا، كما أنه معه سراج خفي فإنه يجوز أن يصير ذلك سبباً لزيادة النور بسراج آخر يقتبس منه، فيكمل النور الخفي على سبيل الاستتمام، ومن ليس معه أصل السراج فلا مطمع له في ذلك، فمن ليس معه أصل معرفة الله تعالى لم يكن له مطمع في هذا النور، فيبقى كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها بل "كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض" فإذن لا سعادة إلا في معرفة الله تعالى وأما ما عدا ذلك من المعارف فمنها ما لا فائدة له أصلاً كمعرفة الشعر وأنساب العرب وغيرهما، ومنها ما له منفعة في الإعانة على معرفة الله تعالى كمعرفة لغة العرب والتفسير والفقه والأخبار، فإن معرفة لغة العرب تعين على معرفة تفسير القرآن، ومعرفة التفسير تعين على معرفة ما في القرآن من كيفية العبادات والأعمال التي تفيد تزكية النفس، ومعرفة طريق تزكية النفس تفيد استعداد النفس لقبول الهدايا إلى معرفة الله سبحانه وتعالى كما قال تعالى "قد أفلح من زكاها" وقال عز وجل "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" فتكون جملة هذه المعارف كالوسائل إلى تحقيق معرفة الله تعالى، وإنما الكمال في معرفة الله ومعرفة صفاته وأفعاله، وينطوي فيه جميع المعارف المحيطة بالموجودات إذ الموجودات كلها من أفعاله، فمن عرفها من حيث هي فعل الله تعالى. ومن حيث ارتباطها بالقدرة والإرادة والحكمة، فهي من تكملة معرفة الله تعالى، وهذا حكم كمال العلم ذكرناه وإن لم يكن لائقاً بأحكام الجاه والرياء ولكن أوردناه لاستيفاء أقسام الكمال.

وأما القدرة فليس فيها كمال حقيقي للعبد، بل للعبد علم حقيقي وليس له قدرة حقيقية، وإنما القدرة الحقيقية لله وما يحدث من الأشياء عقيب إرادة العبد وقدرته وحركته فهي حادثة بإحداث الله -كما قررنا في كتاب الصبر والشكر، وكتاب التوكل وفي مواضع شتى من ربع المنجيات- فكمال العلم يبقى معه بعد الموت ويوصله إلى الله تعالى فأما كمال القدرة فلا نعم له كمال من جهة القدرة بالإضافة إلى الحال وهي وسيلة له إلى كمال العلم كسلامة أطرافه وقوة يده للبطش ورجله للمشي وحواسه للإدراك، فإن هذه القوة آلة للوصول بها إلى حقيقة كمال العلم، وقد يحتاج استيفاء هذه القوى إلى القدرة بالمال والجاه للتوصل به إلى المطعم والمشرب والملبس والمسكن، وذلك إلى قدر معلوم، فإن لم يستعمله للوصول به إلى معرفة جلال الله فلا خير فيه البتة إلا من حيث اللذة الحالية التي تنقضي على القرب، ومن ظن ذلك كمالاً فقد جهل، فالخلق أكثرهم هالكون في غمره هذا الجهل، فإنهم يظنون أن القدرة على الأجساد بقهر الحشمة، وعلى أعيان الأموال بسعة الغنى، وعلى تعظيم القلوب بسعة الجاه؛ كمال، فلما اعتقدوا ذلك أحبوه ولما أحبوه طلبوه ولما طلبوه شغلوا به وتهالكوا عليه فنسوا الكمال الحقيقي الذي يوجب القرب من الله تعالى ومن ملائكته وهو العلم والحرية "أما العلم" فما ذكرناه من معرفة الله تعالى "وأما الحرية" فالخلاص من أسر الشهوات وغموم الدنيا والاستيلاء عليها بالقهر تشبهاً بالملائكة الذين لا تستفزهم الشهوة ولا يستهويهم لغضب، فإن دفع آثار الشهوة والغضب عن النفس من الكمال الذي هو من صفات الملائكة. ومن صفات الكمال لله تعالى استحالة التغيير والتأثر عليه فمن كان عن التغير والتأثر بالعوارض أبعد كان إلى الله تعالى أقرب وبالملائكة أشبه، ومنزلته عند الله أعظم. وهذا كمال ثالث سوى كمال العلم والقدر، وإنما لم نورده في أقاسم الكمال لأن حقيقته ترجع إلى عدم ونقصان، فإن التغير نقصان إذ هو عبارة عن عدم صفة كائنة وهلاكها، والهلاك نقص في اللذات وفي صفات الكمال.

فإذن الكمالات ثلاثة -إن عددنا (عدم التغير بالشهوات وعدم الانقياد لها) كمالاً ككمال العلم وكمال الحرية؛ وأعني به عدم العبودية للشهوات وإرادة الأسباب الدنيوية- وكمال القدرة للعبد طريق إلى اكتساب كمال العلم، وكمال الحرية ولا طريق له إلى اكتساب كمال القدرة الباقية بعد موته، إذ قدرته على أعيان الأموال وعلى استسخار القلوب والأبدان تنقطع بالموت، ومعرفته وحريته لا ينعدمان بالموت بل يبقيان كمالاً فيه ووسيلة إلى القرب من الله تعالى. فانظر كيف انقلب الجاهلون وانكبوا على وجوههم انكباب العميان فأقبلوا على طلب كمال القدرة بالجاه والمال، وهو الكمال الذي لا يسلم وإن سلم فلا بقاء له، وأعرضوا عن كمال الحرية والعلم الذي إذا حصل كان أبدياً لا انقطاع له، وهؤلاء هم الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا جرم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون، وهم الذين لم يفهموا قوله تعالى "المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً" فالعلم والحرية هي الباقيات الصالحات التي تبقى كمالاً في النفس، والمال والجاه هو الذي ينقضي على القرب وهو كما مثله الله تعالى حيث قال "إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض" الآية. وقال تعالى "واضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء" إلى قوله "فأصبح هشيماً تذروه الرياح" وكل ما تذروه رياح الموت فهو زهرة الحياة الدنيا، وكل ما لا يقطعه الموت فهو الباقيات الصالحات. فقد عرفت بهذا أن كمال القدرة بالمال والجاه كمال ظني لا أصل له، وأن من قصر الوقت على طلبه وظنه مقصوداً فهو جاهل، وإليه أشار أبو الطيب بقوله: ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل: الفقـر

إلا قدر البلغة منهما إلى الكمال الحقيقي اللهم اجعلنا ممن وفقته للخير وهديته بلطفك.

بيان ما يحمد من حب الجاه وما يذم

مهما عرفت أن معنى الجاه مللك القلوب والقدرة عليها فحكمه حكم ملك الأموال فإنه عرض من أعراض الحياة الدنيا، وينقطع بالموت كالمال، والدنيا مزرعة الآخرة، فكل ما خلق في الدنيا فيمكن أن يتزود منه للآخرة، وكما أنه لا بد من أدنى مال لضرورة المطعم والمشرب والملبس، فلا بد من أدنى جاه لضرورة المعيشة مع الخلق، والإنسان كما لا يستغني عن طعام يتناوله فيجوز أن يحب الطعام أو المال الذي يبتاع به الطعام، فكذلك لا يخلو عن الحاجة إلى خادم يخدمه، ورفيق يعينه، وأستاذ يرشده، وسلطان يحرسه ويدفع عنه ظلم الأشرار، فحبه لأن يكون له في قلب خادمه من المحل ما يدعوه إلى الخدمة بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب رفيقه من المحل ما يحسن به مرافقته ومعاونته ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له في قلب أستاذه من المحل ما يحسن به إرشاده وتعليمه والعناية به ليس بمذموم، وحبه لأن يكون له من المحل في قلب سلطانه ما يحثه ذلك على دفع الشر عنه ليس بمذموم، فإن الجاه وسيلة إلى الأعراض كالمال، فلا فرق بينهما إلا أن التحقيق في هذا يفضي إلى أن لا يكون المال والجاه بأعيانهما محبوبين له، بل ينزل ذلك منزلة حب الإنسان أن يكون له في داره بيت ماء لأنه مضطر إليه لقضاء حاجته، ويود أن لو استغنى عن قضاء الحاجة حتى يستغني عن بيت الماء، فهذا على التحقيق ليس محباً لبيت المال فكل ما يراد للتوصل به إلى محبوب فالمحبوب هو المقصود المتوصل إليه. وتدرك التفرقة بمثال آخر وهو أن الرجل قد يحب زوجته من حيث إنه يدفع بها فضلة الشهوة، كما يدفع بيت الماء فضلة الطعام، ولو كفى مؤنة الشهوة لكان يهجز زوجته، كما أنه لو كفى قضاء الحاجة لكان لا يدخل بيت الماء ولا يدور به، وقد يحب الإنسان زوجته لذاتها حب العشاق ولو كفى الشهوة لبقي مستصحباً لنكاحها؛ فهذا هو الحب دون الأول، وكذلك الجاه والمال. وقد يجب كل واحد منهما على هذين الوجهين، فحبهما لأجل التوصل بهما إلى مهمات البدن غير مذموم، وحبهما لأعيابهما فيما يجاوز ضرورة البدن وحاجته مذموم، ولكنه لا يوصف صاحبه بالفسق والعصيان ما لم يحمل الحب على مباشرة معصية. وما يتوصل به إلى اكتساب بكذب وخداع وارتكاب محظور وما لم يتوصل إلى اكتسابه بعبادة، فإن التوصل إلى الجاه والمال بالعبادة جناية على الدين وهو حرام، وإليه يرجع معنى الرياء المحظور كما سيأتي.

فإن قلت: طلبه المنزلة والجاه في قلب أستاذه وخادمه ورفيقه وسلطانه ومن يرتبط به أمره مباح على الإطلاق كيفما كان؛ أو يباح إلى حد مخصوص على وجه مخصوص? فأقول: يطلب ذلك على ثلاثة أوجه؛ وجهان مباحان، ووجه محظور.

أما الوجه المحظور: فهو أن يطلب قيام المنزلة في قلوبهم باعتقادهم فيه صفة وهو منفك عنها، مثل العلم والورع والنسب، فيظهر لهم أنه علوي أو عالم أو ورع وهو لا يكون كذلك. فهذا حرام لأنه كذب وتلبيس أما بالقول أو بالمعاملة.

أما أحد المباحين: فهو أن يطلب المنزلة بصفة هو متصف بها كقول يوسف ﷺ فيما أخبر عنه الرب تعالى "اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم" فإنه طلب المنزلة في قلبه بكونه حفيظاً عليماً، وكان محتاجاً إليه وكان صادقاً فيه "والثاني" أن يطلب إخفاء عيب من عيوبه ومعصية من معاصيه، حتى لا يعلم فلا تزول منزلته به، فهذا أيضاً مباح لأن حفظ الستر على القبائح جائز، ولا يجوز هتك الستر وإظهار القبيح. وهذا ليس فيه تلبيس، بل هو سد لطريق العلم بما لا فائدة في العلم به، كالذي يخفي عن السلطان أنه يشرب الخمر ولا يلقى إليه أنه ورع، فإنه قوله: إني ورع، تلبيس، وعدم إقراره بالشرب لا يوجب اعتقاد الورع بل يمنع العلم بالشرب.

ومن جملة المحظورات تحسين الصلاة بين يديه ليحسن فيه اعتقاده، فإن ذلك رياء، وهو ملبس إذ يخيل إليه أنه من المخلصين الخاشعين لله وهو مراء بما يفعله، فكيف يكون مخلصاً? فطلب الجاه بهذا الطريق حرام وكذا بكل معصية، وذلك يجري مجرى اكتساب المال الحرام من غير فرق، وكما لا يجوز له أن يتملك مال غيره بتلبيس في عوض أو غيره فلا يجوز له أن يتملك قلبه بتزوير وخداع، فإن مللك القلوب أعظم من ملك الأموال.

بيان السبب في حب المدح والثناء

وارتياح النفس به وميل الطبع إليه وبغضها للذم ونفرتها منه

اعلم أن لحب المدح والتذاذ القلب به أربعة أسباب: السبب الأول وهو الأقوى: شعور النفس بالكمال فإنا بينا أن الكمال محبوب، وكل محبوب فإدراكه لذيذ. فمهما شعرت النفس بكمالها ارتاحت واعتزت وتلذذت، والمدح يشعر نفس الممدوح بكمالها، فإن الوصف الذي به مدح لا يخلو إما أن يكون جلياً ظاهراً أو يكون مشكوكاً فيه، فإن كان جلياً ظاهراً محسوساً كانت اللذة به أقل، ولكنه لا يخلو عن لذة كثنائه عليه بأنه طويل القامة أبيض اللون فإن هذا نوع كمال ولكن النفس تغفل عنه فتخلو عن لذته، فإذا استشعرته لم يخل حدوث الشعور عن حدوث لذة، وإن كان ذلك الوصف مما يتطرق إليه الشك فاللذة فيه أعظم كالثناء عليه بكمال العلم أو كمال الورع أو بالحسن المطلق، فإن الإنسان ربما يكون شاكاً في كمال حسنه وفي كمال علمه وكمال ورعه ويكون مشتاقاً إلى زوال هذا الشك بأن يصير مستيقناً لكونه عديم النظير في هذه الأمور إذ تطمئن نفسه إليه، إذا ذكره غيره أورث ذلك طمأنينة وثقة باستشعار ذلك الكمال فتعظم لذاته، وإنما تعظم اللذة بهذه العلة مهما صدر الثناء من بصير بهذه الصفات خبير بها لا يجازف في القول إلا عن تحقيق وذلك كفرح التلميذ بثناء أستاذه عليه بالكياسة والذكاء وغزارة الفضل فإنه في غاية اللذة، وإن صدر ممن يجازف في الكلام أو لا يكون بصيراً بذلك الوصف ضعفت اللذة، وبهذه العلة يبغض الذم أيضاً ويكرهه لأنه يشعره بنقصان نفسه والنقصان ضد الكمال المحبوب فهو ممقوت الشعور به مؤلم، ولذلك يعظم الألم إذا صدر الذم من بصير موثوق به كما ذكرناه في المدح.

السبب الثاني: أن المدح يدل على أن قلب المادح مملوك للممدوح وأنه مريد له ومعتقد فيه ومسخر تحت مشيئته وملك القلوب محبوب والشعور بحصوله لذيذ، وبهذه العلة تعظم اللذة مهما صدر الثناء ممن تتسع قدرته وينتفع باقتناص قلبه كالملوك والأكابر، ويضعف مهما كان المادح ممن لا يؤبه له ولا يقدر على شيء، فإن القدرة عليه بملك قلبه قدرة على أمر حقير فلا يدل المدح إلا على قدرة قاصرة، وبهذه العلة أيضاً يكره الذم ويتألم به القلب، وإذا كان من الأكابر كانت نكايته أعظم لأن الفائت به أعظم.

السبب الثالث: أن ثناء المثني ومدح المادح سبب لاصطياد قلب كل من يسمعه، لا سيما إذ كان ذلك ممن يلتفت إلى قوله ويعتد بثنائه، وهذا مختص بثناء يقع على الملأ فلا جرم كلما كان الجمع أكثر والمثني أجدر بأن يلتفت إلى قوله كان المدح ألذ والذم أشد على النفس.

السبب الرابع: أن المدح يدل على حشمة الممدوح، واضطرار المادح إلى إطلاق اللسان بالثناء على الممدوح إما عن طوع وإما عن قهر، فإن الحشمة أيضاً لذيذة لما فيها من القهر والقدرة، وهذه اللذة تحصل وإن كان المادح لا يعتقد في الباطن ما مدح به، ولكن كونه مضطراً إلى ذكره نوع قهر واستيلاء عليه، فال جرك تكون لذته بقدر تمنع المادح وقوته، فتكون لذة ثناء القوي الممتنع عن التواضع بالثناء أشد.

فهذه الأسباب الأربعة قد تجمع في مدح مادح واحد فيعظم بها الالتذاذ، وقد تفترق فتنقص اللذة بها. أما العلة الأولى وهي استشعار الكمال فتندفع بأن يعلم الممدوح أنه غير صادق في قوله، كما إذا مدح بأنه نسيب أو سخي أو عالم يعلم أو متورع عن المحظورات وهو يعلم من نفسه ضد ذلك، فتزول اللذة التي سببها استشعار الكمال وتبقى لذة الاستيلاء على قلبه وعلى لسانه وبقية اللذات، فإن كان يعلم أن المادح ليس يعتقد ما يقوله ويعلم خلوه عن هذه الصفة بطلت اللذة الثانية وهو استيلاؤه على قلبه، وتبقى لذة الاستيلاء والحشمة على اضطرار لسانه إلى النطق بالثناء فإن لم يكن ذلك عن خوف بل كان بطريق اللعب بطلت اللذات كلها فلم يكن فيه أصلاً لذة لفوات الأسباب الثلاثة فهذا ما يكشف الغطاء عن علة التذاذ النفس بالمدح وتألمها بسبب الذم. وإنما ذكرنا ذلك ليعرف طريق العلاج لحب الجاه وحب المحمدة وخوف المذمة، فإن ما لا يعرف سببه لا يمكن معالجته، إذ العلاج عبارة عن حل أسباب المرض. والله الموفق بكرمه ولطفه وصلى الله على كل عبد مصطفى.

بيان علاج حب الجاه

اعلم ان من غلب على قلبه حب الجاه صار مقصور الهم على مراعاة الخلق مشغوفاً بالتودد إليهم والمراءات لأجلهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم وذلك بذر النفاق وأصل الفساد، ويجر ذلك لا محالة إلى التساهل في العبادات والمراءاة بها وإلى اقتحام المحظورات للتوصل إلى اقتناص القلوب، ولذلك شبه رسول الله ﷺ حب الشرف والمال وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين وقال عليه السلام "إنه ينبت النفاق كما ينبت الماء البقل" إذاً النفاق هو مخالفة الظاهر للباطن بالقول أو الفعل، وكل من طلب المنزلة في قلوب الناس فيضطر إلى النفاق معهم وإلى التظاهر بخصال حميدة هو خال عنها، وذلك هو عين النفاق.

فحب الجاه إذن من المهلكات، فجب علاجه وإزالته عن القلب فإنه طبع جبل عليه القلب كما جبل على حب المال؛ وعلاجه مركب من علم وعمل.

أما العلم: فهو أن يعلم السبب الذي لأجله أحب الجاه وهو كمال القدرة على أشخاص الناس وعلى قلوبهم، وقد بينا أن ذلك إن صفا وسلم فآخره الموت، فليس هو من الباقيات الصالحات، بل لو سجد لك كل من على بسيط الأرض من المشرق إلى المغرب فإلى خمسين سنة لا يبقى الساجد ولا المسجود له، ويكون حالك كحال من مات قبلك من ذوي الجاه مع المتواضعين له. فهذا لا ينبغي أن يترك به الدين الذي هو الحياة الأبدية التي لا انقطاع لها، ومن فهم الكمال الحقيقي والكمال الوهمي -كما سبق- صغر الجاه في عينه، إلا أن ذلك إنما يصغر في عين من ينظر إلى الآخرة كأنه يشاهدها ويستحقر العاجلة ويكون الموت كالحاصل عنده، ويكون حاله كحال الحسن البصري حين كتب إلى عمر بن عبد العزيز "أما بعد: فكأنك بآخر من كتب عليه الموت قد مات" فانظر كيف مد نظره نحو المستقبل وقدره كائناً. وكذلك حال عمر بن عبد العزيز حين كتب في جوابه "أما بعد: فكأنك الدنيا لم تكن وكأنك الآخرة لم تزل" فهؤلاء كان التفاتهم إلى العاقبة، فكان عملهم لها بالتقوى إذ علموا أن العاقبة للمتقين، فاستحقروا الجاه والمال في الدنيا. وأبصار أكثر الخلق ضعيفة مقصورة على العاجلة لا يمتد نورها إلى مشاهدة العواقب، ولذلك قال تعالى "بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى" وقال عز وجل "كلا بل تحبون العاجلة، وتذرون الآخرة" فمن هذا حده فينبغي أن يعالج قلبه من حب الجاه بالعلم بالآفات العاجلة، وهو أن يتفكر في الأخطار التي يستهدف لها أرباب الجاه في الدنيا، فإن كل ذي جاه محسود ومقصود بالإيذاء وخائف على الدوام على جاهه ومحترز من أن تتغير منزلته في القلوب، والقلوب أشد تغيراً من القدر في غليانها وهي مترددة بين الإقبال والإعراض، فكل ما يبنى على قلوب الخلق يضاهي ما يبنى على أمواج البحر فإنه لا ثبات له، والاشتغال بمراعاة القلوب وحفظ الجاه ودفع كيد الحساد ومنع أذى الأعداء كل ذلك غموم عاجلة ومكدرة للذة الجاه، فلا يفي في الدنيا مرجوها بمخوفها فضلاً عما يفوت في الآخرة، فبهذا ينبغي أن تعالج البصيرة الضعيفة. وأما من نفذت بصيرته وقوي إيمانه فلا يلتفت إلى الدنيا، فهذا هو العلاج من حيث العلم.

وأما من حيث العمل: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق وتفارقه لذة القبول ويأنس بالخمول ويرد الخلق ويقنع بالقبول من الخالق. وهذا هو مذهب الملامتية؛ إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس فيسلموا من آفة الجاه، وهذا غير جائز لمن يقتدى به فإنه يوهن الدين في قلوب المسلمين، وأما الذي لا يقتدى به فلا يجوز له أن يقدم على محظور لأجل ذلك، بل له أن يفعل من المباحات ما يسقط قدره عند الناس؛ كما روي أن بعض الملوك قصد بعض الزهاد، فلما علم بقربه منه استدعى طعاماً وبقلاً وأخذ يأكل بشره ويعظم اللقمة، فلما نظر غليه الملك سقط من عينه وانصرف، فقال الزاهد: الحمد لله الذي صرفك عني. ومنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر حتى يظن به أنه يشرب الخمر فيسقط من أعين الناس. وهذا في جوازه نظر من حيث الفقه إلا أن أرباب الأحوال ربما يعالجون أنفسهم بما لا يفتي به الفقه مهما رأوا إصلاح قلوبهم فيه ثم يتداركون ما فرط منهم فيه من صورة التقصير، كما فعل بعضهم، فإنه عرف بالزهد وأقبل الناس عليه، فدخل حماماً ولبس ثياب غيره وخرج فوقف في الطريق حتى عرفوه فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب وقالوا: إنه طرار وهجروه وأقوى الطرق في قطع الجاه الاعتزال عن الناس والهجرة إلى موضع الخمول، فإن المعتزل في بيته في البلد الذي هو به مشهور لا يخلو عن حب المنزلة التي ترسخ له في القلوب بسبب عزلته، فإنه ربما يظن أنه ليس محباً لذلك الجاه وهو مغرور، وإنما سكنت نفسه لأنها قد ظفرت بمقصودها ولو تغير الناس عما اعتقدوه فيه فذموه أو نسبوه إلى أمر غير لائق به جزعت نفسه وتألمت، وربما توصلت إلى الاعتذار عن ذلك وإماطة ذلك الغبار عن قلوبهم، وربما يحتاج في إزالة ذلك عن قلوبهم إلى كذب وتلبيس ولا يبالي به، وبه ويتبين بعد أنه محب للجاه والمنزلة. ومن أحب الجاه والمنزلة فهو كمن أحب المال بل هو شر منه فإن فتنة الجاه أعظم، ولا يمكنه أن لا يحب المنزلة في قلوب الناس ما دام يطمع في الناس، فإذا أحرز قوته من كسبه أو من جهة أخرى وقطع طمعه عن الناس رأساً أصبح الناس كلهم عنده كالأرذال، فلا يبالي أكان له منزلة في قلوبهم أم لم يكن، كما لا يبالي بما في قلوب الذين هم منه في أقصى المشرق لأنه لا يراهم ولا يطمع فيهم، ولا يقطع الطمع عن الناس إلا بالقناعة، فمن قنع استغنى عن الناس وإذا استغنى لم يشتغل قلبه بالناس ولم يكن لقيام منزلته في القلوب عنده وزن، ولا يتم ترك الجاه إلا بالقناعة وقطع الطمع. ويستعين على جميع ذلك بالأخبار الواردة في ذم الجاه ومدح الخمول والذل مثل قولهم: المؤمن لا يخلو من ذلة أو قلة أو علة. وينظر في أحوال السلف وإيثارهم للذل على العز ورغبتهم في ثواب الآخرة رضي الله عنهم أجمعين.

بيان وجه العلاج لحب المدح وكراهة الذم

اعلم أن أكبر الناس إنما هلكوا فخوف مذمة الناس وحب مدحهم، فصار حركاتهم كلها موقوفة على ما يوافق رضا الناس رجاء للمدح وخوفاً من الذم، وذلك من المهلكات فيجب معالجته وطريقة ملاحظة الأسباب التي لأجلها يحب المدح ويكره الذم.

أما السبب الأول: فهو استشعار الكمال بسبب قول المادح فطريقك فيه أن ترجع إلى عقلك وتقول لنفسك: هذه الصفة التي يمدحك بها أنت متصف بها أم لا? فإن كنت متصفاً بها فهي إما صفة تستحق المدح كالعلم والورع، وإما صفة لا تستحق المدح كالثروة والجاه والأعراض الدنيوية فإن كانت من الأعراض الدنيوية فالفرح بها كالفرح بنبات الأرض الذي يصير على القرب هشيماً تذروه الرياح، وهذا من قلة العقل، بل العاقل يقول كما قال المتنبي: أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا

فلا ينبغي أن يفرح الإنسان بعروض الدنيا، وإن فرح فلا ينبغي أن يفرح بمدح المادح بها بوجودها والمدح ليس هو سبب وجودها. وإن كانت الصفة مما يستحق الفرح بها كالعلم والورع فينبغي أن لا يفرح بها لأن الخاتمة غير معلومة، وهذا إنما يفتضي الفرح لأنه يقرب عند الله زلفى، وخطر الخاتمة باق ففي الخوف من سوء الخاتمة شغل عن الفرح بكل ما في الدنيا، بل الدنيا دار أحزان وغموم لا دار فرح وسرور ثم إن كنت تفرح بها على رجاء حسن الخاتمة فينبغي أن يكون فرحك بفضل الله عليك بالعلم والتقوى لا يمدح المادح، فإن اللذة في استشعار الكمال والكمال موجود من فضل الله لا من المدح والمدح تابع له فلا ينبغي أن تفرح بالمدح، والمدح لا يزيدك فضلاً وإن كانت الصفة التي مدحت بها أنت خال عنها ففرحك بالمدح غاية الجنون، ومثالك مثال من يهزأ به إنسان ويقول سبحان الله ما أكثر العطر الذي في أحشائه وما أطيب الروائح التي تفوح منه? إذا قضى حاجته، وهو يعلم ما تشتمل عليه أمعاؤه من الأقذار والأنتان، ثم يفرح بذلك فكذلك إذا ثنوا عليك بالصلاح والورع ففرحت به والله مطلع على خبائث باطنك وغوائل سريرتك وأقذار صفاتك -كان ذلك من غاية الجهل. فإذاً المادح إن صدق فليكن فرحك بصفتتك التي هي من فضل الله عليك، وإن كذب فينبغي أن يغمك ذلك ولا تفرح به.

وأما السبب الثاني: وهو دلالة المدح على تسخين قلب المادح وكونه سبباً لتسخير قلب آخر، فهذا يرجع إلى حب الجاه والمنزلة في القلوب -وقد سبق وجه معالجته، وذلك بقطع الطمع عن الناس وطلب المنزلة عند الله، وبأن تعلم أن طلبة المنزلة في قلوب الناس وفرحك به يسقط منزلتك عند الله! فكيف تفرح به? وأما السبب الثالث: وهو الحشمة التي اضطرت المادح إلى المدح، فهو أيضاً يرجع إلى قدرة عارضة لإثبات لها ولا تستحق الفرح، بل ينبغي أن يغمك مدح المادح وتكرهه وتغضب به -كما نقل ذلك عن السلف- لأن آفة المدح على الممدوح عظيمة -كما ذكرناه في كتاب آفات اللسان- قال بعض السلف: من فرح بمدح فقد مكن الشيطان من أن يدخل في بطنه. وقال بعضهم: نعم الرجل أنت، فكان أحب إليك من أن يقال لك: بئس الرجل أنت، فأنت والله بئس الرجل. وروي في بعض الأخبار -فإن صح فهو قاصم للظهور- أن رجلاً أثنى على رجل خيراً عند رسول الله ﷺ فقال "لو كان صاحبك حاضراً فرضي الذي قلت فمات على ذلك دخل النار وقال ﷺ مرة للمادح "ويحك قصمت ظهره لو سمعك ما أفلح إلى يوم القيامة وقال عليه السلام "ألا لا تمادحوا وإذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب فلهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين على وجل عظيم من المدح وفتنته وما يدخل على القلب من السرور العظيم به، حتى إن بعض الخلفاء الراشدين سأل رجلاً عن شيء فقال: أنت يا أمير المؤمنين خير مني وأعلم، فغضب وقال: إني لم آمرك بأن تزكيني وقيل لبعض الصحابة: لا يزال الناس بخير ما أبقاك الله، فغضب وقال: إني لأحسبك عراقياً. وقال بعضهم -لما مدح- اللهم إن عبدك تقرب إلي بمقتك فأشهدك على مقته. وإنما كرهوا المدح خيفة أن يفرحوا بمدح الخلق وهم ممقوتون عند الخالق، فكان اشتغال قلوبهم بحالهم عند الله تعالى يبغض إليهم مدح الخلق، لأن الممدوح هو المقرب عند الله والمذموم بالحقيقة هو المبعد من الله الملقى في النار مع الأشرار فهذا الممدوح إن كان عند الله من أهل النار فما أعظم جهله إذا فرح بمدح غيره، وإن كان من أهل الجنة فلا ينبغي أن يفرح إلا بفضل الله تعالى وثنائه عليه إذ ليس أمره بيد الخلق. ومهما علم أن الأرزاق والآجال بيد الله تعالى قل التفاته إلى مدح الخلق وذمهم وسقط من قلبه حب المدح واشتغل بما يهمه من أمر دينه. والله الموفق للصواب برحمته.

بيان علاج كراهة الذم

قد سبق أن العلة في كراهة الذم هو ضد العلة في حب المدح، فعلاجه أيضاً يفهم منه. والقول الوجيز فيه أن من ذمك لا يخلو من ثلاثة أحوال.

إما أن يكون قد صدق فيما قال وقصد به النصح والشفقة؛ وإما أن يكون صادقاً ولكن قصده الإيذاء والتعنت وإما أن يكون كاذباً.

فإن كان صادقاً وقصده النصح فلا ينبغي أن تذمه وتغضب عليه وتحقد بسببه، بل ينبغي أن تتقلد منته فإن من أهدى إليك عيوبك فقد أرشدك إلى المهلك حتى تتقيه، فينبغي أن تفرح به وتشتغل بإزالة الصفة المذمومة عن نفسك إن قدرت عليها، فأما اغتمامك بسبب وكراهتك له وذمك إياه فإنه غاية الجهل، وإن كان قصده التعنت فأنت قد انتفعت بقوله إذ أرشدك إلى عيبك إن كنت جاهلاً به، وأذكرك عيبك إن كنت غافلاً عنه، أو قبحه في عينك لينبعث من حرصك على إزالته إن كنت قد استحسنته. وكل ذلك أسباب سعادتك وقد استفدته منه فاشتغل بطلب السعادة فقد أتيح لك أسبابها بسبب ما سمعته من المذمة. فمهما قصدت الدخول على مللك وثوبك ملوث بالعذرة وأنت لا تدري، ولو دخلت عليه كذلك لخفت أن يحز رقبتك لتلويثك مجلسة بالعذرة فقال قائل: أيها الملوث بالعذرة طهر نفسك، فينبغي أن تفرح به لأن تنبيهك بقوله غنيمة، وجميع مساوئ الأخلاق مهلكة في الآخرة والإنسان إنما يعرفها من قول أعدائه فينبغي أن يغتنمه. وأما قصد العدو التعنت فجناية منه على دين نفسه وهو نعمة منه عليك فلم تغضب عليه بقول انتفعت به أنت وتضرر هو به? الحالة الثالثة: أن يفتري عليك بما أنت بريء منه عند الله تعالى فينبغي أن لا تكره ذلك ولا تشتغل بذمه، بل تتفكر في ثلاثة أمور "أحدها" أنك إن خلوت من ذلك العيب فلا تخلو عن أمثاله وأشباهه، وما ستره الله من عيوبك أكثر، فاشكر الله تعالى إذ لم يطلعه على عيوبك ودفعه عنك بذكر ما أنت بريء عنه. "والثاني" أن ذلك كفارات لبقية مساويك وذنوبك فكأنه رماك بعيب أنت بريء منه وطهرك من ذنوب أنت ملوث بها وكل من اغتابك فقد أهدى إليك حسناته وكل من مدحك فقد قطع ظهرك. فما بالك تفرح بقطع الظهر وتحزن لهدايا الحسنات التي تقربك إلى الله تعالى وأنت تزعم أنك تحب القرب من الله. "وأما الثالث" فهو أن المسكين قد جنى على دينه حتى سقط من عين الله وأهلك نفسه بافترائه وتعرض لعقابه الأليم، فلا ينبغي أن تغضب عليه مع غضب الله عليه فتشمت به الشيطان وتقول: اللهم أهلكه، بل ينبغي أن تقول: اللهم أصلحه اللهم تب عليه اللهم ارحمه، كما قال ﷺ "اللهم اغفر لقومي اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون لما أن كسروا ثنيته وشجوا وجهه وقتلوا عمه حمزة يوم أحد. ودعا إبراهيم بن أدهم لمن شج رأسه بالمغفرة فقيل له في ذلك فقال: علمت أني مأجور بسبب وما نالني منه إلا خير فلا أرضى أن يكون هو معقباً بسببي. ومما يهون عليك كراهة المذمة قطع الطمع فإن من استغنيت عنه مهما ذمك لم يعظم أثر ذلك في قلبه، وأصل الدين القناعة وبها ينقطع الطمع عن المال والجاه، وما دام الطمع قائماً كان حب الجاه والمدح في قلب من طمعت فيه غالباً، وكانت همتك إلى تحصيل المنزلة في قلبه مصروفة، ولا ينال ذلك إلا بهدم الدين، فلا ينبغي أن يطمع طالب المال والجاه ومحب المدح ومبغض الذم في سلامة دينه فإن ذلك بعيد جداً.

بيان اختلاف أحوال الناس في المدح والذم

اعلم أن للناس أربعة أحوال بالإضافة إلى الذام والمادح: الحالة الأولى: أن يفرح بالمدح ويشكر المادح ويغضب من الذم ويحقد على الذام ويكافئه أو يحب مكافأته، وهذا حال أكثر الخلق وهو غاية درجات المعصية في هذا الباب.

الحالة الثانية: أن يمتعض في الباطن على الذام ولكن يمسك لسانه وجوارحه عن مكافاته ويفرح باطنه، ويرتاح للمادح ولكن يحفظ ظاهره عن إظهار السرور، وهذا من النقصان إلا أنه بالإضافة إلى ما قبله كمال.

الحالة الثالثة: وهي أول درجات الكمال أن يستوي عنده ذامه ومادحه فلا تغمه المذمة ولا تسره استثقالاً. وهذا قد يظنه بعض العباد بنفسه ويكون مغروراً إن لم يمتحن نفسه بعلاماته. وعلاماته أن لا يجد في نفسه استثقالاً للذام عند تطويله الجلوس عنده أكثر مما يجده في المادح، وأن لا يجد في نفسه زيادة هزة ونشاط في قضاء حوائج المادح فوق ما يجده في قضاء حاجة الذام، وأن لا يكون انقطاع الذام عن مجلسه أهون عليه من انقطاع المادح، وأن لا يكون موت المادح المطري له أشد نكاية في قلبه من موت الذام، وأن لا يكون غمه بمصيبة المادح وما يناله من أعدائه أكثر مما يكون بمصيبة الذام، وأن لا تكون زلة المادح أخف على قلبه وفي عينه من زلة الذام. فمهما خف الذام على قلبه كما خف المادح واستويا من كل وجه فقد نال هذه الرتبة وما أبعد ذلك وما أشده على القلوب! وأكثر العباد فرحهم بمدح الناس لهم مستبطن في قلوبهم وهم لا يشعرون حيث لا يمتحنون أنفسهم بهذه العلامات، وربما شعر العابد بميل قلبه إلى المادح دون الذام، والشيطان يحسن له ذلك ويقول: الذام قد عصى الله بمذمتك، والمادح قد أطاع الله بمدحك، فكيف تسوي بينهما? وإنما استثقالك للذام من الدين المحض. وهنا محض التلبيس، فإن العابد لو تفكر علم أن في الناس من ارتكب كبائر المعاصي أكثر مما ارتكب الذام في مذمته، ثم إنه لا يستثقلهم ولا ينفر عنهم، ويعلم أن المادح الذي مدح لا يخلو عن مذمة غيره. ولا يجد في نفسه نفرة عنه بمذمة غيره كما يجد لمذمة نفسه، والمذمة من حيث إنها معصية لا تختلف بأن يكون هو المذموم أو غيره. فإذا العابد المغرور لنفسه يغضب ولهواه يمتعض، ثم إن الشيطان يخيل إليه أنه من الدين حتى يعتل على الله بهواه فيزيده ذلك بعداً من الله. ومن لم يطع على مكايد الشيطان وآفات النفوس فأكثر عباداته تعب ضائع يفوت عليه الدنيا ويخسره في الآخرة، وفيهم قال الله تعالى "قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً".

الحالة الرابعة: وهي الصدق في العبادة؛ أن يكره المدح ويمقت المادح، إذا يعلم أنه فتنة عليه قاصمة للظهر مضرة له في الدين، ويحب الذام إذ يعلم أنه مهد غليه عيبه ومرشد له إلى مهمه ومهد إليه حسناته، فقد قال ﷺ "رأس التواضع أن تكره أن تذكر بالبر والتقوى وقد روي في بعض الأخبار ما هو قاصم لظهور أمثالنا إن صح، إذ روي أن ﷺ قال "ويل للصائم وويل للقائم وويل لصاحب الصوف إلا من..." فقيل يا رسول الله إلا من? فقال "إلا من تنزهت نفسه عن الدنيا وأبعض المدحة واستحب المذمة وهذا شديد جداً، وغاية أمثالها الطمع في الحالة الثانية، وهو أن يضمر الفرح والكراهة على الذام والمادح، ولا يظهر ذلك بالقول والعمل، فأما الحالة الثالثة وهي التسوية بين المادح والذام فلسنا نطمع فيها. ثم إن طالبنا أنفسنا بعلامة الحالة الثانية فإنها لا تفي بها، لأنها لا بد وأن تتسارع إلى إكرام المادح وقضاء حاجاته، وتتثاقل على إكرام الذام والثناء عليه وقضاء حوائجه، ولا نقدر على أن نسوي بينهما في الفعل الظاهر كما لا نقدر عليه في سريرة القلب، ومن قدر على التسوية بين المادح والذام في ظاهر الفعل فهو جدير بأن يتخذ قدوة في هذا الزمان إن وجد فإنه الكبريت الأحمر يتحدث الناس به ولا يرى، فكيف بما بعده من المرتبتين? وكل واحدة من هذه الرتب أيضاً فيها درجات. أما الدرجات في المدح فهو أن من الناس من يتمنى المدحة والثناء وانتشار الصيت، فيتوصل إلى نيل ذلك بكل ما يمكن حتى يرائي بالعبادات، ولا يبالي بمفارقة المحظورات لاستمالة قلوب الناس واستنطاق ألسنتهم بالمدح وهذا من الهالكين. ومنهم من يريد ذلك ويطلبه بالمباحات ولا يطلبه بالعبادات، ولا يباشر المحظورات، وهذا على شرف جرف هاو، فإن حدود الكلام الذي يستميل به القلوب وحدود الأعمال لا يمكنه أن يضبطها فيوشك أن يقع فيما لا يحل لنيل الحمد، فهو قريب من الهالكين جداً. ومنهم من لا يريد المدحة ولا يسعى لطلبها، ولكن إذا مدح سبق السرور إلى قلبه فإذا لم يقابل ذلك بالمجاهدة ولم يتكلف الكراهية فهو قريب من أن يستجره فرط السرور إلى الرتبة التي قبلها وإن جاهد نفسه في ذلك وكلف قلبه الكراهية وبغض السرور إليه بالتفكر في آفات المدح، فهو في خطر المجاهدة فتارة تكون اليد له وتارة تكون عليه. ومنهم من إذا سمع المدح لم يسر به ولم يغتم به ولم يؤثر فيه وهذا على خير، وإن كان قد بقي عليه بقية من الإخلاص. ومنهم من يكره المدح إذا سمعه ولكن لا ينتهي به إلى أن يغضب على المادح وينكر عليه، وأقصى درجاته أن يكره ويغضب ويظهر الغضب وهو صادق فيه، لا أن يظهر الغضب وقلبه محب له فإن ذلك عين النفاق، لأنه يريد أن يظهر من نفسه الإخلاص والصدق وهو مفلس عنه؛ وكذلك بالضد من هذا تتفاوت الأحوال في حق الذام، وأول درجاته إظهار الغضب وآخرها إظهار الفرح، ولا يكون الفرح وإظهاره إلا ممن في قلبه حنق وحقد على نفسه لتمردها عليه وكثرة عيوبها ومواعيدها الكاذبة وتلبيساتها الخبيثة فيبغضها بغض العدو، والإنسان يفرح ممن يذم عدوه، وهذا شخص عدوه نفسه فيفرح إذا سمع ذمها ويشكر الذام على ذلك ويعتقد فطنته وذكاءه لما وقف على عيوبها، فيكون ذلك كالتشفي له من نفسه ويكون غنيمة عنده إذ صار بالمذمة أوضع في أبين الناس حتى لا يبتلي بفتنة الناس، وإذا سقيت إليه حسنات لم ينصب فيها فسعاه يكون خيراً لعيوبه التي هو عاجز عن إماطتها، ولو جاهد المريد نفسه طول عمره في هذه الخصلة الواحدة وهو أن يستوي عنده ذامه ومادحه لكان له شغل شاغل فيه لا يتفرغ معه لغيره وبينه وبين السعادة عقبات كثيرة هذه إحداها، ولا يقطع شيئاً منها إلا بالمجاهدة الشديدة في العمر الطويل.

=======

الشطر الثاني من الكتاب

في طلب الجاه والمنزلة بالعبادات

وهو الرياء: وفيه بيان ذم الرياء، وبيان حقيقة الرياء وما يرائى، وبيان درجات الرياء؛ وبيان الرياء الخفي؛ وبيان ما يحبط العمل من الرياء وما لا يحبط؛ وبيان دواء الرياء وعلاجه؛ وبيان الرخصة في إظهار الطاعات وبيان الرخصة في كتمان الذنوب؛ وبيان ترك الطاعات خوفاً من الرياء والآفات، وبيان ما يصح من نشاط العبد للعبادات بسبب رؤية الخلق؛ وبيان ما يجب على المريد أن يلزمه قلبه قبل الطاعة وبعدها. وهي عشرة فصول وبالله التوفيق.

بيان ذم الرياء

اعلم أن الرياء حرام والمرائي عند الله ممقوت، وقد شهدت لذلك الآيات والأخبار والآثار.

أما الآيات: فقوله تعالى "فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون الذين هم يراءون" وقوله عز وجل "والذين يمكرون السيئات لهم عذاب شديد ومكر أولئك هو يبور" قال مجاهد هم أهل الرياء. وقال تعالى "إنما نعطمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا" فمدح المخلصين ينفي كل إرادة سوى وجه الله، والرياء ضده وقال تعالى "فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحدا نزل بعد ذلك فيمن يطلب الأجر والحمد بعباداته وأعماله.

وأما الأخبار: فقد قال ﷺ حيث سأله رجل فقال: يا رسول الله فيم النجاة? فقال "أن لا يعمل العبد بطاعة الله يريد بها الناس" وقال أبو هريرة في حديث الثلاثة -المقتول في سبيل الله والمتصدق بماله والقارئ لكتاب الله، كما أوردناه في كتاب الإخلاص-: وإن الله عز وجل يقول لكل واحد منهم: كذبت بل أردت أن يقال فلان جواد، كذبت بل أردت أن يقال فلان شجاع، كذبت بل أردت أن يقال فلان قارئ. فأخبر ﷺ أنهم يثابوا وأن رياءهم هو الذي أحبط أعمالهم وقال ابن عمر رضي الله عنهما: قال النبي ﷺ "من راءى راءى الله به ومن سمع سمع الله به وفي حديث آخر طويل "إن الله تعالى يقول لملائكته إن هذا لم يردني بعمله فاجعلوه في سجين وقال ﷺ "إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر، قالوا وما الشرك الأصغر يا رسول الله? "قال الرياء" يقول الله عز وجل يوم القيامة إذا جازى العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون في الدنيا فانظروا عل تجدون عندهم الجزاء وقال ﷺ "استعيذوا بالله عز وجل من جب الحزن، قيل وما هو يا رسول الله? قال "واد جهنم أعد للقراء المرائين وقال ﷺ "يقول الله عز وجل: من عمل لي عملاً أشرك فيه غيري فهو له كله وأنا منه بريء وأنا أغنى الأغنياء عن الشرك وقال عيسى المسيح ﷺ: إذا كان يوم صوم أحدكم فليدهن رأسه ولحيته ويمسح شفتيه لئلا يرى الناس أنه صائم، وإذا أعطى بيمينه فليخف عن شماله، وإذا صلى فليرخ ستر بابه فإن الله يقسم الثناء كما يقسم الرزق وقال نبينا ﷺ "لا يقبل الله عز وجل عملاً فيه مثقال ذرة من رياء وقال عمر لمعاذ بن جبل حين رآه يبكي: ما يبكيك? قال: حديث سمعته من صاحب هذا القبر يعني النبي ﷺ يقول "إن أدنى الرياء شرك وقال ﷺ "أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهرة الخفية وهي أيضاً ترجع إلى خطايا الرياء ودقائقه وقال ﷺ "إن في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله رجلاً تصدق بيمينه فكاد يخفيها عن شماله ولذلك ورد "أن فضل عمل السر على عمل الجهر بسبعين ضعفاً وقال ﷺ "إن المرائي ينادى عليه يوم القيامة يا فاجر يا غادر يا مرائي ضل عملك وحبط أجرك اذهب فخذ أجرك ممن كنت تعمل له وقال شداد بن أوس: رأيت النبي ﷺ يبكي فقلت ما يبكيك يا رسول الله? قال "إني تخوفت على أمتي الشرك أما إنهم لا يعبدون صنماً ولا شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولكنهم يراءون بأعمالهم وقال ﷺ "لما خلق الله الأرض مادت بأهلها فخلق الجبال فصيرها أوتاداً للأرض. فقالت الملائكة: ما خلق ربنا خلقاً هو أشد من الجبال" فخلق الله الحديد فقطع الجبال، ثم خلق النار فأذابت الحديد، ثم أمر الله الماء بإطفاء النار، وأمر الريح فكدرت الماء، فاختلفت الملائكة فقالت: نسأل الله تعالى، قالوا: يا رب ما أشد ما خلقت من خلقك? قال الله تعالى لم أخلق خلقاً هو أشد على من قلب ابن آدم حين يتصدق بصدقة بيمينه فيخفيها عن شماله فهذا أشد خلقاً خلقه وروى عبد الله بن المبارك بإسناده عن رجل أنه قال لمعاذ بن جبل: حدثني حديثاً سمعته من رسول الله ﷺ قال: فبكى معاذ حتى ظننت أنه لا يسكت ثم سكت ثم قال سمعت النبي ﷺ قال لي "يا معاذ" قلت لبيك بأبي أنت وأمي يا رسول الله قال "إني محدثك حديثاً إن أنت حفظته نفعك وإن أنت ضيعته ولم تحفظه انقطعت حجتك عند الله يوم القيامة، يا معاذ إن الله تعالى خلق سبعة أملاك قبل أن يخلق السموات والأرض، ثم خلق السموات فجعل لكل سماء من السبعة ملكاً بواباً عليها قد جللها عظماً فتصعد الحفظة بعمل العبد من حين أصبح إلى حين أمسى، له نور كنور الشمس، حتى إذا صعدت به إلى السماء الدنيا زكته فكثرته فيقول الملك للحفظة: اضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، أنا صاحب الغيبة أمرني ربي أن لا أدع عمل من اغتاب الناس يجاوزني إلى غيري" قال "ثم تأتي الحفظة بعمل صالح من أعمال العبد فتمر به فتزكيه وتكثره حتى تبلغ به إلى السماء الثانية فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه أراد بعمله هذا عرض الدنيا أمرني ربي أن لا أدع

عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يفتخر به على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة يعمل يبتهج نوراً من صدقة وصيام وصلاة قد أعجب الحفظة فيجاوزون به إلى السماء الثالثة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بها العمل وجه صاحبه، أنا ملك الكبر أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد يزهر كما يزهر الكوكب الدري له دوى من تسبيح وصلاة وحج وعمرة حتى يجاوزوا به السماء الرابعة فيقول لهم الملك الموكل بها:قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه اضربوا به ظهره وبطنه، أنا صاحب العجب أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري إنه كان إذا عمل عملاً أدخل العجب في عمله" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد حتى تجاوزوا به السماء الخامسة كأنه العروس المزفوفة إلى أهلها فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه واحملوه على عاتقه أنا ملك الحسد إنه كان يحسد الناس من يتعلم ويعمل بمثل عمله وكل من كان يأخذ فضلاً من العبادة يحسدهم ويقع فيها أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وحج وعمرة وصيام فيجاوزون بها إلى السماء السادسة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه إنه كان لا يرحم إنساناً قط من عباد الله أصابه بلاء أو ضر أضر به بل كان يشمت به، أنا ملك الرحمة أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء السابعة من صوم وصلاة ونفقة وزكاة واجتهاد وورع له دوي كدوي الرعد وضوء كضوء الشمس معه ثلاثة آلاف ملك فيجاوزون به إلى السماء السابعة فيقول لهم الملك الموكل بها: قفوا واضربوا بهذا العمل وجه صاحبه، اضربوا به جوارحه اقفلوا به على قلبه إني أحجب عن ربي كل عمل لم يرد به وجه ربي إنه أراد بعمله غير الله تعالى، إنه أراد رفعة عن الفقهاء وذكراً عند العلماء وصيتاً في المدائن، أمرني ربي أن لا أدع عمله يجاوزني إلى غيري، وكل عمل لم لله خالصاً فهو رياء ولا يقبل الله عمل المرائي" قال "وتصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة وزكاة وصيام وحج وعمرة وخلق حسن وصمت وذكر لله تعالى وتشيعه ملائكة السموات حتى يقطعوا به الحجب كلها إلى الله عز وجل فيقفون بين يديه ويشهدون له بالعمل الصالح المخلص لله" قال "فيقول الله لهم أنتم الحفظة على عمل عبدي وأنا الرقيب على نفسه إنه لم يردني بهذا العمل وأراد به غيري فعليه لعنتي، فتقول الملائكة كلهم: عليه لعنتك ولعنتنا، وتقول السماوات كلها: عليه لعنة الله ولعنتنا وتلعنه السماوات السبع والأرض ومن فيهن" قال معاذ: قلت يا رسول الله أنت رسول الله وأنا معاذ قال "اقتد بي وإن كان في عملك نقص، يا معاذ حافظ على لسانك من الوقيعة في إخوانك من حملة القرآن واحمل ذنوبك عليك ولا تحملها عليهم ولا تزك نفسك بذمهم ولا ترفع نفسك عليهم ولا تدخل عمل الدنيا في عمل الآخرة ولا تتكبر في مجلسك لكي يحذر الناس من سوء خلقك، ولا تناج رجلاً وعندك آخر، ولا تتعظم على الناس فينقطع عنك خير الدنيا، ولا تمزق الناس فتمزقك كلاب النار يوم القيامة في النار قال الله تعالى "والناشاطات نشطاً" أتدري من هن يا معاذ"? قلت: ما هن بأبي أنت وأمي يا رسول الله? قال "كلاب في النار تنشط اللحم والعظم" قلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله فمن يطيق هذه الخصال ومن ينجو منها? قال "يا معاذ إنه ليسير على من يسره الله عليه قال فما رأيت أكثر تلاوة للقرآن من معاذ للحذر مما في هذا الحديث.

وأما الآثار: فيروى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلاً يطأطئ رقبته فقال: يا صاحب الرقبة ارفع ركبتك ليس الخشوع في الرقاب إنما الخشوع في القلوب ورأى أبو أمامة البلقلي رجلاً في المسجد يبكي في سجوده فقال: أنت أنت لو كان هذا في بيتك. وقال علي كرم الله وجهه: للمرائي ثلاث علامات؛ يكسل إذا كان وحده وينشط إلى كان في الناس يزيد في العمل إذا أثني عليه وينقص إذا ذم. وقال رجل لعبادة بن الصامت: أقاتل بسيفي في سبيل الله أريد به وجه الله تعالى ومحمدة الناس، قال: لا شيء لك، فسأله ثلاث مرات كل ذلك يقول: لا شيء لك، ثم قال في الثالثة: إن الله يقول أنا أغنى الأغنياء عن الشرك... الحديث. وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال: إن أحدثنا يصطنع المعروف يحب أن يحمد ويؤجر، فقال له: أتحب أن تمقت? قال: لا، قال: فإذا عملت لله عملاً فأخلصه. وقال الضحاك: لا يقولن أحدكم هذا لوجه الله ولوجهك ولا يقولن هذا لله وللرحم، فإن الله تعالى لا شريك له. وضرب عمر رجلاً بالدرة ثم قال له: اقتص مني! فقال: لا بل أدعها لله ولك. فقال له عمر: ما صنعت شيئاً إما أن تدعها لي فأعر فذلك أو تدعها لله وحده، فقال: ودعتها لله وحده، فقال: فنعم إذن. وقال الحسن: لقد صحبت أقواماً إن كان أحدهم لتعرض له الحكمة لو نطق بها لنفعته ونفعت أصحابه وما يمنعه منها إلا مخافة الشهرة وإن كان أحدهم ليمر فيرى الأذى في الطريق فما يمنعه أن ينحيه إلا مخافة الشهرة ويقال: إن المرائي ينادى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا مرائي يا غادر يا خاسر يا فاجر اذهب فخذ أجرك ممن عملت له فلا أجر لك عندنا. وقال الفضيل بن عياض: كانوا يراءون بما يعملون وصاروا اليوم يراءون بما لا يعملون. وقال عكرمة: إن الله يعطي العبد على نيته ما لا يعطيه على عمله لأن النية لا رياء فيها. وقال الحسن رضي الله: المرائي يريد أن يغلب قدر الله تعالى وهو رجل سوء يريد أن يقول الناس هو رجل صالح، وكيف يقولون وقد حل من ربه محل الأردياء? فلا بد لقلوب المؤمنين أن تعرفه. وقال قتادة: إذا راءى العبد يقول الله تعالى انظروا إلى عبدي يستهزئ بي. وقال مالك بن دينار الفراء: ثلاثة قراء الرحمن وقراء الدنيا وقراء الملوك، وأن محمد بن واسع من قراء الرحمن. وقال الفضل: من أراد أن ينظر إلى مراء فلينظر إلي. وقال محمد بن المبارك الصوري: أظهر السمت بالليل فإنه أشرف من سمتك بالنهار لأن السمت بالنهار للمخلوقين وسمت الليل لرب العالمين. وقال أبو سليمان: التوقي عن العمل أشد من العمل. وقال ابن المبارك: إن كان الرجل ليطوف بالبيت وهو بخراسان، فقيل له وكيف ذاك? قال يحب أن لا يذكر أنه مجاور بمكة. وقال إبراهيم بن أدهم: ما صدق الله من أراد أن يشتهر.

بيان حقيقة الرياء وما يراءى به

اعلم أن الرياء مشتق من الرؤية، والسمعة مشتقة من السماع، وإنما الرياء أصله طلب المنزلة في قلوب الناس بإبراءهم خصال الخير إلا أن الجاه والمنزلة تطلب في القلب بأعمال سوى العبادات وتطلب بالعبادات. واسم الرياء مخصوص بحكم العادة بطلب المنزلة في القلوب بالعبادة وإظهارها فحد الرياء هو إرادة العباد بطاعة الله، فالمرائي هو العابد والمرائي هو الناس المطلوب رؤيتهم بطلب المنزلة في قلوبهم، والمرائي به هو الخصال التي قصد المرائي إظهارها، والرياء هو قصده إظهار ذلك، والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام وهي مجامع ما يتزين به العبد للناس وهو: البدن، والزي والقول، والعمل والأتباع والأشياء الخارجة. وكذلك أهل الدنيا يراءون بهذه الأسباب الخمسة غلا أن طلب الجاه وقصد الرياء بأعمال ليست من جملة الطاعات أهون من الرياء بالطاعات.

"القسم الأول" الرياء في الدين بالبدن: وذلك بإظهار النحول والصفار ليوهم بذلك شدة الاجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة، وليدل بالنحول على قلة الأكل وبالصفار على سهر الليل وكثرة الاجتهاد وعظم الحزن على الدين، وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر. وهذه الأسباب مهما ظهرت استدل الناس بها على هذه الأمور فارتاحت النفس لمعرفتهم، فلذلك تدعوه النفس إلا إظهارها لنيل تلك الراحة. ويقرب من هذا خفض الصوت وإغارة العينين وذبول الشفتين، ليستدل بذلك على أنه مواظب على الصوم، وأن وقار الشرع هو الذي خفض من صوته أو ضعف الجوع هو الذي ضعف من قوته. وعن هذا قال المسيح عليه السلام: إذا صام أحدكم فليدهن رأسه ويرجل شعره ويكحل عينيه. وكذلك روي عن أبي هريرة وذلك كله لما يخاف عليه من نزغ الشيطان بالرياء؛ ولذلك قال ابن مسعود أصبحوا صياماً مدهنين. فهذه مراءاة أهل الدين بالبدن.

فأما أهل الدنيا فيراءون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها.

"الثاني" الرياء بالهيئة والزي: أما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وتشميرها إلى قريب من الساق وتقصير الأكمام وترك تنظيف الثوب وتركه مخرقاً، كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه متبع للسنة فيه ومقتد فيه بعباد الله الصالحين، ومن ذلك لبس المرقعة والصلاة على السجادة ولبس الثياب الزرق تشبهاً بالصوفية مع الإفلاس من حقائق التصوف في الباطن. ومنه التقنع بالإزار فوق العمامة وإسبال الرداء على العينين ليرى به أنه قد انتهى تقشفه إلى الحذر من غبار الطريق، ولتنصرف إليه الأعين بسبب تميزه بتلك العلامة. ومنه الدراعة والطيلسان يلبسه من هو خال عن العلم ليوهم أنه من أهل العلم.

والمراءون بالزي على طبقات: فمنهم من يطلب المنزلة عند أهل الصلاة بإظهار الزهد فيلبس الثياب المخرقة الوسخة القصيرة الغليظة ليرائي بغلظها ووسخها وقصرها وتخرقها أنه غير مكترث بالدنيا، ولو كلب أن يلبس ثوباً وسطاً نظيفاً مما كان السلف يلبسه لكان عنده بمنزلة الذبح، وذلك لخوفه أن يقول الناس قد بدا له من الزهد ورجع عن تلك الطريق ورغب في الدنيا: وطبقة أخرى يطلبون القبول عن أهل الصلاح وعند أهل الدنيا من الملوك والوزراء والتجار، ولو لبسوا الثياب الفاخرة ردهم القراء ولو لبسوا الثياب المخرقة البذلة ازدرتهم أعين الملوك والأغنياء، فهم يريدون الجمع بين قبول أهل الدين والدنيا، فلذلك يطلبون الأصواف الدقيقة والأكسية الرقيقة والمرقعات المصبوغة والفوط الرفيعة فيلبسونها، ولعل قيمة ثوب أحد الأغنياء ولونه وهيأته لون ثياب الصلحاء فيلتمسون القبول عند الفريقين، وهؤلاء إن كلفوا لبس ثوب خشن أو وسخ لكان عندهم الذبح خوفاً من السقوط من أعين الملوك والأغنياء، ولو كلفوا لبسوا الديبقى والكتان الدقيق الأبيض والمقصب المعلم -وإن كانت قيمته دون قيمة ثيابهم- لعظم ذلك عليهم خوفاً من أن يقول أهل الصلاح قد رغبوا في زي أهل الدنيا. وكل طبقة منهم رأى منزلته في زي مخصوص فيثقل عليهم الانتقال إلى ما دونه وإن كان مباحاً خيفة من المذمة.

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والمسكن وأثاث البيت وفره الخيول وبالثياب المصبغة والطيالسة النفيسة، وذلك ظاهر بين الناس فإنهم يلبسون في بيوتهم الثياب الخشنة ويشتد عليهم لو برزوا للناس على تلك الهيئة ما لم يبالغوا في الزينة.

"الثالث" الرياء بالقول: ورياء أهل الدين بالوعظ والتذكير والنطق بالحكمة وحفظ الأخبار والآثار، لأجل الاستعمال في المحاورة وإظهاراً لغزارة العلم ودلالة على شدة العناية بأحوال السلف الصالحين، وتحريك الشفتين بالذكر في محضر الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمشهد الخلق، وإظهار الغضب للمنكرات وإظهار الأسف على مقارفة الناس للمعاصي وتضعيف الصوت في الكلام وترقيق الصوت بقراءة القرآن، ليدل بذلك على الخوف والحزن، وادعاء حفظ لحديث ولقاء الشيوخ والدق على من يروي الحديث ببيان خلل في لفظه ليعرف أنه بصير بالأحاديث والمبادرة إلى أن الحديث صحيح أو غير صحيح لإظهار الفضل فيه، والمجادلة على قصد إفحام الخصم ليظهر للناس قوته علم الدين. والرياء بالقول كثير وأنواعه لا تنحصر.

وأما أخل الدنيا فمراءاتهم بالقول بحفظ الأشعار والأمثال والتفاصح في العبارات وحفظ النحو الغريب للأغراب على أهل الفضل وإظهار التودد إلى الناس لاستمال القلوب.

"الرابع" الرياء بالعمل: كمراءاة المصلي بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الالتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين، وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وبإطعام الطعام، وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام، حتى إن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا طلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار، فإن غاب الرجل عاد إلى عجلته، فإذا رآه عاد إلى خشوعه ولم يحضر ذكر الله حتى يكون يجدد الخشوع له، بل هو لإطلاع إنسان عليه يخشى أن لا يعتقد فيه أنه من العباد والصلحاء، ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس، فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يفتقر إلى التغيير ويظن أنه يتخلص به عن الرياء وقد تضاعف به رياؤه، فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً، فإنه إنما يحسن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه.

وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والاختيال وتحريك اليدين وتقريب الخطا والأخذ بأطراف الذيل وإدارة العطفين ليدلوا بذلك على الجاه والحشمة.

"الخامس" المراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين: كالذي يتكلف أن يستزير عالماً من العلماء ليقال إن فلاناً قد زار فلاناً، أو عابداً من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه، أو ملكاً من الملوك أو عاملاً من عمال السلطان ليقال إنهم يتبركون به لعظم رتبته في الدين. وكالذي يكثر ذكر الشيوخ ليرى أنه لقي شيوخاً كثيرة واستفاد منهم فيباهي بشيوخه ومباهاته ومراءاته تترشح منه عند مخاصمته، فيقول لغيره: من لقيت من الشيوخ وأنا قد لقيت فلاناً وفلاناً ودرت البلاد وخدمت الشيوخ? وما يجري مجراه. فهذه مجامع ما يرائي به المراءون وكلهم يطلبون بذلك الجاه والمنزلة في قلوب العباد. ومنهم من يقنع بحسن الاعتقادات فيه فكم من راهب انزوى إلى ديره سنين كثيرة? وكم من عابد اعتزل إلى قلة جبل مدة مديدة، وإنما خبأته من حيث علمه بقيام جاهه في قلوب الخلق ولو عرف أنهم نسبوه إلى جريمة في ديره أو صومعته لتشوش قلبه ولم يقنع بعلم الله ببراءة ساحته، بل يشتد لذلك غمه ويسعى بكل حيلة في إزالة ذلك من قلوبهم، مع أنه قد قطع طمعه من أموالهم ولكنه يحب مجرد الجاه -فإنه لذيذ كما ذكرناه في أسبابه- فإنه نوع قدرة وكمال في الحال وإن كان سريع الزوال لا يغتر به إلا الجهال ولكن أكثر الناس جهال، ومن المرائين من لا يقنع بقيام منزلته بل يلتمس من ذلك إطلاق اللسان بالثناء والحمد. ومنهم من يريد انتشار الصيت في البلاد لتكثر الرحلة إليه. ومنهم من يريد الاشتهار عند الملوك لتقبل شفاعته وتنجز الحوائج على يده فيقوم له بذلك جاه عند العامة، ومنهم من يقصد التوصل بذلك إلى جمع حطام وكسب مال ولو من الأوقاف وأموال اليتامى وغير ذلك من الحرام، وهؤلاء شر طبقات المرائين الذين يراءون بالأسباب التي ذكرناها. فهذه حقيقة الرياء وما به يقع الرياء.

فإن قلت: فالرياء حرام أو مكروه أو مباح أو فيه تفصيل? فأقول فيه تفصيل فإن الرياء هو طلب الجاه، وهو إما أن يكون بالعبادات أو بغير العبادات، فإن كان بغير العبادات فهو طلب المال فلا يحرم من حيث إنه طلب منزلة في قلوب العباد، ولكن كما يمكن كسب المال بتلبيسات وأسباب محظورات فكذلك الجاه، وكما أن كسب قليل من المال هو ما يحتاج إليه الإنسان محمود فكسب قليل من الجاه وهو ما يسلم به عن الآفات أيضاً محمود، وهو الذي طلبه يوسف عليه السلام حيث قال "إني حفيظ عليم" وكما أن المال فيه سم ناقع ودرياق نافع فكذلك الجاه، وكما أن كثير المال يلهي ويطغى وينسي ذكر الله والدار الآخرة فكذلك كثير الجاه بل أشد، وفتنة الجاه أعظم من فتنة المال، وكما أنا نقول تملك المال الكثير حرام فلا نقول أيضاً تملك القلوب الكثيرة حرام إلا إذا حملته كثرة المال وكثرة الجاه على مباشرة ما لا يجوز. نعم انصراف الهم إلى سعة الجاه مبدأ الشرور كانصراف الهم إلى كثرة المال، ولا يقدر محب الجاه والمال على ترك معاصي القلب واللسان وغيرها، وأما سعة الجاه من غير حرص منك على طلبه ومن غير اغتمام بزواله إن زال فلا ضرر فيه، فلا جاه أوسع من جاه رسول الله ﷺ وجاه الخلفاء الراشدين ومن بعدهم من علماء الدين، ولكن انصراف الهم إلى طلب الجاه نقصان في الدين ولا يوصف بالتحريم، فعلى هذا نقول: تحسين الثوب الذي يلبسه الإنسان عند الخروج إلى الناس مراءاة وهو ليس بحرام لأنه ليس رياء بالعبادة بل بالدنيا، وقس على هذا كل تجمل للناس وتزين لهم. والدليل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله ﷺ أراد أن يخرج يوماً إلى الصحابة فكان ينظر في جب الماء ويسوي عمامته وشعره فقالت: أو تفعل ذلك يا رسول الله? قال "نعم إن الله تعالى يحب من العبد أن يتزين لإخوانه إذا خرج إليهم نعم هذا كان من رسول الله ﷺ عبادة لأنه كان مأموراً بدعوة الخلق وترغيبهم في الاتباع واستمالة قلوبهم، ولو سقط من أعينهم لو يرغبوا في اتباعه، فكان يجب عليه أن يظهر لهم محاسن أحواله لئلا تزدريه أعينهم، فإن أعين عوام الخلق تمتد إلى الظواهر دون السرائر، فكان ذلك قصد رسول الله ﷺ ولكن لو قصد قاصد به أن يحسن نفسه في أعينهم حذراً من ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم كان قد قصد أمراً مباحاً، إذ للإنسان أن يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الأنس بالإخوان. ومهما استثقلوه واستقذروه لم يأنس بهم.

فإذن المراءاة بما ليس من العبادات قد تكون مباحة، وقد تكون طاعة، وقد تكون مذمومة، وذلك بحسب الغرض المطلوب بها. ولذلك نقول: الرجل إذا أنفق ماله على جماعة من الأغنياء لا في معرض العبادة والصدقة ولكن ليعتقد الناس أنه سخي فهذا مراءاة وليس بحرام وكذلك أمثاله.

أما العبادات كالصدقة والصلاة والصيام والغزو والحج فللمرائي فيه حالتان إحداهما: أن لا يكون له قصد إلا الرياء المحض دون الأجر، وهذا يبطل عبادته لأن الأعمال بالنيات، وهذا ليس بقصد العبادة، لا يقتصر، على إحباط عبادته حتى نقول صار كما كان قبل العبادة بل يعصي بذلك ويأثم كما دلت عليه الأخبار والآيات.

والمعنى فيه أمران "أحدهما" يتعلق بالعباد وهو التلبيس والمكر لأنه خيل إليهم أنه مخلص مطيع لله وأنه من أهل الدين وليس كذلك، والتلبيس في أمر الدنيا حرام أيضاً، حتى لو قضى دين جماعة وخيل للناس أنه متبرع عليهم ليعتقدوا سخاوته أثم به لما فيه من التلبيس وتملك القلوب بالخداع والمكر. "والثاني" يتعلق بالله وهو أنه مهما قصد بعبادة الله تعالى خلق الله فهو مستهزئ بالله. ولذلك قال قتادة: إذا راءى العبد قال الله لملائكته انظروا إليه كيف يستهزئ بي.

ومثاله أن يتمثل بين يدي ملك من الملوك طول النهار كما جرت عادة الخدم وإنما وقوفه لملاحظة جارية من جواري الملك أو غلام من غلمانه، فإن هذا استهزاء بالملك إذ لم يقصد التقريب إلى الملك بخدمته بل قصد بذلك عبداً من عبيده، فأي استحقار يزيد على أن يقصد العبد بطاعة الله تعالى مراءاة عبد ضعيف لا يملك له ضراً ولا نفعاً? وهل ذلك إلا لأنه يظن أن ذلك العبد أقدر على تحصيل أغراضه من الله? وأنه أولى بالتقريب إليه من الله إذ آثره على ملك الملوك فجعله مقصود عبادته? وأي استهزاء يزيد على رفع العبد فوق المولى? فهذا من كبائر المهلكات ولهذا سماه رسول الله ﷺ الشرك الأصغر .

نعم بعض درجات الرياء أشد من بعض -كما سيأتي بيانه في درجات الرياء إن شاء الله تعالى- ولا يخلو شيء منه عن إثم غليظ أو خفيف بحسب ما به المراءاة ولو لم يكن في الرياء إلا أنه يسجد ويركع لغير الله لكان فيه كفاية، فإنه وإن لم يقصد التقرب إلى الله فقد قصد غير الله، ولعمري لو عظم غير الله بالسجود لكفر كفراً جلياً، إلا أن الرياء هو الكفر الخفي لأن المرائي عظم في قلبه الناس، فاقتضت تلك العظمة أن يسجد ويركع فكان الناس هم المعظمون بالسجود من وجه، ومهما زال قصد تعظيم الله بالسجود وبقي تعظيم الخلق كان ذلك قريباً من الشرك، إلا أنه قصد تعظيم نفسه في قلب من عظم عنده بإظهاره من نفسه صورة التعظيم لله، فعن هذا كان شركاً خفياً لا شركاً جلياً، وذلك غاية الجهل ولا يقدم عليه إلا من خدعه الشيطان وأوهم عنده أن العباد يملكون من ضره ونفعه ورزقه وأجله ومصالح حاله ومآله أكثر مما يملكه الله تعالى، فلذلك عدل بوجهه عن الله إليهم وأقبل بقلبه عليهم ليستميل بذلك قلوبهم، ولو وكله الله تعالى إليهم في الدنيا والآخرة لكان ذلك أقل مكافأة له على صنيعه، فإن العباد كلهم عاجزون عن أنفسهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً فكيف يملكون لغيرهم هذا في الدنيا? فكيف في يوم لا يجزى والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئاً بل تقول الأنبياء فيه نفسي نفسي? فكيف يستبدل الجاهل عن ثواب الآخرة ونيل القرب عند الله ما يرتقبه بطمعه الكاذب في الدنيا من الناس? فلا ينبغي أن نشك في أن المرائي بطاعة الله في سخط الله من حيث النقل والقياس جميعاً هذا إذا لم يقصد الأجر فأما إذا قصد الأجر والحمد جميعاً في صدقته أو صلاته فهو الشرك الذي يناقض الإخلاص. وقد ذكرنا حكمه في كتاب الإخلاص، ويدل على ما نقلناه من الآثار قول سعيد بن المسيب وعبادة بن الصامت. إنه لا أجر له فيه أصلاً.

بيان درجات الرياء

اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض، واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه. وأركانه ثلاثة: المرائي به والمرائي لأجله ونفس قصد الرياء.

الركن الأول: نفس قصد الرياء وذلك لا يخلوا إما أن يكون مجرداً دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب، وإما أن يكون مع إرادة الثواب، فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعاً: "الأولى" وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلاً، كالذي يصلي بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي، ربما يصلي من غير طهارة مع الناس، فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عن الله تعالى. وكذلك من يخرج الصدقة خوفاً من مذمة الناس وهو لا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء.

"الثانية" أن يكون له قصد الثواب أيضاً ولكن قصداً ضعيفاً، بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل، ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل، فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم.

"الثالثة" أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين، بحيث لو كان كل واحد منهما خالياً عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة، أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل؛ فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأساً برأس لا له ولا عليه، أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم، وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص.

"الرابعة: أن يكون اطلاع الناس مرجحاً ومقوياً لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الريا وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وأما قوله ﷺ "يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك" فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح.

الركن الثاني: المرائي به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها.

القسم الأول وهو الأغلظ: الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات.

"الأولى" الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار، وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام، وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز وجل "إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون" أي في دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها" الآية وقال تعالى "وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ" وقال تعالى "يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً مذبذبين بين ذلك" والآيات فيهم كثيرة. وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض، وذلك مما يقل في زماننا، ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطناً فيجحد الجنة والنار والدار الآخرة ميلاً إلى قول الملحدة، أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلاً إلى أهل الإباحة، أو يعتقد كفراً أو بدعة وهو يظهر خلافه، فهؤلاء من المنافقين والمرائين المخلدين في النار، وليس وراء هذا الرياء رياء، وحال هؤلاء أشد حالاً من الكفار المجاهرين، فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر.

"الثانية" الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين، وهذا أيضاً عظيم عند الله ولكنه دون الأول بكثير. ومثاله: أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفاً من ذمه، والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجه، أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك الصلاة في الخلوة، وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهى خلوة من الخلق ليفطر، وكذلك يحضر الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها، أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة ولكن خوفاً من الناس، أو يغزو أو يحج كذلك. فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه، ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغيره لم يفعل، ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند اطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب من منزلته عند الخالق، وخوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله، ورغبته في محمدتهم أشد من رغبته في ثواب الله، وهذا غاية الجهل وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد.

"الثالثة" لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض، ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تكرها لا يعصى، ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب، ثم يبعثه الرياء على فعلها، وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت، وكالتجهد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس. فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفاً من المذمة أو طلب للمحمدة، ويعلم الله تعالى منه أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض. فهذا أيضاً عظيم ولكنه دون ما قبله، فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق، وهذا أيضاً قد فعل ذلك واتق ذم الخلق دون ذم الخالق، فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله، وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقاباً على ترك النافلة لو تركها، وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه. فهذا هو الرياء بأصول العبادات.

القسم الثاني: الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها، وهو أيضاً على ثلاثة درجات.

"الأولى" أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة، كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة، فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين، وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل؛ أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة، فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة، ومن جلس بين يدي إنسان متربعاً أو متكئاً فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديماً للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة، وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة. وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفاً من مذمته، وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالاً لعبادة الصوم خوفاً من المذمة، فهذا أيضاً من الرياء المحظور لأن فيه تقديماً للمخلوقين على الخالق، ولكنه دون الرياء بأصول العبادات.

إن قال المرائي: إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة، فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود والكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة، وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية? فيقال له: هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس، وليس الأمر كذلك، فإنضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك، فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر، وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلاً وولاية يتقلدها، فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده، وإذا كان عند بعض غلمانه امتنع خوفاً من مذمة غلمانه، وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر.

نعم للمرائي فيه حالتان: إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعاً. والثانية: أن يقول ليس يحضرني الإخلاص في تحسين الركوع والسجود، ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم، فأستفيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو الله عليه ثواباً، فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفون الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر. والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص، فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق.

"الدرجة الثانية" أن يرائي بفعل ما لا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته، كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة على السور المعتادة، وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت، وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة. وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدر عليه.

"الثالثة" أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضاً كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه. وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة? فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض. والكل مذموم.

الركن الثالث: المرائي لأجله، فإن للمرائي مقصوداً لا محالة، وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة، وله أيضاً ثلاث درجات:

"الأولى" وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية، كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها، أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها، أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها، أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصدة الفاسدة في المعاصي. وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور، وقد يحضرون مجالس العلم والتذكير وحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان، أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام. وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلماً إلى معصية واتخذوها آلة ومتجراً وبضاعة لهم في فسقهم، ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى.

"الثانية" أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة، كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء، فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة، وكالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته. فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول، فإن المطلوب بهذا مباح في نفسه.

"الثالثة" أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح، ولكن يظهر عبادته خوفاً من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلاً فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار، وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن يظهر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن، ويقول ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه، والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك، وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير، وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام، ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئاً من ذلك، وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب خوفاً من أن يعلم الناس أنه غير صائم، فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله، أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأن صائم ولكن يقول: لي عذر، وهو جمع بين خبيثين، فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء، وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائياً فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته، ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذراً تصريحاً أو تعريضاً بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم، أو يقول أفطرت تطييباً لقلب فلان، ثم قد لا يذكر ذلك متصلاً بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء، ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا؛ مثل أن يقول: إن فلاناً محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح علي اليوم ولم أجد بداً من تطييب قلبه. ومثل أن يقول: إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوماً مرضت فلا تدعني أصوم، فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلى لرسوخ عرق الرياء في الباطن. أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه? فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبساً، وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه عنده، وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور - وسيأتي شرح ذلك وشروطه -.

فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه، وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر، يزل فيه فحول العلماء فضلاً عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم.

بيان الرياء الخفي الذي هو أخفى من دبيب النمل

اعلم أن الرياء جلي وخفي، فالجلي هو الذي يبعث على العمل ويحمل عليه ولو قصد الثواب وهو أجلاه، وأخفى منه قليلاً هو ما لا يحمل على العمل بمجرده، إلا أنه يخفف العمل الذي يريد به وجه الله، كالذي يعتاد التهجد كل ليلة ويثقل عليه فإذا نزل عنده ضيف تنشط له وخف عليه وعلم أنه لولا رجاء الثواب لكان لا يصلي لمجرد رياء الضيفان وأخفى من ذلك ما لا يؤثر في العمل ولا بالتسهيل والتخفيف أيضاً ولكنه مع ذلك مستطبن في القلب، ومهما لم يؤثر في الدعاء إلى العمل لم يكن يعرف إلا بالعلامات، وأجلى علاماته أن يسر باطلاع الناس على طاعته فرب عبد يخلص في عمله ولا يعتقد الرياء بل يكرهه ويرده ويتمم العمل كذلك، ولكن إذا اطلع عليه الناس سره ذلك وارتاح له وروح ذلك عن قلبه شدة العبادة، وهذا السرور يدل على رياء خفي منه يرشح السرور، ولولا التفات القلب إلى الناس لما ظهره سروره عند اطلاع الناس، فلقد كان الرياء مستكناً في القلب استكنان النار في الحجر فأظهر عنه اطلاع الخلق أثر الفرح والسرور، ثم إذا استشعر لذة السرور بالاطلاع ولم يقابل ذلك بكراهية فيصير ذلك قوتاً وغذاء للعرق الخفي من الرياء حتى يتحرك على نفسه حركة خفية، فيتقاضى تقاضياً خفياً أن يتكلف سبباً يطلع عليه بالتعريض وإلقاء الكلام عرضاً وإن كان لا يدعو إلى التصريح، وقد يخفى فلا يدعو إلى الإظهار بالنطق تعريضاً وتصريحاً ولكن بالشمائل، كإظهار النحول والصفار وخفض الصوت ويبس الشفتين وجفاف الريق وآثار الدموع وغلبة النعاس الدال على طول التهجد، وأخفى من ذلك أن يختفي بحيث لا يريد الاطلاع ولا يسر بظهور طاعته، ولكنه مع ذلك إذا رأى الناس أحب أن يبدءوه بالسلام وأن يقابلوه بالبشاشة والتوقير وأن يثنوا عليه وأن ينشطوا في قضاء حوائجه وأن يسامحوه في البيع والشراء وأن يوسعوا له في المكان، فإن قصر فيه مقصر ثقل ذلك على قلبه ووجد لذلك استبعاداً في نفسه كأنه يتقاضى الاحترام مع الطاعة التي أخفاها مع أنه لم يطلع عليه، ولو لم يكن قد سبق منه تلك الطاعة لما كان يستبعد تقصير الناس في حقه، ومهما لم يكن وجود العبادة كعدمها في كل ما يتعلق بالخلق لم يكن قد قنع بعلم الله ولم يكن خالياً عن شوب خفي من الرياء أخفى من دبيب النمل وكل ذلك يوشك أن يحبط الأجر ولا يسلم منه إلا الصديقون.

وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه قال: إن الله عز وجل يقول للقراء يوم القيامة، ألم يكن يرخص عليكم السعر ألم تكونوا تبتدءون بالسلام ألم تكونوا تقضى لكم الحوائج. وفي الحديث "لا أجر لكم قد استوفيتم أجوركم" وقال عبد الله بن المبارك. روي عن وهب بن منبه أنه قال إن رجلاً من السواح قال لأصحابه إنا إنما فارقنا الأموال والأولاد مخافة الطغيان فنخاف أن نكون قد دخل علينا في أمرنا هذا من الطغيان أكثر مما دخل على أهل الأموال في أموالهم، إن أحدنا إذا لقي أحب أن يعظم لمكان دينه، فبلغ ذلك ملكهم فركب في موكب من الناس فإذا السهل والجبل قد امتلأ بالناس، فقال السائح ما هذا? قيل هذا الملك قد أظللك، فقال للغلام ائتني بطعام فأتاه ببقل وزيت وقلوب الشجر، فجعل يحشو شدقه ويأكل أكلاً عنيفاً فقال المالك أين صاحبكم? فقالوا هذا، قال كيف أنت? قال كالناس، وفي حديث آخر: بخير، فقال الملك ما عند هذا من خير! فانصرف عنه، فقال السائح الحمد لله الذي صرفك عني وأنت لي ذام. فلم يزل المخلصون خائفين من الرياء الخفي مجتهدون لذلك في مخادعة الناس عن أعمالهم الصالحة يحرصون على إخفائها أعظم مما يحرص الناس على إخفاء فواحشهم، كل ذلك رجاء أن تخلص أعمالهم الصالحة فيجازيهم الله في القيامة بإخلاصهم على ملأ من الخلص، إذ علموا أن الله لا يقبل في القيامة إلا الخالص وعلموا شدة حاجتهم وفاقتهم في القيامة وأنه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون ولا يجزى والد عن ولده، ويشتغل الصديقون بأنفسهم فيقول كل واحد. نفسي نفسي! فضلاً عن غيرهم فكانوا كزوار بيت الله إذا توجهوا إلى مكة فإنهم يستصحبون مع أنفسهم الذهب المغربي الخالص لعلمهم أن أرباب البوادي لا يروج عندهم الزائف والبهرج، والحاجة تشتد في البادية ولا وطن يفزع إليه ولا حميم يتمسك به فلا ينجى إلا الخالص من النقد، فكذا يشاهد أرباب القلوب يوم القيامة والزاد الذي يتزودونه له من التقوى. فإذن شوائب الرياء الخفي كثيرة لا تنحصر، ومهما أدرك من نفسه تفرقه بين أن يطلع على عبادته إنسان أو بهيمة ففيه شعبة من الرياء فإنه لما قطع طمعه عن البهائم لم يبال حضره البهائم أو الصبيان الرضع أم غابوا، اطلعوا على حركته أم لم يطلعوا، فلو كان مخلصاً قانعاً بعلم الله لاستحقر عقلاء العباد كما استحقر صبيانهم ومجانينهم، وعلم أن العقلاء لا يقدرون له على رزق ولا أجل ولا زيادة ثواب ونقصان عقاب كما لا يقدر عليه البهائم والصبيان والمجانين، فإذا لم يجد ذلك ففيه شوب خفي، ولكن ليس كل شوب محبطاً للأجر مفسداً للعمل بل فيه تفضيل.

فإن قلت: فما نرى أحداً ينفك عن السرور إذا عرفت طاعاته، فالسرور مذموم كله أو بعضه محمود وبعضه مذموم? فنقول: أولاً، كل سرور فليس بمذموم بل السرور منقسم إلى محمود وإلى مذموم.

فأما المحمود فأربعة أقسام "الأول" أن يكون قصده إخفاء الطاعة والإخلاص لله، ولكن لما اطلع عليه الخلق علم أن الله أطلعهم وأظهر الجميل من أحواله، فيستدل به على حسن صنع الله به ونظره إليه وإلطافه به، فإنه يستر الطاعة والمعصية ثم الله يستر عليه المعصية ويظهر الطاعة، ولا لطف أعظم من ستر القبيح وإظهار الجميل، فيكون فرحه بجميل نظر الله لا بحمد الناس وقيام المنزلة في قلوبهم وقد قال تعالى "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا" فكأنه ظهر له أنه عند الله مقبول ففرح به.

"الثاني" أن يستدل بإظهار الله الجميل وستره القبيح عليهفي الدنيا أنه كذلك يفعل في الآخرة إذ قال رسول الله ﷺ "ما ستر الله على عبد ذنباً في الدنيا إلى ستره عليه في الآخرة فيكون الأول فرحاً بالقبول في الحال من غير ملاحظة المستقبل، وهذا التفات إلى المستقبل.

"الثالث" أن يظن رغبة المطلعين على الاقتداء به في الطاعة فيتضاعف بذلك أجره، فيكون له أجر العلانية بما أظهر آخراً وأجر السر بما قصده أولاً، ومن اقتدى به في طاعة فله مثل أجر أعمال المقتدين به من غير أن يقنص من أجورهم شيء، وتوقع ذلك جدير بأن يكون سبب السرور، فإن ظهور مخايل الربح لذيذ وموجب للسرور لا محالة.==

قلت المدون  تم بحمد الله ثم قلت :سبحانك وبحمدك وأستغفرك أنت الله الشافي الكافي الرحمن الرحيم الغفار الغفور القادر القدير المقتدر الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور... الواحد الأحد الواجد الماجد الملك المغيث لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ..لك الملك ولك الحمد وأنت علي كل شيئ قدير ولا حول ولا قوة إلا بك وأستغفرك اللهم بحق أن لك هذه الأسماء وكل الأسماء الحسني أسألك أن تََشفني شفاءا لا يُغادر سقما وأن تَكفني كل همي وتفرج كل كربي وتكشف البأساء والضراء عني وأن تتولي أمري وتغفر لي ذنبي وأن تشرح لي صدري وأن تُيسر لي أمري وأن تحلل عُقْدَةً من لساني يفقهوا قولي وأن تغنني بفضلك عمن سواك اللهم أصلحني: حالي وبالي وشأني كله  وأعتقني في الدارين وخُذ بيدي يا ربي وأخرجني من الظلمات الي النور بفضلك وأن ترحم وتغفر لوالديَّ ومن مات من اخوتي وان تغفر لهم أجمعين وكل من مات علي الايمان والتوبة اللهم آمين  اللهم تقبل واستجب


كتاب صفة الجنة -الحافظ ضياء الدين-أأبي عبد الله محمد بن عبد الواحد الحنبلي المقدسي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...