يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الجمعة، 31 مارس 2023

ج5.كتاب إحياء علوم الدين للغزالي الامام الحافظ{ من الباب السادس

 
     كتاب إحياء علوم الدين للغزالي الامام الحافظ 
 الباب السادس

    فيما يحل من مخالطة السلاطين الظلمة
    وما يحرم وحكم غشيان مجالسهم والدخول عليهم والإكرام لهم
    اعلم أن ذلك مع الأمراء والعمال الظلمة ثلاثة أحوال:
    الحالة الأولى: وهي شرها أن تدخل عليهم.
    والثانية: وهي دونها أن يدخلوا عليك.
    والثالثة: وهي الأسلم أن تعتزل عنهم فلا تراهم ولا يرونك.
    أما الحالة الأولى: وهي الدخول عليهم فهو مذموم جداً في الشرع وفيه تغليظات وتشديدات تواردت بها الأخبار والآثار، فنقلها لتعرف ذم الشرع له، ثم نتعرض لما يحرم منه وما يباح وما يكره على ما تقتضيه الفتوى في ظاهر العلم.
    أما الأخبار: فإنه لما وصف رسول الله ﷺ الأمراء الظلمة قال: "فمن نابذهم نجا ومن اعتزلهم سلم أو كاد أن يسلم ومن وقع معهم في دنياهم فهو منهم" وذلك لأن من اعتزلهم سلم من إثمهم ولكن لم يسلم من عذاب يعمه معهم إن نزل بهم لتركه المنابذة والمنازعة. وقال ﷺ: "سيكون من بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم ليس مني ولست منه ولم يرد علي الحوض" وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال ﷺ: "أبغض القراء إلى الله تعالى الذين يزورون الأمراء" وفي الخبر: "خير الأمراء الذين يأتون العلماء وشر العلماء الذين يأتون الأمراء" وفي الخبر: "العلماء أمناء الرسل على عباد الله ما لم يخالطوا السلطان فإذا فعلوا لك فقد خانوا الرسل فاحذروهم واعتزلوهم" رواه أنس رضي الله عنه.
    وأما الآثار: فقد قال حذيفة: إياكم ومواقف الفتن! قيل: وما هي? قال: أبواب الأمراء يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب ويقول ما ليس فيه. وقال أبو ذر لسلمة:يا سلمة. لا تغش أبواب السلاطين فإنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه، وقال سفيان: في جهنم واد لا يسكنه إلا القراء الزوارون للملوك وقال الأوزاعي: ما من شيء أبغض إلى الله من عالم يزور عاملاً. وقال سمنون: ما أسمج بالعالم أن يؤتى إلى مجلسه فلا يوجد فيسأل عنه فيقال: عند الأمير. وكنت أسمع أنه يقال: إذا رأيتم العالم يحب الدنيا فاتهموه على دينكم حتى جربت ذلك، إذ ما دخلت قط على السلطان إلا وحاسبت نفسي بعد الخروج فأرى عليها الدرك مع ما أواجههم به من الغلظة والمخالفة لهواهم. وقال عبادة بن الصامت: حب القارئ الناسك الأمراء نفاق وحبه الأغنياء رياء. وقال أبو ذر: من كثر سواد قوم فهو منهم أي من كثر سواد الظلمة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إن الرجل ليدخل على السلطان ومعه دينه فيخرج ولا دين له، قيل له: ولم? قال لأنه يرضيه بسخط من الله. واستعمل عمر بن عبد العزيز رجلاً فقيل: كان عاملاً للحجاج، فعزله، فقال الرجل: إنما عملت له على شيء يسير، فقال له عمر: حسبك بصحبته يوماً أو بعض يوم شؤماً وشراً. وقال الفضيل: ما ازداد رجل من ذي سلطان قرباً إلا ازداد من الله بعداً. وكان سعيد بن المسيب يتجر في الزيت ويقول: إن في هذا لغنى عن هؤلاء السلاطين. وقال وهيب: هؤلاء الذين يدخلون على الملوك لهم أضر على الأمة من المقامرين. وقال محمد بن سلمة: الذباب على العذرة، أحسن من قارئ على باب هؤلاء. ولما خالط الزهري السلطان كتب أخ له في الدين إليه: عافانا الله وإياك أبا بكر من الفتن فقد أصبحت بحال ينبغي لمن غرفك أن يدعو لك الله ويرحمك، أصبحت شيخاً كبيراً قد أثقلتك نعم الله لما فهمك من كتابه وعلمك من سنة نبيه محمد ﷺ وليس كذلك أخذ الله الميثاق على العلماء قال الله تعالى: "لتبيننه للناس ولا تكتموه"، واعلم أن أيسر ما ارتكبت وأخف ما احتملت أنك آنست وحشة الظالم وسهلت سبيل البغي بدنوك ممن لم يؤد حقاً ولم يترك باطلاً حين أدناك، اتخذوك قطباً تدور عليك رحى ظلمهم وجسراً يعبرون عليك إلى بلائهم وسلماً يصعدون فيه إلى ضلالتهم ويدخلون بك الشك على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهلاء، فما أيسر ما عمروا في جنب ما خربوا عليك، وما أكثر ما أخذوا منك فيما أفسدوا عليك من دينك، فما يؤمن أن تكون ممن قال الله تعالى فيهم: "فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة" الآية. وإنك تعامل من لا يجهل ويحفظ عليك من لا يغفل فداو دينك فقد دخله سقم وهيئ زادك فقد حضر سفر بعيد "وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء" والسلام.
    فهذه الأخبار والآثار تدل على ما في مخالطة السلاطين من الفتن وأنواع الفساد، ولكن نفصل ذلك تفصيلاً فقهياً نميز فيه المحظور عن المكروه والمباح. فنقول: الداخل على السلطان متعرض لأن يعصي الله تعالى إما بفعله أو بكسوته، وإما بقوله وإما باعتقاده فلا ينفك عن أحد هذه الأمور.
    أما الفعل: فالدخول عليهم في غالب الأحوال يكون إلى دور مغصوبة وتخطيها والدخول فيها بغير إذن الملاك حرام، ولا يغرنك قول القائل: إن ذلك مما يتسامح به الناس كتمرة أو فتات خبز فإن ذلك صحيح في غير المغصوب، أما المغصوب فلا. لأنه إن قيل: إن كل جلسة خفيفة لا تنقص الملك فهي في محل التسامح? وكذلك الاجتياز فيجري هذا في كل واحد فيجري أيضاً في المجموع والغصب إنما تم بفعل الجميع، وإنما يتسامح به إذا انفرد إذ لو علم المالك به ربما لم يكرهه، فأما إذا كان ذلك طريقاً إلى الاستغراق بالاشتراك فحكم التحريم ينسحب على الكل، فلا يجوز أن يؤخذ ملك الرجل طريقاً اعتماداً على أن كل واحد من المارين إنما يخطو خطوة لا تنقص الملك، لأن المجموع مفوت للملك وهو ضريبة خفيفة في التعليم تباح ولكن بشرط الانفراد، فلو اجتمع جماعة بضربات توجب القتل وجب القصاص على الجميع مع أن كل واحدة من الضربات لو انفردت لكانت لا توجب قصاصاً. فإن فرض كونه الظالم في موضع غير مغصوب كالموات مثلاً فإن كانت تحت خيمة أو مظلة من ماله فهو حرام، والدخول إليه غير جائز لأنه انتفاع بالحرام واستظلال به، فإن فرض كل ذلك حلالاً فلا يعصى بالدخول من حيث إنه دخول ولا بقوله: السلام عليكم، ولكن إن سجد أو ركع أو مثل قائماً في سلامه وخدمته كان مكرماً للظالم بسبب ولايته التي هي آلة ظلمه والتواضع للظالم معصية. بل من التواضع لغني ليس يظالم لأجل غناه. لا لمعنى آخر اقتضى التواضع. نقص ثلثا دينه فكيف إذا تواضع للظالم? فلا يباح إلا مجرد السلام. فأما تقبيل اليد والانحناء في الخدمة فهو معصية إلا عند الخوف، أو لإمام عادل أو لعالم أو لمن يستحق ذلك بأمر ديني.
    قبل أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه يد علي كرم الله وجهه لما أن لقيه بالشام فلم ينكر عليه. وقد بالغ بعض السلف حتى امتنع عن رد جوابهم في السلام والإعراض عنهم استحقاراً لهم وعد ذلك من محاسن القربات. فأما السكوت عن رد الجواب ففيه نظر، لأن ذلك واجب فلا ينبغي أن يسقط بالظلم. فإن ترك الداخل جميع ذلك واقتصر على السلام فلا يخلو من الجلوس على بساطهم وإذا كان أغلب أموالهم حراماً فلا يجوز الجلوس على فرشهم؛ هذا من حيث الفعل.
    فأما السكوت: فهو أن سيرى في مجلسهم من الفرش الحرير وأواني الفضة والحرير الملبوس عليهم وعلى غلمانهم ما هو حرام. وكل من رأى سيئة وسكت عليها فهو شريك في تلك السيئة. بل يسمع من كلامهم ما هو فحش وكذب وشتم وإيذاء والسكوت على جميع ذلك حرام. بل يراهم لابسين الثياب الحرام وآكلين الطعام الحرام وجميع ما في أيديهم حرام والسكوت على ذلك غير جائز. فيجب عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلسانه إن لم يقدر بفعله.
    فإن قلت: إنه يخاف على نفسه فهو معذور في السكوت? فهذا حق ولكنه مستغن عن أن يعرض نفسه لارتكاب ما لا يباح إلا بعذر، فإنه لو لم يدخل ولم يشاهد لم يتوجه عليه الخطاب بالحسبة حتى يسقط عنه بالعذر. وعند هذا أقول من علم فساداً في موضع وعلم أنه لا يقدر على إزالته فلا يجوز له أن يحضر ليجري ذلك بين يديه وهو يشاهده ويسكت، بل ينبغي أن يحترز عن مشاهدته.
    وأما القول: فهو أن يدعو للظالم أو يثني عليه أو يصدقه فيما يقول من باطل بصريح قوله أو بتحريك رأسه أو باستبشار في وجهه، أو يظهر له الحب والموالاة والاشتياق إلى لقائه والحرص على طول عمره وبقائه، فإنه في الغالب لا يقتصر على السلام بل يتكلم ولا يعدو كلامه هذه الأقسام.
    أما الدعاء له: فلا يحل إلا أن يقول: أصلحك الله أو وفقك الله للخيرات أو طول الله عمرك في طاعته أو ما يجري هذا المجرى. فأما الدعاء بالحراسة وطول البقاء وإسباغ النعمة مع الخطاب بالمولى وما في معناه فغير جائز. قال ﷺ: "من دعا لظالم بالبقاء فقد أحب أن عصى الله في أرضه"، فإن جاوز الدعاء إلى الثناء فسيذكر ما ليس فيه فيكون به كاذباً ومنافقاً ومكرماً لظالم، وهذه ثلاث معاص. وقد قال ﷺ: "إن الله ليغضب إذا مدح الفاسق" وفي خبر آخر: "من أكرم فاسقاً فقد أعان على هدم الإسلام" فإن جاوز ذلك إلى التصديق له فيما يقول، والتزكية والثناء على ما يعمل: كان عاصياً بالتصديق وبالإعانة؛ فإن التزكية والثناء إعانة على المعصية وتحريك للرغبة فيه كما أن التكذيب والمذمة والتقبيح زجر عنه وتضعيف لدواعيه. والإعانة على المعصية معصية ولو بشطر كلمة. ولقد سئل سفيان الثوري رضي الله عنه عن ظالم أشرف على الهلاك في برية هل يسقى شربة ماء? فقال: لا، دعه حتى يموت فإن ذلك إعانة له. وقال غيره: يسقى إلى أن تثوب إليه نفسه ثم يعرض عنه. فإن جاوز ذلك إلى إظهار الحب والشوق إلى لقائه وطول بقائه: فإن كان كاذباً عصى معصية الكذب والنفاق، وإن كان صادقاً عصى بحبه بقاء الظالم وحقه أن يبغضه في الله ويمقته. فالبغض في الله واجب، ومحب المعصية والراضي بها عاص. ومن أحب ظالماً فإن أحبه لظلمه فهو عاص لمحبته وإن احبه لسبب آخر فهو عاص من حيث إنه لم يبغضه وكان الواجب عليه أن يبغضه. وإن اجتمع في شخص خير وشر وجب أن يحب لأجل ذلك الخير ويبغض لأجل ذلك الشر. وسيأتي في كتاب الإخوة والمتحابين في الله الجمع بين البغض والحب. فإن سلم من ذلك كله وهيهات فلا يسلم من فساد يتطرق إلى قلبه فإنه ينظر إلى توسعه في النعمة ويزدري نعم الله عليه ويكون مقتحماً نهي رسول الله ﷺ حيث قال: "يا معشر المهاجرين لا تدخلوا على أهل الدنيا فإنها مسخطة للرزق" وهذا مع ما فيه ن اقتداء غيره به في الدخول ومن تكثيره سواد الظلمة بنفسه وتجميله إياهم إن كان ممن يتجمل به، وكل ذلك إما مكروهات أو محظورات. دعي سعيد بن المسيب إلى البيعة للوليد وسليمان ابني عبد الملك بن مروان فقال: لا أبايع اثنين ما اختلف الليل والنهار فإن النبي ﷺ نهى عن بيعتين، فقال: ادخل من الباب واخرج من الباب الآخر، فقال: لا والله لا يقتدي بي أحد من الناس، فجلد مائة وألبس المسوح.
    ولا يجوز الدخول عليهم إلا بعذرين: أحدهما: أن يكون من جهتهم أمر إلزام لا أمر إكرام وعلم أنه لو امتنع أو ذي أو فسد عليهم طاعة الرعية واضطرب عليهم أمر السياسة فيجب عليه الإجابة لا طاعة لهم بل مراعاة لمصلحة الخلق حتى لا تضطرب الولاية.
    والثاني: أن يدخل عليهم في دفع ظلم عن مسلم سواه أو عن نفسه إما بطريق الحسبة أو بطريق التظلم، فذلك رخصة بشرط أن لا يكذب ولا يثني ولا يدع نصيحة يتوقع لها قبولاً فهذا حكم الدخول.
    الحالة الثانية: أن يدخل عليك السلطان الظالم زائر فجواب السلام لا بد منه. وأما القيام والإكرام له فلا يحرم مقابلة له على إكرامه. فإنه بإكرام العلم والدين مستحق للإحماد كما أنه بالظلم مستحق للإبعاد. فالإكرام بالإكرام والجواب بالسلام. ولكن الأولى أن لا يقوم إن كان معه في خلوة ليظهر له بذلك عز الدين وحقارة الظلم، ويظهر غضبه للدين وإعراضه عمن أعرض عن الله فأعرض الله تعالى عنه. وإن كان الداخل عليه في جمع فمراعاة حشمة أرباب الولايات فيما بين الرعايا مهم فلا بأس بالقيام على هذه النية. وإن علم أن لا يورث فساداً في الرعية ولا يناله أذى من غضبه فترك الإكرام بالقيام أولى. ثم يجب عليه بعد أن وقع اللقاء أن ينصحه فإن كان يقارف ما لا يعرف تحريمه وهو يتوقع أن يتركه إذا عرف فليعرفه فذلك واجب. وأما ذكر تحريم ما يعلم تحريمه من السرف والظلم فلا فائدة فيه بل عليه أن يخوفه فيما يرتكبه من المعاصي مهما ظن أن التخويف يؤثر فيه. وعليه أن يرشده إلى طريق المصلحة إن كان يعرف طريقاً على وفق الشرع بحيث يحصل بها غرض الظالم من غير معصية ليصده بذلك عن الوصول إلى غرضه بالظلم. فإذاً يجب عليه التعريف في محل جهله والتخويف فيما هو مستجرئ عليه والإرشاد إلى ما هو غافل عنه مما يغنيه عن الظلم، فهذه ثلاثة أمور تلزمه إذا توقع للكلام فيه أثراً، وذلك أيضاً لازم عاى كل من اتفق له دخول عل السلطان بعذر أو بغير عذر. وعن محمد بن صالح قال: كنت عند حماد بن سلمة وإذا ليس في البيت إلا حصير وهو جالس عليه ومصحف يقرأ غيه وجراب فيه علمه ومطهرة يتوضأ منها? فبينا أنا عنده إذ دق داق الباب فإذا هو محمد بن سليمان فأذن له فدخل وجلس بين يديه ثم قال له: ما لي إذا رأيتك امتلأت منك رعباً? قال حماد: لأنه قال عليه السلام "إن العالم إذا أراد بعلمه وجه الله هابه كل شيء وإن أراد أن يكنز به الكنوز هاب من كل شيء" ثم عرض عليه أربعين ألف درهم وقال: تأخذها وتستعين بها قال:ارددها على من ظلمته بها، قال: والله ما أعطيتك إلا مما ورثته، قال: لا حاجة لي بها قال: فتأخذها فتقسمها، قال لعلي إن عدلت في قسمتها أخاف أن يقول بعض من لم يرزق منها إنه لم يعدل في قسمتها فيأثم فازوها عني.
    الحالة الثالثة: أن يعتزلهم فلا يراهم ولا يرونه وهو الواجب إذ لا سلامة إلا فيه؛ فعليه أن يعتقد بغضهم على ظلمهم ولا يحب بقاءهم ولا يثني عليهم ولا يستخبر عن أحوالهم ولا يتقرب إلى المتصلين بهم ولا يتأسف على ما يفوت بسبب مفارقتهم؛ وذلك إذا خطر بباله أمرهم، وإن غفل عنهم فهو الأحسن. وإذا خطر بباله تنعمهم فليذكر ما قاله حاتم الأصم: إنما بيني وبين الملوك يوم واحد فأما أمس فلا يجدون لذته وإني وإياهم في غد لعلى وجل وإنما هو اليوم وما عسى أن يكون في اليوم، وما قاله أبو الدرداء إذ قال: أهل الأموال يأكلون ونأكل ويشربون ونشرب ويلبسون ونلبس ولهم فضول أموال ينظرون إليها وننظر معهم إليها وعليهم حسابها ونحن منها براء. وكل من أحاط علمه بظلم ظالم ومعصية عاص فينبغي أن يحط ذلك من درجته في قلبه. فهذا واجب عليه لأن من صدر منه ما يكره نقص ذلك من رتبته في القلب لا محالة والمعصية ينبغي أن تكره فإنه إما أن يغفل عنها أو يرضى بها أو يكره ولا غفلة مع العلم ولا وجه للرضا فلا بد من الكراهة، فليكن جناية كل أحد على حق الله كجنايته على حقك فإن قلت: الكراهة لا تدخل تحت الاختيار فكيف تجب? قلنا: ليس كذلك فإن المحب يكره بضرورة الطبع ما هو مكروه عند محبوبه ومخالف له، فإن من لا يكره معصية الله لا يحب الله وإنما لا يحب الله من لا يعرفه والمعرفة واجبة والمحبة لله واجبة. وإذا أحبه كره ما كرهه واحب ما أحبه. وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة والرضا.
    فإن قلت: فقد كان العلماء السلف يدخلون على السلاطين? فأقول: نعم تعلم الدخول منهم ثم ادخل؛ كما حكي أن هشام بن عبد الملك قدم حاجاً إلى مكة فلما دخلها قال ائتوني برجل من الصحابة فقيل: يا أمير المؤمنين قد تفانوا فقال: من التابعين، فأتي بطاوس اليماني فلما دخل عليه خلع نعليه بحاشية بساطه ولم يسلم عليه بإمرة المؤمنين ولكن قال: السلام عليك يا هشام، ولم يكنه وجلس بإزائه وقال: كيف أنت يا هشام? فغضب هشام غضباً شديداً حتى هم بقتله؛ فقيل له: أنت في حرم الله وحرم رسوله ولا يمكن ذلك، فقال له: يا طاوس ما الذي حملك على ما صنعت? قال: وما الذي صنعت? فازداد غضباً وغيظاً؛ قال: خلعت نعليك بحاشية بساطي ولم تقبل يدي ولم تسلم علي بإمرة المؤمنين ولم تكنني وجلست بإزائي بغير إذني وقلت: كيف يا هشام? قال: أما ما فعلت من خلع نعلي بحاشية بساطك فإني أخلعهما بين يدي رب العزة كل يوم خمس مرات ولا يعاقبني ولا يغضب علي، وأما قولك لم تقبل يدي فإني سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقولك لا يحل لرجل أن يقبل يد أحد إلا امرأته من شهوة أو ولده من رحمة، وأما قولك لم تسلم علي بإمرة المؤمنين فليس كل الناس راضين بإمرتك فكرهت أن أكذب، وأما قولك لم تكنني فإن الله تعالى سمى أنبياءه وأولياءه فقال: يا يحيى يا عيسى، وكنى أعداءه فقال: "تبت يدا أبي لهب". وأما قولك جلست بإزائي فإني سمعت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه يقول: إذا أردت أن تنظر إلى رجل من أهل النار فانظر إلى رجل جالس وحوله قوم قيام. فقال له هشام: عظني، فقال: سمعت من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يقول: إن في جهنم حيات كالقلال وعقارب كالبغال تلدغ كل أمير لا يعدل في رعيته. ثم قام وهرب.
    وعن سفيان الثوري رضي الله عنه قال: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى فقال لي: ارفع إلينا حاجتك، فقلت له: اتق الله فقد ملأت الأرض ظلماً وجوراً. قال: فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت: إنما أنزلت هذه المنزلة بسيوف المهاجرين والأنصار وأبناؤهم يموتون جوعاً فاتق الله وأوصل إليهم حقوقهم، فطأطأ رأسه ثم رفعه فقال: ارفع إلينا حاجتك، فقلت: حج عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال لخازنه: كم أنفقت? قال: بضعة عشر درهماً، وأرى ههنا أموالاً لا تطيق الجمال حملها، وخرج فهكذا كانوا يدخلون على السلاطين إذا ألزموا وكانوا يغررون بأرواحهم للانتقام لله من ظلمهم. ودخل ابن أبي شميلة على عبد الملك ابن مروان فقال له: تكلم، فقال له: إن الناس لا ينجون في القيامة من غصصها ومراراتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه، فبكى عبد الملك وقال: لأجعلن هذه الكلمة مثالاً نصب عيني ما عشت. ولما استعمل عثمان بن عفان رضي الله عنه عبد الله بن عامر أتاه أصحاب رسول الله ﷺ وأبطأ عنها أبو ذر. وكان له صديقاً. فعاتبه؛ فقال أبو ذر: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إنا لرجل إذا ولي ولاية تباعد الله عنه" ودخل مالك بن دينار على أمير البصرة فقال: أيها الأمير قرأت في بعض الكتب أن الله تعالى يقول ما أحمق من سلطان وما أجهل ممن عصاني! ومن اعز ممن اعتز بي? أيها الراعي السوء دفعت إليك غنماً سماناً صحاحاً فأكلت اللحم ولبست الصوف وتركتها عظاماً تتقعقع، فقال له والي البصرة: أتدري ما الذي يجرئك علينا ويجنبنا عنك?. قال: لا، قال: قلة الطمع فينا وترك الإمساك لما في أيدينا. وكان عمر بن عبد العزيز واقفاً مع سليمان بن عبد الملك، فسمع سليمان صوت الرعد فجزع ووضع صدره على مقدمة الرحل، فقال له عمر: هذا صوت رحمته فكيف إذا سمعت صوت عذابه? ثم نظر سليمان إلى الناس فقال: ما أكثر الناس، فقال عمر: خصماؤك يا أمير المؤمنين فقال له سليمان: ابتلاك الله بهم. وحكي أن سليمان بن عبد الملك قدم المدينة وهو يريد مكة فأرسل إلى أبي حازم فدعاه، فلما دخل عليه قال له سليمان: يا أبا حازم ما لنا نكره الموت? فقال: لأنكم خربتم آخرتكم وعمرتم دنياكم فكرهتم أن تنتقلوا من العمران إلى الخراب فقال: يا أبا حازم كيف القدوم على الله? قال: يا أمير المؤمنين أما المحسن فكالغائب يقدم على أهله وأما المسيء فكالآبق يقدم على مولاه، فبكى سليمان وقال: ليت شعري ما لي عند الله?قال أبو حازم: اعرض نفسك على كتاب الله تعالى حيث قال: "إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم" قال سليمان: فأين رحمة الله? قال: قريب من المحسنين، ثم قال سليمان: يا أبا حازم أي عباد الله أكرم? قال: أهل البر والتقوى قال:فأي الأعمال أفضل? قال: أداء الفرائض مع اجتناب المحارم. قال: فأي الكلام أسمع? قال: قول الحق عند من تخاف وترجو قال: فأي المؤمنين أكيس? قال: رجل عمل بطاعة الله ودعا الناس إليها، قال: فأي المؤمنين أخسر? قال: رجل خطا في هوى أخيه وهو ظالم فباع آخرته بدنيا غيره، قال سليمان: ما تقول فيما نحن فيه? قال: أو تعفيني? قال: لا بد فإنها نصيحة تسديها إلي، قال: يا أمير المؤمنين إن آباءك قهروا الناس بالسيف وأخذوا هذا الملك عنوة من غير مشورة المسلمين ولا رضا منهم حتى قتلوا منهم مقتلة عظيمة وقد ارتحلوا، فلو شعرت بما قالوا وما قيل لهم? فقال له رجل من جلسائه: بئسما قلت قال أبو حازم: إن الله قد أخذ الميثاق على العلماء ليبننه للناس ولا يكتمونه. قال: وكيف لنا أن نصلح هذا الفساد? قال: أن تأخذه من حله فتضعه في حقه، فقال سليمان: ومن يقدر على ذلك? فقال: من يطلب الجنة ويخاف من النار. فقال سليمان:ادع لي. فقال أبو حازم:اللهم إن كان سليمان وليك فيسره لخيري الدنيا والآخرة وإن كان عدوك فخذ بناصيته إلى ما تحب وترضى، فقال سليمان: أوصني، فقال: أوصيك وأوجز، عظم ربك ونزهه أن يراك حيث نهاك أو يفقدك حيث أمرك. وقال عمر بن عبد العزيز لأبي حازم: عظني، فقال: اضطجع ثم اجعل الموت عند رأسك ثم انظر إلى ما تحب أن يكون فيك تلك الساعة فخذ به الآن، وما تكره أن يكون فيك تلك الساعة فدعه الآن، فلعل تلك الساعة قريبة. ودخل أعرابي على سليمان بن عبد الملك، فقال: تكلم يا أعرابي، فقال:
    يا أمير المؤمنين إني مكلمك بكلام فاحتمله وإن كرهته فإن وراءه ما تحب إن قبلته، فقال: يا أعرابي إنا لنجود بسعة الاحتمال على من لا نرجو نصحه ولا نأمن غشه فكيف بمن نأمن غشه ونرجو نصحه? فقال الأعرابي: يا أمير المؤمنين إنه قد تكنفك رجال أساؤوا الاختيار لأنفسهم وابتاعوا دنياهم بدينهم ورضاك بسخط ربهم خافوك في الله تعالى ولم يخافوا الله فيك، حرب الآخرة سلم الدنيا فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله تعالى عليه فإنهم لم يألوا في الأمانة تضييعاً وفي الأمة خسفاً وعسفاً وأنت مسؤول عما اجترحوا وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك فإن أعظم الناس غبناً من باع آخرته بدنيا غيره، فقال له سليمان: يا أعرابي أما إنك قد سللت لسانك وهو أقطع سيفيك. قال: أجل يا أمير المؤمنين ولكن لا عليك.
    وحكي أن أبا بكرة دخل على معاوية فقال: اتق الله يا معاوية واعلم أنك في كل يوم يخرج عنك وفي كل ليلة تأتي عليك لا تزداد من الدنيا إلا بعداً ومن الآخرة إلا قرباً، وعلى أثرك طالب لا تفوته وقد نصب لك علماً لا تجوزه فما أسرع ما تبلغ العلم وما أوشك ما يلحق بك الطالب، وإنا وما نحن فيه زائل وفي الذي نحن إليه صائرون باق إن خيراً فخير وإن شراً فشر. فهكذا كان دخول أهل العلم على السلاطين أعني علماء الآخرة، فأما علماء الدنيا فيدخلون ليتقربوا إلى قلوبهم فيدلونهم عل الرخص ويستنبطون لهم بدقائق الحيل طرق السعة فيما يوافق أغراضهم. وإن تكلموا بمثل ما ذكرناه في معرض الوعظ لم يكن قصدهم الإصلاح بل اكتساب الجاه والقبول عندهم. وفي هذا غروران يغتر بهما الحمقى: أحدهما: أن يظهر أن قصدي في الدخول عليهم إصلاحهم بالوعظ. وربما يلبسون على انفسهم بذلك وإنما الباعث لهم شهوة خفيفة للشهرة وتحصيل المعرفة عندهم، وعلامة الصدق في طلب الإصلاح انه لو تولى ذلك الوعظ غيره ممن هو من أقرانه في العلم ووقع موقع القبول وظهر به أثر الصلاح فينبغي أن يفرح به ويسكر الله تعالى كفايته هذا المهم، كمن وجب عليه أن يعالج مريضاً ضائعاً فقام بمعالجته غيره فإنه يعظم به فرحه. فإن كان يصادف في قلبه ترجيحاً لكلامه على كلام غيره فهو مغرور.
    الثاني: أن يزعم أني أقصد الشفاعة لمسلم في دفع ظلامة. وهذا أيضاً مظنة الغرور. ومعياره ما تقدم ذكره.
    وإذا ظهر طريق الدخول عليهم فلنرسم في الأحوال العارضة في مخالطة السلاطين ومباشرة أموالهم مسائل: مسألة: إذا بعث إليك السلطان مالاً لتفرقه على الفقراء فإن كان له مالك معين فلا يحل أخذه، وإن لم يكن بل كان حكمه أنه يجب التصدق به على المساكين. كما سبق. فلك أن تأخذه وتتولى التفرقة ولا تعصى بأخذه، ولكن من العلماء من امتنع عنه فعند هذا ينظر في الأولى فنقول: الأولى أن تأخذه إن أمنت ثلاث غوائل: الغائلة الأولى: أن يظن السلطان بسبب أخذك أن ماله طيب ولولا أنه طيب لما كنت تمد يدك إليه ولا تدخله ضمانك، فإن كان ذلك فلا تأخذه، فإن ذلك محذور ولا يفي الخير في مباشرتك التفرقة بما يحصل لك من الجرأة على كسب الحرام.
    الغائلة الثانية: أن ينظر إليك غيرك من العلماء والجهال فيعتقدون أنه حلال فيقتدون بك في الأخذ ويستدلون به على جوازه ثم لا يفرقون، فهذا أعظم من الأول. فإن جماعة يستدلون بأخذ الشافعي رضي الله عنه على جواز الأخذ ويغفلون عن تفرقته وأخذه على نية التفرقة، فالمقتدي والمشتبه به ينبغي أن يحترز عن هذا غاية الاحتراز فإنه يكون فعله سبب ضلال خلق كثير. وقد حكى وهب بن منبه أن رجلاً أتي به إلى ملك بمشهد من الناس ليكرهه على أكل لحم الخنزير فلم يأكل، فقدم إليه لحم غنم وأكره بالسيف فلم يأكل، فقيل له في ذلك فقال: إن الناس قد اعتقدوا أني طولبت بأكل لحم الخنزير، فإذا خرجت سالماً وقدأكلت فلا يعلمون ماذا أكلت فيضلون. ودخل وهب بن منبه وطاوس على محمد بن يوسف - أخي الحجاج - وكان عاملاً وكان في غداة باردة في مجلس بارز فقال لغلامه: هلم ذلك الطيلسان وألقه على أبي عبد الرحمن - أي طاوس- وكان قعد على كرسي فألقي عليه فلم يزل يحرك كتفيه حتى ألقى الطيلسان عنه، فغضب محمد بن يوسف فقال وهب: كنت غنياً عن أن تغضبه لو أخذت الطيلسان وتصدقت به قال: نعم لولا أن يقول من بعدي إنه أخذه طاوس - ولا يصنع به ما أصنع به - إذن لفعلت.
    الغائلة الثالثة: أنه يتحرك قلبك إلى حبه لتخصيصه إياك وإيثاره لك بما أنفذه إليك، فإن كان كذلك فلا تقبل ذلك هو السم القاتل والداء الدفين أعني ما يحبب الظلمة إليك، فإن من أحبته لا بد أن تحرص عليه وتداهن فيه. قالت عائشة رضي الله عنها: جبلت النفوس على حب من أحسن إليها. وقال عليه السلام: "اللهم لا تجعل لفاجر عندي يداً فيحبه قلبي" بين ﷺ أن القلب لا يكاد يمتنع من ذلك. وروي أن بعض الأمراء أرسل إلى مالك بن دينار بعشرة آلاف درهم فأخرجها كلها فأتاه محمد بن واسع فقال: ما صنعت بما أعطاك هذا المخلوق? قال: سل أصحابي? فقالوا: أخرجه كله، فقال: أنشدك الله أقلبك أشد حباً له الآن أم قبل أن أرسل إليك? قال: لا بل الآن، قال: إنما كنت أخاف هذا. وقد صدق فإنه إذا أحبه أحب بقاءه وكره عزله ونكبته وموته وأحب اتساع ولايته وكثرة ماله، وكل ذلك حب لأسباب الظلم وهو مذموم. قال سلمان وابن مسعود رضي الله عنهما: من رضي بأمر وإن غاب عنه كان كمن شهده قال تعالى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا" قيل لا ترضوا بأعمالهم فإن كنت في القوة بحيث لا تزداد حباً لهم بذلك فلا بأس بالأخذ. وقد حكي عن بعض عباد البصرة أنه كان يأخذ أموالاً ويفرقها فقيل له: ألا تخاف أن تحبهم? فقال: لو أخذ رجل بيدي وأدخلني الجنة ثم عصى ربه ما أحبه قلبي، لأن الذي سخره للأخذ بيدي هو الذي أبغضه لأجله شكراً له على تسخيره إياه. وبهذا تبين أخذ المال الآن منهم وإن كان ذلك المال بعينه من وجه حلال محذور ومذموم لأنه لا ينفك عن هذه الغوائل.
    مسألة: إن قال قائل: إذا جاز أخذ ماله وتفرقته فهل يجوز أن يسرق ماله أو تخفى وديعته وتنكر وتفرق على الناس? فنقول: ذلك غير جائز لأنه ربما يكون له مالك معين وهو على عزم أن يرده عليه، وليس هذا كما لو بعثه إليك، فإن العاقل لا يظن به أن يتصدق بمال يعلم مالكه فيدل تسليمه على أنه لا يعرف مالكه فإن كان ممن يشكل عليه مثله فلا يجوز أن يقبل منه المال ما لم يعرف ذلك ثم كيف يسرق ويحتمل أن يكون ملكه قد حصل له بشراء في ذمته? فإن اليد دلالة على الملك. فهذا لا سبيل إليه بل لو وجد لقطة وظهر أن صاحبها جندي واحتمل أن تكون له بشراء في الذمة أو غيره وجب الرد عليه. فإذاً لا يجوز سرقة ما لم لا منهم ولا ممن أودع عنده. ولا يجوز إنكار وديعتهم ويجب الحد على سارق مالهم إلا إذا ادعى السارق أنه ليس ملكاً لهم فعند ذلك يسقط الحد بالدعوى.
    مسألة: المعاملة معهم حرام لأن أكثر مالهم حرام فما يؤخذ عوضاً فهو حرام، فإن أدى الثمن من موضع يعلم حله فيبقى النظر فيما سلم إليهم، فإن علم أنهم يعصون الله به كبيع الديباج منهم وهو يعلم أنهم يلبسونه فذلك حرام كبيع العنب من الخمار، وفي معناه بيع الفرس منهم، لا سيما في وقت ركوبهم إلى قتال المسلمين أو جباية أموالهم فإن ذلك إعانة لهم بفرسه وهي محظورة. فأما بيع الدراهم والدنانير منهم وما يجري مجراها مما لا يعصى في عينه بل يتوصل بها فهو مكروه لما فيه من إعانتهم على الظلم لنهم يستعينون على ظلمهم بالأموال والدواب وسائر الأسباب وهذه الكراهة جارية في الإهداء إليهم وفي العمل لهم من غير أجرة حتى في تعليمهم وتعليم أولادهم الكناية والترسل والحساب، وأما تعليم القرآن فلا يكره إلا من حيث أخذ الأجرة فإن ذلك حرام إلا من وجه يعلم حله، ولو انتصب وكيلاً لهم يشتري لهم في الأسواق من غير جعل أو أجرة فهو مكروه من حيث الإعانة، وإن اشترى لهم ما يعلم أنهم يقصدون به المعصية كالغلام والديباج للفرش واللبس والفرس للركوب إلى الظلم والقتل فذلك حرام. فمهما ظهر قصد المعصية بالمبتاع حصل التحريم ومهما لم يظهر واحتمل بحكم الحال ودلالتها عليه حصلت الكراهة.
    مسألة: الأسواق التي بنوها بالمال الحرام تحرم التجارة فيها ولا يجوز سكناها، فإن سكنها تاجر واكتسب بطريق شرعي لم يحرم كسبه وكان عاصياً بسكناه، وللناس أن يشتروا منهم، ولكن لو وجدوا سوقاً أخرى فالأولى الشراء منها فإن ذلك إعانة لسكناهم وتكثيراً لكراء حوانيتهم، وكذلك معاملة السوق التي لا خراج لهم عليها أحب من معاملة سوق لهم عليها خراج، وقد بالغ القوم حتى تحرزوا من معاملة الفلاحين وأصحاب الأراضي التي لهم عليها الخراج فإنهم ربما يصرفون ما يأخذون إلى الخراج فيحصل به الإعانة، وهذا غلو في الدين وحرج على المسلمين فإن الخراج قد عم الأراضي ولا معنى للمنع منه، ولو جاز هذا لحرم على المالك زراعة الأرض حتى لا يطلب خراجها. وذلك مما يطول ويتداعى إلى حسم باب المعاش.
    مسألة: معاملة قضاتهم وعمالهم وخدمهم حرام كمعاملتهم بل أشد. أما القضاة، فلأنهم يأخذون من أموالهم الحرام الصريح ويكثرون جمعهم ويغرون الخلق بزيهم فإنهم على زي العلماء ويختلطون بهم ويأخذون من أموالهم والطباع مجبولة على التشبه والاقتداء بذوي الجاه والحشمة. فهم سبب انقياد الخلق إليهم. وأما الخدم والحشم فأكثر أموالهم من الغضب الصريح ولا يقع في أيديهم مال المصلحة وميراث وجزية ولا وجه حلال حتى تضعف الشبهة باختلاط الحلال بمالهم. قال طاوس: لا أشهد عندهم وإن تحققت لأني أخاف تعديهم على من شهدت عليه. وبالجملة، إنما فسدت الرعية بفساد الملوك، وفساد الملوك بفساد العلماء فلولا القضاة السوء والعلماء السوء لقل فساد الملوك خوفاً من إنكارهم. ولذلك قال ﷺ: "لا تزال هذه الأمة تحت يدي الله وكنفه ما لم يمالئ قراؤها أمراءها". وإنما ذكر القراء لأنهم كانوا هم العلماء وإنما كان علمهم بالقرآن ومعانيه المفهومة بالسنة. وما وراء ذلك من العلوم فهي محدثة بعدهم. وقد قال سفيان: لا تخالط السلطان ولا من يخالطه. وقال صاحب القلم وصاحب الدواة وصاحب القرطاس وصاحب الليطة بعضهم شركاء بعض. وقد صدق فإن رسول الله ﷺ لعن في الخمر عشرة حتى العاصر والمعتصر وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "آكل الربا وموكله وشاهداه وكاتبه ملعونون على لسان محمد ﷺ". وكذا رواه جابر وعمر عن رسول الله ﷺ وقال ابن سيرين: لا تحمل للسلطان كتاباً حتى تعلم ما فيه، وامتنع سفيان رحمه الله من مناولة الخليفة في زمانه دواة بين يديه وقال: حتى أعلم ما تكتب بها فكل من حواليهم من خدمهم وأتباعهم ظلمة مثلهم يجب بغضهم في الله جميعاً.
    وروي عن عثمان بن زائدة أنه سأله رجل من الجند وقال: أين الطريق? فسكت وأظهر الصمم وخاف أن يكون متوجهاً إلى ظلم فيكون هو بإرشاده إلى الطريق معيناً. وهذه المبالغة لم تنقل عن السلف مع الفساق من التجار والحاكة والحجامين وأهل الحمامات والصاغة والصباغين وأرباب الحرف مع غلبة الكذب والفسق عليهم، بل مع الكفار من أهل الذمة، وإنما هذا في الظلمة خاصة الآكلين لأموال اليتامى والمساكين والمواظبين على إيذاء المسلمين الذين تعاونوا على طمس رسوم الشريعة وشعائرها. وهذا لأن المعصية تنقسم إلى لازمة ومتعدية، والفسق لازم لا يتعدى، وكذا الكفر وهو جناية على حق الله تعالى وحسابه على الله وأما معصية الولاة بالظلم وهو متعد فإنما يغلظ أمرهم لذلك وبقدر عموم الظلم وعموم التعدي يزدادون عند الله مقتاً فيجب أن يزداد منهم اجتناباً ومن معاملتهم احترازاً فقد قال ﷺك "يقال للشرطي دع سوطك وادخل النار" وقال ﷺ: "من أشراط الساعة رجال معهم سياط كأذناب البقر"، فهذا حكمهم ومن عرف بذلك منهم فقد عرف ومن لم يعرف فعلامته القباء وطول الشوارب وسائر الهيئات المشهورة. فمن رئي على تلك الهيئة تعين اجتنابه ولا يكون ذلك من سوء الظن لأنه الذي جنى على نفسه إذ تزيا بزيهم، ومساواة الزي تدل على مساواة القلب ولا يتجانن إلا مجنون ولا يتشبه بالفساق إلا فاسق، نعم الفاسق قد يلتبس فيستبه بأهل الصلاح فأما الصلح فليس له أن يتشبه بأهل الفساد لأن تكثير لسوادهم، وإنما نزل قوله تعالى: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" في قوم من المسلمين كانوا يكثرون جماعة المشركين بالمخالطة، وقد روي أن الله تعالى أوحى إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم، فقال: ما بال الأخيار? قال: إنهم لا يغضبون لغضبي فكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم. وبهذا يتبين أن بعض الظلمة والغضب لله عليهم واجب، وروى ابن مسعود عن النبي ﷺ: "إن الله لعن علماء بني إسرائيل إذ خالطوا الظالمين في معاشهم".
    مسألة: المواضع التي بناها الظلمة كالقناطر والرباطات والمساجد والسقايات ينبغي أن يحتاط فيها وينظر. أما القنطرة فيجوز العبور عليها للحاجة، والورع الاحتراز ما أمكن وإن وجد عنه معدلاً تأكد الورع. وإنما جوزنا العبور وإن وجد معدلاً لأنه إذا لم يعرف لتلك الأعيان مالكاً كان حكمها أن ترصد للخيرات وهذا خير، فأما إذا عرف أن الآجر والحجر قد نقل من دار معلومة أو مقبرة أو مسجد معين فهذا لا يحل العبور عليه أصلاً إلا لضرورة يحل بها مثل ذلك من مال الغير، ثم يجب عليه الاستحلال من المالك الذي يعرفه. وأما المسجد فإن بني في أرض مغصوبة أو بخشب مغصوب من مسجد آخر أو ملك معين فلا يجوز دخوله أصلاً ولا للجمعة بل لو وقف الإمام فيه فليصل هو خلف الإمام وليقف خارج المسجد فإن الصلاة في الأرض المغصوبة تسقط الفرض وتنعقد في حق الاقتداء، فلذلك جوزنا للمقتدي الاقتداء بمن صلى في الأرض المغصوبة وإن عصى صاحبه بالوقوف في الغصب،. وإن كان من مال لا يعرف مالكه فالورع العدول إلى مسجد آخر إن وجد فإن لم يجد غيره فلا يترك الجمعة والجماعة به لأنه يحتمل أن يكون من الملك الذي بناه ولو على بعد وإن لم يكن له ملك معين فهو لمصالح المسلمين ومهما كان في المسجد الكبير بناء لسلطان ظالم فلا عذر لمن يصلي فيه مع اتساع المسجد، أعني في الورع، قيل لأحمد بن حنبل: ما حجتك في ترك الخروج إلى الصلاة في جماعة ة نحن بالعسكر? فقال: حجتي أن الحسن وإبراهيم التيمي خافا أن يفتنهما الحجاج وأن أخاف أن أفتن أيضاً. وأما الخلوق والتجصيص فلا يمنع من الدخول لأنه غير منتفع به في الصلاة وإنما هو زينة والأولى أنه لا ينظر إليه، وأما البواري التي فرشوها فإن كان لها مالك معين فيحرم الجلوس عليها وإلا فبعد أن أرصدت لمصلحة عامة جاز افتراشها، ولكن الورع العدول عنها فإنها محل شبهة. وأما السقاية فحكمها ما ذكرناه وليس من الورع الوضوء والشرب منها والدخول إليها إلا إذا كان يخاف فوات الصلاة فيتوضأ وكذا مصانع طريق مكة. وأما الرباطات والمدارس فإن كانت رقبة الأرض مغصوبة أو الآجر منقولاً من موضع معين يمكن الرد إلى مستحقه فلا رخصة للدخول فيه وإن التبس المالك فقد أرصد لجهة من الخير، والورع اجتنابه ولكن لا يلزم الفسق بدخوله. وهذه الأبنية إن أرصدت من خدم السلاطين فالأمر فيها أشد إذ ليس لهم صرف الأموال الضائعة إلى المصالح ولأن الحرام أغلب على أموالهم إذ ليس لهم أخذ مال المصالح وإنما يجوز ذلك للولاة وأرباب الأمر.
    مسألة: الأرض المغصوبة إذا جعلت شارعاً لم يجز أن يتخطى فيه البتة وإن لم يكن له مالك معين جاز، والورع العدول إن أمكن، فإن كان الشارع مباحاً وفوقه ساباط جاز العبور وجاز الجلوس تحت الساباط على وجه لا يحتاج فيه إلى السقف كما يقف في الشارع لشغل، فإذا انتفع بالسقف في دفع حر الشمس أو المطر أو غيره فهو حرام لأن السقف لا يراد إلا لذلك، وهكذا حكم من يدخل مسجداً أو أرضاً مباحة سقف أو حوط بغصب فإنه بمجرد التخطي لا يكون منتفعاً بالحيطان والسقف إلا إذا كان له فائدة في الحيطان والسقف لحر أو برد تستر عن بصر أو غيره، فذلك حرام لأنه انتفاع بالحرام إذ لم يحرم الجلوس على الغصب لما فيه من المماسة بل للانتفاع، والأرض تراد للاستقرار عليها والسقف للاستظلال به فرق بينهما.
    ====
    الباب السابع
    في مسائل متفرقة يكثر مسيس الحاجة إليها
    وقد سئل عنها في الفتاوي
    مسألة: سئل عن خادم الصوفية يخرج إلى السوق ويجمع طعاماً أو نقداً ويشتري به طعاماً فمن الذي يحل له أن يأكل منه? وهل يختص بالصوفية أم لا? فقلت: أما الصوفية فلا شبهة في حقهم إذا أكلوه وأما غيرهم فيحل لهم إذا أكلوه برضا الخادم ولكن لا يخلو عن شبهة، أما الحل فلأن ما يعطى خادم الصوفية إنما يعطى بسبب الصوفية ولكن هو المعطى لا الصوفية فهو كالرجل المعيل يعطى بسبب عياله لأنه متكفل بهم وما يأخذه يقع ملكاً له للعيال وله أن يطعم غير العيال إذ يبعد أن يقال لم يخرج عن ملك المعطي ولا يتسلط الخادم على الشراء به والتصرف فيه? لأن ذلك مصير إلى أن المعاطاة لا تكفي وهو ضعيف، ثم لا صائر إليه الصدقات والهدايا، ويبعد أن يقال زال الملك إلى الصوفية الحاضرين الذين هم وقت سؤاله في الخانقاه إذ لا خلاف أن له ن يطعم منه من يقدم بعدهم ولو ماتوا كلهم أو واحد منهم لا يجب صرف نصيبه إلى وارثه، ولا يمكن أن يقال إنه وقع لجهة التصرف ولا يتعين له مستحق لأن إزالة الملك إلى الجهة لا توجب تسليط الآحاد على التصرف فإن الداخلين فيه لا ينحصرون بل يدخل فيه من يولد إلى يوم القيامة، وإنما يتصرف فيه الولاة،والخادم لا يجوز له أن ينتصب نائباً عن الجهة فلا وجه إلا أن يقال هو ملكه وإنما يطعم الصوفية بوفاء شرط التصوف والمروءة فإن منعهم عنه منعوه عن أن يظهر نفسه في معرض التكفل بهم حتى ينقطع وقفه لما ينقطع عمن مات عياله.
    مسألة: سئل عن مال أوصى به للصوفية فمن الذي يجوز أن يصرف إليه? فقلت: التصوف أمر باطن لا يطلع عليه ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي، والضابط الكلي أن كل من هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكراً عندهم فهو داخل في غمارهم. والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات الصلاح والفقر وزي الصوفية وأن لا يكون مشتغلاً بحرفة وأن يكون مخالطاً لهم بطريق المساكنة في الخانقاه. ثم بعض هذا الصفات مما يوجب زوالها زوال الاسم وبعضها ينجبر بالبعض فالفسق يمنع هذا الاستحقاق لأن الصوفي بالجملة عبارة عن رجل من أهل الصلاح بصفة مخصوصة، فالذي يظهر فسقه وإن كان على زيهم لا يستحق ما أوصى به للصوفية ولسنا نعتبر فيه الصغائر. وأما الحرفة والاشتغال بالكسب فإنه يمنع هذا الاستحقاق فالدهقان والعامل والتاجر والصانع في حانوته أو داره والأجير الذي يخدم بأجرة كل هؤلاء لا يستحقون ما أوصى به الصوفية ولا ينجبر هذا بالزي والمخالطة، فأما الوراقة والخياطة وما يقرب منهما مما يليق بالصوفية تعاطيها، فإذا تعاطاها لا في حانوت ولا على جهة اكتساب وحرفة فذلك لا يمنع الاستحقاق وكان ذلك ينجبر بمساكنته إياهم مع بقية الصفات، وأما القدرة على الحرف من غير مباشرة لا تمنع، وأما الوعظ والتدريس فلا ينافى اسم التصوف إذا وجدت بقية الخصال من الزي والمساكنة والفقر إذ لا يتناقض أن يقال صوفي مقرئ وصوفي واعظ وصوفي عالم أو مدرس، ويتناقض أن يقال صوفي دهقان وصوفي تاجر وصوفي عامل، وأما الفقر فإن زال بغنى مفرط ينسب الرجل إلى الثروة الظاهرة فلا يجوز معه أخذ وصية الصوفية، وإن كان له مال ولا يفي دخله بخرجه لم يبطل حقه،وكذا إذا كان له مال قاصر عن وجوب الزكاة وإن لم يكن خرج وهذه أمور لا دليل لها إلا العادات. وأما المخالطة لهم ومساكنتهم فلها أثر ولكن من لا يخالطهم وهو في داره أو في مسجد على زيهم ومتخلق بأخلاقهم فهو شريك في سهمهم وكأن ترك المخالطة يجبرها ملازمة الزي فإن لم يكن على زيهم ووجد فيه بقية الصفات فلا يستحق إلا إذا كان مساكناً لهم في الرباط فينسحب عليه حكمهم بالتبعية. فالمخالطة والزي ينوب كل واحد منهما عن الآخر. والفقيه الذي ليس على زيهم هذا حكمه فإن كان خارجاً لم يعد صوفياً وإن كان ساكناً معهم ووجدت بقية الصفات لم يبعد أن ينسحب بالتبعية عليه حكمهم. وأما لبس المرقعة من يد شيخ من مشايخهم فلا يشترط ذلك في الاستحقاق، وعدمه لا يضره مع وجود الشرائط المذكورة. وأما المتأهل المتردد بين الرباط والمسكن فلا يخرج بذلك عن جملتهم.
    مسألة: ما وقف على رباط الصوفية وسكانه فالأمر فيه أوسع مما أوصى لهم به لأن معنى الوقوف الصرف إلى مصالحهم، فلغير الصوفي أن يأكل معهم برضاهم على مائدتهم مرة أو مرتين فإن أمر الأطعمة مبناه على التسامح حتى جاز الانفراد بها في الغنائم المشتركة وللقوال أن يأكل معهم في دعوتهم من ذلك الوقف وكان ذلك من مصالح معايشهم، وما أوصى به للصوفية لا يجوز أن يصرف إلى قوال الصوفية بخلاف الوقف، وكذلك من أحضروه من العمال والتجار والقضاة والفقهاء ممن لهم غرض في استمالة قلوبهم يحل لهم الأكل برضاهم، فإن الواقف لا يقف إلا معتقداً فيه ما جرت به عادات الصوفية فينزل على العرف ولكن ليس هذا على الدوام، فلا يجوز لمن ليس صوفياً أن يسكن معهم على الدوام ويأكل وإن رضوا به إذ ليس لهم تغيير شرط الواقف بمشارة غير جنسهم. وأما الفقيه إذا كان على زيهم وأخلاقهم فله النزول عليهم، وكونه فقيهاً لا ينافي كونه صوفياً، والجهل ليس بشرط في التصوف عند من يعرف التصوف، ولا يلتفت إلى خرافات بعض الحمقى بقولهم: إن العلم حجاب فإن الجهل هو الحجاب. وقد ذكرنا تأويل هذه الكلمة في كتاب العلم، وأن الحجاب هو العلم المذموم دمن المحمود، وذكرنا المحمود والمذموم وشرحهما. وأما الفقيه إذا لم يكن على زيهم وأخلاقهم فلهم منعه من النزول عليهم فإن رضوا بنزوله فيحل له الأكل معهم بطريق التبعية فكان عدم الزي تجبره المساكنة ولكن برضا أهل الزي، وهذه أمور تشهد لها العادات ومنها أمور متقابلة لا يخفى أطرافها في النفي والإثبات ومتشابه أوساطها فمن احترز في مواضع الاشتباه فقد استبرأ لدينه كما نبهنا عليه في أبواب الشبهات.
    مسألة: سئل عن الفرق بين الرشوة والهدية مع أن كل واحد منهما يصدر عن الرضا ولا يخلو عن غرض وقد حرمت إحداهما دون الأخرى. فقلت: باذل المال لا يبذله قط إلا لغرض، ولكن الغرض إما آجل كالثواب وإما عاجل، والعاجل إما مال وإما فعل وإعانة على مقصود معين وإما تقرب إلى قلب المهدي إليه بطلب محبته إما للمحبة في عينها وإما للتوصل بالمحبة إلى غرض وراءها فالأقسام الحاصلة من هذه خمسة: الأول: ما غرضه الثواب في الآخرة وذلك إما أن يكون لكون المصروف إليه محتاجاً أو عالماً أو منتسباً بنسب ديني أو صالحاً في نفسه متديناً. فما علم الآخذ أنه يعطاه لحاجته لا يحل له أخذه إن لم يكن محتاجاً، وما علم أنه يعطاه لشرف نسبه لا يحل له أنه كاذب في دعوى النسب، وما يعطى لعلمه فلا يحل له أن يأخذه إلا أن يكون في العلم كما يعتقده المعطي، فإن كان خيل إليه كمالاً في العلم حتى بعثه بذلك على التقرب ولم يكن كاملاً لم يحل له، وما يعطى لدينه وصلاحه لا يحل له أن يأخذه إن كان فاسقاً في الباطن فسقاً لو علمه المعطي ما أعطاه، وقلما يكون الصالح بحيث لو انكشف باطنه لبقيت القلوب مائلة إليه وإنما ستر الله الجميل هو الذي يحبب الخلق إلى الخلق. وكان المتورعون يوكلون في الشراء من لا يعرف أنه وكيلهم حتى لا يتسامحوا في المبيع خيفة من أن يكون ذلك أكلاً بالدين فإن ذلك مخطر والتقي خفي لا كالعلم والنسب والفقر فينبغي أن يجتنب الأخذ بالدين ما أمكن.
    القسم الثاني: ما يقصد به العاجل غرض معين كالفقير يهدي إلى الغني طمعاً في خلعته فهذه هبة بشرط الثواب لا يخفى حكمها وإنما تحل عند الوفاء بالثواب المطموع فيه وعند وجود شروط العقود.
    الثالث: أن يكون المراد إعانة بفعل معين كالمحتاج إلى السلطان يهدي إلى وكيل السلطان وخاصته ومن له مكانة عنده فهذه هدية بشرط ثواب يعرف بقرينة الحال، فلينظر في ذلك العمل الذي هو الثواب فإن كان حراماً كالسعي في تنجيز إدرار حرام أو ظلم إنسان أو غيره حرم الأخذ، وإن كان واجباً كدفع ظلم متعين على كل من يقدر عليهأو شهادة متعينة فيحرم عليه ما يأخذه وهي الرشوة التي لا يشك في تحريمها، وإن كان مباحاً لا واجباً ولا حراماً وكان فيه تعب بحيث لو عرف لجاز الاستئجار عليه فما يأخذه حلال مهما وفى بالغرض، وهو جار مجرى الجعالة كقوله: أوصل هذه القصة إلى يد فلان أو يد السلطان ولك دينار وكان بحيث يحتاج إلى يعب وعمل متقوم، أو قال اقترح على فلان أن يعينني في غرض كذا أو ينعم علي بكذا وافتقر في تنجيز غرضه إلى كلام طويل، فذلك جعل كما يأخذه الوكيل بالخصومة بين يدي القاضي فليس بحرام إذا كان لا يسعى في حرام، وإن كان مقصوده يحصل بكلمة لا تعب فيها ولكن تلك الكلمة من ذي الجاه أو تلك الفعلة من ذي الجاه يفيد كقوله للبواب لا تغلق دونه باب السلطان أو كوضعه قصة بين يدي السلطان فقط، فهذا حرام لأنه عوض عن الجاه، ولم يثبت في الشرع جواز ذلك بل ثبت ما يدل على النهي عنه. كما سيأتي في هدايا الملوك. وإذا كان لا يجوز العوض عن إسقاط الشفعة والرد بالعيب ودخول الأغصان في هواء الملك وجملة من الأغراض مع كونها مقصودة فكيف يؤخذ عن الجاه? ويقرب من هذا أخذ الطبيب العوض على كلمة واحدة ينبه بها على دواء ينفرد بمعرفته كواحد ينفرد بالعلم بنبت يقلع البواسير أو غيره فلا يذكره إلا بعوض فإن عمله بالتلفظ به غير متقوم كحبة من سمسم فلا يجوز أخذ العوض عليه ولا على علمه، إذ ليس ينتقل علمه على غيره وإنما يحصل لغيره مثل علمه ويبقى هو عالماً به، ودون هذا: الحاذق في الصناعة كالصيقلي مثلاً الذي يزيل اعوجاج السيف أو المرآة بدقة واحدة لحسن معرفته بموضع الخلل، ولحذقه بإصابته فقد يزيد بدقة واحدة مال كثير في قيمة السيف والمرآة فهذا لا أرى بأساً بأخذ الأجرة عليه، لأن مثل هذه الصناعات يتعب الرجل في تعلمها ليكتسب ويخفف عن نفسه كثرة العمل.
    الرابع: ما يقصد به المحبة وجلبها من قبل المهدي إليه لا لغرض معين ولكن طلباً للاستئناس وتأكيداً للصحبة وتودداً إلى القلوب فذلك مقصود للعقلاء ومندوب إليه في الشرع. قال ﷺ: "تهادوا تحابوا"، وعلى الجملة فلا يقصد الإنسان في الغالب أيضاً محبة غيره لعين المحبة بل لفائدة في محبته ولكن إذا لم تتعين تلك الفائدة ولم يتمثل في نفسه غرض معين يبعثه في الحال أو المآل سمي ذلك هدية وحل أخذها.
    الخامس: أن يطلب التقرب إلى قلبه وتحصيل محبته لا للأنس به من حيث إنه أنس فقط بل ليتوصل بجاهه إلى أغراض له ينحصر جنسها وإن لم ينحصر عينها وكان لولا جاهه وحشمته لكان لا يهدي إليه، فإن كان جاهه لأجل علم أو نسب فلأمر فيه أخف وأخذه مكروه فإن فيه مشابهة الرشوة ولكنها هدية في ظاهرها، فإن كان جاهه بولاية تولاها من قضاء أو عمل أو ولاية صدقة أو جباية مال أو غيره من الأعمال السلطانية حتى ولاية الأوقاف مثلاً، وكان لولا تلك الولاية لكان لا يهدي إليه فهذه رشوة عرضت في معرض الهدية إذ القصد بها في الحال طلب التقرب واكتساب المحبة ولكن الأمر ينحصر في جنسه إذ ما يمكن التوصل إليه بالآيات لا يخفى وآية أنه لا يبغي المحبة أنه لو ولى في الحال غيره لسلم المال إلى ذلك الغير، فهذا مما اتفقوا على أن الكراهة فيه شديدة واختلفوا في كونه حراماً، والمعنى فيه متعارضاً فإنه دائر بين الهدية المحضة وبين الرشوة المبذولة في مقابلة جاه في غرض معين، وإذا تعارضت المشابهة القياسية وعضدت الأخبار والآثار أحمدهما تعين الميل إليه، وقد دلت الأخبار على تشديد الأمر في ذلك قال ﷺ: "يأتي على الناس زمان يستحل فيه السحت بالهدية والقتل بالموعظة يقتل البريء لتوعظ به العامة"، وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن السحت فقال: يقضي الرجل الحاجة فتهدى له الهدية ولعله أراد قضاء الحاجة بكلمة لا تعب فيها أو تبرع بها لا على قصد أجرة، فلا يجوز أن يأخذ بعده شيئاً في معرض العوض، شفع مسروق شفاعة فأهدى إليه المشفوع له جارية فغضب وردها وقال: لو علمت ما في قلبك لما تكلمت في حاجتك ولا أتكلم فيما بقي منها. وسئل طاوس عن هدايا السلطان فقال: سحت. وأخذ عمر رضي الله عنه ربح مال القراض الذي أخذه ولداه من بيت المال وقال: إنما أعطيتما لمكانكما مني إذ علم أنهما أعطيا لأجل جاه الولاية. وأهدت امرأة أبي عبيدة بن الجراح إلى خاتون ملكة الروم خلوقاً فكافأتها بجوهر فأخذه عمر رضي الله عنه فباعه وأعطاها ثمن خلوقها ورد باقيه إلى بيت مال المسلمين. وقال جابر وأبو هريرة رضي الله عنهما: هدايا الملوك غلول. ولم رد عمر بن عبد العزيز الهدية قيل له: "كان رسول الله ﷺ يقبل الهدية فقال: كان ذلك له هدية وهو لنا رشوة" أي كان يتقرب إليه لنبوته لا لولايته ونحن إنما نعطى الولاية. وأعظم من ذلك كله ما روى أبو حميد الساعدي "أن رسول الله ﷺ بعث والياً على صدقات الأزد فلما جاء إلى رسول الله ﷺ أمسك بعض ما معه وقال: هذا لكم وهذا لي هدية، فقال عليه السلام: "ألا جلست في بيت أبيك وبيت أمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقاً"، ثم قال: "مالي أستعمل الرجل منكم فيقول: هذا لكم وهذا لي هدية ألا أجلس في بيت أمه ليهدى له والذي نفسي بيده لا يأخذ منكم أحد شيئاً بغير حقه إلا أتى الله يحمله فلا يأتين أحدكم يوم القيامة ببعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر"، ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت". وإذا ثبتت هذه التشديدات فالقاضي والولي ينبغي أن يقدر نفسه في بيت أمه وأبيه فما بعد العزل وهو في بيت أمه يجوز له أن يأخذه في ولايته، وما يعلم أنه، إنما يعطاه لولايته فحرام أخذه، وما أشكل عليه في هدايا أصدقائه أنهم هل كانوا يعطونه لو كان معزولاً? فهو شبهة فليجتنبه.
    =================
    كتاب آداب الألفة والأخوة والصحبة والمعاشرة
    مع أصناف الخلق وهو الكتاب الخامس من ربع العادات الثاني
    الحمد لله الذي غمر صفوة عباده بلطائف التخصيص طولاً وامتناناً. وألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمته إخواناً. ونزع الغل من صدورهم فظلوا في الدنيا أصدقاء وأخداناً. وفي الآخرة رفقاء وخلاناً. والصلاة والسلام على محمد المصطفى وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوه واقتدوا به قولاً وفعلاً وعدلاً وإحساناً.
    أما بعد: فإن التحاب في الله تعالى والأخوة في دينه من أفضل القربات، وألطف ما يستفاد من الطاعات في مجاري العادات ولها شروط بها يلتحق المتصاحبون بالمتحابين في الله تعالى وفيها حقوق بمراعاتها يصفو الأخوة عن شوائب الكدورات ونزعات الشيطان، فبالقيام بحقوقها يتقرب إلى الله زلفى وبالمحافظة عليها تنال الدرجات العلى، ونحن نبين مقاصد هذا الكتاب في ثلاثة أبواب: الباب الأول في فضيلة الألفة والأخوة في الله تعالى وشروطها ودرجاتها وفوائدها. الباب الثاني في حقوق الصحبة وآدابها وحقيقتها ولوازمها. الباب الثالث في حق المسلم والرحم والجوار والملك وكيفية المعاشرة مع من قد بلي بهذه الأسباب.
    ===========
    الباب الأول
    في فضيلة الألفة والأخوة وفي شروطها
    ودرجاتها وفوائدها
    فضيلة الألفة والأخوة
    اعلم أن الألفة ثمرة حسن الخلق، والتفرق ثمرة سوء الخلق. فحسن الخلق يوجب التحاب والتآلف والتوافق وسوء الخلق يثمر التباغض والتحاسد والتدابر، ومهما كان المثمر محموداً كانت الثمرة محمودة. وحسن الخلق لا تخفى في الدين فضيلته وهو الذي مدح الله سبحانه به نبيه عليه السلام إذ قال: "وإنك لعلى خلق عظيم" وقال النبي ﷺ: "أكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله وحسن الخلق"، وقال أسامة بن شريك: قلنا يا رسول الله: ما خير ما أعطي الإنسان? فقال: "خلق حسن" وقال ﷺ: "بعثت لأتمم محاسن الأخلاق"،وقال ﷺ: "أثقل ما يوضع في الميزان خلق حسن" وقال ﷺ: "ما حسن الله خلق امرئ وخلقه فيطعمه النار" وقال ﷺ: "يا أبا هريرة عليك بحسن الخلق"، قال أبو هريرة رضي الله عنه: وما حسن الخلق يا رسول الله? قال: "تصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك وتعطي من حرمك"، ولا يخفى أن ثمرة الخلق الحسن الألفة وانقطاع الوحشة ومهما طاب المثمر طابت الثمرة، وكيف وقد ورد في الثناء على نفس الألفة سيما إذا كانت الرابطة هي التقوى والدين وحب الله من الآيات والأخبار والآثار ما فيه كفاية ومقنع، قال الله تعالى مظهراً عظيم منته على الخلق بنعمة الألفة: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم" وقال: "فأصبحتم بنعمته إخواناً" أي بالألفة، ثم ذم التفرقة وزجر عنها فقال عز من قائل: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"إلى "لعلكم تهتدون" وقال ﷺ: "إن أقربكم مني مجلساً أحاسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون" وقال ﷺ: "المؤمن إلف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" وقال ﷺ في الثناء على الأخوة في الدين: "من أراد الله به خيراً رزقه خليلاً صالحاً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه"، وقال ﷺ: "مثل الأخوين إذا التقيا مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى وما التقى مؤمنان قط إلا أفاد الله أحدهما من صاحبه خيراً" وقال عليه السلام في الترغيب في الأخوة في الله: "من آخا أخاً في الله رفعه الله درجة في الجنة لا ينالها بشيء من عمله"، وقال أبو إدريس الخولاني لمعاذ:إني أحبك في الله، فقال له: أبشر ثم أبشر فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "ينصب لطائفة من الناس كراسي حول العرش يوم القيامة، وجوههم كالقمر ليلة البدر، يفزع الناس وهم لا يفزعون ويخاف الناس وهم لا يخافون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فقيل: من هؤلاء يا رسول الله? فقال: "هم المتحابون في الله تعالى"، ورواه أبو هريرة رضي الله عنه وقال فيه: "إن حول العرش منابر من نور عليها لباسهم نور ووجوههم نور ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء"،فقالوا: يا رسول الله صفهم لنا، فقال: "هم المتحابون في الله والمتجالسون في الله والمتزاورون في الله"، وقال ﷺ: "ما تحاب اثنان في الله إلا كان أحبهما إلى الله أشدهما حباً لصاحبه"، ويقال: إن الأخوين في الله إذا كان أحدهما أعلى مقاماً من الآخر رفع الآخر معه إلى مقامه وإنه يلتحق به كما تلتحق الذرية بالأبوين، والأهل بعضهم ببعض لأن الأخوة إذا اكتسبت في الله لم تكن دون أخوة الولادة. قال عز وجل: "ألحقنا بهم ذرياتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء" وقال ﷺ: "إن الله تعالى يقول: حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي وحقت محبتي للذين يتحابون من أجلي وحقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي وحقت محبتي للذين يتناصرون من أجلي" وقال ﷺ: "إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي". وقال ﷺ: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه متعلق بالمسجد إذا خرج منه يعود إليه، ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه، ورجل دعته امرأة ذات حسب وجمال فقال: إني أخاف الله تعالى، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه"، وقال ﷺ: "ما زار رجل رجلاً في الله شوقاً إليه ورغبة في لقائه إلا ناداه ملك من خلفه طبت وطاب ممشاك وطابت لك الجنة". وقال ﷺ: "إن رجلاً زار أخاً له في الله، فأرصد الله له ملكاً فقال: أين تريد? قال: أريد أن أزور أخي فلاناً، فقال: لحاجة لك عنده? قال: لا، قال: لقرابة بينك وبينه? قال: لا، قال: فبنعمة لك عنده? قال:لا، قال: فبم? قال: أحبه في الله، قال: فإن الله أرسلني إليك يخبرك بأنه يحبك لحبك إياه وقد أوجب لك الجنة، وقال ﷺ: "أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله"، فلهذا يجب أن يكون للرجل أعداء يبغضهم في الله كما يكون له أصدقاء وإخوان يحبهم في الله. ويروى أن الله تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت الراحة وأما انقطاعك إلي فقد تعززت بي ولكن هل عاديت لي عدواً أو هل واليت في ولياً? وقال ﷺ: "اللهم لا تجعل لفاجر علي منة فترزقه مني محبة" ويروى أن الله تعالى أوحى إلى عيسى عليه السلام: "لو أنك عبدتني بعبادة أهل السموات والأرض وحب في الله ليس وبغض في الله ليس ما أغنى عنك ذلك شيئاً"، وقال عيسى عليه السلام: "تحببوا إلى الله ببغض أهل المعاصي وتقربوا إلى الله بالتباعد منهم والتمسوا رضا الله بسخطهم" قالوا: يا روح الله فمن نجالس? قال: جالسوا من تذكركم الله رؤيته ومن يزيد في عملكم كلامه ومن يرعبكم في الآخرة عمله. وروي في الأخبار السالفة أن الله عز وجل أوحى إلى موسى عليه السلام: يا ابن عمران كن يقظاناً وارتد لنفسك إخواناً وكل خدن وصاحب لا يؤازرك على مسرتي فهو لك عدو، وأوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام فقال: يا داود ما لي أراك منتبذاً وحيداً? قال:إلهي قليت الخلق من أجلك، فقال: يا داود كن يقظاناً وارتد لنفسك أخداناً وكل خدن لا يوافقك على مسرتي فلا تصاحبه فإنه لك عدو يقسي قلبك ويباعدك مني. وفي أخبار داود عليه السلام أنه قال: يا رب كيف لي أن يحبني الناس كلهم وأسلم فيما بيني وبينك? قال: خالق الناس بأخلاقهم وأحسن فيما بيني وبينك. وفي بعضها: خالق أهل الدنيا بأخلاق الدنيا وخالق أهل الآخرة بأخلاق الآخرة. وقال النبي ﷺ: "إن أحبكم إلى الله الذين يألفون ويؤلفون وإن أبغضكم إلى الله المشاؤون بالنميمة الفرقون بين الإخوان". وقال ﷺ: "إن لله ملكاً نصفه من النار ونصفه من الثلج يقول: اللهم كما ألفت بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك الصالحين" وقال أيضاً: "ما أحدث عبد أخاً في الله إلا أحدث الله له درجة في الجنة"، وقال ﷺ: "المتحابون في الله على عمود من ياقوتة حمراء في رأس العمود سبعون ألف غرفة يشرفون على أهل الجنة يضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس لأهل الدنيا فيقول أهل الجنة: انطلقوا بنا ننظر إلى المتحابين في الله فيضيء حسنهم لأهل الجنة كما تضيء الشمس، عليهم ثياب سندس خضر مكتوب على جباههم: المتحابون في الله".
    الآثار: قال علي رضي الله عنه: عليكم بالإخوان فإنهم عدة في الدنيا والآخرة ألا تسمع إلى قول أهل النار "فما لنا من شافعين. ولا صديق حميم" وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: والله لو صمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، وأنفقت مالي غلقاً غلقاً في سبيل الله أموت يوم أموت وليس في قلبي حب لأهل طاعة الله وبغض لأهل معصية الله ما نفعني ذلك شيئاً. وقال ابن السماك عند موته: اللهم إنك تعلم أني إذا كنت أعصيك كنت أحب من يعطيك فاجعل ذلك قربة لي إليك. وقال الحسن. على ضده. يا ابن آدم لا يغرنك قول من يقول المرء مع من أحب فإنك لن تلحق الأبرار إلا بأعمالهم فإن اليهود والنصارى يحبون أنبياءهم وليسوا معهم. وهذه إشارة إلى أن مجرد ذلك من غير موافقة في بعض الأعمال أو كلها لا ينفع، وقال الفضيل في بعض كلامه: هاه تريد أن تسكن الفردوس وتجاور الرحمن في داره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين? بأي عمل عملته? بأي شهوة تركتها? بأي غيظ كظمته? بأي رحم قاطع وصلتها? بأي زلة لأخيك غفرتها? بأي بعيد قاربته في الله? ويروى أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام: هل عملت لي عملاً قط? فقال: إلهي إني صليت لك وصمت وتصدقت وزكيت، فقال: إن الصلاة لك برهان، والصوم جنة، والصدقة ظل، والزكاة نور، فأي عمل عملت لي? قال موسى: إلهي دلني عل عمل هو لك? قال: يا موسى هل واليت لي ولياً قط? وهل عاديت في عدواً قط? فعلم موسى أن أفضل الأعمال الحب في الله والبغض في الله. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لو أن رجلاً قام بين الركن والمقام يعبد الله سبعين سنة لبعثه الله يوم القيامة مع من يحب. وقال الحسن رضي الله عنه: مصارمة الفاسق قربان إلى الله، وقال رجل لمحمد بن واسع: إني لأحبك في الله، فقال: أحبك الذي أحببتني له. ثم حول وجهه وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أحب فيك وأنت لي مبغض. ودخل رجل على داوود الطائي فقال له: ما حاجتك? فقال: زيارتك، فقال: أما أنت فقد عملت خيراً حين زرت، ولكن انظر ماذا ينزل بي أنا إذا قيل لي: من أنت فتزار? أمن الزهاد أنت? لا والله، أمن العباد أنت? لا والله، أمن الصالحين أنت? لا والله، ثم أقبل يوبخ نفسه ويقول: كنت في الشبيبة فاسقاً فلما شخت صرت مرائياً والله للمرائي شر من الفاسق، وقال عمر رضي الله عنه: إذا أصاب أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به فقلما يصيب ذلك. وقال مجاهد: المتحابون في الله إذا التقوا فكشر بعضهم إلى بعض تتحات عنهم الخطايا لما يتحات ورق الشجر في الشتاء إذا يبس. وقال الفضيل: نظر الرجل إلى وجه أخيه على المودة والرحمة عبادة.
    بيان معنى الأخوة في الله
    وتمييزها من الأخوة في الدنيا
    اعلم أن الحب في الله والبغض في الله غامض وينكشف الغطاء عنه. بما نذكره: وهو أن الصحبة تنقسم إلى ما يقع بالاتفاق، كالصحبة بسبب الجوار أو بسبب الاجتماع في المكتب أو في المدرسة أو في السوق أو على باب السلطان أو في الأسفار وإلى ما ينشأ اختياراً ويقصد، وهو الذي نريد بيانه إذ الأخوة في الدين واقعة في هذا القسم لا محالة إذ لا ثواب إلا على الأفعال الاختيارية ولا ترغيب إلا فيها. والصحبة عبارة عن المجالسة والمخالطة والمجاورة. وهذه الأمور لا يقصد بها غيره إلا إذا أحبه فإن غير المحبوب يجتنب ويباعد ولا تقصد مخالطته، والذي يحب فإما أن يكون لذاته لا ليتوصل به إلى محبوب ومقصود وراءه وإما أن يحب للتوصل به إلى مقصود، وذلك المقصود إما أن يكون مقصوراً على الدنيا وحظوظها، وإما أن يكون متعلقاً بالآخرة، وإما أن يكون متعلقاً بالله تعالى فهذه أربعة أقسام:
    أما القسم الأول: وهو حبك الإنسان لذاته فذلك ممكن وهو أن يكون في ذاته محبوباً عندك على معنى أنك تلذ برؤيته ومعرفته ومشاهدة أخلاقه لاستحسانك له، فإن كل جميل لذيذ في حق من أدرك جماله وكل لذيذ محبوب. واللذة تتبع الاستحسان والاستحسان يتبع المناسبة والملاءمة والموافقة بين الطباع، ثم ذلك المستحسن إما أن يكون هو الصورة الظاهرة عني حسن الخلقة، وإما أن يكون هو الصورة الباطنة أعني كمال العقل وحسن الأخلاق ويتبع حسن الأخلاق حسن الأفعال لا محالة ويتبع كمال العقل غزارة العلم، وكل ذلك مستحسن عند الطبع السليم والعقل المستقيم، وكل مستحسن فمستلذ به ومحبوب، بل في ائتلاف القلوب أمر أغمض من هذا فإنه قد تستحكم المودة بين شخصين من غير ملاحة في صورة ولا حسن في خلق وخلق، ولكن لمناسبة توجب الألفة والموافقة فإن شبه الشيء ينجذب إليه بالطبع، والأشياء الباطنة خفية ولها أسباب دقيقة ليس في قوة البشر الاطلاع عليها، عبر رسول الله ﷺ عن ذلك حيث قال:"الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"، فالتناكر نتيجة التباين والائتلاف نتيجة التناسب الذي عبر عنه بالتعارف. وفي بعض الألفاظ:"الأرواح جنود مجندة تلتقي فتتشام في الهواء"، وقد كنى بعض العلماء عن هذا بأن قال: إن الله تعالى خلق الأرواح ففلق بعضها فلقاً وأطافها حول العرش فأي روحين من فلقتين تعارفا هناك فالتقيا تواصلا في الدنيا. وقال صلى اله عليه وسلم: "إن أرواح المؤمنين ليلتقيان على مسيرة يوم وما رأى أحدهما صاحبه قط"، وروي: أن امرأة بمكة كانت يضحك النساء وكانت بالمدينة أخرى فنزلت المكية على المدنية فدخلت على عائشة رضي الله عنها فأضحكتها فقالت: أين نزلت? فذكرت لها صاحبتها، فقالت: صدق الله ورسوله سمعت رسول الله ﷺ يقول: "الأرواح جنود مجندة" - الحديث -. والحق في هذا أن المشاهدة والتجربة تشهد للائتلاف عند التناسب والتناسب في الطباع والأخلاق باطناً وظاهراً أمر مفهوم. وأما الأسباب التي أوجبت تلك المناسبة فليس في قوة البشر الاطلاع عليها، وغاية هذيان المنجم أن يقول: إذا كان طالعه على تسديس طالع غيره أو تثليثه فهذا نظر الموافقة والمودة فتقتضي التناسب والتواد، وإذا كان على مقابلته أو تربيعه اقتضى التباغض والعداوة. فهذا لو صدق بكونه كذلك في مجاري سنة الله في خلق السموات والأرض لكان الإشكال فيه أكثر من الإشكال في أصل التناسب، فلا معنى للخوض فيما لم يكشف سره للبشر فما أوتينا من العلم إلا قليلاً، ويكفينا في التصديق بذلك التجربة والمشاهدة فقد ورد الخبر به. قال ﷺ: "لو أن مؤمناً دخل إلى مجلس فيه مائة منافق ومؤمن واحد لجاء حتى يجلس إليه، ولو أن منافقاً دخل مجلس فيه مائة مؤمن ومنافق واحد لجاء حتى يجلس إليه"، وهذا يدل على أن شبه الشيء منجذب إليه بالطبع وإن كان هو لا يشعر به، وكان مالك بن دينار يقول: لا يتفق اثنان في عشرة إلا وفي أحدهما وصف من الآخر، وإن أجناس الناس كأجناس الطير ولا يتفق نوعان من الطير في الطيران إلا وبينهما مناسبة، قال فرأى يوماً غراباً مع حمامة فعجب من ذلك فقال: اتفقا وليسا من شكل واحد، ثم طارا فإذا هما أعرجان فقال: من ههنا اتفقا، ولذلك قال بعض الحكماء: كل إنسان يأنس إلى شكله كما أن كل طير يطير مع جنسه، وإذا اصطحب اثنان برهة من زمان ولم يتشاكلا في الحال فلا بد أن يتفرقا، وهذا معنى خفي تفطن له الشعراء حتى قال قائلهم:
    وقائل كيف تفارقتما
    فقلت قولاً فيه إنصاف
    لم يك من شكلي ففارقته
    والناس أشكال وألاف
    فقد ظهر من هذا أن الإنسان قد يحب لذاته لا لفائدة تنال منه في حال أو مآل، بل لمجرد المجانسة والمناسبة في الطباع والباطنة والأخلاق الخفية. ويدخل في هذا القسم الحب للجمال إذا لم يكن المقصود قضاء الشهوة فإن الصور الجميلة مستلذة في عينها وإن قدر فقد أصل الشهوة حتى يستلذ النظر إلى الفواكه والأنوار والأزهار والتفاح والشرب بالحمرة وإلى الماء الجاري والخضرة من غير غرض سوى عينها. وهذا الحب لا يدخل فيه الحب لله بل هو حب بالطبع وشهوة النفس، ويتصور ذلك ممن لا يؤمن بالله إلا أنه إن اتصل به غرض مذموم صار مذموماً كحب الصورة الجميلة لقضاء الشهوة حيث لا يحل قضاؤها. وإن لم يتصل به غرض مذموم فهو مباح لا يوصف بحمد ولا ذم إذ الحب إما محمود وإما مذموم وإما مباح لا يحمد ولا يذم.
    القسم الثاني: أن يحبه لينال من ذاته غير ذاته فيكون وسيلة إلى محبوب غيره والوسيلة إلى المحبوب محبوب، وما يحب لغيره كان ذلك الغير هو المحبوب بالحقيقة. ولكن الطريق إلى المحبوب محبوب ولذلك أحب الناس الذهب والفضة ولا غرض فيهما إذ لا يطعم ولا يلبس ولكنهما وسيلة إلى المحبوبات فمن الناس من يحب كما يحب الذهب والفضة من حيث إنه وسيلة إلى المقصود إذ يتوصل به إلى نيل جاه أو مال أو علم كما يحب الرجل سلطاناً لانتفاعه بماله أو جاهه ويحب خواصه لتحسينهم حاله عنده وتمهيدهم أمره في قلبه، فالمتوسل إليه إن كان مقصور الفائدة على الدنيا لم يكن حبه من جملة الحب في الله، وإن لم يكن مقصور الفائدة على الدنيا ولكنه ليس يقصد به إلا الدنيا كحب التلميذ لأستاذه فهو أيضاً خارج عن الحب لله فإنه إنما يحبه ليحصل منه العلم لنفسه فمحبوبه العلم، فإذا كان لا يقصد العلم للتقرب إلى الله، بل لينال به الجاه والمال والقبول عند الخلق فمحبوبه الجاه والقبول، والعلم وسيلة إليه والأستاذ وسيلة إلى العلم، فليس في شيء من ذلك حب لله إذ لا يتصور كل ذلك ممن لا يؤمن بالله تعالى أصلاً. ثم ينقسم هذا أيضاً إلى مذموم ومباح فإن كان يقصد به التوصل إلى مباح فهو مباح وإنما تكتسب الوسيلة الحكم والصفة من المقصد المتوصل إليه فإنها تابعة له غير قائمة بنفسها.
    القسم الثالث: أن لا يحب لا لذاته بل لغيره وذلك الغير ليس راجعاً إلى حظوظه في الدنيا بل يرجع إلى حظوظه في الآخرة فهذا أيضاً ظاهر لا غموض فيه، وذلك كمن يحب أستاذه وشيخه لأنه يتوصل به إلى تحصيل العلم وتحسين العمل ومقصوده من العلم والعمل الفوز في الآخرة،فهذا من جملة المحبين في الله، وكذلك من يحب تلميذه لأنه يتلقف منه العلم وينال بواسطته رتبة التعليم ويرقى به إلى درجة التعظيم في ملكوت السماء، إذ قال عيسى ﷺ: "من علم وعمل وعلم فذلك يدعى عظيماً في ملكوت السماء". ولا يتم التعليم إلا بمتعلم فهو إذن آلة في تحصيل هذا الكمال، فإن أحبه لأنه آلة له إذ جعل صدره مزرعة لحرثه الذي هو سبب ترقية إلى رتبة التعظيم في ملكوت السماء فهو محب في الله، بل الذي يتصدق بأمواله لله ويجمع الضيفان ويهيئ لهم الأطعمة اللذيذة الغريبة تقرباً إلى الله فأحب طباخاً لحسن صنعته في المطبخ فهو من جملة المحبين في الله، وكذا لو أحب من يتولى له إيصال الصدقة إلى المستحقين فقد أحبه في الله، بل نزيد على هذا ونقول: إذا أحب من يخدمه بنفسه في غسل ثيابه وكنس بيته وطبخ طعامه ويفرغه بذلك للعلم أو العمل ومقصوده من استخدامه في هذه الأعمال الفراغ للعبادة فهو محب في الله، بل نزيد عليه ونقول: إذا أحب من ينفق عليه من ماله ويواسيه بكسوته وطعامه ومسكنه وجميع أغراضه التي يقصدها في دنياه ومقصوده من جملة ذلك الفراغ للعلم والعمل المقرب إلى الله فهو محب في الله. فقد كان جماعة من السلف تكفل بكفايتهم جماعة من أولي الثروة وكان المواسي والمواسي جميعاً من المتحابين في الله، بل نزيد عليه ونقول: من نكح امرأة صالحة ليتحصن بها عن وسواس الشيطان ويصون بها دينه أو ليولد منها ولد صالح يدعوا له وأحب زوجته لأنها آلة إلى هذه المقاصد الدينية فهو محب في الله. ولذلك وردت الأخبار بوفور الأجر والثواب على الإنفاق على العيال حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته بل نقول: كل من استهتر بحب الله وحب رضاه وحب لقائه في الدار الآخرة فإذا أحب غيره كان محباً في الله لأنه لا يتصور أن يحب شيئاً إلا لمناسبته لما هو محبوب عنده وهو رضا الله عز وجل، بل أزيد على هذا وأقول: إذا اجتمع في قلبه محبتان محبة الله ومحبة الدنيا واجتمع في شخص واحد المعنيان جميعاً حتى صلح لأن يتوسل به إلى الله وإلى الدنيا فإذا أحبه لصلاحه للأمرين فهو من المحبين في الله، كمن يحب أستاذه الذي يعلمه الدين ويكفيه مهمات الدنيا بالمؤاساة في المال فأحبه من حيث إن في طبعه طلب الراحة في الآخرة فهو وسيلة إليهما فهو محب في الله، وليس من شرط حب الله أن لا يحب في العاجل حظاً البتة إذا الدعاء الذي أمر به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فيه جمع بين الدنيا والآخرة ومن ذلك قولهم: "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة" وقال عيسى عليه السلام في دعاءه: اللهم لا تشمت بي عدوي ولا تسؤ بي صديقي ولا تجعل مصيبتي لديني ولا تجعل الدنيا أكبر همي فدفع شماتة الأعداء من حظوظ الدنيا، ولم يقل: ولا تجعل الدنيا أصلاً من همي، بل قال: لا تجعلها أكبر همي. وقال نبينا ﷺ في دعائه: "اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدنيا والآخرة"، وقال: "اللهم عافني من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة" وعلى الجملة فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضاً لحب الله تعالى فحب السلامة والصحة والكفاية والكرامة في الدنيا كيف يكون مناقضاً لحب الله? والدنيا والآخرة عبارة عن حالتين إحداهما أقرب من الأخرى، فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غداً ولا يحبها اليوم? وإنما يحبها غداً لأن الغد سيصير حالاً راهنة فالحالة الراهنة لابد أن تكون مطلوبة أيضاً، إلا أن الحظوظ العاجلة منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها وهي التي احترز عنها الأنبياء والأولياء وأمروا بالاحتراز عنها وإلى ما لا يضاد وهي التي لم يمتنعوا منها كالنكاح الصحيح وأكل الحلال وغير ذلك، فما يضاد حظوظ الآخرة فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه أعني أن يكرهه بعقله لا بطبعه، كما يكره التناول من طعام لذيذ لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو حزت رقبته لا بمعنى أن الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه ولا يستلذه لو أكله فإن ذلك محال، ولكن على معنى أنه يزجره عقله عن الإقدام عليه وتحصل فيه كراهة الضرر المتعلق به. والمقصود من هذا أنه لو أحب أستاذه لأنه يؤاسيه ويعلمه أو تلميذه لأنه يتعلم منه ويخدمه وأحدهما حظ عاجل والآخر آجل لكان في زمرة المتحابين في الله. ولكن بشرط واحد وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلاً أو تعذر عليه تحصيله منه لنقص حبه بسببه فالقدر الذي ينقص بسبب فقده هو لله تعالى، وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به، فإن امتنع بعضها نقص حبك وإن زاد زاد الحب، فليس حبك للذهب كحبك للفضة إذا تساوى مقدارهما لأن الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة، فإذاً يزيد الحب بزيادة الغرض ولا يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية فهو داخل في جملة الحب لله وحده هو أن كل حب لولا الإيمان بلله واليوم الآخر لم يتصور وجوده فهو حب في الله، وكذلك كل زيادة في الحب لولا الإيمان بالله لم تكن تلك الزيادة فتلك الزيادة من الحب في الله فذلك وإن دق فهو عزيز. قال الجريري: تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبقى إلا الرهبة والرغبة.
    القسم الرابع: أن يحب لله وفي الله لا لينال منه علماً أو عملاً أو يتوسل به إلى أمر وراء ذاته وهذا أعلى الدرجات وهو أدقها وأغمضها، وهذا القسم أيضاً ممكن فإن من آثار غلبة الحب أن يتعدى من المحبوب إلى كل من يتعلق بالمحبوب ويناسبه ولو من بعد، فمن أحب إنساناً حباً شديداً أحب محب ذلك الإنسان وأحب محبوبه وأحب من يخدمه وأحب من يثني عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه، وأحب من يثني عليه محبوبه وأحب من يتسارع إلى رضا محبوبه، حتى فال بقية بن الوليد: إن المؤمن إذا أحب المؤمن أحب كلبه، وهو كما قال: ويشهد له التجربة في أحوال العشاق ويدل عليه أشعار الشعراء ولذلك يحفظ ثوب المحبوب ويخفيه تذكرة من جهته ويحب منزله ومحلته وجيرانه حتى قال مجنون بني عامر:
    أمر على الديار ديار ليلى
    أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
    وما حب الديار شغفن قلبي
    ولكن حب من سكن الديارا
    فإذن المشاهدة والتجربة تدل على أن الحب يتعدى من ذات المحبوب إلى ما يحيط به ويتعلق بأسبابه ويناسبه ولو من بعد؛ ولكن ذلك من خاصية فرط المحبة لا يكفي فيه ويكون اتساع الحب في تعديه من المحبوب إلى ما يكتنفه ويحيط به ويتعلق بأسبابه بحسب إفراط المحبة وقوتها،
    وكذلك حب الله سبحانه وتعالى إذا قوي وغلب على القلب واستولى عليه حتى انتهى إلى حد الاستهتار فيتعدى إلى كل موجود سواه، فإن كل موجود سواه أثر من آثار قدرته ومن أحب إنساناً أحب صنعته وخطه وجميع أفعاله، ولذلك كان ﷺ إذا حمل إليه باكورة من الفواكه مسح بها عينيه وأكرمها وقال: إنه قريب العهد بربنا، وحب الله تعالى تارة يكون لصدق الرجاء في مواعيده وما يتوقع في الآخرة من نعيمه، وتارة لما سلف من أياديه وصنوف نعمته، وتارة لذاته لا لأمر آخر وهو أدق ضروب المحبة وأعلاها. وسيأتي تحقيقها في كتاب المحبة من ربع المنجيات إن شاء الله تعالى. وكيفما اتفق حب الله فإذا قوي تعدى إلى كل متعلق به ضرباً من التعلق حتى يتعدى إلى ما هو في نفسه مؤلم مكروه ولكن فرط الحب يضعف الإحساس بالألم والفرح بفعل المحبوب وقصده إياه بالإيلام يغمر لإدراك الألم، وذلك كالفرح بضربة من المحبوب أو قرصة فيها نوع معاتبة فإن قوة المحبة تثير فرحاً يغمر إدراك الألم فيه وقد انتهت محبة الله بقوم إلى أن قالوا لا نفرق بين البلاء والنعمة فإن الكل من الله ولا نفرح إلا بما فيه رضاه حتى قال بعضهم لا أريد أن أنال مغفرة الله. وقال سمنون:
    وليس لي في سواك حظ
    فكيفما شئت فاختبرني
    وسيأتي تحقيق ذلك في كتاب المحبة. والمقصود أن حب الله إذا قوي أثمر حب كل من يقوم بحق عبادة الله في علم أو عمل وأثمر حب كل من فيه صفة مرضية عند الله من خلق حسن أو تأدب بآداب الشرع. وما من مؤمن محب للآخرة ومحب لله إلا إذا أخبر عن حال رجلين أحدهما عالم والآخر جاهل فاسق إلا وجد في نفسه ميلاً إلى العالم العابد، ثم يضعف ذلك الميل ويقوى بحسب ضعف إيمانه وقوته وبحسب ضعف حبه لله وقوته وهذا الميل حاصل وإن كانا غائبين عنه بحيث يعلم إنه لا يصيبه منهما خير ولا شر في الدنيا ولا في الآخرة، فذلك الميل هو حب في الله ولله من غير حظ فإنه إنما يحبه لأن الله يحبه ولأنه مرضي عند الله تعالى ولأنه يحب الله تعالى ولأنه مشغول بعبادة الله تعالى إلا أنه إذا ضعف لم يظهر أثره ولا يظهر به ثواب ولا أجر، فإذا قوي حمل على الموالاة والنصرة والذود بالنفس والمال واللسان وتتفاوت الناس فيه بحسب تفاوتهم في حب الله عز وجل، ولو كان الحب مقصوراً على حظ ينال من المحبوب في الحال أو المآل لما تصور حب الموتى من العلماء والعباد ومن الصحابة والتابعين، بل من الأنبياء المنقرضين صلوات الله عليهم وسلامه، وحب جميعهم مكنون في قلب كل مسلم متدين، ويتبين ذلك بغضبه عند طعن أعدائهم في واحد منهم ويفرحه عند الثناء عليهم وذكر محاسنهم وكل ذلك حب لله ومن أحب ملكاً أو شخصاً جميلاً أحب خواصه وخدمه وأحب من أحبه إلا أنه يمتحن الحب بالمقابلة بحظوظ النفس وقد يغلب بحيث لا يبقى للنفس حظ إلا فيما هو حظ المحبوب، وعنه عبر قول من قال:
    أريد وصاله ويريد هجري
    فأترك ما أريد لما يريد
    وما لجرح إذا أرضاكم ألم
    وقد يكون الحب بحيث يترك به بعض الحظوظ دون بعض كمن تسمح نفسه بأن يشاطر محبوبه في نصف ماله أو في ثلثه أو في عشره، فمقادير الأموال موازين المحبة إذ لا تعرف درجة المحبوب إلا بمحبوب يترك في مقابلته،فمن استغرق الحب جميع قلبه لم يبق له محبوب سواه فلا يمسك لنفسه شيئاً مثل أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه لم يترك لنفسه أهلاً ولا مالاً فسلم ابنته التي هي قرة عينه وبذل جميع ماله. قال ابن عمر رضي الله عنهما: "بينما رسول الله ﷺ جالس وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها على صدره بخلال إذ نزل جبريل عليه السلام فأقرأه عن الله السلام وقال له: يا رسول الله ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها على صدره بخلال? فقال: "أنفق ماله علي قبل الفتح"، قال: فأقره من الله السلام وقل له: يقول لك ربك: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط? قال: فالتفت النبي ﷺ إلى أبي بكر وقال: "يا أبا بكر هذا جبريل يقرئك السلام من الله ويقول: أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط?" قال: فبكى أبو بكر رضي الله عنه وقال: أعلى ربي أسخط أنا عن ربي راض أنا عن ربي راض"، فحصل من هذا أن كل من أحب عالماً أو عابداً أو أحب شخصاً راغباً في علم أو في عبادة أو في خير فإنما أحبه في الله ولله وله فيه من الأجر والثواب بقدر قوة حبه، فهذا شرح الحب في الله ودرجاته وبهذا يتضح البغض في الله أيضاً ولكن نزيده بياناً.
    بيان البغض في الله
    اعلم أن كل من يحب في الله لا بد أن يبغض في الله فإنك إن أحببت إنساناً لأنه مطيع لله ومحبوب عند الله فإن عصاه فلا بد أن تبغضه لأنه عاص لله وممقوت عند الله، ومن أحب بسبب فبالضرورة يبغض لضده وهذان متلازمان لا ينفصل أحدهما عن الآخر وهو مطرد في الحب والبغض في العادات ولكن كل واحد من الحب والبغض داء دفين في القلب، وإنما يترشح عند الغلبة ويترشح بظهور أفعال المحبين والمبغضين في المقاربة والمباعدة وفي المخالطة والموافقة فإذا ظهر في الفعل سمي موالاة ومعاداة، ولذلك قال الله تعالى: " هل واليت في ولياً وهل عاديت في عدواً?" - كما نقلناه -، وهذا واضح في حق من لم يظهر لك إلا طاعاته تقدر على أن تحبه أو لم يظهر لك إلا فسقه وفجوره وأخلاقه السيئة فتقدر على أن يبغضه، وإنما المشكل إذا اختلطت الطاعات بالمعاصي فإنك تقول كيف أجمع بين البغض والمحبة وهما متناقضان? وكذلك تتناقض ثمرتهما من الموافقة والمخالفة والموالاة والمعاداة فأقول: ذلك غير متناقض في حق الله تعالى كما لا يتناقض في الحظوظ البشرية، فإنه مهما اجتمع في شخص واحد خصال يحب بعضها ويكره بعضها فإنك تحبه من وجه وتبغضه من وجه، فمن له زوجة حسناء فاجرة أو ولد ذكي خدوم ولكنه فاسق فإنه يحبه من وجه ويبغضه من وجه ويكون معه على حالة بين حالتين، إذ لو فرض له ثلاثة أولاد أحدهم ذكي بار والآخر بليد عاق والآخر بليد بار أو ذكي عاق فإنه يصادف نفسه معهم على ثلاثة أحوال متفاوتة بحسب تفاوت خصالهم، فكذلك ينبغي أن تكون حالك بالإضافة إلى من غلب عليه الفجور ومن غلبت عليه الطاعة ومن اجتمع فيه كلاهما متفاوتة على ثلاث مراتب، وذلك بأن تعطى كل صفة حظها من البغض والحب والإعراض والإقبال والصحبة وسائر الأفعال الصادرة منه.
    فإن قلت: فكل مسلم فإسلامه طاعة منه فكيف أبغضه مع الإسلام?فأقول: تحبه لإسلامه وتبغضه لمعصيته وتكون معه على حالة لو قستها بحال كافر أو فاجر أدركت تفرقة بينهما وتلك التفرقة حب الإسلام وقضاء لحقه وقدر الجناية على حق الله والطاعة له كالجناية على حقك والطاعة لك. فمن وافقك على غرض وخالفك في آخر فكن معه على حالة متوسطة بين الانقباض والاسترسال وبين الإقبال والإعراض وبين التودد إليه والتوحش عنه، ولا تبالغ في إكرامه مبالغتك في إكرام من يوافقك على جميع أغراضك، ولا تبالغ في إهانته مبالغتك في إهانة من خالفك في جميع أغراضك. ثم ذلك التوسط تارة يكون ميله إلى طرف الإهانة عند غلبة الجناية وتارة إلى طرف المجاملة والإكرام عند غلبة الموافقة، فهكذا ينبغي أن يكون فيمن يطيع الله تعالى ويعصيه ويتعرض لرضاه مرة ولسخطه أخرى.
    فإن قلت: فبماذا يمكن إظهار البغض? فأقول: أما في القول فبكف اللسان عن مكالمته ومحادثته مرة وبالاستخفاف والتغليظ في القول أخرى. وأما في الفعل فبقطع السعي في إعانته مرة وبالسعي في إساءته وإفساد مآربه أخرى. وبعض هذا أشد من بعض وهي بحسب درجات الفسق والمعصية الصادرة منه. أما ما يجري مجرى الهفوة التي يعلم أنه متندم عليها ولا يصر عليها فالأولى فيه الستر والإغماض. أما ما أصر عليه من صغيرة أو كبيرة فإن كان ممن تأكدت بينك وبينه مودة وصحبة وأخوة فله حكم آخر - وسيأتي وفيه خلاف بين العلماء - وأما إذا لم تتأكد أخوة وصحبة فلا بد من إظهار أثر الغض إما في الإعراض والتباعد عنه وقلة الالتفات إليه وإما في الاستخفاف وتغليظ القول عليه. وهذا أشد من الإعراض وهو بحسب غلظ المعصية وخفتها، وكذلك في الفعل أيضاً رتبتان، إحداهما: قطع المعونة والرفق والنصرة عنه وهو أقل الدرجات، والأخرى: السعي في إفساد أغراضه عليه كفعل الأعداء المبغضين، وهذا لا بد منه ولكن فيما يفسد عليه طريق المعصية. أما ما لا يؤثر فيه فلا، مثاله رجل عصى الله بشرب الخمر وقد خطب امرأة لو تيسر له نكاحها لكان مغبوطاً بها بالمال والجمال والجاه إلا ان ذلك لا يؤثر في منعه من شرب الخمر ولا في بعث وتحريض عليه، فإذا قدرت على إعانته ليتم له غرضه ومقصوده وقدرت على تشويشه ليفوته غرضه فليس لك السعي في تشويشه. أما الإعانة فلو تركتها إظهاراً للغضب عليه في فسقه فلا بأس، وليس يجب تركها إذ ربما يكون لك نية في أن تتلطف بإعانته وإظهار الشفقة عليه ليعتقد مودتك ويقبل نصحك فهذا حسن، وإن لم يظهر لك ولكن رأيت أن تعينه على غرضه قضاء لحق إسلامه فذلك ليس بممنوع بل هو الأحسن إن كانت معصيته بالجناية على حقك أو حق من يتعلق بك. وفيه نزل قوله تعالى: "ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة" إلى قوله تعالى: "ألا تحبون أن يغفر الله لكم" إذ تكلم مسطح بن أثاثة في واقعة الإفك فحلف أبو بكر أن يقطع عنه رفقه - وقد كان يواسيه بالمال - فنزلت الآية مع عظم معصية مسطح، وأية معصية تزيد على التعرض لحرم رسول الله ﷺ وإطالة اللسان في مثل عائشة رضي الله عنها، إلا أن الصديق رضي الله عنه كان كالمجني عليه في نفسه بتلك الواقعة والعفو عمن أخلاق الصديق ظلم والإحسان إلى من أساء من. أخلاق الصديقين. وإنما يحسن الإحسان إلى من أساء من ظلمك، فأما من ظلم غيرك وعصى الله به فلا يحسن الإحسان إليه لأن في الإحسان إلى الظالم إساءة إلى المظلوم وحق المظلوم أولى بالمراعاة وتقوية قلبه بالإعراض عن الظالم أحب إلى الله من تقوية قلب الظالم فأما إذا كنت أنت المظلوم فالأحسن في حقك العفو والصفح، وطرق السلف قد اختلفت في إظهار البغض مع أهل المعاصي وكلهم اتفقوا على إظهار البغضللظلمة والمبتدعة وكل من عصى الله معصية متعدية منه إلى غيره، فأما من عصى الله في نفسه فمنهم من نظر بعين الرحمة إلى العصاة كلهم، ومنهم من شدد الإنكار واختار المهاجرة. فقد كان أحمد بن حنبل يهجر الأكابر في أدنى كلمة، حتى هجر يحيى بن معين لقوله: إني لا أسأل أحداً شيئاً ولو حمل السلطان إلي شيئاً لأخذته. وهجر الحارث المحاسبي في تصنيفه في الرد على المعتزلة وقال: إنك لا بد تورد أولاً شبهتهم وتحمل الناس على التفكر فيها ثم ترد عليهم، وهجر أبو ثور في تأويله قوله ﷺ: "إن الله خلق آدم على صورته"، وهذا أمر يختلف باختلاف النية وتختلف النية باختلاف الحال، فإن كان الغالب على القلب النظر إلى اضطرار الخلق وعجزهم وأنهم مسخرون لما قدروا له أورث هذا تساهلاً في المعاداة والبغض وله وجه ولكن قد تلتبس به المداهنة فأكثر البواعث على الإغضاء عن المعاصي المداهنة ومراعاة القلوب والخوف من وحشتها ونفارها، وقد يلبس الشيطان ذلك على الغبي الأحمق بأنه ينظر بعين الرحمة ومحك ذلك أن ينظر إليه بعين الرحمة إن جنى على خاص حقه ويقول إنه قد سخر له والقدر لا ينفع منه الحذر، وكيف لا يفعله وقد كتب عليه فمثل هذا قد تصح له نية في الإغماض عن الجناية على حق الله وإن كان يغتاظ عند الجناية على حقه ويترحم عند الجناية على حق الله فهذا مداهن مغرور بمكيدة من مكايد الشيطان فليتنبه له.
    فإن قلت: فأقل الدرجات في إظهار البغض الهجر والإعراض وقطع الرفق والإعانة فهل يجب ذلك حتى يعصي العبد بتركه? فأقول: لا يدخل ذلك في ظاهر العلم تحت التكليف والإيجاب فإنا نعلم أن الذين شربوا الخمر وتعاطوا الفواحش في زمان رسول الله ﷺ والصحابة ما كانوا يهجرون بالكلية بل كانوا منقسمين فيهم إلى من يغلظ القول عليه ويظهر البغض له، وإلى من يعرض عنه ومن لا يتعرض له، وإلى من ينظر إليه بعين الرحمة ور يؤثر المقاطعة والتباعد، فهذه دقائق دينية تختلف فيها طرق السالكين لطريق الآخرة ويكون عمل كل واحد على ما يقتضيه حاله ووقته، ومقتضى الأحوال في هذه الأمور إما مكروهة أو مندوبة فتكون في رتبة الفضائل ولا تنتهي إلى التحريم والإيجاب فإن الداخل تحت التكليف أصل المعرفة لله تعالى وأصل الحب وذلك قد لا يتعدى من المحبوب إلى غيره وإنما المتعدي إفراط الحب واستيلاؤه، وذلك لا يدخل في الفتوى وتحت ظاهر التكليف في حق عوام الخلق أصلاً.
    بيان مراتب الذين يبغضون في الله وكيفية معا ملتهم: فإن قلت: إظهار البغض والعداوة بالفعل إن لم يكن واجباً فلا شك أنه مندوب إليه والعصاة والفساق على مراتب مختلفة فكيف ينال الفضل بمعاملتهم وهل يسلك بجميعهم مسلكاً واحداً أم لا? فاعلم أن المخالف لأمر الله سبحانه لا يخلو إما أن يكون مخالفاً في عقده أو في عمله، والمخالف في العقد إما مبتدع أو كافر والمبتدع إما داع إلى بدعته أو ساكت والساكت إما بعجزه أو باختياره: فأقسام الفساد في الاعتقاد ثلاثة: الأول: الكفر، فالكافر إن كان محارباً فهو يستحق القتل والإرقاق وليس بعد هذين إهانة، وأما الذمي فإنه لا يجوز إيذاؤه إلا بالإعراض عنه والتحقير له بالاضطرار إلى أضيق الطرق وبترك المفاتحة بالسلام، فإذا قال: السلام عليك، قلت: وعليك. والأولى الكف عن مخاطبته ومعاملته ومؤاكلته،وأما الانبساط معه والاسترسال إليه كما يسترسل إلى الأصدقاء فهو مكروه كراهة شديدة يكاد ينتهي ما يقوى منها إلى حد التحريم، قال الله تعالى: "لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم" الآية، وقال ﷺ: "المسلم والمشرك لا تتراءى ناراهما" وقال عز وجل: "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء"الآية.
    الثاني:المبتدع الذي يدعو إلى بدعته. فإن كانت البدعة بحيث يكفر بها فأمره أشد من الذمي لأنه لا يقر بجزية ويسامح بعقد ذمة وإن كان ممن لا يكفر به فأمره بينه وبين الله أخف من أمر الكافر لا محالة، ولكن الأمر في الإنكار عليه أشد منه على الكافر لأن شر الكافر غير متعد، فإن المسلمين اعتقدوا كفره فلا يلتفتون إلى قوله إذ لا يدعي لنفسه الإسلام واعتقاد الحق. أما سبب المبتدع الذي يدعو إلى البدعة ويزعم يدعو أن ما إليه حق فهو سبب لغواية الخلق فشره متعد، فالاستحباب في إظهار بغضه ومعاداته والانقطاع عنه وتحقيره والتشنيع عليه ببدعته وتنفير الناس عنه أشد، وإن سلم في خلوة فلا بأس برد جوابه، وإن علمت أن الإعراض عنه والسكوت عن جوابه يقبح في نفسه بدعته ويؤثر في زجره فترك الجواب أولى لأن جواب الإسلام وإن كان واجباً فيسقط بأدنى غرض فيه مصلحة حتى يسقط بكون الإنسان في الحمام أو في قضاء حاجته وغرض الزجر أهم من هذه الأغراض، وإن كان في ملأ فترك الجواب أولى تنفيراً للناس عنه وتقبيحاً لبدعته في أعينهم وكذلك الأولى كف الإحسان إليه والإعانة له لا سيما فيما يظهر للخلق قال عليه السلام: "من انتهر صاحب بدعة ملأ الله قلبه أمناً وإيماناً، ومن أهان صاحب بدعة أمنه الله يوم الفزع الأكبر، ومن ألان له وأكرمه أو لقيه ببشر فقد استخف بما أنزل الله على محمد ﷺ".
    الثالث: المبتدع العامي الذي لا يقدر على الدعوة ولا يخاف الاقتداء به فأمره أهون، فالأولى أن لا يقابح بالتغليظ والإهانة بل يتلطف به في النصح، فإن قلوب العوام سريعة التقلب، فإن لم ينفع النصح وكان في الإعراض عنه تقبيح لبدعته في عينه تأكد الاستحباب في الإعراض، وإن علم أن ذلك لا يؤثر فيه لجمود طبعه ورسوخ عقده في قلبه فالإعراض أولى لأن البدعة إذا لم يبالغ في تقبيحها شاعت بين الخلق وعم فسادها. وأما العاصي بفعله وعمله لا باعتقاده فلا يخلوا إما أن يكون بحيث يتأذى به غيره كالظلم والغصب وشهادة الزور والغيبة والتضريب بين الناس والمشي بالنميمة وأمثالها. أو كان مما لا يقتصر عليه ويؤذي غيره وذلك ينقسم إلى ما يدعو غيره إلى الفساد كصاحب الماخور الذي يجمع بين الرجال والنساء ويهيئ أسباب الشرب والفساد لأهل الفساد أو لا يدعو غيره إلى فعله كالذي يشرب ويزني، وهذا الذي لا يدعو غيره إما أن يكون عصيانه بكبيرة أو بصغيرة، وكل واحد فإما أن يكون مصراً عليه أو غير مصر، فهذه التقسيمات يتحصل منها ثلاثة أقسام ولكل قسم منها رتبة وبعضها أشد من بعض ولا نسلك بالكل مسلكاً واحداً.
    القسم الأول: وهو أشدها: ما يتضرر به الناس كالظلم والغصب وشهادة الزور والغيبة والنميمة، فهؤلاء الأولى الإعراض عنهم وترك مخالطتهم والانقباض عن معاملتهم لأن المعصية شديدة فيما رجع إلى إيذاء الخلق. ثم هؤلاء ينقسمون إلى من يظلم في الدماء وإلى من يظلم في الأموال وإلى من يظلم في الأعراض، وبعضها أشد من بعض فالاستحباب في إهانتهم والإعراض عنهم مؤكد جداً، ومهما كان يتوقع من الإهانة زجراً لهم أو لغيرهم كان الأمر فيه آكد وأشد.
    الثاني: صاحب الماخور الذي يهيئ أسباب الفساد ويسهل طرقه على الخلق، فهذا لا يؤذي الخلق في دنياهم ولكن يختلس بفعله دينهم، وإن كان على وفق رضاهم فهو قريب من الأول ولكنه أخف منه، فإن المعصية بين العبد وبين الله تعالى إلى العفو أقرب ولكن من حيث إنه متعد على الجملة إلى غيره فهو شديد، وهذا أيضاً يقتضي الإهانة والإعراض والمقاطعة وترك جواب السلام إذا ظن أن فيه نوعاً من الزجر له أو لغيره.
    الثالث: الذي يفسق في نفسه بشرب الخمر أو ترك واجب أو مقارفة محظور يخصه فالأمر فيه أخف ولكنه في وقت مباشرته إن صودف يجب منعه بما يمتنع به منه ولو بالضرب والاستخفاف فإن النهي عن المنكر واجب، وإذا فرغ منه وعلم أن ذلك من عادته وهو مصر عليه فإن تحقق أن نصحه يمنعه عن العود إليه وجب النصح وإن لم يتحقق ولكنه كان يرجو فالأفضل النصح والزجر بالتلطف أو بالتغليظ إن كان هو الأنفع، فأما الإعراض عن جواب سلامه والكف عن مخالطته حيث يعلم أنه يصر وأن النصح ليس ينفعه، فهذا فيه نظر وسير العلماء فيه مختلفة، والصحيح أن ذلك يختلف باختلاف نية الرجل فعند هذا يقال: الأعمال بالنيات إذ في الرفق والنظر بعين الرحمة إلى الخلق نوع من التواضع وفي العنف والإعراض نوع من الزجر والمستفتى فيه القلب، فما يراه أميل إلى هواه ومقتضى طبعه فالأولى ضده إذ قد يكون استخفافه وعنفه عن كبر وعجب والتذاذ بإظهار العلو والإدلال بالصلاح، وقد يكون رفقه عن مداهنة واستمالة قلب للوصول به إلى غرض أو الخوف من تأثير وحشته ونفرته في جاه أو مال بظن قريب أو بعيد وكل ذلك مردد على إشارات الشيطان وبعيد عن أعمال أهل الآخرة، فكل راغب في أعمال الدين مجتهد مع نفسه في التفتيش عن هذه الدقائق ومراقبة هذه الأحوال، والقلب هو المفتى فيه وقد يصيب الحق في اجتهاده وقد يخطئ وقد يقدم على اتباع هواه وهو عالم به وقد يقدم وهو بحكم الغرور ظان أنه عامل لله وسالك طريق الآخرة. وسيأتي بيان هذه الدقائق في كتاب الغرور من ربع المهلكات. ويدل على تخفيف الأمر في الفسق القاصر الذي هو بين العبد وبين الله ما روي أن شارب خمر ضرب بين يدي رسول الله ﷺ وهو يعود، فقال واحد من الصحابة: لعنه الله ما أكثر ما يشرب، فقال ﷺ: "لا تكن عوناً للشيطان على أخيك"، أو لفظاً هذا معناه وكأن هذا إشارة إلى أن الرفق أولى من العنف والتغليظ.
    بيان الصفات المشروطة فيمن تختار صحبته:
    اعلم أنه لا يصلح للصحبة كل إنسان. قال ﷺ: "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"، ولابد أن يتميز بخصال وصفات يرغب بسببها في صحبته وتشترط تلك الخصال بحسب الفوائد المطلوبة من الصحبة إذ معنى الشرط ما لا بد منه للوصول إلى المقصود فبالإضافة إلى المقصود تظهر الشروط. ويطلب من الصحبة فوائد دينية ودنيوية: أما الدنيوية، فكالانتفاع بالمال أو الجاه أو مجرد الاستئناس بالمشاهدة والمجاورة وليس ذلك من أغراضنا. وأما الدينية، فيجتمع فيها أيضاً أغراض مختلفة إذ منها الاستفادة من العلم والعمل، ومنها الاستفادة من الجاه تحصناً به عن إيذاء من يشوش القلب ويصد عن العبادة، ومنها استفادة المال للاكتفاء به عن تضييع الأوقات في طلب القوت، ومنها الاستعانة في المهمات فيكون عدة في المصائب وقوة في الأحوال، ومنها التبرك بمجرد الدعاء، ومنها انتظار الشفاعة في الآخرة فقد قال بعض السلف: استكثروا من الإخوان فإن لكل مؤمن شفاعة فلعلك تدخل في شفاعة أخيك. وروي في غريب التفسير في قوله تعالى: "ويستجيب الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله" قال: يشفعهم في إخوانهم فيدخلهم الجنة معهم. ويقال:إذا غفر الله للعبد شفع في إخوانه، ولذلك حث جماعة من السلف على الصحبة والألفة والمخالطة وكرهوا العزلة والانفراد، فهذه فوائد تستدعي كل فائدة شروطاً لا تحصل إلا بها، ونحن نفصلها: أما على الجملة فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلاً حسن الخلق غير فاسق ولا مبتدع ولا حريص على الدنيا. أما العقل فهو رأس المال وهو الأصل فلا خير في صحبة الأحمق فإلى الوحشة والقطيعة ترجع عاقبتها وإن طالت. قال علي رضي الله عنه:
    فلا تصحب أخا الجهل
    وإياك وإياه
    فكم من جاهل أردى
    حليماً حين آخاه
    يقاس المرء بالمرء
    إذا ما المرء ماشاه
    وللشيء من الشيء
    مقاييس وأشباه
    وللقلب على القلب
    دليل حين يلقاه
    كيف والأحمق قد يضرك وهو يريد نفعك وإعانتك من حيث لا يدري ولذلك قال الشاعر:
    إني لآمن من عدو عاقل
    وأخاف خلاً يعتريه جنون
    فالعقل فن واحد وطريقه
    أدرى فأرصد والجنون فنون
    ولذلك قيل: مقاطعة الأحمق قربان إلى الله. وقال الثوري: النظر إلى وجه الأحمق خطيئة مكتوبة،ونعني بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه إما بنفسه وإما إذا فهم. وأما حسن الخلق فلا بد منه إذ رب عاقل يدرك الأشياء على ما هي عليه ولكن إذا غلبه غضب أو شهوة أو بخل أو جبن أطاع هواه وخالف ما هو المعلوم عنده لعجزه عن قهر صفاته وتقويم أخلاقه فلا خير في صحبته. وأما الفاسق المصر على الفسق فلا فائدة في صحبته لأن من يخاف الله لا يصر على كبيرة ومن لا يخاف الله لا تؤمن غائلته ولا يوثق بصداقته بل يتغير بتغير الأغراض. وقال تعالى: "ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" وقال تعالى: "فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه" وقال تعالى: "فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا" وقال: "واتبع سبيل من أناب إلي" وفي مفهوم ذلك زجر عن الفاسق. وأما المبتدع ففي صحبته خطر سراية البدعة وتعدي شؤمها إليه فالمبتدع مستحق للهجر والمقاطعة فكيف تؤثر صحبته? وقد قال عمر رضي الله عنه في الحث على طلب التدين في الصديق فيما رواه سعيد بن المسيب قال: عليك بإخوان الصدق تعش في أكنافهم فإنهم زينة في الرخاء وعدة في البلاء وضع أمر أخيك على أحسنه حتى يجيئك ما يغلبك منه واعتزل عدوك واحذر صديقك إلا الأمين من القوم ولا أمين إلا من خشي الله فلا تصحب الفاجر فتتعلم من فجوره ولا تطلعه على سرك واستشر في أمرك الذين يخشون الله تعالى. وأما حسن الخلق فقد جمعه علقمة العطاردي في وصيته لابنه حين حضرته الوفاة قال: يا بني إذا عرضت لك إلى صحبة الرجال حاجة فاصحب من إذا خدمته صانك وإن صحبته زانك وإن قعدت بك مؤنة مانك، اصحب من إذا مددت يدك بخير مدها وإن رأى منك حسنة عدها وإن رأى سيئة سدها، اصحب من إذا سألته أعطاك وإن سكت ابتداك وإن نزلت بك نازلة واساك، اصحب من إذا قلت صدق قولك وإن حاولتما أمراً أمرك وإن تنازعتما آثرك، فكأنه جمع بهذا جميع حقوق الصحبة وشرط أن يكون قائماً بجميعها. قال ابن أكثم: قال المأمون فأين هذا? فقيل له: أتدري لم أوصاه بذلك? قال لا. لأنه أراد أن لا يصحب أحداً. وقال بعض الأدباء: لا تصحب من الناس إلا من يكتم سرك ويستر عيبك فيكون معك في النوائب ويؤثرك بالرغائب وينشر حسنتك ويطوي سيئتك فإن لم تجده فلا تصحب إلا نفسك.
    وقال علي رضي الله عنه:
    إن أخاك الحق من كان معك
    ومن يضر نفسه لينفعك
    ومن إذا ريب زمان صدعك
    شتت فيه شمله ليجمعك
    وقال بعض العلماء:لا تصحب إلا أحد رجلين: رجل تتعلم منه شيئاً من أمر دينك فينفعك، أو رجل تعلمه شيئاً في أمر دينه فيقبل منك، والثالث فاهرب منه. وقال بعضهم: الناس أربعة: فواحد حلو كله فلا يشبع منه. وآخر مر كله فلا يؤكل منه، وآخر فيه حموضة فخذ من هذا قبل أن يأخذ منك، وآخر فيه ملوحة فخذ منه وقت الحاجة فقط. وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: لا تصحب خمسة: الكذاب فإنك منه على غرور وهو مثل السراب يقرب منك البعيد ويبعد منك القريب، والأحمق فإنك لست منه على شيء يريد أن ينفعك فيضرك. والبخيل فإنه يقطع بك أحوج ما تكون إليه، والجبان فإنه يسلمك ويفر عند الشدة، والفاسق فإنه يبيعك بأكلة أو أقل منها، فقيل: وما أقل منها? قال: الطمع فيها ثم لا ينالها. وقال الجنيد: لأن يصحبني فاسق حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني قارئ سيئ الخلق. وقال ابن أبي الحواري: قال لي أستاذي أبو سليمان: يا أحمد لا تصحب إلا أحد رجلين: رجلاً ترتفق به في أمر دنياك، أو رجلاً تزيد معه وتنتفع به في أمر آخرتك، والاشتغال بغير هذين حمق كبير. وقال سهل بن عبد الله: اجتنب صحبة ثلاثة من أصناف الناس: الجبابرة الغافلين، والقراء المداهنين، والمتصوفة الجاهلين. واعلم أن هذه الكلمات أكثرها غير محيط بجميع أغراض الصحبة، والمحيط ما ذكرناه من ملاحظة المقاصد ومراعاة الشروط بالإضافة إليها فليس ما يشترط للصحبة في مقاصد الدنيا مشروطاً في الآخرة والأخوة كما قاله كما قاله بشر. الإخوان ثلاثة: أخ لآخرتك وأخ لدنياك وأخ لتأنس به. وقلما تجتمع هذه المقاصد في واحد بل تتفرق على جمع فتتفرق الشروط فيهم لا محالة. وقد قال المأمون: الإخوان ثلاثة: أحدهم مثله مثل الغذاء لا يستغنى عنه، والآخر مثله مثل الدواء يحتاج إليه في وقت دون وقت، والثلث مثله مثل الداء لا يحتاج إليه قط: ولكن العبد قد يبتلي به وهو الذي لا أنس فيه ولا نفع. وقد قيل: مثل جملة الناس كمثل الشجر والنبات، فمنها ما له ظل وليس له ثمر وهو مثل الذي ينتفع به في الدنيا دون الآخرة فإن نفع الدنيا كالظل السريع الزوال، ومنها ما له ثمر وليس له ظل وهو مثل الذي يصلح للآخرة دون الدنيا، ومنها ما له ثمر وظل جميعاً، ومنها ما له واحد منهما كأم غيلان تمزق الثياب ولا طعم فيها ولا شراب، ومثله من الحيوانات الفأرة والعقرب، كما قال تعالى: "يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير" وقال الشاعر:
    الناس شتى إذا ما أنت ذقتهم
    لا يستوون كما لا يستوي الشجر
    هذا له ثمر حلو مذاقته
    وذاك ليس له طعم ولا ثمر
    فإذا لم يجد رفيقاً يؤاخيه ويستفيد به أحد هذه المقاصد فالواحدة أولى به. قال أبو ذر رضي الله عنه: الوحدة خير من الجليس السوء والجليس الصالح خير من الوحدة، ويروى مرفوعاً. وأما الديانة وعدم الفسق فقد قال الله تعالى: "واتبع سبيل من أناب إلي" ولأن مشاهدة الفسق والفساق تهون أمر المعصية على القلب وتبطل نفرة القلب عنها. قال سعيد بن المسيب: لا تنظروا إلى الظلمة فتحبط أعمالكم الصالحة بل هؤلاء لا سلامة في مخالطتهم، وإنما السلامة في الانقطاع عنهم. قال الله تعالى: "وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً" أي سلامة والألف بدل من الهاء، ومعناه إنا سلمنا من إثمكم وأنتم سلمتم من شرنا، فهذا ما أردنا أن نذكره من معاني الأخوة وشروطها وفوائدها فلنرجع في ذكر حقوقها ولوازمها وطرق القيام بحقها. وأما الحريص على الدنيا فصحبته سم قاتل لأن الطباع مجبولة على التشبه والإقتداء، بل الطبع يسرق من الطبع من حيث لا يدري صاحبه، فمجالسة الحريص على الدنيا تحرك الحرص ومجالسة الزاهد تزهد في الدنيا فلذلك تكره صحبة طلاب الدنيا ويستحب صحبة الراغبين في الآخرة. قال علي عليه السلام: أحيوا الطاعات بمجالسة من يستحيا منه. وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: ما أوقعني في بلية إلا صحبة من لا أحتشمه. وقال لقمان يا بني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن القلوب لتحيا بالحكمة كما تحيا الأرض الميتة بوابل القطر.
    =========
    الباب الثاني
    في حقوق الأخوة والصحبة
    اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين كعقد النكاح بين الزوجين، وكما يقتضي النكاح حقوقاً يجب الوفاء بها قياماً بحق النكاح. كما سبق ذكره في كتاب آداب النكاح. فكذا عقد الأخوة، فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء وبالإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف وذلك يجمعه ثمانية حقوق:
    الحق الأول
    في المال
    قال رسول الله ﷺ: "مثل الأخوين مثل اليدين تغسل إحداهما الأخرى"، وإنما شبههما باليدين لا باليد والرجل لأنهما يتعاونان على غرض واحد، فكذا الأخوان إنما تتم أخوتهما إذا ترافقا في مقصد واحد فهما من وجه كالشخص الواحد، وهذا يقتضي المساهمة في السراء والضراء والمشاركة في المآل والحال وارتفاع الاختصاص والاستثمار. والمواساة بالمال مع الأخوة على ثلاث مراتب:
    أدناها: أن تنزله منزلة عبدك أو خادمك فتقوم بحاجته من فضلة مالك، فإذا سنحت له حاجة وكانت عندك فضلة عن حاجتك أعطيته ابتداء ولم تحوجه إلى السؤال فإن أحوجته إلى السؤال فهو غاية التقصير في حق الأخوة.
    الثانية: أن تنزله منزلة نفسك وترضى بمشاركته إياك في مالك ونزوله منزلتك حتى تسمح بمشاطرته في المال قال الحسن: كان أحدهم يشق إزاره بينه وبين أخيه.
    الثالثة: وهي العليا أن تؤثره على نفسك وتقدم حاجته على حاجتك وهذه رتبة الصديقين ومنتهى درجات المتحابين ومن ثمار هذه الرتبة الإيثار بالنفس أيضاً، كما روي أنه سعى بجماعة من الصوفية إلى بعض الخلفاء فأمر بضرب رقابهم وفيهم أبو الحسن النوري فبادر إلى السياف ليكون هو أول مقتول فقيل له في ذلك فقال: أحببت أن أؤثر إخواني بالحياة في هذه اللحظة، فكان ذلك سبب نجاة جميعهم قي حكاية طويلة، فإن لم تصادف نفسك في رتبة من هذه الرتب مع أخيك فاعلم أن عقد الأخوة لم ينعقد بعد في الباطن وإنما الجاري بينكما مخالطة رسمية لا وقع لها في العقل والدين، فقد قال ميمون بن مهران: من رضي من الإخوان بترك الإفضال فليؤاخ أهل القبور.
    وأما الدرجة الدنيا فليست أيضاً مرضية عند ذوي الدين، روي أن عتبة الغلام جاء إلى منزل رجل كان قد آخاه فقال أحتاج من مالك إلى أربعة آلاف، فقال خذ ألفين فأعرض عنه وقال آثرت الدنيا على الله أما استحييت أن تدعي الأخوة في الله وتقول هذا، ومن كان في الدرجة الدنيا من الأخوة ينبغي أن لا تعامله في الدنيا. قال أبو حازم: إذا كان لك أخ في الله فلا تعامله في أمور دنياك وإنما أراد به من في هذه الرتبة.
    وأما الرتبة العليا: فهي التي وصف الله تعالى المؤمنين بها في قوله: "وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون" أي كانوا خلطاء في الأموال لا يميز بعضهم رحله عن بعض، وكان منهم من لا يصحب من قال: نعلي، لأنه أضافه إلى نفسه. وجاء فتحي الموصلي إلى منزل لأخ له وكان غائباً، فأمر أهله فأخرجت صندوقه ففتحه وأخذ حاجته فأخبرت الجارية مولاها فقال: إن صدقت فأنت حرة لوجه الله سروراً بما فعل. وجاء رجل إلى أبو هريرة رضي الله عنه وقال: إني أريد أن أؤاخيك في الله فقال: أتدري ما حق الإخاء? قال: عرفني، قال: أن لا تكون أحق بدينارك ودرهمك مني، قال: لم أبلغ هذه المنزلة بعد? فاذهب عني. وقال علي بن الحسين رضي الله عنهما لرجل: هل يدخل أحدكم يده في كم أخيه أو كيسه فيأخذ منه ما يريد بغير إذنه? قال: لا قال: فلستم بإخوان. ودخل قوم على الحسن رضي الله عنه فقالوا: يا أبا سعيد أصليت? قال: نعم، قالوا: فإن أهل السوق لم يصلوا بعد، قال: ومن يأخذ دينه من أهل السوق? بلغني أن أحدهم يمنع أخاه الدرهم! قاله كالمتعجب منه. وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم رحمه الله وهو يريد بيت المقدس فقال: إني أريد أن أرافقك، فقال له إبراهيم: على أن أكون أملك لشيئك منك: قال: لا، قال: أعجبني صدقك، قال: فكان إبراهيم بن أدهم رحمه الله إذا رافقه رجل لم يخالفه وكان لا يصحب إلا من يوافقه، وصحبه رجل شراك فأهدى رجل إلى إبراهيم في بعض المنازل قصعة من ثريد ففتح جراب رفيقه وأخذ حزمة من شراك وجعلها في القصعة وردها إلى صاحب الهدية، فلما جاء رفيقه قال: أين الشراك? قال: ذلك الثريد الذي أكلته إيش كان? قال: كنت تعطيه شراكين أو ثلاثة. قال: اسمح يسمح لك. وأعطى مرة حماراً كان لرفيقه بغير إذنه رجلاً رآه فلما جاء رفيقه سكت ولم يكره ذلك. قال ابن عمر رضي الله عنهما أهدي لرجل من أصحاب رسول الله ﷺ رأس شاة، فقال: أخي فلان أحوج مني إليه فبعث به إليه فبعث ذلك الإنسان إلى آخر فلم يزل يبعث به من واحد إلى آخر حتى رجع إلى الأول بعد أن تداوله سبعة. وروي أن مسروقاً أدان ديناً ثقيلاً وكان على أخيه خثيمة دين قال: فذهب مسروق فقضى دين خثيمة وهو لا يعلم وذهب خثيمة فقضى دين مسروق وهو لا يعلم، ولما آخى رسول الله ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع آثره بالمال والنفس فقال عبد الرحمن: بارك الله لك فيهما فآثره بما آثره به، وكأنه قبله ثم آثره به وذلك مساواة والبداية إيثار والإيثار أفضل من المساواة. وقال أبو سليمان الداراني: لو أن الدنيا كلها لي لجعلتها في فم أخ من إخواني لاستقللتها له. وقال أيضاً: إني لألقم اللقمة أخاً من إخواني فأجد طعمها في حلقي.
    ولما كان الإنفاق على الإخوان أفضل من الصدقات على الفقراء قال علي رضي الله تعالى عنه: لعشرون درهماً أعطيها أخي في الله أحب إلي من أن أتصدق بمائة درهم على المساكين. وقال أيضاً: لأن أصنع صاعاً من طعام وأجمع عليه إخواني في الله أحب إلي من أن أعتق رقبة. واقتداء الكل في الإيثار برسول الله ﷺ فإنه دخل غيضة مع بعض أصحابه فاجتنى منها سواكين أحدهما معوج والآخر مستقيم فدفع المستقيم إلى صاحبه، فقال له: يا رسول الله كنت والله أحق بالمستقيم مني فقال: "ما من صاحب يصحب صاحباً ولو ساعة من النهار إلا سئل عن صحبته هل أقام فيها حق الله أم أضاعه". فأشار بهذا إلى أن الإيثار هو القيام بحق الله في الصحبة. وخرج رسول الله ﷺ إلى بئر يغتسل عندها فأمسك حذيفة بن اليمان الثوب وقام يستر رسول الله ﷺ حتى اغتسل ثم جلس حذيفة ليغتسل، فتناول رسول الله ﷺ الثوب وقام يستر حذيفة عن الناس فأبى حذيفة وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله لا تفعل فأبى عليه السلام إلا أن يستره بالثوب حتى اغتسل وقال ﷺ: "ما اصطحب اثنان قط إلا كان أحنهما إلى الله أرفقهما بصاحبه"، وروي أن مالك بن دينار ومحمد بن واسع دخلا منزل الحسن وكان غائباً فأخرج محمد بن واسع سلة فيها طعام من تحت سرير الحسن فجعل يأكل فقال له مالك: كف يدك حتى يجيء صاحب البيت، فلم يلتفت محمد إلى قوله وأقبل على الأكل، وكان مالك أبسط منه وأحسن خلقاً فدخل الحسن وقال: يا مويلك هكذا كنا لا يحتشم بعضنا بعضاً حتى ظهرت أنت وأصحابك. وأشار بهذا إلى أن الانبساط في بيوت الإخوان من الصفاء في الأخوة كيف وقد قال الله تعالى: "أو صديقكم" وقال: "أو ما ملكتم مفاتحه" إذ كان الأخ يدفع مفاتيح بيته إلى أخيه ويفوض له التصرف كما يريد، وكان أخوه يتحرج عن الأكل بحكم التقوى حتى أنزل الله تعالى هذه الآية وأذن لهم في الانبساط في طعام الإخوان والأصدقاء.
    الحق الثاني
    في الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات والقيام بها
    قبل السؤال وتقديمها على الحاجات الخاصة
    وهذه أيضاً لها درجات كما للمواساة بالمال فأدناها القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة ولكن مع البشاشة والاستبشار وإظهار الفرح وقبول المنة. وقال بعضهم: إذا استقيت أخاك حاجة فلم يقضها فذكره ثانية فلعله أن يكون قد نسي فإن لم يقضها فكر عليه واقرأ هذه الآية: "والموتى يبعثهم" وقضى ابن شبرمة حاجة لبعض لإخوانه كبيرة فجاء بهدية، فقال: ما هذا? قال: لما أسديته غلي، فقال: خذ مالك عافاك الله، إذا سألت أخاك حاجة فلم يجهد نفسه في قضائها فتوضأ للصلاة وكبر عليه أربع تكبيرات وعده في الموتى. قال جعفر بن محمد: إني لأتسارع إلى قضاء حوائج أعدائي مخافة أن أردهم فيستغنوا عني: هذا في الأعداء فكيف في الأصدقاء? وكان في السلف من يتفقد عيال أخيه وأولاده بعد موته أربعين سنة يقوم بحاجتهم ويتردد كل يوم إليهم ويمونهم من ماله فكانوا لا يفتقدون من أبيهم إلا عينه بل كانوا يرون منه ما لم يروا من أبيهم في حياته، وكان الواحد منهم يتردد إلى باب دار أخيه ويسأل ويقول: هل لكم زيت، هل لكم ملح، هل لكم حاجة? وكان يقوم بها من حيث لا يعرفه أخوه. وبهذا تظهر الشفعة والأخوة فإذا لم تثمر الشفقة حتى يشفق على أخيه كما يشفق على نفسه فلا خير فيها. قال ميمون بن مهران: من لم تنفع بصداقته لم تضرك عداوته. وقال ﷺ: "ألا وإن لله أواني في أرضه وهي القلوب فأحب الأواني إلى الله تعالى أصفاها وأصلبها وأرقها، أصفاها من الذنوب وأصلبها في الدين وأرقها على الإخوان"وبالجملة، فينبغي أن تكون حاجة أخيك مثل حاجتك أو أهم من حاجتك، وأن تكون متفقداً لأوقات الحاجة غير غافل عن أحواله كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال وإظهار الحاجة إلى الاستعانة، بل تقوم بحاجته كأنك لا تدري أنك قمت بها، ولا ترى لنفسك حقاً بسبب قيامك بها، بل تتقلد منة بقبوله سعيك على الأقارب والولد. كان الحسن يقول: إخواننا أحب إلينا من أهلنا وأولادنا، لأن أهلنا يذكروننا بالدنيا بالآخرة. وقال الحسن: من شيع أخاه في الله بعث الله ملائكة من تحت عرشه يوم القيامة يشيعونه إلى الجنة. وفي الأثر: "ما زار رجل أخاً في الله شوقاً إلى لقائه إلا ناداه ملك من خلفه طبت وطابت لك الجنة". وقال عطاء: تفقدوا إخوانكم بعد ثلاث فإن كانوا مرضى فعودوهم أو مشاغيل فأعينوهم أو كانوا نسوا فذكروهم. وروي: "أن ابن عمر كان يلتفت يميناً وشمالاً بين يدي رسول الله ﷺ فسأله عن ذلك فقال: أحببت رجلاً فأنا أطلبه ولا أراه فقال: إذا أحببت أحداً فسله عن اسمه واسم أبيه وعن منزله فإن كان مريضاً عدته وإن كان مشغولاً أعنته". وفي رواية: وعن اسم جده وعشيرته. وقال الشعبي في الرجل يجالس الرجل فيقول أعرف وجهه ولا أعرف اسمه: تلك معرفة النوكي. وقيل لابن عباس: من أحب الناس إليك? قال: جليسي، وقال: ما اختلف رجل إلى مجلسي ثلاثاً من غير حاجة له إلي فعلمت ما مكافأته من الدنيا. وقال سعيد بن العاص: لجليسي علي ثلاث: إذا دنا رحبت به، وإذا حدث أقبلت عليه، وإذا جلس أوسعت له. وقد قال تعالى: "رحماء بينهم" إشارة إلى الشفقة والإكرام. ومن تمام الشفقة أن لا ينفرد بطعام لذيذ أو بحضور في مسرة دونه بل يتنغص لفراقه ويستوحش بانفراده عن أخيه.
    الحق الثالث
    في اللسان بالسكوت مرة وبالنطق أخرى
    أما السكوت، فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في غيبته وحضرته، بل يتجاهل عنه ويسكت عن الرد عليه فيما يتكلم به ولا يماريه ولا يناقشه وأن يسكت عن التجسس والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طريق أو حاجة لم يفاتحه بذكر غرضه من مصدره ومورده ولا يسأله عنه فربما يثقل عليه ذكره أو يحتاج إلى أن يكذب فيه، وليسكت عن أسراره التي بثها إليه ولا يبثها إلى غيره البتة ولا إلى أخص أصدقائه ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة والوحشة، فإن ذلك من لؤم الطبع وخبث الباطن، وأن يسكت عن القدح في أحبابه وأهله وولده، وأن يسكت عن حكاية قدح غيره فيه، فإن الذي سبك من بلغك. وقال أنس: "كان ﷺ لا يواجه أحداً بشيء يكرهه"، والتأذي يحصل أولاً من المبلغ ثم من القائل، نعم لا ينبغي أن يخفي ما يسمع من الثناء عليه فإن السرور به أولاً يحصل من المبلغ للمدح ثم من القائل، وإخفاء ذلك من الحسد. وبالجملة، فليسكت عن كل كلام يكرهه جملة وتفصيلاً إلا إذا وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت فإذا ذاك لا يبالي بكراهته فإن ذلك إحسان إليه في التحقيق وإن كان يظن أنها إساءة في الظاهر.
    أما ذكر مساوئه وعيوبه ومساوئ أهله فهو من الغيبة وذلك حرام في حق كل مسلم ويزجرك عنه أمران: أحدهما: أن تطالع أحوال نفسك فإن وجدت فيها شيئاً واحداً مذموماً فهون على نفسك ما تراه من أخيك وقدر أنه عاجز عن قهر نفسه في تلك الخصلة الواحدة كما أنك عاجز عما أنت مبتلى به ولا تستثقله يخصلة واحدة مذمومة فأي الرجال المهذب? وكل ما لا تصادفه من نفسك في حق الله فلا تنتظره من أخيك في حق نفسك فليس حقك عليه بأكثر من حق الله عليك.
    والأمر الثاني: أنك تعلم أنك لو طلبت منزهاً عن كل عيب اعتزلت عن الخلق كافة ولن تجد من تصاحبه أصلاً فما من أحد من الناس إلا وله محاسن ومساوئ فإذا غلبت المحاسن المساوئ فهو الغاية والمنتهى، فالمؤمن الكريم أبداً يحضر في نفسه محاسن أخيه لينبعث من قلبه التوقير والود والاحترام، وأما المنافق اللئيم فإنه أبداً يلاحظ المساوئ والعيوب. قال ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات. وقال الفضيل: الفتوة العفو عن زلات الإخوان ولذلك قال عليه السلام: "استعيذوا بالله من جار السوء الذي إن رأى خيراً ستره وإن رأى شراً أظهره"، وما من شخص إلا ويمكن تحسين حاله بخصال فيه ويمكن تقبيحه أيضاً. روي أن رجلاً أثنى على رجل عند رسول الله ﷺ فلما كان من الغد ذمه فقال عليه السلام: "أنت بالأمس تثني عليه واليوم تذمه?" فقال: والله لقد صدقت عليه بالأمس وما كذبت عليه اليوم إنه أرضاني بالأمس فقلت أحسن ما عملت فيه وأغضبني اليوم فقلت أقبح ما عملت فيه فقال عليه السلام: "إن من البيان لسحراً"، وكأنه كره ذلك فشبهه بالسحر، ولذلك قال في خبر آخر: "البذاء والبيان شعبتان من النفاق"، وفي الحديث الآخر: "إن الله يكره لكم البيان كل البيان" وكذلك قال الشافعي رحمه الله: ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه. فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل وإذا جعل مثل هذا عدلاً في حق الله فبأن تراه عدلاً في حق نفسك ومقتضى أخوتك أولى. وكما يجب عليك السكوت بلسانك عن مساوئه يجب عليك السكوت بقلبك وذلك بترك إساءة الظن فسوء الظن غيبة بالقلب وهو منهي عنه أيضاً، وحده أن لا تحمل فعله على وجه فاسد ما أمكن أن تحمله على وجه حسن. فأما ما انكشف بيقين ومشاهدة فلا يمكنك أن لا تعلمه وعليك أن تحمل ما تشاهد على سهو ونسيان إن أمكن، وهذا الظن ينقسم إلى ما يسمى تفرساً وهو الذي يستند إلى علامة فإن ذلك يحرك الظن تحريكاً ضرورياً لا يقدر على دفعه، وإلى ما من منشؤه سوء اعتقادك فيه حتى يصدر منه فعل له وجهان، فيحملك سوء الاعتقاد فيه على أن تنزله على الوجه الأردإ من غير علامة تخصه به، وذلك جناية عليه بالباطن وذلك حرام في حق كل مؤمن. إذ قال ﷺ: "ن الله قد حرم على المؤمن من المؤمن دمه وماله وعرضه وأن يظن به ظن السوء"، وقال ﷺ: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث"، وسوء الظن يدعو إلى التجسس والتحسس، وقد قال ﷺ: "لا تحسسوا ولا تجسسوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخواناً"، والتجسس في تطلع الأخبار والتحسس بالمراقبة بالعين. فستر العيوب والتجاهل والتغافل عنها شيمة أهل الدين. ويكفيك تنبيهاً على كمال الرتبة في ستر القبيح وإظهار الجميل أن الله تعالى وصف به في الدعاء فقيل: يا من أظهر الجميل وستر القبيح. والمرضي عند الله من تخلق بأخلاقه فإنه ستار العيوب وغفار الذنوب ومتجاوز عن العبيد، فكيف لا تتجاوز أنت عمن هو مثلك أو فوقك وما هو بكل حال عبدك ولا مخلوقك? وقد قال عيسى عليه السلام للحواريين: كيف تصنعون إذا رأيتم أخاكم نائماً وقد كشف الريح ثوبه عنه? قالوا: نستره ونغطيه، قال: بل تكشفون عورته، قالوا: سبحان الله من يفعل هذا? فقال: أحدكم يسمع بالكلمة في أخيه فيزيد عليها ويشيعها بأعظم منها. واعلم أنه لا يتم إيمان المرء ما لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه. وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به ولا شك أنه ينتظر منه ستر العورة والسكوت على المساوئ والعيوب، ولو ظهر له منه نقيض ما ينتظره اشتد عليه غيظه وغضبه فما أبعده إذا كان ينتظر منه ما لا يضمره له ولا يعزم عليه لأجله، وويل له في نص كتاب الله تعالى حيث قال: "ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون" وكل من يلتمس من الإنصاف أكثر مما تسمح به نفسه فهو داخل تحت مقتضى هذه الآية. ومنشأ التقصير في ستر العورة أو السعي في كشفها الداء الدفين في الباطن وهو الحقد والحسد، فإن الحقود الحسود يملأ باطنه بالخبث ولكن يحبسه في باطنه ويخفيه ولا يبديه مهما لم يجد له مجالاً وإذا مجد فرصة انحلت الرابطة وارتفع الحياء ويترشح الباطن بخبثه الدفين. ومهما انطوى الباطن على حقد وحسد فالانقطاع أولى، قال بعض الحكماء: ظاهر العتاب خير من مكنون الحقد، ولا يزيد لطف الحقود إلا وحشة منه، ومن في قلبه سخيمة على مسلم فإيمانه ضعيف وأمره مخطر وقلبه خبيث لا يصلح للقاء الله.
    وقد زوى عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه أنه قال: كنت باليمن ولي جار يهودي يخبرني عن التوراة فقدم علي اليهودي من سفر فقلت إن الله قد بعث فينا نبياً فدعانا إلى الإسلام فأسلمنا وقد أنزل علينا كتاباً مصدقاً للتوراة، فقال اليهودي: صدقت ولكنكم لا تستطيعون أن تقوموا بما جاءكم به، إنا نجد نعته ونعت أمته في التوراة: إنه لا يحل لامرئ أن يخرج من عتبة بابه وفي قلبه سخيمة على أخيه المسلم. ومن ذلك أن يسكت عن إفشاء سره الذي استودعه، وله أن ينكره وإن كان كاذباً فليس الصدق واجباً في كل مقام، فإنه كما يجوز للرجل أن يخفي عيوب نفسه وأسراره وإن احتاج إلى الكذب فله أن يفعل ذلك في حق أخيه، فإن أخاه نازل منزلته وهما كشخص واحد لا يختلفان إلا بالبدن، هذه حقيقة الأخوة وكذلك لا يكون بالعمل بين يدي مرائياً وخارجاً عن أعمال السر إلى أعمال العلانية فإن معرفة أخيه بعمله كمعرفته بنفسه من غير فرق، وقد قال عليه السلام: "من ستر عورة أخيه ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة"، وفي خبر آخر: "فكأنما أحيا موءودة"، وقال عليه السلام: "إذا حدث الرجل بحديث ثم التفت فهو أمانة"، وقال: "المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: مجلس يسفك فيه دم حرام، ومجلس يستحل فيه فرج حرام، ومجلس يستحل فيه مال من غير حله"، وقال ﷺ: "إنما يتجالس المتجالسان بالأمانة ولا يحل لأحدهما أن يفشي على صاحبه ما يكره" .
    قيل لبعض الأدباء: كيف حفظك للسر? قال: أنا أقبره. وقد قيل: صدور الأحرار قبور الأسرار. وقيل: إن قلب الأحمق في فيه ولسان العاقل في قلبه، أي لا يستطيع الأحمق إخفاء ما في نفسه فيبديه من حيث لا يدري به. فمن هذا يجب مقاطعة الحمقى والتوقي عن صحبتهم بل عن مشاهدتهم. وقد قيل لآخر: كيف تحفظ السر? قال: أجحد المخبر وأحلف للمستخبر. وقال آخر: استره وأستر أني أستره وعبر عنه ابن المعتز فقال:
    ومستودعي سراً تبوأت كتمه
    فأودعته صدري فصار له قبرا
    وقال آخر وأراد الزيادة عليه:
    وما السر في صدري كثاو بقبره
    لأني أرى المقبور ينتظر النشرا
    ولكنني أنساه حتى كأنني
    بما كان منه لم أحط ساعة خبرا
    ولو جاز كتم السر بيني وبينه
    عن السر والأحشاء لم تعلم السرا
    وأفشى بعضهم سراً له إلى أخيه ثم قال له: حفظت? فقال: بل نسيت. وكان أبو سعيد الثوري يقول: إذا أردت أن تؤاخي رجلاً فأغضبه ثم دس عليه من يسأله عنك وعن أسرارك، فإن قال خيراً وكتم سرك فاصحبه. وقيل لأبي يزيد: من تصحب من الناس? قال: من يعلم منك ما يعلم الله ثم يستر عليك كما يستره الله. وقال ذو النون: لا خير في صحبة من لا يحب أن يراك إلا معصوماً ومن أفشى السر عند الغضب فهو اللئيم لأن إخفاءه عند الرضا تقتضيه الطباع السليمة كلها. وقد قال بعض الحكماء: لا تصحب من يتغير عليك عند أربع: عند غضبه ورضاه، وعند طمعه وهواه. بل ينبغي أن يكون صدق الأخوة ثابتاً على اختلاف هذه الأحوال ولذلك قيل:
    وترى الكريم إذا تصرم وصله
    يخفي القبيح ويظهر الإحسانا
    وترى اللئيم إذا تقضى وصله
    يخفي الجميل ويظهر البهتانا
    وقال العباس لابنه عبد الله: إني أرى هذا الرجل. يعني عمر رضي الله عنه. يقدمك على الأشياخ فاحفظ عني خمساً: لا تفشين له سراً، ولا تغتابن عنده أحداً، ولا تجرين عليه كذباً، ولا تعصين له أمراً، ولا يطلعن منك على خيانة، فقال الشعبي: كل كلمة من هذه الخمس خير من ألف. ومن ذلك السكوت عن المماراة والمدافعة في كل ما يتكلم به أخوك. قال ابن عباس: لا تمار سفيهاً فيؤذيك ولا حليماً فيقليك. وقد قال ﷺ: "من ترك المراء وهو مبطل بني له بيت في ربض الجنة، ومن ترك المراء وهو محق بني له بيت في أعلى الجنة" هذا مع أن تركه مبطلاً واجب، وقد جعل ثواب النفل أعظم لأن السكوت عن الحق أشد على النفس من السكوت على الباطل، وإنما الأجر على قدر النصب. وأشد الأسباب لإثارة نار الحقد بين الإخوان المماراة والمنافسة فإنها عين التدابر والتقاطع، فإن التقاطع يقع أولاً بالآراء ثم بالأقوال ثم بالأبدان. وقال عليه السلام: "لا تدابروا ولا تباغضوا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحرمه ولا يخذله بحسب المرء من الشر أن يحقر أخاه المسلم"، وأشد الاحتقار المماراة فإن من رد على غيره كلامه فقد نسبه إلى الجهل والحمق أو إلى الغفلة والسهو عن فهم الشيء على ما هو عليه، وكل ذلك استحقار وإيغار للصدر وإيحاش. وفي حديث أبي أمامة الباهلي قال: خرج علينا رسول الله ﷺ ونحن نتمارى فغضب وقال: "ذروا المراء لقلة خيره وذروا المراء فإن نفعه قليل وإنه يهيج العداوة بين الإخوان"، وقال بعض السلف: من لاحى الإخوان وماراهم قلت مروءته وذهبت كرامته. وقال عبد الله بن الحسن: إياك ومماراة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم أو مفاجأة لئيم. وقال بعض السلف: أعجز الناس من قصر في طلب الإخوان وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم، وكثرة المماراة توجب التضييع والقطيعة وتورث العداوة. وقد قال الحسن: لا تشتر عداوة رجل بمودة ألف رجل. وعلى الجملة؛ فلا باعث على المماراة إلا إظهار التمييز بمزيد العقل والفضل واحتقار المردود عليه بإظهار جهله، وهذا يشتمل على التكبر والاحتقار والإيذاء والشتم بالحمق والجهل، ولا معنى للمعاداة إلا هذا فكيف تضامنه الأخوة والمصافاة? فقد روى ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال: "لا تمار أخاك ولا تمازحه ولا تعده موعداً فتخلفه"، وقد قال عليه السلام: "إنكم لا تسعون الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط وجه وحسن خلق"،والمماراة مضادة لحسن الخلق. وقد انتهى السلف في الحذر عن المماراة والحض على المساعدة إلى حد لم يروا السؤال أصلاً. وقالوا: إذا قلت لأخيك قم فقال إلى أين? فلا تصحبه بل قالوا ينبغي أن يقوم ولا يسأل. وقال أبو سليمان الداراني: كان لي أخ بالعراق فكنت أجيئه في النوائب فأقول: أعطني من مالك شيئاً، فكان يلقي إلي كيسه فآخذ منه ما أريد، فجئته ذات يوم فقلت: أحتاج إلى شيء. فقال: كم تريد? فخرجت حلاوة إخائه من قلبي. وقال آخر: إذا طلبت من أخيك مالاً فقال: ماذا تصنع به? فقد ترك حق الإخاء. واعلم أن قوام الأخوة بالموافقة في الكلام والفعل والشفقة. قال أبو عثمان الحيري: موافقة الإخوان خير من الشفقة عليهم، وهو كما قال.
    الحق الرابع
    على اللسان بالنطق
    فإن الأخوة كما تقتضي السكوت عن المكاره تقتضي أيضاً النطق بالمحاب، بل هو أخص بالأخوة لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور، وإنما تراد الإخوان ليستفاد منهم لا ليتخلص عن أذاهم، والسكوت معناه كف الأذى فعليه أن يتودد إليه بلسانه ويتفقده في أحواله التي يجب أن يتفقد فيها كالسؤال عن عارض إن عرض وإظهار قلبه بسببه واستبطاء العافية عنه، وكذا جملة أحواله التي يكرهها ينبغي أن يظهر بلسانه وأفعاله كراهتها، وجملة أحواله التي يسر بها ينبغي أن يظهر بلسانه مشاركته له في السرور بها. فمعنى الأخوة المساهمة في السراء والضراء، وقد قال عليه السلام:" إذا أحب أحدكم أخاه فليخبره"، وإنما أمر بالإخبار لأن ذلك يوجب زيادة حب، فإن عرف أنك تحبه أحبك بالطبع لا محالة، فإذا عرفت أنه أيضاً يحبك زاد حبك لا محالة فلا يزال الحب يتزايد من الجانبين ويتضاعف. والتحاب بين المؤمنين مطلوب في الشرع ومحبوب في الدين، ولذلك علم فيه الطريق فقال: "تهادوا تحابوا"، ومن ذلك أن تدعوه بأحب أسمائه إليه في غيابه وحضوره. قال عمر رضي الله عنه: ثلاث يصفين لك ود أخيك: أن تسلم عليه إذا لقيته أولاً، وتوسع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه. ومن ذلك أن تثني عليه بما تعرف من محاسن أحواله عند من يؤثر هو الثناء عنده فإن ذلك من أعظم الأسباب في جلب المحبة، وكذلك الثناء على أولاده وأهله وصنعته وفعله حتى على عقله وخلقه وهيئته وخطه وشعره وتصنيفه وجميع ما يفرح به وذلك من غير كذب وإفراط، ولكن تحسين ما يقبل التحسين لا بد منه وآكد من ذلك أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح فإن إخفاء ذلك محض الحسد، ومن ذلك أن تشكره على صنيعه في حقك بل على نيته وإن لم يتم ذلك.
    قال علي رضي الله عنه:من لم يحمد أخاه على حسن النية لم يحمده على حسن الصنيعة. وأعظم من ذلك تأثيراً في جلب المحبة الذب عنه في غيبته مهما قصد بسوء أو تعرض لعرضه بكلام صريح أو تعريض فحق الأخوة التشمير في الحماية والنصرة وتبكيت المتعنت وتغليظ القول عليه، والسكوت عن ذلك موغر للصدر ومنفر للقلب وتقصير في حق الأخوة. وإنما شبه رسول الله ﷺ الأخوين باليد تغسل إحداهما الأخرى لينصر أحدهما الآخر وينوب عنه وقد قال رسول الله ﷺ: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يثلمه"، وهذا من الانثلام والخذلان فإن إهماله لتمزيق عرضه كإهماله لتمزيق لحمه. فأخسس بأخ يراك والكلاب تفترسك وتمزق لحومك وهو ساكت لا تحركه الشفقة والحمية للدفع عنك! وتمزيق الأعراض أشد على النفوس من تمزيق اللحوم ولذلك شبهه الله تعالى بأكل لحوم الميتة فقال: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً" والملك الذي يمثله في المنام ما تطالعه الروح من اللوح المحفوظ بالأمثلة المحسوسة يمثل الغيبة بأكل لحوم الميتة، حتى أن من يرى أنه يأكل لحم ميتة فإنه يغتاب الناس لأن ذلك الملك في تمثيله يراعي المشاركة والمناسبة بين الشيء وبين مثاله في المعنى الذي يجري من المثال مجرى الروح؛ لا في ظاهر الصور. فإذن حماية الأخوة بدفع ذم الأعداء وتعنت المتعنتين واجب في عقد الأخوة. وقد قال مجاهد: لا تذكر أخاك في غيبته إلا كما تحب أن يذكرك في غيبتك، فإذن لك فيه معياران: أحدهما: أن تقدر أن الذي قيل فيه لو قيل فيك وكان أخوك حاضراً ما الذي كنت تحب أن يقوله أخوك فيك? فينبغي أن تعامل المعترض لعرضه به.
    والثاني: أن تقدر أنه حاضر من وراء جدار يسمع قولك ويظن أنك لا تعرف حضوره؛ فما كان يتحرك في قلبك من النصرة له بمسمع منه ومرأى? فينبغي أن يكون في مغيبه كذلك فقد قال بعضهم: ما ذكر أخ لي بغيب إلا تصورته جالساً فقلت فيه ما يحب أن يسمعه لو حضر، وقال آخر: ما ذكر أخ لي إلا تصورت نفسي في صورته فقلت فيه مثل ما أحب أن يقال في. وهذا من صدق الإسلام وهو أن لا يرى لأخيه إلا ما يراه لنفسه. وقد نظر أبو الدرداء إلى ثورين يحرثان في فدان فوقف أحدهما يحك جسمه فوقف الآخر؛ فبكى وقال: هكذا الإخوان في الله يعملان لله فإذا وقف أحدهما وافقه الآخر. وبالموافقة يتم الإخلاص ومن لم يكن مخلصاً في إخائه فهو منافق. والإخلاص استواء الغيب والشهادة واللسان والقلب والسر والعلانية والجماعة والخلوة والاختلاف، والتفاوت في شيء من ذلك مماذقة في المودة وهو دخل في الدين ووليجة في طريق المؤمنين، ومن لا يقدر من نفسه على هذا فالانقطاع والعزلة أولى به من المؤاخاة والمصاحبة، فإن حق الصحبة ثقيل لا يطيقه إلا محقق فلا جرم أجره جزيل لا يناله إلا موفق. ولذلك قال عليه السلام: "أبا هر أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً وأحسن مصاحبة صاحبك تكن مؤمناً"، فانظر كيف جعل الإيمان جزاء الصحبة والإسلام جزاء الجوار? فالفرق بين فضل الإيمان وفضل الإسلام على حد الفرق بين المشقة في القيام بحق الجوار والقيام بحق الصحبة. فإن الصحبة تقتضي حقوقاً كثيرة في أحوال متقاربة مترادفة على الدوام والجوار لا يقتضي إلا حقوقاً قريبة في أوقات متباعدة لا تدوم. ومن ذلك التعليم والنصيحة فليس حاجة أخيك إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال، فإن كنت غنياً بالعلم فعليك مؤاساته من فضلك وإرشاده إلى كل ما ينفع في الدين والدنيا، فإن علمته وأرشدته ولم يعمل بمقتضى العلم فعليك النصيحة وذلك بأن تذكر آفات ذلك الفعل وفوائد تركه وتخوفه بما يكرهه في الدنيا والآخرة لينزجر عنه وتنبهه على عيوبه وتقبح القبيح في عينه وتحسن الحسن، ولكن ينبغي أن يكون ذلك في سر لا يطلع عليه أحد فما كان على الملأ فهو توبيخ وفضيحة وما كان في السر فهو شفقة ونصيحة إذ قال ﷺ: "المؤمن مرآة المؤمن". أي يرى منه ما لا يرى من نفسه فيستفيد المرء بأخيه معرفة عيوب نفسه ولو انفرد لم يستفد كما يستفيد بالمرآة الوقوف على عيوب صورته الظاهرة. وقال الشافعي رضي الله عنه: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه. وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك? فقال: إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم وإن قر عني بين الملأ فلا. وقد صدق، فإن النصح على الملأ فضيحة والله تعالى يعاتب المؤمن يوم القيامة تحت كنفه في ظل ستره فيوقفه على ذنوبه سراً، وقد يدفع كتاب عمله مختوماً إلى الملائكة الذين يحفون به إلى الجنة، فإذا قاربوا باب الجنة أعطوه الكتاب مختوماً ليقرأه، وأما أهل المقت فينادون على رؤوس الأشهاد وتستنطق جوارحهم بفضائحهم فيزدادون بذلك خزياً وافتضاحاً ونعوذ بالله من الخزي يوم العرض الأكبر. فالفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء. لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن. قال ذو النون: لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصحة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة،ولا مع الشيطان إلا بالعداوة.
    فإن قلت: فإذا كان في النصح ذكر العيوب ففيه إيحاش للقلب فكيف يكون ذلك من حق الأخوة? فاعلم أن الإيحاش: إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه فأما تنبيهه على ما لا يعلمه فهو عين الشفقة وهو استمالة القلوب، أعني قلوب العقلاء، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها كان كمن ينبهك على حية أو عقرب تحت ذيلك وقد همت بإهلاكك، فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك! والصفات الذميمة عقارب وحيات وهي في الآخرة مهلكات فإنها تلدغ القلوب والأرواح وألمها أشد مما يلدغ الظواهر والأجساد وهي مخلوقة من نار الله الموقدة، ولذلك كان عمر رضي الله عنه يستهدي ذلك من إخوانه ويقول: رحم الله امرأً أهدى إلى أخيه عيوبه، ولذلك قال عمر لسلمان وقد قدم عليه: ما الذي بلغك عني مما تكره? فاستعفى، فألح عليه فقال: بلغني أن لك حلتين تلبس إحداهما بالنهار والأخرى بالليل، وبلغني أنك تجمع بين إدامين على مائدة واحدة، فقال عمر رضي الله عنه: أما هذان فقد كفيتهما فهل بلغك غيرهما?فقال: لا. وكتب حذيفة المرعشي إلى يوسف بن أسباط: بلغني أنك بعت دينك بحبتين: وقفت على صاحب لبن فقلت: بكم هذا? فقال: بسدس، فقلت له: لا... بثمن! فقال: هو لك، وكان يعرفك. اكشف عن رأسك قناع الغافلين وانتبه عن رقدة الموتى، واعلم أن من قرأ القرآن ولم يستغن وآثر الدنيا لم آمن أن يكون بآيات الله من المستهزئين، وقد وصف الله تعالى الكاذبين ببغضهم للناصحين إذ قال: "ولكن لا تحبون الناصحين" وهذا في عيب هو غافل عنه، فأما ما علمت أنه يعلمه من نفسه فإنما هو مقهور عليه من طبعه فلا ينبغي أن يكشف فيه ستره وإن كان يخفيه، وإن كان يظهره فلا بد من التلطف في النصح بالتعريض مرة وبالتصريح أخرى إلى حد لا يؤدي إلى الإيحاش، فإن علمت أن النصح غير مآثر فيه وأنه مضطر من طبعه إلى الإصرار عليه فالسكوت عنه أولى وهذا كله فيما يتعلق بمصالح أخيك في دينه أو دنياه، أما ما يتعلق بتقصيره في حقك فالواجب فيه الاحتمال والعفو والصفح والتعامي عنه، والتعرض لذلك ليس من النصح في شيء، نعم إن كان بحيث يؤدي استمراره عليه إلى القطيعة فالعتاب في السر خير من القطيعة، والتعريض به خير من التصريح، والمكاتبة خير من المشافهة، والاحتمال خير من الكل، إذ ينبغي أن يكون قصدك من أخيك إصلاح نفسك بمراعاتك إياه وقيامك بحقه واحتمالك تقصيره لا الاستعانة به والاسترقاق منه.
    قال أبو بكر الكتاني: صحبني رجل وكان على قلبي ثقيلاً فوهبت له يوماً شيئاً على أن يزول ما في قلبي فلم يزل؛فأخذت بيده يوماً إلى البيت وقلت له: ضع رجلك على خدي، فأبى، فقلت: لا بد، ففعل، فزال ذلك من قلبي. وقال أبو علي الرباطي: صحبت عبد الله الرازي وكان يدخل البادية فقال: على أن تكون أنت الأمير أو أنا? فقلت: بل أنت فقال: وعليك الطاعة فقلت: نعم فأخذ مخلاة ووضع فيها الزاد وحملها على ظهره فإذا قلت له أعطني. قال: ألست قلت: أنت الأمير? فعليك الطاعة فأخذنا المطر ليلة فوقف على رأسي إلى الصباح وعليه كساء وأنا جالس يمنع عني المطر فكنت أقول مع نفسي: ليتني مت ولم أقل: أنت الأمير.
    الحق الخامس
    العفو عن الزلات والهفوات
    وهفوة الصديق لا تخلو إما أن تكون في دينه بارتكاب معصية أو في حقك بتقصيره في الأخوة. أما ما يكون في الدين من ارتكاب معصية والإصرار عليها فعليك التلطف في نصحه بما يقوم أوده ويجمع شمله ويعيد إلى الصلاح والورع حاله. فإن لم تقدر وبقي مصراً فقد اختلفت طرق الصحابة والتابعين في إدامة حق مودته أو مقاطعته. فذهب أبو ذر رضي الله عنه إلى الانقطاع وقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته، ورأى ذلك من مقتضى الحب في الله والبغض في الله. وأما أبو الدرداء وجماعة من الصحابة فذهبوا إلى خلافه؛ فقال أبو الدرداء: إذا تغير أخوك وحال عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك فإن أخاك يعوج مرة ويستقيم أخرى. وقال إبراهيم النخعي: لا تقطع أخاك ولا تهجره عند الذنب بذنبه فإن يرتكبه اليوم ويتركه غداً. وقال أيضاً: لا تحدثوا الناس بزلة العالم فإن العالم يزل الزلة ثم يتركها. وفي الخبر: "اتقوا زلة العالم ولا تقطعوه وانتظروا فيئته". وفي حديث عمر وقد سأل عن أخ كان آخاه فخرج إلى الشام فسأل عنه بعض من قدم عليه وقال: ما فعل أخي? قال: ذلك أخو الشيطان قال: مه، قال: إنه قارف الكبائر حتى وقع في الخمر. قال: إذا أردت الخروج فآذني فكتب عند خروجه إليه "بسم الله الرحمن الرحيم":"حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب" الآية، ثم عاتبه تحت ذلك وعذله. فلما قرأ الكتاب بكى وقال: صدق الله ونصح لي عمر فتاب ورجع.
    وحكي أن أخوين ابتلى أحدهما بهوى فأظهر عليه أخاه وقال: إني قد اعتللت فإن شئت أن لا تعقد على صحبتي لله فافعل، فقال: ما كنت لأحل عقد أخوتك لأجل خطيئتك أبداً، ثم عقد أخوه بينه وبين الله أن لا يأكل ولا يشرب حتى يتحلل من الغم والجوع حتى زال الهوى عن قلب أخيه بعد الأربعين فأخبره بذلك فأكل وشرب بعد أن كاد يتلف هزالاً وضراً.
    وكذلك حكي عن أخوين من السلف انقلب أحدهما عن الاستقامة فقيل لأخيه: ألا تقطعه وتهجره، فقال: أحوج ما كان إلي في هذا الوقت لما وقع في عثرته أن آخذ بيده وأتلطف له في المعاتبة وأدعو له بالعود إلى ما كان عليه.
    وروي في الإسرائيليات أن أخوين عابدين كانا في جبل نزل أحدهما ليشتري من المصر لحماً بدرهم فرأى بغياً عند اللحام فرمقها وعشقها واجتذبها إلى خلوة وواقعها، ثم أقام عندها ثلاثاً واستحيا أن يرجع إلى أخيه حياء من جنايته. قال: فافتقده أخوه واهتم بشأنه فنزل إلى المدينة فلم يزل يسأل عنه حتى دل عليه فدخل إليه وهو جالس معها فاعتنقه وجعل يقبله ويلتزمه وأنكر الآخر أنه يعرفه قط لفرط استحيائه منه فقال: قم يا أخي فقد علمت شأنك وقصتك وما كنت قط أحب إلي ولا أعز من ساعتك هذه، فلما رأى أن ذلك لم يسقطه من عينه قام فانصرف معه. فهذه طريقة قوم وهي ألطف وأفقه من طريقة أبي ذر رضي الله عنه، وطريقته أحسن وأسلم.
    فإن قلت: ولم قلت هذا ألطف وأفقه ومقارف هذه المعصية لا تجوز مؤاخاته ابتداء فتجب مقاطعته انتهاء لأن الحكم إذا ثبت بعلة فالقياس أن يزول بزوالها، وعلة عقد الأخوة التعاون في الدين ولا يستمر ذلك مع مقارفة المعصية? فأقول: أما كونه ألطف فلما فيه من الفق والاستمالة والتعطف المفضي إلى الرجوع والتوبة لاستمرار الحياء عند دوام الصحبة، ومهما قوطع وانقطع طمعه عن الصحبة أصر واستمر. وأما كونه أفقه فمن حيث إن الأخوة عقد ينزل منزلة القرابة فإذا انعقدت تأكد الحق ووجب الوفاء بموجب العقد، ومن الوفاء به أن لا يمهل أيام حاجته وفقره وفقر الدين أشد من فقر المال، وقد أصابته جائحة وألمت به آفة افتقر بسببها في دينه فينبغي أن يراقب ويراعي ولا يهمل، بل لا يزال يتلطف به ليعان على الخلاص من تلك الوقعة التي ألمت به. فالأخوة عدة للنائبات وحوادث الزمان وهذا من أشد النوائب، والفاجر إذا صحب تقياً وهو ينظر إلى خوفه ومداومته فسيرجع على قرب ويستحي من الإصرار بل الكسلان يصطحب الحريص في العمل فيحرص حياء منه. قال جعفر بن سليمان: مهما فترت في العمل نظرت إلى محمد بن واسع وإقباله على الطاعة فيرجع إلي نشاطي في العبادة وفارقني الكسل وعملت عليه أسبوعاً وهذا التحقيق وهو أن الصداقة لحمة كلحمة النسب والقريب لا يجوز أن يهجر بالمعصية، ولذلك قال الله تعالى لنبيه ﷺ في عشيرته: "فإن عصوك فقل إني بريء مما تعملون" ولم يقل إني بريء منكم مراعاة لحق القرابة ولحمة النسب. وإلى هذا أشار أبو الدرداء لما قيل له: ألا تبغض أخاك وقد فعل كذا? فقال: إنما أبغض عمله وإلا فهو أخي وأخوة الدين أوكد من أخوة القرابة. ولذلك قيل لحكيم: أيما احب إليك أخوك أو صديقك? فقال: إنما أحب أخي إذا كان صديقاً لي. وكان الحسن يقول: كم من أخ لم تلده أمك? ولذلك قيل: القرابة تحتاج إلى مودة والمودة لا تحتاج إلى قرابة، وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: مودة يوم صلة ومودة شهر قرابة ومودة سنة رحم مائية من قطعها قطعه الله. فإذن الوفاء بعقد الأخوة إذا سبق انعقادها واجب. وهذا جوابنا عن ابتداء المؤاخاة مع الفاسق فإنه لم يتقدم له حق، فإن تقدمت له قرابة فلا جرم لا ينبغي أن يقاطع بل يجامل. والدليل عليه أن ترك المؤاخاة والصحبة ابتداء ليس مذموماً ولا مكروهاً بل قال قائلون: الانفراد أولى؛ فأما قطع الأخوة عن دوامها فمنهي عنه ومذموم في نفسه ونسبته إلى تركها ابتداء كنسبة الطلاق إلى ترك النكاح، والطلاق أبغض إلى الله تعالى من ترك النكاح، قال ﷺ: "شرار عباد الله المشاؤون بالنميمة المفرقون بين الأحبة"، وقال بعض السلف في ستر زلات الإخوان: ود الشيطان أن يلقى على أخيكم مثل هذا حتى تهجروه وتقطعوه، فماذا اتقيتم من محبة عدوكم. وهذا لأن التفريق بين الأحباب من محاب الشيطان كما أن مقارفة العصيان من محابه؛ فإذا حصل للشيطان أحد غرضيه فلا ينبغي أن يضاف إليه الثاني، وإلى هذا أشار عليه السلام في الذي شتم الرجل الذي أتى فاحشة إذ قال: "مه" وزبره وقال: "لا تكونوا عوناً للشيطان على أخيكم"، فبهذا كله يتبين الفرق بين الدوام والابتداء لأن مخالطة الفساق محذورة، ومفارقة الأحباب والإخوان أيضاً محذورة، وليس من سلم عن معارضة غيره كالذي لم يسلم وفي الابتداء قد سلم فرأينا أن المهاجرة والتباعد هو الأولى في الدوام تعارضاً فكان الوفاء بحق الأخوة أولى هذا كله في زلته في دينه.
    أما زلته في حقه بما يوجب إيحاشه فلا خلاف في أن الأولى العفو والاحتمال بل كل ما يحتمل تنزيله على وجه حسن ويتصور تمهيد عذر فيه قريب أو بعيد فهو واجب بحق الأخوة فقد قيل:ينبغي أن تنبسط لزلة أخيك سبعين عذراً فإن لم يقبله قلبك فرد اللوم على نفسك فتقول لقلبك:ما أقساك يعتذر إليك أخوك سبعين عذراً فلا تقبله فأنت المعيب لا أخوك فإن ظهر بحيث لم يقبل التحسين فينبغي أن لا تغضب إن قدرت ولكن ذلك لا يمكن وقد قال الشافعي رحمه الله:من استغضب فلم يغضب فهو حمار ومن استرضى فلم يرضى فهو شيطان فلا تكن حماراً ولا شيطاناً واسترض قلبك بنفسك نيابة عن أخيك واحترز أن تكون شيطاناً إن لم تقبل قال الأحنف:حق الصديق أن تحتمل منه ثلاثاً:ظلم الغضب وظلم الدالة وظلم الهفوة وقال آخر:ما شتمت أحداً قط لأنه إن شتمني كريم فأنا أحق من غفرها له أو لئيم فلا أجعل عرضي له غرضاً ثم تمثل وقال:
    وأغفر عوراء الكريم ادخاره
    وأعرض عن شتم اللئيم تكرما
    وقد قيل:
    خذ من خليلك ما صفا
    ودع الذي فيه الكدر
    فالعمر أقصر من معا
    تبة الخليل على الغير
    ومهما اعتذر إليك أخوك كاذباً كان أم صادقاً فاقبل عذره. قال عليه السلام: "من اعتذر إليه أخوه فلم يقبل عذره فعليه مثل إثم صاحب المكس"، وقال عليه السلام: "المؤمن سريع الغضب سريع الرضا"، فلم يصفه بأنه لا يغضب. وكذلك قال الله تعالى: "والكاظمين الغيظ" ولم يقل والفاقدين الغيظ، وهذا لأن العادة لا تنتهي إلى أن يجرح الإنسان فلا يتألم، بل تنتهي إلى أن يصير عليه ويحتمل، وكما أن التألم بالجرح مقتضى طبع البدن فالتألم بأسباب الغضب طبع القلب، ولا يمكن قلعه ولكن يمكن ضبطه وكظمه والعمل بخلاف مقتضاه، فإنه يقتضي التشفي والانتقام والمكافأة، وترك العمل بمقتضاه ممكن، وقد قال الشاعر: ولست بمستبق أخاً لا تـلـمـه على شعث أي الرجال المهذب
    قال أبو سليمان الداراني لأحمد بن أبي الحوراني: إذا واخيت أحداً في هذا الزمان فلا تعاتبه على ما تكرهه، فإنك لا تأمن من أن ترى في جوابك ما هو شر من الأول، فجربته فوجدته كذلك. وقال بعضهم: الصبر على الأخ خير من معاتبته، والمعاتبة خير من القطيعة. وينبغي أن لا يبالغ في البغضة عند الوقيعة. قال تعالى: "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتهم منهم مودة" وقال عليه السلام: "أحبب حبيبك هونناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما"، وقال عمر رضي الله عنه: لا يكن حبك كلفاً ولا بغضبك تلفاً، وهو أن تحب تلف صاحبك مع هلاكك.
    الحق السادس
    الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته
    الدعاء للأخ في حياته وبعد مماته بكل ما يحبه لنفسه ولأهله وكل متعلق به، فتدعو له كما تدعو لنفسك ولا تفرق بين نفسك وبينه، فإن دعاءك له دعاء لنفسك على التحقيق؛ فقد قال ﷺ: "إذا دعا الرجل لأخيه فهو في ظهر الغيب قال الملك: ولك مثل ذلك"، وفي لفظ آخر: يقول الله تعالى: "بك أبداً يا عبدي"، وفي الحديث: "يستجاب للرجل في أخيه ما لا يستجاب له في نفسه"، وفي الحديث "دعوة الرجل لأخيه في ظهر الغيب لا ترد" ، وكان أبو الدرداء يقول: إني لأدعو لسبعين من إخواني في سجودي أسيمهم بأسمائهم. وكان محمد بن يوسف الأصفهاني يقول: وأين مثل الأخ الصالح? اهلك يقتسمون ميراثك ويتنعمون بما خلقت، وهو منفرد بحزنك مهتم بما قدمت وما صرت إليه، يدعو لك في ظلمة الليل وأنت تحت أطباق الثرى، وكان الأخ الصالح يقتدي بالملائكة، إذ جاء في الخبر: "إذا مات العبد قال الناس: ما خلف? وقالت الملائكة: ما قدم?"، يفرحون له بما قدم ويسألون عنه ويشفقون عليه، ويقال: من بلغه موت أخيه فترحم عليه وأستغفر له كتب له كأنه شهد جنازته وصلى عليه. وروي عن رسول الله ﷺ أنه قال: "مثل الميت في قبره مثل الغريق يتعلق بكل شيء ينتظر دعوة من ولد أو أخ أو قريب"، وأنه ليدخل على قبور الأموات من دعاء الأحياء من الأنوار مثل الجبال. وقال بعض السلف: الدعاء للأموات بمنزلة الهدايا للأحياء، فيدخل الملك على الميت ومعه طبق من نور عليه منديل من نور فيقول: هذه هدية لك من أخيك فلان، من عند قريبك فلان، قال: فسيفرح بذلك كما يفرح الحي بالهدية
    الحق السابع
    الوفاء والإخلاص
    ومعنى الوفاء: الثبات على الحب وإدامته إلى الموت معه وبعد الموت مع أولاده وأصدقائه، فإن الحب إنما يراد للآخرة، فإن انقطع قبل الموت حبط العمل وضاع السعي، ولذلك قال عليه السلام في السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "ورجلان تحابا في الله اجتمعا على ذلك وتفرقا عليه"، وقال بعضهم: قليل الوفاء بعد الوفاة خير من كثيره في حال الحياة، ولذلك روى أنه ﷺ أكرم عجوزاً دخلت عليه، فقيل له في ذلك، فقال: "إنها كانت تأتينا أيام خديجة، وإن كرم العهد من الدين"، فمن الوفاء للأخ مراعاة جميع أصدقائه وأقاربه والمتعلقين به، ومراعاتهم أوقع في قلب الصديق من مراعاة الأخ في نفسه، فإن فرحه بتفقد من يتعلق به أكثر، إذ لا يدل على قوة الشفقة والحب إلا تعديهما من المحبوب إلى كل من يتعلق به، حتى الكلب الذي على باب داره ينبغي أن يميز في القلب عن سائر الكلاب، ومهما انقطع الوفاء بدوام المحبة شمت به الشيطان، فإنه لا يحسد متعاونين على بر كما يحسد متواخيين في الله ومتحبين فيه فإنه يجهد نفسه لإفساد ما بينهما، قال الله تعالى: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم" وقال مخبراً عن يوسف: "من بعد إن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي" ويقال: ما تواخى اثنان في الله فتفرق بينهما إلا بذنب يرتكبه أحدهما. وكان بشر يقول: إذا قصر العبد في طاعة الله سلبه الله من يؤنسه. وذلك لأن الإخوان مسلاة للهموم وعون على الدين. ولذلك قال ابن المبارك: ألذ الأشياء مجالسة الإخوان والانقلاب إلى كفاية، والمودة الدائمة هي التي تكون في الله، وما يكون لغرض يزول بزوال ذلك الغرض. ومن ثمرات المودة في الله أن لا تكون مع الحسد في دين ودنيا وكيف يحسده وكل ما هو لأخيه فإليه ترجع فائدته? وبه وصف الله تعالى المحبين في الله فقال: "ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم" ووجود الحاجة هو الحسد. ومن الوفاء أن لا يتغير حاله في التواضع مع أخيه وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه، فالترفع على الإخوان بما يتجدد من الأحوال لؤم. قال الشاعر:
    إن الكرام إذا ما أيسروا
    ذكروا من كان يألفهم في المنزل الخشن
    وأوصى بعض السلف ابنه فقال: يا بني لا يصحب من الناس إلا من إذا افتقرت إليه قرب منك، وإن استغنيت عنه لم يطمع فيك، وإن علت مرتبته لم يرتفع عليك. وقال بعض الحكماء: إذا ولي أخوك ولاية فثبت على نصف مودته لك فهو كثير. وحكى الربيع: أن الشافعي رحمه الله آخى رجلاً ببغداد ثم إن أخاه ولى السيبين فتغير له عما كان عليه، فكتب إليه الشافعي بهذه الأبيات:
    اذهب فودك من فؤادي طالق
    أبداً وليس طلاق ذات البين
    فإن ارعويت فإنها تطليقة
    ويدوم ودك لي على ثنتين
    وإن امتنعت شفعتها بمثالها
    فتكن تطليقين في حيضين
    وإذا الثلاث أتتك مني بتة
    لم تغن عنك ولاية السيبين
    واعلم أنه ليس من الوفاء موافقة الأخ فيما يخالف الحق في أمر يتعلق بالدين بل من الوفاء المخالفة، فقد كان الشافعي رضي الله عنه آخى محمد بن عبد الحكم وكان يقربه ويقبل عليه ويقول: ما يقيمني بمصر غيره؛ فاعتل محمد فعاده الشافعي رحمه الله تعالى فقال:
    مرض الحبيب فعدته
    فمرضت من حذري عليه
    وأتى الحبيب يعودني
    فبرئت من نظري إليه
    وظن الناس لصدق مودتهما أنه يفوض أمر حلقته إليه بعد وفاته، فقيل للشافعي في علته التي مات فيها رضي الله تعالى عنه: إلى من نجلس بعدك يا أبا عبد الله? فاستشرف له محمد بن عبد الحكم وهو عند رأسه ليومئ إليه؛ فقال الشافعي: سبحان الله أيشك في هذا أبو يعقوب البويطي? فانكسر لها محمد ومال أصحابه إلى البويطي مع أن محمداً كان قد حمل عنه مذهبه كله، لكن كان البويطي أفضل وأقرب إلى الزهد والورع. فنصح الشافعي لله وللمسلمين وترك المداهنة ولم يؤثر رضا الخلق على رضا الله تعالى. فلما توفي انقلب محمد بن عبد الحكم عن مذهبه ورجع إلى مذهب أبيه ودرس كتب مالك رحمه الله، وهو من كبار أصحاب مالك رحمه الله. وآثر البويطي الزهد والخمول ولم يعجبه الجمع والجلوس في الحلقة واشتغل بالعبادة وصنف "كتاب الأم" الذي ينسب الآن إلى الربيع بن سليمان ويغرف بع، وإنما صنفه البويطي ولكن لم يذكر نفسه فيه ولم ينسبه إلى نفسه، فزاد الربيع فيه وتصرف وأظهره. والمقصود أن الوفاء بالمحبة من تمامها النصح لله. قال الأحنف: الإخاء جوهرة رقيقة إن لم تحرسها كانت معرضة للآفات فاحرسها بالكظم حتى تعتذر إلى من ظلمك وبالرضا حتى لا تستكثر من نفسك الفضل ولا من أخيك التقصير. ومن آثار الصدق والإخلاص وتمام الوفاء أن تكون شديد الجزع من المفارقة، نفور الطبع عن أسبابها كما قيل:
    وجدت مصيبات الزمان جميعها
    سوى فرقة الأحباب هينة الخطب
    وأنشد ابن عيينة هذا البيت وقال: لقد عهدت أقواماً فارقتهم منذ ثلاثين سنة ما يخيل إلي أن حسرتهم ذهبت من قلبي. ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه لا سيما من يظهر أولاً أنه محب لصديقه. كيلا يتهم. ثم يلقي الكلام عرضاً وينقل عن الصديق ما يوغر القلب، فذلك من دقائق الحيل في التضريب ومن لم يحترز منه لم تدم مودته أصلاً. قال واحد لحكيم: قد جئتك خاطباً لمودتك، قال: إن جعلت مهرها ثلاثاً فعلت، قال: وما هي? قال: لا تسمع علي بلاغة ولا تخالفني في أمر ولا توطئني عشوة. ومن الوفاء أن لا يصادق عدو صديقه. قال الشافعي رحمه الله: إذا أطاع صديقك عدوك فقد اشتركا في عداوتك.
    الحق الثامن
    التخفيف وترك التكلف والتكليف
    وذلك بأن لا يكلف أخاه ما يشق عليه بل بروح سره من مهماته وحاجاته ويرفهه عن أن يحمله شيئاً من أعبائه، فلا يستمد منه من جاه ومال ولا يكلفه التواضع له والتفقد لأحواله والقيام بحقوقه، بل لا يقصد بمحبته إلا الله تعالى تبركاً بدعائه واستئناساً بلقائه به على دينه وتقرباً إلى الله تعالى بالقيام بحقوقه وتحمل مؤنته. قال بعضهم: من اقتضى من إخوانه ما لا يقضونه فقد ظلمهم، ومن اقتضى منهم مثل ما يقتضونه فقد أتعبهم، ومن لم يقتض فهو المتفضل عليهم. وقال بعض الحكماء: من جعل نفسه عند الإخوان فوق قدره أثم وأثموا، ومن جعل نفسه في قدره تعب وأتعبهم، ومن جعلها دون قدره سلم وسلموا وتمام التخفيف بطي بساط التكلف حتى لا يستحق منه فيما لا يستحي من نفسه. وقال الجنيد ما تواخى اثنان في الله فاستوحش أحدهما من صاحبه أو احتشم إلا لعلة في أحدهما. وقال علي عليه السلام: شر الأصدقاء من تكلف لك ومن أحوجك إلى مداراة وألجأك إلى اعتذار. وقال الفضيل: إنما تقاطع الناس بالتكلف يزور أحدهم أخاه فيتكلف له فيقطعه ذلك عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: المؤمن أخو المؤمن لا يغتنمه ولا يحتشمه. وقال الجنيد: صحبت أربع طبقات من هذه الطائفة. كل طبقة ثلاثون رجلاً. حارثاً المحاسبي وطبقته، وحسناً المسوحي وطبقته، وسرياً السقطي وطبقته، وابن الكريبي وطبقته، فما تواخى اثنان في الله واحتشم أحدهما من صاحبه أو استوحش إلا لعلة في أحدهما. وقيل لبعضهم: من نصحب? قال: من يرفع عنك ثقل التكلف وتسقط بينك وبينه مؤنة التحفظ. وكان جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنهما يقول: أثقل أخواني علي من يتكلف لي وأتحفظ منه، وأخفهم على قلبي من أكون معه كما أكون وحدي. وقال بعض الصوفية: لا تعاشر من الناس إلا من لا يزيده عنده ببر ولا تنقص عنده بإثم يكون ذلك لك وعليك وأنت عنده سواء، وإنما قال هذا لأن به يتخلص عن التكلف والتحفظ. وإلا فالطبع يحمله على أن يتحفظ منه إذا علم أن ذلك ينقصه عنده. وقال بعضهم: كن مع أبناء الدنيا بالأدب ومع أبناء الآخرة بالعلم ومع العارفين كيف شئت، وقال آخر: لا تصحب إلا من يتوب عنك إذا أذنبت ويعتذر عليك إذا أسأت ويحمل عنك مؤنة نفسك ويكفيك مؤنة نفسه. وقائل هذا قد ضيق طريق الأخوة على الناس وليس الأمر كذلك بل ينبغي أن يؤاخي كل متدين عاقل ويعزم على أن يقوم بهذه الشرائط ولا يكلف غيره هذه الشروط حتى تكثر إخوانه، إذ به يكون مؤاخياً في الله وإلا كانت مؤاخاته لحظوظ نفسه فقط. ولذلك قال رجل للجنيد: قد عز الإخوان في هذا الزمان أين أخ لي في الله? فأعرض الجنيد حتى أعاده ثلاثاً، فلما أكثر قال له الجنيد: إن أردت أخاً يكفيك مؤنتك ويتحمل أذاك فهذا لعمري قليل، وإن أردت أخاً في الله تحمل أنت مؤنته وتصبر على أذاه فعندي جماعة أعرفهم لك. فسكت الرجل.
    واعلم أن الناس ثلاثة: رجل تنتفع بصحبته، ورجل تقدر على أن تنفعه ولا تتضرر به ولكن لا تنتفع به. ورجل لا تقدر أيضاً على أن تنفعه وتتضرر به وهو الأحمق أو السيء الخلق فهذا الثالث ينبغي أن تتجنبه، فأما الثاني فلا تجتنبه لأنك تنتفع في الآخرة بشفاعته وبدعائه وبثوابك على القيام به، وقد أوحى الله تعالى إلى موسى عله السلام: إن أطعتني فما أكثر إخوانك أي إن واسيتهم واحتملت منهم ولم تحسدهم. وقد قال بعضهم: صحبت الناس خمسين سنة فما وقع بيني وبينهم خلاف فإني كنت معهم على نفسي ومن كانت هذه شيمته كثر إخوانه. ومن التخفيف وترك التكلف أن لا يعترض في نوافل العبادات. كان طائفة من الصوفية يصطحبون على شرط المساواة بين أربع معان: إن أكل أحدهم النهار كله لم يقل له صاحبه صم، وإن صام الدهر كله لم يقل له أفطر، وإن نام الليل كله لم يقل له قم?وإن صلى الليل كله لم يقل له: نم، وتستوي حالاته عنده بلا مزيد ولا نقصان لأن ذلك إن تفاوت حرك الطبع إلى الرياء والتحفظ لا محالة. وقد قيل: من سقطت كلفته دامت ألفته، من خفت مؤنته دامت مودته. وقال بعض الصحابة: إن الله لعن المتكلفين وقال ﷺ: "أنا والأتقياء من أمتي براء من التكلف"، وقال بعضهم: إذا عمل الرجل في بيت أخيه أربع خصال فقد تم أنسه به إذا أكل عنده، ودخل الخلاء، وصلى. ونام. فذكر ذلك لبعض المشايخ فقال: بقيت خامسة وهو أن يحضر مع الأهل في بيت أخيه ويجامعها، لأن البيت يتخذ للاستخفاء في الأمور الخمس،وإلا فالمساجد أروح لقلوب المتعبدين، فإذا فعل هذه الخمس فقد تم الإخاء وارتفعت الحشمة وتأكد الانبساط. وقول العرب في تسليمهم يشير إلى ذلك، إذ يقول أدهم لصاحبه: مرحباً وأهلاً وسهلاً، أي لك عندنا مرحب وهو السعة في القلب والمكان، ولك عندنا أهل تأنس بهم بلا وحشة لك منا، ولك عندنا سهولة في ذلك كله، أي لا يشتد علينا شيء مما تريد. ولا يتم التخفيف وترك التكلف إلا بأن يرى نفسه دون إخوانه ويحسن الظن بهم ويسيء الظن بنفسه فعند ذلك يكون هو خيراً منهم، وقال أبو معاوية الأسود: إخواني كلهم خير مني، قيل وكيف ذلك? قال: كلهم يرى لي الفضل عليه ومن فضلني على نفسه فهو خير مني، وقد قال ﷺ: "المرء على دين خليله ولا خير في صحبة من لا يرى لك مثل ما ترى له"، فهذه أقل الدرجات وهو النظر بعين المساواة والكمال في رؤية الفضل للأخ. ولذلك قال سفيان: إذا قيل لك يا شر الناس فغضبت فأنت شر الناس أي ينبغي أن تكون معتقداً ذلك في نفسك أبداً. وسيأتي وجه ذلك في كتاب الكبر والعجب. وقد قيل في معنى التواضع ورؤية الفضل للإخوان أبيات:
    تذلل لمن إن تذللت له
    يرى ذاك للفضل لا للبله
    وجانب صداقة من لا يزا
    ل على الأصدقاء يرى الفضل له
    وقال آخر:
    كم صديق عرفته بصديق
    صار أحظى من الصديق العتيق
    ورفيق رأيته في طريق
    صار عندي هو الصديق الحقيقي
    ومهما رأى الفضل لنفسه فقد احتقر أخاه وهذا في عموم المسلمين مذموم. قال ﷺ: "بحسب المؤمن من الشر أن يحقر أخاه المسلم"، ومن تتمة الانبساط وترك التكلف أن يشاور إخوانه في كل ما يقصده، ويقبل إشاراتهم، فقد قال تعالى: "وشاورهم في الأمر" وينبغي أم لا يخفي عنهم شيئاً من أسراره كما روي أن يعقوب ابن أخي معروف قال: جاء أسود بن سالم إلى عمي معروف وكان مؤاخياً له فقال: إن بشر بن الحارث يحب مؤاخاتك وهو يستحي أن يشافهك بذلك، وقد أرسلني إليك يسألك أن تعتقد له فيما بينك وبينه أخوة يحتسبها ويعتد بها إلا أنه يشترط فيها شروطاً: لا يحب أن يشتهر بذلك ولا يكون بينك وبينه مزاورة ولا ملاقاة فإنه يكره كثرة الالتقاء، فقال معروف: أما أنا لو آخيت أحداً لم أحب مفارقته ليلاً ولا نهاراً ولزرته في كل وقت وآثرته على نفسي في كل حال، ثم ذكر من فضل الأخوة والحب في الله أحاديث كثيرة، ثم قال فيها. وقد آخى رسول الله ﷺ علياً فشاركه في العلم وقاسمه في البدن وأنكحه أفضل بناته وأحبهن إليه وخصه بذلك لمؤاخاته وأنا أشهدك أني قد عقدت له أخوة بيني وبينه وعقدت إخاءه في الله لرسالتك ولمسألته على أن لا يزورني إن كره ذلك ولكني أزوره متى أحببت، ومره أن يلقاني في مواضع نلتقي بها، ومره أن لا يخفي علي شيئاً من شأنه وأن يطلعني على جميع أحواله، فأخبر ابن سالم بشراً بذلك فرضي وسر به. فهذا جامع حقوق الصحبة وقد أجملناه مرة وفصلناه أخرى، ولا يتم ذلك إلا بأن تكون على نفسك للإخوان ولا تكون لنفسك عليهم وأن تزل نفسك منزلة الخادم لهم فتقيد بحقوقهم جميع جوارحك.
    أما البصر؛ فبأن تنظر إليهم نظر مودة يعرفونها منك، وتنظر إلى محاسنهم وتتعامى عن عيوبهم ولا تصرف بصرك عنهم في وقت إقبالهم عليك وكلامهم معك. روي أنه ﷺ كان يعطي كل من جلس إليه نصيباً من وجهه وما استصغاه أحد إلا ظن أنه أكرم الناس عليه حتى كان مجلسه وسمعه وحديثه ولطيف مسألته وتوجهه للجالس إليه وكان مجلسه مجلس حياء وتواضع وأمانة، وكان عليه السلام أكثر الناس تبسماً وضحكاً في وجوه أصحابه وتعجباً مما يحدثونه به، وكان ضحك أصحابه عنده التبسم اقتداء منهم بفعله وتوقيراً له عليه السلام.
    وأما السمع، فبأن تسمع كلامه متلذذاً بسماعه ومصدقاً به ومظهراً للاستبشار به ولا تقطع حديثهم عليهم بمرادة ولا منازعة ومداخلة واعتراض فإن أرهقك عارض اعتذرت إليهم وتحرس سمعك عن سماع ما يكرهون.
    وأما اللسان فقد ذكرنا حقوقه فإن القول فيه يطول ومن ذلك أن لا يرفع صوته عليهم ولا يخاطبهم إلا بما يفقهون.
    وأما اليدان؛ فأن لا يقبضهما عن معاونتهم في كل ما يتعاطى باليد.
    وأما الرجلان، فأن يمشي بهما وراءهم مشي الأتباع لا مشي المتبوعين ولا يتقدمهم ما يقدمونه ولا يقرب منهم إلا بقدر ما يقربونه، ويقوم لهم إذا أقبلوا ولا يقعد إلا بقعودهم ويقعد متواضعاً حيث يقعد. ومهما تم الاتحاد خف حمله من هذه الحقوق مثل القيام والاعتذار والثناء فإنها من حقوق الصحبة، وفي ضمنها نوع من الأجنبية والتكلف، فإذا تم الاتحاد انطوى بساط التكلف بالكلية فلا يسلك به إلا مسلك نفسه لأن هذه الآداب الظاهرة عنوان آداب الباطن وصفاء القلب. ومهما صفت القلوب استغنى عن تكلف إظهار ما فيها، ومن كان نظره إلى صحبة الخلق فتارة يعوج وتارة يستقيم، ومن كان نظره إلى الخالق لزم الاستقامة ظاهراً وباطناً وزين باطنه بالحب لله ولخلقه وزين ظاهره بالعبادة لله والخدمة لعباده فإنها أعلى أنواع الخدمة لله إذ لا وصول إليها إلا بحسن الخلق، ويدرك العبد بحسن خلقه درجة القائم الصائم وزيادة.
    خاتمة لهذا الكتاب
    نذكر فيها جملة آداب العشرة والمجالسة مع أصناف الخلق ملتقطة من كلام بعض الحكماء:
    إن أردت حسن العشرة فالق صديقك وعدوك بوجه الرضا من غير ذلة لهم ولا هيبة منهم، وتوقير من غير كبر، وتواضع من غير مذلة. وكن في جميع أمورك في أوسطها فكلا طرفي قصد الأمور ذميم. ولا تنظر في عطفيك، ولا تكثر الالتفات، ولا تقف على الجماعات، وإذا جلست فلا تستوفز وتحفظ من تشبيك أصابعك والعبث بلحيتك وخاتمك وتخليل أسنانك وإدخال إصبعك في أنفك وكثرة بصاقك وتنخمك وطرد الذباب من وجهك وكثرة التمطي والتثاؤب في وجوه الناس وفي الصلاة وغيرها، وليكن مجلسك هادئاً وحديثك منظوماً مرتباً واصغ إلى الكلام الحسن ممن حدثك من غير إظهار تعجب مفرط ولا تسأله إعادته، واسكت عن المضاحك والحكايات ولا تحدث عن إعجابك بولدك ولا جاريتك ولا شعرك ولا تصنيفك وسائر ما يخصك، ولا تتصنع تصنع المرأة في التزين ولا تتبذل تبذل العبد وتوق كثرة الكحل والإسراف في الدهن، ولا تلح في الحاجات ولا تشجع أحداً على الظلم ولا تعلم أهلك وولدك فضلاً عن غيرهم مقدار مالك فإنهم إن رأوه قليلاً هنت عندهم وإن كان كثيراً لم تبلغ قط رضاهم، وخوفهم من غير عنف ولن لهم من غير ضعف ولا تهازل أمتك ولا عبدك فيسقط وقارك، وإذا خاصمت فتوقر وتحفظ من جهلك وتجنب عجلتك وتفكر في حجتك ولا تكثر الإشارة بيديك ولا تكثر الالتفات إلى من وراءك ولا تجث على ركبتيك، وإذا هدأ غيظك فتكلم وإن قربك سلطان فكن منه على مثل حد السنان فإن استرسل إليك فلا تأمن انقلابه عليك وارفق به رفقك بالصبي وكلمه بما يشتهيه ما لم يكن معصية، ولا يحملنك لطفه بك أن تدخل بينه وبين أهله وولده وحشمه وإن كنت لذلك مستحقاً عنده فإن سقطة الداخل بين الملك وبين أهله سقطة لا تنعش وزلة لا تقال، وإياك وصديق العافية فإنه أعدى الأعداء ولا تجعل مالك أكرم من عرضك، وإذا دخلت مجلساً فالأدب فيه البداية بالتسليم وترك التخطي لمن سبق والجلوس حيث اتسع وحيث يكون أقرب إلى التواضع، وأن تحيي بالسلام من قرب منك عند الجلوس.
    ولا تجلس على الطريق، فإن جلست فأدبه غض البصر ونصرة المظلوم وإغاثة الملهوف وعون الضعيف وإرشاد الضال ورد السلام وإعطاء السائل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والارتياد لموضع البصاق، ولا تبصق في جهة القبلة ولا عن يمينك ولكن عن يسارك وتحت قدمك اليسرى.
    ولا تجالس الملوك، فإن فعلت فأدبه ترك الغيبة ومجانبة الكذب وصيانة السر وقلة الحوائج وتهذيب الألفاظ والإعراب في الخطاب، والمذاكرة بأخلاق الملوك وقلة المداعبة وكثرة الحذر منهم. وإن ظهرت لك المودة وإن لا تتجشأ بحضرتهم، ولا تتخلل بعد الأكل عنده، وعلى الملك أن يحتمل كل شيء إلا إفشاء السر والقدح في الملك والتعرض للحرم.
    ولا تجالس العامة، فإن فعلت فأدبه ترك الخوض في حديثهم وقلة الإصغاء إلى أراجيفهم والتغافل عما يجري من سوء ألفاظهم وقلة اللقاء لهم مع الحاجة إليهم. وإياك أن تمازح لبيباً أو غير لبيب فإن اللبيب يحقد عليك والسفيه يجترئ عليك لأن المزاح يخرق الهيبة ويسقط ماء الوجه ويعقب الحقد ويذهب بحلاوة الود ويشين فقه الفقيه ويجرئ السفيه ويسقط المنزلة عند الحكيم ويمقته المتقون، وهو يميت القلب ويباعد عن الرب تعالى ويكسب الغفلة ويورث الذلة وبه تظلم السرائر وتموت الخواطر وبه تكثر العيوب وتبين الذنوب. وقد قيل: لا يكون المزاح إلا من سخف أو بطر. ومن بلي في مجلس بمزاح أو لغط فليذكر الله عند قيامه. قال النبي ﷺ: "من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك. إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك".
    ============
    الباب الثالث
    في حق المسلم والرحم والجوار والملك
    وكيفية المعاشرة مع من يدلي بهذه الأسباب
    اعلم أن الإنسان إما أن يكون وحده أو مع غيره، وإذا تعذر عيش الإنسان إلا بمخالطة من هو من جنسه لم يكن له بد من تعلم آداب المخالطة. وكل مخالط ففي مخالطته أدب والأدب على قدر حقه وحقه على قدر رابطته التي وقعت المخالطة. والرابطة إما القرابة وهي أخصها أو أخوة الإسلام وهي أعمها، وينطوي في معنى الأخوة الصداقة والصحبة، وإما الجوار، وإما صحبة السفر والمكتب والدرس، وإما الصداقة أو الأخوة.
    ولكل واحد من هذه الروابط درجات. فالقرابة لها حق ولكن حق الرحم المحرم آكد، وللمحرم حق ولكن حق الوالدين آكد. وكذلك حق الجار ولكن يختلف بحسب قربه من الدار وبعده، ويظهر التفاوت عند النسبة حتى أن البلدي في بلاد الغربة يجري مجرى القريب في الوطن لاختصاصه بحق الجوار في البلد. وكذلك حق المسلم يتأكد بتأكد المعرفة. وللمعارف درجات فليس حق الذي عرف بالمشاهدة كحق الذي عرف بالسماع بل آكد منه والمعرفة بعد وقوعها تتأكد بالاختلاط. وكذلك الصحبة تتفاوت درجاتها فحق الصحبة في الدرس والمكتب آكد من حق صحبة السفر. وكذلك الصداقة تتفاوت فإنها إذا قويت صارت أخوة فإن ازدادت صارت محبة فإن ازدادت صارت خلة، والخليل أقرب من الحبيب؛ فالمحبة، ما تتمكن من حبة القلب والخلة ما تتخلل سر القلب؛ فكل خليل حبيب وليس كل حبيب خليلاً، وتفاوت درجات الصداقة لا يخفى بحكم المشاهدة والتجربة، فأما كون الخلة فوق الأخوة فمعناه أن لفظ الخلة عبارة عن حالة هي أتم من الأخوة وتعرفه من قوله ﷺ: "لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله"، إذ الخليل هو الذي يتخلل الحب جميع أجزاء قلبه ظاهراً وباطناً ويستوعبه ولم يستوعب قلبه عليه السلام سوى حب الله، وقد منعه الخلة عن الاشتراك فيه مع أنه اتخذ علياً رضي الله عنه أخاً فقال: "علي مني بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة"، فعدل بعلي عن النبوة كما عدل بأبي بكر عن الخلة، فشارك أبو بكر علياً رضي الله عنهما في الأخوة وزاد عليه بمقاربة الخلة وأهليته لها لو كان للشركة في الخلة مجال، فإنه نبه عليه بقوله: "لاتخذت أبا بكر خليلاً"، وكان ﷺ حبيب الله وخليله، وقد روي أنه صعد المنبر يوماً مستبشراً فرحاً فقال: "إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً، فأنا حبيب الله وأنا خليل الله تعالى"، فإذن ليس قبل المعرفة رابطة ولا بعد الخلة درجة، وما سواهما من الدرجات بينهما، وقد ذكرنا حق الصحبة والأخوة ويدخل فيهما ما وراءهما من المحبة والخلة، وإنما تتفاوت الرتب في تلك الحقوق كما سبق بحسب تفاوت المحبة والأخوة، حتى ينتهي أقصاها إلى أن يوجب الإيثار بالنفس والمال، كما آثر أبو بكر رضي الله عنه نبينا ﷺ، وكما آثره طلحة ببدنه إذ جعل نفسه وقاية لشخصه العزيز ﷺ، فنحن الآن نريد أن نذكر حق أخوة الإسلام وحق الرحم وحق الوالدين، وحق الجوار، وحق الملك. أعني ملك اليمين. فإن النكاح قد ذكرنا حقوقه في كتاب آداب النكاح.
    حقوق المسلم
    هي: أن تسلم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبر قسمه إذا أقسم عليك، وتنصح له إذا استنصحك، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب عنك، وتحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك ورد جميع ذلك في أخبار وآثار. وقد روي أنس رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ أنه قال: "أربع من حق المسلمين عليك: أن تعين محسنهم، وأن تستغفر لمذنبهم، وأن تدعو لمدبرهم، وأن تحب تائبهم"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما في معنى قوله تعالى: "رحماء بينهم" قال:يدعو صالحهم لطالحهم وطالحهم لصالحهم، فإذا نظر الطالح إلى الصالح من أمة محمد ﷺ قال: اللهم بارك له فيما قسمت له من الخير وثبته عليه وانفعنا به، وإذا نظر الصالح إلى الطالح قال: اللهم اهده واغفر له عثرته.
    ومنها أن يحب للمؤمنين ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لنفسه قال النعمان بن البشير: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "مثل المؤمنين في توادهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضو منه تداعى سائره بالحمى والسهر"، وروى أبو موسى عنه ﷺ قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً".
    ومنها أن لا يؤذي أحداً من المسلمين بفعل ولا قول، قال ﷺ: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقال صلى الله عله وسلم في حديث طويل يأمر فيه بالفضائل: "فإن لم تقدر فدع الناس من الشر فإنها صدقة تصدقت بها على نفسك"، وقال أيضاً: "أفضل المسلمين من سلم المسلمون من لسانه ويده"، وقال ﷺ: "أتدرون من المسلم?" فقالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"، قالوا: فمن المؤمن? قال: "من أمنه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم"، قالوا: فمن المهاجر? قال: "من هجر السوء واجتنبه"، وقال رجل: يا رسول الله: ما الإسلام? قال: "أن يسلم قلبك لله ويسلم المسلمون من لسانك ويدك" وقال مجاهد: يسلط على أهل النار الجرب فيحتكون حتى يبدو عظم أحدهم من جلده، فينادي: يا فلان: هل يؤذيك هذا? فيقول: نعم، فيقول: هذا بما كنت تؤذي المؤمنين. وقال ﷺ: "لقد رأيت رجلاً يتقلب في الجنة في شجرة قطعها عن ظهر الطريق كانت تؤذي المسلمين"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: يا رسول الله، علمني شيئاً أنتفع به. قال: "اعزل الأذى عن طريق المسلمين" وقال ﷺ: "من زحزح عن طريق المسلمين شيئاً يؤذيهم كتب الله له به حسنة، ومن كتب الله له حسنة أوجب له بها الجنة"، وقال ﷺ: "لا يحل لمسلم أن يشير إلى أخيه بنظرة تؤذيه"، وقال: "لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً"، وقال ﷺ: "إن الله يكره أذى المؤمنين"، وقال الربيع بن خيثم: الناس رجلان، مؤمن فلا تؤذه، وجاهل فلا تجاهله.
    ومنهما أن يتواضع لكل مسلم ولا يتكبر عليه، فإن الله لا يحب كل مختال فخور. قال رسول الله ﷺ: "إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد"، ثم إن تفاخر عليه غيره فليحتمل، قال الله تعالى لنبيه ﷺ: "خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين" وعن ابن أبي أوفى: "كان رسول الله ﷺ يتواضع لكل مسلم ولا يأنف ولا يتكبر أن يمشي مع الأرملة والمسكين فيقضي حاجته".
    ومنها: أن لا يسمع بلاغات الناس بعضهم على بعض ولا يبلغ بعضهم ما يسمع من بعض، قال ﷺ: "لا يدخل الجنة قتات"،وقال الخليل بن أحمد: من نم لك نم عليك ومن أخبرك بخبر غيرك أخبر غيرك بخبرك.
    ومنها أن لا يزيد في الهجر لمن يعرفه على ثلاثة أيام مهما غضب عليه. قال أبو أيوب الأنصاري: قال ﷺ: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا وخيرهما الذي يبدأ بالسلام"، وقد قال ﷺ: "من أقال مسلماً عثرته أقاله الله يوم القيامة"، قال عكرمة: قال الله تعالى ليوسف بن يعقوب: بعفوك عن إخواتك رفعت ذكرك في الدارين. قالت عائشة رضي الله عنها: "ما انتقم رسول الله ﷺ لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله"، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما عفا رجل عن مظلمة إلا زاده الله بها عزاً. وقال ﷺ: "ما نقص مال من صدقة وما زاد الله رجلاً بعفو إلا عزاً وما من أحد تواضع لله إلا رفعه الله".
    ومنهما: أن يحسن إلى كل من قدر عليه منهم ما استطاع لا يميز بين الأهل وغير الأهل. وروى علي بن الحسين عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله ﷺ: "اصنع المعروف في أهله وفي غير أهله فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت أهله"، وعنه بإسناده قال: قال رسول الله ﷺ : "رأس العقل بعد الدين التودد إلى الناس واصطناع المعروف إلى كل بر وفاجر"، وفال أبو هريرة: "كان رسول الله ﷺ لا يأخذ أحد بيده فينزع يده حتى يكون الرجل هو الذي يرسلها ولم تكن ركبته خارجة عن ركبة جليسه ولم يكن أحد يكلمه إلا أقبل عليه بوجهه ثم لم يصرفه عنه حتى يفرغ من كلامه" ومنها: أن لا يدخل على أحد منهم إلا بإذنه بل يستأذن ثلاثاً فإن لم يؤذن له انصرف. قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "الاستئذان ثلاث، فالأولى: يستنصتون، والثانية: يستصلحون، والثالثة: يأذنون أو يردون".
    ومنها: أن يخالق الجميع بخلق حسن ويعاملهم بحسب طريقته فإنه إن أراد لقاء الجاهل بالعلم والأمي بالفقه والعي بالبيان آذى وتأذى.
    ومنها: أن يوقر المشايخ ويرحم الصبيان. قال جابر رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "ليس منا من لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا"، وقال ﷺ: "من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم"، ومن تمام توقير المشايخ أن لا يتكلم بين أيديهم إلا بالإذن، وقال جابر: قدم وفد جهينة على النبي ﷺ فقام غلام ليتكلم، فقال ﷺ: "مه فأين الكبير?"، وفي الخبر: "ما وقر شاب شيخاً إلا قيض الله له في سنه من يوقره"، وهذه بشارة بدوام الحياة فليتنبه لها فلا يوفق لتوقير المشايخ إلا من قضى الله له بطول العمر، وقال ﷺ: "لا تقوم الساعة حتى يكون المطر غيظاً والمطر قيظاً وتفيض اللئام فيضاً وتغيض الكرام غيضاً ويجترئ الصغير على الكبير واللئيم على الكريم"، "والتلطف بالصبيان من عادة رسول الله ﷺ". "كان ﷺ يقدم من السفر فيتلقاه الصبيان فيقف عليهم ثم يأمر بهم فيرفعون إليه فيرفع منهم بين يديه ومن خلفه ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم"، فربما تفاخر الصبيان بعد ذلك فيقول بعضهم لبعض: حملني رسول الله ﷺ بين يديه وحملك أنت وراءه، ويقول بعضهم: أمر أصحابه أن يحملوك وراءهم، "وكان يؤتى بالصبي الصغير ليدعو له بالبركة وليسميه فيأخذه فيضعه في حجره فربما بال الصبي فيصيح به بعض من يراه فيقول: لا تزرموا الصبي بوله فيدعه حتى يقضي بوله ثم يفرغ من دعائه له وتسميته ويبلغ سرور أهله فيه لئلا يروا أنه تأذى ببوله فإذا انصروا غسل ثوبه".
    ومنها: أن يكون مع كافة الخلق مستبشراً طلق الوجه رفيقاً قال ﷺ:" أتدرون على من حرمت النار?" قالوا: الله ورسوله أعلم. قال:" على اللين الهين السهل القريب"، وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "إن الله يحب السهل والطلق الوجه"، وقال بعضهم: "يا رسول الله دلني على عمل يدخلني الجنة، فقال: إن من موجبات المغفرة بذل السلام وحسن الكلام"، وقال عبد الله بن عمر: إن البر شيء هين؛ وجه طليق وكلام لين، وقال ﷺ: "اتقوا النار ولو بشق تمرة فمن لم يجد فبكلمة طيبة"، وقال ﷺ: "إن في الجنة لغرفاً يرى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها"؛ فقال أعرابي: لمن هي يا رسول الله? قال: "لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام"، وقال معاذ بن جبل: قال لي رسول الله ﷺ: "أوصيك بتقوى الله وصدق الحديث ووفاء العهد وأداء الأمانة وترك الخيانة وحفظ الجار ورحمة اليتيم ولين الكلام وبذل السلام وخفض الجناح"،وقال أنس رضي الله عنه: "عرضت لنبي الله ﷺ امرأة وقالت: لي معك حاجة؛ وكان معه ناس من أصحابه، فقال: اجلسي في أي نواحي السكك شئت أجلس إليك، ففعلت فجلس إليها حتى قضت حاجتها"، وقال وهب بن منبه: إن رجلاً من بني إسرائيل صام سبعين سنة يفطر ي كل سبعة أيام، فسأل الله تعالى أن يريه كيف يغوي الشيطان الناس? فلما طال عليه ذلك ولم يجب قال: لو اطلعت على خطيئتي وذنبي بيني وبين ربي لكان خيراً لي من هذا الأمر الذي طلبته، فأرسل الله إليه ملكاً فقال له: إن الله أرسلني إليك وهو يقول لك: إن كلامك هذا الذي تكلمت به أحب إلي مما مضى من عبادتك، وقد فتح الله بصرك فانظر، فنظر فإذا جنود إبليس قد أحاطت بالأرض وإذا ليس أحد من الناس إلا والشياطين حوله كالذئاب فقال: أي رب من ينجو من هذا? قال: الورع اللين.
    ومنها: أن لا يعد مسلماً بوعد إلا ويفي به. قال ﷺ: "العدة عطية"، وقال: "العدة دين"، وقال: "ثلاث في المنافق: إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف ائتمن خان"، وقال:" ثلاث من كن فيه منافق وإن صام وصلى"، وذكر ذلك
    ومنها: أن ينصف الناس من نفسه ولا يأتي إليهم إلا بما يحب أن يؤتى إليه، قال ﷺ:" لا يستكمل العبد الإيمان. حتى يكون فيه ثلاث خصال: الإنفاق من الإقتار، والإنصاف من نفسه، وبذل السلام"، وقال عليه السلام:" من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه"، وقال ﷺ: "يا أبا الدرداء أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمناً وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مسلماً"، قال الحسن: أوحى الله تعالى إلى آدم ﷺ بأربع خصال وقال: فيهن جماع الأمر لك ولولدك، واحدة لي وواحدة لك، وواحدة بيني وبينك، وواحدة بينك وبين الخلق، فأما التي لي: تعبدني ولا تشرك بي شيئاً، وأما التي لك: فعملك أجزيك به أفقر ما تكون إليه، وأما التي بيني وبينك: فعليك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين الناس فتصحبهم بالذي تحب أن يصحبوك به. وسأل موسى عليه السلام الله تعالى فقال: أي رب أي عبادك أعدل? قال: من أنصف من نفسه.
    ومنها: أن يريد في توقير من تدل هيئته وثيابه على علو منزلته فينزل الناس منازلهم. روي أن عائشة رضي الله عنها كانت في سفر فنزلت منزلاً فوضعت طعامها، فجاء سائل فقالت عائشة: ناولوا هذا المسكين قرصاً، ثم مر رجل على دابة فقالت: ادعوه إلى الطعام. فقيل لها: تعطين المسكين وتدعين هذا الغني? فقالت: إن الله تعالى أنزل الناس منازل لابد لنا من أن ننزلهم تلك النازل، هذا المسكين يرضى بقرص، وقبيح بنا أن نعطي هذا الغني على هذه الهيئة قرصاً. وروي أنه ﷺ دخل بعض بيوته فدخل عليه أصحابه حتى غص المجلس وامتلأ؛ فجاء جرير بن عبد الله البجلي فلم يجد مكاناً فقعد على الباب فلف رسول الله ﷺ رداءه فألقاه إليه وقال: "اجلس على هذا" فأخذه جرير ووضعه على وجهه وجعل يقبله ويبكي، ثم لفه ورمى به إلى النبي ﷺ وقال: ما كنت لأجلس على ثوبك؛ أكرمك الله كما أكرمتني، فنظر النبي ﷺ يميناً وشمالاً ثم قال: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه"، وكذلك كل من له عليه حق قديم فليكرمه. روي أن ظئر رسول الله ﷺ التي أرضعته جاءت إليه فبسط لها رداءه، ثم قال لها: "اشفعي تشفعي وسلي تعطي" فقالت: قومي. فقال: "أما حقي وحق بني هاشم فهو لك"؛ فقام الناس من كل ناحية وقالوا: وحقنا يا رسول الله. ثم وصلها بعد وأخدمها ووهب لها سهمانه بحنين فبيع ذلك من عثمان رضي الله عنه بمائة ألف درهم، ولربما أتاه من يأتيه وهو على وسادة جالس ولا يكون فيها سعة يجلس معه فينزعها ويضعها تحت الذي يجلس إليه فإن ابي عزم عليه حتى يفعل.
    ومنها: أن يصلح ذات البين بين المسلمين مهما وجد إليه سبيلاً. قال ﷺ: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصدقة?" قالوا: بلى، قال: "إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة"، وقال ﷺ "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين"، وعن النبي ﷺ فيما رواه أنس رضي الله عنه قال: "بينما رسول الله ﷺ جالس إذ ضحك حتى بدت ثناياه فقال عمر رضي الله عنه: يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما الذي أضحكك? قال "رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من هذا، فقال الله تعالى: رد على أخيك مظلمته. فقال: يا رب لم يبق لي من حسناتي شيء، فقال الله تعالى للطالب: كيف تصنع بأخيك ولم يبق له من حسناته شيء? فقال: يا رب فليحمل عني من أوزاري". ثم فاضت عينا رسول الله ﷺ بالبكاء فقال: "إن ذلك ليوم عظيم يوم يحتاج الناس فيه إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم قال : فيقول الله تعالى. - أي للمتظلم - ارفع بصرك فانظر في الجنان فقال: يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا أو لأي صديق أو شهيد? قال الله تعالى: هذا لمن أعطى الثمن، قال: يا رب ومن يملك ذلك? قال: أنت تملكه، قال: بعفوك عن أخيك، قال: يا رب قد عفوت عنه، فيقول الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخله الجنة. ثم قال ﷺ: اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة"، وقد قال ﷺ: "ليس بكذاب من أصلح بين اثنين فقال خيراً"، وهذا يدل على وجوب الإصلاح بين الناس لأن ترك الكذب واجب ولا يسقط الواجب إلا بواجب آكد منه، وقال ﷺ: "كل الكذب مكتوب إلا أن يكذب الرجل في الحرب، فإن الحرب خدعة، أو يكذب بين اثنين فيصلح بينهما، أو يكذب لامرأته ليرضيها".
    ومنها: أن يستر عورات المسلمين كلهم. قال ﷺ: "من ستر على مسلم ستره الله تعالى في الدنيا والآخرة"، وقال: "لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة"،وقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال ﷺ: "لا يرى المؤمن من أخيه عورة فيسترها عليه إلا دخل الجنة"، وقال ﷺ لماعز لما أخبره: "لو سترته بثوبك كان خيراً لك"، فإذن على المسلم أن يستر عورة نفسه فحق إسلامه واجب عليه كحق إسلام غيره. قال أبو بكر رضي الله عنه: لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو وجدت سارقاً لأحببت أن يستره الله. وروي أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة ذات ليلة فرأى رجلاً وامرأة على فاحشة فلما أصبح قال للناس: أرأيتم لو أن إماماً رأى رجلاً وامرأة على فاحشة فأقام عليهما الحد ما كنتم فاعلين? قالوا: إنما أنت إمام، فقال علي رضي الله عنه: ليس ذلك لك، إذاً يقام عليك الحد إن الله لم يأمن على هذا الأمر أقل من أربعة شهود، ثم تركهم ما شاء الله أن يتركهم ثم سألهم، فقال القوم مقالتهم الأولى، فقال علي رضي الله عنه: مثل مقالته الأولى. وهذا يشير إلى أن عمر رضي الله عنه كان متردداً في أن الوالي هل له أن يقضي بعلمه في حدود الله? فلذلك راجعهم في معرض التقدير لا في معرض الإخبار خيفة من أن لا يكون له ذلك فيكون قاذفاَ?ً بإخباره، ومال رأي علي إلى أنه ليس له ذلك. وهذا من أعظم الأدلة على طلب الشرع لستر الفواحش فإن أفحشها الزنى، وقد نيط بأربعة من العدول. يشاهدون ذلك منه في ذلك منها كالمردود في المكحلة. وهذا قط لا يتفق. وإن علمه القاضي تحقيقاً لم يكن له أن يكشف عنه. فانظر إلى الحكمة في حسم باب الفاحشة بإيجاب الرجم الذي هو أعظم العقوبات. ثم انظر إلى كثيف ستر الله كيف أسبله على العصاة من خلقه بتضييق الطريق في كشفه? فنرجو أن لا نحرم هذا الكرم يوم تبلى السرائر: ففي الحديث: "إن الله ستر على عبد عورته في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها في الآخرة وإن كشفها في الدنيا فهو أكرم من أن يكشفها مرة أخرى"، وعن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال: خرجت مع عمر رضي الله عنه ليلة في المدينة فبينما نحن نمشي إذ ظهر لنا سراج فانطلقنا نؤمه فلما دنونا منه إذا باب مغلق على قوم لهم أصوات ولغط فأخذ عمر بيدي وقال: أتدري من هذا? قلت: لا، فقال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى? قلت: أرى أنا قد أتينا ما نهانا الله عنه. قال الله تعالى: "ولا تجسسوا" فرجع عمر رضي الله عنه وتركهم، وهذا يدل على وجوب الستر وترك التتبع، وقد قال رسول الله ﷺ لمعاوية: "إنك إن تتبعت عورات الناس أفسدتهم أو كدت تفسدهم"، وقال ﷺ: " يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإنه من يتبع عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو كان في جوف بيته"، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: لو رأيت أحداً على حد من حدود الله تعالى ما أخذته ولا دعوت له أحداً حتى يكون معي غيري. وقال بعضهم: كنت قاعداً مع عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذ جاءه رجل بآخر، فقال: هذا نشوان، فقال عبد الله بن مسعود: استنكهوه فاستنكهوه فوجده نشواناً فحبسه حتى ذهب سكره، ثم دعا بسوط فكسر ثمره ثم قال للجلاد: اجلد وارفع يدك وأعط كل عضو حقه فجلده وعليه قباء أو مرط: فلما فرغ قال للذي جاء به: ما أنت منه? قال: عمه، قال عبد الله: ما أدبت فأحسنت الأدب ولا سترت الحرمة! إنه ينبغي للإمام إذا انتهى إليه حد أن يقيمه وإن الله عفو يحب العفو ثم قرأ: "وليعفوا وليصفحوا" ثم قال: "إني لأذكر أول رجل قطعه النبي ﷺ أتي بسارق فقطعه فكأنما أسف وجهه، فقالوا يا رسول الله كأنك كرهت قطعه فقال: "وما يمنعني? لا تكونوا عوناً للشياطين على أخيكم?" فقالوا: ألا عفوت عنه? فقال: "إنه ينبغي للسلطان إذا انتهى إليه حد أن يقيمه إن الله عفو يحب العفو" وقرأ: "وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم" وفي رواية فكأنما سفي في وجه رسول الله ﷺ رماد لشدة تغيره. وروى أن عمر رضي الله عنه كان يعس بالمدينة من الليل فسمع صوت رجل في بيت يتغنى فتسور
    عليه فوجد عنده امرأة وعنده خمر، فقال: يا عدو الله أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته? فقال: وأنت يا أمير المؤمنين فلا تعجل، فإن كنت قد عصيت الله واحدة فقد عصيت الله في ثلاثة، قال الله تعالى: "ولا تجسسوا" وقد تجسست، وقال الله تعالى: "وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" وقد تسورت علي، وقد قال الله تعالى: " لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم" - الآية- ، وقد دخلت بيتي بغير إذن ولا سلام، فقال عمر رضي الله عنه: هل عندك من خير إن عفوت عنك? قال: نعم والله يا أمير المؤمنين لئن عفوت عني لا أعود إلى مثلها أبداً فعفا عنه وخرج وتركه. وقال رجل لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن كيف سمعت رسول الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة? قال: سمعته يقول: "إن الله ليدني منه المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره من الناس فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا? فيقول: نعم يا رب، حتى إذا قرره بذنوبه فرأى في نفسه أنه قد هلك قال له: يا عبدي لم أسترها عليك في الدنيا إلا وأنا أريد أن أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافرون والمنافقون: "ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين" وقال ﷺ: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين"، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل السوء سراً ثم يخبر به، وقال ﷺ: "من استمع خبر قوم وهم له كارهون صب في أذنه الآنك يوم القيامة".
    ومنها: أن يتقي مواضع التهم صيانة لقلوب الناس عن سوء الظن ولألسنتهم عن العيبة، فإنهم إذا عصوا الله بذكره وكان هو السبب فيه كان شريكاً، قال الله تعالى: "ولا يسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم" وقال ﷺ: "كيف ترون من يسب أبويه?فقالوا: وهل من أحد يسب أبويه? فقال: نعم يسب أبوي غيره فيسبون أبويه"، وقد روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله ﷺ كلم إحدى نسائه فمر به رجل فدعاه رسول الله ﷺ وقال: "يا فلان هذه زوجتي صفية"، فقال: يا رسول الله من كنت أظن فيه فإني لم أكن أظن فيك، فقال: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم"، وزاد في رواية: "إني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً" وكانا رجلين فقال: "على رسلكما إنها صفية" - الحديث - وكانت قد زارته في العشر الأواخر من رمضان: وقال عمر رضي الله عنه: من أقام نفسه مقام التهم فلا يلومن من أساء به الظن. ومر برجل يكلم امرأة على ظهر الطريق فعلاه بالدرة فقال: يا أمير المؤمنين، إنها امرأتي فقال: هلا حيث لا يراك أحد من الناس?.
    ومنهما: أن يشفع لكل من له حاجة من المسلمين إلى من له عنده منزلة ويسعى في قضاء حاجته بما قدر عليه، قال ﷺ: "إني أوتى وأسأل وتطلب إلي الحاجة وأنتم عندي فاشفعوا لتؤجروا ويقضى الله على يدي نبيه ما أحب"، وقال معاوية: قال رسول الله ﷺ: "اشفعوا إلي لتؤجروا إني أريد الأمر وأؤخره كي تشفعوا إلي فتؤجروا"، وقال ﷺ: "ما من صدقة أفضل من صدقة اللسان" قيل: وكيف ذلك? قال: "الشفاعة يحقن بها الدم وتجر بها المنفعة إلى آخر ويدفع بها المكروه عن آخره"، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن زوج بريرة كان عبداً يقال له مغيث كأني أنظر إليه خلفها وهو يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال ﷺ للعباس: "ألا تعجب من شدة حب مغيث لبريرة وشدة بغضها له? فقال النبي ﷺ: لو راجعته فإنه أبو ولدك، فقالت: يا رسول الله أتأمرني فأفعل? فقال: لا إنما أنا شافع".
    ومنها: أن يبدأ كل مسلم منهم بالسلام قبل الكلام ويصافحه عند السلام. قال ﷺ: "من بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه حتى يبدأ بالسلام"، وقال بعضهم: دخلت على رسول الله ﷺ ولم أسلم ولم أستأذن، فقال النبي ﷺ: "ارجع فقل: السلام عليكم أأدخل?". وروى جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا دخلتم بيوتكم فسلموا على أهلها فإن الشيطان إذا سلم أحدكم لم يدخل بيته"، وقال أنس رضي الله عنه خدمت النبي ﷺ ثمان حجج فقال لي: "يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك وسلم على من لقيته من أمتي تكثر حسناتك، وإذا دخلت منزلك فسلم على أهل بيتك يكثر خيرك بيتك"، وقال أنس: قال رسول الله ﷺ: "إذا التقى المؤمنان فتصافحا قسمت بينهما سبعون مغفرة تسع وستون لأحسنهما بشراً"، وقال تعالى: "وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها" وقال عليه السلام: "والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أفلا أدلكم على عمل إذا عملتموه تحاببتم?" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "أفشوا السلام بينكم"، وقال أيضاً: "إذا سلم المسلم فرد عليه صلت عليه الملائكة سبعين مرة" وقال ﷺ: "إن الملائكة تعجب من المسلم يمر على المسلم ولا يسلم عليه"، وقال عليه السلام: "يسلم الراكب على الماشي وإذا سلم من القوم واحد أجزأ عنهم" وقال قتادة: كانت تحية من كان قبلكم السجود فأعطى الله تعالى هذه الأمة السلام وهي تحية أهل الجنة. وكان أبو مسلم الخولاني يمر على قوم فلا يسلم عليهم ويقول: ما يمنعني إلا أني أخشى أن لا يردوا فتلعنهم الملائكة. والمصافحة أيضاً سنة مع السلام، "وجاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: السلام عليكم، فقال عليه السلام: عشر حسنات، فجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال: عشرون حسنة، فجاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: ثلاثون"، وكان أنس رضي الله عنه يمر على الصبيان فيسلم عليهم، ويروى عن رسول الله ﷺ أنه فعل ذلك. وروى عبد الحميد بن بهرام: أنه ﷺ مر في المسجد يوماً وعصبة من الناس قعود فأومأ بيده بالسلام، وأشار عبد الحميد بيده إلى الحكاية. فقال عليه السلام: "لا تبدؤوا اليهود ولا النصارى بالسلام وإذا لقيتم أحدكم في الطريق فاضطروه إلى أضيقه"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: "لا تصافحوا أهل الذمة ولا تبدؤوهم بالسلام فإذا لقيتموهم في الطريق فاضطروهم إلى أضيق الطرق".
    قالت عائشة رضي الله عنها: إن رهطاً من اليهود دخلوا على رسول الله ﷺ فقالوا: السام عليك، فقال النبي ﷺ: "عليكم" قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت بل عليكم السام واللعنة فقال عليه السلام: "يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل شيء" قالت عائشة: ألم تسمع ما قالوا? قال "فقد قلت عليكم" وقال عليه السلام: "يسلم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير والصغير على الكبير"، وقال عليه السلام: "لا تشبهوا باليهود والنصارى فإن تسليم اليهود بالإشارة بالأصابع وتسليم النصارى بالإشارة بالأكف"، قال أبو عيسى: إسناده ضعيف.
    وقال عليه السلام: "إذا انتهى أحدكم إلى مجلس فليسلم فإن بدا له أن يجلس فليجلس، ثم إذا قام فليسلم فليست الأولى بأحق من الأخيرة"، وقال أنس رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "إذا التقى المؤمنان فتصافحا قسمت بينهما سبعون مغفرة تسعة وستون لأحسنهما بشراً"، وقال عمر رضي الله عنه: سمعت النبي ﷺ يقول: "إذا التقى المسلمان وسلم كل واحد منهما على صاحبه وتصافحا نزلت بينهما مائة رحمة للبادئ تسعون وللمصافح عشرة"، وقال الحسن: المصافحة تزيد في الود. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: "تمام تحياتكم المصافحة"، وقال عليه السلام: "قبلة المسلم أخاه المصافحة"،ولا بأس بقبلة يد المعظم في الدين تبركاً به وتوقيراً له. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما: قال: قبلنا يد النبي ﷺ، وعن كعب بن مالك قال: لما نزلت توبتي أتيت النبي ﷺ فقبلت يده، وروي أن أعرابياً قال: يا رسول الله ائذن لي فأقبل رأسك ويدك قال: فأذن له ففعل، ولقي أبو عبيدة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما فصافحه وقبل يده وتنحيا يبكيان. وعن البراء بن عازب رضي الله عنه: أنه سلم على رسول الله ﷺ وهو يتوضأ فلم يرد عليه حتى فرغ من وضوئه فرد عليه ومد يده إليه فصافحه فقال: يا رسول الله ما كنت أرى هذا إلا من أخلاق الأعاجم? فقال رسول الله ﷺ: "إن المسلمين إذا التقيا فتصافحا تحاتت ذنوبهما"، وعن النبي ﷺ قال: "إذا مر الرجل بالقوم فسلم عليهم فردوا عليه كان له عليهم فضل درجة لأنه ذكرهم السلام وإن لم يردوا عليه رد عليه ملأ خير منهم وأطيب. أو قال: وأفضل"، والانحناء عند السلام منهي عنه. قال أنس رضي الله عنه: قلنا يا رسول الله أينحني بعضنا لبعض? قال: "لا" قال: فيقبل بعضنا بعضاً? قال: "لا" قال: فيصافح بعضنا بعضاً? قال: "نعم"، والالتزام والتقبيل قد ورد به الخبر عند القدوم من السفر، وقال أبو ذر رضي الله عنه: ما لقيته ﷺ إلا صافحني، وطلبني يوماً فلم أكن في البيت فلما أخبرت جئت وهو على سرير فالتزمني فكانت أجود وأجود.
    والأخذ بالركاب في توقير العلماء ورد به الأثر فعل ابن عباس ذلك بركاب زيد بن ثابت، وأخذ عمر يغرز زيد حتى رفعه وقال: هكذا فافعلوا بزيد وأصحاب زيد.
    والقيام مكروه على سبيل الإعظام لا على سبيل الإكرام، قال أنس: ما كان شخص أحب إلينا من رسول الله ﷺ? وكانوا إذا رأوه لم يقوموا لما يعلمون من كراهيته لذلك، وروي أنه عليه السلام قال مرة: "إذا رأيتموني فلا تقوموا كما تصنع الأعاجم"، وقال عليه السلام: "من سره أن يمثل له الرجال قياماً ليتبوأ مقعده من النار"، وقال عليه السلام: "لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا"، وكانوا يحترزون عن ذلك لهذا النهي. وقال ﷺ: "إذا أخذ القوم مجالسهم فإن دعا أحد أخاه فأوسع له فليأته فإنما هي كرامة أكرمه بها أخوه فإن لم يوسع له فلينظر إلى أوسع مكان يجده فيجلس فيه" وروي أنه سلم رجل على رسول الله ﷺ وهو يبول فلم يجب، فيكره السلام على من يقضي حاجته، ويكره أن يقول ابتداء: عليك السلام، فإنه قاله رجل لرسول الله ﷺ فقال عليه السلام: "إن عليك السلام تحية الموتى" قالها ثلاثاً،ثم قال: " إذا لقي أحدكم أخاه فليقل: السلام عليكم ورحمة الله" ويستحب للداخل إذا سلم ولم يجد مجلساً إن لا ينصرف بل يقعد وراء الصف. وكان رسول الله ﷺ جالساً في المسجد إذا أقبل ثلاثة نفر فأقبل إلى رسول الله ﷺ فأما أحدهما فوجد فرجة فجلس فيها، وأما الثاني فجلس خلفهم، وأما الثالث فأدبر ذاهباً، فلما فرغ رسول الله ﷺ قال: "ألا أخبركم عن النفر الثلاثة. أما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه"، وقال ﷺ: "ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يتفرقا" وسلمت أم هانىء على النبي ﷺ فقال: "من هذه" فقيل له: أم هانىء، فقال عليه السلام: "مرحباً بأم هانىء".
    ومنها: أن يصون عرض أخيه المسلم ونفسه وماله عن ظلم غيره مهما قدر ويرد عنه ويناضل دونه وينصره، فإن ذلك يجب عليه بمقتضى أخوة الإسلام. وروى أبو الدرداء: أن رجلاً نال من رجل عند رسول الله ﷺ فرد عنه رجل فقال النبي ﷺ: "ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة"، وعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: "من ذكر عنده أخوه المسلم وهو يستطيع نصره فلم ينصره أذله الله بهما في الدنيا والآخرة، ومن ذكر عنده أخوه المسلم فنصره نصره الله تعالى في الدنيا والآخرة" وقال عليه السلام: من حمى عن عرض أخيه المسلم في الدنيا بعث الله تعالى له ملكاً يحميه يوم القيامة من النار"، وقال أبو جابر وأبو طلحة: سمعنا رسول الله ﷺ يقول "ما من امرىء مسلم ينصر مسلماً في موضع ينتهك فيه عرضه ويستحل حرمته نصره الله في موطن يجب فيه نصره، وما من امرىء خذل مسلماً في موطن ينتهك فيه حرمته إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته".
    ومنها: تشميت العاطس. قال عليه الصلاة والسلام في العاطس: "يقول : الحمد لله على كل حال، ويقول الذي يشمته: يرحمكم الله، ويرد عليه العاطس فيقول: يهدكم الله ويصلح بالكم"، وعن أبن مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يعلمنا ويقول: "إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، فإذا قال ذلك فليقل من عنده: يرحمك الله فإذا قالوا ذلك فليقل: يغفر الله لي ولكم"، وشمت رسول الله ﷺ عاطساً ولم يشمت آخر فسأله عن ذلك فقال: "إنه حمد الله وأنت سكت"، وقال ﷺ: "يشمت العاطس المسلم إذا عطس ثلاثاً فإن زاد فهو زكام"، وروي أنه شمت عاطساً ثلاثاً فعطس أخرى فقال إنه مزكوم"، وقال أبو هريرة: كان رسول الله ﷺ إذا عطس غض صوته واستتر بثوبه أو يده. وروي خمر وجهه. وقال أبو موسى الأشعري: كان اليهود يتعاطسون عند رسول الله ﷺ رجاء أن يقول يرحمكم الله فكان يقول: "يهديكم الله"، وروى عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه: أن رجلاً عطس خلف النبي ﷺ في الصلاة فقال: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يرضى ربنا ويرضى والحمد لله على كل حال، فلما سلم النبي ﷺ قال: "من صاحب الكلمات?" فقال: أنا يا رسول الله ما أردت بهن إلا خيراً، فقال: "لقد رأيت اثني عشر ملكاً يبتدرونها أيهم يكتبها"، وقال ﷺ: "من عطس عنده فسبق إلى الحمد لم يشتك خاصرته"، وقال عليه السلام: "العطاس من الله والتثاؤب من الشيطان فإذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فمه، فإذا قال:ها ها، فإن الشيطان يضحك من جوفه"، وقال إبراهيم النخعي: إذا عطس في قضاء الحاجة فلا بأس بأن يذكر الله. وقال الحسن: يحمد الله في نفسه. وقال كعب: قال موسى عليه السلام: يا رب أقريب أنت فأناجيك إم بعيد فأناديك? فقال: أنا جليس من ذكرني فقال: فإنا نكون على حال نجلك أن نذكرك عليها كالجنابة والغائط، فقال اذكرني على كل حال.
    ومنها: أنه إذا بلي بذي شر فينبغي أن يتحمله ويتقيه قال بعضهم: خالص المؤمن مخالصة وخالق الفاجر مخالقة، فإن الفاجر يرضى بالخلق الحسن في الظاهر. وقال أبو الدرداء: إنا لنبش في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم وهذا معنى المداراة وهي مع من يخاف سره، قال الله تعالى: "ادفع بالتي هي أحسن السيئة" قال ابن عباس في معنى قوله: "ويدرؤون بالحسنة السيئة" أي الفحش والأذى بالسلام والمداراة. وقال في قوله تعالى: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض"، قال بالرغبة والرهبة والحياء والمداراة. وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذن رجل على رسول الله ﷺ فقال: ائذنوا له فبئس رجل العشيرة هو"، فلما دخل ألان له القول حتى حتى ظننت أن له عنده منزلة فلما خرج قلت له: لما دخل قلت الذي قلت، ثم ألنت القول فقال: "يا عائشة إن شر الناس منزلة يوم القيامة من تركه الناس اتقاء فحشه"، وفي الخبر: "ما وقى الرجل به عرضه فهو له صدقة".
    وفي الأثر: خالطوا الناس بأعمالكم وزايلوهم بالقلوب. وقال محمد بن الحنفية رضي الله عنه: ليس بحكيم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بداً حتى يجعل الله له منه فرجاً.
    ومنها: أن يجتنب مخالطة الأغنياء ويختلط بالمساكين ويحسن إلى الأيتام، كان النبي ﷺ يقول: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين"، وقال كعب الأحبار: كان سليمان عليه السلام في مكة إذا دخل المسجد فرأى مسكيناً جلس إليه وقال: مسكين جالس مسكيناً. وقيل: ما كان من كلمة تقال لعيسى عليه السلام أحب إليه من أن يقال له يا مسكين. وقال كعب الأحبار: ما في القرآن من: "يا أيها الذين آمنوا" فهو في التوراة "يا أيها المساكين" وقال عبادة بن الصامت: إن للنار سبعة أبواب ثلاثة للأغنياء وثلاثة للنساء وواحد للفقراء والمساكين؛ وقال الفضيل: بلغني أن نبياً من الأنبياء قال: يا رب كيف لي أن أعلم رضاك عني? فقال: انظر كيف رضا المساكين عنك. وقال عليه الصلاة والسلام: "وإياكم ومجالسة الموتى"، قيل: ومن الموتى يا رسول الله? قال: "الأغنياء" وقال موسى: إلهي أين أبغيك? قال عند المكسرة قلوبهم. وقال ﷺ: "لا يغبطن فاجراً بنعمة فإنك لا تدري إلى ما يصير بعد الموت فإن من ورائه طالباً حثيثاً"، وأما اليتيم؛ فقال ﷺ: "من ضم يتيماً من أبوين مسلمين حتى يستغني فقد وجبت له الجنة البتة"، وقال عليه السلام: "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين وهو يشير بإصبعيه"، وقال ﷺ "من وضع يده على رأس يتيم ترحماً كانت له بكل شعرة تمر عليها يده حسنة"، وقال ﷺ: "خير بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه وشر بيت من المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه".
    ومنها: النصيحة لكل مسلم والجهد في إدخال السرور على قلبه، قال ﷺ: "المؤمن يحب للمؤمن كما يحب لنفسه"، وقال ﷺ: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" وقال ﷺ: "إن أحدكم مرآة أخيه فإذا رأى فيه شيئاً فليمطه عنه"، وقال ﷺ: " من قضى حاجة لأخيه فكأنما خدم الله عمره"، وقال ﷺ: "من أقر عين مؤمن أقر الله عينه يوم القيامة" وقال ﷺ: "من مشى في حاجة أخيه ساعة من ليل أو نهار قضاها أو لم يقضها كان خيراً له من اعتكاف شهرين"، وقال عليه السلام: "من فرج عن مؤمن مغموم أو أعان مظلوماً غفر الله له ثلاثاً وسبعين مغفرة"؛وقال ﷺ: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً" فقيل كيف ينصره ظالماً? قال: "يمنعه من الظلم"، وقال عليه السلام: "إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن أو أن يفرج عنه غماً أو يقضي عنه ديناً أو يطعمه من جوع"، وقال ﷺ: "من حمى مؤمناً من منافق يغنته بعث الله إليه ملكاً يوم القيامة يحمي لحمه من نار جهنم"، وقال ﷺ: "خصلتان ليس فوقهما شيء من الشر: الشرك بالله والضر لعباد الله. وخصلتان ليس فوقهما شيء من البر: الإيمان بالله والنفع لعباد الله"، وقال ﷺ: " من لم يهتم للمسلمين فليس منهم"، وقال معروف الكوخي: من كل يوم: اللهم ارحم أمة محمد كتبه الله من الأبدال. وفي رواية أخرى. اللهم أصلح أمة محمد اللهم فرج عن أمة محمد. كل ثلاث مرات. كتبه الله من الأبدال، وبكى علي بن الفضيل يوماً فقيل له ما يبكيك? قال: أبكي على من ظلمني إذا وقف غداً بين يدي الله تعالى وسئل عن ظلمه ولم تكن له حجة.
    ومنها: أن يعود مرضاهم فالمعرفة والإسلام كافيان في إثبات هذا الحق ونيل فضله. وأدب العائد خفة الجلسة وقلة السؤال وإظهار الرقة والدعاء بالعافية وغض البصر عن عورات الموضع. وعند الإستئذان لا يقابل الباب ويدق برفق ولا يقول: أنا إذا قيل له: من، ولا يقول: يا غلام، ولكن يحمد ويسبح، وقال ﷺ: "تمام عيادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته أو على يده ويسأله كيف هو وتمام تحياتكم المصافحة"، وقال ﷺ: "من عاد مريضاً قعد في مخارف الجنة حتى إذا قام وكل به سبعون ألف ملك يصلون عليه حتى الليل" وقال رسول الله ﷺ: "إذا عاد الرجل المريض خاض في الرحمة فإذا قعد عنده قرت فيه"، وقال ﷺ: "إذا عاد المسلم أخاه أو زاره قال الله تعالى: طبت وطاب ممشاك وتبؤات منزلاً في الجنة"، وقال عليه السلام: "إذا مرض العبد بعث الله تبارك وتعالى إليه ملكين فقال: انظر ماذا يقول لعواده? فإن هو إذا جاؤوا حمد الله وأثنى عليه رفعا ذلك إلى الله وهو أعلم فيقول: لعبدي علي إن توفيته أن أدخله الجنة وإن أنا شفيته أن أبدل له لحماً خيراً من لحمه ودماً خيراً من دمه وأن أكفر عنه سيئاته"، وقال رسول الله ﷺ: "من يرد الله به خيراً يصب منه"، وقال عثمان رضي الله عنه: مرضت فعادني رسول الله ﷺ فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم أعيذك بالله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد من شر ما تجد" قالها مراراً، ودخل عل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو مريض فقال له: "قل اللهم إني أسألك تعجيل عافيتك أو صبراً على بليتك أو خروجاً من الدنيا إلى رحمتك فإنك ستعطي إحداهن"، ويستحب للعليل أيضاً أن يقول: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر. وقال علي بين أبي طالب رضي الله عنه: إذا شكا أحدكم بطنه فليسأل امرأته شيئاً من صداقها ويشتري به عسلاً ويشربه بماء السماء فيجتمع له الهنيء والمريء والشفاء والمبارك. وقال ﷺ: "يا أبا هريرة ألا أخبرك بأمر هو حق من تكلم به في أول مضجعه من مرضه بجاه الله من النار"، قلت: بلى يا رسول الله قال: "يقول: لا إله إلا الله يحيي ويميت وهو حي لا يموت سبحان رب العباد والبلاد والحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه على كل حال. الله أكبر كبيراً إن كبرياء ربنا وجلاله وقدرته بكل مكان. اللهم إن أنت أمرضتني لتقبض روحي في مرضي هذا فاجعل روحي في أرواح من سبقت لهم الحسنى وباعدني من النار كما أولياءك الذين سبقت لهم منك الحسنى"، وروي أنه قال عليه السلام: "عيادة المريض بعد ثلاث فواق ناقة"، وقال طاوس: أفضل العيادة أخفها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: عيادة المريض مرة سنة فما ازدادت فنافلة، وقال بعضهم: عيادة المريض بعد ثلاث. وقال عليه السلام: "أغبوا في العيادة وأربعوا فيها"، وجملة أدب المريض حسن الصبر وقلة الشكوى والضجر والفزع إلى الدعاء والتوكل بعد الدواء على خالق الدواء.
    ومنها: أن يشيع جنائزهم قال ﷺ: "من شيع جنازة فله قيراط من الأجر فإن وقف حتى تدفن فله قيراطان"، وفي الخبر "القيراط مثل أحد"، ولما روى أبو هريرة هذا الحديث وسمعه ابن عمر قال: لقد فرطنا إلى الآن في قراريط كثيرة. والقصد من التشييع قضاء حق المسلمين والاعتبار. وكان مكحول الدمشقي إذا رأى جنازة قال: اغدوا فإنا رائحون، موعظة بليغة وغفلة سريعة يذهب الأول والآخر لا عقل لها. وخرج مالك بن دينار خلف جنازة أخيه وهو يبكي ويقول: والله لا تقر عيني حتى أعلم إلى ما صرت ولا والله لا أعلم ما دمت حياً. وقال الأعمش: كنا نشهد الجنائز فلا ندري لمن نعزي لحزن القوم كلهم. ونظر إبراهيم الزيات إلى قوم يترحمون على ميت فقال: لو ترحمون أنفسكم لكان أولى. إنه نجا من أهوال ثلاث: وجه ملك الموت قد رأى، ومرارة الموت قد ذاق، وخوف الخاتمة قد أمن. وقال ﷺ: "يتبع الميت ثلاث فيرجع اثنان ويبقى واحد، يتبعه أهله وماله وعمله فيرجع أهله وماله ويبقى عمله".
    ومنها: أن يزور قبورهم، والمقصود من ذلك الدعاء والاعتبار وترقيق القلب، قال ﷺ: "ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه"، وقال عمر رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله ﷺ فأتى المقابر فجلس إلى قبر وكنت أدنى القوم منه. فبكى وبكينا، فقال: "وما يبكيكم?" قلنا: بكينا لبكائك. قال: "هذا قبر آمنة بنت وهب استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي واستأذنته في أن أستغفر لها فأبى علي فأدركني ما يدرك الولد من الرقة"، وكان عمر رضي الله عنه إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته ويقول: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "إن القبر أول منازل الآخرة فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر وإن لم ينج منه فما بعده أشد"، وقال مجاهد: أول ما يكلم لبن آدم حفرته فتقول: أنا بيت الدود وبيت الوحدة وبيت الغربة وبيت الظلمة. وهذا ما أعددت لك فما أعددت لي? وقال أبو ذر: ألا أخبركم بيوم فقري يوم أوضع في قبري. كان أبو الدرداء يقعد إلى القبور فقيل له في ذلك فقال: أجلس إلى قوم يذكرونني معادي وإن قمت عنهم لم يغتابوني. وقال حاتم الأصم: من مر بالمقابر فلم يتفكر لنفسه ولم يدعوا لهم فقد خان نفسه وخانهم. وقال ﷺ: "ما من ليلة إلا وينادي مناد: يا أهل القبور من تغبطون? قالوا: نغبط أهل المساجد لأنهم يصومون ولا نصوم ويصلون ولا نصلي ويذكرون ولا نذكره"، وقال سفيان: من أكثر ذكر القبر وجده روضة من رياض الجنة، ومن غفل عن ذكره وجده حفرة من حفر النار. وكان الربيع بن خيثم قد حفر في داره فبراً فكان إذا وجد في قلبه قساوة دخل فيه فاضطجع فيه ومكث ساعة ثم قال: "رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت" ثم يقول: يا ربيع قد أرجعت فاعمل الآن قبل أن لا ترجع. وقال ميمون بن مهران: خرجت مع عمر بن عبد العزيز فلما نظر إلى القبور بكى، وقال: يا ميمون هذه قبور آبائي بني أمية كأنهم لم يشاركوا أهل الدنيا في لذاتهم أما تراهم صرعى قد خلت بهم المثلات وأصاب الهوام من أبدانهم? ثم بكى وقال: ولالله مل أعلم أحداً أنعم ممن صار إلى هذه القبور وقد أمن من عذاب الله?.
    وآداب المعزي: خفض الجناح، وإظهار الحزن، وقلة الحديث، وترك التبسم.
    وآداب تشييع الجنازة: لزوم الخشوع، وترك الحديث، وملاحظة الميت، والتفكر في الموت، والاستعداد له، وأن يمشي أمام الجنازة بقربها والإسراع بالجنازة سنة فهذه جمل آداب تنبه على آداب المعاشرة مع عموم الخلق.
    والجملة الجامعة فيه أن لا تستصغر منهم أحداً حياً كان أو ميتاً فتهلك لأنك لا تدري لعله خير منك? فإنه وإن كان فاسقاً فلعله يختم لك بمثل حاله ويختم له بالصلاح? ولا تنظر إليهم بعين التعظيم لهم في حال دنياهم فإن الدنيا صغيرة عند الله صغير ما فيها. ومهما عظم أهل الدنيا في نفسك فقد عظمت الدنيا فتسقط من عين الله. ولا تبذل لهم دينك لتنال من دنياهم فتصغر في أعينهم ثم تحرم دنياهم فإن لم تحرم كنت قد استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير. ولا تعادهم بحيث تظهر العداوة فيطول الأمر عليك في المعاداة ويذهب دينك ودنياك فيهم ويذهب دينهم فيك، إلا إذا رأيت منكراً في الدين فتعادي أفعالهم القبيحة وتنظر إليهم بعين الرحمة لهم لتعرضهم بمقت الله وعقوبته بعصيانهم فحسبهم جهنم يصلونها، فما لك تحقد عليهم ولا تستكن إليهم في مودتهم لك وثنائهم عليك في وجهك وحسن بشرهم لك فإنك إن طلبت حقيقة ذلك لم تجد في المائة إلا واحداً وربما لا تجده. ولا تشكو إليهم أحوالك فيكلك الله إليهم ولا تطمع أن يكونوا لك في الغيب والسر كما في العلانية فذلك طمع كاذب وأنى تظفر به? ولا تطمع فيما في أيديهم فتستعجل الذل ولا تنال الغرض. ولا تعلو عليهم تكبراً لاستغنائك عنهم فإن الله يلجئك إليهم عقوبة على التكبر بإظهار الاستغناء. وإذا سألت أخاً منهم حاجة فهو أخ مستفاد وإن لم يقض فلا تعاتبه فيصير عدواً تطول عليك مقاساته. ولا تشتغل بوعظ من ترى فيه مخايل القبول فلا يسمع منك ويعاديك، وليكن وعظك عرضاً واسترسالاً من غير تنصيص على الشخص. ومهما رأيت منهم كرامة وخيراً فاشكر الله الذي سخرهم لك واستعذ بالله أن يكلك إليهم. وإذا بلغك عنهم غيبة أو رأيت منهم شراً أو أصابك منهم ما يسوءك فكل أمرهم إلى الله واستعذ بالله من شرهم. ولا تشغل نفسك بالمكافأة فيزيد الضرر ويضيع العمر بشغله. ولا تقل لهم لم تعرفوا موضعي.
    وأعتقد أنك لو استحقيت ذلك لجعل الله لك موضعاً في قلوبهم فالله المحبب والمبغض إلى القلوب، وكن فيهم سميعاً لحقهم أصم عن باطنهم نطوقاً بحقهم صموتاً عن باطنهم. واحذر صحبة أكثر الناس فإنهم لا يقيلون عثرة ولا يغفرون زلة ولا يسترون عورة ويحاسبون على النقير والقطمير ويحسدون على القليل والكثير، ينتصفون ولا ينصفون ويؤاخذون على الخطأ والنسيان ولا يعفون، يغرون الإخوان على الإخوان بالنميمة والبهتان، فصحبة أكثرهم خسران وقطيعتهم رجحان، إن رضوا فظاهرهم الملق وإن سخطوا فباطنهم الحنق لا يؤمنون في حنقهم ولا يرجون في ملقهم، ظاهرهم ثياب وباطنهم ذئاب، يقطعون بالظنون، ويتغامزون وراءك بالعيون ويتربصون بصديقهم من الحسد ريب المنون، يحصون عليك العثرات في صحبتهم يواجهوك بها في غضبهم ووحشتهم. ولا تعول على مودة من لم تخبره حق الخبرة، بأن تصحبه مدة في دار أو موضع واحد فتجربه في عزله وولايته وغناه وفقره أو تسافر معه أو تعامله في الدينار والدرهم أو تقع في شدة فتحتاج إليه، فإن رضيته في الأحوال فاتخذه أباً لك إن كان كبيراً أو ابناً لك إن كان صغيراً أو أخاك إن كان مثلك فهذه جملة آداب المعاشرة مع أصناف الخلق.
    حقوق الجوار
    اعلم أن الجوار يقتضي حقاً وراء ما تقتضيه أخوة الإسلام. فيستحق الجار المسلم ما يستحقه كل مسلم وزيادة إذ قال النبي ﷺ: "الجيران ثلاثة: جار له حق واحد، وجار له حقان، وجار له ثلاثة حقوق. فالجار الذي له ثلاثة حقوق الجار المسلم ذو الرحم فله حق الجوار وحق الإسلام وحق الرحم، وأما الذي له حقان فالجار المسلم له حق الجوار وحق الإسلام، وأما الذي له حق واحد فالجار المشرك"، فانظر كيف أثبت للمشرك حقاً بمجرد الجوار، وقد قال ﷺ: "أحسن مجاورة من جاورك تكن مسلماً"، وقال النبي ﷺ: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، وقال ﷺ: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره"، وقال ﷺ: "لا يؤمن عبد حتى يأمن جاره بوائقه"، وقال ﷺ: "أول خصمين يوم القيامة جاران"، وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا أنت رميت كلب جارك فقد آذيته"، ويروى أن رجلاً جاء إلى ابن مسعود رضي الله عنه فقال له: إن لي جاراً يؤذيني ويشتمني ويضيق علي، فقال: اذهب فإن هو عصى الله فيك فأطع الله فيه. وقيل لرسول الله ﷺ: "إن فلانة تصوم النهار وتقوم الليل وتؤذي جيرانها فقال ﷺ: "هي في النار"، وجاء رجل إليه عليه السلام يشكو جاره فقال له النبي ﷺ: "اصبر" ثم قال له في الثالثة أو الرابعة: "اطرح متاعك في الطريق" قال:فجعل الناس يمرون به ويقولون ما لك? فيقال آذاه جاره قال فجعلوا يقولون: لعنه الله، فجاءه جاره فقال له رد متاعك فوالله لا أعود وروى الزهري: أن رجلاً أتى النبي عليه السلام فجعل يشكو جاره، فأمره النبي ﷺ أن ينادي على باب المسجد: "ألا إن أربعين داراً جار"، قال الزهري: أربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأربعون هكذا وأومأ إلى أربع جهات. وقال عليه السلام : "اليمن والشؤم في المرأة والمسكن والفرس، فيمن المرأة خفة مهرها ويسر نكاحها وحسن خلقها، وشؤمها غلاء مهرها وعسر نكاحها وسوء خلقها. ويمن المسكن سعته وحسن جوار أهله. وشؤمه ضيقه وسوء جوار أهله، ويمن الفرس ذله وحسن خلقه وشؤمه صعوبته وسوء خلقه".
    واعلم أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط بل احتمال الأذى، فإن الجار أيضاً قد كف أذاه فليس في ذلك قضاء حق، ولا يكفي احتمال الذى بل لا بد من الرفق وإسداء الخير والمعروف، إذ يقال إن الجار الفقير يتعلق بجاره الغني يوم القيامة فيقول: يا رب سل هذا لم منعني معروفه وسد بابه دوني?.
    وبلغ ابن المقفع أن جاراً له يبيع داره في دين ركبه وكان يجلس في ظل داره، فقال: ما قمت إذاً بحرمة ظل داره إن باعها معدماً فدفع إليه ثمن الدار وقال: لا تبعها.
    وشكا بعضهم كثرة الفأر في داره فقيل له: لو اقتنيت هراً? فقال: أخشى أن يسمع الفأر صوت الهر فيهرب إلى دور الجيران فأكون قد أحببت لهم ما لا أحب لنفسي.
    وجملة حق الجار: أن يبدأه بالسلام، ولا يطيل معه الكلام، ولا يكثر عن حاله السؤال، ويعوده في المرض ويعزيه في المصيبة، ويقوم معه في العزاء، ويهنئه في الفرح، ويظهر الشركة في السرور معه، ويصفح عن زلاته، ولا يتطلع من السطح إلى عوراته، ولا يضايقه في وضع الجذع على جداره، ولا في مصب الماء في ميزابه، ولا في مطرح التراب في فنائه، ولا يضيق طرقه إلى الدار، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف له من عوراته، وينعشه من صرعته إذا نابته نائبة، ولا يغفل عن ملاحظة داره عند غيبته، ولا يسمع عليه كلاماً، ويغض بصره عن حرمته، ولا يديم النظر إلى خادمته، ويتلطف بولده في كلمته، ويرشده إلى ما يجهله من أمر دينه ودنياه. هذا إلى جملة التي ذكرناها لعامة المسلمين، وقد قال ﷺ: "أتدرون ما حق الجار? إن استعان أعنته، وإن استنصرك نصرته، وإن استقرضك أقرضته، وإن افتقر عدت عليه، وإن مرض عدته، وإن مات تبعت جنازته، وإن أصابه خير هنأته، وإن أصابته مصيبة عزيته، ولا تستعلي عليه بالبناء فتحجب عنه الريح إلا بإذنه، وإذا اشتريت فاكهة فاهد له، فإن لم تفعل فأدخلها سراً ولا يخرج بها ولدك ليغيظ بها ولده، ولا تؤذه بقتار قدرك إلا أن تغرف له منها"، ثم قال: "أتدرون ما حق الجار? والذي نفسي بيده لا يبلغ حق الجار إلا من رحمه الله"، هكذا رواه عمر بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ، قال مجاهد: كنت عند عبد الله بن عمر وغلام له يسلخ شاة، فقال: يا غلام إذا سلخت فابدأ بجارنا اليهودي، حتى قال ذلك مراراً فقال له: لم تقول هذا? فقال: إن رسول الله ﷺ لم يزل يوصينا بالجار حتى خشينا أنه سيورثه وقال هشام: كان الحسن لا يرى بأساً أن تطعم الجار اليهودي والنصراني من أضحيتك، وقال أبو ذر رضي الله عنه: أوصاني خليلي ﷺ وقال: "إذا طبخت قدراً فأكثر ماءها، ثم انظر بعض أهل بيت في جيرانك فاغرف لهم منها"، وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت يا رسول الله إن لي جارين أحدهما مقبل على بابه والآخر نائم ببابه عني، وربما كان الذي عندي لا يسعهما فأيهما أعظم حقاً? فقال: "المقبل عليك ببابه" ورأى الصديق ولده عبد الرحمن وهو يناصي جاراً له، فقال: لا تناص جارك، فإن هذا يبقى والناس يذهبون. وقال الحسن بن عيسى النيسابوري: سألت عبد الله بن المبارك فقلت: الرجل المجاور يأتيني فيشكو غلامي أنه أتى إليه أمراً والغلام ينكره، فأكره أن أضربه ولعله بريء وأكره أن أدعه فيجد علي جاري، فكيف أصنع? قال: إن غلامك لعله أن يحدث حدثاً يستوجب فيه الأدب فاحفظه عليه، فإذا شكاه جارك فأدبه على ذلك الحدث، فتكون قد أرضيت جارك وأدبته على ذلك الحدث، وهذا تلطف في الجمع بين الحقين.
    وقالت عائشة رضي الله عنها: خلال المكارم عشر تكون في الرجل ولا تكون في أبيه، وتكون في العبد ولا تكون في سيده، يقسمها الله تعالى لمن أحب: صدق الحديث، وصدق الناس، وإعطاء السائل، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، وحفظ الأمانة، والتذمم للجار، والتذمم للصاحب، وقرى الضيف، ورأسهن الحياء.
    وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: "يا معشر المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة"، قال ﷺ: "إن من سعادة المرء المسلم: المسكن الواسع والجار الصالح والمركب الهني"، وقال عبد الله: قال رجل: يا رسول الله، كيف لي أن أعلم إذا أحسنت أو أسأت، قال: "إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت فقد أسأت"، وقال جابر رضي الله عنه قال النبي ﷺ: "من كان له جار في حائط أو شريك فلا يبعه حتى يعرضه عليه" وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "قضى رسول الله ﷺ أن الجار يضع جذعه في حائط جاره شاء أم أبى". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قال رسول الله ﷺ: "لا يمنعن أحدكم جاره أن يضع خشبة في جداره" وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول:ما لي أراكم عنها معرضين، والله لأرمينها بين أكنافهم. وقد ذهب بعض العلماء إلى وجوب ذلك. وقال ﷺ: "من أراد الله به خيراً عسله" قيل: وما عسله? قال: "يحببه إلى جيرانه".
    حقوق الأقارب الرحم:
    قال رسول الله ﷺ: "يقول الله تعالى: أنا الرحمن وهذه الرحم لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته"، وقال ﷺ: "من سره أن ينسأ له في أثره ويوسع عليه في رزقه فليصل رحمه"، وفي رواية أخرى: "من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه" وقيل لرسول الله ﷺ: أي الناس أفضل? قال: "أتقاهم لله وأوصلهم لرحمه، وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر"، وقال أبو ذر رضي الله عنه: "أوصاني خليلي عليه السلام بصلة الرحم وإن أدبرت وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً"، وقال ﷺ: "إن الرحم معلقة بالعرش، وليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل إذا انقطعت رحمه وصلها"، وقال عليه السلام: "إن أعجل الطاعة ثواباً صلة الرحم، حتى إن أهل البيت ليكونون فجاراً، فتنموا أموالهم ويكثر عددهم إذا وصلوا أرحامهم". وقال زيد بن أسلم: لما خرج رسول الله ﷺ إلى مكة عرض له رجل فقال: إن كنت تريد النساء البيض والنوق الأدم فعليك ببني مدلج، فقال عليه السلام: "إن الله قد منعني من بني مدلج بصلتهم الرحم"، وقالت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: قدمت علي أمي، فقلت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة أفأصلها? قال: "نعم". وفي رواية: أفأعطيها? قال: "نعم صليها". وقال عليه السلام: "الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذي الرحم اثنتان"، ولما أراد أبو طلحة أن يتصدق بحائط كان له يعجبه عملاً بقوله تعالى: "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" قال: يا رسول الله، هو في سبيل الله، وللفقراء والمساكين فقال عليه السلام: "وجب أجرك على الله قسمه في أقاربك"، وقال عليه السلام: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح"، وهو في معنى قوله: "أفضل الفضائل أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتصفح عمن ظلمك" وروي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عماله: مروا الأقارب أن يتزاوروا ولا يتجاوروا، وإنما قال ذلك لأن التجاور يورث التزاحم على الحقوق، وربما يورث الوحشة وقطيعة الرحم.
    حقوق الوالدين والولد
    لا يخفى أنه إذا تأكد حق القرابة والرحم فأخص الأرحام وأمسها الولادة، فيتضاعف تأكد الحق فيها. وقد قال ﷺ: "لن يجزي ولد والده حتى يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه"، وقد قال ﷺ: "بر الوالدين أفضل من الصلاة والصدقة والصوم والحج والعمرة والجهاد في سبيل الله"، وقد قال ﷺ: من أصبح مريضاً لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، ومن أمسى فمثل ذلك، وإن كان واحداً فواحداً، وإن ظلماً وإن ظلماً وإن ظلماً. ومن أصبح مسخطاً لأبويه أصبح له بابان مفتوحان إلى النار، ومن أمسى مثل ذلك، وإن كان واحداً فواحداً، وإن ظلماً وإن ظلماً وإن ظلماً"، وقال ﷺ: "إن الجنة يوجد ريحها من مسيرة خمسمائة عام، ولا يجد ريحها عاق ولا قاطع رحم"، وقال ﷺ: "بر أمك وأباك وأختك وأخاك، ثم أدناك فأدناك".
    ويروى أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام: يا موسى، إنه من بر والديه وعقني كتبته باراً، ومن برني وعق والديه كتبته عاقاً.
    وقيل: لما دخل يعقوب على يوسف عليهما السلام لم يقم له: فأوحى الله إليه: أتتعاظم أن تقوم لأبيك، وعزتي وجلالي لا أخرجت من صلبك نبياً.
    وقال ﷺ: "ما على أحد إذا أراد أن يتصدق بصدقة أن يجعلها لوالديه إذا كانا مسلمين فيكون لوالديه أجرها ويكون له مثل أجورهما من غير أن ينقص من أجورهما شيء"، وقال مالك بن ربيعة: بينما نحن عند رسول الله ﷺ إذ جاءه رجل من بني سلمة فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من بر أبوي شيء أبرهما بعد وفاتهما? قال: "نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما"، وقال ﷺ: "إن من أبر البر أن يصل الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي الأب"، وقال ﷺ: "بر الوالدة على الولد ضعفان"، وقال ﷺ: "دعوة الوالدة أسرع إجابة. قيل: يا رسول الله،ولم ذاك? قال: هي أرحم من الأب ودعوة الرحم لا تسقط".
    وسأله رجل فقال: يا رسول الله من أبر? فقال: "بر والديك"، فقال: ليس لي والدان، فقال: "بر ولدك، كما أن لوالديك عليك حقاً كذلك لولدك عليك حق"، وقال ﷺ: "رحم الله والداً أعان ولده على بره"، أي لم يحمله على العقوق بسوء عمله. وقال ﷺ: "ساووا بين أولادكم في العطية" وقد قيل: " ولدك ريحانتك تشمها سبعاً وخادمك سبعاً، ثم هو عدوك أو شريكك" وقال أنس رضي الله عنه: قال النبي ﷺ: "الغلام يعق عنه يوم السابع ويسمى ويماط عنه الأذى؛ فإذا بلغ ست سنين أدب، فإذا بلغ تسع سنين عزل فراشه، فإذا بلغ ثلاث عشرة سنة ضرب على الصلاة، فإذا بلغ ست عشرة سنة زوجه أبوه؛ ثم أخذ بيده وقال: قد أدبتك وعلمتك وأنكحتك، أعوذ بالله من فتنتك في الدنيا وعذابك في الآخرة"، وقال ﷺ: "من حق الوالد على الولد أن يحسن أدبه ويحسن اسمه".
    وقال عليه الصلاة والسلام: "كل غلام رهين أو رهينة بعقيقته تذبح عنه يوم السابع ويحلق رأسه"، وقال قتادة: إذا ذبحت العقيقة أخذت صوفة منها فاستقبلت بها أوداجها ثم توضع على يافوخ الصبي حتى يسيل عنه مثل الخيط ثم يغسل رأسه ويحلق بعد.
    وجاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فشكا إليه بعض ولده، فقال: هل دعوت عليه? قال: نعم. قال: أنت أفسدته.
    ويستحب الرفق بالولد: رأى الأقرع بن حابس النبي ﷺ وهو يقبل وله الحسن، فقال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم! فقال عليه الصلاة والسلام: "إن من لا يرحم لا يرحم"، وقالت عائشة رضي الله عنها: قال لي رسول الله ﷺ: "اغسلي وجه أسامة"، فجعلت أغسله وأنا أنفة، فضرب يدي ثم أخذه فغسل وجهه ثم قبله ثم قال: "قد أحسن بنا إذ لم يكن جارية"، وتعثر الحسن. والنبي ﷺ على منبره. فنزل فحمله وقرأ قوله تعالى: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة" وقال عبد الله بن شداد: بينما رسول الله ﷺ يصلي بالناس، إذ جاءه الحسين فركب عنقه وهو ساجد، فأطال السجود بالناس حتى ظنوا أنه قد حدث أمر، فلما قضى صلاته قالوا: قد أطلت السجود يا رسول الله حتى ظننا أنه قد حدث أمراً! فقال: "إن ابني قد ارتحلني فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته"، وفي ذلك فوائد: إحداها القرب من الله تعالى فإن العبد أقرب ما يكون من الله تعالى إذا كان ساجداً، وفيه الرفق بالولد والبر، وتعليم لأمته. وقال ﷺ: "ريح الولد من ريح الجنة".
    وقال يزيد بن معاوية: أرسل أبي إلى الأحنف بن قيس، فلما وصل إليه قال له: يا أبا بحر، ما تقول في الولد? قال: يا أمير المؤمنين، ثمار قلوبنا، وعماد ظهورنا، ونحن لهم أرض ذليلة، وسماء ظليلة، وبهم نصول على كل جليلة؛ فإن طلبوا فأعطهم، وإن غضبوا فأرضهم، يمنحوك ودهم ويحبوك جهدهم، ولا تكن عليهم ثقلاً ثقيلاً، فيملوا حياتك ويودوا وفاتك ويكرهوا قربك؛ فقال له معاوية: لله أنت يا أحنف، لقد دخلت علي وأنا مملوء غضباً وغيظاً على يزيد. فلما خرج الأحنف من عنده رضي عن يزيد وبعث إليه بمائتي ألف درهم ومائتي ثوب؛ فأرسل يزيد إلى الأحنف بمائة ألف درهم ومائة ثوب فقاسمه إياها على الشطر.
    فهذه هي الأخبار الدالة على تأكد حق الوالدين وكيفية القيام بحقهما تعرف مما ذكرنا في حق الأخوة، فإن هذه الرابطة آكد من الأخوة بل يزيد ههنا أمران.
    أحدهما: أن أكثر العلماء على أن طاعة الأبوين واجبة في الشبهات وإن لم تجب في الحرام المحض، حتى إذا كانا يتنغصان بانفرادك عنهما بالطعام فعليك أن تأكل معهما، لأن ترك الشبهة ورع، ورضا الوالدين حتم. وكذلك ليس لك أن تسافر في مباح أو نافلة إلا بإذنهما، والمبادرة إلى الحج الذي هو فرض الإسلام نفل، لأنه على التأخير، والخروج لطلب العلم نفل إلا إذا كنت تطلب علم الفرض من الصلاة والصوم ولم يكن في بلدك من يعلمك، وذلك كمن يسلم ابتداء في بلد ليس فيها من يعلمه شرع الإسلام فعليه الهجرة ولا يتقيد بحق الوالدين.
    قال أبو سعيد الخدري: هاجر رجل إلى رسول الله ﷺ من اليمن وأراد الجهاد، فقال عليه السلام: "هل باليمن أبواك" قال: نعم، قال: "هل أذنا لك?" قال: لا، فقال عليه السلام: " فارجع إلى أبويك فاستأذنهما، فإن فعلا فجاهد، وإلا فبرهما ما استطعت، فإن ذلك خير ما تلقى الله به بعد التوحيد"، وجاء آخر إليه ﷺ ليستشيره في الغزو فقال: "ألك والدة?" قال: نعم. قال: "فألزمها فإن الجنة عند رجليها". وجاء آخر يطلب البيعة على الهجرة وقال: ما جئتك حتى أبكيت والدي، فقال: "ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما".
    وقال ﷺ: "حق كبير الإخوة على صغيرهم كحق الوالد على ولده".
    وقال عليه السلام: "إذا استصعبت على أحدكم دابته أو ساء خلق زوجته أو أحد من أهل بيته فليؤذن في أذنه".
    حقوق المملوك
    اعلم أن ملك النكاح قد سبقت حقوقه في آداب النكاح، فأما ملك اليمين فهو أيضاً يقتضي حقوقاً في المعاشرة لا بد من مراعاتها، فقد كان من آخر ما وصى به رسول الله ﷺ أن قال: "اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فما أحببتم فأمسكوا وما كرهتم فبيعوا، ولا تعذبوا خلق الله فإن الله ملككم إياهم ولو شاء لملكهم إياكم" وقال ﷺ: "للملوك طعامه وكسوته بالمعروف ولا يكلف من العمل ما لا يطيق"، وقال عليه السلام: "لا يدخل الجنة خب ولا متكبر ولا خائن ولا سيئ الملكة"، وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: جاء رجل إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله كم نعفو عن الخادم? فصمت عنه رسول الله ﷺ ثم قال: "اعف عنه في كل يوم سبعين مرة"، وكان عمر رضي الله عنه يذهب إلى العوالي في كل يوم سبت، فإذا وجد عبداً في عمل لا يطقه وضع عنه منه. ويروى عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه رأى رجلاً على دابته وغلامه يسعى خلفه فقال له:يا عبد الله احمله خلفك فإنما هو أخوك روحه مثل روحك فحمله ثم قال: لا يزال العبد يزداد من الله بعداً مل مشى خلفه. وقالت جارية لأبي الدرداء: إني سممتك منذ سنة فما عمل فيك شيئاً فقال: لم فعلت ذلك?فقالت: أردت الراحة منك، فقال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. وقال الزهري: متى قلت للملوك أخزاك الله فهو حر. وقيل للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم? قال: من قيس بن عاصم، قيل: فما بلغ من حلمه? قال: بينما هو جالس في داره إذ أتته خادمة له بسفود عليه شواء فسقط السفود من يدها على ابن فعقره فمات، فدهشت الجارية، فقال: ليس يسكن روع هذه الجارية إلا العتق فقال لها: أنت حرة لا بأس عليك. وكان عون بن عبد الله إذا عصاه غلامه قال: ما أشبهك بمولاك?مولاك يعصي مولاه وأنت تعصي مولاك، فأغضبه يوماً فقال: إنما تريد أن أضربك اذهب فأنت حر. وكان عند ميمون بن مهران ضيف فاستعجل على جاريته بالعشاء فجاءت مسرعة ومعها قصعة مملوءة، فعثرت وأراقتها على رأس سيدها ميمون؛ فقال: يا جارية أحرقتني، قالت: يا معلم الخير ومؤدب الناس ارجع إلى ما قال الله تعالى قال: وما قال الله تعالى? قلت: قال: "والكاظمين الغيظ" قال: قد كظمت غيظي، قالت: "والعافين عن الناس" قال: قد عفوت عنك، قالت: زد فإن الله تعالى يقول: "والله يحب المحسنين" قال: أنت حرة لوجه الله تعالى. وقال ابن المنكدر: إن رجلاً من أصحاب رسول الله ﷺ ضرب عبداً له فجعل العبد يقول: أسألك بالله أسألك بوجه الله، فلم يعفه فسمع رسول الله ﷺ صياح العبد فانطلق إليه، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه سلم: أمسك يده فقال رسول الله: "سألك بوجه الله فلم تعفه فلما رأيتني أمسكت يدك" قال: فإنه حر لوجه الله يا رسول الله، فقال: "لو لم تفعل لسفعت وجهك النار"، وقال: ﷺ: "العبد إذا نصح لسيده وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين"، ولما أعتق أبو رافع بكى وقال: كان لي أجران فذهب أحدهما. وقال ﷺ: "عرض علي أول ثلاثة يدخلون الجنة وأول ثلاثة يدخلون النار، فأما أول ثلاثة يدخلون الجنة: فالشهيد، وعبد مملوك أحسن عبادة ربه ونصح لسيده، وعفيف متعفف ذو عيال، وأول ثلاثة يدخلون النار: أمير متسلط؛ وذو ثروة لا يعطي حق الله، وفقير فجور"، وعن مسعود الأنصاري قال: بينا أنا أضرب غلاماً إذ سمعت صوتاً من خلفي "اعلم يا أبا مسعود" مرتين فالتفت فإذا رسول الله ﷺ فألقيت السوط من يدي فقال: والله لله أقدر عليك منك على هذا"، وقال ﷺ "إذا ابتاع أحدكم الخادم فليكن أول شيء يطعمه الحلو فإنه أطيب لنفسه"، رواه معاز. وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فليجلسه وليأكل معه فإن لم يفعل فليناوله لقمة"، وفي رواية: "إذا كفى أحدكم مملوكه صنعة طعامه؛ فكفاه حره ومؤنته وقربه إليه فليجلسه وليأكل معه، فإن لم يفعل فليناوله أو ليأخذ أكلة فليروغها. - وأشار بيده.- وليضعها في يده وليقل: كل هذه". ودخل على سلمان رجل وهو يعجن فقال: يا أبا عبد الله ما هذا? فقال: بعثنا الخادمة في شغل فكرهنا
    أن نجمع عليه عملين. وقال ﷺ: "من كانت عنده جارية فصانها وأحسن إليها ثم أعتقها وتزوجها فذلك له أجران"، وقد قال ﷺ:"كل راع وكلكم مسؤول عن رعيته".
    فجملة حق المملوك أن يشركه في طعمته وكسوته، ولا يكلفه فوق طاقته، ولا ينظر إليه بعين الكبر والازدراء وأن يعفو عن زلته ويتفكر عند غضبه عليه بهفوته أو بجنايته في معاصيه وجنايته على حق الله تعالى وتقصيره في طاعته مع أن قدرة الله عليه فوق قدرته. وروى فضالة بن عبيد أن النبي ﷺ قال: "ثلاثة لا يسأل عنهم: رجل فارق الجماعة، ورجل عصى إمامه فمات عاصياً فلا يسأل عنهما، وامرأة غاب عنها زوجها وقد كفاها مؤنة الدنيا فتبرجت بعده فلا يسأل عنها. وثلاثة لا يسأل عنهم: رجل ينازع الله رداءه ورداؤه الكبرياء وإزاره العز، ورجل في شك من الله، وقنوط من رحمة الله".
    =======
    كتاب آداب العزلة
    وهو الكتاب السادس من ربع العادات من كتب إحياء علوم الدين
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي أعظم النعمة على خيرة خلقه وصفوته بأن صرف هممهم إلى مؤانسته،وأجزل حظهم من التلذذ بمشاهدة آلائه وعظمته،ورّوح أسرارهم بمناجاته وملاطفته،وحقر في قلوبهم النظر الى متاع الدنيا وزهرتها حتى اغتبط بعزلته كل من طويت الحجب عن مجاري فكرته فاستأنس بمطالعة سبحات وجهه تعالى في خلوته،واستوحش بذلك عن الأنس بالأنس وإن كان من أخص خاصته و الصلاة على سيدنا محمد سيد أنبيائه وخيرته وعلى آله وصحابته سادة الحق وأئمته .
    أما بعد:فإن للناس اختلافاً كثيراً في العزلة والمخالطة وتفضيل إحداهما على الأخرى،ومع أن كل واحدة منهما لا تنفك عن غوائل تنفر عنها وفوائد تدعو الى إليها،وميل أكثر العباد والزهاد الى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة وما ذكرناه في كتاب الصحبة من فضيلة المخالطة و المؤاخاة و المؤالفة يكاد يناقض ما مال إليه الأكثرون من اختيار الإستيحاش و الخلوة،فكشف الغطاء عن الحق في ذلك مهم.ويحصل ذلك برسم بابين " الباب الأول " في نقل المذاهب و الحجج فيها " الباب الثاني " في كشف الغطاء عن الحق بحصر الفوائد و الغوائل .
    الباب الأول
    في نقل المذاهب والأقاويل
    وذكر حجج الفريقين في ذلك
    أما المذاهب فقد اختلف فيها وظهر هذا الاختلاف بين التابعين.فذهب الى اختيار العزلة وتفضيلها على المخالطة:سفيان الثوري،وابراهيم بن أدهم،وداود الطائي،وفضيل بن عياض،وسليمان الخوّاص،ويوسف بن أسباط وحذيفة المرعشي،وبشر الحافي .
    وقال أكثر التابعين باستحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان و التألف والتحبب إلى المؤمنين والإستعانة بهم في الدين تعاونا على البر و التقوى ومال الى هذا:سعيد بن المسيب،والشعبي،وابن أبي ليلى،وهشام بن عروة،وابن شبرمة،وشريح،وشريك بن عبد الله،و ابن عيينة، وابن المبارك،و الشافعي،وأحمد بن حنبل،وجماعة.
    و المأثور عن العلماء من الكلمات ينقسم الى كلمات مطلقة تدل إلى أحد الرأيين،والى كلمات مقرونة بما يشير الى علة الميل.فلنقل الآن مطلقات تلك الكلمات لنبين المذاهب فيها،وما هو مقرون بذكر العلة نورده عند التعرض للغوائل و الفوائد،فنقول؛قد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال:خذو بحظكم من العزلة.وقال ابن سيرين:العزلة عبادة.وقال الفضيل:كفى بالله محباً وبالقرآن مؤنساً وبالموت واعظاً.وقيل:اتخذ الله صاحباً ودع الناس جانباً.وقال أبو ربيع الزاهد لداود الطائي:عظني؛قال:صم عن الدنيا واجعل فطرك الآخرة وفرّ من الناس فرارك من الأسد.وقال الحسن رحمه الله:كلمات أحفظهن من التوراة؛قنع ابن آدم فاستغنى،اعتزل الناس فسلم،ترك الشهوات فصار حراً،وترك الحسد فظهرت مروءته،صبر قليلاً فتمتع طويلاً.وقال وهيب ابن الورد.بلغنا أن الحكمة عشرة أجزاء،تسعة منها في الصمت و العاشر في عزلة الناس.وقال يوسف بن مسلم لعلي بن بكار:ما أصبرك على الوحدة? - وقد كان لزم البيت - فقال:كنت وأنا شاب أصبر على أكثر من هذا؛كنت أجالس الناس ولا أكلمهم.وقال سفيان الثوري:هذا وقت السكوت وملازمة البيوت.وقال بعضهم:كنت في سفينة ومعنا شاب من العلوية فمكث معنا سبعاً لا نسمع له كلاماً؛فقلنا له:يا هذا قد جمعنا الله وإياك منذ سبع ولا نراك تخالطنا و لا تكلمنا،فأنشأ يقول : قليل الهـم لا ولـد يمـوت ولا أمـر يحـاذره يفـوت
    قضى وطر الصبا وأفاد علماً فغايته التفرّد و السـكـوت
    وقال إبراهيم النخعي لرجل تفقه ثم اعتزل،وكذا قال الربيع بن خثيم.وقيل كان مالك بن أنس يشهد الجنائز ويعود المرضى ويعطي الإخوان حقوقهم فترك ذلك واحداً واحداً حتى تركها كلها،وكان يقول:لا يتهيأ للمرء أن يخبر كل عذر له.وقيل لعمر بن عبد العزيز:لو تفرغت لنا?فقال:ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله تعالى وقال الفضيل:إني لأجد للرجل عندي يداً:إذا لقيني أن لايسلم علي،وإذا مرضت أن لايعودني.وقال أبو سليمان الداراني،بينما الربيع ابن خثيم جالس على باب داره إذ جاءه حجر فصك جهته فشجه،فجعل يمسح الدم ويقول:لقد وعظت يا ربيع،فقام ودخل داره فما جلس بعد ذلك على باب داره حتى أخرجت جنازته.وكان سعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد لزما بيوتهما بالعقيق فلم يكونا يأتيا المدينة لجمعة ولا لغيرها حتى ماتا بالعقيق.وقال يوسف بن إسباط:سمعت سفيان الثوري يقول،والله الذي لا إله إلا هو لقد حلت العزلة وقال بشر بن عبد الله:أقل من معرفة الناس فإنك لا تدري ما يكون يوم القيامة،فإن تكن فضيحة كان من يعرفك قليلاً.ودخل بعض الأمراء على حاتم الأصم فقال له:ألك حاجة?قال نعم،قال:وما هي?قال أن لا تراني ولا أراك ولا تعرفني.وقال رجل لسهل:أريد أن اصحبك،فقال:إذا مات أحدنا فمن يصحب الآخر?قال:الله قال:فليصحبه الآن.وقيل للفضيل:إن علياً ابنك يقول لوددت أني في مكان أرى الناس ولايروني؛فبكى الفضيل وقال:ياويح على أفلاً أتمها فقال لا أراهم ولا يروني?وقال الفضيل أيضاً:من سخافة عقل الرجل كثرة معارفه.وقال ابن عباس رضي الله عنهما:أفضل المجالس مجلس في قعر بيتك لا ترى ولا ترى.فهذه أقاويل المائلين الى العزلة .
    ذكر حجج المائلين إلى المخالطة ووجه ضعفها
    احتج هؤلاء بقوله تعالى"ولاتكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا"الآية وبقوله تعالى"فألف بين قلوبكم" أمتن على الناس بالسبب المؤلف وهذا ضعيف؛ لأن المراد به تفرّق الآراء واختلاف المذاهب في معاني كتاب الله وأصول الشريعة.والمراد بالألفة نزع الغوائل من الصدور وهي الأسباب المثيرة للفتن المحركة للخصومات،والعزلة لا تنافى ذلك .
    واحتجوا بقوله صلى اللّه عليه وسلم "المؤمن ألف مألوف ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف" وهذا ضعيف لأنه إشارة إلى مذمة سوء الخلق تمتنع بسببه المؤالفة،ولا يدخل تحته الحسن الخلق الذي إن خالط ألف وألف ولكنه ترك المخالطة اشتغالا بنفسه وطلبا للسلامة من غيره .
    واحتجوا بقوله ﷺ"من فارق الجماعة شبرا خلع ربقة الإسلام من عنقه" وقال
    "من فارق الجماعة فمات فميتته جاهلية "وبقوله ﷺ"من شق عصا المسلمين والمسلمون في إسلام دامج فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه" وهذا ضعيف لأن المراد به الجماعة التي اتفقت آراؤهم على إمام بعقد البيعة فالخروج عليهم بغى،وذلك مخالفة بالرأي وخروج عليهم وذلك محظور لاضطرار الخلق إلى إمام مطاع يجمع رأيهم ولا يكون ذلك إلا بالبيعة من الأكثر،فالمخالفة تشويش مثير للفتنة فليس في هذا تعرض للعزلة .
    واحتجوا بنهيه ﷺ عن الهجر فوق ثلاث إذ قال"من هجر أخاه فوق ثلاث فمات دخل النار"وقال عليه السلام"لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث والسابق بالصلح يدخل الجنة"وقال"من هجر أخاه سنة فهو كسافك دمه" قالوا والعزلة هجره بالكلية.وهذا ضعيف لان المراد به الغضب على الناس واللجاج فيه بقطع الكلام والسلام والمخالطة المعتادة،فلا يدخل فيه ترك المخالطة أصلا من غير غضب.مع أن الهجر فوق ثلاث جائز في موضعين؛أحدهما:أن يرى فيه إصلاحا للهجور في الزيادة.الثاني.أن يرى لنفسه سلامة فيه.والنهي وان كان عاما فهو محمول على ما وراء الموضعين المخصوصين بدليل ما روى عن عائشة رضى اللّه عنها.أن النبي ﷺ هجرها ذا الحجة والمحرّم وبعض صفر.وروى عن عمر :أنه ﷺ اعتزل نساءه وآلى منهن شهرا وصعد إلى غرفة له وهى خزانته فلبث تسعا وعشرين يوما؛ فلما نزل قيل له: إنك كنت فيها تسعا وعشرين،فقال"الشهر قد يكون تسعا وعشرين"وروت عائشة رضى الله عنها:أن النبي ﷺ قال: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام إلا أن يكون ممن لا تؤمن بوائقه"فهذا صريح في التخصيص وعلى هذا ينزل قول الحسن رحمه اللّ-ه حيث قال:هجران الأحمق قربة إلى اللّه فإن ذلك يدوم إلى الموت إذ الحماقة لا ينتظر علاجها.وذكر عند محمد بن عمر الواقدي رجل هجر رجلا حتى مات؛ فقال:هذا شئ قدم تقدّم فيه قوم؛سعد بن أبي وقاص كان مهاجرا لعمار بن ياسر حتى مات،وعثمان بن عفان كان مهاجرا لعبد الرحمن بن عوف وعائشة كانت مهاجرة لحفصة. وكان طاوس مهاجرا لوهب بن منبه حتى ماتا.وكل ذلك يحمل على رؤيتهم سلامتهم في المهاجرة.واحتجوا بما روى:أن رجلا أتى الجبل ليتعبد فيه فجئ به الى رسول الله ﷺ فقال"لا تفعل أنت ولا أحد منكم لصبر أحدكم في بعض موطن الإسلام خير له من عبادة أحدكم وحده أربعين عاما"والظاهر أنّ هذا إنما كان لما فيه من ترك الجهاد مع شدة وجوبة في ابتداء الإسلام بدليل ما روى عن أبى هريرة رضى اللّه عنه أنه قال:غزونا مع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمررنا بشعب فيه عيينة طيبة الماء؛فقال واحد من القوم:لو اعتزلت الناس في هذا الشعب ولن أفعل ذلك حتى أذكره لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال صلى اللّه عليه وسلم"لا تفعل فان مقام أحدكم في سبيل اللّه خير من صلاته في أهله ستين عاما ألا تحبون أن يغفر اللّه لكم وتدخلون الجنة اغزوا في سبيل اللّه فانه من قاتل في سبيل اللّه فواق ناقة أدخله اللّه الجنة.
    واحتجوا بما روى معاذ بن جبل أنه صلى اللّه عليه وسلم قال"ان الشيطان ذئب الإنسان كذئب الغنم يأخذ القاصية والناحية والشاردة وإياكم والشعاب وعليكم بالعامة والجماعة والمساجد"وهذا إنما أراد به من اعتزل قبل تمام العلم،وسيأتي بيان ذلك وأن ذلك ينهى عنه إلا لضرورة.
    ذكر حجج المائلين إلى تفضيل العزلة
    احتجوا بقوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام"وأعتزلكم وما تدعون من دون الله وأدعو ربي"الآية ثم قال تعالى"فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحق ويعقوب وكلاً جعلنا نبياً"إشارة إلى أن ذلك ببركة العزلة.وهذا ضعيف لأن مخالطة الكفار لا فائدة فيها إلا دعوتهم الى الدين.وعند اليأس من إجاباتهم فلا وجه إلا هجرهم وإنما الكلام في مخالطة المسلمين وما فيها من بركة لما روي أنه قيل:يا رسول الله اللّه الوضوء من جر مخمن أحب إليك أو من هذه المطاهر التي يتطهر منها الناس? فقال: "بل هذه المطاهر التماساً لبركة أيدي المسلمين"وروي أنه ﷺ لما طاف بالبيت عدل الى زمزم ليشرب منها؛فإذا التمر المنقع في حياض الأدمة قد مغثه الناس بأيديهم وهم يتناولون منه ويشربون،فاستسقى منه وقال: "أسقوني" فقال العباس: "إن هذا النبيذ شراب قد مغث وخيض بالأيدي أفلا آتيك بشراب أنظف من هذا من جر مخمر في البيت? فقال: "أسقوني من هذا الذي يشرب منه الناس ألتمس بركة أيدي المسلمين"فشرب منه فإذن كيف يستدل باعتزال الكفار والأصنام على اعتزال المسلمين مع كثرة البركة فيهم? واحتجوا أيضاً بقول موسى عليه السلام: "وإن لم تؤمنوا لى فاعتزلون" وأنه فزع إلى العزلة عند اليأس منهم وقال تعالى في أصحاب الكهف"وإذا اعتزلتموهم وما يعبدون إلا اللّه فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته"أمرهم بالعزلة.وقد اعتزل بينا صلى اللّه عليه وسلم قريشاً لما آذوه وجفوه ودخل الشعب وامر أصحابه باعتزالهم والهجرة الى أرض الحبشة،ثم تلاحقوا به الى المدينة بعد أن أعلى اللّه كلمته.وهذا أيضاً اعتزال عن الكفار.وأهل الكهف لم يعتزل بعضهم بعضاً وهم مؤمنون وإنما اعتزلوا الكفار،وإنما النظر في العزلة من المسلمين.
    واحتجوا بقوله صلى اللّه عليه وآله وسلم لعبد اللّه بن عامر الجهني لما قال:يارسول اللّه ما المناجاة?قال"ليسعك بيتك وأمسك عليك لسانك وآبك على خطيئتك"وروي أنه قيل له صلى اللّه عليه وسلم:أي الناس أفضل?قال"مؤمن مجاهد بنفسه وماله في سبيل اللّه تعالى"قيل:ثم من?قال"رجل معتزل في شعب من الشعاب يعبد ربه ويدع الناس من شرّه"وقال صلى اللّه عليه وسلم"إن اللّه يحب العبد التقي النقي الخفي".
    وفي الإحتجاج بهذه الأحاديث نظر،فأما قوله لعبد اللّه بن عامر فلا يمكن تنزيله إلا على ما عرفه صلى اللّه عليه وسلم بنور النبوة من حاله،وإن لزوم البيت كان أليق به وأسلم له من المخالطة،فإنه لم يأمر جميع الصحابة بذلك،ورب شخص تكون سلامته في العزلة لا في المخالطة كما قد تكون سلامته في القعود في البيت وأن لا يخرج الى الجهاد،وذلك لا يدل على أن ترك الجهاد أفضل.وفي مخالطة الماس مجاهدة ومقاساة ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم"الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"وعلى هذا ينزل قوله عليه السلام"رجل معتزل يعبد ربه ويدع الناس من شره"فهذا إشارة الى شرير بطبعه تتأذى الناس بمخالطته.وقوله"إن اللّه يحب التقي الخفي"إشارة الى إيثار الخمول وتوقي الشهرة.وذلك لا يتعلق بالعزلة فكم من راهب معتزل تعرفه كافة الناس ?وكم من مخالطة خامل لا ذكر له ولا شهرة?فهذا تعرض لأمر لا يتعلق بالعزلة.
    واحتجوا بما روي أنه صلى اللّه عليه وسلم قال لأصحابه"ألا أنبئكم بخير الناس"قالوا:بلا يا رسول اللّه،فأشار بيده نحو المغرب وقال"رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل اللّه ينتظر أن يغير أو يغار عليه ألا أنبئكم بخير الناس بعده?"وأشار بيده نحو الحجاز وقال"رجل في غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويعلم حق اللّه في ماله اعتزل شرور الناس"فإذا ظهر أن هذه الأدلة لا شفاء فيها من الجانبين فلا بد من كشف الغطاء بالتصريح بفوائد العزلة وغوائلها ومقايسة بعضها بالبعض ليتبين الحق فيها .
    الباب الثاني
    في فوائد العزلة وغوائلها وكشف الحق في فضلها
    اعلم أن اختلاف الناس في هذا يضاهي اختلافهم في فضيلة النكاح والعزوبة.وقد ذكرنا أن ذلك يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص بحسب ما فصلناه من آفات النكاح وفوائده، فكذلك القول فيما نحن فيه.فلنذكر أولا فوائد العزلة وهي تنقسم الى فوائد دينية ودنيوية.والدينية تنقسم إلى ما يمكن من تحصيل الطاعات في الخلوة والمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم،وإلى تخلص من إرتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة،كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء.وأما الدنيوية فتنقسم إلى ما يمكن من التحصيل بالخلوة؛كتمكن المحترف في خلوته إلى ما يخلص من محذورات يتعرض لها بالمخالطة،كالنظر إلى زهرة الدنيا وإقبال الخلق عليها وطمعه في الناس وطمع الناس فيه وانكشاف ستر مروءته بالمخالطة والتأذي بسوء خلق الجليس في مرائه أو سوء ظنه أو نميمته أو محاسدته أو التأذي بثقله وتشويه خلقته.وإلى هذا ترجع مجامع فوائد العزلة فالنحصرها في ست فوائد.
    الفائدة الأولى
    التفرّغ للعبادة والفكر والاستئناس بمناجاة اللّه
    تعالى عن مناجاة الخلق، والاشتغال باستكشاف أسرار اللّه تعالى في أمر الدنيا والآخرة وملكوت السموات والأرض
    فإن ذلك يستدعي فراغاً ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة اليه. ولهذا قال بعض الحكماء: لا يتمكن أحد من الخلوة إلا بالتمسك بكتاب الله تعالى. والمتمسكون بكتاب اللّه تعالى هم الذين استراحوا من الدنيا بذكر اللّه الذاكرون اللّه باللّه عاشوا بذكر اللّه وماتوا بذكر اللّه ولقوا اللّه بذكر اللّه.ولا شك في أن هؤلاء تمنعهم المخالطة عن الذكر والفكر فالعزلة أولى بهم.ولذلك كان صلى اللّه عليه وسلم في ابتداء أمره يتبتل في جبل حراء وينعزل إليه حتى قوي فيه نور النبوة فكان الخلق لايحجبونه عن اللّه فكان ببدنه مع الخلق وبقلبه مقبلاً على اللّه تعالى حتى كان الناس يظنون أن أبا بكر خليله.فأخبر النبي صلى اللّه عليه وسلم عن استغراق همه باللّه فقال"لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل اللّه"ولن يسع الجمع بين مخالطة الناس ظاهراً و الإقبال على اللّه سراً إلا قوة النبوة فلا ينبغي أن يغتر كل ضعيف بنفسه فيطمع في ذلك،ولا يبعد أن تنتهي درجة بعض الأولياء إليه.فقد نقل عن الجنيد أنه قال:أنا أكلم اللّه منذ ثلاثين سنة والناس يظنون أني أكلمهم.وهذا إنما يتيسر للمستغرق بحب اللّه استغراقاً لا يبقي لغيره فيه متسع وذلك غير منكر،ففي المشتهرين بحب الخلق من يخالط الناس ببدنه وهو لا يدري ما يقول ولا ما يقال له لفرط عشقه لمحبوبته.بل الذي دهاه ملم يشوّش عليه أمراً من أمور دنياه فقد يستغرقه الهم بحيث يخالط الناس ولا يحس بهم ولا يسمع أصواتهم لشدة استغراقه.وأمر الآخرة أعظم عند العقلاء فلا تستحيل ذلك فيه ولكن الأولى بالأكثرين الاستعانة بالعزلة.ولذك قيل لبعض الحكماء?ما الذي أرادوا بالخلوة واختيار العزلة?فقال:يستدعون بذلك دوام الفكرة وتثبت العلوم في قلوبهم ليحيوا حياة طيبة ويذوقوا حلاوة المعرفة.وقيل لبعض الرهبان:ما أصبرك على الوحدة!فقال:ما أنا وحدي أنا جليس اللّه تعالى إذا شئت أن يناجيني قرأت كتابه وإذا شئت أن أناجيه صليت.وقيل لبعض الحكماء:إلى أي شئ أفضى بكم الزهد والخلوة?فقال:إلى الأنس باللّه.وقال سفيان بن عيينة:لقيت ابراهيم بن أدهم رحمه الله في بلاد الشام فقلت له:يا إبراهيم تركت خراسان?فقال:ما تهنأت بالعيش إلا ههنا أفرّ بديني من شاهق الى شاهق،فمن يراني يقول موسوسأو حمال أو ملاح.وقيل لغزوان الرقاشي:هبك لا تضحك فما يمنعك من مجالسة إخوانك?قال:إني أصيب راحة قلبي في مجالسة من عنده حاجتي.وقيل للحسن يا أبا سعيد:ههنا رجل لم تره قط جالساً إلا وحده خلف سارية.فقال الحسن:إذا رأيتموه فأخبروني به؛فنظروا إليه ذات يوم فقالوا للحسن:هذا الرجل الذي أخبرناك به?وأشاروا إليه؛فمضى إليه الحسن وقال له:يا عبد اللّه أراك قد حببت إليك العزلة فما يمنعك من مجالسة الناس?فقال:فما يمنعك أن تأتي هذا الرجل الذي يقال له الحسن فتجلسإليه?فقال أمر شغلني عن الناس.وعن الحسن:فقال له الحسنوما ذاك الشغل يرحمك الله?فقال:إني أصبح وأمسي بين نعمة وذنب فرأيت أن أشغل نفسي بشكر اللّه تعالى على النعمة والإستغفار من الذنب فقال له الحسن:أنت ياعبد اللّه أفقه عندي من الحسن فالزم ما أنت عليه.وقيل:بينما أويس القرني جالس إذ أتاه هرم بن حيان فقال له أويس:ما جاء بك?قال:جئت لآنس بك،فقال أويس:ما كنت أرى أن أحداً يعرف ربه فيأنس بغيره؛وقال الفضيل:إذا رأيت الليل مقبلاً فرحت به وقلت أخلو بربي،وإذا رأيت الصبح أدركني استرجعت كراهية لفاء الناس وأن يجيئني من يشغلني عن ربي.وقال عبد اللّه بن زيد:طوبى لمن عاش في الدنيا وعاش في الآخرة،قيل له: وكيف ذلك? قال: يناجي اللّه في الدنيا ويجاوره في الآخرة.وقال ذو النون المصري:سرور المؤمن ولذته في الخلوة بمناجاة ربه.وقال مالك بن دينار:من لم يأنس بمحادثة المخلوقين فقد قل علمه وعمي قلبه وضيع عمره.وقال ابن مبارك:ما أحب حال من انقطع الى اللّه تعالى!ويروى عن بعض الصالحين أنه قال:بينما أنا أسير في بعض بلاد الشام إذا أنا بعابد خارج من بعض تلك الجبال فلما نظر إلىي تنحى الى أصل شجرة وتستر بها فقلت:سبحان اللّه تبخل علي بالنظر إليك?فقال:هذا إني أقمت في هذا الجبل دهراً طزيلاً أعالج قلبي في الصبر عن الدنيا وأهلها فطال في ذلك تعبي وفني فيه عمري فسألت اللّه تعالى أن لا يجعل من أيامي في مجاهدة قلبي،فسكنه اللّه
    عن الإضطراب وألفه الوحدة والإنفراد،فلما نظرت إليك خفت أن أقع في الأمر الأول لإغليك عني فإني أعوذ من شرك برب العارفين وحبيب القانتين،ثم صاح:وا غماه من طول المكث في الدنيا،ثم حوّل وجهه عني،ثم نفض يديهوقال:إليك عني يا دنيا لغيري فتزيني وأهلك فغري،ثم قال:سبحان من أذاق قلوب العارفين من لذة الخدمة وحلاوة الإنقطاع إليه ما ألهى قلوبهم عن ذكر الجنان وعن الحور الحسان،وجمع همهم في ذكره قلا شئ ألذعندهم من مناجاته.ثم مضى وهو يقول:قدوس قدوس.فإذاً في الخلوة أنس بذكر اللّه واستكثار من معرفة اللّه وفي مثل ذلك قيل : وإني لأستغشى وما بي غشوة لعل خيالاً منك يلقى خيالـيا
    وأخرج من بين الجلوس لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
    ولذلك قال بعض الحكماء:إنما يستوحش الإنسان من نفسه لخلق ذاته عن الفضيلة فيكثر حينئذ ملافاة الناس ويطرد الوحشة عن نفسه بالكون معهم،فإذا كانت ذاته فاضلة طلب الواحدة ليستعين بها على الفكرة ويستخرج العلم والحكمة.وقد قيل الإستئناس من علامات الإفلاس فإذاً هذه فائدة جزيلة ولكن في حق بعض الخواص ومن يتيسر له بدوام الذكر الأنس باللّه أو بدوام الفكر التحقق في معرفة اللّه فالتجرد له أفضل من كل ما يتعلق بالمخالطة.فإن غاية العبادات وثمرة المعاملات أن يموت الإنسان محباً للّه عارفاً باللّه ولا محبة لإلا بالأنس الحاصل بدوام الذكر ولا معرفة إلا بدوام الفكر.وفراغ القلب شرط في كل واحد منهما ولا فراغ مع المخالطة.
    الفائدة الثانية
    التخلص بالعزلة عن المعاصي
    التي يتعرض الإنسان لها غالبا بالمخالطة ويسلم منها في الخلوة
    وهي أربعة:الغيبة والنميمة،والرياء والسكوت عن الإمر بالمعروف والنهي عن المنكر،ومسارقة الطبع من الأخلاق الرديئة والأعمال الخبيثة التي يوجبها الحرص على الدنيا.
    أما الغيبة فإذا عرفت من كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات وجوهها عرفت أن التحرز عنها مع المخالطة عظيم لا ينجو منها إلا الصدّيقون.فإن عادة الناس كافة التمضمض بأعراض الناس والتفكه بها والتنفل بحلاوتها وهي طعمتهم ولذتهم وإليها يستروحون من وحشتهم في الخلوة.فإن خالطهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط اللّه تعالى،وإن سكت كنت شريكا،والمستمع أحد المغتابين،وإن أنكرت أبغضوك وتركوا ذلك المغتاب واغتابوك فازدادواغيبة إلى غيبة،وربما زادوا على الغيبة وانتهوا إلى الإستخفاف والشتم.
    وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو من أصول الدين وهو واجب - كما سيأتي بيانه في آخر هذا الربع - ومن خالط الناس فلا يخلو عن مشاهدة المنكرات فإن سكت عصى اللّه به.وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر إذ ربما يجره طلب الخلاص عنها إلى معاص أكبر مما نهى عنه ابتداء.وفي العزلة خلاص من هذا فإن الأمر في إهماله شديد والقيام به شاق.وقدم قام أبو بكر رضي اللّه عنه عند خطيبا وقال"أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية" أيها الذين آمنواعليكم أنفسكم لايضركم من ضل إذا اهتديتم"وإنكم تضعونها في غير موضعها وإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول"إذا رأى الناس المنكر فلم يغيروه أو شك أن يعمهم اللّه بعقاب"وقد قال صلى اللّه عليه وسلم"إن اللّه ليسأل العبد حتى يقول له ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن اللّه لعبد حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس"وهذا إذا خاف من ضرب أو أمر لايطاق.ومعرفة حدود ذلك مشكلة وفيه خطر.وفي العزلة خلاص وفي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر إثارة للخصومات وتحريك لغوائل الصدور كما قيل: وكم سقت في آثاركم من نصيحة وقد يستفيد البغضة المتنـصـح
    ومن جرب الأمر بالمعروف ندم عليه غالباً فإنه كجدار مائل يريد الإنسان أن يقيمه فيوشك أن يسقط عليه؛فإذا سقط عليه يقول ياليتني تركته مائلاً نعم لو وجد أعواناً أمسكوا الحائط حتى يحكمه بدعامة لاستقام وأنت اليوم لا تجد الأعوان فدعهم وانج بنفسك .
    وأما الرياء فهو الداء العضال الذي يعسر على الأبدال والأوتاد والإحتراز عنه.وكل من خالط الناس داراهم،ومن داراهم راءاهم ومن راءاهموقع فيما وقعوا فيه وهلك كما هلكوا.وأقل ما يلزم فيه النفاق فإنك إن خالطت متعاديين ولم تلق كل واحد منهما بوجه يوافقه صرت بغيضاً إليهما جميعاً،وإن جاملتهما كنت من شرار الناس.وقال صلى اللّه عليه وسلم"تجدون من شرار الناس ذا الوجهين يأتي هؤلاء بوجه"وأقل ما يجب في مخالطة الناس إظهار الشوق والمبالغة فيه ولا يخلوا ذلك عن كذب إما في الأصل وإما في الزيادة،وإظهار الشفقة بالسؤال عن الأحوا بقولك:كيف أنت?زكيف أهلك?وأنت في الباطن فارغ القلب من همومه"وهذا نفاق محض.قال سرى:لو دخل أخ لي فسويت لحيتي بيدي لدخوله لخشيت أن أكتب في جريدة المنافقين.وكان الفضيل جالساً لوحده في المسجد الحرام فجاء إليه أخ له فقال له:ما جاء بك?قال:المؤانسة يا أب علي فقال:هي واللّه بالمواحشة أشبه هل تريد إلا أن تتزين لي وأتزين لك وتكذب لي وأكذب لك?إما أن تقوم عني أو أقوم عنك.وقال بعض العلماء:ما أحب اللّه عبداً إلا أحب أن لايشعر به.ودخل طاوس على الخليفة هشام فقال:كيف أنت يا هشام?فغضب عليه وقال:لم لم تخاطبني بأمير المؤمنين?فقال:لأن جميع المسلمين ما اتفقوا على خلافتك فخشيت أن أكون كاذباً.فمن أمكنه أن يحترز هذا الإحتراز فليخالط الناس وإلا فليرضى بإثبات اسمه في جريدة المنافقين.فقد كان السلف يتلاقون ويحترزون في قولهم كيف أصبحت وكيف أمسيت?وكيف أنت? وكيف حالك?وفي الجواب عنه.فكان سؤالهم عن أحوال الدين لا عن أحوال الدنيا.قال حاتم الأصم لحامد اللفاف:كيف أنت في نفسك?قال:سالم معافى:فكره حاتم جوابه وقال:يا حامد السلامة من وراء الصراط والعافية في الجنة.وكان إذا قيل لعيسى صلى اللّه عليه وسلم كيف أصبحت?قال أصبحت لا أملك تقديم ما أرجو ولا أستطيع دفع ما أحاذر وأصبحت مرتهناً بعملي و الخير كله في يد غيري ولا فقير أفقر مني وكان الربيع بن خثيم إذا قيل له:كيف أصبحت?قال:أصبحت من ضعفاء مذنبين نستوفي أرزاقنا وننتظر آجالنا.وكان أبا الدرداء إذا قيل له:كيف أصبحت?قال:أصبحت بخير إن نجوت من النار.وكان سفيان الثوري إذا قيل له:كيف أصبحت?يقول:أصبحت أشكر ذا الى ذا وأذم ذا الى ذا وأفر من ذا الى ذا،وقيل لأويس القرني:كيف أصبحت?قال:كيف يصبح رجل إذا أمسى لا يدري أنه يصبح وإذا أصبح لا يدري أنه يمسي?وقيل لمالك بن دينار كيف أصبحت?قال:أصبحت في عمر ينقص وذنوب تزيد.وقيل لبعض الحكماء:كيف أصبحت?قال:أصبحت لا أرضى حياتي لمماتي ولا نفسي لربي.وقيل لحكيم:كيف أصبحت?قال:أصبحت آكل رزق ربي وأطيع عدوه إبليس.وقيل لمحمد بن واسع:كيف أصبحت?قال:ما ظنك برجل يرتحل كل يوم إلىالآخرة مرحلة.وقيل لحامد اللفاف:كيف أصبحت?قال:قال أصبحت أشتهي عافية يوم الى الليل،فقيل له:ألست في عافية في كل الأيام ?فقال:العافية يوم لا أعصى اللّه تعالى فيه.وقيل لرجل وهو يجود بنفسه:ما حالك?فقال:وما حال من يريد سفراً بعيداً بلا زاد ويدخل قبراً موحشاً بلا مؤنس وينطلق إلى ملك عدل بلا حجة.وقيل لحسانابن أبي سنان:ما حالك?قال:ما حال من يومت ثم يبعث ثم يحاسب.وقال ابن سيرين لرجل:كيف حالك?فقال:وما حال من عليه خمسمائة درهم ديناً وهو معيل?فدخل ابن سيرين منزله فأخرج له ألف درهم فدفعها إليه وقال:خمسمائة اقض بها دينك وخمسمائة عد بها على نفسك وعيالك ولم يكن عنده غيرها - ثم قال:واللّه لا أسأل أحداً عن حاله أبداً.وإنما فعل ذلك لأنه خشي أن يكون سؤاله من غير اهتمام بأمره فيكون بذلك مرائياً منافقاً.فقد كان سؤالهم عن أمور الدين.أحوال القلب في معاملة اللّه وإن سألوا عن أمور الدنيا فعن اهتمام وعزم على القيام بما يظهر لهم من الحاجة.وقال بعضهم:إني لأعرف أقواماً كانوا لا يتلاقون ولو حكم أحهم على صاحبه بجميع ما يملكه لم يمنعه،وأرى الآن أقواماً يتلاقون ويتسائلون حتى عن الدجاجة في البيت.ولو انبسط أحدهم لحبة من مال صاحبه لمنعه فهل هذا إلا مجرد الرياء و النفاقظوآية ذلك أنك ترى هذا يقول كيف أنت?ويقول الآخر كيف أنت?فالسائل لا ينتظر الجواب و المسئول يشتغل بالسؤال ولا يجيب،وذلك لمعرفتهم بأن ذلك عن رياء وتكلف.ولعل القلوب لا تخلو عن ضغائن وأحقاد و الألسنة تنطق بالسؤال.قال الحسن:إنما
    كانوا يقولون السلام عليكم،إذا سلمت واللّه القلوب،وأما الآن:فكيف أصبحت عافاك اللّه?كيف أنت أصلحك اللّه?فإن أخذنا بقولهم كانت بدعة لا كرامة فإن شاؤا غضبوا علينا،وإن شاؤا لا.وإنما قال ذلك لأن البداية بقولك:كيف أصبحت بدعة.وقال رجل لأبي بكر عياش:كيف أصبحت?فما أجابه.وقال دعونا من هذه البدعة.وقال:إنما حدث هذا في زمان الطاعون الذي كان يعى طاعون عمواس بالشام من الموت الذريع،كان الرجل يلقاه أخوه غدوة فيقول كيف أصبحت من الطاعون?ويلقاه عشية فيقول:كيف أمسيت?والمقصود أن الإلقاء في غالب العادات ليس يخلو عن أنواع التصنع و الرياء والنفاق،وكل ذلك مذموم،بعضه محظور وبعضه مكروه.وفي العزلة الخلاص من ذلك،فإن من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم مقتوه واستثقلوه واغتابوه وتشمروا لإيذائه فيذهب دينهم فيه ويذهب دينه ودنياه في الإنتقام منهم . !!!!!!
    وأما مسارقة الطبع مما يشاهده من أخلاق الناس وأعمالهم فهو داء دفين قلما يتنبه له العقلاء فضلا عن االغافلين،فلا يجالس الإنسان فاسقا مدة مع كونه منكرا عليه في باطنه إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته لأدرك بينهما تفرقة في النفرة عن الفساد واستثقاله إذ يصير للفساد بكثرة المشاهدة هينا على الطبع فيسقط وقعه واستعظامه له،وإنما الوازع عنه شدّة وقعه في القلب فإذا صار مستصغرا بطول المشاهدة أوشك أن ننحل القوّة الوازعة ويذعن الطبع للميل إليه أو لما دونه.ومهما طالت مشاهدته للكبائر من غيره استحقر الصغائر من نفسه:ولذلك يزدري الناظر إلى الأغنياء نعمة اللّه عليه فتؤثر مجالستهم في أن يستصغر ما عنده وتؤثر مجالسة الفقراء في استعظام ما أتيح له من النعم.وكذلك النظر إلى المطيعين والعصاة هذا تأثيره في الطبع من يقصر نظره على ملاحظة أحوال الصحابة والتابعين في العبادة و التنزه عن الدنيا فلا يزال ينظر الى نفسه بعين الإستصغار وإلى عبادته بعين الإستحقار:وما دام يرى نفسه مقصراً فلا يخلو عن داعية الاجتهاد رغبة في الاستكمال واستتماماً للاقتداء.ومن نظر الى الأحوال الغالبة على أهل الزمان وإعراضهم عن اللّه وإقبالهم على الدنيا واعتيادهم المعاصي استعظم أمر نفسه بأدنى رغبة في الخير يصادفها في قلبه وذلك هو الهلاك.ويكفي في تغيير الطبع مجرد سماع الخير و الشر فضلاً عن مشاهدته.وبهذه الدقيقة يعرف سر قوله صلى اللّه عليه وسلم"عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة"وإنما الرحمة دخول الجنة ولقاء اللّه وليس ينزل عند الذكر عين ذلك ولكن سببه وهو انبعاث الرغبة من القلب وحركة الحرص على الإقتداء بهم والاستنكاف عما هو ملابس له من القصور و التقصير.ومبدأ الرحمة فعل الخير الرغبة،ومبدأ الرغبة ذكر أحوال الصالحين،فهذا معنى نزول الرحمة.والمفهوم من فحوى هذا الكلام عند الفطن كامفهوم من عكسه وهو أن عند ذكر الفاسقين تنزل اللعنة لأن كثرة ذكرهم تهوّن على الطبع أمر المعاصي،واللعنة هي البعد.ومبدأ البعد من اللّه هو المعاصي،والإعراض عن اللّه بالإقبال على الحظوط العاجلة و الشهوات الحاضرة لا على الوجه المشروع.ومبدأ المعاصي سقوط ثقلها وتفاحشها عن القلب.ومبدأ سقوط الثقل وقوع الأنس بها بكثرة السماع.إذا كان حال ذكر الصالحين والفاسقين فما ظنك بمشاهدتهم?بل قد صرح بذلك رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حيث قال"مثل جليس السوء كمثل الكير إن لم يحرقك بشرره علق بك من ريحه"فكما أن الريح يعلق بالثوب ولا يشعر به فكذلك يسهل الفساد على القلب وهو لا يشعر به.وقال"مثل الجليس الصالح مثل صاحب المسك إن لم يهب لك تجد ريحه"ولهذا أقول من عرف من عالم زلة حرم عليه حكايتها لعلتين،إحداهما:أنها غيبة،والثانية وهي أعظمها.أن حكايتها تهون على المستمعين أمر تلك الزلّة،ويسقط من قلوبهم استعظامهم الإقدام عليها فيكون ذلك سبباً لتهوين تلك المعصية فإنه مهما وقع فيها فاستنكر ذلك دفع الاستنكار وقال كيف يستبعد هذا منا وكلنا مضطرون الى مثله حتىالعلماء والعباد?ولو اعتقد أن مثل ذلك لا يقدم عليه عالم ولا يتعاطاه موفق معتبر لشق عليه الإقدام،فكم من شخص يتكالب على الدنيا ويحرص على جمعها ويتهالك على حب الرياسة وتزيينها ويهوّن على نفسه قبحها ويزعم أن الصحابة رضي اللّه عنهم لم ينزهوا أنفسهم عن حب الرياسة?وربما يستشهد عليه بقتال علي ومعاوية ويخمن في نفسه أن ذلك لم يكن لطلب الحق بل لطلب الرياسة،فهذا الاعتقاد خطأ يهون عليه أمر الرياسة ولوازمها من المعاصي.والطبع الللئيم يميل الى ابتاع الهفوات والإعراض عن الحسنات بل الى تقدير الهفوة فيما لا هفوة فيه بالتنزيل على مقتضى الشهوة ليتعلل به وهو من دقائق مكايد الشيطان،ولذلك وصف اللّه المراغمين للشيطان فيها بقوله"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه"وضرب صلى اللّه عليه وسلم لذلك مثلاً وقال مثل الذي يجلس يستمع الحكمة ثم لا يعمل إلا بشر ما يستمع كمثل رجل أتى راعياً فقال له يا راعي اجرر لي شاة من غنمك فقال اذهب فخذ خير شاة فيها فذهب فأخذ بأذن كلب الغنم"وكل من ينقل هفوات الأئمة فهذا مثاله أيضاً.ومما يدل على سقوط وقع الشئ عن القلب بسبب تكرره ومشاهدته أن أكثر الناس إذا رأوا مسلماً أفطر في نهار رمضان استبعدوا ذلك منه استبعاداً يكاد يفضي الى
    اعتقادهم كفره،وقد يشاهدون من يخرج الصلوات عن أوقاتها ولا تنفر عن طباعهم كنفرتهم عن تأخير الصوم،مع أن صلاة واحدة يقتضى تركها الكفر عند قوم وحز الرقبة عند قوم،وترك صوم رمضان كله لا يقتضيه ولا سبب له إلا أن الصلاة تتكرر و التساهل فيها مما يكثر فيسقط وقعها بالمشاهدة عن القلب.ولذلك لو لبس الفقيه ثوباً من حرير أو خاتماً من ذهب أو شرب من إناء فضة استبعدته النفوس واشتد إنكارها،وقد يشاهد في مجلس طويل لا يتكلم إلا بما هو اغتياب للناس ولا يستبعد منه ذلك.والغيبة أشد من الزنا فكيف لا تكون أشد من لبس الحرير?ولكن كثرة سماع الغيبة ومشاهدة المغتابين أسقط وقعها عن القلوب وهون على النفس أمرها،فتفطن لهذه الدقائق وفرّ من الناس فرارك من الأسد لأنك لا تشاهد منهم إلا ما يزيد في حرصك على الدنيا وغفلتك عن الآخرة ويهون عليك المعصية ويضعف رغبتك في الطاعة.فإن وجدت جليساً يذكرك اللّه رؤيته وسيرته فالزمه ولا تفارقه واغتنمه ولا تستحقره فإنها غنيمة العاقل وضالة المؤمن.وتحقق أن الجليس الصالح خير من الوحدة وأن الوحدة خير من الجليس السوء.ومهما فهمت هذه المعاني ولا حظت طبعك والتفت إلى حال من أردت مخالطته لم يخف عليك أن الأولى التباعد بالعزلة أو التقرب إليه بالخلطة.وإياك أن تحكم مطلقاً على العزلة أو الخلطة بأن إحداهما أولى إذ كل مفصل فإطلاق القول فيه بلا أو نعم خلف من القول محض ولا حق في المفصل إلا الفصيل .
    الفائدة الثالثة
    الخلاص من الفتن والخصومات وصيانة الدين والنفس
    عن الخوض فيها والتعرض لأخطارها وقلما تخلو البلاد عن تعصبات وفتن وخصومات
    فالمعتزل عنهم في سلامة منها.قال عبد اللّه بن عمرو بن العاص:لما ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الفتن ووصفها وقال"إذا رأيت الناس مرجت عهودهم وخفت أماناتاهم وكانوا هكذا - وشبك بين أصابعه - قلت:فما تأمرني?فقال"الزم بيتك واملك عليك لسانك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر وعليك بأمر الخاصة ودع عنك أمر العامة"وروى أبو سعيد الخدري أنه صلى اللّه عليه وسلم قال"يوشك أن يكون خير مال المسلم غنماً يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن من شاهق الى شاهق"وروى عبد اللّه بن مسعود أنه صلى اللّه عليه وسلم قال:"سيأتي على الناس زمان لا يسلم لذي دين دينه إلا من فرّ بدينه من قرية الى قرية ومن شاهق الى شاهق ومن جحر الى جحر كالثعلب الذي يروغ"قيل له:ومتى ذلك يا رسول اللّه?قال"إذا لم تنل المعيشة إلا بمعاصي اللّه تعالى فإذا كان ذلك الزمان حلت العزوبة"قالوا:وكيف يا رسول اللّه وقد أمرتنا بالتزويج?قال"إذا كان ذلك الزمان كان هلاك الرجل على يد أبويه فإن لم يكن له أبوان فعلى يدي زوجته وولده فإن لم يكن فعلى يدي قرابته"قالوا:وكيف ذلك يا رسول اللّه?قال"يعيرونه بضيق اليد فيتكلف نالا يطيق حتى يورده ذلك موارد الهلكة"وهذا الحديث وإن كان في العزوبة فالعزلة مفهومة منه إذ لايستغني المتأهل عن المعيشة و المخالطة ثم لا ينال المعيشة إلا بمعصية اللّه تعالى،ولست أقول:هذا أوان ذلك الزمان فلقد كان هذا بإعصار قبل هذا العصر،ولأجله قال سفيان:واللّه لقد حلت العزلة.وقال ابن مسعود رضي اللّه عنه:ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أيام الفتنة وأيام الهرج قلت:وما الهرج?قال"حين لا يأمن الرجل جليسه"قلت:فيم تأمرني إن أدركت ذلك الزمان?قال"كف نفسك ويدك وادخل دارك"قال:قلت يا رسول اللّه أرأيت إن دخل على داري?قال"فادخل بيتك"قلت فإن دخل على بيتي?قال"فادخل مسجدك واصنع هكذا"وقبض على الكوع "وقل ربي اللّه حتى تموت"وقال سعد - لما دعي الى الخروج أيام معاوية - لا ... إلا أن تعطوني سيفاً له عينان بصيرتان ولسان ينطق بالكافر فأقتله وبالمؤمن فأكف عنه،وقال:مثلنا ومثلكم كمثل قوم كانوا على محجة بيضاء فبينما هم كذلك يسيرون إذ هاجت ريح عجاجة فضلوا الطريق فالتبس عليهم؛فقال بعضهم الطريق ذات اليمين فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا،وقال بعضهم ذات الشمال فأخذوا فيها فتاهوا وضلوا،وأناخ آخرون وتوقفوا حتى ذهبت الريح وتبينت الطريق فسافروا.فاعتزل سعد وجماعة معه فارقوا الفتن ولم يخالطوا إلا بعد زوال الفتن.وعن ابن عمر رضي اللّه عنهما:أنه لما بلغه أن الحسين رضي اللّه عنه توجه الى العراق تبعه فلحقه على مسيرة ثلاثة أيام فقال له:أين تريد?فقال:العراق.فإذا معه طوامير وكتب؛فقال:هذه كتبهم وبيعتهم فقال:لا تنظر الى كتبهم ولا تأتهم؛فأبى،فقال:إني أحدثك حديثاً؛جبريل أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فخيره بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة على الدنيا وإنك بضعة من رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم واللّه لا يليها أحد منكم أبداً وما صرفها عنكم إلا للذي هو خي لكم،فأبى أن يرجع، فاعتنقه ابن عمر وبكى وقال:استودعك اللّه من قتيل أو أسير.وكان في الصحابة عشرة آلاف فما خف أيام الفتنة أكثر من أربعين رجلاً.وجلس طاوس في بيته فقيل له في ذلك فقال:فساد الزمان وجيف الأئمة.ولما بنى عروة قصره بالعقيق ولزمه قيل له:لزمت القصر وتركت مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم?فقال:رأيت مساجدكم لاهية وأسواقكم لاغية والفاحشة في فجاجكم عالية وفيما هناك عما أنتم فيه عافية.فإذن الحذر من الخصومات،ومثارات الفتن إحدى فوائد العزلة .
    الفائدة الرابعة
    الخلاص من شر الناس
    فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة ومرة بسوء الظن و التهمة بالاقتراحات والأطماع الكاذبة التي يعسر الوفاء بها،وتارة بالنميمة أو الكذب فربما يرون منك من الأعمال أو الأقوال مالاتبلغ عقولهم كنهه فيتخذون ذلك ذخيرة عندهم يدخرونها لوقت تظهر فرصة للشر،فإذا اعتزلتهم استغنيت من التحفظ عن جميع ذلك.ولذلك قال بعض الحكماء لغيره:أعلمك بيتين خير من عشرة آلاف درهم?ماهما?قال: اخفض الصوت إن نطقت بليل والتفت بالنهار قبل المـقـال
    ليس للقول رجعة حين يبـدو بقبيح يكـون أو بـجـمـال
    ولاشك أن من اختلط بالناس وشاركهم في أعمالهم لاينفك من حاسد وعدوّ يسئ الظن به ويتوهم أنه يستعد لمعاداته ونصب المكيدة عليه وتدسيس غائلة وراءه فالناس مهما اشتد حرصهم على أمر"يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو فاحذرهم"وقد اشتد حرصهم على الدنيا فلا يظنون بغيرهم إلا الحرص عليها.قال المتنبي : إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من تـوهـم
    وعادى محبيه بقـول عـداتـه فأصبح في ليل من الشك مظلم
    وقد قيل:معاشرة الأشرار تورث سوء الظن بالأبرار.وأنواع الشر الذي يلقاه الإنسان من معارفه وممن يختلط به كثيرة:ولسنا نطول بتفصيلها ففيما ذكرناه إشارة إلى مجامعها،وفي العزلة خلاص من جميعها.والى هذا إشارة الأكثر ممن اختار العزلة.فقال أبو الدرداء:أخبر تقله،يروى مرفوعا.وقال الشاعر: من حمد الناس ولم يبلهم ثم بلاهم ذم من يحمـد
    وصار بالوحدة مستأنساً يوحشه الأقرب والأبعد
    وقال عمر رضي اللّه عنه:في العزلة راحة من القرين السوء.وقيل لعبد اللّه بن الزبير:ألا تأتي المدينة?فقال:ما بقي فيها إلا حاسد نعمة أو فرح بنقمة.وقال ابن السماك:كتب صاحب لنا،أما بعد فإن الناس كانوا دواء يتداوى به فصاروا داء لا دواء له ففرّ منهم فرارك من الأسد.وكان بعض الأعراب يلازم شجرا ويقول:هو نديم فيه ثلاث خصال،إن سمع مني لم ينم علي.وإن تفلت في وجهه احتمل مني،وإن عربدت عليه لم يغضب.فسمع الرشيد ذلك فقال:زهدنى في الندماء،وكان بعضهم قد لزم الدفاتر والمقابر فقيل له ذلك فقال:لم أر أسلم من وحدة ولا أوعظ من قبر،ولا جليس أمتع من دفتر،وقال الحسن رضي اللّه عنه:أردت الحج فسمع ثابت البناني بذلك - وكان أيضا من أولياء اللّه - فقال:بلغني أنك تريد الحج فأحببت أن أصحبك،فقال له الحسن:ويحك دعنا نتعاشر بستر اللّه علينا إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه.وهذه إشارة إلى فائدة أخرى في العزلة وهو بقاء الستر على الدين والمروءة والأخلاق والفقر وسائر العورات.وقد مدح اللّه سبحانه المتسترين فقال"يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف"وقال الشاعر: ولا عار إن زالت عن الحر نعمة ولكن عارا أن يزول التجـمـل
    ولا يخلوا الإنسان في دينه ودنياه وأخلاقه وأفعاله عن عورات الأولى في الدين والدنيا سترها ولا تبقى السلامة مع انكشافها.وقال أبو الدرداء:كان الناس ورقا لا شوك فيه فالناس اليوم شولا لا ورق فيه.إذا كان هذا حكم زمانه وهو في أواخر القرن الأول فلا ينبغي أن يشك في أن الأخير شر.وقال سفيان بن عينية:قال لي سفيان الثوري - في اليقظة في حياته وفي المنام بعد وفاته - أقلل من معرفة الناس فإن التخلص منهم شديد ولا حسب أني رأيت ما أكره إلا ممن عرفت.وقال بعضهم:جئت الى مالك بن دينار وهو قاعد وحده،وإذا كلب قد وضع حنكه على ركبته.فذهب أطرده فقال:دعه يا هذا لا يضر ولا يؤذي وهو خير من جليس السوء.وقيل لبعضهم:ما حملك على أن تعتزل الناس?قال:خشيت أن أسلب ديني ولا أشعر.وهذه إشارة إلى مسارقة الطبع من أخلاق القرين السوق.وقال أبو الدرداء:اتقوا اللّه و احذروا الناس فإنهم ما ركبوا ظهر بعير إلا أدبروه،ولا ظهر جواد إلا عقروه،ولا قلب مؤمن إلا خربوه.وقال بعضهم:أقلل المعارف فإنه أسلم لدينك وقلبك،وأخف لسقوط الحقوق عنك،لأنه كلما كثرت المعارف كبرت الحقوق وعسر القيام بالجميع.وقال بعضهم:أنكر من تعرف ولا تتعرف الى من لا تعرف.
    الفائدة الخامسة
    أن ينقطع طمع الناس عنك
    وينقطع طمعك عن الناس
    فأما انقطاع طمع الناس عنك ففيه فوائد،فإن رضا الناس غاية لا تدرك فاشتغال المرء بإصلاح نفسه أولى ومن أهون الحقوق وأيسرها حضور الجنازة وعيادة المريض وحضور الولائم والإملاكات،وفيها تضيع الأوقات وتعرض للآفات،ثم قد تعوق عن بعضها العوائق وتستقبل فيها المعاذير،ولا يمكن إظهار كل الأعذار فيقولون له قمت بحق فلان وقصرت في حقنا،ويصير ذلك سبب عداوة فقد قيل:من لم يعد مريضاً في وقت العيادة اشتهى موته خيفة من تخجيله إذا صح على تقصيره.ومن عمم الناس كلهم بالحرمان رضوا عنه كلهم،ولو خصص استوحشوا.وتعميمهم بجميع الحقوق لا يقدر عليه المتجرد له طول الليل و النهار فكيف من له مهم يشغله في دين أو دنيا?قال عمرو بن العاص:كثرة الأصدقاء كثرة الغرماء.وقال ابن الرومي: عدوك من صديقك مستفـاد فلاتستكثرون من الصحاب
    فإن الداء أكثـر مـا تـراه يكون من الطعام أو الشراب
    وقال الشافعي رحمه اللّه:أصل كل عداوة اصطناع المعروف الى اللئام.وأما انقطاع طمعك عنهم فهو أيضاً فائدة جزيلة،فإن من نظر الى زهرة الدنيا وزينتها تحرك حرصه وانبعث بقوّة الحرص طمعه ولا يرى إلا الخيبة في أكثر الأحوال فيتأذى بذلك.ومهما اعتزل لم يشاهد لم يشته ولم يطمع ولذلك قال اللّه تعالى"ولا تمدنّ عينيك الى ما متعنا به أزاوجاً منهم"وقال صلى اللّه عليه وسلم"انظروا الى من هو دونكم ولا تنظروا الى من هو فوقكم فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة اللّه عليكم"وقال عون بن عبد اللّه:كنت أجالس الأغنياء فلم أزل مغموماً،كنت أرى ثوباً أحسن من ثوبي ودابة أفره من دابتيفجالست الفقراء فاسترحت.وكي أن المزني رحمه اللّه خرج من باب جامع الفسطاط وقد أقبل ابن عبد الحكم في موكبه فبهره ما رأى من حسن حاله وحسن هيئته فتلا قوله تعالى"وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون"قال بلى أصبر وأرضى،وكان فقيراً مقلاً.فالذي هو في بيته لا يبتلى بمثل هذه الفتن.فإن من شاهد زينة الدنيا فأما أن يقوى دينه ويقينه فيصبر الى أن يتجرع مرارة الصبر - وهو أمر من الصبر - أو تنبعث رغبته فيحتال في طلب الدنيا فيهلك هلاكاً مؤبداً،أما في الدنيا فبالطمع الذي يخيب في أكثر الأوقات فليس كل من يطلب الدنيا تتيسر له،وأما الآخرة فإيثاره متاع الدنيا على ذكر اللّه تعالى والتقرب إليه.ولذلك قال ابن الإعرابي: إذا كان باب الذل من جانب الغنـى سموت الى العلياء من جانب الفقر
    أشار الى أن الطمع يوجب في الحال ذلاً.
    الفائدة السادسة
    الخلاص من مشاهد الثقلاء والحمقى
    ومقاساة حمقهم وأخلاقهم
    فإن رؤية الثقيل هي العمى الأصغر.قيل للأعمش:مم عمشت عيناك?قال:من النظر الى الثقلاء.ويحكى أنه دخل عليه أبو حنيفة فقال:في الخبر"إن من سلب اللّه كريمتيه عوضه اللّه عنهما ما هو خير منهما"فما الذي عوضك?فقال - في معرض المطايبة - عوضني اللّه منهما أنه كفاني رؤية الثقلاء وأنت منهم.وقال ابن سيرين:سمعت رجلاً يقول نظرت الى ثقيل مرة فغشى علي.وقال جالينوس:لكل شئ حمى وحمى الروح النظر الى الثقلاء.وقال الشافعي رحمه اللّه:ما جالست ثقيلاً إلا وجدت الجانب الذي يليه من بدني كأنه أثقل من الجانب الآخر .
    وهذه الفوائد ما سوى الأوليين متعلقة بالمقاصد الدنيوية الحاضرة ولكنها أيضاً تتعلق بالدين.فإن الإنسان مهما تأذى برؤية ثقيل لم يأمن أن يغتابه وأن يستنكر ما هو صنع اللّه،فإذا تأذى من غيره بغيبة أو سوء ظن أو محاسدة أو نميمة أوغير ذلك لم يصبر على مكافأته.وكل ذلك يجر الى فساد الدين وفي العزلة سلامة عن جميع ذلك فليفهم .
    آفات العزلة اعلم من المقاصد الدينية و الدنيوية ما يستفاد بالاستعانة بالغير ولا يحصل ذلك إلا بالمخالطة.فكل ما يستفاد من المخالطة يفوت بالعزلة،وفواته من آفات العزلة.فانظر الى فوائد المخالطة والدواعي اليها ما هي،وهي التعليم و التعلم،و النفع و الإنتفاع،و التأديب و التأدب،و الإستئناس و الإيناس،ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق،واعتياد التواضع واستفادة التجارب من مشاهدة الأحوال و الاعتبار بها.فلفصل ذلك فإنها من فوائد المخالطة وهي سبع :
    الفائدة الأولى
    التعليم والتعلم
    وقد ذكرنا فضلهما في كتاب العلم وهما أعظم العبادات في الدنيا.ولا يتصوّر ذلك إلا بالمخالطة إلا أن العلوم كثيرة وعن بعضها مندوحة،وبعضها ضروري في الدنيا.فالمحتاج إلى التعلم لما هو فرض عليه عاص بالعزلة.وإن تعلم الفرض وكان لا يتأتى منه الخوض في العلوم ورأى الإشتغال بالعبادة فليعتزل.وإن كان يقدر على التبرز في علوم الشرع و العقل فالعزلة في حقه قبل التعلم غاية الخسران.ولهذا قال النخعي وغيره:تفقه ثم اعتزل قبل التعلم فهو في الأكثر مضيع أوقاته بنوم أو فكر في هوس،وغايته أن يستغرق الأوقات بأوراد يستوعبها،ولا ينفك في أعماله بالبدن والقلب عن أمواع من الغرور يخيب سعيه ويبطل عمله بحيث لا يدري،ولا ينفك اعتقاده في اللّه وصفاته عن أوهام يتوهمها ويأنس بها وعن خواطر فاسدة تعتريه فيها فيكون في أكثر أحواله ضحكة للشيطان وهو يرى نفسه من العباد.فالعلم هو أصل الدين فلا خير في عزلة العوام و الجهال،أعني من لا يحسن العبادة في الخلوة ولا يعرف جميع ما يلزم فيها.فمثال النفس مثال مريض يحتاج الى طبيب متلطف يعالجه،فالمريض الجاهل إذا خلا بنفسه عن الطبيب قبل أن يتعلم الطب تضاعف لا محالة مرضه.فلا تليق العزلة إلا بالعالم وأما التعليم ففيه ثواب عظيم مهما صحت نية المعلم و المتعلم.ومهما كان القصد إقامة الجاه و الاستكثار بالأصحاب و الأتباع فهو هلاك الدين.وقد ذكرنا وجه ذلك في كتاب العلم .
    وحكم في العالم في هذا الزمان أن يعتزل إن أراد سلامة دينه.فإنه لا يرى مستفيداً يطلب فائدة لدينه،بل لاطالب إلا لكلام مزخرف - يستميل به العوام في معرض الوعض أو الجدل - معقد يتوصل به الى إفحام الأقران ويتقرب به الى السلطان ويستعمل في معرض المنافسة والباهاة،وأقرب علم مرغوب فيه:المذهب،ولا يطلب غالباً إلا للتوصل الى التقدم على الأمثال وتولي الولايات واجتلاب الأموال.فهؤلاء كلهم يقتضي الدين و الحزم الإعتزال عنهم،فإن صودف طالباً للّه ومتقرب بالعلم الى اللّه فأكبر الكبائر الإعتزال عنه وكتمان العلم منه،وهذا لا يصادف في بلدة كبيرة أكثر من واحد أو اثنين إن صودف.
    ولا ينبغي أن يغتر الإنسان بقول سفيان:تعلمنا العلم لغير اللّه فأبى العلم أن يكون إلا للّه،فإن الفقهاء يتعلمون لغير اللّه ثم يرجعون الى اللّه.وانظر الى أواخر أعمار الأكثرين منهم واعتبرهم أنهم ماتوا،وهم هلكى على طلب الدنيا ومتكالبون عليها أو راغبون عنها وزاهدون فيها،وليس الخبر كالمعاينة.واعلم أن العلم الذي أشار اليه سفيان هو علم الحديث وتفسير القرآن ومعرفة سير الأنبياء و الصحابة،فإن فيها التخويف و التحذير وهو سبب لإثارة الخوف من اللّه فإن لم يؤثر في الحال أثر في المآل.
    وأما الكلام و الفقه المجرّد - الذي يتعلق بفتاوى المعاملات وفصل الخصومات - المذهب منه و الخلاف لا يرد الراغب فيه للدنيا الى اللّه،بل لا يزال متمادياً في حرصه الى آخر عمره.ولعل ما أودعناه هذا الكتاب إن تعلمه المتعلم رغبة في الدنيا فيجوز أن يرخص فيه،إذ يرجى أن ينزجر به في آخر عمره فإنه مشحون بالتخويف باللّه والترغيب في الآخرة و لتحذير من الدنيا،وذلك مما يصادف في الأحاديث وتفسير القرآن ولايصادف في كلام ولا في خلاف ولا في مذهب.فلا ينبغي أن يخادع الإنسان نفسه فإن المقصر العالم بتقصيره أسعد حالاً من الجاهل المغرور أو المتجاهل المغبون وكل عالم اشتد حرصه على التعليم يوشك أن يكون غرضه القبول والجاه،وحظه تلذذ النفس في الحال باستشعار الإدلال على الجهال و التكبر عليهم،فآفة العلم الخيلاءكما قال صلى اللّه عليه وسلم.ولذلك حكي عن ابن بشر أنه دفن سبعة عشرة قمطراّ من كتب الأحاديث التي سمعها،وكان لايحدث،ويقول:إني أشتهي أن أحدث فلذلك لا أحدث ولو اشتهيت أن لا أحدث لحدثت،ولذلك قال"حدثنا"باب من أبواب الدنيا،وإذا قال الرجل "حدثنا"فإنما يقول أوسعوا لي.وقالت رابعة العدوية لسفيان الثوري:نعم الرجل أنت لولا رغبتك في الدنيا،قال:وفيماذا رغبت?قالت:في الحديث.ولذلك قال أبو سفيان الداراني:من تزوج أو طلب الحديث أو اشتغل بالسفر فقد ركن الى الدنيا.فهذه آفات قد نبهنا عليها في كتاب العلم،والحزم الاحتراز بالعزلة وترك الاستكثار من الأصحاب ما أمكن،بل الذي يطلب الدنيا بتدريسه وتعليمه فالصواب له.إن كان غافلاً في مثل هذا الزمان أن يتركه.فلقد صدق أبو سليمان الخطابي حيث قال:دع الراغبين في صحبتك و التعلم منك فليس لك منهم مال ولا جمال،إخوان العلانية أعداء السر،إذا لقوك تملقوك وإذا غبت عنهم سلقوك،من أتاك منهم كان عليك رقيباً وإذا خرج كان عليك خطيباً،أهل نفاق ونميمة وغل وخديعة،فلا تغتر باجتماعهم عليك فما غرضهم العلم بل الجاه و المال وأن يتخذوك سلماً الى أوطارهم و أغراضهم وحماراً في حاجاتهم،وإن قصرت في غرض من أغراضهم كانوا على أشد أعدائك،ثم يعدون ترددهم إليك دالة عليك ويرونه حقاً واجباً لديك،ويفرضون عليك أن تبذل عرضك وجاهك ودينك لهم فتعادي عدوهم وتنصر قريبهم وخادمهم ووليهم،وتنتهض لهم سفيهاً وقد كنت فقيهاً،وتكون لهم تابعاً خسيساً بعد أن كنت متبوعاً رئيساً.ولذلك قيل:اعتزال العامة مروءة تامة.فهذا معنى كلامه وإن خالف بعض ألفاظه،وهو حق وصدق.فإنك ترى المدرسين في رق دائم وتحت حق لازم ومنة ثقيلة ممن يتردد اليهم فكأنه يهدي تحفة اليهم ويرى حقه واجباً عليهم.وربما لا يختلف اليه ما لم يتكفل برزق له على الإدرار.ثم إن المدرس المسكين قد يعجز عن القيام بذلك من ماله،فلا يزال متردداً الى أبواب السلاطين ويقاسي الذل والشدائد مقاساة الذليل المهين حتى يكتب له على بعض وجوه السحت مال حرام،ثم لايزال العامل يسترقه ويستخدمه ويمتهنه ويستذله الى أن يسلم إليه ما يقدره نعمة مستأنفة من عنده عليه،ثم يبقى في مقاساة القسمة على أصحابه إن سوّى بينهم مقته المميزون ونسبوه الى الحمق وقلة التمييز و القصور عن درك مصارفات الفضل و القيام بمقادير الحقوق بالعدل،وإن فاوت بينهم سلقه السفهاء بألسنة حداد وثاروا عليه ثوران الأساود والآساد،فلا يزال في في مقاساتهم في الدنيا وفي مطالبة ما يأخذه ويفرقه عليهم في العقبى.والعجب أنه مع هذا البلاء كله يمني نفسه بالأباطيل ويدليها بحبل الغرور ويقول لها،لا تفتري عن صنيعك فإنما أنت بما تفعلينه مريدة وجه اللّه تعالى ومذيعة شرع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وناشرة علم دين اللّه وقائمة بكفاية طلاب العلم من عباد اللّه،وأموال لسلاطين لا مالك لها وهي مرصدة للمصالح وأي مصلحة أكبر من تكثير أهل العلم?فيهم يظهر الدين ويتقوى أهله.ولو لم يكن ضحكة للشيطان لعلم بأدنى تأمل أن فساد الزمان لا سبب له إلا كثرة أمثال أولئك الفقهاء الذين يأكلون ما يجدون ولا يميزون بين الحلال و الحرام،فتلحظهم أعين الجهال ويستجرئون على المعاصي باستجرائهم اقتداء بهم واقتفاء لآثارهم.ولذلك قيل:ما فسدت الرعية إلا بفساد الملوك وما فسدت الملوك إلا بفساد العلماء.فنعوذ باللّه من الغرور و العمى فإنه الداء الذي ليس له دواء.
    الفائدة الثانية
    النفع والإنتفاع
    أما الإنتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة.وذلك لا يتأتى إلا بالمخالطة و المحتاج إليه مضطر الى ترك العزلة فيقع في جهاد من المخالطة أن طلب موافقة الشرع فيه - كما ذكرناه في كتاب الكسب - فإن كان معه مال لو اكتفى به قانعاً لأقنعه فالعزلة أفضل له إذا انسدت طرق المكاسب في الأكثر الىالمعاصي،إلا أن يكون غرضه الكسب للصدقة.فإذا اكتسب من وجهه وتصدق به فهو أفضل من العزلة للاشتغال بالنافلة،وليس بأفضل من العزلة للاشتغال بالتحقق في معرفة اللّه ومعرفة علوم الشرع،ولا من الإقبال بكنه الهمة علىاللّه تعالى و التجرد بها لذكر اللّه؛أعني من حصل له أنس بمناجاة اللّه عن كشف وبصيرة لا عن أوهام وخيالات فاسدة.
    وأما النفع فهو أن ينفع الناس إما بماله أو ببدنه فيقوم بحاجاتهم على سبيل الحسبة.ففي النهوض بقضاء حوائج المسلمين ثواب وذلك لا ينال إلا بالمخالطة.ومن يقدر عليها مع القيام بحدود الشرع فهي أفضل له من العزلة إن كان لا يشتغل في عزلته إلا بنوافل الصلوات و الأعمال البدنية،وإن كان ممن انفتح له طريق العمل بالقلب بدوام ذكر أو فكر فذلك لا يعدل به غيره ألبتة.
    الفائدة الثالثة
    التأديب والتأدب
    ونعني به الإرتياض بمقاساة الناس و المجاهدة في تحمل أذاهم كسراً للنفس وقهراً للشهوات.وهي من الفوائد التي تستفاد بالمخالطة،وهي أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه ولم تذعن لحدود الشرع شهواته،ولهذا انتدب خدام الصوفية في الرباطات فخالطون الناس بخدمتهم وأهل السوق للسؤال منهم كسراً لرعونة النفس واستمداد من بركة دعاء الصوفية المنصرفين بهممهم الى اللّه سبحانه.وكان هذا هو المبدأ في الأعصار الخالية و الآن قد خالطته الأغراض الفاسسدة ومال ذلك عن القانون كما مالت سائر شعائر الدين،فصار يطلب من التواضع بالخدمة التكثير بالاستباع و التذرّع الى جمع المال والاستظهار بكثرة الأتباع،فإن كانت النية هذه فالعزلة خير من ذلك ولو الى القبر،وإن كانت النية رياضة النفس فهي خير من العزلة في حق المحتاج الى الرياضة:وذلك مما يحتاج إليه في بداية الإرادة:فبعد حصول الارتياض ينبغي أن يفهم أن الدابة لا يطلب من رياضتها عين رياضتها بل المراد منها أن تتخذ مركباً يقطع به المراحل ويطوى على ظهره الطريق و البدن مطية للقلب يركبها ليسلك بها طريق الآخرة وفيها شهوات إن لم يكسرها جمحت به في الطريق،فمن اشتغل طول العمر بالرياضة كان كمن اشتغل طول عمر الدابة برياضتها ولم يركبها،فلا يستفيد منها إلا الخلاص في الحال في عضها ورفسها ورمحها،وهي لعمري فائدة مقصودة ولكن مثلها حاصل في البهيمة الميتة،وإنما ترد الدابة لفائدة تحصل من حياتها،فكذلك الخلاص من ألم الشهوات في الحال يحصل النوم بالموتولا ينبغي أن يقبع به كالراهب الذي قيل له:يا راهب،فقال:ما أنا راهب إنما أنا كلب عقور حبست نفسي حتى لا أعقر الناس:وهذا حسن بالإضافة الى من يعقر الناس ولكن لا ينبغي أن يقتصر عليه،فإن من قتل نفسه أيضاً لم يعقر الناس،بل ينبغي أن يتشوّف الى الغاية المقصود بها.ومن فهم ذلك واهتدى الى الطريق وقدر على السلوك استبان له أن العزلة أعون له من المخالطة.فأفضل لمثل هذا الشخص المخالطة أولاً و العزلة آخراً.
    وأما التأديب فإنما نعني به أن يروض غيره وهو حال شيخ الصوفية معهم،فإنه لا يقدر على تهذيبهم إلا بمخاطتهم،وحاله حال المعلم وحكمه،ويتطرق اليه من دقائق الآفات و الرياء ما يتطرّق الى نشر العلم إلا أن مخايل طلب الدنيا من المريدين الطالبين للارتياض أبعد منها من طلبه العلم،ولذلك يرى فيهم قلة وفي طلبة العلم كثرة.فينبغي أن يقيس ما تيسر له من الخلوة بما تيسر له من المخالطة وتهذيب القوم"وليقابل أحدهما بالآخر وليؤثر الأفضل،وذلك يدرك بدقيق الاجتهاد ويختلف بالأحوال و الأشخاص فلا يمكن الحكم عليه مطلقاً بنفي ولا إثبات .
    الفائدة الرابعة
    الاستئناس والإيناس
    وهو غرض من يحضر الولائم والدعوات ومواضع المعاشرة والأنس،وهذا يرجع الى حظ النفس في الحال.وقد يكون ذلك على وجه حرام بمؤانسة من لا تجوز مؤانسته،أو على وجه مباح.وقد يستحب ذلك الأمر الدين وذلك فيمن تستأنس بمشاهدة أحواله وأقواله في الدين كالأنس بالمشايخ الملازمين لسمت التقوى.وقد يتعلق بحظ النفس ويستحب إذا كان الغرض منه ترويح القلب لتهييج دواعي النشاط في العبادة،فإن القلوب إذا أكرهتعميت ومهما كان في الوحدة وحشة وفي المجالسة أنس يروّح القلب قهي أولى،إذ الوفق في العبادة من حزم العبادة ولذلك قال صلى اللّه عليه وسلم"إن اللّه لا يمل حتى تملوا"وهذا أمر لا يستغنى عنه فإن النفس لا تألف الحق على الدوام ما لم تروّح؛وفي تكليفها الملازمة داعية للفترة وهذا عنى بقوله عليه السلام"إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق"والإيغال فيه برفق دأب المستبصرين ولذلك قال ابن عباس:لولا مخافة الوسواس لم أجالس الناس،وقال مرة:لدخلت بلاد لا أنيس بها،وهل يفسد الناس إلا الناس?فلا يستغني المعتزل إذا عن رفيق يستأنس بمشاهدته ومحادثته في اليوم والليلة ساعة فليجتهد في طلب من لا يفسد عليه في ساعته تلك سائر ساعاته فقد قال صلى اللّه عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل"وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين وحكاية أحوال القلب وشكواه وقصوره عن الثبات على الحق و الاهتداء الى الرشد،ففي ذلك متنفس ومتروّح للنفس،فيه مجال رحب لكل مشغول بإصلاح نفسه فإنه لا تنقطع شكواه ولو عمر أعماراً طويلة،و الراضي عن نفسه مغرور قطعا.فهذا النوع من الاستئنناس في بعض أوقات النهار ربما يكون أفضل من العزلة في حق بعض الأشخاص فليتفقد فيه أحوال القلب وأحوال الجليس أوّلاً ثم ليجالس .
    الفائدة الخامسة
    في نيل الثواب وإنالته
    أما النيل فبحضور الجنائز وعيادة المريض وحضور العيدين،وأما حضور الجمعة فلا بد منه.وحضور الجماعة في سائر الصلوات أيضاً لا رخصة في تركه إلا الخوف ضر ظاهر يقاوم ما يفوت من فضيلة الجماعة ويزيد عليه،وذلك لا يتفق إلا نادراً.وكذلك في حضور الإملاكات و الدعوات ثواب من حيث أنه إدخال سرور على قلب مسلم .
    وأما أنالته فهو الباب لتعوده الناس أو لعزوه في المصائب أو يهنوه على النعم فإنهم ينالون بذلك ثواباً،وكذلك إذا كان من العلماء وإذن لهم في الزيارة نالوا ثواب الزيارة،وكان هو بالتمكين سبباً فيه فينبغي أن يزن ثواب هذه المخالطات بآفاتها التي ذكرناها،وعند ذلك قد ترجح العزلة وقد ترجح المخالطة.فقد حكي عن جماعة من السلف مثل مالك وغيره ترك إجابة الدعوات وعيادة المرضى وحضور الجنائز بل كانوا أحلاس بيوتهم لا يخرجون إلا الى الجمعة أو زيارة اللقبور،وبعضهم فارق الأمصار وانحاز الى قلل الجبال تفرغاً للعبادة وفراراً من الشواغل.
    الفائدة السادسة
    من المخالطة التواضع،فإنه من أفضل المقامات ولا يقدر عليه في الوحدة،وقد يكون الكبر سبباً في اختيار العزلة.فقد روي في الإسرائيليات أن حكيماً من الحكماء صنف ثلثمائة وستين مصحفاً في الحكمة حتى ظن أنه قد نال عند اللّه منزلة،فأوحى اللّه الى نبيه:قل لفلان إنك قد ملأت الأرض نفاقاً وإني لا أقبل من نفاقك شيئاً،قال:فتخلى وانفرد في سرب تحت الأرض وقال:الآن قد بلغت رضا ربي،فأوحى اللًه الى نبيه قل له:إنك لن تبلغ رضاي حتى تخالط الناس وتصبر على أذاهم،فخرج فدخل الأسواق وخالط الناس وجالسهم وواكلهم وأكل الطعام بينهم ومشى في الأسواق معهم،فأوحى اللّه تعالى الى نبيه:الآن قد بلغ رضاي.فكم من معتزل بيته وباعثه الكبر ومانعه عن المحافل أن لايوقر أو لايقدم،أو يرى الترفع عن مخالطتهم أرفع لمحله وأتقى لطراوة ذكره بين الناس،وقد يعتزل خيفة من أن تظهر مقابحه لو خالط فلا يعتقد فيه الزهد و الإشتغال بالعبادة فيتخذ البيت ستراً على مقابحه إبقاء على اعتقاد الناس في زهده وتعبده من غير استغراق وقت الخلوة بذكر أو فكر،وعلامة هؤلاء أنهم يحبون أن يزاروا ولا يحبون أن يزوروا.ويفرحون بتقرب العوام و السلاطين إليهم واجتماعهم على بابهم وطرقهم وتقبيلهم أيديهم على سبيل التبرك،ولو كان الإشتغال بنفسه هو الذي يبغض اليه المخالطة وزيارة الناس لبغض إليهزيارتهم له،كما حكيناه عن الفضيل حيث قال:وهل جئتني إلا لأتزين لك وتتزين لي.وعن حاتم الأصم أنه قال للأمير الذي زاره:حاجتي أن لا أراك ولا تراني.فمن ليس مشغولاً مع نفسه بذكر اللّه فاعتزاله عن الناس سببه شدة اشتغاله بالناس،لأن قلبه متجرّد للإلتفات الى نظرهم إليه بعين الوقار والإحترام.والعزلة بهذا السبب جهل من وجوه،أحدها:أن التواضع و المخالطة لا تنقص من منصب من هو متكبر بعلمه أو دينه إذ كان علي رضي اللّه عنه يحمل التمر و المللح في ثوبه ويده ويقول : لاينقص الكامل من كماله ما جرّ من نفع عيالـه
    وكان أبو هريرة وحذيفة وأبي وابن مسعود رضي اللّه عنهم يحملون حزم الحطب وجرب الدقيق على أكتافهم وكان أبو هريرة رضي اللّه عنه يقول - وهو والي المدينة و الحطب على رأسه - طرقوا لأميركم.وكان سيد المرسلين صلى اللّه عليه وسلم يشتري الشئ فيحمله الى بيته بنفسه؛فيقول له صاحبه:أعطني أحمله فيقول" صاحب الشئ أحق بحمله"وكان الحسن بن علي رضي اللّه عنهما يمر بالسؤال وبين أيديهم كسر فيقولون:هلم الى الغداء يا ابن رسول اللّه فكان ينزل ويجلس على الطريق ويأكل معهم ويركب ويقول"إن اللّه لا يحب المستكبرين"الوجه الثاني:أن الذي شغل نفسه بطلب رضا الناس عنه وتحسين اعتقادهم فيه مغرور لأنه لو عرف اللّه حق المعرفة علم أن الخلق لا يغنون عنه من اللّه شيئاً؛وأن ضرره ونفعه بيد اللّه ولا نافع ولا ضار سواه وأن من طلب رضا الناس ومحبتهم بسخط اللّه سخط اللّه عليه وأسخط عليه الناس،بل رضا الناس غاية لا تنال،فرضى اللّه أولى بالطلب ولذلك قال الشافعي ليونس بن عبد الأعلى:واللّه ما أقول لك إلا نصحاً إنه ليس الى السلامة من الناس من سبيل،فانظر ماذا يصلحك فافعله?ولذلك قيل: من راقب الناس مات غماً وفاز باللذة الـجـسـور
    ونظر سهل الى رجل من أصحابه فقال له:اعمل كذا وكذا - لشئ أمره به - فقال:يا أستاذ لا أقدر عليه لأجل الناس،فالتفت إلى أصحابه وقال:لا ينال عبد حقيقة من هذا الأمر حتى يكون بأحد وصفين؛عبد تسقط الناس من عينه فلا يرى في الدنيا إلا خالقه،وأن أحداً لا يقدر على أن يضره ولا ينفعه.وعبد سقطت نفسه عن قلبه فلا يبالي بأي حال يرونه.وقال الشافعي رحمه اللّه:ليس نم أحد وإلا له محب ومبغض فإذا كان هكذا فكن مع أهل طاعة اللّه وقيل للحسن:يا أبا سعيد إن قوماً يحضرون مجلسك ليس بغيتهم إلا أن تتبع سقطات كلامك وتعنيتك بالسؤال؛فتبسم وقال للقائل:هوّن على نفسك فإني حدثت نفسي بسكنى الجنان ومجاورة الرحمن فطمعت وما حدثت نفسي بالسلامة من الناس لأني قد علمت أن خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم لم يسلم منهم.وقال موسى صلى اللّه عليه وسلم يا رب احبس عني ألسنة الناس فقال:يا موسى هذا شئ لم اصطفه نفسي فكيف أفعله بك?وأوحى للّه سبحانه و تعالى الى عزير:إن لم تطب نفساً بأني اجعلك علكاً في أفواه الماضغين لم أكتبك عندي من المتواضعين.فإذن من حبس نفسه في البيت ليحسن اعتقادات الناس وأقوالهم فيه فهو في عناء حاضر في الدنيا"ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون" فإذن لا تستحب العزلة إلا لمستغرق الأوقات بربه ذكراً وفكراً وعبادة وعلماً بحيث لو خالطه الناس لضاعفت أوقاته وكثرت آفاته ولتشوشت عليه عباداته.فهذه غوائل خفية في اختيار العزلة ينبغي أن تتقي فإنها مهلكات في صور منجيات .
    الفائدة السابعة
    التجارب
    فإنها تستفاد من المخالطة للخلق ومجاري أحوالهم.و العقل الغريزي ليس كافياً في تفهم مصالح الدين والدنيا.وإنما تفيدها التجربة والممارسة،ولاخير في عزلة من لم تحنكه التجارب؛فالصبي إذا اعتزل بقي غمراً جاهلاً بل ينبغي أن يشتغل بالتعلم،ويحصل له في مدة التعلم ما يحتاج إليه من التجارب ويكفيه ذلك،ويحصل بقية التجارب بسماع الأحوال ولا يحتاج الى المخالطة.ومن أهم التجارب أن يجرب نفسه وأخلاقه وصفات باطنه وذلك لا يقدر عليه في الخلوة،فإن كل مجرب في الخلاء يسر،وكل غضوب أو حقود أو حسود إذا خلا بنفسه لم يترشح منه خبثه وهذه الصفات مهلكات في أنفسها يجب إماطتها وقهرها ولا يكفي تسكينها بالتباعد عما يحركها.فمثال القلب المشحون بهذه الخبائث مثال دمل ممتلئ بالصديد والمدة وقد لا يحس صاحبه بألمه مالم يتحرك أو يمسه غيره،فإن لم يكن له يد تمسه أو عين تبصر صورته ولم يكن من يحركه ربما ظن بنفسه السلامة ولم يشعر بالدمل في نفسه وأعتقد فقده.ولكن لو حركة محرك أو إصابة مشرط حجام لانفجر منه الصديد وفار فوران الشئ المختنق إذا حبس عن الإسترسال،فكذلك القلب المشحون بالحقد والبخل و الحسد و الغضب وسائر الأخلاق الذميمة إنما تتفجر منه خبائثه إذا حرك.وعن هذا كان السالكون لطرق الآخرة الطالبون لتزكية القلوب يجربون أنفسهم.فمن كان يستشعر في نفسه كبراً سعى في إماطته حتى كان بعضهم يحمل قربة ماء على ظهره بين الناس أو حزمة حطب على رأسه يتردد في الأسواق ليجرب نفسه بذلك؛فإن غوائل النفس ومكائد الشيطان خفية قل من يتفطن لها ولذلك حكي عن بعضهم أنه قال:أعدت الصلاة ثلاثين سنة مع كنت أصليها في الصف الأول،ولكن تخلفت يوماً بعذر فما وجدت موضعاً فيالصف الأول فوقفت في الصف الثاني فوجدت نفسي تستشعر خجلة من نظر الناس إلي وقد سبقت الى الصف الأول،فعلمت أن جميع صلواتي التي كنت أصليها كانت مشوبة بالرياء ممزوجة بلذة نظر الناس إلي ورؤيتهم إياي في زمرة السابقين الى الخير.فالمخالطة لها فائدة ظاهرة عظيمة في استخراج الخبائث وإظهارها.ولذلك قيل:السفر يسفر عن الأخلاق فإنه نوع من المخالطة الدائمة.وستأتي غوائل هذه المعاني ودقائقها في ربع المهلكات،فإن بالجهل بها يحيط العلم الكثير وبالعلم بها يزكو العمل القليل،ولولا ذلك ما فضل العلم على العمل،إذ يستحيل أن يكون العلم بالصلاة ولا يراد للصلاة إلا أفضل من الصلاة،فإنا نعلم أن ما يراد لغيره فإن ذلك الغير أشرف منه،وقد قضى الشرع بتفضيل العالم العابد حتى قال صلى اللّه عليه وسلم"فضل العالم على العابد كفضلي على أدنى رجل من أصحابي"فمعنى تفضيل العلم يرجع الى ثلاثة أوجه"أحدها "ما ذكرناه"والثاني"عموم النفع لتعدى فائدته و العمل لا تتعدى فائدته"والثالث" أن يراد به العلم باللّه وصفاته وأفعاله فذلك أفضل من كل عمل،بل مقصود الأعمال صرف القلوب عن الخلق الى الخالق لتنبعث بعد الإنصراف اليه لمعرفته ومحبته،فالعمل وعلم العمل مرادان لهذا العلم،وهذا العلم غاية المريدين والعمل كالشرط له،وإليه الإشارة بقوله تعالى " إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه"فالكلم الطيب هو هذا العلم،والعمل كالحمال الرافع له الى مقصده فيكون المرفوع أفضل من الرافع.وهذا كلام معترض لا يليق بهذا الكلام.فلنرجع الى المقصود فنقول:إذا عرفت فوائد العزلة وغوائلها تحققت أن الحكم عليها مطلقاً بالتفضيل نفياً وإثباتاً خطأ،بل ينبغي أن ينظر الى الشخص وحاله والى الخليط وحاله والى الباعث على مخالطته والى الفائت بسبب مخالطته من هذه الفوائد المذكورة،ويقاس الفائت بالحاصل فعند ذلك يتبين الحق ويتضح الأفضل،زكلام الشافعي رحمه اللّه هو فصل الخطاب إذ قال يا يونس،الإنقباض عن الناس مكسبة للعداوة والإنبساط اليهم مجلبة لقرناء السوء فكن بين المنقبض و المنبسط.فلذلك يجب الاعتدال في المخالطة والعزلة،ويختلف ذلك بالأحوال.وبملاحظة الفوائد والآفات يتبين الأفضل.هذا هو الحق الصراح وكل ما ذكر سوى هذا فهو قاصر.وإنما هو إخبار كل واحد عن حالة خاصة هو فيها،ولا يجوز أن يحكم بها على غيره والمخالف له في الحال.والفرق بين العالم والصوفي في ظاهر العلم يرجع الى هذا وهو أن الصوفي لا يتكلم إلا عن حاله فلا جرم تختلف أجوبته في المسائل،والعالم هو الذي يدرك الحق على ما هو عليه ولا
    ينظر الى حال نفسه فيكشف الحق فيه،وذلك مما لا يختلف فيه فإن الحق واحد أبداً،والقاصر عن الحق كثير لايحصى.ولذلك سئل الصوفية عن الفقر فما من واحد إلا وأجاب بجواب غير جواب الآخر،وكل ذلك حق بالإضافة إلى حاله وليس بحق في نفسه إذ الحق لا يكون إلا واحد.ولذلك قال أبو عبد الله الجلاء- وقد سئل عن الفقر- فقال:اضرب بكميك الحائط وقل ربى الله فهو الفقر.وقال الجنيد:الفقير هو الذي لا يسأل أحد ولا يعارض وإن عورض سكت.وقال سهل بن عبد الله: الفقير الذي لا يسأل ولا يدخر.وقال آخر:هو أن لا يكون لك فإن كان لك فلا يكون لك من حيث لم يكن لك.وقال إبراهيم الخواص:هو ترك الشكوى وإظهار أثر البلوى.والمقصود أنه لو سئل منهم مائة لسمع منهم مائة جواب مختلفة قلما يتفق منها اثنان،وذلك كله حق من وجه فإنه خبر كل واحد عن حاله وما غلب عن قلبه.ولذلك لا نرى اثنين منهم يثبت أحدهما لصاحبه قدما في التصوف أو يثنى عليه،بل كل واحد منهم يدعى أنه الواصل إلى الحق والواقف عليه؛لأن أكثر ترددهم على مقتضى الأحوال التي تعرض لقلوبهم فلا يشتغلون إلا بأنفسهم ولا يلتفتون إلى غيرهم.ونور العالم إذا أشرق أحاط بالكل وكشف الغطاء ورفع الاختلاف.ومثال نظر هؤلاء ما رأيت من نظر قوم في أدلة الزوال- بالنظر في الظل- فقال بعضهم هو في الصيف قدمان،وحكى عن آخر أنه نصف قدم،وآخر يرد عليه وأنه في الشتاء سبعة أقدام،وحكى عن آخر أنه خمسة أقدام،وآخر يرد عليه؛فهذا يشبه أجوبة الصوفية واختلافهم،فإن كل واحد من هؤلاء أخبر عن الظل الذي رآه ببلد نفسه،فصدق في قوله وأخطأ في تخطئته صاحبه إذ ظن أن العالم كله بلده أو هو مثل بلده،كما أن الصوفي لا يحكم على العالم إلا بما هو حال نفسه:والعالم بالزوال هو الذي يعرف علة طول الظل وقصره وعلة اختلافه بالبلاد فيخبر بأحكام مختلفة في بلاد مختلفة ويقول في بعضها لا يبقى ظل،وفي بعضها يطول،وفي بعضها يقصر فهذا ما أردنا أن نذكره من فضيلة العزلة والمخالطة.
    فإن قلت:فمن آثر العزلة ورآها أفضل له وأسلم فما آدابه في العزلة?فنقول:إنما يطول النظر في آداب المخالطة وقد ذكرناها في كتاب آداب الصحبة.وأما آداب العزلة فلا تطول فينبغي للمعتزل أن ينوي بعزلته كف شر نفسه عن الناس أولا،ثم طلب السلامة من شر الأشرار ثانيا،ثم الخلاص من آفة القصور عن القيام بحقوق المسلمين ثالثا،ثم التجرد بكنه الهمة لعبادة الله رابعا؛فهذه آداب نيته.ثم ليكن في خلوته مواظبا على العلم والعمل والذكر والفكر ليجتني ثمرة العزلة وليمنع الناس عن أن يكثروا غشيانه وزيارته فيشوش أكثر وقته.وليكف عن السؤال عن أخبارهم وعن الإصغاء إلى أراجيف البلد وما الناس مشغولون به،فإن كل ذلك ينغرس في قلب حتى ينبعث في أثناء الصلاة أو الفكر من حيث لا يحتسب،فوقوع الأخبار في السمع كوقوع البذر في الأرض فلا بد أن ينبت وتتفرع عروقه وأغصانه ويتداعى بعضها إلى بعض.وأحد مهمات المعتزل قطع الوساوس الصارفة عن ذكر الله.والأخبار ينابيع الوساوس وأصولها.وليقنع باليسير من المعيشة وإلا اضطره التوسع إلى الناس واحتاج إلى مخالطتهم.وليكن صبورا عل ما يلقاه من أذى الجيران وليسد سمعه عن الإصغاء إلى ما يقال فيه من ثناء عليه بالعزلة أو قدح فيه بترك الخلطة،فإن كل ذلك يؤثر في القلب ولو مدة يسيرة،وحال اشتغال القلب به لابد أن يكون واقفا عن سيره إلى الطريق الآخرة،فإن السير إما بالمواظبة على ورد وذكر مع حضور قلب،وإما بالفكر في جلال الله وصفاته وأفعاله وملكوت سمواته وأرضه،وإما بالتأمل في دقائق الأعمال ومفسدات القلوب وطلب طرق التحصن منها. وكل ذلك يستدعي الفراغ والإصغاء إلى جميع ذلك مما يشوش القلب في الحال.وقد يتجدد ذكره في دوام الذكر من حيث لا ينتظر.وليكن له أهل صالحة أو جليس صالح لتستريح نفسه إليه في اليوم ساعة من كد المواظبة ففيه عون على بقية الساعات.ولا يتم له الصبر في العزلة إلا بقطع الطمع عن الدنيا وما الناس منهمكون فيه،ولا ينقطع طمعه إلا بقصر الأمل بأن لا يقدر لنفسه عمرا طويلا،بل يصبح على أنه لا يمسي ويمسي على أنه لا يصبح،فيسهل عليه الصبر يوم ولا يسهل عليه العزم على الصبر عشرين سنة لو قدر تراخى الأجل.وليكن كثير الذكر للموت ووحدة القبر مهما ضاق قلبه من الوحدة.وليتحقق أن من لم يحصل في قلبه من ذكر الله ومعرفته ما يأنس به فلا يطيق وحشه الوحدة بعد الموت.وأن من أنس بذكر الله ومعرفته فلا يزيل الموت أنسه إذ لا يهدم الموت محل الأنس والمعرفة بل يبقى حيا بمعرفته وأنسه فرحا بفضل الله عليه ورحمته،كما قال الله تعالى في الشهداء "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله" وكل متجرد الله في جهاد نفسه فهو شهيد مهما أدركه الموت مقبلا غير مدبر "فالمجاهد من جاهد نفسه وهواه " وكما صرح به رسول الله ﷺ.والجهاد الأكبر جهاد النفس كما قال بعض الصحابة رضي الله عنهم:رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر،يعنون جهاد النفس.
    تم كتاب العزلة ، ويتلوه : كتاب آداب السفر ، والحمد لله وحده
    ========
   
👀👀
    كتاب آداب السفر
    وهو الكتاب السابع من ربع العادات من كتب إحياء علوم الدين
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي فتح بصائر أوليائه بالحكم والعبر،واستخلص همهم لمشاهدة عجائب صنعه في الحضر والسفر،فأصبحوا راضين بمجاري القدر منزهين قلوبهم عن التلفت إلى متنزهات البصر إلا على سبيل الاعتبار بما يسبح في مسارح النظر ومجاري الفكر،فاستوى عندهم البر والبحر والسهل والوعر والبدو والحضر.والصلاة على محمد سيد البشر وعلي وصحبه المقتفين لآثاره في الأخلاق والسير وسلم كثيرا.
    أما بعد فإن السفر وسيلة إلى الخلاص عن مهروب عنه أو الوصول إلى مطلوب ومرغوب فيه.والسفر سفران:سفر بظاهر البدن عن المستقر والوطن إلى الصحارى والفلوات،وسفر بسير القلب عن أسفل السافلين إلى ملكوت السموات.وأشرف السفرين السفر الباطل.فإن الواقف على الحالة التي نشأ عليها عقيب الولادة،الجامد على ما تلقفه بالتقليد من الآباء والأجداد،لازم درجة القصور وقانع بمرتبة النقص ومستبدل بمتسع فضاء "جنة عرضها السموات والأرض" ظلمة السجن وضيق الحبس،ولقد صدق القائل:
    ولم أر في عيوب الناس عيبا كنقص القادرين على التمام
    إلا أن هذا السفر لما كان مقتحمه في خطب خطير لم يستغن فيه عن دليل وغفير،فاقتضى غموض السبيل وفقد الخفير والدليل وقناعة السالكين عن الحظ الجزيل بالنصيب النازل القليل،اندرس مسالكه.فانقطع فيه الرفاق وخلا عن الطائفين متنزهات الأنفس والملكوت والآفاق.وإليه دعا الله سبحانه بقوله "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم" وبقوله تعالى "وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون" وعلى القعود عن هذا السفر وقع الإنكار بقوله تعالى "وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون" وبقوله سبحانه "وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون" فمن يسر له هذا السفر لم يزل في سيره متنزها في جنة عرضها السموات والأرض وهو ساكن بالبدن مستقر في الوطن.وهو السفر الذي لا تضيق فيه المناهل والموارد ولا يضر فيه التزاحم والتوارد،بل تزيد بكثرة المسافرين غنائمه وتتضاعف ثمراته وفوائده؛فغنائمه دائمة غير ممنوعة وثمراته متزايدة غير مقطوعة إلا إذا بدا للمسافر فترة في سفره ووقفة في حركته فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم،وإذا زاغوا أزاغ الله قلوبهم وما الله بظلام للعبيد،ولكنهم يظلمون أنفسهم ومن لم يؤهل للجولان في هذا الميدان والتطواف في متنزهات هذا البستان ربما سافر بظاهر بدنه في مدة مديدة فراسخ معدودة مغتنما بها تجارة للدنيا أو ذخيرة للآخرة،فإن كان مطلبه العلم والدين أو الكفاية للاستعانة على الدين كان من سالكي سبيل الآخرة،وكان له في سفره شروط وآداب إن أهملها كان من عمال الدنيا وأتباع الشيطان،وإن واظب عليها لم يخل سفره عن فوائد تلحقه بعمال الآخرة،ونحن نذكر آدابه وشروطه في بابين إن شاء الله تعالى.(الباب الأول)في الآداب من أول النهوض إلى آخر الرجوع وفي نية السفر وفائدته وفيه فصلان. (الباب الثاني) فيما لابد للمسافر من تعلمه من رخص السفر وأدلة القبلة والأوقات.
    الباب الأول
    في الآداب من أول النهوض إلى آخر الرجوع
    وفي نية السفر وفائدته
    وفيه فصلان:
    الفصل الأول
    في فوائد السفر وفضله ونيته
    اعلم أن السفر نوع حركة ومخالطة،وفيه فوائد وله آفات- كما ذكرناه في كتاب الصحبة والعزلة.
    والفوائد الباعثة على السفر لا تخلو من هرب أو طلب.فإن المسافر إما أن يكون له مزعج عن مقامه ولولاه لما كان له مقصد يسافر إليه،وإما أن يكون له مقصد ومطلب.
    والمهروب عنه إما أمر له نكاية في الأمور الدنيوية.كالطاعون والوباء إذا ظهر ببلد أو خوف سببه فتنة أو خصومة أو غلاء سعر.وهو إما عام كما ذكرناه أو خاص كمن يقصد بأذية في بلدة فيهرب منها وإما أمر له نكاية في الدين كمن ابتلى في بلده بجاه ومال واتسع أسباب تصده عن التجرد لله،فيؤثر الغربة والخمول ويجتنب السعة والجاه،أو كمن يدعى إلى بدعة قهرا أو إلى ولاية عمل لا تحل مباشرته فيطلب الفرار منه.
    وأما المطلوب فهو إما دنيوي كالمال والجاه أو ديني،والديني إما علم وإما عمل.
    والعلم إما علم من العلوم الدينية وإما علم بأخلاق نفسه وصفاته على سبيل التجربة؛وأما علم بآيات الأرض وعجائبها كسفر ذي القرنين وطوافه في نواحي الأرض.
    والعمل إما عبادة وإما زيارة.والعبادة هو الحج والعمرة والجهاد.والزيارة أيضا من القربات وقد يقصد بها مكان كمكة والمدينة وبيت المقدس.والثغور فإن الرباط بها قربة.وقد يقصد بها الأولياء والعلماء وهم إما موتى فتزار قبورهم وإما أحياء فيتبرك بمشاهدتهم ويستفاد من النظر إلى أحوالهم قوة الرغبة في الإقتداء بهم .
    فهذه هي أقسام الأسفار ويخرج من هذه القسمة أقسام :
    القسم الأول:السفر في طلب العلم،وهو إما واجب وإما نفل وذلك بحسب كون العلم واجبا أو نفلا.وذلك العلم إما علم بأمور دينه أو بأخلاقه في نفسه أو بآيات الله في أرضه.وقد قال عليه السلام "من خرج من بيته في طلب العلم فهو في سبيل الله حتى يرجع " وفي خبر آخر "من سلك طريقا يلتمس فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة " وكان سعيد ابن المسيب يسافر الأيام في طلب الحديث الواحد.وقال الشعبى:لو سافر رجل من الشام إلى أقصى اليمن في كلمه تدله على هدى أو ترده عن ردى ما كان سفره ضائعا.ورحل جابر بن عبد الله من المدينة إلى مصر مع عشرة من الصحابة فساروا شهرا في حديث بلغهم عن عبد الله أنيس الأنصاري يحدث به عن رسول الله ﷺ حتى سمعوه وكل مذكور في العلم محصل له-من زمان الصحابة إلى زماننا هذا- لم يحصل العلم إلا بالسفر وسافر لأجله،وأما علمه بنفسه وأخلاقه فذلك أيضا منهم فإن طريق الآخرة لا يمكن سلوكها إلا بتحسين الخلق وتهذيبه:ومن لا يطلع على أسرار باطنه وخبائث صفاته لا يقدر على تطهير القلب منها.وإنما السفر هو الذي يسفر عن أخلاق الرجال وبه يخرج الله الخبء في السموات والأرض وإنما سمى السفر سفرا لأنه يسفر عن الأخلاق:ولذلك قال عمر رضى الله عنه للذي زكى عنده بعض الشهود:هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم أخلاقه:لا،فقال:ما أراك تعرفه وكان بشر يقول:يا معشر القراء سيحوا تطيبوا فإن الماء إذا ساح طاب،وإذا طال مقامه في موضع تغير.وبالجملة فإن النفس في الوطن مع مواتاة الأسباب لا تظهر خبائث أخلاقها لاسئناسها بما يوافق طبعها من المألوفات المعهودة،فإذا حملت وعناء السفر وصرفت عن مألوفاتها المعادة وامتحنت بمشاق الغربة انكشفت غوائلها ووقع الوقوف على عيوبها فيمكن الاشتغال بعلاجها.وقد ذكرنا في كتاب العزلة فوائد المخالطة والسفر مخالطة مع زيادة اشتغال واحتمال مشاق.
    وأما آيات الله في أرضه ففي مشاهدتها فوائد للمستبصر،ففيها قطع متجاورات وفيها الجبال والبراري والبحار وأنواع الحيوان والنبات،وما من شئ منها إلا وهو شاهد لله بالوحدانية ومسبح له بلسان ذلق لا يدركه إلا من ألقى السمع وهو شهيد.وأما الجاحدون والغافلون والمغترون بلامع السراب من زهرة الدنيا فإنهم لا يبصرون ولا يسمعون لأنهم عن السمع معزولون وعن آيات ربهم محجوبون "يعملون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون" وما أريد بالسمع السمع الظاهر- فإن الذين أريدوا به ما كانوا معزولين عنه- وإنما أريد به السمع الباطن ولا يدرك بالسمع الظاهر إلا الأصوات.ويشارك الإنسان فيه سائر الحيوانات.فأما السمع الباطن فيدرك به لسان الحال الذي هو نطق وراء نطق الممال يشبه قول القائل- حكاية لكلام الوتد والحائط- قال الجدار للوتد:لم تشقني?فقال:سل من يدقنى،ولم يتركني ورائي الحجر الذي ورائي.وما من ذرة في السموات والأرض إلا ولها أنواع شاهدات لله تعالى بالوحدانية هي توحيدها،وأنواع شاهدات لصانعها بالتقدس هي تسبيحها،ولكن لا يفقهون تسبيحها- لأنهم لم يسافروا من مضيق سمع الظاهر إلى فضاء سمع الباطن ومن ركاكة لسان المقال إلى فصاحة لسان الحال- ولو قدر كل عاجز على مثل هذا السير لما كان سليمان عليه السلام مختصا بفهم منطق الطير ولما كان موسى عليه السلام مختصا بسماع كلام الله تعالى الذي يجب تقديسه عن مشابهة الحروف والأصوات.ومن يسافر ليستقرئ هذه الشهادات من الأسطر المكتوبة بالخطوط الإلهية على صفحات الجمادات لم يطل سفره بالبدن بل يستقر في موضع ويفرغ قلبه للتمتع بسماع نغمات التسبيحات من آحاد الذرات،فماله وللتردد في الفلوات وله غنية في ملكوت السموات?فالشمس والقمر والنجوم بأمره مسخرات . وهي إلى أبصار ذوى البصائر مسافرات في الشهر والسنة مرات،بل هي دائبة في الحركة على توالى الأوقات.فمن الغرائب أن يدأب في الطواف بآحاد المساجد من أمرت الكعبة أن تطوف به،ومن الغرائب أن يطوف في أكناف الأرض من يطوف به أقطار السماء.ثم مادام المسافر مفتقرا إلى أن يبصر عالم الملك والشهادة بالبصر الظاهر فهو بعد في المنزل الأول من منازل السائرين إلى الله والمسافرين إلى حضرته،وكأنه معتكف على باب الوطن لم يفض به المسير إلى متسع الفضاء،ولا سبب لطول المقام في هذا المنزل إلا الجبن والقصور.ولذلك قال بعض أرباب القلوب:إن الناس ليقولون افتحوا أعينكم حتى تبصروا،وأنا أقول:غمضوا أعينكم حتى تبصروا، وكل واحد من القولين حق إلا أن الأول خبر عن المنزل الأول القريب من الوطن،والثاني خبر عما بعده من المنازل البعيدة عن الوطن التي لا يطؤها إلا مخاطر بنفسه؛والمجاوز إليها ربما يتيه فيها سنين وربما يأخذه التوفيق بيده فيرشده الى سواء السبيل،والهالكون في التيه هم الأكثرون من ركاب هذه الطريق ولكن السائحون بنور التوفيق فازوا بالنعيم والملك المقيم وهم الذين سبقت لهم من اللّه الحسنى،واعتبر هذا الملك بملك الدنيا فإنه يقل بالإضافة الى كثرة الخلق طلابه،ومهما عظم المطلوب قل المساعد.ثم الذي يهلك أكثر من الذي يملك.ولا يتصدى لطلب الملك العاجز الجبان لعظيم الخطر وطول التعب: وإذا كانت النفوس كبـاراً تعبت في مرادها الأجسام
    وما أودع اللّه العز والملك في الدين والدنيا إلا في حين الخطر.وقد يسمى الجبان الجبن والقصور باسم الحزم و الحذر كما قيل: ترى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللـئيم
    فهذا حكم السفر الظاهر إذا أريد به السفر الباطن بمطالعة آيات اللّه في الأرض .
    فلنرجع الى الغرض الذي كنا نقصده ولنبين القسم الثاني:وهو أن يسافر لأجل العبادة إما لحج أو جهاد وقد ذكرنا فضل ذلك وآدابه وأعماله الظاهرة والباطنة في كتاب أسرار الحج ،ويدخل في جملته زيارة قبور الأنبياء عليهم السلام وزيارة قبور الصحابة والتابعين وسائر العلماء والأولياء،وكل من يتبرك بمشاهدته في حياته يتبرك بزيارته بعد وفاته.ويجوز شد الرحال لهذا الغرض ولا يمنع من هذا قوله عليه السلام"لا تشد الرحال إلا الى ثلاثة مساجد:مسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى"لأن ذلك في المساجد،فغنها متماثلة بعد هذه المساجد،وإلا فلا فرق بين زيارة قبور الأنبياء والأولياء والعلماء في أصل الفضل وإن كان يتفاوت في الدرجات تفاوتاً عظيماً بحسب اختلاف درجاتهم عند اللّه .
    وبالجملة زيارة الأحياء أولى من زيارة الأموات.والفائدة من زيارة الأحياء طلب بركة الدعاء وبركة النظر إليهمفإن النظر الى وجوه العلماء والصلحاء عبادة.وفيه أيضاً حركة للرغبة في الإقتداء بهم والتخلق بأخلاقهم وآدابهم؛هذا سوى اما ينتظر من الفوائد العلمية المسفادة من أنفاسهم وأفعالهم كيف ومجرد زيارة الأخوان في اللّه فيه فضل?كما ذكرناه في كتاب الصحبة.وفي التوراة:سر أربعة أميال زر أخاً في اللّه.وأما البقاع فلا معنى لزيارتها سوى المساجد الثلاثة وسوى الثغور للرباط بها،فالحديث ظاهر في أنه لا تشد الرحال لطلب بركة إلا الى المساجد الثلاثة.وقد ذكرنا فضائل الحرمين في كتاب الحج.
    وبيت المقدس له فضل كبير.خرج ابن عمر من المدينة قاصداً بيت المقدس حتى صلى فيه الصلوات الخمس ثم كر راجعاً من الغد الى المدينة.وقد سأل سليمان عليه السلام ربه عز وجل:أن من قصد هذا المسجد لايعنيه إلا الصلاة فيه؛أن لا تصرف نظرك عنه ما دام مقيماً فيه حتى يخرج منه؛وأن تخرجه من ذنوبه كيوم ولدته أمه فأعطاه اللّه ذلك.
    القسم الثالث:أن يكون السفر للهرب من سبب مشوّش الدين.وذلك أيضاً حسن فالفرار مما لا يطاق من سنن الأنبياء والمرسلين.
    ومما يجب الهرب منه الولاية والجاه وكثرة العلائق والأسباب فإن كل ذلك يشوش فراغ القلب،والدين لا يتم إلا بقلب فارغ عن غير اللّه،فإن لم يتم فراغه فلا يتصور أن يشتغل بالدين.ولا يتصور فراغ القلب في الدنيا عن مهمات الدنيا والحاجات الضرورية،ولكن يتصور تخفيفها وتثقيلها وقد نجا المخفون وهلك المثقلون.والحمد للّه الذي لم يعلق النجاة بالفراغ المطلق عن جميع الأوزار والأعباء،بل قبل المخف بفضله وشمله بسعة رحمته.والمخف هو الذي ليست الدنيا أكبر همه،وذلك لا يتيسر في الوطن امن اتسع جاهه وكثرت علائقه،فلا يتم مقصوده إلا بالغربة والخمول وقطع العلاقات التي لا بد عنها حتى يروض نفسه مدة مديدة.ثم ربما يمد اللّه بمعونته فينعم عليه بما يقوي به يقينه ويطمئن به قلبه فيستوي عنده الحضر والسفر ويتقارب عنده وجود الأسباب والعلائق وعدمها فلا يصدّه شئ منها عما هو بصدده من ذكر اللّه،وذلك مما يعز وجوده جداً بل الغالب على القلوب الضعف والقصور عن الاتساع للخلق والخالق،وإنما يسعد بهذه القوة الأنبياء والأولياء،والوصول اليها بالكسب شديد وإن كان للاجتهاد والكسب فيها مدخل أيضاً.ومثال تفاوت القوة الباطنة فيه كتفاوت القوّة الظاهرة في الأعضاء،فرب رجل ذو قوى ذى مرة سوى شديد الأعصاب محكم البنية يستقل بحمل ما وزنه ألف رطل مثلا،فلو أراد الضعيف المريض أن ينال رتبته بممارسة الحمل والتدريج فيه قليلاً قليلاً لم يقدر عليه،ولكن المممارسة والجهد يزيد في قوته زيادة ما وإن كان ذلك لا يبلغه درجته فلا ينبغي أن يترك الجهد عند اليأس عن الرتبة العليا فإن ذلك غاية الجهل ونهاية الضلال.وقد كان من عادة السلف رضي اللّه عنهم مفارقة الوطن خيفة من الفتن.وقال سفيان الثوري:هذا زمان سوء لا يؤمن فيه على الخامل فكيف على المشتهرين?هذا زمان رجل ينتقل من بلد الى بلد كلما عرف في موضع تحول الى غيره.وقال أبو نعيم:رأيت سفيان الثوري وقد علق قلته بيده ووضع جرابه على ظهره فقلت:الى أين يا أبا عبد اللّه?قال:بلغني عن قرية فيها رخص أريد أن أقيم بها،فقلت له:وتفعل هذا?قال:نعم إذا بلغك أن قرية فيها رخص فأقم بها فإنه أسلم لدينك وأقل لهمك وهذا هرب من غلاء السعر.وكان سرى السقطي يقول للصوفية:إذا خرج الشتاء فقد خرج أذار وأورقت الأشجار وطاب الإنتشار فانتشروا.وقد كان الخوّاص لايقيم ببلد أكثر من أربعين يوماً.وكان من المتوكلين ويرى الإقامة اعتماداً على الأسباب قادحا في التوكل.وسيأتي أسرار الإعتماد على الأسباب في كتاب التوكل إن شاء اللّه تعالى.
    القسم الرابع:السفر هرباً مما يقدح في البدن كالطاعون،أو في المال كغلاء السعر أو ما يجري مجراه.ولا حرج في ذلك بل ربما يجب الفرار في بعض المواضع،وربما يستحب في بعض بحسب وجوب ما يتريب عليه من الفوائد واستحبابه،ولكن يستثنى منه الطاعون فلا ينبغي أن يفر منه لورود النهي فيه.قال أسامة بن زيد:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم"إن هذا الوجع - أو الشقم - رجز عذب به بعض الأمم قبلكم،ثم بفي بعد في الأرض منه"وقالت عائشة رضي اللّه عنها:قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم"إ ن فناء أمتي بالطعن والطاعون فقلت:هذا الطعن قد عرفناه فما الطاعون?قال:غدة كعدة البعير تأخذهم في مراقهم،المسلم الميت منه شهيد والمقيم عليه المحتسب كالمرابط في سبيل اللّه،والفارّ منه كالفارّ من الزحف "وعن مكحول عن أم أيمن قالت:أوصى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعض أصحابه،لا تشرك باللّه شيئاً وإن عذبت أو حرقت وأطع والديك وإن أمراك أن تخرج من كل شئ هو لك فاخرج منه.ولا تترك الصلاة عمداً فإن من ترك الصلاة عمداً فقد برئت ذمة اللّه منه،وإياك والخمر فإنها مفتاح كل شر:وإياك والمعصية فإنها تسخط اللّه،ولا تفرّ من الزحف،وإن أصاب الناس موتان وأنت فيهم فاثبت فيهم،أنفق من طولك على أهل بيتك ولا ترفع عصاك عنهم أخفهم باللّه"فهذه الأحاديث تدل على أن الفرار من الطاعون منهي عنه وكذلك القدوم عليه.وسيأتي شرح ذلك في كتاب التوكل .فهذه أقسام الأسفار وقد خرج منه أن السفر ينقسم الى مذموم والى محمود والى مباح.والمذموم ينقسم الى حرام كإباق العبد وسفر العاق،والى مكروه كالخروج من بلد الطاعون.والمحمود ينقسم الى واجب كالحج وطلب العلم الذي هو فريضة على كل مسلم،والى مندوب اليه كزيارة العلماء وزيارة مشاهدهم .ومن هذه الأسباب تتبين النية في السفر فإن معنى النية الانبعاث لسبب الباعث والانتهاض لاجابة الداعية.ولتكن نيته الآخرة في جميع أسفاره،وذلك ظاهر في الواجب والمندوب؛ومحال في المكروه والمحظور.
    وأما المباح فمرجعه الى النية.فمهما كان قصده بطلب المال مثلاً التعفف عن السؤال ورعاية ستر الموءة على الأهل والعيال والتصدق بما يفضل عن مبلغ الحاجة صار هذا المباح بهذه النية من أعمال الآخرة.ولو خرج الى الحج وباعثه الرياء والسمعة لخرج عن كونه من أعمال الآخرة لقوله صلى اللّه عليه وسلم"إنما الأعمال بالنيات "فقوله صلى اللّه عليه وسلم الأعمال بالنيات عام في الواجبات والمندوبات والمباحات دون المحظورات فإن النية لا تؤثر في إخراجها عن كونها من المحظورات:وقد قال بعض السلف:إن اللّه تعالى قد وكل بالمسافرين ملائكة ينظرون الى مقاصدهم فيعطي كل واحد على قدر نيته.فمن كانت نيته الدنيا أعطي منها ونقص من آخرته أضعافه؛وفرق عليه همه وكثر بالحرص والرغبة شغله.ومن كانت نيته الآخرة أعطي من البصيرة والحكمة والفطنة وفتح له من التذكرة والعبرة بقدر نيته وجمع له همه ودعت له الملائكة واستغفرت له.
    وأما النظر في أن السفر هو الأفضل أو الإقامة،فذلك يضاهي النظر في أن الأفضل هو العزلة أو المخالطة?وقد ذكر مناهجه في كتاب العزلة فليفهم هذا منه فإن السفر نوع مخالطة مع زيادة تعب ومشقة وتفرق الهم وتشتت القلب في حق الأكثرين.والأفضل في هذا ما هو الأعون على الدين:ونهاية ثمرة الدين في الدنيا تحصيل معرفة اللّه تعالى وتحصيل الأنس بذكر اللّه تعالى،والأنس يحصل بدوام الذكر،والمعرفة تحصل بدوام الفكر.ومن لم يتعلم طريق الفكر والذكر لم يتمكن منهما.والسفر هو المعين على التعلم في الإبتداء.والإقامة هي المعينة على العمل بالعلم في الانتهاء.وأما السياحة في الأرض على الدوا فمن المشوشات للقلب إلا في حق الأقوياء،فإن المسافر وماله لعلى قلق إلا ما وقى اللّه،فلا يزال المسافر مشغول القلب تارة بالخوف على نفسه وماله،وتارة بمفارقة ما ألفه واعتاده في إقامته.وإن لم يكن معه مال يخاف عليه فلا يخلو عن الطمع والاستشراف الى الخلق فتارة يضعف قلبه بسبب الفقر،وتارة يقوى باستحكام أسباب الطمع.ثم الشغل بالحط والترحال مشوش لجميع الأحوال،فلا ينبغي أن يسافر المريد إلا في طب علم أو مشاهدة شيخ يقتدي به في سيرته وتستفاد الرغبة في الخير من مشاهدته،فان اشتغل بنفسه واستبصر وانفتح له طريق الفكر أوالعمل فالسكون أولى به،إلا أن أكثر متصوفة هذا الأعصار - لما خلت بواطنهم عن لطائف الأفكار ودقائق الأعمال ولم يحصل لهم أنس باللّه تعالى وبذكره في الخلوة وكانوا باطلين غير محترفين ولا مشغولين - قد ألفوا البطالة واستثقلوا العمل،واستوعروا طريق الكسب واستلانوا جانب السؤال والكدية،واستطابوا الرباطات المبنية لهم في البلاد،واستسخروا الخدم المنتصبين لللقيام بخدمة القوم واستخفوا عقولهم وأديانهم:من حيث لم يكن قصدهم من الخدمة إلا الرياء والسمعة وانتشار الصيت واقتناص الأموال بطريق السؤال تعللاً بكثرة الأتباع،فلم يكن لهم في الخانقاهات حكم ناقد،ولا تأديب للمريد بن نافع،ولا حجر عليهم قاهر،فبسوا المرقعات واتخذوا في الخانقاهات متنزهات،وربما تلقفوا ألفاظاً مزخرفة من أهل الطامات،فينظرون الى أنفسهم وقد تشبهوا بالقوم في خرقتهم وفي سياحتهم وفي لفظهم وعبارتهم وفي آداب ظاهرة من سيرتهم،فيظنون بأنفسهم خيراً ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً،ويعتقدون أن كل سوداء تمرة،ويتوهمون أن المشاركة في الظاهر توجب المساهمة في الحقائق وهيهات!فما أغزر حماقة من لا يميز بين الشحم والورم?فهؤلاء بغضاء اللّه فإن اللّه تعالى يبغض الشاب الفارغ.ولم يحملهم على السياحة إلا الشباب والفراغ،إلا من سافر لحج أو عمرة في غير رياء ولا سمعة،أو سافر لمشاهدة شيخ يقتدي به في علمه وسيرته وقد خلت البلاد عنه الآن.والأمور الدينية كلها قد فسدت وضعفت إلا التصوف فإنه قد انمحق بالكلية وبطل،لأن العلوم لم تندرس بعد،والعالم إن كان عالم سوء فإنما فساده في سيرته لا في علمه،فيبقى عالماً غير عامل بعلمه،والعمل غير العلم.وأما التصوف فهو عبارة عن تجرد القلب للّه تعالى واستحقار ما سوى اللّه.وحاصله يرجع الى عمل القلب والجوارح.ومهما فسد العمل فات الأصل.وفي أسفار هؤلاء نظر للفقهاء من حيث أنه إتعاب للنفس بلا فائدة،وقد يقال إن ذلك ممنوع.ولكن الصواب عندنا أن نحكم بالإباحة فإن حظوظهم التفرج عن كرب البطالة بمشاهدة البلاد المختلفة،وهذه الحظوظ وإن كانت خسيسة فنفوس المتحركين لهذه الحظوظ أيضاً خسيسة.ولا بأس بإتعاب حيوان خسيس لحظ خسيس يليق به ويعود إليه،فهو المتأذي والمتلذذ.والفتوى تقتضي تشتيت العوام في المباحات التي لا نفع فيها ولا ضرر:فالسابحون في غير مهم في الدين والدنيا بل لمحض التفرج في البلاد كالبهائم المترددة في الصحارى فلا بأس بسياحتهم ما كفوا عن الناس شرهم ولم يلبسوا على الخلق حالهم،وإنما عصيانهم في التلبيس والسؤال على اسم التصوف والأكل من الأوقاف التي وقفت على الصوفية،لأن الصوفي عبارة عن رجل صالح عدل في دينه مع صفات أخر وراء الصلاح.ومن أقل صفات أحوال هؤلاء أكلهم أموال السلاطين،وأكل الحرام من الكبائر فلا تبقى معه العدالة والصلاح،ولو تصور صوفي فاسق لتصور صوفي كافر وفقيه يهودي.وكما أن الفقيه عبارة عن مسلم مخصوص فالصوفي عبارة عن عدل مخصوص لا يقتصر في دينه على القدر الذي يحصل به العدالة.وكذلك
    من نظر الى ظواهرهم ولم يعرف بواطنهم وأعطاهم من ماله على سبيل التقرب الى اللّه تعالى حرم عليهم الأخذ وكان ما أكلوه سحتاً،وأعني به إذا كان المعطي بحيث لو عرف بواطن أحوالهم ما أعطاهم:فأخذ المال بإظهار التصوف من غير اتصاف بحقيقتهكأخذه بإظهار نسب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم على سبيل الدعوى،ومن زعم أنه علوى وهو كاذب وأعطاه مسلم ملا لحبه أهل البيت ولو علم أنه كاذب لم يعطه شيئاً فأخذه على ذلك حرام،وكذلك الصوفي.ولهذا احترز المحتاطون عن الأكل بالدين فإن المبالغ في الاحتياط لدينه لا ينفك في باطنه عن عورات لو انكشفت للراغب في مواساته لفترت رغبته عن المواساة.فلا جرم كانوا لا يشترون شيئاً بأنفسهم مخافة أن يسامحوا لأجل دينهم فيكونوا قد أكلوا بالدين.وكانوا يوكلون من يشتري لهم ويشترطون على الوكيل أن لا يظهر أنه لمن يشتري.نعم إنما يحل أخذ ما يعطي لأجل الدين إذا كان الأخذ بحيث لو علم المعطي من باطنه ما يعلمه اللّه تعالى لم يقتض ذلك فتورا في رأيه فيه،والعاقل المنصف يعلم من نفسه أن ذلك ممتنع أو عزيز؛والمغرور الجاهل بنفسه أحرى بأن يكون جاهلا بأمر دينه:فإن أقرب الأشياء الى قالبه قلبه فإذا التبس عليه أمر قلبه فكيف ينكشف له غيره?ومن عرف هذه الحقيقة لزمه لا محالة أن لا يأكل إلا من كسبه ليأمن هذه الغائلة،أو لا يأكل إلا من مال من يعلم قطعاً أنه لو انكشف له عورات باطنه لم يمنعه ذلك من مواساته.فإن اضطر طالب الحلال ومريد طيق الآخرة الى أخذ مال غيره فليصرح له،وليقل أنك إن كنت تعكيني لما تعتقده في من الدين فلست مستحقاً لذلك،ولو كشف اللّه تعالى ستري لم ترني بعين التوقير،بل اعتقدت أبي شر الخلق أو من شرارهم،فإن أعطاه مع ذلك فليأخذ،فإنه ربما يرضى منه هذه الخصلة وهو اعترافه على نفسه بركاكة الدين وعدم استحقاقه لما يأخذه.ولكن ههنا مكيدة للنفس بينة ومخادعة فليتفطن لها،وهو أنه قد يقول ذلك مظهراً أنه متشبه بالصالحين في ذمهم نفوسهم واستحقارهم لها ونظرهم اليها بعين المقت والإزدراء،فتكون صورة القدح والإزدراء وباطنه وروحه هو عين المدح والإطراء،فكم من ذام نفسه وهو لها مادح بعين ذمه،فذم النفس في الخلوة مع النفس هو المحمود.وأما الذم في الملأ فهو عين الرياء إلا إذا أورده إيراد يحصل للمستمع يقيناً بأنه مقترف للذنوب ومعترف بها.وذلك مما يمكن تفهيمه بقرائن الأحوال ويمكن تلبيسه بقرائن الأحوال.والصادق بينه ويبن اللّه تعالى يعلم أن مخادعته للّه عز وجل أو مخادعته لنفسه محال،فلا يتعذر عليه الاحتراز عن أمثال ذلك.فهذا هو القول في أقسام السفر ونية المسافر وفضيلته.
    الفصل الثاني
    في آداب المسافر من أول نهوضه الى آخر رجوعه
    وهي أحد عشر آدبا الأول:أن يبدأ برد المظالم وقضاء الديون واعداد النفقة لمن تلزمه نفقته،وبرد الودائع إن كانت عنده ولا يأخذ لزاده إلا الحلال الطيب،وليأخذ قدرا يوسع به على رفقائه.قال ابن عمر رضي اللّه عنهما من كرم الرجل طيب زاده في سفره.ولا بد في السفر من طيب الكلام وإطعام الطعام وإظهار مكارم الأخلاق في السفر،فإنه يخرج خبايا الباطن.ومن صلح لصحبة السفر صلح لصحبة الحضر:وقد يصلح في الحضر من لا يصلح في السفر.ولذلكقيل:إذا أثني على الرجل معاملوه في الحضر ورفقاؤه فلا تشكوا في صلاحه.والسفر من أسباب الضجر،ومن أحسن خلقه في الضجر فهو لحسن الخلق،وإلا فعند مساعدة الأمور على وفق الغرض قلما يظهر سوء الخلق.
    وقد قيل ثلاثة لا يلامون على الضجر:الصائم والمريض والمسافر،وتمام حسن خلق المسافر الإحسان الى المكاري ومعاونة الرفقة بكل ممكن والرفق بكل ممنقطع بأن لا يجاوزه إلا بالإعانة بمركوب أو زاد أو توقف لأجله.وتمام ذلك مع الرفقاء بمزاح ومطايبة في بعض الأوقات من غير فحش ولا معصية ليكون ذلك شفاء لضجر السفر ومشاقه.
    الثاني:أن يختار رفيقاً فلا يخرج وحده،فالرفيق ثم الطريق.وليكن رفيقه ممن يعينه علىالدين فيذكره إذا نسي ويساعده إذا ذكر،فإن الرمء على دين خليله ولا يعرف الرجل إلا برفيقه.وقد نهى صلى اللّه عليه وسلم عن أن يسافر الرجل وحدهوقال"الثلاثة نفر"وقال أيضاً"إذا كنتم ثلاثة في السفر فأمروا أحدكم"وكانوا يفعلون ذلك ويقولون:هذا أميرنا أمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.وليؤمروا أحسنهم أخلاقاً وأرفقهم بالأصحاب وأسرعهم الى الإيثار وطلب الموافقة.وإنما يحتاج الى أمير لأن الآراء تختلف في تعيين المنازل والطرق ومصالح السفر،ولا نظام إلا في الوحدة ولا فساد إلا في الكثرة.وإنما انتظم أمر العالم لأن مدبر الكل واحد"لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا"ومهما كان المدبر واحد انتظم أمر التدبير.وإذاكثر المدبرون فسدت الأمور في الحضر والسفر،إلا أن مواطن الإقامة لا تخلو عن أمير عام كأمير البلد.وأمير خاص كرب الدارزوأما السفر فلا يتعين له أمير إلا بالتأمير.فلهذا وجب التأمير ليجتمع شتات الآراء.ثم على الأمير أن لا ينظر إلا لمصلحة القوم وأن يجعل نفسه وقاية لهم،كما نقل عن عبد اللّه المروزي أنه صحبه أبو على الرباطي فقال:على أن تكون أنت الأمير أو أنا،فقال:بل أنت،فلم يزل يحمل الزاد لنفسه ولأبي علي على ظهره فأمطرت السماء ذات ليلة فقام عبد اللّه طول الليل على رأس رفيقه وفي يده كسا.يمنع عنه المطر فكلما قال له عبد اللّه:لا تفعل،يقول،ألم تقل إن الإمارة مسلمة لي?فلا تتحكم علي ولا ترجع عن قولك:حتى قال أبو علي:وددت أني مت ولم أقل له أنت الأمير،فهكذا ينبغي أن يكون الأمير.وقد قال صلى اللّه عليه وسلم"خير الأصحاب أربعة"وتخصيص الأربعة من بين سائر الأعداد لا بد أن يكون له فائدة،والذي ينقدح فيه أن المسافر لا يخلو عن رجل يحتاج الى حفظه وعن حاجة يحتاج الى التردد فيها"ولو كانوا ثلاثة لكان المتردد في الحاجة واحد فيبقى في السفر بلا رفيق،فلا يخلو عن خطر وعن ضيق قلب لفقد أنس الرفيق،ولو تردد في الحاجة اثنان لكان الحافظ للرحل واحدا،فلا يخلو أيضاً عن الخطر وعن ضيق الصدر.فإذن ما دون الأربعة لا يفي بالمقصود،وما فوق الأربعة يزيد فلا تجمعهم رابطة واحدة فلا ينعقد بينهم الترافق،لأن الخامس زيادة بعد الحاجة،ومن يستغني عنه لا تنصرف الهمة اليه فلا تتم المرافقة معه.نعم في كثرة الرفقاء فائدة للأمن من المخاوف ولكن الأربعة خير للرفاقة الخاصة لا للرفاقة العامة.وكم من رفيق في الطريق عند كثرة الرفاق لا يكلم ولا يخالط الى آخر الطريق للاستغناء عنه .
    الثالث:أن يودع رفقاء الحضر والأهل والأصدقاء:وليدع عند الوداع بدعاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.قال بعضهم:صحبت عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما من مكة الى المدينة حرسها اللّه،فلما أردت أن أرافقه شيعني وقال سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول"قال لقمان أن اللّه تعالى إذا استودع شيئاً حفظه وإني أستودع اللّه دينك وأمانتك وخواتيم عملك"وروى زيد بن أرقم عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال"إذا أراد أحدكم سفراً فليودع أخوانه فإن اللّه تعالى جاعل له في دعائهم البركة"وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه:أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان إذا ودع رجلاً قال"زودك اللّه التقوى وغفر ذنبك ووجهك الى الخير حيث توجهت"فهذا دعاء المقيم للمودع.وقال موسى بن وردان:أتيت أبا هريرة رضي اللّه عنه أودعه لسفر أردته،فقال ألا أعلمك يا ابن أخي شيئاً علمنيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عند الوداع،فقلت بلى قال قل"أستودعك اللّه الذي لا تضعيه ودائعه"وعن أنس بن مالك رضي اللّه عنه"أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال:إني أريد سفراً فأوصني فقال له"في حفظ اللّه وفي كنفه زودك اللّه التقوى وغفر ذنبك ووجهك للخير حيث كنت أو أينما كنت"شك في الراوي.
    وينبغي إذا استودع اللّه تعالى ما يخلفه أن يستودع الجمع ولا يخصص.فقد روي أن عمر رضي اللّه عنه كان يعطي الناس عطاياهم إذا جاءه رجل معه ابن له فقال له عمر:ما رأيت أشبه بأحد من هذا بك?فقال له الرجل:أحدثك عنه يا أمير المؤمنين بأمر،إني أردت أن أخرج الى سفر وأمه حامل به فقالت:تخرج وتدعني على هذه الحالة?فقلت:أستودع اللّه ما في بطنك،فخرجت ثم قدمت فإذا هي قد ماتت"فجلسنا نتحدّث فإذا نار على قبرها فقلت للقوم ما هذه النار?فقالوا:هذه النار من قبر فلانة نراها كل ليلة،فقلت:واللّه إنها لكانت صوّامة قوّامة،فأخذت المعول حتى انتهينا الى القبر فحفرنا فإذا سراج وإذا هذا الغلام يدب،فقيل لي أن هذه وديعتك ولو كنت استودعت أمه لوجدتها،فقال عمر رضي اللّه عنه:لهو أشبه بك من الغراب بالغراب.
    الرابع:أن يصلي قبل سفره صلاة الإستخارة كما وصفناها في كتاب الصلاة.ووقت الخروج يصلي لأجل السفر،فقد روى أنس بن مالك رضي اللّه عنه،أن رجلاً أتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال:إني نذرت سفراً وقد كتبت وصيتي فالى أي الثلاثة أدفعها?الى ابني أم أخي أم أبي:فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم"ما استخلف عبد في أهله من خليفة أحب الى اللّه من أربع ركعات يصليهن في بيته إذا شدّ عليه ثياب سفره،يقرأ فيهن بفاتحة الكتاب وقل هو اللّه أحد ثم يقول:اللهم إني أتقرب بهن إليك فاخلفني بهن في أهلي ومالي فهي خليفته في أهله وماله وحرز حول داره حتى يرجع الى أهله".
    الخامس:إذا حصل على باب الدار فليقل:بسم اللّه توكلت علىاللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه رب أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو أجهل أو يجهل علي،فإذا مشى قال:اللهم بك انتشرت وعليك توكلت وبك اعتصمت وإليك توجهت اللهم أنت ثقتي وأنت رجائي فاكفني ما أهمني وما لم أهتم به وما أنت أعلم به مني عز جارك وجل ثناؤك ولا إله غيرك اللهم زودني التقوى واغفر لي ذنبي ووجهني للخير أينما توجهت.وليدع بهذا الدعاء في كل منزل يرحل عنه.فإذا ركب الدابة فليقل:بسم االلّه وباللّه واللّه أكبر توكلت على اللّه ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم ما شاء اللّه كان وما لم يشأ لم يكن سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا لربنا لمنقلبون.فإذا استوت الدابة تحته فليقل"الحمد للّه الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه "اللهم أنت الحامل على الظهر وأنت المستعان على الأمور.
    السادس:أن يرحل عن المنزل بكرة.روى جابر:أن النبي صلى اللّه عليه وسلم رحل يوم الخميس وهو يريد تبوك وقال"اللهم بارك لأمتي في بكورها"ويستحب أن يبتدئ بالخروج يوم الخميس،فقد روى عبد اللّه بن كعب بن مالك عن أبيه قال:قلما كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يخرج الى سفر إلا يوم الخميس.وروى أنس:أنه صلى اللّه عليه وسلم قال"اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم السبت"وكان صلى اللّه عليه وسلم إذا بعث سرية بعثها أوّل النهار.وروى أبو هريرة رضي اللّه عنه أنه صلى اللّه عليه وسلم قال"اللهم بارك لأمتي في بكورها يوم خميسها"وقال عبد اللّه بن عباس:إذا كان لك الى رجل حاجة فاطلبها منه نهارا ولا تطلبها ليلاً واطلبها بكرة،فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول"اللهم بارك لأمتي في بكورها".
    ولا ينبغي أن يسافر بعد طلوع الفجر من يوم الجمعة فيكون عاصياً بترك الجمعة،واليوم منسوب اليها - فكان أوله من أسباب وجوبها.والتشييع للوداع مستحب وهو سنة قال صلى اللّه عليه وسلم"لأن أشيع مجاهداً في سبيل اللّه فأكتنفه على رحله غدو أو روحه أحب الى الدنيا وما فيها".
    السابع:أن لا ينزل حتى يحمى النهار فهي السنة ويكون أكثر سيره بالليل.قال اللّه عليه وسلم"غليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل ما لاتطوي بالنهار"ومهما أشرف على المنزل فليقل:اللهم رب السموات السبع وما أظللن ورب الأرضين السبع وما أقللن ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وماذرين ورب البحار وما جرين أسألك خير هذا المنزل وخير أهله وأعوذ بك من شر هذا المنزل وشر ما فيه أصرف عني شر شرارهم.فإذا نزل المنزل فليصل فيه ركعتين ثم ليقل:اللهم إني أعوذ بكلمات اللّه التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق.فإذا جن الليل فليقل:يا أرض ربي وربك اللّه أعوذ باللّه من شرك ومن شر ما فيك وشر ما دب عليك أعوذ باللّه من شر كل أسد وأسود وحية وعقرب ومن ساكني البلد ووالد وما ولد"وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم"ومهما علا شرفاً من الأرض في وقت السير فينبغي أن يقول:اللهم لك الشرف على كل شرف ولك الحمد على كل حال،ومهما هبط سبح ومهمنا خاف الوحشة في سفره قال:سبحان الملك القدّوس رب الملائكة والروح جللت السموات بالعزة والجبروت.
    الثامن:أن يحتاط بالنهار فلا يمشي منفرداً خارج القافلة - لأنه ربما يغتال أو ينقطع - ويكون بالليل متحفظاً عند النوم.كان صلى اللّه عليه وسلم إذا نام في ابتداء الليل في السفر افترش ذراعيه وإن نام في آخر الليل نصب ذراعيه نصباً وجعل رأسه في كفه.والغرض من ذلك أن لا يستثقل في النوم فتطلع الشمس وهو نائم لا يدري فيكون ما يفوته من الصلاة أفضل مما يطلبه بسفره .
    والمستحب بالليل أن يتناوب الرفقاء في الحراسة فإذا نام واحد حرس آخرفهذه السنة.ومهما قصده عدوّ أو سبع في ليل أو نهار فليقرأ آية الكرسي وشهد اللّه وسور الإخلاص والمعوّذتين.وليقل:بسم اللّه ما شاء اللّه لا قوة إلا باللّه حسبي اللّه توكلت على اللّه ما شاء اللّه لا يأتي بالخيرات إلا اللّه ما شاء اللّه لا يصرف السوء إلا اللّه حسبي اللّه وكفى سمع اللّه لمن دعا ليس وراء اللّه منتهى ولا دون اللّه ملجأ"كتب اللّه لأغلبن أنا ورسلي إن اللّه قوي عزيز"تحصنت بالله العظيم واستعنت بالحي القيوم الذي لا يموت اللّهم احرسنا بعينك التي لا تنام واكنفنا بركتك الذي لا يرام اللهم ارحمنا بقدرتك علينا فلا تهلك وانت ثقتنا ورجاؤنا اللهم أعطف علنا قلوب عبادك وإمائك برأفة ورحمة إنك أنت أرحم الراحمين.
    التاسع:أن يرفق بالدابة إن كان راكباً فلا يحملها مالا تطيق.ولا يضر بها في وجهها فإنه منهي عنه،ولا ينام عليها فإنه يثقل بالنوم وتتأذى به الدابة كان أهل الورع لا ينامون علىالدواب إلا غفوة:وقال صلى اللّه عليه وسلم لا تتخذوا ظهور دوابكم كراسيويستحب أن ينزل عن الدابة غدوة وغشية يروّحها بذلك فهو سنة وقيه آثار عن السلف.
    وكان بعض السلف يكتري بشرط أن لا ينزل ويوفي الأجرة.ثم كان ينزل ليكون بذلك محسناً الى الدابة فيوضع في ميزان حسناته لا في ميزان حسنات المكارى.ومن آذى بهيمة بضرب أو حمل مالا تطيق طولب به يوم القيامة إذ في كل كبد حراء أجر.قال أبو الدرداء رضي اللّه عنه لبعير له عند الموت:أيها البعير لا تخاصمني الى ربك فإني لم أك أحملك فوق طاقتك.وفي النزول ساعة صدقتان،إحداهما:ترويح الدابة:والثانية:إدخال السرور على قلب المكاري.وفيه فائدة أخرى وهي رياضة البدن وتحريك الرجلين.والحذر من خدر الأعضاء بطول الركوب.وينبغي أن يقرّر مع المكاري ما يحمله عليها شيئاً شيئاً ويعرضه عليه،ويستأجر الدابة بعقد صحيح لئلا يثور بينهما نزاع يؤذي القلب ويحمل على الزيادة في الكلام،فما يلفظ العبد من قول إلا لديه رقيب عتيد.فليحترز عن كثرة الكلام واللجاج مع المكارى،فلا ينبغي أن يحمل فوق المشروط شيئاً وإن خف.فإن القليل يجر الكثير ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه.قال رجل لابن المبارك وهو على دابة:احمل لى هذه الرقعة الى فلان.فقال:حتى استأذن المكارى فإني لم أشارطه على هذه الرقعة.فانظر كيف لم يلتفت الى قول الفقهاء إن هذا مما يتسامح فيه ولكن سلك طريق الورع? العاشر:ينبغي أن يستصحب ستة أشياء.قالت عائشة رضي اللّه عنها:كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا سافر حمل معه خمسة أشياء.المرآة والمكحلة والمقراض والسواك والمشط"وفي رواية أخرى عنها،ستة اشياء المرآة والقراورة والمقراض والسواك والمكحلة والمشط.وقالت أم سعد الأنصارية:كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم لا يفارقه في السفر المآة والمكحلة وقال صهيب قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعليكم بالإثمد عند مضجعكم فإنه مما يزيد في البصر وينبت الشعر"وروي أنه كان يكتحل ثلاثاً ثلاثا،وفي رواية:أنه اكتحل لليمنى ثلاثاً ولليسرى اثنتينوقد زاد الصوفية الركوة والحبل.وقال بعض الصوفية:إذا لم يكن مع الفقير ركوة وحبل دل على نقصان دينه.وإنما زادوا هذا لما رأوه من الإحتياط في طهارة الماء وغسل الثياب،فالركوة لحفظ الماء الطاهر،والحبل لتجفيف الثوب المغسول ولنزع الماء من الآبار.وكان الأوّلون يكتفون بالتيمم ويغنون أنفسهم عن نقل الماء.ولا يبالون بالوضوء من الغدران ومن المياه كلها مالم يتيقنوا نجاستها حتى توضأ عمر رضي اللّه عنه من ماء في جرة نصرانية.وكانوا يكتفون بالأرض والجبال عن الحبل فيفرشون الثياب المغسولة عليها.فهذه بدعة حسنة،وإنما البدعة المذمومة ما تضاد السنن الثابتة،وأما ما يعين إلى الإحتياط في الدين فمستحسن.
    وقد ذكرنا أحكام المبالغة في الطهارات في كتاب الطهارة.وأن المتجرد لأمر الدين لا ينبغي أن يؤثر طريق الرخصة بل يحتاط في الطهارة ما لم يمنعه ذلك عن عمل أفضل منه .
    وقيل كان الخواص من المتوكلين وكان لا يفارقه أربعة أشياء في السفر والحضر:الركوة والحبل والإبرة بخيوطها والمقراض،وكان يقولكهذه ليست من الدنيا .
    الحادي عشر:في آداب الرجوع من السفر:كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج أو عمرة أو غيره يكبر على كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ويقول"لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شئ قدير آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون صدق اللّه وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده"وإذا أشرف على مدينته فليقل:اللهم اجعل لنا بها قرارا ورزقاً حسناً.ثم ليرسل الى أهله من يبشرهم بقدومه كيلا يقدم عليهم بغتة فيرى ما يكرهه،ولا ينبغي أن يطرقهم ليلاًفقد ورد النهي عنه.وكان صلى اللّه عليه وسلم إذا قدم دخل المسجد أولاً وصلى ركعتين ثم دخل البيتوإذا دخل قالطتوبا توبا لربنا أوبا أوبا لا يغادر علينا حوبا".
    وينبغي أن يحمل لأهل بيته وأقاربه تحفة من مطعوم أو غيره على قدر إمكانه فهو سنة.فقد روي:أنه إن لم يجد شيئاً فليضع في مخلاته حجراًوكأن هذا مبالغة في الإستحثاث على هذه المكرمة لأن الأعين تمتدّ الى القادم من السفر والقلوب تفرح به،فيتأكد الإستحباب في تأكيد فرحهم وإظهار التفات القلب في السفر الى ذكرهم بما يستصحبه في الطريق لهم فهذه جملة من الآداب الظاهرة.
    وأما الآداب الباطنة:ففي الفصل الأول بيان جملة منها.وجملته أن لا يسافر إلا إذا كان زيادة دينه في السفر.ومهما وجد قلبه متغيراً الى نقصان فيقف ولينصرف ولا ينبغي أن يجاوز همه منزله بل ينزل حيث ينزل قلبه وينوي في دخول كل بلدة أن يرى شيوخها ويجتهد أن يستفيد من كل واحد منهم أدباً أو كلمة لينتفع بها،لا ليحكي ذلك ويظهر أنه لقى المشايخ.ولا يقيم ببلدة أكثر من أسبوع أو عشرة أيام إلا أن يأمره الشيخ المقصود بذلك.ولا يجالس في مدّة الإقامة إلا الفقراء الصادقين.وإن كان قصده زيلرة أخ فلا يزيد على ثلاثة أيام فهو حد الضيافة إلا إذا شق على أخيه مفارقته.وإذا قصد زيارة شيخ فلا يقيم عنده أكثرة من يوم وليلة.ولا يشغل نفسه بالعشرة فإن ذلك يقطع بركة سفره.وكلما دخل بلداً لا يشتغل بشئ سوى زيارة الشيحخ بزيارة منزله،فإن كان في بيته فلا يدق عليه بابهولا يستأذن عليه إلا أن يخرج،فإذا خرج تقدم إليه بأدب فسلم عليه،ولا يتكلم بين يديه إلا أن يسأله،فإن سأله أجاب بقدر السؤال،ولا يسأله عن مسألة مالم يستأذن أولاً.وإذا كان في السفر فلا يكثر ذكر أطعمة البلدان وأسخيائها ولا ذكر أصدقائه فيها،وليذكر مشايخها وفقراءها.ولا يهمل في سفره زيارة قبور الصالحين بل يتفقدها في كل قرية وبلدة.ولا يظهر حاجته إلا بقدر الضرورة ومع من يقدر على إزالتها.ويلازم في الطريق الذكر وقراءة القرآن بحيث لا يسمع غيره.وإذا كلمه إنسان فليترك الذكر ولجبه مادام يحدثه ثم ليرجع الى ما كان عليه.فإن تبرمت نفسه بالسفر أو بالإقامة فاليخالفها فالبركة في مخالفة النفس.وإذا تيسرت له خدمة قوم صالحين فلا ينبغي له أن يسافر تبرماً بالخدمة فذلك كفران نعمة.ومهما وجد نفسه في نقصان عما كان عليه في الحضر فليعلم أن سفره معلول وليرجع إذ لو كان لحق لظهر أثره.قال رجل لأبي عثمان المغربي:خرج فلان مسافراً،فقال:السفر غربة والغربة ذلة وليس للمؤمن أنن يذل نفسه،وأشار به الى أنّ من ليس له في السفر زيادة دين فقد أذل نفسه وإلا فعز الدين لا ينال إلا بذلة الغربة.فليكن سفر المريد من وطن هواه ومراده وطبعه حتى يعز في هذه الغربة ولا يذل فإن من اتبع هواه في سفره ذل لا محالة إما عاجلاً وإما آجلاً.=====
    الباب الثاني
    فيما لابد للمسافر من تعلمه من رخص السفر
    وأدلة القبلة والأوقات
    أعلم أن المسافر يحتاج في أوّل سفره الى أن يتزوّد لدنياه ولآخرته.
    أم زاد الدنيا:فالطعام والشراب وما يحتاج إليه من نفقة.فإن خرج متوكلاً من غير زاد فلا بأس به إذا كان سفره في قافلة أو بين قرى متصلة.وإن ركب البادية وحده أو مع قوم لا طعام معهم ولا شراب فإن كان ممن يصبر على الجوع - أسبوعاً أو عشراً مثلاً - أو يقدر على أن يكتفي بالحشيش فله ذلك.وإن لم يكن له قوّة الصبر على الجوع ولا القدرة على الإجتزاء بالحشيش فخروجه من غير زاد معصية فإنه ألقى نفسه بيده الى التهلكة ولهذا سر سيأتي في كتاب التوكل.
    وليس معنى التوكل التباعد عن الأسباب بالكلية،ولو كان كذلك لبطل التوكل بطلب الدلو والحبل ونزع الماء من البئر،ولوجب أن يصبر يسخر اللّه له ملكاً أو شخصاً آخر حتى يصب الماء في فيه.فإن كان حفظ الدلو والحبل لا يقدح فيه.وستأتي حقيقة التوكل في موضعها فإنه يلتبس إلا على المحققين من علماء الدين.
    وأما ذاد الآخرة فهو العلم الذي يحتاج إليه في طهارته وصومه وصلاته وعبادته فلا بد وأن يتزود منه،إذ السفر تارة يخفف عنه أموراً فيحتاج الى معرفة القدر الذي يخففه السفر كالقصر والجمع والفطر،وتارة يشدد عليه أموراً كان مستغنياً عنها في الحضر كالعلم بالقبلة وأوقات الصلوات،فإنه في البلد يكتفي بغيره من محاريب وأذان المؤذنين وفي السفر قد يحتاج الى أن يتعرّف بنفسه.فإذن ما يفتقر الى تعلمه ينقسم الى قسمين:
    القسم الأول
    العلم برخص السفر
    والسفر يفيد في الطهارة رخصتين:مسح الخفين والتيمم،وفي صلاة الفرض رخصتين:القصر والجمع،وفي النفل رخصتين:أداؤه على الراحلة وأداؤه ماشياً،وفي الصوم رخصة واحدة وهي الفطر.فهذه سبع رخص.
    الرخصة الأولى:المسح على الخفين،قال صفوان بن عسال أمرنا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا كنا مسافرين أو سفر أن لاننزع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهنفكل من لبس الخف على طهارة مبيحة للصلاة ثم أحدث فله أن يمسح على خفه من وقت حدثه ثلاثة أيام ولياليهن إن كان مسافراً،أو يوماً وليلة إن كان مقيماً ولكن بخمسة شروط: الأول:أن يكون اللبس بعد كمال الطهارة فلو غسل الرجل اليمنى وأدخلها في الخف ثم غسل اليسرى فأدخلها في الخف لم يجز له المسح عند الشافعي رحمه اللّه حتى ينزع اليمنى ويعيد لبسه .
    الثاني:أن يكون الخف قوياً يمكن المشي فيه،ويجوز المسح على الخف وإن لم يكن منعلاً إذ العادة جارية بالتردد فيه في المنازل لأن فيه قوة على الجملة،بخلاف جورب الصوفية فإنه لايجوز المسح عليه وكذا الجرموق الضعيف.
    الثالث:أن لايكون في موضع فرض الغسل خرق،فإن تخرق بحيث انكشف محل الفرض لم يجز المسح عليه.وللشافعي قول قديم إنه يجوز مادام يستمسك على الرجل،وهو مذهب مالك رضي اللّه عنه.ولابأس به لمسيس الحاجة إليهوتعذر الخرز في السفر في كل وقت.والمداس المنسوج يجوز المسح عليه مهما كان ساتراً لاتبدو بشرة القدم من خلاله،وكذا المشقوق الذي يرد على محل الشق بشرج لأن الحاجة تمس الى جميع ذلك فلا يعتبر إلا أن يكون ساتراً الى مافوق الكعبين كيفما كان.فأما إذا ستر بعض ظهر القدم وستر الباقي باللفافة لم يجز المسح عليه.
    الرابع:أن لاينزع الخف بعد المسح عليه،فإن نزع فالأولى له استئناف الوضوء،فإن اقتصر على غسل القدمين جاز.
    الخامس:أن يمسح على الموضع المحاذي لمحل فرض الغسل لا على الساق،وأقله ما يسمى مسحاً على ظهر القدممن الخف.وإذا مسح بثلاث أصابع أجزأه،والأولى أن يخرج من شبهة الخلاف وأكمله أن يمسح أعلاه وأسفله دفعة واحدة من غير تكراركذلك فعل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم.ووصفه:أن يبل اليدين ويضع رؤوس أصابع اليمنى من يده على رؤوس أصابع اليمنى من رجله ويمسحه بأن يجر أصابعه الى جهة نفسه،ويضع رؤوس أصابع يده اليسرى على عقبه من أسفل الخف ويمرها الى رأس القدم.ومهما مسح مقيماً ثم سافر اأو مسافراً ثم أقام غلب حكم الإقامة فليقتصر على يوم وليلة.وعدد الأيام الثلاثة محسوب من وقت حدثه بعد المسح على الخف،فلو لبس الخف في الحضر ومسح في الحضر ثم خرج وأحدث في السفر وقت الزوال مثلاً مسح ثلاثة أيام ولياليهنمن وقت الزوال الى الزوال من اليوم الرابع،فإذا زالت الشمس من اليوم الرابع لم يكن له أن يصلي إلا بعد غسل الرجلين فيغسل رجليه ويعيد لبس الخف،ويراعي وقت الحدث.ولو أحدث بعد لبس الخف في الحضر ثم خرج بعد الحدث فله أن يمسح ثلاثة أيام لأن العادة قد تقتضي اللبس قبل الخروج ثم لا يمكن الاحتراز من الحدث.فأما إذا مسح في الحضر ثم سافر اقتصر على مدة المقيمين.
    ويستحب لكل من يريد لبس الخف في حضر أو سفر أن ينكس وينفض ما فيه حذراً من حية أو عقرب أو شوكة.فقد روي عن أبي أمامة أنه قال:دعا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بخفيه فلبس أحدهما؛فجاء غراب فاحتمل الآخر ثم رمى به فخرجت منه حية؛فقال صلى اللّه عليه وسلم"من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر فلا يلبس خفيه حتى ينفضهما".
    الرخصة الثانية:التيمم بالتراب بدلاً من الماء عند العذر؛إنما يتعذر الماء بأن يكون بعيداً عن المنزل لو مشى إليه لم يلحقه غوث القافلة إن صاح أو استغاث،وهو البعد الذي لا يعتاده أهل المنزل - في تردادهم لقضاء الحاجة - التردد إليه.وكذا إن نزل على الماء عدوّ أو سبع فيجوز التيمم وإن كان الماء قريباً.وكذا إن احتاج إليه لعطشه في يومه لفقد الماء بين يديه فله التيمم.وكذا إن احتاج إليه لعطش أحد رفقائه فلا يجوز له الوضوء،ويلزمه بذله إما بثمن أو بغير ثمن ولو كان يحتاج إليه لطبخ مرقة أو لحم أو لبل فتيت يجمعه به لم يجز له التيمم بل عليه أن يجتزي بالفتيت اليابس ويترك تناول المرقة.ومهما وهب له الماء وجب قبوله،وإن وهب له ثمنه لم يجب قبوله لما فيه من المنة.وإن بيع بثمن المثل لزمه الشراء وإن بيع بغبن لم يلزمه.فإذا لم يكن معه ماء وأراد أن يتيمم فأول ما يلزمه طلب الماء مهما جوّز الوصول إليه بالطلب،وذلك بالتردد حوالي المنزل وتفتيش الرحل وطلب البقايا من الأواني والمطاهر.فإن نسي الماء في رحله أو نسي بئراً بالقرب منه لزمه إعادة الصلاة لتقصيره في الطلب.وإن علم أنه سيجد الماء في آخر الوقت فالأولى أن يصلي بالتيمم في أول الوقت فإن العمر لا يوثق به.وأول الوقت رضوان اللّه.
    تيمم ابن عمر رضي اللّه عنهما فقيل له:أتتيمم وجدران المدينة تنظر إليك?فقال:أو أبقى الى أن أدخلها?ومهما وجد الماء بعد الشروع في الصلاة لم تبطل صلاته ولم يلزمه الوضوء.وإذا وجده قبل الشروع في الصلاة لزمه الوضوء.
    ومهما طلب فلم يجد فليقصد صعيداً طيباً عليه تراب يثور منه غبار،وليضرب عليه كفيه بعد ضم أصابعهما ضربة فيمسح بها وجهه،ويضرب ضربة أخرى - بعد نزع الخاتم - ويفرج الأصابع ويمسح بها يديه الى مرفقيه فإن لم يستوعب بضربة واحدة جميع يديه ضرب ضربة أخرى،وكيفية التلطف فيه ما ذكرناها في كتاب الطهارة فلا نعيده.
    ثم اذا صلى به فريضة واحدة فله ان يتنفل ماشاء بذلك التيمم.وان اراد الجمع بين فريضتين فعليهان يعيد التيمم للصلاة ثانية،فلا يصلى فريضتين الا بتيممين.ولاينبغى ان يتيمم لصلاة قبل دخول وقتها؛فإن فعل وجب عليه اعادة التيمم.ولينوعند مسح الوجه:استباحة الصلاة.ولووجد من الماء مايكفيه لبعض طهارته فيستعمله ثم ليتيمم بعده تيمما تاما.
    الرخصة الثالثة:في الصلاة المفروضة،القصر:وله أن يقتصر في كل واحدة من الظهروالعصر والعشاء علىركعتين ولكن بشوط ثلاثة:"الاول" أن يوديهافي أوقاتها فلو صارت قضاء فلاظهر لزوم الاتمام "الثاني"أى ينوي القصر فلو نوى الإتمام لزمه الإتمام،ولو شك في أنه نوى القصر أو الإتمام لزمه الإتمام "الثالث" أي لا يقتدي بمقيم ولابمسافر متم،فإن فعل لزمه الإتمام بل إن شك في ان إمامه مقيم أو مسافر لزمه الإتمام، وان تيقن بعده أنه مسافر لان شعار المسافر لاتخفى فليكن متحققا عند النية،وان شك في أن إمامه هل نوى للقصر أم لابعد أن عرف أنه مسافر لم يضره ذلك،لان النيات لايطلع عليها.وهذا كله إذا كان في سفر طويل مباح.وحد السفر من جهة البداية والنهاية فيه إشكال فلا بد من معرفته.والسفرهو الانتقال من موضع الإقامة مع ربط القصد بمقصد معلوم،فالهائموراكب التعاسيف ليس له الترخيص وهو الذى لايقصد موضعا معينا،ولايصير مسافرا مالم يفارق عمران البلد ولايشترط أن يجاوز خراب البلد وبساتينها التى يخرج أهل البلدة إليها للتنزه. وأما القرية فالمسافر منها ينبغي أن يجاوز البساتين المحوطة دون التى ليست بمحوطة.ولو رجع المسافر إلى البلد لأخذ شىء نسيه لم يترخص إن كان ذلك وطنه ما لم يجاوز العمران،وإن لم يكن ذلك هو الوطن فله الترخص إذ صار مسافرا بالانزعاج والخروج منه .
    وأما نهاية السفر فباخذ أمور ثلاثة:"الاول" الوصول إلى العمران من البلد الذى عم على الإقامة به."الثاني" العزم على الإقامة ثلاثة أيام فصاعدا إمافى بلد أوفى صحراء."الثالث" صورة الاقامة وأن لم يعزم كما إذا أقام على موضع واحد ثلاثة أيام سوى يوم الدخول لم يكن له الترخص بعده،وإن لم يعزم على الإقامة وكان له شغل وهو يتوقع كل يوم إنجازه ولكنه يتعوق عليه ويتاخر فله أن يترخص وإن طالت المدة - علىأفيس القولين - لأنه منزعج بلقبه ومسافر عن الوطن بصورته ولامبالاة بصورة الثبوت على موضع واحد مع انزعاج القلب،ولافرق بين أن يكون هذا الشغل قتالا أو غيره،ولابين أن تطول المدة أوتقصر،ولابين أن يتأخر الخروج لمطر لايعلم بقاؤه ثلاثة أيام أو لغيره؛إذ ترخص رسول الله ﷺ فقصر فى بعض الغزوات ثمانية عشر يوما على موضع واحد?.وظاهر الأمر أنه لو تمادى القتال لتمادى ترخصه؛إذ لامعنى للتقدير بثمانية عشر يوما.والظاهر أن قصره كان لكونه مسافرا لالكون غازيا مقاتلا هذا معنى القصر.
    وأما معنى التطويل فهو أن يكون مرحلتين:كل مرحلة ثمانية فراسخ، وكل فرسخ ثلاثة أميال،وكل ميل أربعة آلاف خطوة،وكل خطوة ثلاثة أقدام.
    ومعنى المباح أن لايكون عاقا لوالديه هاربا منهما،ولاهاربا من مالكه،ولاتكون المرأة هاربة من زوجها،ولا أن يكون من عليه الدين هاربا من المستحق مع اليسار، ولايكون متوجها في قطع طريق،أو قتل إو قتل إنسان،أو طلب إدرار حرام من سلطان ظالم،أو سعى بالفساد بين المسلمين.
    وبالجملة فلا يسافر الإنسان إلا فى غرض،والغرض هو المحرك.فإن كان تحصيل ذلك الغرض حراما ولولا ذلك الغرض لكان لاينبعث لسفره فسفره معصية ولايجوزفيه الترخص. واما الفسق في السفر بشرب الخمر وغيره فلا يمنع الرخصة.بل كل سفر ينهى الشرع عنه فلا يعين عليه بالرخصة و لو كان له باعثان أحدهما مباح والاخر محظور،وكان بحيث لم يكن الباعث له المحظور لكان المباح مستقبلا بتحريكه ولكان لامحالة يسافرلأجله فله الترخص.والمتصوقة الطوافون في البلاد من غير غرض صحيح سوى التفرج لمشاهدة البقاع المختلفة في ترخصهم خلاف،والمختار أن لهم الترخص .
    الرخصة الرابعة،الجمع بين الظهر والعصر في وقتيهما وبين المغرب والعشاء في وقتيهما؛فذلك أيضا جائز في كل سفر طويل مباح،وفي جوازه في السفر القصير قولان.
    ثم إن قدم العصر إلى الظهر فلينوالجمع بين الظهر والعصر في وقتيهما قبل الفراغ من الظهر وليؤذن للظهر وليقيم،وعند الفراغ يقيم للعصر،ويجدد التيمم أؤ لا ان كان فرضه التيمم،ولايفرق بينهما بأكثر تيمم واقامة ،فان قدم العصر لم يجز ،وان نوى الجمع عند التحرم بصلاة العصر جاز عند المزنى،وله وجه فى القياس إذلا مستند لايجاب تقديم النية بل الشرع جوز الجمع وهذا جمع،وإنما الرخصة فى العصر فتكفى النية فيها،وأما الظهر فجاز على القانون.ثم إذا فرغ من الصلاتين فينبغي أن يجمع بين سنن الصلاتين؛أما العصر فلا سنة بعدها ولكن السنة التى بعد الظهر يصليها بعد الفراغ من العصر إما راكبا أومقيما،لأنه لو صلى راتبة الظهر قبل العصر لانقطعت الموالاة وهي واجبة - على وجه - ولو أراد أن يقيم الأربع المسنونة قبل الظهر والأربع المسنونة قبل العصر فليجمع بينهن قبل الفريضتين فيصلى سنة الظهر أولا ثم سنة العصر،ثم فريضة الظهر ثم فريضة العصر،ثم سنة الظهر الركعتان اللتان هما بعد الفرض:ولاينبغى أن يهمل النوافل فى السفر فما يفوته من ثوابها أكثر مما يناله من الربح؛لاسيماوقد خفف الشرع عليه وجوز له أداءها على الراحلة كى لايتعوق عن الرفقة بسببها.وإن أخر الظهر إلى العصر فيجري على هذا الترتيب ولايبالي بوقوع راتبة الظهر بعد العصر فى الوقت المكروه لأن ماله سبب لايكره فى هذا الوقت،وكذلك يفعل في المغرب والعشاء والوتر.وإذا قدم أوأخر فبعد الفراغ من الفرض يشتغل بجميع الرواتب ويختم الجميع بالوتر.وإن خطر له ذكر الظهر قبل خروج وقته فليغرم على أدائه مع العصر جميعا فهو نية الجمع؛لأنه إنما يخلو عن هذه النية إمابنية الترك أو بنية التأخر عن وقت العصر،وذلك حرام والعزم عليه حرام.وإن لم يتذكر الظهر حتى خرج وقته إما لنوم أو لشغل فله أن يؤدى الظهر مع العصر ولايكون عاصيا،لأن السفر كما يشغل عن فعل الصلاة فقد يشغل عن ذكرها.
    ويحتمل أن يقال إن الظهر إنما تقع أداء إذا عزم على فعلها قبل خروج وقتها،ولكن الأظهر أن وقت الظهر والعصر صار مشتركا فى السفر بين الصلاتين،ولذلك يجب على الحائض قضاء الظهر إذا طهرت قبل الغروب.ولذلك ينقدح أن لاتشترط الموالاة ولا الترتيب بين الظهر والعصر عند تأخير الظهر،أما?إذا قدم العصر على الظهر لم يجز لأن مابعد الفراغ من الظهر هو الذى جعل وقتا للعصر،إذ يبعد أن يشتغل بالعصر من هوعازم على ترك الظهر أو على تأخيره.وعذر المطرمجوز للجمع كعذر السفر.وترك الجمعة أيضا من رخص السفر وهي متعلقة أيضا بفرائض الصلوات.ولو نوى الإقامة بعد أن صلى العصر فأدرك وقت العصر في الحضر فعليه أداء العصر،وما مضى إنما كان مجزئا بشرط أن يبقى العذر إلى خروج وقت العصر.
    الرخصة الخامسة:التنفل راكبا،كان رسول الله يصلي على راحلته إينما توجهت به دابته وأوتررسول الله ﷺ على راحلته.وليس على المتنفل الراكب في الركوع والسجود إلا الايماء.وينبغي أن يجعل سجوده أخفض من ركوعه،ولا يلزمه الانحناء إلى حد يتعرض به لخطر بسبب الدابة.فإن كان في مرقد فليتم الركوع والسجود فإنه قادر عليه.
    وأما استقبال القبلة فلا يجب لا في إبتداء الصلاة ولا في دوامها.ولكن صوب الطريق بدل عن القبلة.فليكن في جميع صلاته إما مستقبلا للقبلة أو متوجها في صوب الطريق لنكون له جهة يثنت فيها،فلو حرف دابته عن الطريق قصدا بطلت صلاته،وإن طال ففيه خلاف إن جمحت به الدابة فانحرفت لم تبطل صلاته - لأن ذلك مما يكثر وقوعه - وليس عليه سجود سهو إذ الجماح غير منسوب إليه،بخلاف مالو حرف ناسيا فإنه يسجد للسهو بالايماء.
    الرخصة السادسة :التنفل للماشى جائز في السفر ويوميء بالركوع والسجود،ولا يقعد للتشهد لأن ذللك يبطل فائدة الرخصة وحكمة حكم الراكب؛لكن ينبغي ان يتحرم بالصلاة مستقبلا للقبلة ؛لآن اللآنحراف في لحظة لا عسر عليه فيه بخلاف الراكب فان في تحريف الدابة وان كان العنان بيد نوع عسر؛وربما تكثر الصلاة فيطول عليه ذلك.ولاينبغي أن يمشى في نجاسة رطبة عمدا؛فإن فعل بطلت صلاته بخلاف ما لو وطئت دابة الراكب نجاسة .وليس عليه أن يشوش المشي على نفسه با لاحتزاز من النجاسات التي لا تخلو الطريق عنها غالبا.وكل هارب من عدو أوسيل أوسبع فله أن يصلي الفرضة راكبا أو ماشيا كما ذكرناه في التنفل.
    الرخصة السابعة:الفطر،وهو في الصوم.فللمسافر أن يفطرإلا إذا أصبح مقيما ثم سافر فعليه إتمام ذلك اليوم.وإن أصبح مسافرا صائما ثم أقام فعليه الإتمام.وإن أقام مفطر فليس عليه الإمساك بقية النهار.وإن أصبح مسافرا على عزم الصوم لم يلزمه بل له أن يفطر إذا أراد، والصوم أفضل من الفطر.والقصر أفضل من الإتمام للخروج عن شبهة الخلاف،ولأنه ليس فى عهدة القضاء بخلاف المفطر فإنه في عهدة القضاء وربما يتعذر عليه ذلك بعائق فيبقى في ذمته،إلا إذا كان الصوم يضر به فالإفطار أفضل.
    فهذه سبع رخص تتعلق ثلاث منها بالسفر الطويل وهى القصر والفطر والمسح ثلاثة أيام.وتتعلق اثنتان منها بالسفر طويلا كان أو قصيرا وهما سقوط الجمعة وسقوط القضاء عند أداء الصلاة بالتيمم.وأما صلاة النافلة ماشيا وراكبا ففيه خلاف والأصح جوازه في القصير. والجمع بين الصلاتين فيه خلاف والأظهر اختصاصه بالطويل.وأما صلاة الفرض راكبا وماشيا للخوف فلا تتعلق بالسفر،وكذا أكل الميتة،وكذا أداء الصلاة في الحال بالتيمم عند فقد الماء،بل يشترك فيها الحضر والسفر مهما وجدت أسبابها.
    فإن قلت فالعلم بهذه الرخص هل يجب على المسافر تعلمه قبل السفر أم يستحب له ذلك فإعلم أنه إن كان عازماً على ترك المسح والقصر والجمع والفطر وترك التنفل راكباً وماشياً لم يلزمه علم شروط الترخص في ذلك،لآن الترخص ليس بواجب عليه .وأما علم رخصبة التيمم فيلزمه لآن فقد الماء ليس إليه،إلا أن يسافر على شاطئ نهر يوثق ببقاء مائه،أو يكون معه في الطريق عالم يقدر على استفتائه عن الحاجة،فله أن يؤخر إلى وقت الحاجة.
    إما إذا كان يظن عدم الماء ولم يكن معه فيلزمه التعلم لامحالة.
    فإن قلت:التيمم يحتاج إليه الصلاة لم يدخل بعد وقتها فكيف يجب علم الطهارة بعد لم تجب وربما لا تجب?فأقول:من بينه وبين الكعبة مسافة لاتقطع إلا في سنة؛فيلزمه قبل أشهر الحج إبتداء السفر.ويلزمه تعلم المناسك لامحال إذا كان يظن أنه لايجد في الطريق من يتعلم منه؛ لأن الأصل الحياة واستمرارها.ومالايتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب.وكل مايتوقع وجوبه توقعا ظاهرا على الظن وله شرط لايتوصل إليه إلا بتقديم ذلك الشرط على وقت الوجوب فيجب تقديم تعلم الشرط لامحالة،كعلم المناسك قبل وقت الحج وقبل مباشرته.فلا يحل إذن للمسافر أن ينشئ السفر مالم يتعلم هذا القدر من علم التيمم.وإن كان عازما على سائر الرخص فعليه أن يتعلم أيضا القدر الذي ذكرناه من علم التيمم وسائر الرخص ؛فإنه إذا لم يعلم القدر الجائز لرخصة السفر لم يمكنه الاقتصار عليه.
    فإن قلت:إنه إن لم يتعلم كيفية التنفل راكباً وماشياًماذا يضره وغايته إن صلى أن تكون صلاته فاسدة?وهي غير واجبة فكيف يكون علمها واجباً?فأقول:من الواجب أن لا يصلى النفل على نعت الفساد،فالتنفل مع الحدث والنجاسة وإلى غير القبلة ومن غير إتمام شروط الصلاة وأركانهاحرام،فعليه أن يتعلم مايحترز به عن النافلة الفاسدة حذراً عن الوقوع في المحظورات.فهذا بيان علم ما خفف عن المسافر في سفره.
    القسم الثاني
    ما يتجدد من الوظيفة بسبب السفر
    وهو علم القبلة والأوقات: وذلك أيضا واجب في الحضر،ولكن في الحضر من يكفيه من محراب متفق عليه يغنيه عن طلب القبلة ومؤذن يراعي الوقت فيغنيه عن طلب علم الوقت.والمسافر قد تشتبه عليه القبلة وقد يلتبس عليه الوقت فلا بد له من العلم بأدلة القبلة والمواقيت.أما أدلة القبلة فهي ثلاثة أقسام:أرضية،كلإستدلال بالجبال والقرى والأنهار.وهوائية،كلإستدلال بالرياح شمالها وجنوبها وصباها ودبورها.وسماوية،وهي النجوم.
    فأما الأرضية والهوائية فتختلف باختلاف البلاد،فرب طريق فيه جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو ورائه أو قدامه،فليعلم ذلك وليفهمه.وكذلك الرياح قد تدل في بعض البلاد فليفهمذلك.ولسنا نقدر على استقصاء ذلك إذلكل بلد وإقليم حكم آخر.
    وأما السماوية فأدلتها تنقسم إلى نهارية وإلى ليلية.
    أما النهارية:فالشمس،فلا بد أن يراعى قبل الخروج من البلد أن الشمس عند الزوال أينتقع منه، أهي بين الحاجبين ?او على العين اليمنى?او اليسرى?أو تميل إلى الجبين ميلاً اكثر من ذلك?فإن الشمس لاتعدو في البلاد الشمالية هذه المواقع.فإذا حفظ ذلك فمها عرف الزوال بدليله الذي سنذكره عرف القبلة به.وكذلك يراعى مواقع الشمسمنه وقت العصر.فإنه في هذين الوقتين يحتاج إلىالقبلة بالضرورة.وهذا أيضا لما كان يختلف بالبلاد فليس يمكن إستقصاؤه.
    وأما القبلة وقت المغرب فإنها تدرك بموضع الغروب.وذلك بأن يحفظ أن الشمستغرب عن يمين المستقبل.أو هي مائلة إلى وجهه،أو قفاه.وبالشفق أيضا تعرف القبلة للعشاء الأخيرة.
    وبمشرق الشمس تعرف القبلة لصلاة الصبح.فكأن الشمس تدل على القبلة في الصلوات الخمس،ولكن يختلف ذلك بالشتاء والصيف.فإن المشارق والمغارب كثيرة وإن كانت محصورة في جهتين،فلا بد من تعلم ذلك أيضا.ولكن قد يصلى المغرب والعشاء بعد غيبوبة الشفق فلا يمكنه أن يستدل على القبلة به.فعليه أن يراعي موضع القطب.وهو الكوكب الذي يقال له: الجدى:فإنه كوكب كالثابت لاتظهر حركته عن موضعه،وذلك إما أن يكون على قفا المستقبل، أو على منكبه الأيمن من ظهره،أو مكبه الأيسرفي البلاد الشمالية من مكة.وفي البلاد الجنوبية كاليمن وماوالاها فيقع فى مقابلة المستقبل؛فيتعلم ذلك،وماعرفه في بلده فليعول عليه في الطريق كله إلا إذا طال السفر،فإن المسافة إذا بعدت اختلف موقع الشمس وموقع القطب وموقع المشارق والمغارب،إلا أن ينتهي في أثناء سفره إلى بلادفينبغي يسأل أهل البصيرة.وإن انحرف عن حقيقة محاذاة القبلة ولكن لم يخرج عن جهتها لم يلزمه القضاء.
    وقد أورد الفقهاء خلافا في أن المطلوب جهة الكعبة أو عينها،وأشكل معنى ذلك على قوم إذ قالوا:إن قلناإن المطلوب العين فمتى يتصور هذا مع بعد الديار?وإن قلنا:إن المطلوب الجهة فالواقف في المسجد إن استقبل جهة الكعبة وهو خارج ببدنه عن موازاة الكعبة لاخلاف في أنه لاتصح صلاته.وقد طولوا في تأويل معنى الخلاف في الجهة والعين.ولابد أولا من فهم معنى مقابلة العين ومقابلة الجهة.
    فمعنى مقابلة العين:أن يقف موقفا لو خرج خط مستقيم من بين عينيه إلى جدار الكعبة لاتصل به وحصل من جانبي الخط زاويتان متساويتين "وهذه صورته والخط الخارج من موقف المصلى يقدر أنه خارج من بين عينيه" فهذه صورة مقابلة العين: وأما مقابلة الجهة.فيجوز فيها أن يتصل طرف الخط الخارجي من بين العينين إلىالكعبة من غير أن يتساوى الزاويتان عن جهتى الخط،بل يتساوى الزاويتان إلا إذا انتهى الخط إلى نقطة معينة هي واحدة.فلو مد هذا الخط على الاستقامة إلى سائر النقط من يمينها وشمالها كانت إحدى الزاويتين أضيق،فيخرج عن مقابلة العين ولكن لايخرج عن مقابلة الجهة - كالخط الذي كتبنا عليه مقابلة الجهة - فإنه لو قدر الكعبة على طرف ذلك الخط لكان الواقف مستقبلا لجهة الكعبة لالعينها.
    وحد تلك الجهة ما يقع بين خطين يتوهمهما الواقف مستقبلا لجهة خارجين من العين،فيتلقى طرفاهما في داخل الرأس بين العينين على زاوية قائمة،فما يقع بين الخطين الخارجين من العينين فهو داخل في الجهة.وسعة مابين الخطين تتزايدبطول الخطين وبالبعد عن الكعبة "وهذه صورته": فإذا فهم معنى العين والجهة فأقول:الذى يصح عندنا في الفتوى أن المطلوب العين إن كانت الكعبة بما يمكن رؤيتها،وإن كان يحتاج إلى الاستدلال عليها لتعذر رؤيتها فيكفى استقنال الجهة فأما طلب العين عند المشاهدة فمجمع عليه.وأما الاكتفاء بالجهة عند تعذر المعاينة فيدل عليه الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضي الله عنهم والقياس.
    أما الكتاب:فقوله تعالى "وحيثما كنتم فولوا وجوهكم شطره" أي نحوه.ومن قابل جهة الكعبة يقال قد ولى وجهه شطرها.
    وأما السنة:فما روى عن رسول الله ﷺ أنه قال لاهل المدينة "مابين المغرب والمشرق قبلة والمغرب يقع على يمين أهل المدينة والمشرق على يسارهم.فجعل رسول الله ﷺ جميع مايقع بينما قبلة ومساحة الكعبة لاتفى بما بين المشرق والمغرب وإنما يفى بذلك جهتها.وروى هذا اللفظ أيضا عن عمر وابنه رضى الله عنهما.
    وأما فعل الصحابة رضي الله عنهم:فما روى أن مسجد قباء كانو فى صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس مستدبرين الكعبة - لأن المدينة بينهما - فقيل لهم:الآن قد حولت القبلة إلى الكعبة.فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ولم ينكر عليهم. وسمي مسجد "ذا القبلتين" ومقابلة العين من المدينة إلى مكة لاتعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها؛ فكيف أدركوا ذلك على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل?ويدل أيضا من فعلهم أنهم بنوا المساجد حوالي مكة وفي سائر بلاد الإسلام ولم يحضروا قط مهندسا عند تسوية المحاريب، ومقابلة العين لاتدرك إلا بدقيق النظر الهندسي.
    وأما القياس:فهو أن الحاجة تمس إلى الاستقبال وبناء المساجد في جميع أقطار الارض،ولايمكن مقابلة العين إلابعلوم هندسية لم يرد الشرع بالنظر فيها بل ربما يزجر عن التعمق في علمها فكيف ينبنى أمر الشرع عليها?فيجب الاكتفاء بالجهة للضرورة.
    وأما دليل صحة الصورة التى صورناها:وهو حصر جهات العالم في أربعجهات فقوله عليه السلام فى آداب قضاء الحاجة،لاتستقبلوا بها والمغرب على يمينه فنهىعن جهتين ورخص فى جهتين.ومجموع ذلك أربع جهات.ولم يخطر ببال أحد أن جهات العالم يمكن أن تفرض في ست أو سبع أو عشر.وكيفما كان فما حكم الباقي?بل الجهات تثبت في الاعتقادات بناء على خلقه الإنسان،وليس له إلا أربع جهات:قدام وخلف ويمين وشمال فكانت الجهات بالإضافة الى الإنسان في ظاهر النظر أربعاً.والشرع لايبني إلا على مثل هذه الإعتقادات فظهر أن المطلوب الجهة،وذلك يسهل أمر الإجتهاد فيها وتعلم به أداة القبلة.فأما مقابلة العين فإنا تعرف بمعرفة مقدار عرض مكة عن خط الإستواء،ومقدار درجات طولها وهو بعدها عن أول عمارة في المشرق.ثم يعرف ذلك أيضاً في موقف المصلي،ثم يقابل أحدهما بالآخر.ويحتاج فيه الى آلات وأسباب طويلة،والشرع غير مبني عليها قطعاً.فإذن القدر الذي لابد من تعلمه من ألة القبلة:موقع المشرق والمغرب في الزوال،وموقع الشمس وقت العصر.فبهذا يسقط الوجوب.
    فإن قلت:فلو خرج المسافر من غير تعلم ذلك هل يعصى?فأقول:إن كان طريقه على قرى متصلة فيها محاريب،أو كان معه في الطريق بصير بأدلة القبلة موثوق بعدالته وبصيرته ويقدر على تقليده فلا يعصى.وإن لم يكن معه شئ من ذلك عصى.لأنه سيستعرض لوجوب الاستقبال ولم يكن قد حصل علمه فصار ذلك كعلم التيمم وغيره.فإن تعلم هذه الأدلة عليه الأمربغيم مظلم.أو ترك التعلم ولم يجد في الطريق من يقلده،فعليه أن يصلي في الوقت حسب حاله،ثم عليه القضاء سواء أصاب أم أخطأ.والأعمى ليس له إلا التقليد فليقلد من يوثق بدينه وبصيرته إن كان مقلده مجتهداً في القبلة،وإن كانت القبلة ظاهرة فله اعتماد قول كل عدل بخيره بذلك في حضر أو سفر وليس للأعمى ولا للجاهل أن يسافر في قافلة ليس فيها من يعرف أدلة القبلة - حيث يحتاج الى الإستدلال - كما ليس للعامي أن يقيم ببلدة ليس فيها فقيه عالم بتفصيل الشرع،بل يلزمه الهجرة الى حيث يحد من يعلمه دينه،وكذا إن لم يكن في البلد إلا فقيه فاسق فعليه الهجرة أيضاً إذ لايجوز له اعتماد فتوى الفاسق،بل العدالة شرط لجواز قبول الفتوى - كما في الرواية - وإن كان معروفاً بالفقه مستور الحال في العدالة والفسق فله القبول مهما لم يجد من له عدالة ظاهرة لأن المسافر في البلاد لايقدر أن يبحث عن عدالة المفتين.فإن رآه لابساً للحرير أو ما يغلب عليه الإبرسيم أو راكباً لفرس عليه مركب ذهب فقد ظهر فسقه وامتنع عليه قبول قوله،فليطلب غيره.وكذلك إذا رآه يأكل على مائدة سلطان أغلب ماله حرام أو يأخذ منه إدراراً أو صلة من غير أن يعلم أن الذي يأخذ من وجه حلال،فكل ذلك فسق يقدح في العدالة ويمنع من قبول الفتوى والرواية والشهادة .
    وأما معرفة أوقات الصلوات الخمس فلا بد منها.فوقت الظهر يدخل بالزوال،فإن كل شخص لا بد أن يقع له في ابتداء النهار ظل مستطيل في جانب المغرب،ثم لايزال ينقص وقت الزوال،ثم يأخذه في الزيادة في جهة المشرق ولا يزال يزيد الى الغروب.فليقم المسافر في موضع أو لينصب عوداً مستقيماً،وليعلم على رأس الظل،ثم لينظر بعد ساعة فإن رآه في النقصان فلم يدخل بعد وقت الظهر.
    وطريقه في معرفة ذلك أن ينظر في البلد - وقت آذان المؤذن المعتمد - ظل قامته،فإن كان مثلا ثلاثة أقدام بقدمه فمهما صار كذلك في السفر وأخذ في الزيادة صلى.فإن زاد عليه ستة أقدام ونصفا بقدمه دخل وقت العصر،إذ ظل كل شخص بقدمه ستة أقدام ونصف بالتقريب.ثم ظل الزوال يزيد كل يوم إن كان سفره من أوّل الصيف.وإن كان من أول الشتاء فينقص كل يوم.وأحسن ما يعرف به ظل الزوال الميزان فليستصحبه المسافر.وليتعلم اختلاف الظل به في كل وقت.وإن عرف موقع الشمس من مستقبل القبلة وقت الزوال وكان في السفر في موضع ظهرت القبلة بدليل آخر،فيمكنه أن يعرف الوقت بالشمس بأن تصير بين عينيه مثلاً إن كانت كذلك في البلد.
    وأما وقت المغرب فيدخل في الغروب،ولكن تحجب الجبال المغرب عنه،فينبغي أن يظهر الى جانب المشرق فمهما ظهر سواد في الأفق مرتفع من الأرض قدر رمح فقد دخل وقت الغروب.
    وأما العشاء فيعرف بغيبوبة الشفق - وهو الحمرة - فإن كانت محجوبة عنه بجبال فيعرفه بظهور الكواكب الصغار وكثرتها،فإن ذلك يكون بعد غيبوبة الحمرة.
    وأما الصبح فيبدو في الأول مستطيلاً كذنب السرحان فلا يحكم به الى أن ينقضي زمان.ثم يظهر بياض معترض لا يعسر إدراكه بالعين لظهوره،فهذا أول الوقت.قال صلى اللّه عليه وسلم"ليس الصبح هكذا - وجمع بين كفيه - وإنما الصبح هكذا - ووضع أحدى سبابتيه على الأخرى وفتحهما -"وأشار به الى أته معترض.وقد يستدل عليه بالمنازل وذلك تقريب لا تحقيق فيه.بل الإعتماد على مشاهدة انتشار البياض عرضاً لأن قوماً ظنوا أن الصبح يطلع قبل الشمس بأربع منازل،وهذا خطأ لأن ذلك هو الفجر الكاذب.والذي ذكره المحققون أنه يتقدم على الشمس بمنزلتين وهذا تقريب،ولكن لا اعتماد عليه فإن بعض المنازل تطلع معترضة منحرفة فيقصر زمان طلوعها،وبعضها منتصبة فيطول زمان طلوعها،ويختلف ذلك في البلد اختلافاً يطول ذكره.نعم تصلح المنازل لأن يعلم بها قرب وقت الصبح وبعده،فأما حقيقة أول الصبح فلا يمكن ضبطه بمنزلتين أصلاً.وعلى الجملة فإذا بقيت أربع منازل الى طلوع قرن الشمس بمقدار منزلة يتقين أنه الصبح الكاذب،وإذا بقي قريب من منزلتين يتحقق طلوع الصبح الصادق،ويبقى بين الصبحين قدر ثلثي منزلة بالتقريب يشك فيه أنه من وقت الصبح الصادق أو الكاذب،وهو مبدأ ظهور البياض وانتشاره قبل اتساع عرضه.فمن وقت الشك ينبغي أن يترك الصائم السحور،ويقدم القائم الوتر ولا يصلي صلاة الصبح حتى تنقضي مدة الشك،فإذا تحقق صلى.ولو أراد مريد أن يقدّر على التحقيق وقتاً معيناً يشرب فيه وتسحرا ويقوم عقيبه ويصلي الصبح متصلاً به لم يقدر على ذلك ،فليس معرفة ذلك في قوة البشر أصلاً،بل لابد من مهلة للتوقف والشك.ولا اعتماد إلا على العيان،ولا اعتماد في العيان إلا على أن يصير الضوء منتشراً في العرض حتى تبدو مبادي الصفرة.وقد غلط في هذا جمع من الناس كثير يصلون قبل الوقت.ويدل عليه ما روى ابو عيسى الترمذي في جامعه باسناده عن طلق بن علي:أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال"كلوا واشربوا ولا يهيبنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر"وهذا صريح في رعاية الحمرة.قال أبو عيسى - وفي الباب عند عدي بن حاتم وأبي ذرّ وسمرة بن جندب - وهو حديث حسن غريب والعمل على هذا عند أهل العلم.وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما:كلوا واشربوا ما دام الضوء ساطعاً.قال صاحب الغريبين:أي مستطيلا.فإذاً لا ينبغي أن يعوّل إلا ظهور الصفرة وكأنها مبادي الحمرة.وإنما يحتاج المسافر الى معرفة الأوقات لأنه قد يبادر بالصلاة قبل الرحيل حتى لا يشق عليه النزول،أو قبل النوم حتى يستريح.فإن وطن نفسه على تأخير الصلاة الى أن يتيقن فتسمح نفسه بفوات فضيلة أول الوقت ويتجشم كلفة النزول وكلفة تأخير النوم الى التيقن استغنى عن تعلم علم الأوقات.فإن المشكل أوائل الأوقات لا أوساطها.========
    كتاب اداب السفر
    وهو الكتاب الثامن من ربع العادات من كتب إحياء علوم الدين
    بسم اللّه الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي أحرق قلوب أوليائه بنار محبته،واسترق همهم وأرواحهم بالشوق الى لقائه ومشاهدته،ووقف أبصارهم وبصائرهم على ملاحظة جمال حضرته،حتى أصبحوا من تنسم روح الوصال سكرى - وأصبحت قلوبهم من ملاحظة سبحات الجلال والهة حيرى،فلم يروا في الكونين شيئاً سواه،ولم يذكروا في الدارين إلا إياه،إن سنحت لأبصارهم صورة عبرت الى المصور بصائرهم،وإن قرغت أسماعهم نغمة سبقت الى المحبوب سرائرهم،وإن ورد عليهم صوت مزعج أو مقلق أو مطرب أو محزن أو مبهج أو مشوق أو مهيج لم يكن انزعاجهم إلا إليه،ولا طربهم إلا به ولا قلقهم إلا عليه،ولا حزنهم إلا فيه ولا شوقهم إلا ما لديه،ولاابعاثهم إلا له ولا ترددهم إلا حواليه.فمنه سماعهم،وإليه استماعهم،فقد أقفل عن غيره أبصارهم وأسماعهم،فاولئك الذيناصطفاهم اللّه ولايته،واستخلصهم من بين أصفيائه وخاصته.والصلاة على محمد المبعوث برسالته وعلى آله وأصحابه أئمة الحق وقادته،وسلم كثيراً.
    أما بعد:فإن القلوب والسرائر،خزائن الأسرار ومعادن الجواهر،وقد طويت فيها جواهرها كما طويت النار في الحديد والحجر،كما أخفى الماء تحت التراب والمدر،ولا سبيل الى استثارة خفاياها إلا بقوادح السماعولا منفذ الى القلوب الى من ددهليز الأسماع،فالنغمات الموزونة المستلذة تخرج ما فيها،وتظهر محاسنها أو مساويها،فلا يظهر من القلب عند التحريك إلا ما يحويه.كما لا يرشح الإناء إلا بما فيه،فالسماع للقلب محك صادق،ومعيار ناطق،فلا يصل نفس السماع إليه،إلا وقد تحرك فيه ما هو الغالب عليه،وإذا كانت القلوب بالطباع مطيعة للأسماع حتى أبدت بوارداتها مكامنها،وكشفت بها عن مساويها وأظهرت محاسنها،وجب شرح القول في السماع والوجد وبيان ما فيهما من الفوائد والآفات،وما يستحب فيهما من الآداب والهيئات،وما يتطرّق إليهما من خلاف العلماء في أنهما من المحظورات أو المباحات.ونحن نوضح ذلك في بابين."الباب الأول"في إباحة السماع."الباب الثاني"في آداب السماع وآثاره في القلب بالوجد وفي الجوارح بالرقص والزعق وتمزيق الثياب.========
    الباب الأول
    في ذكر اختلاف العلماء في إباحة السماع
    وكشف الحق فيه
    بيان أقاويل العلماء والمتصوفة في تحليله وتحريمه
    اعلم أن السماع هو أول الأمر ،ويثمر السماع حالة في القلب تسمى الوجد،ويثمر الوجد تحريك الأطراف إما بحركة غير موزونة فتسمى الإضطراب وإما موزونة فتسمى التصفيق والرقص"فلنبدأ بحكم السماع وهو الأول :وننقل فيه الأقاويل المعربة عن المذاهب فيه.ثم نذكر الدليل على إباحته،ثم نردفه بالجواب عما تمسك القائلون بتحريمه.
    فأما نقل المذاهب:فقد حكى أبو الطيب الطبري عن الشافعي ومالك وأبي حنيفة وسفيان وجماعة من العلماء ألفاظاًً يستدل بها على أنهم رأوا تحريمه.
    وقال الشافعي رحمه اللّه في كتاب آداب القضاء:إن الغناء لهو مكروه يشبه الباطل ومن استكثر منه فهو سيفه ترد شهادته.
    وقال القاضي أبو الطيب:استماعة من المرأة التي ليست بمحرم له لا يجوز عند أصحاب الشافعي رحمه اللّه بحال سواء كانت مكشوفة أو من وراء حجاب،وسواء كانت حرة أو مملوكة وقال:قال الشافعي رضي اللّه عنه صاحب الجارية إذا جمع الناس لسماعها فهو سفيه ترد شهادته،وقال:وحكي عن الشافعي أنه كان يكره الطقطقة بالقضيب ويقول وضعته الزنادقة ليشتغلوا به عن القرآن.وقال الشافعي رحمه اللّه:ويكره من جهة الخبر اللعب بالترد أكثر أكثر مما يكره اللعب بشئ من الملاهي،ولا أحب اللعب بالشطرنج وأكره كل ما يلعب به الناس؛لأن اللعب ليس من صنعة أهل الدين ولا المروءة.
    وأما مالك رحمه اللّه فقد نهى عن الغناء وقال:إذا اشترى جارية فوجدها مغنية لها ردها.وهو مذهب سائر أهل المدينة إلا ابن سعد وحده. الكوفة:سفيان الثوري وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم.فهذا كله نقله القاضي أبو الطيب الطبري.
    ونقل أبو طالب المكي إباحة السماع من جماعة فقال:سمع من الصحابة عبد الله بن جعفر وعبد الله بن الزبير والمغيرة بن شعبة ومعاوية وغيرهم،وقال:قد فعل ذلك كثير من السلف الصالح صحابي وتابعي بإحسان وقال:لم يزل الحجازيون عندنا بمكة يسمعون السماع في وأما أبو حنيفة رضي اللّه عنه فإنه كان يكره ذلك ويجعل سماع الغناء من الذنوب،وكذلك سائر أفضل أيام السنة وهى الايام المعدودات التي أمر الله عباده فيها بذكره كأيام التشريق، أهلولم يزل أهل المدينة مواظبين كأهل مكة على السماع إلى زمننا هذا، فأدركنا أبا مروان القاضي وله جوار يسمعن الناس التلحين قد أعدن للصوفية،قال:وكان لعطاء جاريتان يلحنان فكان إخوانه يستمعون إليهما.قال:وقيل لأبىالحسن بن سالم كيف تنكر السماع وقد كان الجنيد وسرى السقطى وذو النون يستمعون?فقال وكيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير منى?فقد كان عبد الله بن جعفر الطيار يسمع،وإنما أنكر اللهو واللعب في السماع.
    وروي عن يحيى بن معاذ أنه قال:فقدنا ثلاثة أشياء فما نراها ولا أراها تزداد إلا قلة،حسن الوجه مع الصيانة وحسن القول مع الديانة،وحسن الإخاء مع الوفاء.ورأيت في بعض الكتب هذا محكياً بعينه عن الحارث المحاسبي وفيه ما يدل على تجويزه السماع مع زهده وتصاونه وجده في الدين وتشميره.قال:وكان ابن مجاهد لايجيب دعوة إلا أن يكون فيه سماع.وحكي غير واحد أنه قال:اجتمعنا في دعوة ومعنا أبو القاسم ابن بنت منيع وأبو بكر ابن داود وابن مجاهد في نظرائهم،فحضر سماع فجعل ابن مجاهد يحرض ابن بنت منيع على ابن داود في أن يسمع فقال ابن داود:حدثني أبي عن أحمد بن حنبل أنه كره السماع وكان أبي يكره وأنا علىمذهب أبي،فقال أبو القاسم ابن بنت منيع:أما جدّي أحمد ابن ابنت منيع فحدثني عن صالح بن أحمد أن أباه كان يسمع قول ابن الخبازة،فقال ابن مجاهد لابن داود:دعني أنت من أبيك،وقال لابن بنت منيع:دعني أنت من جدك أي شئ تقول يا أبا بكر فيمن أنشد بيت شعر أهو حرام?فقال:ابن داود لا،قال:فإن كان حسن الصوت حرم عليه إنشاده?قال:لا،قال:فإن أنشده وطوله وقصر منه الممدود ومدّ منه المقصور أيحرم عليه?قال:أنا لم أقو لشيطان واحد فكيف أقوى لشياطين?قال:وكان أبو الحسن العسقلاني الأسود من الأولياء يسمع ويوله عند السماع،وصنف فيه كتاباً ورد فيه على منكريه،وكذلك جماعة منهم صنفوا في الرد على منكريه.
    وحكي عن بعض الشيوخ أنه قال:رأيت أبا العباس الخضر عليه السلام فقلت له:ما تقول في هذا السماع الذي اختلف فيه أصحابنا?فقال:هو الصفو الزلال الذي لايثبت عليه إلا أقدام العلماء.وحكي عن ممشاد الدينوري أنه قال:رأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم في النوم فقلت:يا رسول اللّه هل تنكر من هذا السماع شيئاً?فقال:ما أنكر منه شيئاً ولكن قل لهم يفتتحون قبلة بالقرآن ويختمون بعده بالقرآن.وحكي عن طاهر بن بلال الهمداني الوراق - وكان من أهل العلم - أنه قال:كنت معتكفاً في جامع جدّة على البحر فرأيت يوماً طائفة يقولون في جانب منه قولاً ويستمعون،فأنكرت ذلك بقلبي وقلت:في بيت من بيوت اللّه يقولون الشعر?قال:فرأيت النبي صلى اللّه عليه وسلم تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية والى جنبة أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه وإذا أبو بكر يقول شيئاً من القول والنبي صلى اللّه عليه وسلم يستمع إليه ويضع يده على صدره كالواجد بذلك،فقلت في نفسي:ما كان ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يستمعون وهذا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يستمع وابو بكر يقول?فالتفت الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وقال:هذا حق بحق - أو قال حق من حٌ - أنا أشك فيه.
    وقال الجنيد: تنزل الرحمة على هذه الطائفة في ثلاثة مواضع،عند الأكل لأنهم لايأكلون إلا عن فاقة،وعند المذاكرة لأنهم لا يتحاورون إلا في مقامات الصدّيقين،وعند السماع لأنهم يسمعون بوجد ويشهدون حقاً.
    وعن ابن جريج أنه كان يرخص في السماع فقيل له: أيؤتى يوم القيامة في جملة حسناتك أو سيئاتك? فقال: لا في الحسنات ولا في السيئات، لأنه شبيه باللغو وقال الله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" .
    هذا ما نقل من الأقاويل. ومن طلب الحق في التقليد فمهما استقصى تعارضت عنده هذه الأقاويل فيبقى متحيرا أو ماثلاً إلى بعض الأقاويل بالتشهي، وكل ذلك قصور بل ينبغي أن يطلب الحق بطريقه وذلك بالبحث عن مدارك الحظر والإباحة كما سنذكره.
    بيان الدليل على إباحة السماع
    اعلم أن قول القائل: السماع حرام، معناه أن الله تعالى يعاقب عليه، وهذا أمر لا يعرف بمجرد العقل بل بالسمع ومعرفة الشرعيات محصورة في النص أو القياس على المنصوص. وأعني بالنص ما أظهره ﷺ بقوله أو فعله، وبالقياس المعنى المفهوم، من ألفاظه وأفعاله. فإن لم يكن فيه نص ولم يستقم فيه قياس على منصوص بطل القول بتحريمه، وبقى فعلاً لا حرج فيه كسائر المباحات. ولا يدل على تحريم السماع نص ولا قياس، ويتضح ذلك في جوابنا عن أدلة الماثلين إلى التحريم. ومهما تم الجواب عن أدلتهم كان ذلك مسلكاً كافياً في إثبات هذا الغرض، لكن نستفتح ونقول: قد دل النص والقياس جميعاً على إباحته.
    أما القياس: فهو أن الغناء اجتمعت فيه معان ينبغي أن يبحث عن أفرادها ثم عن مجموعها، فإن فيه سماع صوت طيب موزون مفهوم المعنى محرك للقلب، فالوصف الأعم أنه صوت طيب. ثم الطيب ينقسم إلى الموزون وغيره. والموزون ينقسم إلى المفهوم كالأشعار، والى غير المفهوم كأصوات الجمادات وسائر الحيوانات.
    أما سماع الصوت الطيب من حيث إنه طيب فلا ينبغي أن يحرم بل هو حلال بالنص والقياس أما القياس فهو أنه يرجع إلى تلذذ حاسة السمع بإدراك ما هو مخصوص به، وللإنسان عقل وخس حواس ولكل حاسة إدراك، وفي مدركات تلك الحاسة ما يستلذ، فلذة النظر في المبصرات الجميلة كالخضرة والماء الجاري والوجه الحسن وبالجملة سائر الألوان الجميلة، وهي في مقابلة ما يكره من الألوان الكدرة القبيحة. وللشم الروائح الطيبة، وهي في مقابلة الأنتان المستكرهة. وللذوق الطعوم اللذيذة كالدسومة والحلاوة والحموضة، وهي في مقابلة المرارة المستبشعة. وللمس لذة اللين والنعومة والملاسة، وهي في مقابلة الخشونة والضراسة. وللعقل لذة العلم والمعرفة، و هي في مقابلة الجهل والبلادة.
    فكذلك الأصوات المدركة بالسمع تنقسم إلى مستلذة كصوت العنادل والمزامير، ومستكرهة كنهيق الحمير وغيرها. فما أظهر قياس هذه الحاسة ولذتها على سائر الحواس ولذاتها? أما النص: فيدل على إباحة سماع الصوت الحسن امتنان الله تعالى على عباده إذ قال "يزيد في الخلق ما يشاء" فقيل هو الصوت الحسن وفي الحديث: "ما بعث الله نبياً إلا حسن الصوت" وفي الحديث في معرض المدح لداود عليه السلام أنه كان حسن الصوت في النياحة على نفسه وفي تلاوة الزبور حتى كان يجتمع الغنس والجن والوحوش والطير لسماع صوته، وكان يحمل في مجلسه أربعمائة جنازة وما يقرب منها في الأوقات، وقال ﷺ في مدح أبي موسى الأشعري: "لقد أعطى مزماراً من مزامير آل داود" وقول الله تعالى "إن أنكر الأصوات لصوت الحمير" يدل بمفهومه على مدح الصوت الحسن. ولو جاز أن يقال إنما أبيح ذلك بشرط أن يكون في القرآن للزمه أن يحرم سماع صوت العندليب لأنه ليس من القرآن. وإذا جاز سماع صوت غفل لا معنى له فلم لا يجوز سماع صوت يفهم منه الحكمة والمعاني الصحيحة? وإن من الشعر لحكمة. فهذا نظر في الصوت من حيث أنه طيب حسن.
    الدرجة الثانية: النظر في الصوت الطيب الموزون؛ فإن الوزن وراء الحسن فكم من صوت حسن خارج عن الوزن وكم من صوت موزون غير مستطاب. والأصوات الموزونه باعتبار مخارجها ثلاثة: فإنها إما أن تخرج من جماد كصوت المزامير والأوتار وضرب القضيب والطبل وغيره، وإما أن تخرج من حنجرة حيوان؛ وذلك الحيوان إما إنسان أو غيره كصوت العنادل والقمارى وذات السجع من الطيور؛ فهي مع طيبها موزونة متناسبة المطالع والمقاطع فلذلك يستلذ سماعها. والأصل في الأصوات حناجر الحيوانات، وإنما وضعت المزامير على أصوات الحناجر وهو تشبيه للصنعة بالخلقة. وما من شيء توصل أهل الصناعات بصناعتهم إلى تصويره إلا وله مثال في الخلقة التي استأثر الله تعالى باختراعها؛ فمنه تعلم الصناع وبه قصدوا الإقتداء وشرح ذلك يطول. فسماع هذه الأصوات يستحيل أن يحرم لكونها طيبة أو موزونة فلا ذاهب إلى تحريم صوت العندليب وسائر الطيور. ولا فرق بين حنجرة وحنجرة ولا بين جماد وحيوان. فينبغي أن يقاس على صوت العندليب الأصوات الخارجة من سائر الأجسام باختيار الآدمى كالذي يخرج من حلقه أو من القضيب والطبل والدف وغيره.
    ولا يستثنى من هذه إلا الملاهي والأوتار والمزامير التي ورد الشرع بالمنع منها لا للذتها إذ لو كان للذة لقيس عليها كل ما يلتذ به الإنسان. ولكن حرمت الخمور واقتضت ضراوة الناس بها المبالغة في الفطام عنها حتى انتهى الأمر في الابتداء إلى كسر الدنان فحرم معها ما هو شعار أهل الشرب وهي الأوتار والمزامير فقط، وكان تحريمها من قبل الأتباع كما حرمت الخلوة بالأجنبية لأنها مقدمة الجماع، وحرم النظر إلى الفخذ لاتصاله بالسوأتين، وحرم قليل الخمر وإن كان لا يسكر لأنه يدعو إلى السكر، وما من حرام إلا وله حريم يطيف به، وحكم الحرمة ينسحب على حريمه ليكون حمى للحرام ووقاية له وحظار مانعاً حوله كما قال ﷺ "إن لكل ملك حمى وإن حمى الله محارمه" فهي محرمة تبعاً لتحريم الخمر لثلاث علل إحداها، أنها تدعو إلى شرب الخمر فإن اللذة الحاصلة بها إنما تتم بالخمر، ولمثل هذه العلة حرم قليل الخمر. الثانية، أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر مجالس الأنس بالشرب فهي سبب الذكر، والذكر سبب انبعاث الشوق وانبعاث الشوق إذا قوى فهو سبب الإقدام. ولهذه العلة نهى عن الانتباذ في المزفت والختم والنقير، وهي الآواني التي كانت مخصوصة بها. فمعنى هذا أن مشاهدة صورتها تذكرها وهذه العلة تفارق الأولى إذ ليس فيها اعتبار لذة في الذكر إذ لا لذة في رؤية القنينة وأواني الشرب لكن من حيث التذكر بها، فإن كان السماع بذكر الشرب تذكيراً يشوق إلى الخمر عند من ألف ذلك مع الشرب فهو منهن عن السماع لخصوص هذه العلة فيه. الثالثة، الاجتماع عليها: لما أن صار من عادة أهل الفسق فيمنع من التشبه بهم؛ لأن من تشبه بقوم فهو منهم. وبهذه العلة نقول بترك السنة مهما صارت شعاراً لأهل البدعة خوفاً من التشبه بهم. وبهذه العلة حرم ضرب الكوبة، وهو طبل مستطيل دقيق الوسط واسع الطرفين، وضربها عادة المخنثين ولولا ما فيه من التشبيه لكان مثل طبل الحجيج والغزو، وبهذه العلة نقول لو اجتمع جماعة وزينوا مجلساً وأحضروا آلات الشرب وأقداحه، وصبوا فيها الكنجين، ونصبوا ساقياً يدور عليهم ويسقيهم، فيأخذون من الساقي ويشربون ويحيي بعضهم بعضاً بكلماتهم المعتادة بينهم حرم ذلك عليهم، وإن كان المشروب مباحاً في نفسه، لأن في هذا تشبهاً بأهل الفساد، بل لهذا ينهى عن لبس القباء وعن ترك الشعر على الرأس قزعاً في بلاد صار القباء فيها من لباس أهل الفساد، ولا ينهى عن ذلك فيما وراء النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم. فبهذه المعاني حرم المزمار العراقي والأوتار كلها كالعود والصنج والرباب والبربط وغيرها. وما عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل والقضيب، وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل الشرب لأن كل ذلك لا يتعلق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب التشبه بأربابها فلم يكن في معناها. فبقي على أصل الإباحة قياساً على أصوات الطيور وغيرها، بل أقول سماع الأوتار ممن يضربها على غير وزن متناسب مستلذ حرام أيضاً. وبهذا يتبين أنه ليست العلة في تحريمها مجرد اللذة الطيبة، بل القياس تحليل الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد. قال الله تعالى: "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" فهذه الأصوات لا تحرم من حيث إنها أصوات موزونة وإنما تحرم بعارض آخر. كما سيأتي في العوارض المحرمة.
    الدرجة الثالثة: الموزون والمفهوم، وهو الشعر وذلك لا يخرج إلا من حنجرة الإنسان فيقطع إباحة ذلك لأنه ما زاد إلا كونه مفهوما، والكلام المفهوم غير حرام والصوت الطيب الموزون غير حرام، فإذا لم يحرم الآحاد فمن أين يحرم المجموع? نعم ينظر فيما يفهم منه فإن كان فيه أمر محظور حرم نثره ونظمه وحرم النطق به سواء كان بألحان أو لم يكن، والحق فيه ما قاله الشافعي رحمه الله إذ قال: الشعر كلام فحسنه حسن وقبيحه قبيح. ومهما جاز إنشاد الشعر بغير صوت وألحان جاز إنشاده مع الألحان. فإن أفراد المباحات إذا اجتمعت كان ذلك المجموع مباحاً. ومهما انضم مباح إلى مباح لم يحرم إلا إذا تضمن المجموع محظوراً لا تتضمنه الآحاد. ولا محظور ههنا وكيف ينكر إنشاد الشعر وقد أنشد بين يدي رسول الله ﷺ? وقال عليه السلام: "إن من الشعر لحكمة" وأنشدت عائشة رضي الله عنها: ذهب الذين يعاش في أكنافهـم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
    وروى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله ﷺ المدينة وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، وكان بها وباء فقلت: يا أبت كيف تجدك? ويا بلال كيف تجدك؛ فكان أبو بكر رضي الله عنه إذا أخذ الحمى يقول: كل امرئ مصبح في أهلـه والموت أدنى من شراك نعله
    وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمى يرفع عقيرته ويقول: ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجلـيل
    وهل أردن يوماً مياه مجـنة وهل يبدون لي شامة وطفيل
    قالت عائشة رضي الله عنها: فأخبرت بذلك رسول الله ﷺ فقال: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" وقد كان رسول الله ﷺ ينقل اللبن مع القوم في بناء المسجد وهو يقول: هذا الحمال لا حمال خيبر هذا أبر ربنا وأطهـر
    وقال أيضاً ﷺ مرة أخرى: لا هم إن العيش عيش الآخرة فارحم الأنصار والمهاجـرة
    وهذه في الصحيحين. وكان النبي ﷺ يضع لحسان منبراً في المسجد يقوم عليه قائماً يفاخر عن رسول الله ﷺ أو ينافح، ويقول رسول الله ﷺ "إ، الله يؤيد حسان بروح القدس ما نافح أو فاخر عن رسول الله ﷺ" ولما أنشده النابغة شعره قال له ﷺ "لا يقضض الله فاك" وقالت عائشة رضي الله عنها "كان أصحاب رسول الله ﷺ يتناشدون عنده الأشعار وهو يتبسم" وعن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أنشدت رسول الله ﷺ مائة قافية من قول أمية بن أبي الصلت كل ذلك يقول "هيه هيه" ثم قال "إن كاد في شعره ليسلم" وعن أنس رضي الله عنه أن النبي ﷺ كان يحدى له في السفر. وإن أنجشة كان يحدو بالنساء، والبراء بن مالك كان يحدو بالرجال، فقال رسول الله ﷺ "يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير" ولم يزل الحداء وراه الجمال من عادة العرب في زمان رسول الله ﷺ وزمان الصحابة رضي الله عنهم وما هو إلا أشعار تؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة ولم ينقل عن أحد م الصحابة إنكاره، بل ربما كانوا يلتمسون ذلك تارة لتحريك الجمال وتارة للاستلذاذ. فلا يجوز أن يحرم من حيث إنه كلام مفهوم مستلذ مؤدى بأصوات طيبة وألحان موزونة.
    الدرجة الرابعة: النظر فيه من حيث إنه محرك للقلب ومهيج لما هو الغالب عليه. فأقول: لله تعالى سر في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح حتى إنها لتؤثر فيها تأثيراً عجيباً. فمن الأصوات ما يفرح، ومنها ما يحزن، ومنها؛ ما ينوم، ومنها ما يضحك ويطرب، ومنها ما يستخرج من الأعضاء حركات على ووزنها باليد والرجل والرأس. ولا ينبغي أن يظن أن ذلك لفهم معاني الشعر، بل جار في الأوتار حتى قيل من لم يحركه الربيع وأزهاره والعود وأوتاره فهون فاسد المزاج ليس له علاج. وكيف يكون ذلك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده? فإنه يسكنه الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه. والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة. ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة، وينبعث فيه من النشاط ما يسكره ويولهه، فتراها إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصية آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها، وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها. فقد حكى أبو بكر محمد بن داود الدينوري المعروف بالرقى رضي الله عنه قال: كنت بالبادية فوافيت قبيلة من قبائل العرب فأضافني رجل منهم وأدخلني خباءه، فرأيت في الخباء عبداً أسود مقيداً بقيد، ورأيت جمالاً قد ماتت بين يدي البيت وقد بقي منها جمل وهو ناحل ذابل كأنه ينزع روحه، فقال لي الغلام: أنت ضيف ولك حق فتشفع في إلى مولاي فإنه مكرم لضيفه فلا يرد شفاعتك في هذا القدر، فعساه يحل القيد عني، قال. فلما أحضروا الطعام امتنعت وقلت لا آكل ما لم أشفع في هذا العبد، فقال: إن هذا العبد قد أفقرني وأهلك جميع مالي، فقلت، ماذا فعل? فقال: إن له صوتاً طيباً وإني كنت أعيش من ظهور هذه الجمال، فحملها أحمالاً ثقالاً وكان يحدو بها حتى قطعت مسيرة ثلاثة أيام في ليلة واحدة من طيب نغمته، فلما حطت أحمالها ماتت كلها إلا هذا الجمل الواحد، ولكن أنت ضيفي فلكرامتك قد وهبته لك، قال: فأحببت أن أسمع صوته، فلما أصبحنا أمره أن يحدو على جمل يستقى الماء من بئر هناك، فلما رفع صوته هام ذلك الجمل وقطع حباله ووقعت أنا على وجهي، فما أظن أني سمعت قط صوتاً أطيب منه. فإذن تأثير السماع في القلب محسوس. ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على جميع البهائم، فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة. ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته. ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه ما في القلب.
    قال أبو سليمان: السماع لا يجعل في القلب ما ليس فيه ولكن يحرك ما هو فيه، فالترنم بالكلمات المسجعة الموزونة معتاد في مواضع لأغراض مخصوصة ترتبط بها آثار في القلب وهي سبعة مواضع:
    الأول: غناء الحجيج، فإنهم أولاً يدورون في البلاد بالطبل والشاهين والغناء، وذلك مباح لأنها أشعار نظمت في وصف الكعبة والمقام والحطيم وزمزم وسائر المشاعر ووصف البادية وغيرها، وأثر ذلك يهيج الشوق إلى حج بيت الله تعالى واشتعال نيرانه إن كان ثم شوق حاصل، أو استثارة الشوق واجتلابه إن لم يكن حاصلاً. وإذا كان الحج قربة والشوق إليه محموداً كان التشويق إليه بكل ما يشوق محموداً. وكما يجوز للواعظ أن ينظم كلامه في الوعظ ويزينه بالسجع ويشوق الناس إلى الحج بوصف البيت والمشاعر ووصف الثواب عليه جاز لغيره ذلك على نظم الشعر، فإن الوزن إذا انضاف إلى السجع صار الكلام أوقع في القلب، فإذا أضيف إليه صوت طيب ونغمات موزونة زاد وقعه، فإن أضيف إليه الطبل والشاهين وحركات الإيقاع زاد التأثير. وكل ذلك جائز ما لم يدخل فيه المزامير والأوتار التي هي من شعار الأشرار، نعم إن قصد به تشويق من لا يجوز له الخروج إلى الحج كالذي أسقط الفرض عن نفسه ولم يأذن له أبواه في الخروج، فهذا يحرم عليه الخروج. وفي حرم تشويقه إلى الحج بالسماع بكل كلام يشوق إلى الخروج فإن التشوق إلى الحرام حرام. وكذلك إن كانت الطريق غير آمنة وكان الهلاك غالباً لم يحز تحريك القلوب ومعالجتها بالتشويق.
    الثاني: ما يعتاده الغزاة لتحريض الناس على الغزو. وذلك أيضاً مباح كما للحاج، ولكن ينبغي أن يتخالف أشعارهم وطرق ألحانهم أشعار الحاج وطرق ألحانهم، لأن استنارة داعية الغزو بالتشجيع وتحريك الغيظ والغضب فيه على الكفار وتحسين الشجاعة واستحقار النفس والمال بالإضافة إليه، بالأشعار المشجعة. مثل قول المتنبي: فإن لا تمت تحت السوف مكرماً تمت وتقاس الذل غير مكـرم
    وقوله أيضاً: يرى الجبناء أن الجبن حزم وتلك خديعة الطبع اللـئيم
    وأمثال ذلك. وطرق الأوزان المشجعة تخالف الطرق المشوقة. وهذا أيضاً مباح في وقت لا يباح فيه الغزو. ومندوب إليه وقت يستحب فيه الغزو، ولكن في حق من يجوز له الخروج إلى الغزو.
    الثالث: الجزيات التي يستعملها الشجعان في وقت اللقاء، والغرض منها التشجيع للنفس وللأنصار وتحريك النشاط فيهم للقتال، وفيه التمدح بالشجاعة والنجدة، وذلك إذا كان بلفظ رشيق وصوت طيب كان أوقع في النفس، وذلك مباح في كل قتال مباح، ومندوب في قتال مندوب، ومحظور في قتال المسلمين وأهل الذمة. وكل قتال محظور، لأن تحريك الدواعي إلى المحظور محظور. وذلك منقول عن شجعان الصحابة رضي الله عنهم كعلي وخالد رضي الله عنهما وغيرهما. ولذلك نقول: ينبغي أن يمنع من الضرب بالشاهين في معسكر الغزاة في القتال، وكذا سائر الأصوات والألحان المرققة للقلب، فالألحان المرققة المحزنة تباين الألحان المحركة المشجعة فمن فعل ذلك على قصد تغيير القلوب وتفتير الآراء عن القتال الواجب فهو عاص، ومن فعله على قصد التفتير عن القتال المحظور فهو بذلك مطيع.
    الرابع: أصوات النياحة ونغماتها وتأثيرها في تهييج الحزن والبكاء وملازمة الكآبة والحزن قسمان: محمود ومذموم.
    فأما المذموم فكالحزن على ما فات قال الله تعالى: "لكيلا تأسوا على ما فاتكم" والحزن على الأموات من هذا القبيل فإنه تسخط لقضاء الله تعالى وتأسف على ما لا تدارك له. فهذا الحزن لما كان مذموماً كان تحريكه بالنياحة مذموماً فلذلك ورد النهي الصريح عن النياحة.
    وأما الحزن المحمود فهو حزن الإنسان على تقصيره في أمر دينه، وبكاؤه على خطاياه. والبكاء والتباكي والحزن والتحازن على ذلك محمود وعليه بكاء آدم عليه السلام. وتحريك هذا الحزن وتقويته محمود لأنه يبعث على التشمير للتدارك، ولذلك كانت نياحة داود عليه السلام محمودة إذ كان ذلك مع دوام الحزن وطول البكاء بسبب الخطايا والذنوب، فقد كان عليه السلام يبكي ويبكي ويحزن حتى كانت الجنائز ترفع من مجالس نياحته. وكان يفعل ذلك بألفاظه وألحانه: وذلك محمود لأن المفضى إلى المحمود محمود. وعلى هذا لا يحرم على الواعظ الطيب الصوت أن ينشد على المنبر بألحانه الأشعار المحزنة المرققة للقلب ولا أن يبكي ويتباكى ليتوصل به إلى تبكية غيره وإثارة حزنه.
    الخامس: السماع في أوقات السرور تأكيد للسرور وتهييجاً له، وهو مباح إن كان ذلك السرور مباحاً كالغناء في أيام العيد وفي العرس وفي وقت قدوم الغائب وفي وقت الوليمة والعقيقة وعند ولادة المولود وعند ختانه وعند حفظه القرآن العزيز. وكل ذلك مباح لأجل إظهار السرور به. ووجه جوزاه أن من الألحان ما يثير الفرح والسرور والطرب فكل ما جاز السرور به جاز إثاره السرور فيه. ويدل على هذا من النقل إنشاد النساء على السطوح بالدف والألحان عند قدوم رسول الله ﷺ.
    طلع البدر علينا من ثنيات الودع وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
    فهذا إظهار السرور لقدومه ﷺ وهو سرور محمود، فإظهاره بالشعر والنغمات والرقص والحركات أيضاً محمود. فقد نقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم حجلوا في سرور أصابهم، - كما سيأتي في أحكام الرقص - وهو جائز في قدوم كل قادم يجوز الفرح به وفي كل سبب مباح من أسباب السرور. ويدل على هذا ما روى في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لقد رأيت النبي ﷺ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد حتى أكون أنا الذي أسأمه" فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو إشارة إلى طل مدة وقوفها. وروى البخاري ومسلم أيضاً في صحيحيهما حديث عقيل عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكر رضي الله عنه دخل عليها وعندها جاريتان في أيام منى تدففان وتضربان والنبي ﷺ متغش بثوبه فانتهرهما أبو بكر رضي الله عنه فكشف النبي ﷺ عن وجهه وقال "دعهما يا أبا بكر فإنها أيام عيد" وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي ﷺ يسترني بردائه وأنا أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون في المسجد فزجرهم عمر رضي الله عنه فقال النبي ﷺ "أمنا يا بني أرفدة" يعني من الأمن ومن حديث عمرو بن الحرث عن ابن شهاب نحوه وفيه: تغنيان وتضربان. وفي حديث أبي طاهر عن ابن وهب: والله لقد رأيت رسول الله ﷺ يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله ﷺ وهو يسترني بثوبه - أو بردائه - لكي أنظر إلى لعبهم ثم يقوم ن أجلي حتى أكون أنا الذي أنصرف، وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنت ألعب بالبنات عند رسول الله ﷺ قالت وكان يأتيني صواحب لي فكن يتقنعن من رسول الله ﷺ وكان رسول الله ﷺ يسر لمجيئهن إلي فيلعبن معي. وفي رواية أن النبي ﷺ قال لها يوماً "ما هذا?" قالت: بناتي قال "فما هذا الذي أرى في وسطهن?" قالت: فرس قال "ما هذا الذي عليه?" قالت: جناحان قال "فرس له جناحان" قالت: أوما سمعت أنه كان لسليمان بن داود عليه السلام خيل لها أجنحة? قالت فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت نواجذه. والحديث محمول عندنا على عادة الصبيان في اتخاذ الصورة من الخزف والرقاع من غير تكيل صورته بدليل ما روى في بعض الروايات أن الفرس كان له جناحان من رقاع. وقالت عائشة رضي الله عنها: دخل علي رسول الله ﷺ وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث فاضطجع على الفراش وحول وجهه فدخل أبو بكر رضي الله عنه فانتهرنى وقال: مزمار الشيطان عند سول الله ﷺ فأقبل عليه رسول الله ﷺ وقال "دعهما" فلما غفل غمزتهما فخرجتا. وكان يوم عيد يلعب فيه السودان بالدرق والحراب فإما سألت رسول الله ﷺ وإما قال "تشتهين تنظرين" فقلت: نعم، فأقامني وراءه وخدي على خده ويقول "دونكم يا بني أرفدة" حتى إذا مللت قال "حسبك" قلت: نعم، قال "فاذهبي" وفي صحيح مسلم: فوضعت رأسي على منكبه فجعلت أنظر إلى لعبهم حتى كنت أنا الذي انصرفت.
    فهذه الأحاديث كلها في الصحيحين وهو نص صريح في أن الغناء واللعب ليس بحرام. وفيها دلالة على أنواع من الرخص، الأول، اللعب: ولا يخفى عادة الحبشة في الرقص واللعب. والثاني، فعل ذلك في المسجد. والثالث، قوله ﷺ "دونكم يا بنى أرفدة" وهذا أمر باللغب والتماس له فكيف يقدر كونه حراماً? والرابع، منعه لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما عن الإنكار والتغيير وتعليله بأنه يوم عيد أي هو وقت سرور? وهذا من أسباب السرور والخامس وقوفه طويلاً في مشاهدة ذلك وسماعه لموافقة عائشة رضي الله عنها. وفيه دليل على أن حسن الخلق في تطييب قلوب النساء والصبيان بمشاهدة اللعب أحسن من خشونة الزهد والتقشف في الامتناع والمنع منه. والسادس، قوله ﷺ ابتداء لعائشة "أتشتهين أن تنظري" ولم يكن ذلك عن اضطرار إلى مساعدة محور. فأما ابتداء السؤال فلا حاجة فيه. والسابع، الرخصة في الغناء والضرب بالدف من الجاريتين، مع أنه شبه ذلك بمزمار الشيطان وفيه بيان أن المزمار المحرم غير ذلك. والثامن، أن رسول الله ﷺ كان يقرع سمعه صوت الجاريتين وهو مضطجع، ولو كان يضرب بالأوتار في موضع لما جوز الجلوس ثم لقرع صوت الأوتار سمعه. فيدل هذا على أن صوت النساء غير محرم تحريم صوت المزامير بل إنما يحرم عند خوف الفتنة. فهذه المقاييس والنصوص تدل على إباحة الغناء والرقص والضرب بالدف واللعب بالدرق والحراب والنظر إلى رقص الحبشة والزنوج في أوقات السرور كلها - قياساً على يوم العيد - فإنه وقت سرور، وفي معناه يوم العرس والوليمة والعقيقة والختان ويوم القدوم من السفر وسائر أسباب الفرح وهو كل ما يجوز به الفرح شرعاً. ويجوز الفرح بزيارة الإخوان ولقائهم واجتماعهم في موضع واحد على طعام أو كلام فهو أيضاً مظنة السماع.
    السادس: سماع العشاق تحريكا للشوق وتهييجاً للعشق وتسلية للنفس. فإن كان في مشاهدة المعشوق فالغرض رجاء الوصال فإن الرجاء لذيذ واليأس مؤلم، وقوة لذة الرجاء بحسب قوة الشوق والحب للشيء المرجو. ففي هذا وهذا حلال إن كان المشتاق إليه ممن يباح وصاله كمن يعشق زوجته أو سريته، فيصغي إلى غنائها لتضاعف لذته في لقائها. فيحظى بالمشاهدة البصر، وبالسماع الأذن، ويفهم لطائف معاني الوصال والفراق القلب، فتترادف أسباب اللذة. فهذه أنواع تمتع من جملة مباحات الدنيا ومتاعها "وما الحياة الدنيا إلا لهو ولعب" وهذا منه. وكذلك إن غضبت باعها أو طلقها حرم عليه ذلك بعده. إذ لا يجوز تحريك الشوق حيث لا يجوز تحقيقه بالوصال واللقاء. وأما من يتمثل في نفسه صورة صبي أو امرأة لا يحل له النظر إليها وكان ينزل ما يسمع على ما تمثل في نفسه فهذا حرام لأنه محرك للفكر في الأفعال المحظورة، ومهيج للداعية إلى ما لا يباح الوصول إليه. وأكثر العشاق والسفهاء من الشباب في وقت هيجان الشهوة لا ينفكون عن إضمار شيء من ذلك: وذلك ممنوع في حقهم لما فيه من الداء الدفين لا لأمر يرجع إلى نفس السماع. ولذلك سئل حكيم عن العشق فقال. دخان يصعد إلى دماغ الإنسان يزيله الجماع ويهيجه السماع.
    السابع: سماع من أحب الله وعشقه واشتاق إلى لقائه فلا ينظر إلى شيء إلا رآه فيه سبحانه، ولا يقرع سمعه أحوالاً ن المكاشفات والملاطفات لا يحيط الوصف بها يعرفها من ذاقها ونيكرها من كل حسه عن ذوقها. وتسمى تلك الأحوال بلسان الصوفية وجداً مأخوذ من الوجود والمصادفة أي صادف من نفسه أحوالاً لم يكن يصادفها قبل السماع. ثم تكون تلك الأحوال أسباباً لروادف وتوابع لها تحرق القلب بنيرانها وتنقيه من الكدورات كما تنقى النار الجواهر المعروضة عليها من الخبث، ثم يتبع الصفاء الحاصل به مشاهات ومكاشفات وهي غاية مطالب المحبين لله تعالى ونهاية ثمرة القربات كلها فالمفضى إليها من جملة القربات لا من جملة المعاصي والمباحات. وحصول هذه الأحوال للقلب بالسماع سببه سر الله تعالى في مناسبة النغمات الموزونة للأرواح وتسخير الأرواح لها وتأثرها بها شوقاً وفرحاً وحزناً وانبساطاً وانقباضاً. ومعرفة السبب في تأثر الأرواح بالأصوات من دقائق علوم المكاشفات. والبليد الجامد القاسي القلب المحروم عن لذة السماع يتعجب من التذاذ المستمع ووجده واضطراب حاله وتغير لونه تعجب البهيمة من لذة اللوزينج، وتعجب العنين من لذة المباشرة، وتعجب الصبي من لذة الرياسة واتساع أسباب الجاه، وتعجب الجاهل من لذة معرفة الله تعالى ومعرفة جلاله وعظمته وعجائب صنعه. ولكل ذلك سبب واحد وهو أن اللذة نوع إدراك والإدراك يستدعي مدركاً ويستدعي قوة مدركة. فمن لم تكمل قوة إدراكه لم يتصور منه التلذذ فكيف يدر لذة الطعوم من فقد الذوق? وكيف يدرك لذة الألحان من فقد السمع? ولذة المعقولات من فقد العقل? وكذلك ذوق السماع بالقلب بعد وصول إلى السمع يدرك بحاسة باطنة في القلب، فمن فقدها عدم لا محالة لذاته.
    ولعلك تقول: كيف يتصور العشق في حق الله تعالى حتى يكون السماع محركاً له? فاعلم أن من عرف الله أحبه لا محالة، ومن تأكدت معرفته تأكدت محبته بقدر تأكد معرفته. والمحبة إذا تأكدت سميت عشقاً فلا معنى للعشق إلا محبة مؤكدة مفرطة. ولذلك قالت العرب: إن محمداً قد عشق ربه. ولما رأوه يتخلى للعبادة في جبل حراء. واعلم أن كل جمال محبوب عند مدرك ذلك الجمال والله تعالى جميل يحب الجمال. ولكن الجمال إن كان تيناسب الخفة وصفاء اللون أدرك بحاسة البصر. وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة وحسن الصفات والأخلاق وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام إلى غير ذلك من الصفات الباطنة أدرك بحاسة القلب. ولفظ الجمال قد يستعار أيضاً لها فيقال: إن فلاناً حسن وجميل ولا تراد صورته. وإنما يعنى به أنه جميل الأخلاق محمود الصفات حسن السيرة، حتى قد يحب الرجل بهذه الصفات الباطنة استحساناً لها كما تحب الصورة الظاهرة. وقد تتأكد هذه المحبة فتسمى عشقاً. وكم من الغلاة في حب أرباب المذاهب كالشافعي ومالك وأبي حنيفة رضي الله عنهم? حتى يبذلوا أموالهم وأرواحهم في نصرتهم وموالاتهم ويزيدوا على كل عاشق في الغلو والمبالغة. ومن العجب أن يعقل عشق شخص لم تشاهد قط صورته أجميل هو أم قبيح وهو الآن ميت? ولكن لجمال صورته الباطنة وسيرته المرضية والخيرات الحاصلة من عمله لأهل الدين وغير ذلك من الخصال. ثم لا يعقل عشق من ترى الخيرات منه. بل على التحقيق من لا خير ولا جمال ولا محبوب في العالم إلا وهو حسنة من حسناته وأثر من آثار كرمه وغرفة من بحر جوده، بل كل حسن وجمال في العالم أدرك بالعقول والأبصار والأسماع وستائر الحواس من مبتدإ العالم إلى منقرضه ومن ذروة الثريا إلى منتهى الثرى فهو ذرة ن خزائن قدرته ولمعة من أنوار حضرته، فليت شعري كيف لا يعقل حب من هذا وصفه? وكيف لا يتأكد عند العارفين بأوصافه حبه حتى يجاوز حداً يكون إطلاق اسم العشق عليه ظلماً في حقه لقصوره عن الإنباء عن فرط محبته? فسبحان من احتجب عن الظهور بشدة ظهوره واستتر عن الأبصار بإشراق نوره، ولولا احتجابه بسبعين حجاباً من نوره لأحرقت سبحات وجهه أبصار الملاحظين لجمال حضرته، ولولا أن ظهور سبب خفائه لبهتت العقول ودهشت القلوب وتخاذلت القوى وتنافرت الأعضاء، ولو ركبت القلوب من الحجارة والحديد لأصبحت تحت مبادئ أنوار تجليله دكاً دكاً، فأنى تطيق كنه نور الشمس أبصار الخفافيش. وسيأتي تحقيق هذه الإشارة في كتاب المحبة. ويتضح أن محبة غير الله تعالى قصور وجهل بل المتحقق بالمعرفة لا يعرف غير الله تعالى، إذ ليس في الوجود تحقيقاً إلا الله وأفعاله. ومن عرف الأفعال من حيث إنها أفعال لم يجاوز معرفة الفاعل إلى غيره. فمن عرف الشافعي مثلاً رحمه الله وعليه وتصنيفه من حيث إنه تصنيفه لا من حيث إنه بياض وجلد وحبر وورق وكلام منظوم ولغة عربية، فلقد عرفه ولم يجاوز معرفة الشافعي إلى غيره، ولا جاوزت محبته إلى غيره، فكل موجود سوى الله تعالى فهو تصنيف الله تعالى وفعله وبديع أفعاله فمن عرفها من حيث هي صنع الله تعالى فرأى من الصنع صفات الصانع كما يرى من حسن التصنيف فضل المصنف وجلالة قدره كانت معرفته ومحبته مقصورة على الله تعالى غير مجاوزة إلى سواه. ومن حد هذا العشق أنه لا يقبل الشركة وكل ما سوى هذا العشق فهو قابل للشركة؛ إذ كال محبوب سواه بتصور له نظير إما في الوجود وإما في الإمكان. فأما هذا الجمال فلا يتصور له ثان لا في الإمكان ولا في الوجود. فكان اسم العشق على حب غيره مجازاً محضالاً حقيقة. نعم الناقص القريب في نقصانه من البهيمة قد لا يدرك من لفظة العشق إلا طلب الوصال الذي هو عبارة عن تماس ظواهر الأجسام وقضاء شهوة الوقاع. فمثل هذا الحمار ينبغي أن لا يستعمل معه لفظه العشق والشوق والوصال والأنس، بل يجنب هذه الألفاظ والمعان كما تجنب البهيمة النرجس والريحان وتخصص بالفت والحشيش وأوراق القضبان. فإن الألفاظ إنما يجوز إطلاقها في حق الله تعالى إذا لم تكن موهمة معنى يجب تقديس الله تعالى عنه. لصفات الله تعالى وجد غالب يقطع بسببه نياط القلب. فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله ﷺ: أنه ذكر غلاماً كان في بني إسرائيل على جبل فقال لأمه: من خلق السماء?
    قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الأرض? قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الجبال? قالت: الله عز وجل، قال: فمن خلق الغيم? قالت: الله عز وجل، قال: إني لأسمع لله شأناً. ثم رمى بنفسه من الجبل فتقطع. وهذا كأنه سمع ما دل على جلال الله تعالى وتمام قدرته فطرب لذلك ووجدى فرمى بنفسه من الوجد. وما أنزلت الكتب إلا ليطربوا بذكر الله تعالى. قال بعضهم: رأيت مكتوباً في الإنجيل؛ غنينا لكم فلم تطربوا وزمرنا لكم فلم ترقصوا. أي شوقناكم بذكر الله تعالى فلم تشتاقوا. فهذا ما أردنا أن نذكره من أقسام السماع وبواعثه ومقتضياته وقد ظهر على القطع إباحته في بعض المواضع والندب إليه في بعض المواضع.
    فإن قلت: فهل له حالة يحرم فيها? فأقول إنه يحرم بخمسة عوارض: عارض في المسمع، وعارض في آلة الإسماع، وعارض في نظم الصوت، وعارض في نفس المستمع أو في مواظبته، وعارض في كون الشخص من عوام الخلق، لأن أركان السماع هي المسمع والمستمع وآلة الإسماع.
    العارض الأول، أن يكون المسمع امرأة لا يحل النظر إليها وتخشى الفتنة من سماعها، وفي معناها الصبي الأمرد الذي تخشى فتنته، وهذا حرام لما فيه من خوف الفتنة وليس ذلك لأجل الغناء، بل لو كانت المرأة بحيث يفتتن بصوتها في المحاورة من غير ألحان فلا يجوز محاورتها ومحادثتها ولا سماع صوتها في القرآن أيضاً، وكذلك الصبي الذي تخاف فتنته.
    فإن قلت: فهل تقول إن ذلك حرام بكل حال حسماً للباب أو لا يحرم إلا حيث تخاف الفتنة في حق من يخاف العنت. فأقول: هذه مسألة محتملة من حيث الفقه يتجاذبها أصلان؛ أحدهما? أن الخلوة بالأجنبية والنظر إلى وجهها حرام سواء خيفت الفتنة أو لم تخف لأنه مظنة الفتنة على الجملة. فقضى الشرع بحسم الباب من غير التفات إلى الصور? والثاني: أن النظر إلى الصبيان مباح إلا عند خوف الفتنة فلا يلحق الصبان بالنساء في عموم الحسم بل يتبع في ه الحال،: وصوت المرأة دائر بين هذين الأصلين فإن قسناه على النظر إليها وجب حسم الباب وهو قياس قريب، ولكن بينهما فرق إذ الشهوة تدعو إلى النظر في أول هيجانها ولا تدعوا إلى سماع الصوت وليس تحليك النظر لشهوة المماسة كتحريك السماع بل هو أشد. وصوت المأة في غير الغناء ليس بعورة فلم تزل النسا في زمن الصحابة رضي الله عنهم يكلمن الرجال في السلام والاستفتاء والسؤال والمشاورة وغير ذلك. ولكن للغناء مزيد أثر في تحريك الشهوة. فقياس هذا على النظر إلى لصبيان أولى لأنهم لم يؤمروا بالحتجاب كما لم تؤمر النساء بستر الأصوات. فينبغي أن يتبع مثار الفتن ويقصر التحريم عليه. هذا هو الأقيس عندي ويتأيد بحديث الجاريتين المغنيتين في بيت، عائشة رضي الله عنها! إذ يعلم أنه ﷺ كان يسمع أصواتهما ولم يحترز منه، ولكن لم تكن الفتنة مخوفة عليه فلذلك لم يحترز. فإذن يختلف هذا بأحوال المرأة وأحوال الرجل في كونه شاباً وشيخاً ولا يبعد أن يختلف الأمر في مثل هذا بالأحوال. فإنا نقول: للشيخ أن يقبل زوجته وهو صائم وليس للشاب ذلك؛ لأن القبلة تدعو إلى الوقاع في الصوم وهو محظور، والسماع يدعو إلى النظر والمقاربة وهو حرام فيختلف ذلك أيضاً بالأشخاص.
    العارض الثاني: في الآلة، بأن يتكون من شعار أهل الشرف أو المخنثين وهي المزامير والأوتار وطبل الكوبة. فهذه ثلاثة أنواع ممنوعة. وما عدا ذلك يبقى على أصل الإباحة كالدف - وإن كان فيه الجلاجل - وكالطبل والشاهين والضرب بالقضيب وسائر الآلات.
    العارض الثالث: في نظم الصوت وهو الشعر فإن كان فيه شيء من الخنا والفحش والهجو أو ما هو كذب على الله تعالى وعلى رسوله ﷺ أو على الصحابة رضي الله عنهم، كما رتبه الروافض في هجاء الصحابة وغيرهم، فسماع ذلك حرام بألحان وغير ألحان، والمستمع شريك للقائل. وكذلك ما فيه ووصف امرأة بعينها فإنه لا يجوز وصف المرأة بين الرجال. وأما هجاء الكفار وأهل البدع فذلك جائز. فقد كان حسان بن ثابت رضي الله عنه ينافح عن رسول الله ﷺ ويهاجي الكفار وأمره ﷺ بذلك فأما النسيب وهو التشبيه بوصف الخدود والأصداغ وحسن القد والقامة وسائر أوصاف النساء فهذا فيه نظر. والصحيح أنه لا يحرم نظمه وإنشاده بلحن وغير لحن. وعلى المستمع أن لا ينزله على امرأة معينة فإن نزله فلينزله على من يحل له من زوجته وجاريته: فإن نزله على أجنبية فهو العاصي بالتنزيل وإحالة الفكر فيه. ومن هذا وصفه فينبغي أن يجتنب السماع رأساً فإن من غلب عليه عنق نزل كل ما يسمعه عليه؛ سوء كان اللفظ مناسباً له أو لم يكن، إذ ما من لفظ إلا ويمكن تنزيله على معان بطريق الاستعارة، فالذي يغلب على قلبه حب الله تعالى يتذكر بسواد الصدغ مثلا ظلمة الكفر، وبنضارة الخد نور الإيمان، وبذكر الوصال لقاء الله تعالى، وبذكر الفراق الحجاب عن الله تعالى في زمرة المردودين، وبذكر الرقيب المشوش لروح الوصال عوائق الدنيا وآفاتها المشوشة لدوام الأنس بالله تعالى، ولا يحتاج في تنزيل ذلك عليه إلى استنباط وتفكر ومهلة، بل تسبق المعاني الغالبة على القلب إلى فهمه مع اللفظ. كما روى عن بعض الشيوخ، أنه مر في السوق فسمع واحداً يقول: الخيار عشرة بجبة، فغلبه والوجد، فسئل عن ذلك فقال: إذا كان الخيار عشرة بجبة فما قيمة الأشرار? واجتاز بعضهم في السوق فسمع قائلاً يقول: يا سعتر برى، فغلبه الوجد فقيل له: على ماذا كان وجدك? فقال? سمعته كأنه يقول اسع تر برى، حتى إن العجمى قد يغلب عليه الوجد على الأبيات المنظومة بلغة العرب فإن بعض حروفها يوازن الحروف العجمية فيفهم منها معان آخر. أنشد بعضهم: وما زارني في الليل إلا خباله
    فتواجد عليه رجل أعجمي. فسئل عن سبب وجده فقال، إنهن يقول: ما زاريم. وهو كما يقول فإن لفظ زار يدل في العجمية على المشرف على الهلاك، فتوهم أنه يقول: كانا مشرفون على الهلاك، فاستشعر عند ذلك خطر هلاك الآخرة.
    والمحترق في حب الله تعالى وجده بحسب فهمه، وفهمه بحسب تخيله. وليس من شرط تخليه أن يوافق مراد الشاعر ولغته. فهذا الوجد حق وصدق. ومن استشعر خطر هلاك الآخرة فجدير بأن يتشوش عليه عقله وتضطرب عليه أعضاؤه. فإذن ليس في تغيير أعيان الألفاظ كبير فائدة، بل الذي غلب عشق مخلوق ينبغي أن يحترز من السماع بأي لفظ كان، والذي غلب عليه حب الله تعالى فلا تضره الألفاظ ولا تمنعه عن فهم المعاني اللطيفة المتعلقة بمجاري همته الشريفة.
    العارض الرابع: في المستمع. وهو أن تكون الشهوة غالبة عليه وكان في غزة الشباب وكانت هذه الصفة أغلب عليه من غيرها، فالسماع حرام عليه سواء غلب على قلبه حب شخص معين أو لم يغلب، فإنه كيفما كان فلا يسمع وصف الصدغ والخد والفراق والوصال إلا ويحرك ذلك شهوته وينزله على صورة معينة ينفخ الشيطان بها في قلبه فتشتعل فيه نار الشهوة وتحتد بواعث الشرش. وذلك هو النصرة لحزب الشيطان والتخذيل للعقل المانع منه الذي هو حزب الله قد فتحه أحد الجندين واستولى عليه بالكلية. وغالب القلوب الآن قد فتحها جند الشيطان وغلب عليها فتحتاج حينئذ إلى أن تستأنف أسباب القتال لإزعاجها فكيف يجوز تكثير أسلحتها وتشحيذ سيوفها وأسنتها: والسماع مشحذ لأسلحة جند الشيطان في حق مثل هذا الشخص. فليخرج مثل هذا عن مجمع السماع فإنه يستضر به.
    العارض الخامس: أن يكون الشخص من عوام الخلق ولم يغلب عليه حب الله تعالى فيكون السماع له محبوباً، ولو غلبت عليه شهوة فيكون في حقه محظوراً. ولكنه أبيح في حقه كسائر أنواع اللذات المباحة، إلا أنه إذا اتخذه ديدنه وهجيراه وقصر عليه أكثر أوقاته فهذا هو السفيه الذي ترد شهادته، فإن المواظبة على اللهو جناية. وكأن الصغيرة بالإصرار والمداومة تصير كبيرة فكذلك بعض المباحات بالمدوامة تصير صغيرة، وهو كالمواظبة على متابعة الزنوج والحبشة والنظر إلى لعبهم على الدوام فإنه ممنوع وإن لم يكن أصله ممنوعاً إذ فعله رسول الله ﷺ. ومن هذا القبيل اللعب بالشطرنج فإنه مباح ولكن المواظبة عليه مكروهة كراهة شديدة. ومهما كان الغرض اللعب والتلذذ باللهو فذلك إنما يباح لما فيه من ترويح القلب، إذ راحة القلب معالجة له في بعض الأوقات لتنبعث دواعيه فيشتغل في سائر الأوقات بالجد في الدنيا كالكسب والتجارة، أو في الدين كالصلاة والقراءة. واستحسان ذلك فيما بين تضاعيف الجد كاستحسان الخال على الخد، ولو استوعبت الخيلان الوجه لشوهته فما أقبح ذلك! فيعود الحسن قبحاً بسبب الكثيرة فما كل حسن يحسن كثيره ولا كل مباح يباح كثيره، بل الخبز مباح والاستكثار منه حرام. فهذا المباح كسائر المباحات.
    فإن قلت: فقد أدى مساق هذا الكلام إلى أنه مباح في بعض الأحوال دون بعض فلم أطلقت القول أولاً بالإباحة إذ إطلاق القول في المفصل بلا أو بنعم خلف وخطأ? فاعلم أن هذا غلط لأن الإطلاق إنما يمتنع لتفصيل ينشأ من عين ما فيه النظر، فأما ما ينشأ من الأحوال العارضة المتصلة به من خارج فلا يمنع الإطلاق، ألا ترى أنا إذا سئلنا عن العسل أهو حلال أم لا? قلنا: إنه حلالاً، على الإطلاق مع أنه حرام على المحرور الذي يستضربه وإذا سئلنا عن الخمر قلنا. إنها حرام. مع إنها تحل لمن غص بلقمة أن يشرها مهما لم يجد غيرها، ولكن هي من حيث أنها خمر حرام وإنما أبيحت لعارض الحاجة. والعسل من حيث إنه عسل حلال وإنما حرمن لعارض الضرر، وما يكون لعارض فلا يلتفت إليه فإن البيع حلال ويحرم بعارض الوقوع في وقت النداء يوم، الجمعة ونحوه من العوارض. والسماع من جملة المباحات من حيث إنه سماع صوت طيب موزون مفهوم وإنما تحريمه لعارض خارج عن حقيقة ذاته. فإذا انكشف الغطاء عن دليل الإباحة فلا نبالي بمن يخالف بعد ظهور الدليل.
    وأما الشافعي رضي الله عنه فليس تحريم الغناء من مذهبه أصلاً. وقد نص الشافعي وقال في الرجل يتخذه صناعة: لا تجوز شهادته. وذلك لأنه من اللهو المكروه الذي يشبه الباطل، ومن اتخذه صنعة كان منسوباً إلى السفاهة وسقوط المروءة، وإن لم يكن محرماً بين التحريم. فإن كان لا ينسب نفسه إلى الغناء ولا يؤتى لذلك ولا يأتى لأجله وإنما يعرف بأنه قد يطرب في الحال فيترنم بها لم يسقط هذا مروءته ولم يبطل شهادته. و استدل بحديث الجاريتين اللتين كانتا تغنيان في بيت عائشة رضي الله عنها، وقال يونس بن عبد الأعلى: سألت الشافعي رحمه الله عن إباحة أهل المدينة للسماع فقال الشافعي: لا أعلم أحداً من علماء الحجاز كره السماع إلا ما كان منه في الأوصاف، فأما الحداء وذكر الأطلال والمرابع وتحسين الصوت بألحان الأشعار فمباح.
    وحيث قال: إنه لهو مكروه يشبه الباطل فقوله لهو صحيح. ولكن اللهو من حيث إنه لهو ليس بحرام فلعب الحبشة ورقصهم لهو وقد كان ﷺ ينظر إليه ولا يكرهه. بل اللهو واللغو لا يؤاخذ الله تعالى به إن عنى به أنه فعل ما لا فائدة فيه. فإن الإنسان لو وظف على نفسه أن يضع يده على رأسه في اليوم مائة مرة فهذا عبث لا فائدة له ولا يحم. قال الله تعالى: "لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" فإذا كان ذكر اسم الله تعالى على الشيء على طريق القسم من غير عقد عليه ولا تصميم والمخالفة فيه مع أنه لا فائدة فيه لا يؤاخذ فيكيف يؤاخذ به بالشعر والرقص? وأما قوله يشبه الباطل فهذا لا يدل على اعتقاد تحريمه، بل لو قال: هو باطل صريحاً. لما دل على التحريم وإنما يدل على خلوه عن الفائدة، فالباطل ما لا فائدة فيه. فقول الرجل لامرأته مثلاً: بعت نفسي منك، وقولها: اشتريت، عقد باطل مهما كان القصد اللعب والمطايبة وليس بحرام إلا إذا قصد به التمليك المحقق منع الشرع منه.
    وأما قوله مكروه، فينزل بعض المواضع التي ذكتها لك أو ينزل على التنزيه فإنه نص على إباحة لعب الشطرنج وذكر أني أكره لعب وتعليله يدل عليه فإنه قال: ليس ذلك من عادة ذوي الدين والمروءة. فهذا يدل على التنزيه. ورده الشهادة بالمواظبة عليه لا يدل على تحريمه أيضاً بل قد ترد الشادة بالأكل في السوق وما يحرم المروءة، بل الحياكة مباحة وليست من صنائع ذوي المروءة، وقد ترد شهادة المحترف بالحرفة الخسيسة فتعليله يدل على أنه أراد بالكراهة التنزيه. وهذا هو الظن أيضاً بغيره من كبار الأئمة. وإن أرادوا التحريم فما ذكرناه حجة عليهم.
    بيان حجج القائلين بتحريم السماع والجواب عنها
    احتجوا بقوله تعالى "ومن الناس من يشتري لهو الحديث" قال ابن مسعود والحسن البصري والنخعي رضي الله عنهم: إن لهو الحديث هو الغناء. وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: "إن الله تعالى حرم القينة وبيعها وثمنها وتعليمها" فنقول: أما القينة فالمراد بها الجارية التي تغني للرجال في مجلس الشرب. وقد ذكرنا أن غناء الأجنبية للفساق ومن يخاف عليهم الفتنة حرام، وهم لا يقصدون بالفتنة إلا ما هو محظور، فأما غناء الجارية لمالكها فلا يفهم تحريمه من هذا الحديث، بل لغير مالكها سماعها عند عدم الفتنة. بدليل ما روى في الصحيحين من غناء الجاريتين في بيت عائشة رضي الله عنها. وأما شراء لهو الحديث بالدين استبدالاً به ليضل به عن سبيل الله فهو حرام مذموم، وليس النزاع فيه، وليس كل غناء بدلاً عن الدين مشترى به ومضلاً عن سبيل الله تعالى، وهو المراد في الآية. ولو قرأ القرآن ليضل به عن سبيل اله لكان حراماً.
    حكى عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا سورة عبس لما فيها من العتاب مع رسول الله ﷺ فهم عمر بقتله، ورأى فعله حراما لما فيه من الإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم.
    واحتجوا بقوله تعالى: "أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون" قال ابن عباس رضي الله عنهما: هو الغناء بلغة حمير - يعني السمد - فنقول: ينبغي أن يحرم الضحك وعدم البكاء أيضاً لآن الآية تشتمل عليه.
    فإن قيل: إن ذلك مخصوص بالضحك على المسلمين لإسلامهم? فهذا أيضاً مخصوص بأشعارهم وغنائهم في معرض الاستهزاء بالمسلمين كما قال تعالى "والشعراء يتبعهم الغاوون" وأراد به شعراء الكفار. ولم يدل ذلك على تحريم نظم الشعر في نفسه.
    واحتجوا بما روى جابر رضي الله عنه أنه ﷺ قال "كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى" فقد جمع بين النياحة والغناء? قلنا: لا جرم كما استثنى منه نياحة داود عليه السلام ونياحة المذنبين على الجاريتين يوم العيد في بيت رسول الله ﷺ، وغناؤهن عند قدومه عليه السلام بقولهن: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
    واحتجوا بما روى أبو إمامة عنه ﷺ أنه قال "ما رفع أحد صوته بغناء إلا بعث الله له شيطانين على منكبيه يضربان بأعقابهما على صدره حتى يمسك" هو منزل على بعض أنواع الغناء الذي قدمناه وهو الذي يحرك من القلب وما هو مراد الشيطان من الشهوة وعشق المخلوقين، فأما ما يحرك الشوق إلى الله أو السرور بالعيد أو حدوث الولد أو قدوم الغائب فهذا كله يضاد مراد الشيطان. بدليل قصة الجاريتين والحبشة والأخبار التي نقلناها من الصحاح فالتجويز في موضع واحد نص في الإباحة، والمنع في ألف موضع محتمل التأويل ومحتمل للتنزيل. أما الفعل فلا تأويل له، إذ ما حرم فعله إنما يحل بعارض الإكراه فقط، وما أبيح فعله يحرم بعوارض كثيرة حتى النيات والقصود.
    واحتجوا بما روى عقبة بن عامر أن النبي ﷺ قال "كل شيء يلهو به الرجل فهو باطل إلا تأديبه فرسه ورميه بقوسه وملاعبته لامرأته" قلنا: فقوله باطل لا يدل على التحريم بل يدل على عدم الفائدة وقد يسلم ذلك. على أن التلهي بالنظر إلى الحبشة خارج عن هذه الثلاثة وليس بحرام، بل يلحق بالمحصور غير المحصور قياساً كقوله ﷺ "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث" فإنه يلحق به رابع وخامس فكذلك ملاعبة امرأته لا فائدة له إلا التلذذ. وفي هذا دليل على أن التفرج في البساتين وسماع أصوات الطيور وأنواع المداعبات مما يلهو به الرجل لا يحرم عليه شيء منها وإن جاز وصفه بأنه باطل.
    واحتجوا بقول عثمان رضي الله عنه: ما تغنيت ولا تمنيت ولا مست ذكري بيميني مذ بايعت بها رسول الله ﷺ. قلنا: فليكن التمني ومس الذكر باليمنى حراماً، إن كان هذا دليل تحريم الغناء فمن أين يثبت أن عثمان رضي الله عنه كان لا يترك إلا الحرام?
    واحتجوا بقول ابن مسعود رضي الله عنه: الغناء ينبت في القلب النفاق، وزاد بعضهم كما ينبت الماء البقل ورفعه بعضهم إلى رسول الله ﷺ وهو غير صحيح. قالوا: ومر على ابن عمر رضي الله عنهما قوم محرمون وفيهم رجل يتغنى فقال: ألا لا أسمع اله لكم ألا لا أسمع الله لكم. وعن نافع أنه قال: كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما في طريق فسمع زمارة راع فوضع أصبعيه في أذنيه ثم عدل عن الطريق؛ فلم يزل يقول: يا نافع أتسمع ذلك? حتى قلت: لا فأخرج أصبعيه وقال: هكذا رأيت رسول الله ﷺ صنع وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: الغناء رقية الزنا. وقال بعضهم: الغناء رائد من رواد الفجور. وقال يزيد بن الوليد: إياكم والغناء فإنه ينقص الحياء ويزيد الشهوة ويهدم المروءة، وإنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعله السكر، فإن كنتم لا بد فاعلين فجنبوه النساء فإن الغناء داعية الزنا. فنقول: قول ابن مسعود رضي الله عنه "ينبت النفاق" أراد به في حق المغني، فإنه في حقه ينبت النفاق إذ غضه كله أن يعرض نفسه على غيره ويروج صوته عليه، ولا يزال ينافق ويتودد إلى الناس ليرغبوا في غنائه، وذلك أيضاً لا يوجب تحريماً. فإن لبس الثياب الجميلة وركوب الخيل المهملجة وسائر أنواع الزينة والتفاخر بالحرث والأنعام والزرع وغير ذلك ينبت في القلب النفاق والرياء، ولا يطلق القول بتحريم ذلك كله. فليس السبب في ظهور النفاق في القلب المعاصي فقط، بل المباحات التي هي مواقع نظر الخلق أكثر تأثيراً. ولذلك نزل عمر رضي الله عنه عن فرس هملج تحته وقطع ذنبه لأنه استشعر في نفسه الخيلاء لحسن مطيته. فهذا النفاق من المباحات. وأما قول ابن عمر رضي الله عنهما: ألا لا أسمع الله لكم. فلا يدل على التحريم من حيث إنه غناء بل كانوا محرمين ولا يليق بهم الرفث، وظهر له من مخايلهم أن سماعهم لم يكن لوجد وشوق إلى زيارة بيت الله تعالى بل لمجرد اللهو، فأنكر ذلك عليهم لكونه منكراً بالإضافة إلى حالهم وحال الإحرام. وحكايات الأحوال تكثر فيها وجوه الاحتمال. وأما وضعه أصبعيه في أذنيه فيعارضه أنه لم يأمر نافعاً بذلك ولا أنكر عليه سماعه، وإنما فعل ذلك هو لأنه رأى أن ينزه سمعه في الحال وقلبه عن صوت ربما يحرك اللهو ويمنعه عن فكر كان فيه أو ذكر هو أولى منه. وكذلك فعل رسول الله ﷺ مع أنه لم يمنع ابن عمر، لا يدل أيضاً على التحريم بل يدل على أن الأولى تركه. ونحن نرى أن الأولى تركه في أكثر الأحوال، بل أكثر مباحات الدنيا الأولى تركها إذا علم أن ذلك يؤثر في القلب. فقد خلع رسول الله ﷺ بعد الفراغ من الصلاة ثوب أبي جهم إذ كان في حالة كان صوت زمارة الراعي يشغله عن تلك الحالة كما شغله العلم عن الصلاة. بل الحاجة إلى استثارة الأحوال الشريفة من القلب بحيلة السماع قصور بالإضافة إلى من هو دائم الشهود للحق. وإن كان كمالاً بالإضافة إلى غيره. ولذلك قال الحصري: ماذا أعمل بسماع ينقطع إذا مات من يسمع منه? إشارة إلى أن السماع من الله تعالى هو الدائم. فالأنبياء عليهم السلام على الدوام في لذة السمع والشهود فلا يحتاجون إلى التحريك بالحيلة. وأما قول الفضيل: هو رقية الزنا. وكذلك ما عداه من الأقاويل القريبة منه. فهو منزل على سماع الفساق والمغتلين من الشبان. ولو كان ذلك عاماً لما سمع من الجاريتين في بيت رسول الله ﷺ.
    وأما القياس: فغاية ما يذكر فيه أن يقاس على الأوتار، وقد سبق الفرق، أو يقال هو لهو ولعب، وهو كذلك ولكن الدنيا كلها لهو ولعب. قال عمر رضي الله عنه لزوجته: إنما أنت لعبة في زاوية البيت. وجميع الملاعبة مع النساء لهو إلا الحراثة التي هي سبب وجود الولد. وكذلك المزح الذي لا فحش فيه حلال. نقل ذلك عن رسول الله ﷺ وعن الصحابة، كما سيأتي تفصيله في كتاب آفات اللسان. إن شاء الله تعالى وأي لهو يزيد على لهو الحبشة والزنوج في لعبهم وقد ثبت بالنص إباحته? على أني أقول: اللهو مروح للقلب ومخفف عنه أعباء الفكر، والقلوب إذا أكرهت عميت وترويحها إعانة لها على الجد، فالمواظب على التفقه مثلاً ينبغي أن يتعطل يوم الجمعة لأن عطلة يوم تبعث على النشاط في سائر الأيام، والمواظب على نوافل الصلوات في سائر الأوقات ينبغي أن يتعطل في بعض الأوقات، ولأجله كرهت الصلاة في بعض الأوقات. فالعطلة معونة على العمل واللهو معين على الجد، ولا يصبر على الجد المحض والحق المر إلا نفوس الأنبياء عليهم السلام. فاللهو دواء القلب من داء الإعياء والملال، هذا في حق من لا يحرك السماع من قلبه صفة محمودة يطلب تحريكها بل ليس له إلا اللذة والاستراحة المحضة، فينبغي أن يستحب له ذلك ليتوصل به إلى المقصود الذي ذكرناه. نعم هذا يدل على نقصان عن ذروة الكمال فإن الكامل هو الذي لا يحتاج أن يروح نفسه بغير الحق، ولكن حسنات الأبرار سيئات المقربين من أحاط بعلم علاج القلوب ووجوه التلطف بها لسيافتها إلى الحق علم قطعاً أن ترويحها بأمثال هذه الأمور دواء نافع لا غنى عنه.
    =======
    الباب الثاني
    آثار السماع وآدابه
    اعلم أن أول درجة السماع فهم المسموع وتنزيله على معنى يقع للمستمع، ثم يثمر الفهم الوجد، ويثمر الوجد الحركة بالجوارح. فلينظر في هذه المقامات الثلاثة.
    المقام الأول
    في الفهم
    وهو يختلف باختلاف أحوال المستمع. وللمستمع أربعة أحوال، إحداها: أن يكون سماع بمجرد الطبع أي لا حظ له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات، وهذا مباح وهو أخسر رتب السماع، إذ الإبل شريكه له فيه وكذا سائر البهائم بل لا يستدعى هذا الذوق إلا الحياة، فلكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة.
    الحالة الثانية: أن يسمع بفهم ولكن ينزله على صورة مخلوق إما معيناً وإما غير معين، وهو سماع الشباب وأرباب الشهوات ويكون تنزيلهم للمسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم، وهذا الحالة أخس من أن نتكلم فيها إلا ببيان خستها والنهي عنها.
    الحالة الثالثة: أن ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته لله تعالى وتقلب أحواله في التمكن مرة والتعذر أخرى، وهذا سماع المريدين لا سيما المبتدئين، فإن للمريد لا محالة مراداً هو مقصده، ومقصد معرفة الله سبحانه ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسر وكشف الغطاء، وله في مقصده طريق هو سالكه، ومعاملات هو مثابر عليها، وحالات تستقبله في معاملاته. فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو رد أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهف على فائت أو تعطش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو عدة الوصال أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه فيجري ذلك مجرى القدح الذي يورى زناد قلبه، فتشتعل به نيرانه ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه ويهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله. وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه، بل لكل كلام وجوه، ولكل ذي فهم في اقتباس المعنى منه حظوظ. ولنضرب لهذه التنزيلات والفهوم أمثلة كي لا يظن الجاهل أن المستمع لأبيات فيها ذكر الفم والخد والصدغ إنما يفهم منها ظواهرها. و لا حاجة إلى ذكر كيفية فهم المعاني من الأبيات ففي حكايات أهل السماع ما يكشف عن ذلك. فقد حكى أن بعضهم سمع قائلاً يقول: قال الرسول غداً تـزو ر فقلت تعقل ما تقول
    فاستفزه اللحن والقول وتواجد وجعل يكرر ذلك ويجعل مكان التاء: نوناً. فيقول: قال الرسول غدا نزور، حتى غشى عليه من شدة الفرح واللذة والسرور. فلما أفاق سئل عن وجده مم كان? فقال: ذكرت قول الرسول ﷺ "إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة، و حكى الرقى عن ابن الدراج أنه قال: كنت أنا وابن الفوطى مارين على دجلة بين البصرة والأبلة فإذا بقصر حسن له منظرة وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول: كل يوم تتـلـون? غير هذا بك أحسن
    فإذا شاب حسن تحت المنظرة وبيده ركوة وعليه مرقعة يستمع فقال: يا جارية بالله وبحياة مولاك إلا أعدت علي هذا البيت. فأعادت فكان الشاب يقول: هذا والله تلوني مع الحق في حالي، فشهق شهقة ومات. قال: فقلنا قد استقبلنا فرض. فوقفنا، فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرة لوجه الله تعالى قال ثم إن أهل البصرة خرجوا فصلوا عليه. فلما فرغوا من دفنه قال صاحب القصر: أشهدكم أن كل شيء لي في سبيل الله، وكل جواري أحرار، وهذا القص للسبيل. قال: ثم رمى بثيابه واتزر بإزار وارتدى بآخر ومر على وجهه والناس ينظرون إليه حتى غاب عن أعينهم، وهم يبكون. فلم يسمع له بعد خبر. والمقصود أن هذا الشخص كان مستغرق الوقت بحاله مع الله تعالى ومعرفة عجزه عن الثبوت على حسن الأدب في المعاملة وتأسفه على تقلب قلبه وميله عن سنن الحق، فلما قرع سمعه ما يوافق حاله سمعه من الله تعالى كأنه يخاطبه ويقول له: كل يوم تتـلـون? غير هذا بك أحسن
    ومن كان سماعه من الله تعالى وعلى الله وفيه. فينبغي أن يكون قد أحكم قانون العلم في معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته. وإلا خطر له من السماع في حق الله تعالى ما يستحيل عليه ويكفر به. ففي سماع المريد المبتدي خطر إلا إذا لم ينزل ما يسمع إلا على حاله من حيث لا يتعلق بوصف الله تعالى. ومثال الخطأ فيه هذا البيت بعينه فلو سمعه في نفسه وهو يخاطب به ربه عز وجل فيضيف التلون إلى الله تعالى فيكفر، وهذا قد يقع عن جهل محض مطلق غير أحوال سائر العالم من الله وهو حق، فإنه تارة يبسط قلبه وتارة يقبضه وتارة ينوره، وتارة يظلمه وتارة يقسيه وتارة يلينه وتارة يثبته على طاعته ويقويه عليها وتارة يسلط الشيطان عليه ليصرفه عن سنن الحق، وهذا كله من الله تعالى. ومن يصدر منه أحوال مختلفة في أوقات متقاربة فقد يقال له في العادة: إنه ذو بداوات وإنه متلون. ولعل الشاعر لم يرد به إلا نسبة محبوبة إلى التلون في قبوله ورده وتقريبه وإبعاده وهذا هو المعنى. فسماع هذا كذلك في حق الله تعالى كفر محض بل ينبغي أن يعلم أنه سبحانه وتعالى يلون ولا يتلون ويغير ولا يتغير بخلاف عباده. وذلك العلم يحصل للمريد باعتقاد تقليدي إيماني. ويحصل للعارف البصير بيقين كشف حقيقي. وذلك من أعاجيب أوصاف الربوبية وهو المغير من غير تغير، ولا يتصور ذلك إلا في حق الله تعالى، بل كل مغير سواه فلا يغير ما لم يتغير. ومن أرباب الوجد من يغلب عليه حال مثل السكر المدهش، فيطلق لسانه بالعتاب مع الله تعالى، ويستنكر اقتهاره للقلوب، وقسمته للأحوال الشريفة على تفاوت. فإنه المستصفى لقلوب الصديقين، والمبعد لقلوب الجاحدين والمغرورين، فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، ولم يقطع التوفيق عن الكفار لجناية متقدمة، ولا أمد الأنبياء عليهم السلام بتوفيقه ونور هدايته لوسيلة سابقة، ولكنه قال: "ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين" وقال عز وجل: "ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين" وقال الله تعالى: "إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون" فإن خطر ببالك أنه لم اختلفت السابقة وهم في ربقه العبودية مشتركون نوديت من سرادقات الجلال لا تجاوز حد الأدب "فإنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون" ولعمري تأدب اللسان والظاهر مما يقدر عليه الأكثرون. فأما تأدب السر عن إضمار الاستبعاد بهذا الاختلاف الظاهر في التقريب والإبعاد والإشقاء، والإسعاد مع بقاء السعادة والشقاوة أبداً لآباد فلا يقوى عليه إلا العلماء الراسخون في العلم. ولهذا قال الخضر عليه السلام لما سئل عن السماع في المنام: إنه الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء لأنه محرك لأسرار القلوب ومكامنها، ومشوش لها تشويش السكر المدهش الذي يكاد يحل عقدة الأدب عن السر إلا ممن عصمه الله تعالى بنور هدايته ولطيف عصمته. ولذلك قال بعضهم: ليتنا نجونا من هذا السماع رأساً برأس. ففي هذا الفن من السماع خطر يزيد على خطر السماع المحرك للشهوة، فإن غاية ذلك معصية وغاية الخطأ ههنا كفر.
    واعلم أن الفهم قد يختلف بأحوال المستمع فيغلب الوجد على مستمعين لبيت واحد وأحدهما مصيب في الفهم والآخر مخطئ، أو كلاهما مصيبان وقد فهما معنيين مختلفين متضادين، ولكنه بالإضافة إلى اختلاف أحوالهما لا يتناقض. كما حكى عن عتبة الغلام أنه سمع رجلاً يقول: سبحان جبار السما إن المحب لفي عنا
    فقال: صدقت. وسمعه رجل آخر فقال: كذبت. فقال بعض ذوي البصائر: أصابا جميعاً وهو الحق فالتصديق كلام محب غير ممكن من المراد بل مصدود متعب بالصد والهجر. والتكذيب كلام مستأنس بالحب مستلذ لما يقاسيه بسبب فرط حبه غير متأثر به، أو كلام محب غير مصدود عن مراده في الحال ولا مستشعر بخطر الصد في المآل. وذلك لاستيلاء الرجل وحسن الظن على قلبه. فباختلاف هذه الأحوال يختلف الفهم.
    وحكى عن أبي القاسم بن مروان: وكان قد صحب أبا سعيد الخراز رحمه الله وترك حضور السماع سنين كثيرة فحضر دعوة وفيها إنسان يقول: واقف في الماء عطشا ن ولكن ليس يسقـى
    فقام القوم وتواجدوا، فلما سكنوا سألم عن معنى ما وقع لهم من معنى البيت، فأشاروا إلى التعطش إلى الأحوال الشريفة والحرمان منها مع حضور أسبابها، فلم يقنعه ذلك فقالوا له: فماذا عندك فيه? فقال: أن يكون في وسط الأحوال ويكرم بالكرامات ولا يعطى منها ذرة. وهذه إشارة إلى إثبات حقيقة وراء الأحوال، والكرامات والأحوال سوابقها، والكرامات تسنح في مباديها، والحقيقة بعد لم يقع الوصول إليها. ولا فرق بين المعنى الذي فهمه وبين ما ذكروه إلا في تفاوت رتبة المتعطش إليه، فإن المحروم عن الأحوال الشريفة أولاً يتعطش إليها، فإن مكن منها تعطشى إلى ما وراءها، فليس بني المعنيين اختلاف في الفهم بل الاختلاف بين الرتبتين. وكان الشبلي رحمه الله كثيراً ما يتواجد على هذا البيت: ودادكم هجر وحبكـم قـلـى ووصلكم صرم وسلمكم حرب
    وهذا البيت يمكن سماعه على وجوه مختلفة بعضها حق وبعضها باطل، وأظهرها: أن يفهم هذا في الخلق بل في الدنيا بأسرها بل في كل ما سوى الله تعالى. فإن الدنيا مكارة خداعة قتالة لأربابها معادية لهم في الباطن ومظهرة صورة الود، فما امتلأت منها دار حبرة إلا امتلأت عبرة، كما ورد في الخبر وكما قال الثعلبي في وصف الدنيا: تنح عن الدنيا فلا تخطـبـنـهـا ولا تخطبن قتالة من تـنـاكـح
    فليس يفي مرجوها بمخوفـهـا ومكروهها أما تأملـت راجـح
    لقد قال فيها الواصفون فأكثـروا وعندي لها وصف لعمري صالح
    سلاف قصاراها زعاف ومركب شهى إذا استذللته فهو جـامـح
    وشخص جميل يؤثر الناس حسنه ولكن له أسرار سـوء قـبـائح
    والمعنى الثاني: أن ينزله على نفسه في حق الله تعالى فإنه إذا تفكر فمعرفته جهل إذ ما قدروا اله حق قدره. وطاعته رياء إذ لا يتقى الله حق تقاته، وحب معلول إذ لا يدع شهوة من شهواته في حبه. ومن أراد الله به خيراً بصره بعيوب نفسه فيرى مصداق هذا البيت في نفسه، وإن كان على المرتبة بالإضافة إلى الغافلين، ولذلك قال ﷺ "لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" وقال عليه الصلاة والسلام: "إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة" وإنما كان استغفاره عن أحوال هي درجات بعد بالإضافة إلى ما بعدها، وإن كانت قربا بالإضافة إلى ما قبلها، فلا قرب إلا ويبقى وراءه قرب لا نهاية له، إذ سبيل السلوك إلى الله تعالى غير متناه، والوصول إلى أقصى درجات القرب محال. والمعنى الثالث أن ينظر في مبادئ أحواله فيرتضيها ثم ينظر في عواقبها فيزدريها لإطلاعه على خفايا الغرور فيها، فيرى ذلك منن الله تعالى فيستمع البيت في حق الله تعالى شكاية من القضاء والقدر وهذا كفقر - كما سبق بيانه - وما من بيت إلا ويمكن تنزيله على معان، وذلك بقدر غزارة علم المستمع وصفاء قلبه.
    الحالة الرابعة: سماع من جاوز الأحوال والمقامات فعرب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها، وكان كالمدهوش الغائض في بحر عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال يوسف عليه السلام حتى دهشن وسقط إحساسهن. وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه قد فنى عن نفسه. ومهما فنى عن نفسه فهو عن غيره أفنى فكأنه فنى عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود. وفنى أيضاً عن الشهود فإن القلب أيضاً إذا التفت إلى الشهود وإلى عينه التي بها رؤيته ولا إلى قلبه الذي به لذته، فالسكران لا خبر له من سكره، والمتلذذ لا خبر له من التذاذه، وإنما خبره من المتلذذ به فقط. ومثاله العلم بالشيء: فإنه مغاير للعلم بالعلم بذلك الشيء فالعالم بالشيء مهما ورد عليه العلم بالعلم بالشيء كان معرضاً عن الشيء.ومثل هذه الحالة قد تطرأ في حق المخلوق وتطرأ أيضاً في حق الخالق، ولكنها في الغالب تكون كالبرق الخاطف الذي لا يثبت ولا يدوم، وإن دام لم تطقه القوة بالبشرية، فربما اضطرب تحت أعبائه اضطراباً تهلك به نفسه.
    كما روى عن أبي الحسن النوري أنه حضر مجلساً فسمع هذا البيت: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نـزولـه
    فقام وتواجد وهام على وجهه. فوقع في أجمة قصب قد قطع وبقيت أصوله مثل السيوف فصار يعدو فيها ويعيد البيت إلى الغداة والدم يخرج من رجليه، حتى ورمت قدماه وساقاه وعاش بعد ذلك أياماً ومات رحمه الله. فهذه درجة الصديقين في الفهم والوجد فهي أعلى الدرجات لأن السماع على الأحوال نازل عن درجات الكمال وهي ممتزجة بصفات البشرية، وهو نوع قصور، وإنما الكمال أن يفنى بالكلية عن نفسه وأحواله؛ أعني أنه ينساها فلا يبقى له التفات إليها كما لم يكن للنسوة التفات إلى الأيدي والسكاكين. فيسمع لله وبالله وفي الله ومن الله وهذه رتبة من خاض لجة الحقائق وعبر ساحل الأحوال والأعمال واتحد بصفاء التوحيد وتحقق بمحض الإخلاص، فلم يبق فيه منه شيء أصلاً، بل خمدت بالكلبة بشريته وفنى التفاته إلى صفات البشرية رأساً، ولست أعني بفنائه فناء جسده بل فناه قلبه، ولست أعني بالقلب اللحم والدم بل سر لطيف له إلى القلب الظاهر نسبة خفية وراءها سر الروح الذي هو من أمر الله عز وجل. - عرفها من عرفها وجهلها من جهلها - ولذلك السر وجود. وصورة ذلك الوجود ما يحضر فيه فإذا حضر فيه غيره فكأنه لا وجود إلا للحاضر. ومثاله المرآة المجلوة إذ ليس لها لون في نفسها بل لونها لون الحاضر فيها، وكذلك الزجاجة فإنها تحكى لون قرارها ولونها لون الحاضر فيها. وليس لها في نفسها صورة بل صورتها قبول الصور، ولونها هو هيئة الاستعداد لقبول الألوان، ويعرب عن هذه الحقيقة - أعني سر القلب بالإضافة إلى ما يحضر فيه - قول الشاعر: رق الزجاج ورقت الخمر فتشابها فتشاكـل الأمـر
    فكأنا خـمـر ولا قـدح وكأنما قدح ولا خـمـر
    وهذا مقام من مقامات علوم المكاشفة منه نشأ خيال من ادعى الحلول والاتحاد، وقال أنا الحق وحوله يدندن كلام النصارى في دعوى اتحاد اللاهوت بالناسوت أو تدرعها بها أو حلولها فيها على ما اختلف فيهم عباراتهم وهو غلط محض يضاهي غلط من يحكم على المرآة بصورة الحمرة إذ ظهر فيها لون الحمرة مقابلها وإذا كان هذا لا غير لائق بعلم المعاملة فلنرجع إلى الغرض؛ فقد ذكرنا تفاوت الدرجات في فهم المسموعات.
    المقام الثاني بعد الفهم والتنزيل
    الوجد
    وللناس كلام طويل في حقيقة الوجد. - أعني الصوفية والحكماء الناظرين في وجه مناسبة السماع للأرواح - فلننقل من أقوالهم ثم لنكشف عن الحقيقة فيه.
    أما الصوفية فقد قال ذو النون المصري رحمه الله في السماع: إنه وارد حق جاء يزعج القلوب إلى الحق، فمن أصغى إليه بحق تحقق، ومن أصغى إليه بنفسه تزندق. فكأنه عبر عن الوجود بانزعاج القلوب إلى الحق وهو الذي يجده عند ورود وارد السماع إذ سمي السماع وارد حق. وقال أبو الحسين الدارج مخبراً عما وجده في السماع: الوجد عبارة عما يوجد عند السماع، وقال: جال بي السماع في ميادين البهاء فأوجدني وجودا الحق عند العطاء فسقاني بكأس الصفاء فأدكت به منازل الرضاء وأخرجني إلى رياض التنزه والقضاء. وقال الشبلي رحمه الله: السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة؛ فمن عرف الإشارة حل له استماع العبارة وإلا فقد استدعى الفتنة وتعرض للبلية. وقال بعضهم: السماع غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدق عن سائر الأعمال ويدرك برقة الطبع لرقته وبصفاء السر لصفائه ولطفه عند أهله. وقال عمرو بن عثمان المكي: لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنه سر الله عند عباده المؤمنين الموقنين وقال بعضهم: الوجد مكاشفات من الحق. وقال أبو سعيد بن الأعرابي: الوجد رفع الحجاب ومشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب ومحادثة السر وإيناس المفقود، وهو فناؤك من حيث أنت، وقال أيضاً: الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب فلما ذاقوه وسطع في قلوبهم نوره زال عنهم كل شك وريب. وقال أيضاً: الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب؛ لأن النفس محجوبة بأسبابها فإذا انقطعت الأسباب وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفا ونجحت الموعظة فيه وحل من المناجاة في محل قريب وخوطب وسمع الخطاب بأذن واعية وقلب شاهد وسر ظاهر فشاهد ما كان منه خالياً؛ فذلك هو الوجد لأنه قد وجد ما كان معدوماً عنده. وقال أيضاً: الوجد ما يكون عند ذكر مزعج أو خوف مقلق أو توبيخ على زلة أو محادثة بلطيفة أو إشارة إلى فائدة أو شوق إلى غائب أو أسف على فائت أو ندم على ماض أو استجلاب إلى حال أو داع إلى واجب أو مناجاة بس، وهو مقابلة الظاهر بالظاهر والباطن بالباطن والغيب بالغيب والسر بالسر واستخراج مالك مما عليك مما سبق للسعي فيه فيكتب ذلك لك بعد كونه منك، فيثبت لك قدم لا قدم وذكر بلا ذكر، إذ كان هو المبتدئ بالنعم والمتولى وإليه يرجع الأمر كله فهذا ظاهر علم الوجد وأقوال الصوفية من هذا الجنس في الوجد كثيرة.
    وأما الحكماء فقال بعضهم: في القلب فضيلة شريفة لم تقدر قوة النطق على إخراجها باللفظ فأخرجتها النفس بالألحان، فلما ظهرت سرت وطربت إليها فاستمعوا من النفس وناجوها ودعوا مناجاة الظواهر. وقال بعضهم: نتائج السماع استنهاض العاجز من الرأي واستجلاب العازب من الأفكار وحدة الكال من الأفهام والآراء حتى يثوب ما عزب وينهض ما عجز ويصفو ما كدر ويمرح فيؤ كل رأي ونية، فيصيب ولا يخطئ ويأتي ولا يبطئ. وقال آخر: كما إن الفكر يطرق العلم إلى المعلوم فالسماع يطرق القلب إلى العالم الروحاني. وقال بعضهم وقد سئل عن سبب حركة الأطراف بالطبع على وزن الألحان والإيقاعات فقال: ذلك عشق عقلي والعقلي لا يحتاج إلى أن يناغي معشوقه بالمنطق الجرمي بل يناغيه ويناجيه بالتبسم واللحظ والحركة اللطيفة بالحاجب والجفن والإشارة، وهذه نواطق أجمع إلا أنها روحانية، وأما العاشق البهيمي فإنه يستعمل المنطق الجرمي ليعبر به عن ثمرة ظاهر شوقه الضعيف وعشقه الزائف. وقال آخر: من حزن فليسمع الألحان. فإن النفس إذا دخلها الحزن خمد نورها وإذا فرحت اشتعل نورها وظهر فرحها فيظهر الحنين بقدر قبول القابل وذلك بقدر صفائه ونقائه من الغش والدنس.
    والأقاويل المقررة في السماع والوجد كثيرة ولا معنى للاستكثار من إيرادها، فلنشتغل بتفهيم المعنى الذي الوجد عبارة عنه فنقول: إنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وهو وارد حق جديد عقيب السماع يجده المستمع من نفسه، وتلك الحالة لا تخلو عن قسمين: فإنها إما أن ترجع إلى مكاشفات ومشاهدات هي من قبيل العلوم والتنبيهات، وإما أن ترجع إلى تغيرات وأحوال ليست من العلوم بل هي كالشوق والخوف والحزن والقلق والسرور والأسف والندم والبسط والقبض، وهذه الأحوال يهيجها السماع ويقويها؛ فإن ضعف بحيث لم يؤثر في تحريك الظاهر أو تسكينه أو تغيير حاله حتى يتحرك على خلاف عادته أو يطرق أو يسكن عن النظر والنطق والحركة على خلاف عادته لم يسم وجداً، وإن ظهر على الظاهر سمي وجداً إما ضعيفاً وإما قوياً، بحسب ظهوره وتغييره للظاهر وتحريكه بحسب قوة وروده، وحفظ الظاهر عن التغيير بحسب قوة الواجد وقدرته على ضبط جوارحه؛ فقد يقوى الوجد في الباطن ولا يتغير الظاهر لقوة صاحبه؛ وقد لا يظهر لضعف الوارد وقصوره عن التحريك وحل عقد التماسك. وإلى معنى الأول أشار أبو سعيد بن الأعرابي حيث قال في الوجد: إنه مشاهدة الرقيب وحضور الفهم وملاحظة الغيب، ولا يبعد أن يكون السماع سبباً لكشف ما لم يكن مكشوفاً قبله، فإن الكشف يحصل بأسباب: منها التنبيه والسماع منبه، ومنها تغير الأحوال ومشاهدتها وإدراكها فإن إدراكها نوع علم يفيد إيضاح أمور لمن تكن معلومة قبل الورود، ومنها صفاء القلب والسماع يؤثر في تصفية القلب والصفاء يسبب الكشف، ومنها انبعاث نشاط القلب بقوة السماع فيقوى به على مشاهدة ما كان تقصر عنه قبل ذلك قوته، كما يقوى البعير على حمل ما كان لا يقوى عليه قبله. وعمل القلب الاستكشاف وملاحظة أسرار الملكوت، كما أن عمل البعير حمل الأثقال فبواسطة هذه الأسباب يكون سبباً للكشف، بل القلب إذا صفا ربما يمثل له الحق في صورة مشاهة أو في لفظ منظوم يقرع سمعه يعبر عنه بصوت الهاتف إذا كان في اليقظة، وبالرؤيا إذا كان في المنام، وذلك جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة. وعلم تحقيق ذلك خارج عن علم المعاملة وذلك كما روى عن محمد بن مسروق البغدادي أنه قال: خرجت ليلة في أيام جهالتي وأنا نشوان وكنت أغني هذا البيت: بطور سيناء كرم ما مررت به إلا تعجبت ممن يشرب الماء
    فسمعت قائلاً يقول: وفي جهنم ماء ما تـجـرعـه خلق فأبقى له في الجوف أمعاء
    قال: فكان ذلك سبب توبتي واشتغالي بالعم والعبادة. فانظر كيف أثر الغناء في تصفية قلبه حتى تمثل له حقيقة الحق في صفة جهنم في لفظ مفهوم موزون وقرع ذلك سمعه الظاهر? وروى عن مسلم العباداني أنه قال? قدم علينا صالح المري وعتبة الغلام وعبد الواحد بن زيد ومسلم الأسواري فنزلوا على الساحل، قال: فهيأت لهم ذات ليلة طعاماً فدعوتهم إليه فجاؤا فلما وضعت الطعام بين أيديهم إذا بقائل يقول رافعاً صوته هذا البيت: وتلهيك عن دار الخلود مطاعم ولذة نفس غيها غير نـافـع
    قال: فصاح عتبة الغلام صيحة وخر مغشياً عليه وبكى القوم، وما ذاقوا والله منه لقمة.
    وكما يسمع صوت الهاتف عند صفاء القلب فيشاهد أيضاً بالبصر صورة الخضر عليه السلام فإنه يتمثل لأرباب القلوب بصور مختلفة. وفي مثل هذه الحالة تتمثل الملائكة للأنبياء عليهم السلام إما على حقيقة صورتها وإما على مثال يحاكي صورتها بعض المحاكاة. وقد رأى رسول الله ﷺ جبريل عليه السلام مرتين في صورته وأخبر عنه بأنه سد الأفق وهو المراد بقوله تعالى: "علمه شديد القوة ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى" إلى آخر هذه الآيات. وفي مثل هذه الأحوال من الصفاء يقع الإطلاع على ضمائر القلوب، وقد يعبر عن ذلك الإطلاع بالتفرس. ولذلك قال ﷺ: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله" وقد حكى أن رجلاً من المجوس كان يدور على المسلمين ويقول ما معنى قول النبي ﷺ " اتقوا فراسة المؤمن" فكان يذكر له تفسيره فلا يقنعه ذلك حتى انتهى إلى بعض المشايخ من الصوفية. فسأله، فقال له معناه: أن تقطع الزنار الذي على وسطك تحت ثوبك. فقتال: صدقت هذا معناه وأسلم، وقال: الآن عرفت أنك مؤمن وأن إيمانك حق. وكما حكى عن إبراهيم الخواص قال: كنت بغداد في جماعة من الفقراء في الجامع فأقبل شاب طيب الرائحة حسن الوجه فقلت لأصحابي: يقع لي أنه يهودي، فكلهم كرهوا ذلك، فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال؛ أي شيء قال الشيخ في? فاحتشموه فألح عليهم فقالوا له: قال إنك يهودي، قال: فجاءني وأكب على يدي وقبل رأسي وأسلم، وقال: نجد في كتبنا أن الصديق لا تخطئ فراسته فقلت: امتحن المسلمين فتأملتهم فقلت: إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة؛ لأنهم يقولون حديثه سبحانه ويقرءون كلامه؛ فلبست عليكم فلما اطلع على الشيخ وتفرس في علمت أنه صديق قال، وصار الشاب من كبار الصوفية.
    وإلى مثل هذا الكشف الإشارة بقوله عليه السلام: "لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء" وإنما تحوم الشياطين على القلوب إذا كانت مشحونة بالصفات المذمومة فإنها مرعى الشيطان وجنده. ومن خلص قليه من تلك الصفات وصفاء لم يطف الشيطان حول قلبه. وإليه الإشارة بقوله تعالى: "إلا عبادك منهم المخلصين" وبقول تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" والسماع سبب لصفاء القلب وهو شبكة للحق بواسطة الصفاء.
    وعلى هذا يدل ما روى أن ذا النون المصري رحمه الله دخل بغداد فاجتمع إليه قوم من الصوفية ومعهم قوال؛ فاستأذنوه في أن يقول لهم شيئاً. فأذن لهم في ذلك فأنشأ يقول: صغير هواك عذبنيفكيف به إذا احتنكاًوأنت جمعت في قلبي
    هوى قد كان مشتركاًأما ترثى لمكتتبإذا ضحك الخلي بكـى
    فقام ذو النون وسقط على وجهه، ثم قام رجل آخر فقال ذو النون: الذي يراك حين تقوم. فجلس ذلك الرجل وكان ذلك إطلاعاً من ذي النون على قلبه. أنه متكلف متواجد، فعرفه أن الذي يراه حين يقوم هو الخصم في قيامه لغير الله تعالى ولو كان الرجل صادقاً لما جلس. فإذاً قد رجع حاصل الوجد إلى مكاشفات وإلى حالات واعلم أن كل واحد منهما ينقسم إلى ما يمكن التعبير عنه عند الإقامة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلاً، ولعلك تستبعد حالة أو علماً لا تعلم حقيقته ولا يمكن التعبير عنه عن حقيقته، فلا تستبعد ذلك فإنك تجد في أحوالك القريبة لذلك شواهد.
    أما العلم فكم من فقيه تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك الفقيه بذوقه أن بينهما فرقاً في الحكم? وإذا كلف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير وإن كان من افصح الناس، فبدرك بذوقه الفرق ولا يمكنه التعبير عنه، وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق و لا يشك في أن لوقوعه في قلبه سبباً وله عند الله تعالى حقيقة؛ ولا يمكنه الإخبار عنه لا لقصور في لسانه بل لدقة المعنى في نفسه عن أن تناله العبارة. وهذا مما قد تفطن له المواظبون على النظر في المشكلات.
    وأما الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت الذي يصبح فيه قبضاً أو بسطاً ولا يعلم سببه، وقد يتفكر إنسان في شيء فيؤثر في نفسه أثراً فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحس به، وقد تكون الحالة التي يحسها سرورات ثبت في نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور، أو حزناً فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه. وقد تكون تلك الحالة حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود، بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختص به بعض الناس دون بعض، وهي حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها - أعني التفرقة بين الموزون والمنزحف - فلا يمكنه التعبير عنها بما يتضح مقصوده لمن لا ذوق له. وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل المعاني المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم، وأما الأوتار وسائر النغمات التي ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيراً عجيباً، والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار أو الشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق? ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمراً ليس يدري ما هو? حتى يقع ذلك للعوام ومن لا يغلب على قلبه لا حب آدمي ولا حب الله تعالى. وهذا له سر وهو أن كل شوق فله ركنان: أحدهما: صفة المشتاق وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه.
    والثاني: معرفة المشتاق إليه، فإن وجدت الصفة التي بها الشوق ووجد العلم بصورة المشتاق إليه كان الأمر ظاهراً، وإن لم يوجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها أو رث ذلك دهشة وحيرة لا محالة.
    ولو نشأ آدمى وحده بحيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحس من نفسه بنار الشهوة ولكن لا يدري أنه يشتاق إلى الوقاع لأنه ليس يدري صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء: فكذلك في نفسه الآدمي مناسبة مع العالم الأعلى واللذات التي وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا؛ إلا أنه لم يتخيل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء، كالذي سمع لفظ الوقاع واسم النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة، فالسماع يحرك منه الشوق والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقره الذي إليه حنينه واشتياقه بالطبع، فيتقاضاه قلبه أمراً ليس يدري ما هو? فيدهش ويتحير ويضطرب ويكون كالمختنق الذي لا يعرف طريق الخلاص فهذا، وأمثاله من الأحوال التي لا يدرك تمام حقائقها ولا يمكن المتصف بها أن يعبر عنها. فقد ظهر انقسام الوجد إلى ما يمكن إظهاره وإلى ما لا يمكن إظهاره.
    واعلم أيضاً أن الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلف ويسمى التواجد، وهذا التواجد المتكلف فمنه مذموم وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها، ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى استدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة، فإن للكسب مدخلاً في جلب الأحوال الشريفة ولذلك أمر رسول الله ﷺ من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها ثم تتحقق آواخرها. وكيف لا يكون التكلف سبباً في أن يصير المتكلف في الآخرة طبعاً، وكل من يتعلم القرآن أو لا يحفظه تكلفاً، ويقرؤه تكلفاً مع تمام التأمل وإحضار الذهن؛ ثم يصير ذلك ديدناً للسان مطرداً حتى يجري به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل؛ فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه إلى آخرها ويعلم أنه قرأها في حال غفلته?. وكذلك الكاتب يكتب في الابتداء بجهد شديد ثم تتمرن على الكتابة يده فيصير الكتب له طبعاً فيكتب أوراقاً كثيرة وهو مستغرق القلب بفكر آخر? فجميع ما تحتمله النفس والجوارح من الصفات لا سبيل إلى اكتسابه إلا بالتكلف والتصنع أولاً ثم يصير بالعادة طبعاً، وهو المراد بقول بعضهم: العادة طبيعة خامسة. فكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغي أن يقع اليأس منها عند فقدها، بل ينبغي أن يتكلف اجتلابها بالسماع وغيره، فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصاً ولم يكن يعشقه فلم يزل يردد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرر على نفسه الأوصاف المحبوبة والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ورسخ ذلك في قلبه رسوخاً خرج عن حد اختياره، فاشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلص. فكذلك حب الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة؛ إذا فقدها الإنسان فينبغي أن يتكلف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها ومشاهدة أحوالهم وتحسين صفاتهم في النفس وبالجلوس معهم في السماع وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحلة بأن ييسر له أسبابها.
    ومن أسبابها السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحسنين والمشتاقين والخاشعين. فمن جالس شخصاً سرت إليه صفاته من حيث لا يدري. ويدل على إمكان تحصيل الحب وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله ﷺ في دعائه: "اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب من يقربني إلى حبك" فقد فزع عليه السلام إلى الدعاء في طلب الحب. فهذا بيان انقسام الوجد إلى مكاشفات وإلى أحوال وانقسامه إلى ما يمكن الإفصاح عنه وإلى ما لا يمكن، وانقسامه إلى المتكلف وإلى المطبوع.
    فإن قلت: فما بال هؤلاء لا يظهر وجدهم عند سماع القرآن وهو كلام الله ويظهر عند الغناء وهو كلام الشعراء? فلو كان ذلك حقاً من لطف الله تعالى ولم يكن باطلاً من غرور الشيطان لكان القرآن أولى به من الغناء? فنقول: الوجد الحق هو ما ينشأ من فرط حب الله تعالى وصدق إرادته والشوق إلى لقائه، وذلك يهيج بسماع القرآن أيضاً. وإنما الذي لا يهيج بسماع القرآن حب الخلق وعشق المخلوق. ويدل على ذلك قوله تعالى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب" وقوله تعالى: "مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله" وكل ما يوجد عقيب السماع في النفس فهو وجد. فالطمأنينة والاقشعرار والخشية ولين القلب كل ذلك وجد. وقد قال الله تعالى: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم" وقال تعالى: "لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله" فالوجل والخشوع وجد من قبيل الأحوال وإن لم يكن من قبيل المكاشفات. ولكن قد يصير سبباً للكاشفات والتنبيهات ولهذا قال ﷺ "زينوا القرآن بأصواتكم" وقال لأبي موسى الأشعري "لقد أوتى مزماراً من مزامير آل داود عليه السلام".
    وأما الحكايات الدالة على أن أرباب القلوب ظهر عليهم الوجد عند سماع القرآن فكثيرة فقوله ﷺ "شيبتني هود وأخواتها" خبر عن الوجد، فإن الشيب يحصل من الحزن والخوف وذلك وجد. وروي أن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ على رسول الله ﷺ سورة النساء، فلما انتهى إلى قوله تعالى "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيداً" قال "حسبك" وكانت عيناه تذرفان بالدموع. وفي رواية أنه عليه السلام قرأ هذا الآية أو قرئ عنده "إن لدينا أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً أليماً" فصعق وفي رواية أنه ﷺ قرأ "إن تعذبهم فإنهم عبادك" فبكى وكان عليه السلام إذا مر بآية رحمة دعا واستبشر والاستبشار وجد. وقد أثنى الله تعالى على أهل الوجد بالقرآن فقال تعالى: "إذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق" وروي أن رسول الله ﷺ كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل.
    وأما ما نقل من الوجد بالقرآن عن الصحابة رضي الله عنه والتابعين فكثير: فمنهم من صعق ومنهم من بكى ومنهم من غشي عليه ومنهم من مات في غشيته. وروى أن زرارة بن أوفى - وكان من التابعين - كان يؤم الناس بالرقة فقرأ "فإذا نقر في الناقور" فصعق ومات في محرابه رحمه الله. وسمع عمر رضي الله عنه رجلاً يقرأ "إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع" فصاح صيحة وخر مغشياً عليه فحمل إلى بيته، فلم يزل مريضاً في بيته شهراً. وأبو جرير - من التابعين - قرأ عليه صالح المري فشهق ومات. وسمع الشافعي رحمه الله قارئاً يقرأ "هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون" فغشي عليه. وسمع علي بن الفضيل قارئاً يقرأ "يوم يقوم الناس لرب العالمين" فسقط مغشياً عليه، فقال الفضيل: شكر الله لك ما قد علمه منك. وكذلك نقل عن جماعة منهم.
    وكذلك الصوفية: فقد كان الشبلي في مسجده ليلة من رمضان وهو يصلي خلف إمام له فقرأ الإمام "ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك" فزعق الشبلي زعقة ظن الناس أنه قد طارت روحه وأحمر وجهه وارتعدت فرائصه، وكان يقول: بمثل هذا يخاطب الأحباء، يردد ذلك مراراً. وقال الجنيد: دخلت على سرى السقطي فرأيت بين يديه رجلاً قد غشي عليه فقال لي: هذا رجل قد سمع آية من القرآن فغشي عليه، فقلت: اقرءوا عليه تلك الآية بعينها فقرئت فأفاق، فقال: منن أين قلت هذا? فقلت: رأيت يعقوب عليه السلام كان عماه من أجل مخلوق فبمخلوق أبصر، ولو كان عماه من أجل الحق ما أبصر بمخلوق، فاستحسن ذلك. ويشير إلى ما قاله الجنيد قول الشاعر: وكأس شربت على لـذة وأخرى تداويت منها بها
    وقال بعض الصوفية: كنت أقرأ ليلة هذه الآية: "كل نفس ذائقة الموت" فجعلت أرددها فإذا هاتف يهتف بي: كم تردد هذه الآية? فقد قتلت أربعة من الجن ما رفعوا رؤوسهم إلى السماء منذ خلقوا. وقال أبو علي المغازلي للشبلي: ربما تطرق سمعي آية من كتاب الله تعالى فتجذبني إلى الإعراض عن الدنيا ثم أرجع إلى أحوالي وإلى الناس فلا أبقى على ذلك، فقال: ما طرق سمعك من القرآن فاجتذبك به إليه فذلك عطف منه عليك ولطف منه بك، وإذا ردك إلى نفسك فهو شفقة منه عليك فإنه لا يصلح لك إلا التبري من الحول والقوة في التوجه إليه، وسمع رجل من أهل التصوف قارئاً يقرأ "يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية" فاستعادها من القارئ وقال: كم أقول هلا ارجعي وليست ترجع? وتواجد وزعق زعقة فخرجت روحه. وسمع بكر بن معاذ قارئاً يقرأ "وأنذرهم يوم الآزفة" الآية فاضطرب ثم صاح: ارحم من أنذرته ولم يقبل إليك بعد الإنذار بطاعتك، ثم غشى عليه. وكان إبراهيم ابن أدهم رحمه الله إذا سمع أحداً يقرأ "إذا السماء انشقت" اضطربت أوصاله حتى كان يرتعد. وعن محمد بن صبيح قال: كان رجل يغتسل في الفرات فمر به رجل على الشاطئ يقرأ "وامتازوا اليوم أيها المجرمون" فلم يزل الرجل يضطرب حتى غرق ومات. وذكر أن سلمان الفارسي أبصر شاباً يقرأ فأتى على آية فاقشعر جلده فأحبه سلمان وفقده، فسأل عنه فقيل له: إنه مريض، فأتاه يعوده فإذا هو في الموت، فقال: يا عبد الله! أرأيت تلك القشعريرة التي كانت بي? فإنها أتتني في أحسن صورة فأخبرتني أن الله قد غفر لي بها كل ذنب.
    وبالجملة لا يخلو صاحب القلب عن وجد عند سماع القرآن فإن كان القرآن لا يؤثر في أصلاً ف-مثله كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون" بل صاحب القلب تؤثر فيه الكلمة من الحكمة يسمعها. قال جعفر الخلدي: دخل رجل من أهل خراسان على الجنيد وعنده جماعة فقال للجنيد: متى يستوي عند العبد حامده وذامه? فقال بعض الشيوخ: إذا دخل البيمارستان وقيد بقيدين، فقال الجنيد: ليس هذا من شأنك? ثم أقبل على الرجل وقال: إذا تحقق أنه مخلوق فشهق الرجل شهقة ومات.
    فإن قلت: فإن كان سماع القرآن مفيداً للوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين? فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين? وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارئ لا قوال? فإن كلام الله تعالى أفضل م الغناء لا محالة فاعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه: الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له، فمن استولى عليه حزن أو شوق أو ندم فيمن أين يناسب حاله قوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين" وقوله تعالى "والذين يرمون المحصنات"? وكذلك جميع الآيات التي فيها بيان أحكام الميراث والطلاق والحدود وغيرها? وإنما المحرك لما في القلب ما يناسبه. والأبيات إنما يضعها الشعراء إعراباً بها عن أحوال القلب فلا يحتاج في فهم الحال منها إلى تكلف. نعم من يستولي عليه حالة غالبة قاهرة لم تبق فيه متسعاً لغيرها ومعه تيقظ وذكاء ثاقب يتفطن به للمعاني البعيدة من الألفاظ، فقد يخرج وجده على كل مسموع كمن يخطر له عند ذكر قوله تعالى "يوصيكم اله في أولادكم" حالة الموت المحوج إلى الوصية وأن كل إنسان لا بد أن يخلف ماله وولده وهما محبوباه من الدنيا، فيترك أحد المحبوبين للثاني ويهجرهما جميعاً فيغلب عليه الخوف والجزع أو يسمع ذكر الله في قوله "يوصيكم الله في أولادكم" فيدهش بمجرد الاسم عما قبله وبعده، أو يخطر له رحمة الله على عباده وشفقته بأن تولى قسم مواريثهم بنفسه نظراً لهم في حياتهم وموتهم فيقول: إذا نظر لأولادنا بعد موتنا فلا نشك بأنه ينظر لنا فيهيج منه حال الرجاء ويورثه ذلك ابشاراً وسروراً، أو يخطر له من قوله تعالى "للذكر مثل حظ الأنثيين" تفضيل الذكر بكونه رجلاً على الأنثى وأن الفضل في الآخرة لرجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله. وأن من ألهاه غير الله تعالى عن الله تعالى فهو من الإناث لا من الرجال تحقيقاً، فيخشى أن يحجب أو يؤخر في نعيم الآخرة كما أخرت الأنثى في أموال الدنيا. فأمثال هذا قد يحرك الوجد ولكن لمن فيه وصفان أحدهما حالة غالبة مستغرقة قاهرة والآخرة تفطن بليغ وتيقظ بالغ كامل للتنبيه بالأمور القريبة على المعاني البعيدة وذلك مما يعز، فلأجل ذلك يفزع إلى الغناء الذي هو ألفاظ مناسبة للأحوال حتى يتسارع هيجانها. وروي أن أبا الحسين النوري كان مع جماعة في دعوى فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين ساكت ثم رفع رأسه وأنشدهم: رب ورقاء هتوف في الضحى ذات شجو صدحت في فنـن
    ذكرت إلفا ودهراً صـالـحـاً وبكت حزناً فهاجت حزنـي
    فسكـاتـي ربـمـا أرقـهـا وبكاهـا ربـمـا أرقـنـي
    ولقد أشكو فما أفـهـمـهـا ولقد تشكو فما تفـهـمـنـي
    غير أني بالجوى أعـرفـهـا وهي أيضاً بالجوى تعرفنـي
    قال فما بقي أحد من القوم إلا قام وتواجد، ولم يحصل لهم هذا الوجد من العلم الذي خاضوا فيه وإن كان العلم جداً وحقاً.
    الوجه الثاني: أن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب، وكلما سمع أولاً عظم أثره في القلوب، وفي الكرة الثانية يضعف أثره، وفي الثالثة يكاد يسقط أثره. ولو كلف صاحب الوجد الغالب أن يحضر وجده على بيت واحد على الدوام في مرات متقاربة في الزمان، في يوم أو أسبوع لم يمكنه ذلك. ولو أبدل بيت آخر لتجدد له أثر في قلبه وإن كان معرباً عن عين ذلك المعنى. ولكن كون النظم واللفظ غريباً بالإضافة إلى الأولى يحرك النفس وإن كان المعنى واحداً. وليس يقدر القارئ على أن يقرأ قرآناً غريباً في كل وقت ودعوة فإن القرآن محصور لا يمكن الزيادة عليه وكله محفوظ متكرر وإلى ما ذكرناه أشار الصديق رضي الله عنه حيث رأى الأعراب يقدمون فيسمعون القرآن ويبكون فقال: كنا كما كنتم ولكن قست قلوبنا. ولا تظنن أن قلب الصديق رضي الله عنه كان أقسى من قلوب الأجلاف من العرب وأنهن كان أخلى عن حب الله تعالى وحب كلامه من قلوبهم، ولكن التكرار على قلبه اقتضى المرون عليه وقلة التأثر به لما حصل له من الأنس بكثرة استماعه، إذ محال في العادات أن يسمع السامع آية لم يسمعها قبل فيبكي، ثم يدوم على بكائه عليها عشرين سنة، ثم يرددها ويبكي، ولا يفارق الأول الآخر إلا في كونه غريباً جديداً? ولكل جديد لذة ولكل طارئ صدمة، ومع كل مألوف أنس يناقض الصدمة. ولذا هم عمر رضي الله عنه أن يمنع الناس من كثرة الطواف وقال: قد خشيت أن يتهاون الناس بهذا البيت أي يأنسوا به. ومن قدم حاجاً فرأى البيت أولاً بكى وزعق وربما غشي عليه إذ وقع عليه بصره، وقد يقيم بمكة شهراً ولا يحس من ذلك في نفسه بأثر، فإذاً المغنى يقدر على الأبيات الغريبة في كل وقت ولا يقدر في كل وقت على آية غريبة.
    الوجه الثالث: أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيراً في النفس فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون، وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات، ولو زحف المغني البيت الذي ينشده أو لحن فيه أو مال عن حد تلك الطريقة في اللحن لاضطراب قلب المستمع وبطل جده وسماعه ونفر طبعه لعدم المناسبة. وإذا نفر الطبع اضطرب القلب وتشوش، فالوزن إذن مؤثر فلذلك طاب الشعر.
    الوجه الرابع: أن الشعر الموزن يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والاستانات وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر المدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها. وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل، فقصره ومده والوقف والوصل والقطع فيه على خلاف ما تقضتيه التلاوة حرام أو مكروه. وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان وهو سبب مستقل بالتأثير وإن لم يكن مفهوماً، كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي لا تفهم.
    الوجه الخامس: أن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره، لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي، وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب ولكل واحد منها حظ في التأثير، وواجب أن يصان القرآن عن مثل هذه القرائن لأن صورتها عند عامة الخلق صورة اللهو واللعب، والقرآن جد كله عند كافة الخلق، فلا يجوز أن يمزج بالحق المحض ما هو لهو عند العامة وصورته صورة اللهو عند الخاصة، وإن كانوا لا ينظرون إليها من حيث إنها لهو، بل ينبغي أن يوقر القرآن فلا يقرأ على شوارع الطرق بل في مجلس ساكن، ولا في حال الجنابة. ولا على غير طهارة ولا يقدر على الوفاء بحق حرمة القرآن في كل حال إلا المراقبون لأحوالهم، فيعدل إلى الغناء الذي لا يستحق هذه المراقبة والمراعاة، ولذلك لا يجوز الضرب بالدف مع قراءة القرآن ليلة العرس. وقد أمر رسول الله ﷺ بضرب الدف في العرس فقال: "أظهروا النكاح ولو بضرب الغربال" أو بلفظ هذا معناه، وذلك جائز مع الشعر دون القرآن. ولذلك لما دخل رسول الله ﷺ بيت الربيع بنت معوذ وعندها جوار فسمع إحداهن تقول: وفينا نبي يعلم ما في غد. على وجه الغناء، فقال ﷺ "دعي هذا وقولي ما كنت تقولين" وهذه شهادة بالنبوة فزجرها عنها وردها إلى الغناء الذي هو لهو، لأن هذا جد محض فلا يقرن بصورة اللهو. فإذاً يتعذر بسببه تقوية الأسباب التي بها يصير السماع محركاً للقلب فواجب في الاحترام العدول إلى الغناء عن القرآن كما وجب على تلك الجارية العدول عن شهادة النبوة إلى الغناء.
    الوجه السادس: أن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره فليس كل كلام موافقاً لكل حال. فلو اجتمعوا في الدعوات على القارئ فربما يقرأ آية لا توافق حالهم إذ القرآن شفاء للناس كلهم على اختلاف الأحوال، فآيات الرحمة شفاء الخائف، وآيات العذاب شفاء المغرور الآمن. وتفضيل ذلك مما يطول. فإذاً لا يؤمن أن لا يوافق المقروء الحال وتكرهه النفس فيتعرض به لخط كراهة كلام الله تعالى من حيث لا يجد سبيلاً إلى دفعه. فالاحتراز عن خطر ذلك حزم بالغ وحتم واجب إذ لا يجد الخلاص عنه إلا بتنزيله على وفق حاله ولا يجوز تنزيل كلام الله تعالى إلا على ما أراد الله تعالى. وأما قول الشاعر فيجوز تنزيله على غير مراده ففيه خطر الكراهة أو خطر التأويل الخطأ لموافقة الحال فيجب توقير كلام الله وصيانته عن ذلك، وهذا ما ينقدح في علل انصراف الشيوخ إلى سماع الغناء عن سماع القرآن.
    وههنا وجه سابع ذكره أبو نصر السراج في الاعتذار عن ذلك فقال: القرآن كلام الله وصفة من صفاته وهو حق لا تطيقه البشرية، لأنه غير مخلوق فلا تطيقه الصفات المخلوقة. ولو كشف للقلوب ذرة من معناه وهيبته لتصدعت ودهشت وتحيرت. والألحان الطيبة مناسبة للطباع ونسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، والشعر نسبته نسبة الحظوظ. فإذا علقت الألحان والأصوات بما في الأبيات من الإشارات واللطائف شاكل بعضها بعضاً كان أقرب إلى الحظوظ وأخف على القلوب لمشاكلة المخلوق المخلوق المخلوق. فما دامت البشرية باقية ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة، فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود. وهذا حاصل المقصود من كلامه واعتذاره. وقد حكى عن أبي الحسن الدراج أنه قال قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه فما دخلت الرى كنت أسأل عنه فكل من سألته عنه قال: أيش تعمل بذلك الزنديق? فضيقوا صدري حتى دخلت عله في مسجد وهو قاعد في المحراب وبين يديه رجل وبيده مصحف وهو يقرأ، فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فسلمت عليه فأقبل على وقال: من أين أقبلت فقلت: من بغداد، فقال: وما الذي جاء بك? فقلت: قصدتك للسلام عليك، فقال: لو أن في بعض هذه البلدان قال لك إنسان أقم عندنا حتى نشتري لك داراً أو جارية أكان يقعدك ذلك عن المجيء? فقلت: ما امتحنني الله بشيء من ذلك ولو امتحنني ما كنت أدري كيف أكون? ثم قال لي: أتحسن أن تقول شيئاً? فقلت: نعم، فقال: هات! فأنشأت أقول:
    رأيتك تبني دائماً في قطيعـتـي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني
    كأني بكم والليت أفضل قولـكـم ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغـنـي
    قال: فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته وابتل ثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال: يا بني تلوم أهل الري يقولون يوسف زنديق، هذا أنا من صلاة الغداة أقرأ في المصحف لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين. فإذاً القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن، وذلك لوزن الشعر ومشاكلته للطباع، ولكونه مشاكلاً للطبع اقتدر البشر على نظم الشعر، وأما القرآن فنظمه خارج عن أساليب الكلام ومنهاجه وهو لذلك معجز لا يدخل في قوة البشر لعدم مشاكلته لطبعه. وروي أن إسرافيل - أستاذ ذي النون المصري - دخل عليه رجل فرآه وهو ينكت في الأرض بإصبعه ويترنم ببيت فقال: هل تحسن أن تترنم بشيء? فقال: لا، قال: فأنت بلا قلب - إشارة إلى أن من له قلب وعرف طباعه علم أنه تحركه الأبيات والنغمات تحريكاً لا يصادف في غيرها فيتكلف طريق التحريك إما بصوت نفسه أو بغيره - وقد ذكرنا حكم المقام الأول في فهم المسموع وتنزيله، وحكم المقام الثاني في الوجد الذي يصادف في القلب، فلنذكر الآن أثر الوجد أعني ما يترشح منه إلى الظاهر من صعقة وبكاء وحركة وتمزيق ثوب وغيه فنقول:
    المقام الثالث من السماع
    نذكر فيه آداب السماع ظاهراً وباطناً
    وما يحمد من آثار الوجد وما يذم
    فأما الآداب فهي خمس جمل: الأول: مراعاة الزمان والمكان والإخوان. قال الجنيد: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان. ومعناه أن الاشتغال به في وقت حضور طعام أو خصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه فهذا معنى مراعاة الزمان فيراعي حالة فراغ القلب له. وأما المكان: فقد يكون شارعاً مطروقاً أو موضعاً كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيجتنب ذلك. وأما الإخوان: فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستثقلاً في المجلس واشتغل القلب به. وكذلك إذا حضر متكبر من أهل الدنيا يحتاج إلى مراقبته وإلى مراعاته، أو متكلف متواجد من أهل التصوف يرائي بالوجد والرقص وتمزيق الثياب، فكل ذلك مشوشات. فترك السماع عند فقد هذه الشروط أولى ففي هذه الشروط نظر للمستمع.
    الأدب الثاني: هو نظر الحاضرين أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع فلا ينبغي أن يسمع في حضورهم فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر، والمريد الذي يستضر بالسماع أحد ثلاثة: أقلهم درجة. وهو الذي لم يدرك من الطريق إلا الأعمال الظاهرة ولم يكن له ذوق السماع؛ فاشتغاله بالسماع اشتغال بما لا يعنيه، فإنه ليس من أهل اللهو فيلهو ولا من أهل الذوق فيتنعم بذوق السماع، فليشتغل بذكر أو خدمة وإلا فهو تضييع لزمانه.
    الثاني: هو الذي له ذوق السماع ولكن فيه بقية من الحظوظ والاتفات إلى الشهوات والصفات البشرية ولم ينكسر بعد انكسار تؤمن غوائله، فربما يهيج السماع منه داعية اللهو والشهوة فيقطع عليه طريقه ويصده عن الاستكمال.
    الثالث : أن يكون قد انكسرت شهوته وأمنت غائلته وانفتحت بصيرته واستولى على قلبه حب الله تعالى ولكنه لم يحكم ظاهر العلم ولم يعرف أسماء الله تعالى وصفاته وما يجوز عليه وما يستحيل؛ فإذا فتح له باب السماع نزل المسموع في حق الله تعالى على ما يجوز وما لا يجوز فيكون ضرره من تلك الخواطر التي هي كفر أعظم من نفع السماع.
    قال سهل رحمه الله: كل وجد لا يشهد له الكتاب والسنة فهو باطل. فلتا يصلح السماع لمثل هذا ولا لمن قلبه بعد ملوث بحب الدنيا وحب المحمدة والثناء، ولا لمن يسمع لأجل التلذذ والاستطابة بالطبع فيصير ذلك عادة له ويشغله ذلك عن عبادته ومراعاة قلبه وينقطع عليه طريقه. فالسماع مزلة قدم يجب حفظ الضعفاء عنه. قال الجنيد: رأيت إبليس في النوم فقلت له هل تظفر من أصحابنا بشيء? قال: نعم في وقتين، وقت السماع ووقت النظر فإني أدخل عليهم به. فقال بعض الشيوخ: لو رأيته أنا لقلت له ما أحمقك من سمع منه إذا سمع ونظر إليه إذا نظر كيف تظفر به? فقال الجنيد: صدقت.
    الأدب الثالث: أن يكون مصغياً إلى ما يقول القائل، حاضر القلب، قليل الالتفات إلى الجوانب، متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد. مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره، متحفظاً عن حركة تشوش على أصحابه قلوبهم. بل يكون ساكن الظاهر، هادئ الأطراف متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب، ويجلس مطرقاً رأسه، كجلوس في فكر مستغرق لقلبه، متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة، ساكناً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بد فإن غلبه الوجد وحركه بغير اختيار فهو فيه معذور غير ملوم. ومهما رجع إليه الاختيار فليعد إلى هدوئه وسكونه. ولا ينبغي أن يستديمه حياء من أن يقال انقطع وجده على القرب ولا أن يتواجد خوفاً من أن يقال هو قاسي القلب عديم الصفاء والرقة.
    حكى أ، شاباً كان يصحب الجنيد فكان إذا سمع شيئاً من الذكر يزعق فقال له الجنيد يوماً؛ إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني فكان بعد ذلك يضبط نفسه حتى يقطر من كل شعرة منه قطرة ماء ولا يزعق، فحكى أنه اختنق يوماً لشدة ضبطه لنفسه فشهق شهقة فانشق قلبه وتلفت نفسه. وروي أن موسى عليه السلام قص في بني إسرائيل فمزق واحد منهم ثوبه أو قميصه فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام قل له: مزق لي قلبك ولا تمزق ثوبك. قال أبو القاسم النصراباذي لأبي عمرو بن عبيد أنا أقول: إذا اجتمع القوم فيكون معهم قوال يقول خيراً لهم من أن يغتابوا؛ فقال أبو عمرو: الرياء في السماع وهو أن ترى من نفسك حالاً ليست فيك شر من أن تغتاب ثلاثين سنة أو نحو ذلك.
    فإن قلت: الأفضل هو الذي لا يحركه السماع ولا يؤثر في ظاهره أو الذي يظهر عليه? فاعلم أن عدم الظهور تارة يكون لضعف الوارد من الوجد فهو نقصان، وتارة يكون مع قوة الوجد في الباطن لكن لا يظهر لكمال القوة على ضبط الجوارح فهو كمال، وتارة يكون لكون حال الوجد ملازماً ومصاحابً في الأحوال كلها فلا يتبين للسماع مزيد تأثير وهو غاية الكمال. فإن صاحب الوجد في غالب الأحوال لا يدوم وجده فمن هو في وجد دائم فهو المرابط للحق والملازم لعين الشهود؛ فهذا لا تغيره طوارق الأحوال ولا يبعد أن تكون الإشارة بقول الصديق رضي الله عنه: كنا كما كنتم ثم قست قلوبنا، معناه قويت قلوبنا واشتدت فصارت تطيق ملازمة الوجد في كل الأحوال فنحن في سماع معاني القرآن على الدوام فلا يكون القرآن جديداً في حقنا طارئاً علينا حتى تتأثر به. فإذاً قوة الوجد تحرك وقوة العقل والتماسك تضبط الظاهر، وقد يغلب أحدهما الآخر إما لشدة قوته وإما لضعف ما يقابله، ويكون النقصان والكمال بحسب ذلك فلا تظنن أن الذي يضطرب بنفسه على الأرض أتم وجداً من الساكن باضطرابه، بل رب ساكن أتم وجداً من المضطرب. فقد كان الجنيد يتحرك في السماع في بدايته ثم صار لا يتحرك فقيل له في ذلك فقال: "وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء" إشارة إلى أن القلب مضطرب جائل في الملكوت والجوارح متأدبة في الظاهر ساكنة. وقال أبو الحسن محمد بن أحمد وكان بالبصرة: صحبت سهل بن عبد الله ستين سنة فما رأيته تغير عند شيء كان يسمعه من الذكر أو القرآن، فلما كان في آخر عمره قرأ رجل بين يديه: "فاليوم لا يؤخذ منكم فدية" الآية فرأيته قد ارتعد وكاد يسقط، فلما عاج إلى حاله سألته عن ذلك فقال: نعم يا حبيبي قد ضعفنا. وكذلك سمع مرة قوله تعالى: "الملك يومئذ الحق للرحمن" فاضطرب فسأله ابن سالم وكان من أصحابه، فقال: قد ضعفت. فقيل له: فإن كان هذا من مضعف فما قوة الحال فقال. أن لا يرد عليه وارد إلا وهو يلتقيه بقوة حاله، فلا تغيره الواردات وإن كانت قوية. وسبب القدرة على ضبط الظاهر مع وجود الوجد استواء الأحوال بملازمة الشهود. كان حكي عن سهل رحمه الله تعالى أنه قال: حالتي قبل الصلاة وبعدها واحدة، لأنه كان مراعياً للقلب حاضر الذكر مع الله تعالى في كل حال. فكذلك يكون قبل السماع وبعده. إذ يكون وجده دائماً، وعطشه متصلاً، وشربه مستمراً، بحيث لا يؤثر السماع في زيادته. كما روى أن ممشاد الدينوري أشرف على جماعة فيهم قوال فسكنوا فقال: ارجعوا إلى ما كنتم فيه فلو جمعت ملاهي الدنيا في أذني ما شغل همي ولا شفي بعض ما بي. وقال الجنيد رحمه الله تعالى: لا يضر نقصان الوجد مع فضل العلم. وفضل العلم أتم من فضل الوجد.
    فإن قلت: فمثل هذا لم يحضر السماع? فاعلم أن من هؤلاء من ترك السماع في كبره وكان لا يحضر إلا نادراً لمساعدة أخ من الإخوان وإدخالاً للسرور على قلبه؛ وربما حضر ليعرف القوم كمال قوته فيعلمون أنه ليس الكمال بالوجد الظاهر؛ فيتعلمون منه ضبط الظاهر عن التكلف وإن لم يقدروا على الإقتداء به في صيرورته طبعاً لهم. وإن اتفق حضورهم مع غير أبناء جنسهم فيكونون معهم بأبدانهم نائين عنهم بقلوبهم وبواطنهم. كما يجلسون من غير سماع مع غير جنسهم بأسباب عارضة تقتضي الجلوس معهم. وبعضهم نقل عنه ترك السماع ويظن أنه كان سبب تركه استغناءه عن السماع بما ذكرناه. وبعضهم كان من الزهاد ولم يكن له حظ روحاني في السماع ولا كان من أهل اللهو، فتركه لئلا يكون مشغولاً بما لا يعنيه. وبعضهم تركه لفقد الإخوان. قيل لبعضهم لم لا تسمع? فقال: ممن ومع من?
    الأدب الرابع: أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح فيجوز تحريكه. ولو كان ذلك حراماً لما نظرت عائشة رضي الله عنها إلى الحبشة مع رسول الله ﷺ وهم يزفنون هذا لفظ عائشة رضي الله عنها في بعض الروايات. وقد روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم حجلوا لما ورد عليهم سرور أوجب ذلك؛ وذلك في قصة ابنة حمزة لما اختصم فيها على بن أبي طالب وأخوه جعفر وزيد بن حارثة رضي الله عنهم فتشاحوا في تربيتها فقال ﷺ لعلي "أنت مني وأنا منك" فحجل علي وقال لجعفر "أشبهت خلقي وخلقي" فحجل وراء حجل علي وقال لزيد "أنت أخوناً ومولانا" فحجل زيد وراء حجل جعفر، ثم قال عليه السلام "هي لجعفر لأن خالتها تحته والخالة والدة" وفي رواية أنه قال لعائشة رضي الله عنها "أتحبين أن تنظري إلى زفن الحبشة" والزفن والحجل هو الرقص. وذلك يكون لفرح أو شوق فحكمه حكم مهيجه، إن كان فرحه محموداً والرقص يزيده ويؤكده فهو محمود، وإن كان مباحاً فهو مباح، وإن كان مذموماً فهون مذموم. نعم لا يليق اعتياد ذلك بمناصب الأكابر وأهل القدوة لأنه في الأكثر يكون عن لهو ولعب، وما له صورة اللعب واللهو في أعين الناس فينبغي أن يجتنبه المقتدي به لئلا يصغر في أعين الناس فيترك الإقتداء به.
    وأما تمزيق الثياب فلا رخصة فيه إلا عند خروج الأمر عن الاختيار، و لا يبعد أن يغلب الوجد بحيث يمزق ثوبه وهو لا يدري لغلبة سكر الوجد عيه، أو يدري ولكن يكون كالمضطر الذي لا يقدر على ضبط نفسه، وتكون صورته صورة المكره إذ يكون له في الحركة أو التمزيق متنفس، فيضطر إليه اضطرار المريض إلى الأنين، ولو كلف الصبر عنه لم يقدر عليه مع أنه فعل اختياري، فليس كل فعل حصوله بالإرادة يقدر الإنسان على تركه، فالتنفس فعل يحصل بالإرادة، ولو كلف الإنسان أن يمسك النفس ساعة لاضطر من باطنه إلى أن يختار التنفس. فكذلك الزعقة وتمزيق الثياب قد يكون كذلك فهذا لا يوصف بالتحريم. فقد ذكر عند السري حديث الوجد الحاد الغالب فقال: نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يدري. فروجع فيه واستبعد أن ينتهي إلى هذا الحد فأصر عليه ولم يرجع. ومعناه: أنه في بعض الأحوال قد ينتهي إلى هذا الحد في بعض الأشخاص.
    فإن قلت: فما تقول في تمزيق الصوفية الثياب الجديدة بعد سكون الوجد والفراغ من السماع فإنهم يمزقونها قطعاً صغاراً ويفرقونها على القوم ويسمونها الخرقة? فاعلم أن ذلك مباح إذا قطع قطعاً مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات. فإن الكرباس يمزق حتى يخاط منه القميص، ولا يكون ذلك تضييعاً لأنه تمزيق لغرض. وكذلك ترقيع الثياب لا يمكن إلا بالقطع الصغار وذلك مقصود، والتفرقة على الجميع ليعم ذلك الخير مقصود مباح، ولكل مالك أن يقطع كرباسه مائة قطعة ويعطيها لمائة مسكين، ولكن ينبغي أن يتكون القطع بحيث يمكن أن ينتفع بها في الرقاع. وإنما منعنا في السماع التمزيق المفسد للثوب الذي يهلك بعضه بحيث لا يبقى منتفعاً به فهو تضييع محض لا يجوز بالاختيار.
    الأدب الخامس: موافقه القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقامت له الجماعة فلا بد من الموافقة، فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته. أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوبه بالتمزيق؛ فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة، إذا المخالفة موحشة ولكل قوم رسم، ولا بد من مخالفة الناس بأخلافهم كما ورد في الخبر، لا سيما إذا كانت أخلاقاً فيها حسن العشرة والمجاملة وتطييب القلب بالمساعدة. وقول القائل: إن ذلك بدعة لم يكن في الصحابة? فليس كل ما يحكم بإباحته منقولاً عن الصحابة رضي الله عنهم، وإنما المحذور ارتكاب بدعة تراغم سنة مأثورة، ولم ينقل النهي عن شيء من هذا.
    والقيام عند الدخول للداخل لم يكن من عادة العرب بل كان الصحابة رضي الله عنهم لا يقومون لرسول الله ﷺ في بعض الأحوال كما رواه أنس رضي الله عنه، ولكن إذا مل يثبت فيه نهي عام فلا نرى به بأساً في البلاد التي جرت العادة فيها بإكرام الداخل بالقيام، فإن المقصود منه الإحترام والإكرام وتطييب القلب به. وكذلك سائر أنواع المساعدات إذا قصد بها تطييب القلب واصطلح عليها جماعة فلا بأس بمساعدتهم عليها، بل الأحسن المساعدة إلا فيما ورد فهي نهي لا يقبل التأويل، ومن الأدب أن لا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح، والمتواجد هو الذي يلوح للجميع منه أثر التكلف. ومن يقوم عن صدق لا تستثقله الطباع فقلوب الحاضرين إذا كانوا من أرباب القلوب محك للصدق والتكليف.
    سئل بعضهم عن الوجد الصحيح فقال: صحته قبول قلوب الحاضرين له إذا كانوا أشكالاً غير أضداد.
    فإن قلت: فما بال الطباع تنفر عن الرقص ويسبق إلى الأوهام أنه باطل ولهو ومخالف للدين فلا يراه ذو جد في الدين إلا وينكره? فاعلم أن الجد لا يزيد على جد رسول الله ﷺ. وقد رأى الحبشة يرفنون المسجد وما أنكره لما كان في وقت لائق به وهو العيد، ومن شخص لائق به وهو العيد، ومن شخص لائق به وهم الحبشة. نعم نفرة الطباع عنه، لأنه يرى غالباً مقروناً باللهو واللعب، واللهو واللعب مباح ولكن للعوام من الزنوج والحبشة ومن أشبههم. وهو مكروه لذوي المناصب لأنته لا يليق بهم، وما كره لكونه غير لائق بمنصب ذي المنصب فلا يجوز أن يوصف بالتحريم، فمن سأل فقيراً شيئاً فأعطاه رغيفاً كان ذلك طاعة مستحسنة، ولو سأل ملكاً فأعطاه رغيفاً أو رغيفين لكان ذلك منكراً عند الناس كافة، ومكتوباً في تواريخ الأخبار مكن جملة مساوية ويعير به أعقابه وأشياعه، ومع هذا فلا يجوز أن يقال ما فعله حرام لأنه من حيث إنه أعطى خبزاً للفقير حسن، ومن حيث أنه بالإضافة إلى منصبه كالمنع بالإضافة إلى الفقير مستقبح، فكذلك الرقص وما يجري مجراه من المباحات، ومباحات العوام سئيات الأبرار، وحسنات الأبرار سيئات المقربين، ولكن هذا من حيث الالتفات إلى المناصب. وأما إذا نظر إليه في نفسه وجب الحكم بأنه هو في نفسه لا تحريم فيه والله أعلم، فقد خرج من جملة التفصيل السابق أن السماع قد يكون حراماً محضاً، وقد يكون مباحاً. وقد يكون مكروهاً، وقد يكون مستحباً.
    أما الحرام: فهو لأكثر الناس من الشبان ومن غلبت عليهم شهوة الدنيا فلا يحرك السماع منهم إلا ما هو الغالب على قلوبهم من الصفات المذمومة.
    وأما المكروه: فهو لمن لا ينزله على صورة المخلوقين ولكنه يتخذه عادة له في أكثر الأوقات على سبيل اللهو.
    وأما المباح: فهو لم لا حظ له منه إلا التلذذ بالصوت الحسن.
    وأما المستحب: فهو لمن غلب عليه حب الله تعالى ولم يحرك السماع منه إلا الصفات المحمودة والحمد الله وحده وصلى الله على محمد وآله.
    =========
    كتاب اداب السفر
    وهو الكتاب التاسع من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين
    بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي لا تستفتح الكتب إلا بحمده، ولا تستمنح النعم إلا بواسطة كرمه ورفده، والصلاة على سيد الأنبياء محمد رسوله وعبده. وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين من بعده.
    أما بعد: فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الأعظم في الدين، وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين، ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد، وهلك العباد، ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون، فإنا لله وإنا إليه راجعون، إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه، وانمحق بالكليلة حقيقته ورسمه، فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في إتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم، وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم، فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلاً بعملها أو متقلداً لتنفيذها مجدداً لهذه السنة الدائرة ناهضاً بأعبائها ومتشمراً في إحيائها كان مستأثراً من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها، ومستبداً بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها، وها نحن نشرح علمه في أربعة أبواب. الباب الأول: في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته، الباب الثاني: في أركانه وشروطه: الباب الثالث: في مجاريه وبيان المنكرات المألوفة في العادات. الباب الرابع: في أمر الأمر والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر.
    ====
    الباب الأول
    في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
    وفضيلته المذمة في إهماله وإضاعته
    ويدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه وإشارات العقول السليمة إليه: الآيات والأخبار والآثار
    أما الآيات: فقوله تعالى: "ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون" ففي الآية بيان الإيجاب فإن قوله تعالى "ولتكن" أمر وظاهر الأمر الإيجاب، وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر وقال: "وأولئك هم المفلحون" وفيها بيان أنهن فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به أمة سقط أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين، واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين، وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة وقال تعالى "ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين" فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى أضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال تعالى: "والمؤمنون المؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة" فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، الذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية، وقال تعالى: "لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون" وهذا غاية التشديد إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر، وقال عز وجل "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر" وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ بين أنهم كانوا به خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى: "فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون" فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء ويدل ذلك على الوجوب أيضاً، وقال تعالى: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" فقرن ذلك بالصلاة والزكاة في نعت الصالحين والمؤمنين وقال تعالى "وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان" وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه وتسهيل طرق الخير وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان وقال تعالى: "لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون" فبين أنهم أثموا بترك النهي وقال تعالى: "فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض" الآية فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلاً منهم كانوا ينهون عن الفساد وقال تعالى "يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين" وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين وقال تعالى: "لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً" وقال تعالى : "وإن طائفتنان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما" الآية والإصلاح نهي عن البغي وإعادة إلى الطاعة فإن لم يفعل فقد أمر الله تعالى بقتاله فقال "فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله" وذلك هو النهي عن المنكر.
    وأما الأخبار: فمنها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها: أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها "يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول ?"ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده" وروى عن أبي ثعلبة الخشني: أنه سأل رسول الله ﷺ عن تفسر قوله تعالى "لا يضركم من ضل إذا اهتديتم" فقال: يا أبا ثعلبة مر بالمعروف وأنه عن المنكر فإذا رأيت شحا مطاعاً وهو متبعاً وديناً مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام إن من ورائكم فتنا كقطع الليل المظلم للمتمسك فهيا بمثل الذي أنتم عليه أجر خمسين منكم" قيل: بل منهم يا رسول الله. قال: "لا بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعواناً ولا يجدون عليه أعواناً" وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن تفسير هذه الآية فقال: إن هذا ليس زمانها إنها اليوم مقبولة، ولكن قد أوشك أن يأتي زمانها تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا وتقولون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم، و قال رسول الله ﷺ "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم" معناه تسقط مهابتهم من أعين الأشرار فلا يخافونهم. وقال ﷺ "يا أيها الناس إن الله يقول لتأمرون بالمعروف ولتنهون عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم" وقال ﷺ "ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي، وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثة في بحر لجي" وقال عيه أفضل الصلاة والسلام "إن الله تعالى ليسأل العبد ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره? فإذا لقن الله العبد حجته قال رب وثقت بك وفرقت من الناس" وقال رسول الله ﷺ "إياكم والجلوس على الطرقات، قالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال: فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق? قال: غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وقال ﷺ "كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمراً بمعروف أو نهياً عن منكر أو ذكراً لله تعالى" وقال ﷺ "إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه" وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي ﷺ أنه قال: "كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبانكم وتركتم جهادكم? قالوا: وإن ذلك لكائن يا رسول الله قال: نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه يا سول الله? كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر? قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله? قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه? كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراً والمنكر معروفاً? قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله? قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون، قالوا: وما أشد منه? قال كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف? قالوا: وكائن ذلك يا رسول الله? قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون? يقول الله تعالى بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران" وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ "لا تقفن عند رجل يقتل مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه، ولا تقفن عند رجل يضرب مظلوماً فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه"، قال: وقال رسول الله ﷺ "لا ينبغي لامرئ شهد مقاماً فيه حق إلا تكلم به فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقاً هو له" وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز دخول دور الظلمة والفسقة ولا حضور المواضع التي يشاهد المنكر فيها ولا يقدر على تغييره، فإنه قال: "اللعنة تنزل على من حضر" ولا يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذاراً بأنه عاجز. ولهذا اختار جماعة من السلف العزلة لمشاهدتهم المنكرات في الأسواق والأعياد والمجامع وعجزهم عن التغيير، وهذا يقتضي لزوم الهجر للخلق. ولهذا يقال عمر ابن
    عبد العزيز رحمه الله: ما ساح السواح وخلوا دورهم وأولادهم إلا بمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر والخير قد اندرس، ورأوا أنه لا يقبل ممن تكلم، ورأوا الفتن ولم يأمنوا أن تعتريهم وأن ينزل العذاب بأولئك القوم فلا يسلمون منه؛ فرأوا أن مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاورة هؤلاء في نعيمهم ثم قرأ "ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين" قال: ففر قوم فلولا ما جعل الله جل ثناؤه في النبوة من السر لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء فيما بلغنا أن الملائكة عليهم السلام لتلقاهم وتصافحهم، والسحاب والسباع تمر بأحدهم فيناديها فتجيبه، ويسألها أين أمرت فتخبره? وليس بنبي. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ "من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها، ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها" ومعنى الحديث أن يحضر لحاجة أو يتفق جريان ذلك يديه، فأما الحضور قصداً فممنوع بدليل الحديث الأول. وقال ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله ﷺ "ما بعث الله عز وجل نبياً إلا وله حوارى فيمكث النبي بين أظهرهم ما شاء الله تعالى يعمل فيهم بكتاب الله وبأمره حتى إذا قبض الله نبيه مكث الحواريون يعملون بكتاب الله وبأمره وبسنة نبيهم فإذا انقرضوا كان من بعدهم قوم يركبون رؤوس المنابر يقولون ما يعرفون ويعملون ما ينكرون فإذا رأيتم ذلك فحق على كل مؤمن جهادهم بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك إسلاماً".
    وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كان أهل قربه يعملون بالمعاصي وكان فيهم أربعة نفر ينكرون ما يعملون، فقام أحدهم فقال: إنكم تعملون كذا وكذا فجعل ينهاهم ويخبرهم بقيح ما يصنعون فجعلوا يردون عليه ولا يرعون عن أعمالهم فسبهم فسبوه وقاتلهم فغلبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني وقاتلتهم فغلبوني ثم ذهب ثم قام الآخر فنهاهم فلم يطيعوه فسبهم فسبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني. ثم ذهب ثم قام الثالث فنهاهم فلم يطيعوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني. ثم ذهب ثم قام الرابع فقال اللهم إني لو نهيتهم لعصوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني ثم ذهب قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرابع أدناهم منزلة وقيل فيكم مثله، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قيل يا رسول الله أتهلك القرية وفيها الصالحون? قال: "نعم" قيل بم يا رسول الله قال: "بتهاونهم وسكوتهم على معاصي الله تعالى" وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله ﷺ "أوحى الله تبارك وتعالى إلى ملك من الملائكة أن أقلب مدينة كذا وكذا على أهلها فقال يا رب إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين قال اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط" وقالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله ﷺ "عذب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفاً عملهم عمل الأنبياء قالوا يا رسول الله كيف قال لم يكونوا يغضبون الله ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر" وعن عروة عن أبيه قال قال موسى ﷺ يا رب أي عبادك أحب إليك قال الذي يتسرع إلى هواي كما يتسرع النسر إلى هواه والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالثدي والذي يغضب إذا أتيت محارمي كما يغضب النمر لنفسه فإن النمر إذا غضب لنفسه لم يبال قل الناس أم كثروا وهذا يدل على فضيلة الحسبة مع شدة الخوف وقال أبو ذر الغفاري: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: يا رسول الله ومن هم? قال "الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمحبون في الله والمبغضون في الله" ثم قال: "والذي نفسي بيده إن العبد منهم ليكون في الغرفة فوق الغرفات فوق غرف الشهداء للغرفة منها ثلثمائة ألف باب منها الياقوت والزمرد الأخضر على كل باب نور وإن الرجل منهم ليزوج بثلثمائة ألف حوراء قاصرات الطرف عين كلما التفت إلى واحدة منهن ذكرت له مقاماً أمر فيه بمعروف ونهى فيه عن منكر" وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قلت: يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله عز وجل? قال: "رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله فإن لم يقتله فإن القلم لا يجري عليه بعد ذلك وإن عاش ما عاش" وقال الحسن البصري رحمه الله: قال رسول الله ﷺ "أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة وجعفر" وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: سمعت رسول الله ﷺ يقول: "بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر".
    وأما الآثار: فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه: لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو لبسطن الله عليكم سلطاناً ظالماً لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعوا عليه خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون وتستغفرون فلا يغفر لكم. وسئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء فقال: الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه. وقال مالك بن دينار: كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى الرجال والنساء منزله يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل فرأى بعض بنيه يوماً وقد غمر بعض النساء فقال: مهلاً يا بني مهلاً، وسقط من سريره فانقطع نخاعه وأسقطت امرأته وقتل بنوه في الجيش، فأوحى الله تعالى إلى نبي زمانه: أن أخبر فلاناً الحبر أني لا أخرج من صلبك صديقاً أبداً أما كان من غضبك لي إلا أن قلت: مهلاً يا بني مهلاً. وقال حذيفة: يأتي على الناس زمان لأن تكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم وينهاهم وأوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون عليه السلام إني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم وستين ألفاً من شرارهم فقال: يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار، قال: إنهم لم يغضبوا لغضبي ووالوهم وشاربوهم. وقال بلال بن يعد: إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صابها فإذا أعلنت ولم تغير أضرت بالعامة، وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: كيف منزلتك من قومك? قال: حسنة. قال كعب: إن التوراة لتقول غير ذلك? قال: وما تقول? قال: تقول إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه، فقال: صدقت التوراة وكذب أبو مسلم. وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي العمال ثم قعد عنهم فقيل له: لو أتيتهم فلعلهم يجدون في أنفسهم، فقال: أرهب إن تكلمت أن يروا أن الذي بي غير الذي بي، وإن سكت رهبت أن آثم. وهذا يدل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف فعليه أن يبعد عن ذلك الموضع ويستتر عنه حتى لا يجري بمشهد منه. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم، ثم الجهاد بألسنتكم، ثم الجهاد بقلوبكم؛ فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه أسفله. وقال سهل بن عبد الله رحمه الله: أيما عبد عمل في شيء من دينه بما أمر به أو نهى عنه وتعلق به عند فساد الأمور وتنكرها وتشوش الزمان فهو ممن قد قام لله في زمانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. معناه أنه إذا لم يقدر إلا على نفسه فقام بها وأنكر أحوال الغير بقلبه فقد جاء بما هو الغاية في حقه. وقيل للفضيل: ألا تأمر وتنهي? فقال: إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا وقيل للثوري. ألا تأمر بالمعروف وتنهى? فقال: إن قوماً أمروا ونهوا فكفروا وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا وقيل للثوري. ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر? فقال إذا انبثق البحر فمن يقدر أن يسكره. فقد ظهر بهذه الأدلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به. فلنذكر الآن شروطه وشروط وجوبه: =====
    =======
    الباب الثاني
    في أركان الأمر بالمعروف وشروطه
    اعلم أن الأركان في الحسبة التي هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة: المحتسب، والمحتسب عليه، والمحتسب فيه، ونفس الاحتساب. فهذه أربعة أركان ولكل واحد منها شروط.
    الركن الأول
    المحتسب
    وله شروط، وهو أن يكون مكلفاً مسلماً قادراً فيخرج منه المجنون والصبي والكافر والعاجز، ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونا مأذونين، ويدخل فيه الفاسق والرقيق والمرأة. فلنذكر وجه اشتراط ما اشترطناه ووجه إطراح ما أطرحناه.
    أما الشرط الأول: وهو التكليف: فلا يخفى وجه اشترط فإن غير المكلف لا يلزمه أمر، وما ذكرناه أردنا به شرط الوجوب، فأما إمكان الفعل وجوازه فلا يستدعي إلا العقل، حتى إن الصبي المراهق للبلوغ المميز وإن لم يكن مكلفاً فله إنكار المنكر وله أن يريق الخمر ويكسر الملاهي؛ وإذا فعل ذلك نال به ثواباً ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف. فإن هذه قربة وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف؛ ولذلك اثبتناه للبعد وآحاد الرعية. نعم في المنع بالفعل وإيطال المنكر نوع ولاية وسلطنة ولكنها تستفاد بمجرد الإيمان كقتل المشرك وإبطال أسبابه وسلب أسلحته. فإن للصبي أن يفعل ذلك حيث لا يستضر به فالمنع من الفسق كالمنع من الكفر.
    وأما الشرط الثاني، وهو الإيمان: فلا يخفى وجه اشتراطه لأن هذا نصرة للدين فكيف يكون من أهله من هو جاحد لأصل الدين وعدوله? وأما الشرط الثالث؛ وهو العدالة: فقد اعتبرها قوم وقالوا ليس للفاسق أن يحتسب، وربما استدلوا فيه بالنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله مثل قوله تعالى: "أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم" وقوله تعالى "كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلوا" وبما روى عن رسول الله ﷺ: عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني، وربما استدلوا من طريق القياس بأن هداية الغير فرع للاهتداء، وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة، والإصلاح، زكاة عن نصاب الصلاح، فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره? ومتى يستقيم الظل والعود أعود? وكل ما ذكروه خيالات وإنما الحق أن للفاسق أن يحتسب وبرهانه هو أن نقول: هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطياً معصوماً عن المعاصي كلها? فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع ثم حسم لباب الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلاً عمن دونهم، والأنبياء عليهم السلام قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا. والقرآن العزيز دال على نسبة آدم عليه السلام إلى المعصية وكذا جماعة من الأنبياء. ولهذا قال سعيد بن جبير: إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء؛ لم يأمر أحد بشيء، فأعجب مالكاً ذلك من سعيد بن جبير. وإن زعموا أ، ذلك لا يشترط عن الصغائر حتى يجوز للابس الحرير أن يمنع من الزنا وشرب الخمر فتقول: وهل لشارب الخمر أن يغزو الكفار ويحتسب عليهم بالمنع من الكفر؛ فإن قالوا: لا، خرقوا الإجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البر والفاجر وشارب الخمر وظالم الأيتام ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر رسول الله ﷺ ولا بعده. فإن قالوا: نعم، فنقول: شارب الخمر هل له المنع من القتل أم لا? فإن قالوا: لا، قلنا. فما الفرق بينه وبين لابس الحرير? إذ جاز له المنع من الخمر، والقتل كبيرة بالنسبة إلى الشرب كالشرب بالنسبة إلى لبس الحرير؛ فلا فرق. وإن قالوا: نعم، وفصلوا الأمر فيه بأن كل مقدم على شيء فلا يمنع عن مثله ولا عما دونه وإنما يمنع عما فوقه فهذا تحكم فإنه كما لا يبعد أن يمنع الشارب من الزنا والقتل فمن أين يبعد أن يمنع الزاني من الشرب? بل من أين يبعد أن يشرب ويمنع غلمانه وخدمه من الشرب? ويقول يجب على الانتهاء والنهي فمن أين يلزمني من العصيان بأحدهما أن أعصي الله تعالى بالثاني? وإذا كان النهير واجباً علي فمن أين يسقط وجوبه بإقدامي? إذ يستحيل أن يقال يجب النهي عن شرب الخمر عليه ما لم يشرب فإذا شرب فإذا شرب سقط النهي.
    فإن قيل: فيلزم على هذا أ، يقول القائل الواجب على الوضوء والصلاة فأنا أتوضأ وإن لم أصل وأتسحر وإن لم أصم لأن المستحب لي السحور والصوم جميعاً ولكن يقال: أحدهما مرتب على الآخر، فكذلك تقويم الغير مرتب على تقويمه نفسه فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول. والجواب أن التسحر يراد للصوم ولولا الصوم لما كان التسحر مستحباً، وما يراد لغيره لا ينفك عن ذلك الغير، وإصلاح الغير لا يراد لإصلاح النفس، ولا إصلاح النفس لإصلاح الغير فالقول بترتب أحدهما على الآخر تحكم.
    وأما الوضوء والصلاة فهو لازم فلا جرم أن من توضأ ولم يصل كان مؤدياً أمر الوضوء وكان عقابه أقل من عقاب من ترك الصلاة والوضوء جميعاً فليكن من ترك النهي والانتهاء أكثر عقاباً ممن نهى ولم ينته، كيف والوضوء شرط لا يراد لنفسه? بل للصلاة فلا حكم له دون الصلاة.
    وأما الحسبة فليست شرطان في الانتهاء والائتمار فلا مشابهة بينهما.
    فإن قيل: فيلزم على هذا أن يقال إذا زنى الرجل بامرأة وهي مكرهة مستورة الوجه فكشفت وجهها باختيارها فأخذ الرجل يحتسب في أثناء الزنا ويقول: أنت مكرهة في الزنا ومخارة في كشف الوجه لغير محرم، وها أنا غير محرم لك فاسترى وجهك، فهذا احتساب شنيع يستنكره قلب كل عاقل ويستشنعه كل طبع سليم? فالجواب أن الحق قد يكون شنيعاً وأن الباطل قد يكون مستحسناً بالطباع والمتبع الدليل دون نفرة الأوهام والخيالات فإنا نقول: قوله لها في تلك الحالة، لا تكشفي وجهك، واجب أو مباح أو حرام? فإن قلتم: إنه واجب فهو الغرض لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق. وإن قلتم: إنه مباح، فإذن له أن يقول ما هو مباح? فما معنى قولكم ليس للفاسق الحسبة? وإن قلتم: إنه حرام، فنقول، وكان هذا واجباً فمن أين حرم بإقدامه على الزنا? ومن الغريب أن يصير الواجب حرماً بسبب ارتكاب حرام آخر.
    وأما نفرة الطباع عنه واستنكارها له فهو لسببين: أحدهما: أنه ترك الأهم واشتغل بما هو مهم. وكما أن الطباع تنفر عن ترك المهم إلى ما لا يعني فتتنفر عن ترك الأهم والاشتغال بالمهم كما تنفر عمن يتحرج عن تناول طعام مغصوب وهو مواظب على الربا، وكما تنفر عمن يتصاون عن الغيبة ويشهد بالزور، لأن الشهادة بالزور أفحش وأشد من الغيبة التي هي إخبار عن كائن يصدق فيه المخبر، وهذا الاستبعاد في النفوس لا يدل على أن ترك الغيبة ليس بواجب، وأنه لو اغتاب أو أكل لقمة من حرام لم تزد بذلك عقوبته، فكذلك ضرره في الآخرة من معصيته أكثر من ضرره من معصية غيره، فاشتغاله عن الأقل بالأكثر مستنكر في الطبع، من حيث إنه ترك الأكثر لا من حيث إنه أتى بالأقل، فمن غصب فرسه ولجام فرسه فاشتغل بطلب اللجام وترك الفرس نفرت عنه الطباع ويرى مسيئاً، إذ قد صدر منه طلب اللجام وهو غير منكر، ولكن المنكر تركه لطلب الفرس بطلب اللجام فاشتد الإنكار عليه لتركه الأهم بما دونه، فكذلك حسبة الفاسق تستبعد من هذا الوجه وهذا لا يدل على أن حسبته من حيث إنها حسبة مستنكرة.
    الثاني: أن الحسبة تارة تكون بالنهي بالوعظ وتارة بالقهر، ولا ينجع وعظ من لا يتعظ أولاً ونحن نقول: من علم أن قوله لا يقبل في الحسبة لعلم الناس بفسقه فليس عليه الحسبة بالوعظ؛ إذ لا فائدة في وعظه فالفسق يؤثر في إسقاط فائدة كلامه، ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام، فأما إذا كانت الحسبة بالمنع فالمراد منه القهر وتمام القهر أن يكون بالفعل والحجة جميعاً، وإذا كان فاسقاً فإن قهر بالفعل فقد قهر بالحجة إذ يتوجه عليه أن يقال له: فأنت لمن تقدم عليه? فتنفر الطباع عن قهره بالفعل مع كونه مقهوراً بالحجة وذلك لا يخرج الفعل عن كونه حقاً كما أ، يذب الظالم عن آحاد المسلمين ويهمل أباه وهو مظلوم معهم تنفر الطباع عنه ولا يخرج دفعه عن المسلم عن كونه حقاً. فخرج من هذا أن الفاسق ليس عليه الحسبة بالوعظ على من يعرف فسقه لأنه لا يتعظ؛ وإذا لم يكن عليه ذلك، وعلم أنه يفضى إلى تطويل اللسان في عرضه بالإنكار فنقول: ليس له ذلك أيضاً. فرجع الكلام إلى أن أحد نوعي الاحتساب وهو الوعظ قد بطل بالفسق وصارت العدالة مشروطة فيه: وأما الحسبة القهرية فلا يشترط فيها ذلك فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمور وكسر الملاهي وغيرها إذا قدر، وهذا غاية الإنصاف والكشف في المسألة وأما الآيات التي استدلوا بها فهو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف لا من حيث أمرهم. ولكن أمرهم دل على قوة علمهم وعقاب العالم أشد لأنه لا عذر له مع قوة علمه وقوله تعالى "لم تقولون ما لا تفعلون" المراد به الوعد الكاذب وقوله عز وجل: "وتنسون أنفسكم" إنكار من حيث إنهم نسوا أنفسهم لا من حيث إنهم أمروا غيرهم ولكن ذكر أمر الغير استدلالاً به على علمهم وتأكيداً للحجة عليهم. وقوله: "يا ابن مريم عظ نفسك.... الحديث" هو في الحسبة بالوعظ. وقد سلمنا أن وعظ الفاسق ساقط الجدوى عند من يعرف فسقه. ثم قوله "فاستحى مني" لا يدل على تحريم وعظ الغير بل معناه استحى مني فلا تترك الأهم وتشتغل بالمهم كما يقال احفظ أباك ثم جارك وإلا فاستحي.
    فإن قيل. فليجز للكافر الذمي أن يحتسب على المسلم إذا رآه يزني لأن قوله لا تزن حق في نفسه فمحال أن يكون حراماً عليه، بل ينبغي أن يكون مباحاً أو واجباً. قلنا: الكافر إن منع المسلم بفعله فهو تسلط عليه من حيث إنه نهى عن الزنا ولكن من حيث إنه إظهار دالة الاحتكام على المسلم، وفيه إذلال للمحتكم عليه، والفاسق يستحق الإذلال ولكن لا من الكافر الذي هو أولى بالذل منه. فهذا وجه منعنا إياه من الحسبة وإلا فلسنا نقول إن الكافر يعاقب بسبب قوله: لا تزن، من حيث إنه نهى بل نقول إنه إذا لم يقل لا تزن يعاقب عليه إن رأينا خطاب الكافر بفروع الدين وفيه نظر استوفيناه في الفقهيات ولا يليق بغرضنا الآن.
    الشرط الرابع: كونه مأذوناً من جهة الغمام والوالي، فقد شرط قوم هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية عصى إذ يجب نهيه أينما رآه وكيفما رآه على العموم، فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له. والعجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا: لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم، وهؤلاء أخس رتبة من أن يكلموا بل جوابهم أن يقال لهم: إذا جاءوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم، إن نصرتكم أمر بالمعروف وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق لأن الإمام الحق بعد لم يخرج.
    فإن قيل: في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه، ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقاً فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر? فنقول: أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام، والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم، وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة، وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كعز التعليم والتعريف، إذ لا خلاف في أن تعريف التريم والإيجاب لمن هو جاهر ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي، وفيه عز الإرشاد وعلى المعرف ذل التجهيل، وذلك يكفي فيه مجرد الدين وكذلك النهي.
    وشرح القول في هذا أن الحسبة لها خمس مراتب - كما سيأتي - أولها: التعريف، والثاني: الوعظ بالكلام اللطيف، والثالث: السب والتعنيف، ولست أعني بالسب الفحش بل أن يقول: يا جاهل، يا أحمق ألا تخاف الله، وما يجري هذا المجرى، والرابع: المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي، وإراقة الخمر، واختطاف الثوب الحرير من لابسه، واستلاب الثوب المغصوب منه، ورده على صاحبه. والخامس: التخويف والتهديد بالضرب، ومباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب. وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين ويجر ذلك إلى قتال وسائر المراتب لا يخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام إلا المرتبة الخامسة فإن فيها نظراً - سيأتي - أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام? وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله وما يجري مجراه فهو كلام صدق، و والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر، كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه? وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقاً من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام. وأما جمع الأعوان وشهر الأسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر - سيأتي - واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض، بل كل من أمر بحروف فإن كان الوالي راضياً فذاك، وإن كان ساخطاً له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلى إذنه في الإنكار عليه. ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة.
    كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل صلاة العيد فقال له رجل: إنما الخطبة بعد الصلاة، فقال له مروان: اترك ذلك يا فلان، فقال أبو سعيد: أما هذا فقد قضى ما عليه. قال لنا رسول الله ﷺ "من رأى منكم منكراً فلينكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان" فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها فكيف يحتاج إلى إذنهم? وروي أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه وقال له: انظر ما تصنع? من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من العبد، حتى إذا صار عنده حلت بينه وبينه? وقد قال الله تعالى: "سواء العاكف فيه والباد" من جعل لك هذا? فنظر في وجهه - وكان بعرفه لأنه من مواليهم - فقال: أعبد الله ابن مرزوق? قال: نعم، فأخذ فجئ به إلى بغداد فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها عليه في العامة، فجعله في اصطبل الدواب ليسوس الدواب وضموا إليه فرساً عضوضاً سيئ الخلق ليعقره الفرس فلين الله تعالى له الفرس، قال: ثم صيروه إلى بيت وأغلق عليه، وأخذ المهدي المفتاح عنده فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل، فأوذن به المهدي فقال له: من أخرك? فقال: الذي حبسني، فضج المهدي وصاح وقال: ما تخاف أن أقتلك? فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك وهو يقول: لو كنت تملك حياة أو موتاً?! فما زال محبوساً حتى مات المهدي ثم خلوا عنه فرجع إلى مكة. قال: وكان قد جعل على نفسه نذراً إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مائة بدنة فكان يعمل في ذلك حتى نحرها.
    وروى عن حبان بن عبد الله قال: تنزه هرون الرشيد بالدوين ومعه رجل من بني هشام وهو سليمان بن أبي جعفر فقال له هرون: قد كانت لك جارية تغني فتحسن فجئنا بها، قال: فجاءت فغنت فلم يحمد غناءها، فقال لها: ما شأنك? فقالت: ليس هذا عودي، فقال للخادم، جئنا بعودها، قال: فجاء بالعود فوافق شيخاً يلقط النوى فقال: الطريق يا شيخ، فرفع الشيخ رأسه فرأى العود فأخذه من الخادم فضرب به الأرض؛ فأخذه الخادم وذهب به إلى صاحب الربع فقال: احتفظ بهذا فإنه طلبة أمير المؤمنين، فقال له صاحب الربع: ليس ببغداد أعبد من هذا فكيف يكون طلبة أميسر المؤمنين? فقال له: اسمع ما أقول لك، ثم دخل على هرون فقال: إني مررت على شيخ يلقط النوى فقلت له: الطريق، فرفع رأسه فرأى العود فأخذه فضرب به الأرض فكسره؛ فاستشاط هرون وغضب واحمرت عيناه فقال له سليمان بن أبي جعفر: ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين? ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرم به في الدجلة، فقال: لا، ولكن نبعث إليه وناظره أولاً؛ فجاء الرسول فقال: أجب أمير المؤمنين، فقال: نعم، قال: اركب، قال: لا، فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر، فقيل لهرون: قد جاء الشيخ، فقال للندماء أي شيء ترون? نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل هذا الشيخ أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر? فقالوا له: نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر أصلح، فقاموا إلى مجلس ليس فيه منكر ثم أمر بالشيخ فأدخل. - وفي كمه الكيس الذي فيه النوى - فقال له الخادم: أخرج هذا من كمك وادخل على أمير المؤمنين، فقال: من هذا عشائي الليلة، قال نحن نعشيك. قال: لا حاجة لي في عشائكم، فقال هرون للخادم: أي شيء يريد منه? قال في كمه نوى قلت له اطرحه وادخل على أمير المؤمنين فقال: دعه لا يطرحه، قال: فدخل وسلم وجلس، فقال له هرون: يا شيخ ما حملك على ما صنعت? قال: وأي شيء صنعت? وجعل هرون يستحي أن يقول كسرت عودي، فلما أكثر عليه قال: إني سمعت أباك وأجدادك يقرءون هذه الآية على المنبر: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي" وأنا رأيت منكراً فغيرته، فقال: فغيره. فوالله ما قال إلا هذا، فلما خرج أعطى الخليفة رجلاً بدرة وقال: اتبع الشيخ فإن رأيته يقول: قلت لأمير المؤمنين وقال لي؛ فلا تعطه شيئاً؛ وإن رأيته لا يكلم أحداً فأعطه البدرة. فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت فجعل يعالجها ولم يكلم أحداً فقال له: يقول لك أمير المؤمنين خذه هذه البدرة، فقال: قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها. ويروى أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على النواة التي يعالج قلعها من الأرض وهو يقول: أرى الدنيا لمن هي في يديه هموماً كلما كثرت لـديه
    تهين المكرمين لها بصغـر وتكرم كل من هانت عليه
    إذا استغنيت عن شيء فدعه وخذ ما أنت محتاج إلـيه
    وعن سفيان الثوري رحمه اله قال: حج المهدي سنة ست وستين ومائة فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يخبطون يمينا وشمالاً بالسياط، فوقفت فقلت: يا حسن الوجه حدثنا أيمن عن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال رأيت رسول الله ﷺ يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طردو ولا جلد ولا إليك إليك، وها أنت يخبط الناس بين يديك يميناً وشمالاً. فقال الرجل: من هذا? قال: سفيان الثوري. فقال: يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هذا? فقال: لو أخبرك المنصور لقى لقصرت عما أنت فيه. فقيل له إنه قال لك يا حسن الوجه ولم يقل لك يا أمير المؤمنين فقال: اطلبوه فطلب سفيان فاختفى وقد روى عن المأمون أنه بلغه أن رجلاً محتسباً يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. ولم يكن مأموراً من عنده بذلك فأمر بأن يدل عليه. فلما صار بين يديه قال له: إنني بلغني أنك رأيت نفسك أهلاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك وكان المأمون جالساً على كرسي ينظر في كتاب أو قصة فأغفله فوقع منه فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر به. فقال له المحتسب: ارفع قدمك عن أسماء الله تعالى ثم قل ما شئت؛ فلم يفهم المأمون مراد فقال ماذا تقول? حتى أعاده ثلاثاً فلم يفهم. فقال: إما رفعت أو أذنت لي حتى أرفع. فنظر المأمون تحت قدمه فرأى الكتاب فأخذه وقبله وخجل. ثم عاد وقال: لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا، - أهل البيت - ونحن الذين قال الله تعالى فيهم: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" فقال: صدقت يا أيمر المؤمنين أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن غير أنا أعوانك وأولياؤك فيه. ولا ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله تعالى وسنة رسول الله ﷺ قال الله تعالى: "والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف" الآية. وقال رسول الله ﷺ " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً" وقد مكنت في الأرض وهذا كتاب الله وسنة رسوله فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك لحرمتهما. وإن استكبرت عنهما ولم تنقد لما لزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك قد شرط أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً فقل الآن ما شئت؛ فأعجب المأمون بكلامه وسر به وقال: مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف. فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا. فاستمر الرجل على ذلك. ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن.
    فإن قيل: أفتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد والعبد على المولى والزوجة على الزوج والتلميذ على الأستاذ ولرعية على الوالي مطلقاً. كما يثبت للوالد على الولد والسيد على العبد والزوج على الزوجة والأستاذ على التلميذ والسلطان على الرعية أو بينهما فرق? فاعلم أن الذي نراه: أنه يثبت أصل الولاية ولكن بينهما فرق في التفصيل. ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد مع الوالد فنقول: قد رتبنا للحسبة خمس مراتب، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين وهما?: التعريف ثم الوعظ والنصح باللطف. وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب وهما الرتبتان الأخيرتان وهل له الحسبة بالتربة الثالثة حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه? هذا فيه نظر، وهو بأن يكسر مثلاً عوده ويريق خمره ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين - إذا كان صاحبه معيناً - ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته ويكسر أواني الذهب والفضة؛ فإن فعله في هذا الأمور ليس يتعلق بذات الأب خلاف الضرب والسب، ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه، إلا أن فعل الولد حق، وسخط الأب منشؤه به للباطل وللحرام والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك، ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر وإلى مقدار الأذى والسخط. فإن كان المنكر فاحشاً وسخطه عليه قريباً كإراقة خمر من لا يشتد غضبه فذلك ظاهر، وإن كان المنكر قريباً والسخط شديداً كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان وفي كسرها خسران مال كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره فهذا كله مجال النظر.
    فإن قيل: ومن أين قلتم ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل، والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاماً من غير تخصيص? وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات? فنقول: قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم إ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حداً، ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته.
    وقد ورد في ذلك أخبار وثبت بعضها بالإجماع فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة بل أولى. وهذا الترتيب أيضاً ينبغي أن يجري في العبد والزوجة مع السيد والزوج فهما قريبان من الولد في لزوم الحق وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح. ولكن في الخبر أنه لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، وهذا يدل على تأكيد الحق أيضاً. وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح: فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته وردها إلى الملاك وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضى إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته، وذلك محظور ورد النهي عنه كما ورد النهي عن السكوت على المنكر فقد تعارض فيه أيضاً محذوران والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه وذلك مما لا يمكن ضبطه. وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه. وروي أنه سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده فقال: يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه.
    الشرط الخامس: كونه قادراً؛ ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها. وقال ابن مسعود رضي الله عنه جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجهوهم فافعلوا.
    واعلم أنه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروهاً يناله فذلك في معنى العجز، وكذلك إذا لم يخف مكروهاً ولكن علم أن إنكاره لا ينفع فليلتفت إلى معنيين؛ أحدهما: عدم إفادة الإنكار امتناعاً، والآخر: خوف مكروه. ويحصل في اعتبار المعنيين أربعة أحوال أحدهما: أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم فلا تجب علي الحسبة، بل ربما تحرم في بعض المواضع. نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة إلا إذا كان يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات؛ فيلزمه الهجرة إن قدر عليها فإن الإكراه لا يكون عذراً في حق من يقدر على الهرب من الإكراه. الحالة الثانية: أن ينتقى المعنيان جميعاً بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة. الحالة الثالثة: أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره لكنه لا يخاف مكروهاً فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين. الحالة الرابعة: عكس هذه وهو أن يعلم أنه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها، ويريق الخمر، أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال، ويتعطل عليه هذا المنكر ولكن يعلم أنه يرجع إليه فيضرب رأسه، فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب. ويدل عليه الخبر الذي أوردناه في فضل كلمة حق عند إمام جائر ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف. ويدل عليه أيضاً ما روي عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى أنه قال: سمعت من بعض الخلفاء كلاماً فأردت أن أنكر عليه وعلمت أني أقتل، ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس فخشيت أن يعتريني التزين للخلق فأقتل من غير إخلاص في الفعل.
    فإن قيل: فما معنى قوله تعالى: "ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"? قلنا: لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل، وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك، فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس التهلكة ذلك، بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى؛ أي من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه. وقال البراء بن عازب: التهلكة هو أن يذنب الذنب ثم يقول لا يتاب علي. وقال أبو عبيدة: هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيراً حتى يهلك. وإذا جار أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضاً له ذلك في الحسبة، ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجز فذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة. وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل أو علم أنه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم؛ فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين، وأما إن رأى فاسقاً متغلباً وعنده سيف وبيده قدح، وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجهاً وهو عين الهلاك. فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثراً ويفديه بنفسه، فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراماً. وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة، وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه. فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر، وليس ذلك من القدرة في شيء، بل لو علم أنه لو احتسب لبطل ذلك المنكر ولكن كان ذلك سبباً لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الإفكار الأظهر، لأن المقصود عدم مناكير الشرع مطلقاً لا من زيد أو عمرو، وذلك بأن يكون مثلاً مع الإنسان شراب حلال - نجس بسبب وقوع نجاسة فيه - وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر أو تشرب أولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال فلا معنى لإراقة ذلك. ويحتمل أن يقال إنه يريق ذلك فيكون هو مبطلاً لمنكر. وأما شرب الخمر فهو الملوم فيه والمحتسب غير قادر على منعه من ذلك المنكر، وقد ذهب إلى هذا ذاهبون. وليس ببعيد، فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم فيها إلا بظن، ولا يبعد أن يفرق بني درجات المنكر المغير والمنكر الذي تفضى إليه الحسبة والتغيير، فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها وعلم أنه لو منعه من ذلك لذبح إنساناً وأكله فلا معنى لهذه الحسبة. نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرقه يحمله على أخذ ماله فذلك له وجه. فهذه دقائق واقعة في محل الاجتهاد وعلى المحتسب إتباع اجتهاده في ذلك كله ولهذه الدقائق نقول: العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليلات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه، وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي؛ إذ ربما ينتدب لها من ليس أهلاً لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدي ذلك إلى وجوه من الخلل وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك إن شاء الله.
    فإن قيل: وحيث أطلقتم العلم بأن يصيبه مكروه أو أنه لا تفيد حسبته؛ فلو كان بدل العلم فما حكمه? قلنا: الظن الغالب في هذه الأبواب في معنى العلم وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم إذ يرجح العلم اليقيني على الظن ويفرق بين العلم والظن في مواضع آخر، وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه حيث علم قطعاً أنه لا يفيد فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ولكن يحتمل أن يفيد وهو منع ذلك لا يتوقع مكروهاً فقد اختلفوا في وجوبه، والأظهر وجوبه إذ لا ضرر فيه وجدواه متوقعة، وعموم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال ونحن إنما نستثني عنه بطريق التحصيص ما إذا علم أنه لا فائدة فيه، فأما إذا لم يكن يأس فينبغي أن لا يسقط الوجوب.
    فإن قيل: فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقناً ولا معلوماً بغالب الظن ولكن كان مشكوكاً فيه، أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ولكن احتمل أن يصاب بمكروه، فهذا الاحتمال هل يسقط الواجب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه? قلنا: إن غلب على الظن أنه يصاب لم يحب، وإن غلب أنه لا يصاب وجب. ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة، وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر، فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه، والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعاً، وهذا هو الأظهر. ويحتمل أن يقال: إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح نظراً إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف.
    فإن قيل: فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريباً حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه، والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه، فعلى ماذا التعويل? قلنا?: التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج، فإن الجبن مرض وهو ضعف في القلب سببه قصور في القوة وتفريط، والتهور إفراط في القوة وخروج عن الاعتدال بالزيادة وكلاهما نقصان، وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعبر عنه بالشجاعة. وكل واحد من الجبن والتهور يصر تارة عن نقصان العقر. وتارة عن خلل في المزاج بتفريط أو إفراط، فإن من اعتدل مزاجه في صفة الجبن والجراءة فقد لا يتفطن لمدارك الشر فيكون سبب جراءته جهله، وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر فيكون سبب جبنه جهله، وقد يكون عالماً بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه، ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع. فلا التفات إلى الطرفين. وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته وعلته جهل أو ضعف، ويزول الجهل بالتجربة، ويزول الضعف بممارسة الفعل المخفوف منه تكلفاً حتى يصير معتاداً، إذ المبتدئ في المناظرة والوعظ مثلاً قد يجبن عنه طبعه لضعفه فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف، فإن صار ذلك ضرورياً غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات، ولذلك قد نقول على رأي: لا يجب ركوب البحر لأجل حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر على من لا يعظم خوفه منه فكذلك الأمر في وجوب الحسبة.
    فإن قيل: فالمكروه المتوقع ما حده? فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة وقد يكره طول لبان المحتسب عليه في حقه بالغيبة، وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه، فما حج المكروه الذي يسقط الوجوب به? قلنا: هذا أيضاً فيه نظر غامض وصورته منتشرة ومجارية كثيرة، ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه.
    فنقول: المكروه نقيض المطلوب ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور: أما في النفس فالعلم. وأما في البدن فالصحة والسلامة. وأما في المال فالثروة. وأما في القلوب الناس فقيام الجاه؛ فإذاً المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه. ومعنى الجاه ملك قلوب الناس، كما أن معنى الثروة ملك الدراهم لآن قلوب الناس وسيلة إلى الأغراض، كما أن ملك الدراهم وسيلة إلى بلوغ الأغراض - وسيأتي تحقيق معنى الجاه وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات - وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه والمختصين به. ويكره في هذه الأربعة أمران؛ أحدهما: زوال ما هو حاصل موجود. والآخر. امتناع ما هو منتظر مفقود؛ أعني اندفاع ما يتوقع وجوده. فلا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله، أو تعويق منتظر، فإن المنتظر عبارة عن الممكن حصوله والممكن حصوله كأنه حاصل وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله: فرجع المكروه إلى قسمين؛ أحدهما: خوف امتناع المنتظر وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصاً في ترك الأمر بالمعروف أصلاً.
    ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة؛ أما العلم: فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه خوفاً من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعليمه. وأما الصحة: فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلاً وهو لابس حريراً خوفاً من أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المنظرة. وأما المال: فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه وعلى من يواسيه من ماله خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل ويترك مواساته. وأما الجاه: فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاهاً في المستقبل خيفة من أن لا يحصل له الجاه أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية.
    وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت، وتسمية امتناع حصول الزيادات ضراً مجاز. وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تدعو إليه الحاجة ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر، كان إذا كان محتاجاً إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب ويعلم أن في تأخره شدة الضنا به وطول المرض وقد يفضى إلى الموت. وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء والعدول إلى التيمم فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة. وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلاً بمهمات دينه ولم يجد إلا معلماً واحداً ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه لكونه العالم مطيعاً له أو مستمعاً لقوله، فإذاً الصبر على الجهل بمهمات الدين محذور والسكوت على المنكر محذور، ولا يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر وبشدة الحاجة إلى العلم لتعلقه بمهمات الدين. وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال وليس هو قوى النفس في التوكل ولا منفق عليه سوى شخص واحد ولو احتسب عليه قطع رزقه وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام أو مات جوعاً فهذا أيضاً إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص له في السكوت. وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير ولا يجد سبيلاً إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان، ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر، ولو احتسب عليه لم يكن واسطة ووسيلة له فيمتنع عليه حصول الجاه ويدوم بسببه أذى الشرير. فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المنسب حتى يستفتى فيها قلبه، ويزن أحد المحذوين بالآخر، ويرجح بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع، فإن رجح بموجب الدين سمي سكوته مداراة، وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مكاهنة. وهذا أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق ولكن الناقد بصير، فحق على كل متدين فيه أن يراقب قلبه ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى، وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضراً عند الله ولو في فلتة خاطر أو فلتة ناظر من غير ظلم وجور فما الله بظلام للعبيد.
    وأما القسم الثاني: وهو فوات الحاصل: فهو مكروه ومعتبر في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم، فإن فواته غير مخوف إلا بتقصير منه وإلا فلا يقدر أحد على سلب العلم من غيره وإن قدر على سلب الصحة والسلامة والثروة والمال، وهذا أحد أسباب شرف العلم فإنه يدوم في الدنيا ويدوم ثوابه في الآخرة فلا انقطاع له أبد الآباد. وأما الصحة والسلامة ففواتهما بالضرب فكل من علم أنه يضرب ضرباً مؤلماً يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة وإن كان يستحب له ذلك - كما سبق - وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح والقطع والقتل أظهر. وأما الثروة فهو بأن يعلم أنه تنهب داره ويخرب بيته وتسلب ثيابه، فهذا أيضاً يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب إذ لا بأس بأن يفدى دينه بدنياه ولكل واحد م الضرب والنهب حد في القلة لا يكترث به كالحبة في المال واللطمة الخفيف ألمها في الضرب وحد في الكثرة يتعين اعتباره ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد، وعلى المتدين أن يجتهد في ذلك ويرجح جانب الدين ما أمكن . وأما الجاه ففواته بأن يضرب ضرباً غير مؤلم أو بسبب على ملأ من الناس أو يطرح منديله في رقبته ويدار به درجات فالصواب أن يقسم إلى ما يعبر عنه بسقوط المروءة، كالطواف به في البلد حاسراً حافياً فهذا يرخص له في السكوت لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع، وهذا مؤلم للقلب ألماً يزيد على أمل ضربات متعددة وعلى فوات دريهمات قليلة فهذه درجة. الثانية: ما يعبر عنه بالجاه المحض وعلو الرتبة، فإن الخروج في ثياب فاخرة تجمل، وكذلك الركوب للخيول. فلو علم أنه لو احتسب لكلف المشي في السوق في ثياب لا يعتاد هو مثلها. أو كلف المشي راجلاً وعادته الركوب. فهذا من جملة المزايا. وليست المواظبة على حفظها محمودة. وحفظ المروءة محمود فلا ينبغي أن يسقط وجوب الحسبة بمثل هذا القدر. وفي معنى هذا ما لو خاف أن يتعرض له باللسان إما في حضرته بالتجهيل والتحميق والنسبة إلى الرياء والبهتان. وأما في غيبته بأنواع الغيبة فهذا لا يسقط الوجوب إذ ليس فيه إلا زوال فضلات الجاه التي ليس إليها كبير حاجة. ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمة وتعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلاً إذ لا تنفك الحسبة عنه إلا إذا كان المنكر هو الغيبة، وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب ولكن أضافه إليه وأدخله معه في الغيبة فتحرم هذه الحسبة لأنها سبب زيادة المعصية، وإن علم أنه يترك تلك الغيبة ويقتصر على غيبته فلا تجب لعيه الحسبة لأن غيبته أيضاً معصية في حق المغتاب، ولكن يستحب له ذلك ليفدى عرض المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار. وقد دلت العمومات على تأكد وجوب الحسبة وعظم الخطر في السكوت عنها ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق فكل ذلك لا خطر له. وأما امتناعه لخوف شيء من هذه المكاره في حق أولاده وأقاربه فهو في حقه دونه لأن تأذيه بأمر نفسه أشد من تأذيه بأمر غيره، ومن وجه الدين هو فوقه لأن له أن يسامح في حقوق نفسه وليس له المسامحة في حق غيره. فإذاً ينبغي أن يمتنع فإنه إن كان ما يفوت من حقوقهم يفوت على طريق المعصية كالضرب والنهب فليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاء للمسلم أيضاً وليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضى إلى منكر، وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إذاء للمسلم أيضاً وليس له ذلك إلا برضاهم. فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى قومه فليتركه وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان ولكنه يقصد أقاربه انتقاماً منه بواسطته، فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور. نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب فهذا فيه نظر، ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض.
    فإن قيل: فلو قصد الإنسان قطع طرف في نفسه وكان لا يمتنع عنه إلا بقتال ربما يؤدي إلى قتله فهل يقاتل عليه? فإن قلتم: يقاتل، فهو محال لأنه إهلاك نفس خوفاً من إهلاك طرف وفي إهلاك النفس إهلاك الطرف أيضاً? قلنا: يمنعه عنه ويقاتله إذ ليس غرضنا حفظ نفسه وطرفه بل الغرض حسن سبيل المنكر والمعصية، وقتله في الحسبة ليس بمعصية وقطع طرف نفسه معصية. وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله فإنه جائز لا على معنى أنا نفدى درهماً من مال مسلم بروح مسلم فإن ذلك محال ولكن قصده لأخذ مال المسلمين معصية وقتله في الدفع عن المعصية ليس بمعصية وإنما المقصود دفع المعاصي.
    فإن قيل: فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه فينبغي أن نقتله في الحال حسماً لباب المعصية? قلنا: ذلك لا يعلم يقيناً ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية ولكنا إذا رأيناه في حال مباشرة القطع دفعناه، فإن قاتلنا قاتلناه ولم نبال بما يأتي على روحه.
    فإذا المعصية لها ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون متصرم فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزيز وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد. الثانية: أن تكون المعصية راهنة صاحبها مباشر لها كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر، فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها، وذلك يثبت للآحاد والرعية. الثالثة: أن يكون المنكر متوقعاً كالذي يسعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعده لم يحضر الخمر؛ فهذا مشكوك فيه إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح، فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للآحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار، وذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج، فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعته فتجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من الموضع ومنعهم عن الوقوف بالتعنيف والضرب، وكان تحقيق هذا إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف في نفسه معصية وإن كان مقصد العاصي وراءه كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية لأنها مظنة وقوع المعصية. وتحصيل مظنة المعصية معصية ونعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان لوقوع المعصية غالباً بحيث لا يقدر على الإنكفاف عنها، فإذاً هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة.
    الركن الثاني
    للحسبة ما فيه الحسبة
    وهو كل منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكراً بغير اجتهاد فهذه أربعة شروط فلنحث عنها: الأول: كونه منكراً، ونعني به أن يكون محذور الوقوع في الشرع وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا لان المنكر أعم من المعصية، إذ من رأى صبياً أو مجنوناً يشرب الخمر فعله أن يريق خمره ويمنعه، وكذا إن رأى مجنوناً يزني بمجنونه أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه. وليس ذلك لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس بل لو صادف هذا المنكر في خلوة لوجب المنع منه، وهذا لا يسمى معصية في حق المجنون إذ معصية لا عاصي بها محال، فلفظ المنكر أدل عليه وأعم من لفظ المعصية وقد أدرجنا في عموم هذا الصغيرة والكبيرة فلا تختص الحسبة بالكبائر، بل كشف العورة في الحمام والخلوة بالأجنبية وإتباع النظر للنسوة الأجنبيات كل ذلك من الصغائر ويجب النهي عنها وفي الفرق بين الصغيرة والكبيرة نظر سيأتي في كتاب التوبة.
    الشرط الثاني: أن يكون موجوداً في الحال وهو احتراز أيضاً عن الحسبة على من فرغ من شرب الخمر، فإن ذلك ليس إلى الآحاد وقد انقرض المنكر واحتراز عما سيوجد في ثاني الحال، كمن يعلم بقرينه حال أنه عازم على الشرب في ليلته فلا حسبة عليه إلا بالوعظ، وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضاً فإن فيه إساءة ظن بالمسلم وربما صدق في قوله ربما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق. وليتنبه للدقيقة التي ذكرناها وهو أن الخلوة بالأجنبية معصية ناجزة وكذا الوقوف على باب حمام النساء وما يجري مجراه.
    الشرط الثالث: أن يكون المنكر ظاهراً للمحتسب بغير تجسس. فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه وقد نهى الله تعالى عنه. وقصة عمر وعبد الرحمن بن عوف فيه مشهورة. - وقد أوردناها في كتاب آداب الصحبة - وكذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه. فقال وما هي? فقال قد قال تعالى "ولا تجسسوا" وقد تجسست. وقال تعالى " وأتوا البيوت من أبوابها" وقد تسورت من السطح وقال: "لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها" وما سلمت. فتركه عمر وشرط عليه التوبة. ولذلك شاور عمر الصحابة رضي الله عنهم؛ وهو على المنبر وسألهم عن الإمام إذا شاهد بنفسه منكراً فهل له إقامة الحد فيه? فأشار علي رضي الله عنه بأن ذلك منوط بعدلين فلا يكفي فيه واحد. وقد أوردنا هذه الأخبار في بيان حق المسلم من كتاب آداب الصحبة فلا نعيدها.
    فإن قلت: فما حد الظهور والاستتار? فاعلم أ، من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لتعرف المعصية إلا أن يظهر في الدار ظهوراً يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار. فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة. فإذن إنما يدرك مع تخلل الحيطان صوت و رائحة. فإذا فاحت روائح الخمر فإن احتمل ن يكون ذلك من الخمور المحترمة فلا يجوز قصدها بالإراقة. وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب فهذا محتمل. والظاهر جواز الحسبة. وقد تستر قارورة الخمر في الكم وتحت الذيل وكذلك الملاهي فإذا رؤى فاسق وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه ما لم يظهر بعلامة خاصة. فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر. إذ الفاسق محتاج أيضاً إلى الخل وغيره. فلا يجوز أن يستدل بإخفائه وأنه لو كان حلالاً لما أخفاه لأن الأغراض تفيد الظن والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور. و كذلك العود ريما يعرف بشكله إذا كان الثوب السائر له رقيقاً. فدلالة الشكل كدلالة الرائحة الصوت وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته. والإبداء له درجات فتارة يبدو لنا بحاسة السمع. وتارة بحاسة الشم. وتارة بحاسة البصر. وتارة بحاسة اللمس. ولا يمكن أن يخصص ذلك بحاسة البصر بل المراد العلم. وهذه الحواس أيضاً تفيد العلم. فإذن إنما يجوز أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر. وليس له أن يقول: أرني لأعلم ما فيه. هذا تجسس. ومعنى التجسس طلب الأمارات المعرفة فالأمارة المعرفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها فأما طلب الأمارة المعرفة فلا رخصة فيه أصلاً.
    الشرط الرابع ?: أن يكون كونه منكر معلوماً بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة. فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية. ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد نعم لو رأى الشافعي شافعياً يشرب النبيذ وينكح بلا ولي ويطأ زوجته فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره. ولا الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده، بل على كل مقلد إتباع مقلده في كل تفصيل، فإذن مخالفته للمقلد متفق على كونه منكراً بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة، إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه، وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي بأن يقول له: الفعل في نفسه حق ولكن لا في حقك وأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي، ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك وإن كانت صواباً عند الله. وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب ومتروك التسمية وغيره ويقول له: إما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالإتباع ثم تقدم عليه، أو لا تعتقد ذلك فلا تقدم عليه، لأنه على خلاف معتقدك. ثم ينجر هذا إلى أمر آخر من المحسوسات وأن يجامع الأصم مثلاً امرأة على قصد الزنا وعلم المحتسب أن هذه امرأته زوجه أبوه إياها في صغره. ولكنه ليس يدري وعجز عن تعريفه ذلك لصممه أو لكونه غير عارف بلغته، فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاص ومعاقب عليه في الدار الآخرة. فينبغي أن يمنعها عنه مع أنها زوجته وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله. ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلاً من مشيئة أو غضب أو غيره وقد وجدت الصفة في قلبه وعجز عن تعريف الزوجين ذلك، ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن فإذا رآه يجامعها فعليه المنع - أعني باللسان - لأن ذلك زنا إلا أن الزاني غير عالم به والمحتسب علام بأنها طلقت منه ثلاثاً، وكونهما غير عاصين لجهلهما بوجود الصفة لا يخرج الفعل عن كونه منكراً ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون وقد بينا أنه يمنع منه. فإذا كان يمنع مما هو منكر عند الله وإن لم يكن منكراً عند الفاعل لجهله لا يمنع منه، وهذا هو الأظهر والعلم عند الله. فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي، وأن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكراً باتفاق المحتسب والمحتسب عليه. وهذه مسائل فقهية دقيقة والاحتمالات فيها متعارضة، وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال. ولسنا نقطع بخطأ ترجيح المخالف فيها إن رأى أنه لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع، وقد ذهب إليه ذاهبون وقالوا: لا حسبة إلا في مثل الخمر والخنزير وما يقطع بكونه حراماً، ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد؛ إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة بالدلالات الظنية ثم يستدبرها، ولا يمنع منه لأجل ظن غيره لأن الإستدبار هو الصواب. ورأى من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلاً؛ فهذا مذهب لا يثبت وإن ثبت فلا يعتد به.
    فإن قلت: إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي لأنه يرى أنه حق فينبغي أن لا يعترض على المعتزلي في قوله: إن الله لا يرى? وقوله: وإن الخير من الله والشر ليس من الله? وقوله: كلام الله مخلوق? ولا على الحشوى في قوله: إن الله تعالى جسم وله صورة وإنه مستقر على العرش? بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله: الأجساد لا تبعث وإنما تبعث النفوس؛ لأن هؤلاء أيضاً أدى اجتهادهم إلى ما قالوه وهم يظنون أ، ذلك هو الحق. فإن قلت: بطلان مذهب هؤلاء ظاهر فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضاً ظاهر، وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى والمعتزلي ينكرها بالتأويل فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي كمسألة النكاح بلا ولي ومسألة شفعة الجوار ونظائرهما? فاعلم أن المسائل نقسم إلى ما يتصور أن يقال فيه: كل مجتهد مصيب. وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة وذلك هو الذي لا يتعرض على المجتهدين فيه إذ لم يعلم خطؤهم قطعاً بل ظناً، وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحد كمسالة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار عن الله تعالى، فهذا مما يعلم خطأ المخطئ فيه قطعاً ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه. فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق، كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم وإن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع بخلاف الخط-أ في مظان الاجتهاد.
    فإن قلت: فمهما اعترضت على القدري في قوله: الشر ليس من الله، اعترض عليك القدري أيضاً في قولك: الشر من الله، وكذلك في قولك: إن الله يرى، وفي سائر المسائل. إذ المبتدع محق عند نفسه، والمحق مبتدع عند المبتدع، وكل يعي أنه محق ونكير كونه مبتدعاً. فكيف يتم الاحتساب? فاعلم أنا لأجل هذا التعارض نقول: ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة؛ فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان، وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان. فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل، وما يكون من جهة المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره. فإن ما يكون بإذن السلطان لتا يتقابل، وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه. وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات، ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ولا ينجو إلى تحريك الفتنة. بل لو أذن السلطان مطلقاً في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق، أو أن الله لا يرى، أو أنه مستقر على العرش مماس له، أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط.
    الركن الثالث
    المحتسب عليه
    وشرطه أ، يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكراً، وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنساناً، ولا يشترط كونه مكلفاً، إذ بينا أن الصبي لو شرب الخمر منع منه واحتسب عليه وإن كان قبل البلوغ، ولا يشترط كونه مميزاً إذ بينا أن المجنون لو كان يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة منعه منه. نعم من الأفعال ما لا يكون منكراً في حق المجنون كترك الصلاة والصوم وغيره. ولكنا لسنا نلتفت إلى اختلاف التفاصيل فإن ذلك أيضاً مما يختلف فيه المقيم والمسافر والمريض والصحيح. وغرضنا الإشارة إلى الصفة التي بها يتهيأ توجه أصل الإنكار عليه لا ما بها يتهيأ للتفاصيل.
    فإن قلت: فاكتف بكونه حيواناً ولا تشترط كونه إنساناً، فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعاً لإنسان لكنا تمنعها منه كما تمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة? فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها، إذا الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله، صيانة للمنوع عن مقارفة المنكر ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله، وكذا منع الصبي عن شرب الخمر. والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين، أحدهما: حق الله تعالى فإن فعله معصية، والثاني: حق المتلف عليه، فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى. فلو قطع تطرف غيره بإذنه فقد وجدت المعصية وسقط حق المجيئ عليه بإذنه فتثبت الحسبة والمنع بإحدى العلتين. والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين. ولكن فيه دقيقة وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة بل حفظ مال المسلم؛ إذ البهيمة لو أكلت ميتة أو شربت من إناء فيه خمر أو ماء مشوب بخمر لم نمنعها منه، بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات، ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا حفظاً للمال، بل لو وقعت جرة لإنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة لحفظ القارورة، لا لمن ع الجرة من السقوط. فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة، ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشر الخمر وكذا الصبي، لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب: بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيهاً له من حيث إنه إنسان محترم. فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها إلا المحققون فلا ينبغي أن يغفل عنها ثم فيما يجب تنزيه الصبي والمجنون عنه نظر، إذ قد يتردد في منهما من لبس الحرير وغير ذلك. وسنتعرض لما نشير إليه في الباب الثالث.
    فإن قلت: فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان فهل يجب عليه إخراجها? وكل من رأى مالاً لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه? فإن قلتم: إن ذلك واجب فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخراً لغيره طول عمره? وإن قلتم، لا يجب فلم يحب الاحتساب على من يغصب مال غيره وليس له سبب سوى مراعاة مال الغير? فنقول: هذا بحث دقيق غامض. والقول الوجيز فيه أن نقول: مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك، فذلك القدر واجب في حقوق المسلم بل هو أقل درجات الحقوق، والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة وهذا أقل درجاتها وهو أولى بالإيجاب من رد السلام، فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام، بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الق إليه وجب عليه ذلك وعصى بكتمان الشهادة ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه، فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه، فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهماله تعريف القاضي بالشهادة، وذلك لا رخصة فيه، ولا يمكن أن يراعي فيه الأقل والأكثر حتى يقال إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلاً وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف ولا سبيل للمصير إلا ذلك، فأما إذا كان فوات المال بطريق هو معصية كالغصب أو قتل عبد مملوك للغير، فهذا يجب المنع منه وإن كان فيه تعب ما، لأن المقصود حق الشرع، والغرض دفع المعصية، وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي. والمعاصي كلها في تركها تعب وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس وهي غاية التعب. ثم لا يلزمه احتمال كل ضرر بل التفصيل فيه كما ذكرناه من درجات المحذورات التي يخافها المحتسب.
    وقد اختلف الفقهاء في مسئلتين تقربان من غرضنا، إحداهما: أن الالتقاط هل هو واجب واللقطة ضائعة? والملتقط مانع من الضياع وساع في الحفظ? والحق فيه عندنا أن يفصل ويقال: إن كانت اللقطة في موضع لو تركها فيه لم تضع بل يلتقطها من يعرفها، أو تترك كما لو كان في مسجد أو رباط يتعين من يدخله وكلهم أمناء فلا يلزمه الالتقاط، وإن كانت في مضيعة، نظر، فإن كان عليه تعب في حفظها كما لو كنت بهيمة وتحتاج إلى علف واصطبل فلا يلزمه ذلك؛ لأنه إنما يجب الالتقاط لحق المالك. وحقه بسبب كونه إنساناً محترماً، والملتقط أيضاً إنسان وله حق في أن لا يتعب لأجل غيره كما لا يتعب غيره لأجله. فإن كانت ذهباً أو ثوباً أو شيئاً لا ضرر عليه فيه إلا مجرد تعب التعريف فهذا ينبغي أن يكون في محل الوجهين. فقائل يقول: التعريف والقيام بشرطه فيه تعب فلا سبيل إلى إلزامه ذلك إلا أن يتبرع فيلتزم طبقاً للثواب. وقائل يقول: إن هذا القدر من التعب مستصغر بالإضافة إلى مراعاة حقوق المسلمين؛ فينزل ها منزلة تعب الشاهد في حضور مجلس الحكم فإنه لا يلزمه السفر إلى بلدة أخرى إلا أن يتبرع به، فإذا كان مجلس القاضي في جواره لزمه الحضور وكان التعب بهذه الخطوات لا يعد تعباً في غرض إقامة الشهادة وأداء الأمانة، وإن كان في الطرف الآخر م البلد وأحوج إلى الحضور في الهاجرة وشدة الحر فهذا قد يقع في محل الاجتهاد والنظر، فإن الضرر الذي ينال الساعي في حفظ حق الغير له طرف في القلة لا يشك في أنه لا يبالي به، وطرف في الكثرة لا يشك في أنه لا يلزم احتماله، ووسط يتجاذبه الطرفان ويكون أبداً في محل الشبهة والنظر، وهي من الشبهات المزمنة التي ليس في مقدور البشر إزالتها؛ إذ لا علة تفرق بين أجزائها المتقاربة، ولكن المتقي ينظر فيها لنفسه ويدع ما يريبه إلى ما لا يريبه، فهذا نهاية الكشف عن هذا الأصل.
    الركن الرابع
    نفس الاحتساب
    وله درجات وآداب: أما الدرجات فأولها التعرف، ثم التعريف، ثم النهي، ثم الوعظ والنصح، ثم السب والتعنيف، ثم التغيير باليد، ثم التهديد بالضرب، ثم إيقاع الضرب وتحقيقه، ثم شهر السلاح، ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود.
    أما الدرجة الأولى: وهي التعرف؛ ونعني طلب المعرفة بجريان المنكر وذلك منهى عنه - وهو التجسس الذي ذكرناه - فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار، ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر، ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار، ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره. نعم لو أخبره ععدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلاناً يشرب الخمر في داره أو بأن في داره خمراً أعده للشرب، فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان، ويكون تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه. وإن أخبره عدلان أو عدل واحد - وبالجملة كل من تقبل روايته لا شهادته - ففي جواز الهجوم على داره بقولهم، فيه نظر واحتمال، والأولى أن يمتنع لأن له حقاً في أن لا يتخطى داره بغير إذنه، ولا يسقط حق المسلم عما ثبت عليه حقه إلا بشاهدين؛ فهذا أولى ما يجعل مرداً فيه. وقد قيل إنه كان نقش خاتم لقمان: الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت.
    الدرجة الثانية: التعريف، فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله وإذا عرف أنه منكر تركه، كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود، فيعلم أن ذلك لجهله بأن هذه ليست بصلاة ولو رضي بأن لا يكون مصلياً لترك أصل الصلاة، فيجب تعريفه باللطف من غير عنف: وذلك لأن ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق، والتجهيل إيذاء وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع. ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف يغضب إذا نبه على الخطأ والجهل? وكيف يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته خيفة من أن تنكشف عورة جهله? والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية؛ لأن الجهل قبح في صورة النفس وسواد
    في وجهه، وصاحبه ملوم عليه، وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن، والنفس أشرف من البدن وقبحها أشد من قبح البدن. ثم هو غير ملوم عليه لأنه خلقة لم يدخل تحت اختياره حصوله، ولا في اختياره إزالته وتحسينه. والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم، فلذلك يعظم تألم الإنسان بظهور جهله، ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه ثم لذته عند ظهور جمال علمه لغيره. وإذا كان التعريف كشفاً للعورة مؤذياً للقلب فلا بد وأن يعالج دفع أذاه بلطف الرفق فنقول له: إن الإنسان لا يولد عالماً ولقد كنا أيضاً جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء، ولعل قربتك خالية عن أهل العلم أو عالمها مقصر في شرح الصلاة وإيضاحها، إنما شرط الصلاة الطمأنينة في الركوع والسجود. وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء؛ فإن إيذاء المسلم حرام محذور كما أن تقريره على المنكر محذور، وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول، ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الاستغناء عنه فقد غسل الدم بالبول علي بالتحقيق. وأما إذا وقفت على خطأ في غير أمر الدين فلا ينبغي أن ترده عليه فإنه يستفيد منك علماً ويصير لك عدواً، إلا إذا علمت أنه يغتنم العلم وذلك عزيز جداً.
    الدرجة الثالثة: النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى؛ وذلك فيمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكراً، أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكراً، كالذي يواظب على الشرب أو على الظلم أو على اغتياب المسلمين أو ما يجري مجراه، فينبغي أن يوعظ ويخوف بالله تعالى وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك وتحكى له سير السلف وعبادة المتقين؛ وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب، بل ينظر إليه نظر المترحم عليه ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه إذ المسلمون كنفس واحدة، وههنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها فإنها مهلكة، وهي أن العالم يرى - عند التعريف - عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل؛ فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل. فإن كان الباعث هذا فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه? ومثال هذا المحتسب مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه وهو غاية في الجهل. وهذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه وفتح بصيرته بنور هدايته، فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة من وجهين، أحدهما: من جهة دالة العلم، والآخر: من جهة دالة الاحتكام والسلطنة. وذلك يرجع إلى الرياء وطلب الجاه، وهو الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه. فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه وهو يود أن يكفى بغيره فليحتسب فإن باعثه هو الدين، وإن كان اتعاظ ذلك العاصي بوعظه وانزجاره بزجره أحب إليه من اتعاظه أولاً على نفسه. وعند هذا يقال له ما قيل لعيسى عليه السلام: يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني. وقيل لداود الطائي رحمه الله: أرأيت رجلاً دخل على هؤلاء الأمراء فأمخرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر? فقال أخاف عليه السوط، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه السيف، قال: إنه يقوى عليه، قال: أخاف عليه الداء الدفين وهو العجب.
    الدرجة الرابعة: السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن، وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادئ الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح، وذلك مثل قول إبراهيم عليه السلام "أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون" ولسنا نعني بالسب والفحش بما فقيه نسبة إلى الزنا ومقدماته، ولا الكذب بل أن يخاطبه بما فيه مما لا يعد من جملة الفحش، كقوله: يا فاسق يا أحمق يا جاهل ألا تخاف الله، وكقوله: يا سوادى يا غبي وما يجري هذا المجرى. فإن كل فاسق فهو أحمق وجاهل، ولولا حمقه لما عصى الله تعالى بل كل من ليس بكيس فهو أحمق. والكيس من شهد له رسول الله ﷺ بالكياسة حيث قال: "الكيس من دان نفسه وعمل ملا بعد الموت. والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله".
    ولهذه الرتبة أدبان؛ أحدهما: أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف. والثاني: أن لا ينطق خطابه بهذه الكلمات الزاجرة ليست تزجره فلا ينبغي أن يطلقه. بل يقتصر على إظهار الغضب والاستحقار له والازدراء بمحله لأجل معصيته. وإن علم أنه لو تكلم ضرب ولو اكفهر وأظهر الكراهة بوجهه لم يضرب لزمه ولم يكفه الإنكار بالقلب، بل يلزمه أن يقطب وجهه ويظهر الإنكار له.
    الدرجة الخامسة: التغيير باليد؛ وذلك ككسر الملاهي وإراقة الخمر وخلع الحرير من رأسه وعن بدنه ومنعه من الجلوس عليه ودفعه عن الجلوس على مال الغير وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله وإخراجه من المسجد إذا كان جالساً وهو جنب وما يجري مجراه، ويتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض.
    فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها، وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة.
    وفي هذه الدرجة أدبان، أحدهما: أن لا يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن تكليف المحتسب عليه ذلك، فإذا أمكنه أن يكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجد فلا ينبغي أن يدفعه أو يجره، وإذا قدر على أن يكفه إراقة الخمر وكسر الملاهي وحل درور ثوب الحرير فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه، فإن في الوقت الوقوف على حد الكسر نوع عسر، فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه وتولاه من لا حجر عليه في فعله.
    الثاني: أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه، وهو أن لا يأخذ بلحيته في الإخراج، ولا برجله إذا قدر على جره بيده؛ فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه، وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط، ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر. وحد الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء، وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلاً، فإن لم يقدر عليها إلا بأن يرمي ظروفها بحجر فله ذلك، وسقطت قيمة الظرف وتقومه بسبب الخمر إذ صار حائلاً بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر، ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه بالجرح والضرب لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذن لا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه. ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرءوس ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق ومنعوه فله كسرها، فهذا عذر. وإن كان لا يحذر ظفر الفساق به ومنعهم ولكن كان يضيع في زمانه وتتعطل عليه أشغاله فله أ، يكسرها فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله لأجل ظرف الخمر، وحيث كانت الإراقة متيسرة بلا كسر فكسره لزمه الضمان.
    فإن قلت: فهلا جاز الكسر لأجل الزجر? وهلا جاز الجر بالرجل في الإخراج عن الأرض المغصوبة ليكون ذلك أبلغ في الزجر? فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل، والعقوبة تكون على الماضي، والدفع على الحاضر الراهن. وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر، فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق. وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية. نعم الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه وأقول: له أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمور زجراً. وقد فعل ذلك في زمن رسول الله ﷺ تأكيداً للزجر ولم يثبت نسخه ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة. فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك. وإذا كان هذا منوطاً بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية.
    فإن قلت: فليجز للسلطان زجل الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم وتخريب دورهم التي فيها يشربون ويعصون وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون إلى المعاصي? فاعلم أن ذلك لو ورد الشرع به لم يكن خارجاً عن سنن المصالح ولكنا لا نبتدع المصالح بل نتبع فيها. وكسر ظروف الخمر قد ثبت عند شدة الحاجة. وتركه بعد ذلك لعدم شدة الحاجة لا يكون نسخاً بل الحكم يزول بزوال العلة ويعود بعودها. وإنما جوزنا ذلك للإمام بحكم الإتباع ومنعنا آحاد الرعية منه لخفاء وجه الاجتهاد فيه. بل نقول لو أريقت الخمور أولاً فلا يجوز كسر الأواني بعدها وإنما جاز كسرها تبعاً للخمر. فإذا خلت عنها فهو إتلاف مال إلا أن تكون ضارية بالخمر لا تصلح إلا لها.
    فكان الفعل المنقول عن العصر الأول كان مقروناً بمعنيين؛ أحدهما: شدة الحاجة إلى الزجر، والآخر: تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها. وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما. ومعنى ثالث: وهو صدوره عن رأي صاحب الأمر لعلمه بشدة الحاجة إلى الزجر وهو أيضاً مؤثر فلا سبيل إلى إلغائه. فهذه تصرفات دقيقة فقهية يحتاج المحتسب لا محالة إلى معرفتها.
    الدرجة السادسة: التهديد والتخويف؛ كقوله دع عنك هذا أولاً كسرن رأسك أو لأضربن رقبتك أو لآمرن بك وما أشبهه، وهذا ينبغي أن يقدم على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه. والأدب في هذه الرتبة أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه، كقوله لأنهين دارك أو لأضربن ولدك أو لأسببن زوجتك وما يجري مجراه، بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام، وإن قاله من غير عزم فهو كذب. نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستخفاف فله العزم عليه إلى حد معلوم يقتضيه الحال، وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه. وليس ذلك من الكذب المحذور بل المبالغة في مثل ذلك معتادة وهو معنى مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين وتأليفه بين الضرتين، وذلك مما قد رخص فيه للحاجة وهذا في معناه، فإن القصد به إصلاح ذلك الشخص. وإلى هذا المعنى بما لا يفعل، وهذا غير مرضي عندنا فإن الكلام القديم لا يتطرق إليه الخلف وعداً كان أو وعيداً، وإنما يتصور هذا في حق العباد، وهو كذلك إذا لخلف في الوعيد ليس بحرام.
    الدرجة السابعة: مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح، وذلك جائز للآحاد بشرط الحق إلى الآداء بالحبس، فإن أصر المحبوس وعلم القاضي قدرته على أداء الحق وكونه معانداً فله أن يلزمه الأداء بالضرب على التجريج كما يحتاج إليه. وكذلك المحتسب يراعي التدريج فإن احتاج إلى شهر سلاح و كان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح فله أن يتعاطى ذلك ما لم تثر فتنة. كما لو قبض فاسق مثلاً على امرأة وكان يضرب بمزمار معه وبينه وبين المحتسب نهر حائل أو جدار مانع فيأخذ قوسه ويقول له: خل عنها أو لأرمينك. إن لم تخل عنها فله أن يرمى وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبهه ويراعي فيه التدريج. وكذلك يسل سيفه ويقول اترك هذا المنكر أو لأضربنك. فكل ذلك دفع المنكر ودفعه واجب بكل ممكن. ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله وما يتعلق بالآدميين.
    وقالت المعتزلة: ما لا يتعلق بالآدميين فلا حسبة فيه إلا بالكلام أو بالضرب ولكن للإمام لا للآحاد.
    الدرجة الثامنة: أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح. وربما يستمد الفاسق أيضاً بأعوانه ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا. فهذا قد ظهر الختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام. فقال قائلون: لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد.
    وقال آخرون: لا يحتاج إلى الإذن - وهو الأقيس - لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث. وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب. والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف. ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه. ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعاً لأهل الكفر. فكذلك قمع أهل الفساد جائز لأن الكافر لا بأس بقتله والمسلم إن قتل فهو شهيد. فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله. والمحتسب المحق إن قتل مظلوماً فهو شهيد. وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة. فلا يغير به قانون القياس. بل يقال: كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وبسلاحه وبنفسه وبأعوانه. فالمسألة إذن محتملة - كما ذكرناه - فهذه درجات الحسبة فلنذكر آدابها والله الموفق.
    باب آداب المحتسب قد ذكرنا تفاصيل الآداب في آحاد الدرجات. ونذكر الآن جملها ومصادرها فنقول جميع آداب المحتسب مصدرها ثلاث صفات في المحتسب: العلم. والورع. وحسن الخلق.
    أما العلم: فليعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقتصر على حد الشرع فيه.
    والورع: ليردعه عن مخالفة معلومة فما كل من علم عمل بعلمه. بل ربما يعلم أنه مسرف في الحسبة وزائد على الحد المأذون فيه شرعاً ولكن يحمله عليه غرض من الأغراض. وليكن كلامه ووعظه مقبولاً فإن الفاسق يهزأ به إذا احتسب ويورث ذلك جراءة عليه.
    وأما حسن الخلق: فليتمكن به من اللطف والرفق وهو أصل الباب وأسبابه. والعلم والورع لا يكفيان فيه. فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله بحسن الخلق. وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق والقدرة على ضبط الشهوة والغضب. وبه يصبر المحتسب على ما أصابه في دين الله. وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه بشتم أو ضرب نسي الحسبة وغفل عن دين الله واشتغل بنفسه. بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم.
    فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القربات وبها تندفع المنكرات. وإن فقدت لم يندفع المنكر. بل ربما كانت الحسبة أيضاً منكرة لمجاوزة حد الشرع فيها ودل على هذه الآداب قول ﷺ "لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه" وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه، وهذا يدل على أنه يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيهاً مطلقاً بل فيما يأمر به وينهي عنه وكذا الحم. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: إذا كانت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وقد قيل: لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله
    من ذم شيئاً وأتى مثلـه فإنما يزرى على عقله
    ولسنا نعني بهذا أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعاً بالفسق ولكن يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه للناس. فقد روى عن أنس رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله. فقال ﷺ "بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله" وأوصى بعض السلف بنيه فقال: إن أراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه على الصبر وليثق بالثواب من الله فمن وثق بالثواب من الله لم يجد مس الأذى، فإذن من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر. ولذلك قرن الله تعالى الصبر: بالأمر بالمعروف. فقال حاكياً عن لقمان: "يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك".
    ومن الآداب تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة فقد روي عن بعض المشايخ أنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئاً من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكراً، فدخل الدار أولاً وأخرج السنور، ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب: لا أعطينك بعد هذا شيئاً لسنورك، فقال: ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك. وهو كما قال فمن لم يقطع الطمع من الخلق لم يقدر على الحسبة ومن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة وألسنتهم بالثناء عليه مطلقة لم تتيسر له الحسبة. قال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني: كيف منزلتك بين قومك? قال: حسنة، قال: إن التوارة تقول، إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه. فقال أبو مسلم: صدقت التوراة وكذب أبو مسلم.
    ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذ وعظه واعظ وعنف له في القول فقال: يا رجل ارفق فقد بعثت الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى: "فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى" فليكن اقتداء المحتسب في الرفق بالأنبياء صلوات الله عليهم. فقد روى أبو إمامة: أن غلاماً شاباً أتى النبي ﷺ فقال: يا نبي الله تأذن لي في الزنا? فصاح الناس به، فقال النبي ﷺ "قربوه أدن" فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي عليه الصلاة والسلام "أتحبه لأمك?" فقال: لا جعلني الله فداك، قال: "كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم أتحبه لابنتك?" قال: لا جعلني الله فداك، قال "كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك?" وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد: لا، جعلني الله فداك. وهو ﷺ يقول: "كذلك الناس لا يحبونه" وقالا جميعاً في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر فوضع رسول الله ﷺ يده على صدره وقال: "اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه" يعني من الزنا.
    وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله: إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال الفضيل: ما أخذ منهم إلا دون قه، ثم خلا به وعذله ووبخه فقال سفيان: يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين فإنا لنحب الصالحين. وقال حماد ابن سلمة: إن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال: دعوني أنا أكفيكم، فقال: يا ابن أخي إن لي إليك حاجة قال: وما حاجتك يا عم? قال: أحب أن ترفع من إزارك. فقال: نعم وكرامة، فرفع إزاره فقال لأصحابه: لو أخذتموه بشدة لقال: لا ولا كرامة وشتمكم. وقال محمد بن زكريا الغلابي: شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله، وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه، فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس: تنحوا عن ابن أخي، ثم قال: إلي يا ابن أخي؛ فاستحي الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه، ثم قال له: امض معي، فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه: بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف؛ فقال الغلام: قد أمر أن تأتيه؛ فأدخله عليه فقال له. أما استحييت لنفسك? أما استحييت لشرفك? أما ترى من ولدك? فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكساً رأسه ثم رفع رأسه وقال: عاهدت الله تعالى عهداً يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب، فقال: ادن مني، فقبل رأسه وقال أحسنت يا بني فكان عن الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث: وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال: إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكراً فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون. وعن الفتح بن شخرف قال: تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره، وكان الرجل شديد البدن؛ فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه وحكم كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض؛ ومشى بشر فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقاً كثيراً ومضت المرأة لحالها فسألوه ما حالك? فقال: ما أدري! ولكن حاكني شيخ وقال لي: إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل؛ فضعفت لقوله قدما وهبته هيبة شديدة ولا أدري من ذلك الرجل? فقالوا له: هو بشر بن الحارث، فقال: وا سوأتاه كيف ينظر إلي بعد اليوم? وحم الرجل من يومه وماتت يوم السابع، فكذلك كانت عادة أهل الدين في الحسبة. وقد نقلنا فيها آثاراً وأخباراً في باب البغض في الله والحب في الله من كتاب آداب الصحبة فلا نطول بالإعادة. فهذا تمام النظر في درجات الحسبة وآدابها والله الموفق بكرمه والحمد لله على جميع نعمه.
    =========
    الباب الثالث
    في المنكرات المألوفة في العادات
    فنشير إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها إذ لا مطمع في حصرها واستقصائها
    فمن ذلك منكرات المساجد
    اعلم أن المنكرات تنقسم إلى مكروهة وإلى محظورة، فإذا قلنا: هذا منكر مكروه. فاعلم أ، المنع منه مستحب والسكوت عيه مكروه وليس بحرام، إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه فيجب ذكره له لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه. وإذا قلنا منكر محظور، أو قلنا منكر مطلقاً، فنريد به المحظور ويكون السكوت عليه مع القدرة محظوراً.
    فمما يشاهد كثيراً في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وهو منكر مبطل للصلاة بنص الحديث فيجب النهير عنه إلا عند الحنفي الذي يعتقد أن ذلك لا يمنع صحة الصلاة، إذ لا ينفع النهي معه. ومن رأى مسيئاً في صلاته فسكت عليه فهو شريكه. هكذا ورد به الأثر. وفي الخبر ما يدل عليه، إذ ورد في الغيبة أن المستمع شريك القائل وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة من نجاسة على ثوبه لا يراها، أو انحراف عن القبلة بسبب ظلام أو عمى فكل ذلك تجب الحسبة فيه.
    ومنها قراءة القرآن باللحن يجب النهي عنه ويجب تلقين الصحيح. فإن كان المعتكف في المسجد يضيع أكثر أوقاته في أمثال ذلك ويشتغل به عن التطوع والذكر فليشتغل به، فإن هذا أفضل من ذكره وتطوعه، لأن هذا فرض وهي قربة تتعدى فائدتها، فهي أفضل من نافلة تقتصر عليه فائدتها. وإن كان ذلك يمنعه عن الوراقة مثلاً أو عن الكسب الذي هو احتاج إلى الكسب لقوت يومه فهو عذر له فيسقط الوجوب عنه لعجزه والذي يكثر اللحن في القرآن إن كان قادراً على التعلم فليمتنع من القراءة قبل التعلم فإنه عاص به، وإن كان لا يطاوعه اللسان فإن كان أكثر ما يقرؤه لحناً فليتركه وليجتهد في تعلم الفاتحة وتصحيحها، وإن كان الأكثر صحيحاً وليس يقدر على التسوية فلا بأس له أن يقرأ، ولكن ينبغي أن يخفض به الصوت حتى لا يسمع غيره. ولمنعه سراً منه أيضاً وجه ولكن إذا كان ذلك منتهى قدرته وكان له أنس بالقراءة وحرص عليها فلست أرى به بأسا والله أعلم.
    ومنها تراسل المؤذنين في الآذان وتطويلهم بمد كلماته وانحرافهم عن صوب القبلة بجميع الصدر في الحيعلتين، أو انفراد كل واحد منهم بأذان ولكن من غير توقف إلى انقطاع أذان الآخر، بحيث يضطرب على الحاضرين جواب الأذان لتداخل الأصوات. فكل ذلك منكرات مكروهة يجب تعريفها. فإن صدرت عن معرفة فيستحب المنع منها والحسبة فيها. وكذلك إذا كان للمسجد مؤذن واحد وهو يؤذن قبل الصبح فينبغي أن يمنع من الأذان بعد الصبح، فذلك مشوش للصوم والصلاة على الناس إلا إذا عرف أنه يؤذن قبل الصبح حتى لا يعول على أذانه في صلاة وترك سحور. أو كان معه مؤذن آخر معروف الصوت يؤذن مع الصبح.
    ومن المكروهات أيضاً تكثير الأذان مرة بعد أخرى بعد طلوع الفجر في مسجد واحد في أوقات متعاقبة متقاربة، إما من واحد أو جماعة، فإنه لا فائدة فيه، إذا لم يبق في المسجد نائم ولم يكن الصوت مما يخرج عن المسجد حتى ينبه غيره فكل ذلك من المكروهات المخالفة لسنة الصحابة والسلف.
    ومنها أن يكون الخطيب لابساً لثوب أسود يغلب عليه الإبريسم، أو ممسكاً لسيف مذهب فهو فاسق والإنكار عليه واجب، وأما مجرد السواد فليس بمكروه لكنه ليس بمحبوب إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض. ومن قال إنه مكروه وبدعة أراد به أنه لم يكن معهوداً في العصر الأول، ولكن إذا لم يرد فيه نهي فلا ينبغي أن يسمى بدعة ومكروهاً ولكنه ترك للأحب.
    ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون بكلامهم البدعة. فالقاص إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب، وكذا الواعظ المبتدع يجب منعه ولا يجوز حضور مجلسه إلا على قصد إظهار الرد عليه؛ إما للكافة إن قدر عليه أو لبعض الحاضرين حواليه فإن لم يقدر فلا يجوز سماع البدع. قال الله تعالى لنبيه: "فاعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره". ومهما كان كلامه مائلاً إلى الإرجاء وتجرئة الناس على المعاصي، وكان الناس يزدادون بكلامه جراءة وبعفو الله وبرحمته وثوقاً يزيد بسببه رجاؤهم على خوفهم منكر، ويجب منعه عنه لأن فساد ذلك عظيم، بل لو رجح خوفهم على رجائهم فذلك أليق وأقرب بطباع الخلق فإنهم إلى الخوف أحوج وإنما العدل تعديل الخوف والرجاء كما قال عمر رضي الله عنه: لو نادى مناد؛ ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلاً واحداً، لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل. ومهما كان الواعظ شاباً متزيناً للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات والحركات وقد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه، فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح، ويتبين ذلك منه بقرائن أحواله. بل لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين، وإلا فلا يزداد الناس به إلا تمادياً في الضلال، ويجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر فإن ذلك أيضاً مظنة الفساد، والعادات تشهد لهذه المنكرات، ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلوات ومجالس الذكر إذا خيفت الفتنة بهن فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها: إن رسول الله ﷺ ما منعهن من الجماعات، فقالت: لو علم رسول الله ﷺ ما أحدثن بعده لمنعهن وأما اجتياز المرأة في المسجد مستترة فلا تمنع منه إلا أن الأولى أن لا تتخذ المسجد مجازاً أصلاً. وقراءة القراء بين يدي الوعاظ مع التمديد والألحان على وجه يغير نظم القرآن، ويجاوز حد التنزيل منكر مكروه شديد الكراهة أنكره جماعة من السلف.
    ومنها الحق يوم الجمعة لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات، وكقيام السؤال وقراءتهم القرآن وإنشادهم الأشعار وما يجري مجراه، فهذه الأشياء منها ما هو محرم لكونه تلبيساً وكذباً، كالكذابين من طرقية الأطباء وكأهل الشعبذة والتلبيسات وكذا أرباب التعويذات في الأغلب يتوصلون إلى بيعها بتلبيسات على الصبيان والسوادية فهذا حرام في المسجد وخارج المسجد ويجب المنع منه. بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فهو حرام.
    ومنها ما هو مباح خارج المسجد كالخياطة وبيع الأدوية والكتب والأطعمة، فهذا في المسجد أيضاً لا يحرم إلا بعارض وهو أن يضيق المحل على المصلين ويشوش عليهم صلاتهم، فإن لم يكن شيء من ذلك فليس بحرام والأولى تركه ولكن شرط إباحته أن يجري في أوقات نادرة وأيام معدودة، فإن اتخاذ المسجد دكاناً على الدوام حرم ذلك ومنع منه. فمن المباحات ما يباح بشرط القلة فإن كثر صار صغيرة. كما أن من الذنوب ما يكون صغيرة بشرط عدم الإصرار فإن كان القليل من هذا لو فتح بابه لخيف منه أن ينجر إلى الكثير فليمنع منه، وليكن هذا المنع إلى الوالي أو إلى القيم بمصالح المسجد من قبل الوالي لأنه لا يدرك ذلك بالاجتهاد، وليس للآحاد المنع مما هو مباح في نفسه لخوفه أن ذلك يكثر.
    ومنها دخول المجانين والصبيان والسكارى في المسجد، ولا بأس بدخول الصبي المسجد إذا لم يعلب، ولا يحرم عليه اللعب في المسجد ولا السكوت على لعبه إلا إذا اتخذ المسجد ملعباً وصار ذلك معتاداً فيجب المنع منه، فهذا مما يحل قليله دون كثيره، ودليل حل قليله ما روي في الصحيحين "أن رسول الله ﷺ وقف لأجل عائشة رضي الله عنها حتى نظرت إلى الحبشة يزفنون ويلعبون بالدرق والحراب يوم العيد في المسجد"، ولا شك في أن الحبشة لو اتخذوا المسجد ملعباً لمنعوا منه، ولم ير ذلك على الندرة والقلة منكراً حتى نظر إليه، بل أمرهم به رسول الله ﷺ لتبصرهم عائشة تطييباً لقلبها إذ قال دونكم "يا بني أرفدة" كما نقلناه في كتاب السماع. وأما المجانين فلا بأس بدخولهم المسجد إلا أن يخشى تلويثهم له، أو شتمهم أو نطقهم مما هو فحش، أو تعاطيهم لما هو منكر في صورته ككشف العورة وغيره. وأما المجنون الهادئ الساكن الذي قد علم بالعادة سكونه وسكوته فلا يجب إخراجه من المسجد. والسكران في معنى المجنون فإن خيف منه القذف - أعني القيء - أو الإيذاء باللسان وجب إخراجه. وكذا لو كان مضطرب العقل فإنه يخاف ذلك منه، وإن كان قد شرب ولم يسكر والرائحة منه تفوح فهو منكر مكروه شديد الكراهة. وكيف لا ومن أكل الثوم والبصل، فقد نهاه رسول الله ﷺ عن حضور المساجد? ولكن يحمل ذلك على الكراهة والأمر في الخمر أشد.
    فإن قال قائل: ينبغي أن يضرب السكران ويخرج من المسجد زجراً قلنا: لا، بل ينبغي القعود في المسجد ويدعى إليه ويؤمر بترك الشرب مهما كان في الحال عاقلاً، فأما ضربه للزجر فليس ذلك إلى الآحاد بل هو إلى الولاة وذلك عند إقراره أو شهادة شاهدين، فأما لمجرد الرائحة فلا. نعم إذا كان يمشي بين الناس متمايلاً بحيث يعرف سكره فيجوز ضربه في المسجد وغير المسجد منعاً له عن إظهار أثر السكر، فإن إظهار أثر الفاحشة فاحشة والمعاصي يجب تركها، وبعد الفعل يجب سترها وستر آثارها، فإن كان مستتراً مخفياً لأثره فلا يجوز أن يتجسس لعيه. والرائحة قد تفوح من غير شرب. بالجلوس في موضع الخمر وبوصوله إلى الفم دون الابتلاع، فلا ينبغي أن يعول عليه.
    منكرات الأسواق
    من المنكرات المعتادة في الأسواق الكذب في المرابحة، وإخفاء العيب. فمن قال: اشتريت هذه السلعة مثلاً بعشرة وأربح فيها كذا وكان كاذباً فهو فاسق. وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتري بكذبه، فإن سكت مراعاة لقلب البائع كان شريكاً له في الخيانة وعصى بسكوته. وكذا إذا علم به عيباً فيلزمه أن ينبه المشتري عليه وإلا كان راضياً بضياع مال أخيه المسلم وهو حرام وكذا التفاوت في الذراع والمكيال والميزان يجب على كل من عرفه تغييره بنفسه أو رفعه إلى الوالي حتى يغيره.
    ومنها ترك الإيجاب والقبول والاكتفاء بالمعاطاة، ولكن ذلك في محل الاجتهاد فلا ينكر إلا على من اعتقد وجوبه. وكذا في الشروط الفاسدة المعتادة بين الناس يجب الإنكار فيها فإنها مفسدة للعقود. وكذا في الربويات كلها وهي غالبة. وكذا سائر التصرفات الفاسدة.
    ومنها بيع الملاهي وبيع أشكال الحيوانات المصورة في أيام العيد لأجل الصبيان، فتلك يجب كسرها والمنع من بيعها كالملاهي وكذلك بيع الأواني المتخذة من الذهب والفضة وكذلك بيع ثياب الحرير، وقلانس الذهب والحرير أعني التي لا تصلح إلا للرجال، أو يعلم بعادة البلد أنه لا يلبسه إلا لرجال، فكل ذلك منكر محظور وكذلك من يعتاد بيع الثياب المبتذلة المقصورة التي يلبس على الناس بقصارتها وابتذالها ويزعم أنها جديدة فهذا الفعل حرام والمنع منه واجب، وكذلك تلبيس انخراق الثياب بالرفو وما يؤدي إلى الالتباس، وكذلك جميع أنواع العقود المؤدية إلى التلبيسات وذلك يطول إحصاؤه. فليقس بما ذكرناه ما لم نذكره.
    منكرات الشوارع
    فمن المنكرات المعتادة فيها: وضع الاسطوانات، وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة. وغرس الأشجار، وإخراج الرواشن والأجنحة، ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطريق، فكل ذلك منكر ن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة وإن لم يؤد إلى ضرر أصلاً لسعة الطريق فلا يمنع منه نعم يجوز وضع الحطب وأحمال الأطعمة في الطريق في القدر الذي ينقل إلى البيوت، فإن ذلك يشترك في الحاجة إليه الكافة ولا يمكن المنع منه. وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث يضيق الطريق وينجس المجتازين منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب. وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة والمرعى هو الحاجة التي ترد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات.
    ومنها سوق الدواب وعليها الشوك بحيث يمزق ثياب الناس فذلك منكر إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق، أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع، وإلا فلا منع إذ حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك. نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة النقل. وكذلك تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيقه منكر يجب منع الملاك منه. وكذلك ذبح القصاب إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه، بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحاً فإن في ذلك تضييقاً بالطريق وإضراراً بالناس بسبب ترشيش النجاسة، وبسبب استقذار الطباع للقاذورات: وكذلك طرح القمامة على جواد الطرق، وتبديد قشور البطيخ. أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات وكذلك إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط في الطريق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب. أو يضيق الطريق، فلا يمنع منه في الطرق الواسعة إذ العدول عنه ممكن فأما ترك مياه المطر والأوحال والثلوج في الطرق من غير كسح فذلك منكر، ولكن ليس يختص به شخص معين، إلا الثلج الذي يختص بطرحه على الطريق واحد، والماء الذي يجتمع على الطريق من ميزاب معني، فعلى صاحبه على الخصوص كسح الطريق، إن كان من المطر فذلك حسبة عامة فعلى الولاة تكليف الناس القيام بها، وليس للآحاد فيها إلا الوعظ فقط وكذلك إذا كان له كلب عقور على باب داره يؤذي الناس فيجب منعه منه، وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه، وإن كان يضيق الطريق ببسطه ذراعيه فيمنع منه، بل يمنع صاحبه من أن ينام على الطريق أو يقعد قعوداً يضيق الطريق، فكلبه أولى بالمنع.
    منكرات الحمامات
    منها الصورة التي تكون على باب الحمام أو داخل الحمام يجب إزالتها على كل من يدخلها إن قدر، فإن كان الموضع مرتفعاً لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة فليعدل إلى حمام آخر. فإن مشاهدة المنكر غير جائزة ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها ولا يمنع من صور الأشجار وسائر النقوش سوى صورة الحيوان.
    ومنها كشف العورات والنظر إليها. ومن جملتها كشف الدلاك عن الفخذ وما تحت السرة لتنحية الوسخ بل جملتها إدخال اليد تحت الإزار فإن مس عورة الغير حرام كالنظر إليها.
    ومنها الانبطاح على الوجه بين يدي الدلاك لتغميز الأفخاذ والأعجاذ، فهذا مكروه إن كان مع حائل ولكن لا يكون محظوراً إذا لم يخشى من حركة الشهوة. وكذلك كشف العورة للحجام الذمي من الفواحش. فإن المرأة لا يجوز لها أن تكشف بدنها الذمية في الحمام فكيف يجوز لها كشف العورات للرجال? ومنها غمس اليد والأواني النجسة في المياه القليلة، وغسل الإزار والطاس النجس في الحوض وماؤه قليل؛ فإنه منجس للماء إلا على مذهب مالك فلا يجوز الإنكار فيه على المالكية ويجوز على الحنفية والشافعية وإن اجتمع مالكي وشافعي في الحمام فليس للشافعي منع المالكي من ذلك إلا بطريق الالتماس واللطف؛ وهو أن يقول له: إنا نحتاج أ، نغسل اليد أولاً ثم نغمسها في الماء، وأما أنت فمستغن عن إيذائي وتفويت الطهارة علي، وما يجري مجرى هذا، فإن مظان الاجتهاد لا يمكن الحسبة فيها بالقهر.
    ومنها أن يكون في مداخل بيوت الحمام ومجاري مياهها حجارة ملساء مزلق يزلق عليها الغافلون فهذا منكر، ويجب قلعه وإزالته وينكر على الحمامي إهماله فعنه يفضى إلى السقطة؛ وقد تؤدي السقطة إلى انكسار عضواً وانخلاعه وكذلك ترك السدر والصابون المزلق على أرض الحمام منكر؛ ومن فعل ذلك وخرج وتركه فزلق به إنسان وانكسر عضو من أعضائه، وكان ذلك في موضع لا يظهر فيه بحيث يتعذر الاحتراز عنه فالضمان متردد بين الذي تركه وبين الحمامي، إذ حققه تنظيف الحمام، والوجه إيجاب الضمان على تاركه في اليوم الأول، وعلى الحمامي في اليوم الثاني إذ عادة تنظيف الحمام كل يوم معتادة، والرجوع في مواقيت إعادة التنظيف إلى العادات، فليعتبر بها. وفي الحمام أمور أخر مكروهة ذكرناها في كتاب الطهارة فلتنظر هناك.
    منكرات الضيافة
    فمنها فرش الحرير للرجال فهو حرام. وكذلك تبخير البخور في مجمرة فضة أو ذهب، أو الشراب أو استعمال ماء الورد في أواني الفضة أو ما رءوسها من فضة.
    ومنها إسدال الستور وعليها الصور.
    ومنها سماع الأوتار أو سماع القينات.
    ومنها اجتماع النساء على السطوح للنظر إلى الرجال مهما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منهم، فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره. ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج، ومن لم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات. و أما الصور التي على النمارق والزرابي المفروشة فليس منكراً. وكذلك على الأطباق والقصاع، لا الأواني المتخذة على شكل الصور، فقد تكون رءوس بعض المجامر على شكل طير فذلك حرام يجب كسر مقدار الصورة منه. وفي المكحلة الصغيرة من الفضة خلاف، وقد خرج أحمد بن حنبل عن الضيافة بسببها. ومهما كان الطعام حراماً، أو كان الوضع مغصوباً أو كانت الثياب المفروشة حراماً فهو من أشد المنكرات، فإن كان من فيها من يتعاطى شرب الخمر وحده فلا يجوز الحضور، إذ لا يحل حضور مجالس الشرب وإن كان مع ترك الشرب، ولا يجوز مجالسة الفاسق في حالة مباشرته للفسق، وإنما النظر في مجالسته بعد ذلك، وأنه هل يجب بغضه في الله ومقاطعته كما ذكرناه في باب الحب والبغض في الله? وكذلك إن كان فيهم من يلبس الحرير أو خاتم الذهب فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه من غير ضروره. فإن كان الثوب على صبي غير بالغ فهذا في محل النظر. والصحيح أن ذلك منكر ويجب نزعه عنه إن كان مميزاً لعموم قوله عليه السلام، "هذان حرام على ذكور أمتي" وكما يجب منع الصبي من شرب الخمر - لا لكونه مكلفاً، لكن لأنه يأنس به، فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه - فكذلك شهوة التزين بالحرير تغلب عليه إذا اعتاده، فيكون ذلك بذراً للفساد يبذر في صدره، فتنبت منه شجرة من الشهوة راسخة يعسر قلعها بعد البلوغ. أما الصبي الذي لا يميز فيضعف معنى التحريم في حقه ولا يخلو عن احتمال والعلم عند الله فيه والمجنون في معنى الصبي الذي لا يميز، نعم يحل التزين بالذهب والحرير للنساء من غير إساف. ولا أرى رخصة في تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلق الذهب فيها، فإن هذا جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان: والتزين بالحلق غير مهم بل في التقريط بتعليقه على الأذن وفي المخانق والأسورة كفاية عنه. فهذا وإن كان معتاداً فهو حرام والمنع منه واجب، والاستئجار عليه غير صحيح، والأجرة المأخوذة عليه حرام؛ إلا أن يثبت من جهة النقل فيه رخصة، ولم يبلغنا إلى الآن فيه رخصة.
    ومنها أن يكون في الضيافة مبتدع لا يتكلم ببدعته فيجوز الحضور مع إظهار الكراهة عليه والإعراض عنه كما ذكرناه في باب البغض في الله. وإن كان فيها مضحك بالحكايات وأنواع النوادر فإن كان يضحك بالفحش والكذب لم يجز الحضور وعند الحضور يجب الإنكار عليه، وإن كان ذلك بمزح لا كذب فيه ولا فحش فهو مباح - أعني ما يقل منه - فأما اتخاذه صنعة وعادة ف ليس بمباح. وكل كذب لا يخفى أنه كذب ولا يقصد به التلبيس فليس من جملة المنكرات، كقول الإنسان مثلاً: طلبتك اليوم مائة مرة، وأعدت عليك الكلام ألف مرة؛ وما يجري مجراه مما يعلم أنه ليس يقصد به التحقيق فذلك لا يقدح في العدالة ولا ترد الشهادة به. وسيأتي حد المزا المباح والكذب المباح في كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات.
    ومنها الإسراف في الطعام والبناء فهو منكر، بل في المال منكران؛ أحدهما: الإضاعة. والآخر: الإسراف.
    فالإضاعة: تفويت مال بلا فائدة يعتد بها كإحراق الثوب وتمزيقه، وهدم البناء من غير غرض. والقاء المال في البحر، وفي معناه صرف المال إلى النائحة والمطرب، وفي أنواع الفساد لأنها فوائد محرمة شرعاً فصارت كالمعدومة.
    وأما الإسراف: فقد يطلق لإرادة صرف المال إلى النائحة والمطرب والمنكرات، وقد يطلق على الصرف إلى المباحات في جنسها ولكن مع المبالغة.
    والمبالغة تختلف بالإضافة إلى الأحوال فنقول: من لم يملك إلا مائة دينار مثلاً ومعه عياله وأولاده ولا معيشة لهم سواه فأنفق الجميع في وليمة فهو مسرف يجب منعه قال تعالى: "ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً" نزل هذا في رجل بالمدينة قسم جميع ماله ولم يبق شيئاً لعياله فطولب بالنفقة فلم يقدر على شيء وقال تعالى: "ولا تبذر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين" وكذلك قال عز وجل: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا" فمن يسرف هذا الإسراف ينكر عليه ويجب على القاضي أن يحجر عليه؛ إلا إذا كان الرجل وحده وكان له قوة في التوكل صادقة؛ فله أن ينفق جميع ماله في أبواب البر. ومن له عيال أو كان عاجزاً عن التوكل فليس له أن يتصدق بجميع ماله. وكذلك لو صرف جميع ماله إلى نقوش حيطانه؛ وتزيين بنيانه فهو أيضاً إسراف محرم، وفعل ذلك له ممن له مال كثير ليس بحرام لأن التزيين من الأغراض الصحيحة، ولم تزل المساجد تزين وتنقش أبوابها وسقوفها مع أن نقش الباب والسقف لا فائدة فيه إلا مجرد الزينة، فكذا الدور، وكذلك القول في التجمل بالثياب والأطعمة فذلك مباح في جنسه، ويصير إسرافاً باعتبار حال الرجل وثروته: وأمثال هذه المنكرات كثيرة لا يمكن حصرها. فقس بهذه المنكرات المجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات الصوفية وخانات الأسواق فلا تخلو بقعة عن منكر مكروه أو محذور، واستقصاء جميع المنكرات يستدعي استيعاب جميع تفاصيل الشرع أصولها وفروعها فلنقتصر على هذا القدر منها.
    المنكرات العامة
    اعلم أن كل قاعد في بيته - أينما كان - فليس خالياً من هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف، فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي? ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق، وواجب أن يكون في مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب على كل فقيه - فرع من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية - أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم، ويستصحب مع نفسه زاداً يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب، فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين.
    أما العالم فلتقصيره في الخروج. وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم.
    وكل عامي عرف شوط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم. ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالماً بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم، فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها. ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق: لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمراً لا بد منه في صلاح الخلق. وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله ﷺ فإن العلماء هم ورثة الأنبياء. وللإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة، بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي. وكذا كل من تيقن أن في السوق منكراً يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت، بل يلزمه الخروج، فإن كان لا يقدر على تغيير الجميع وهو محترز عن مشاهدته ويقدر على البعض لزمه الخروج، لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر عليه، وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات، ثم يعلم ذلك أهل بيته، ثم يتعدى بعد الفراغ منم إلى جيرانه، ثم إلى أهل محلته، ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادى المكتنف ببلده، ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم، وهكذا إلى أقصى العالم، فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به على كل قادر عليه قريباً كان أو بعيداً، ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه وبغيره فيعلمه فرضه، وهذا اشغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه.
    ===========
    الباب الرابع
    في أمر الأمراء والسلاطين ونهيهم عن المنكر
    قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف، وثانيه الوعظ، وثالثه التخشين في القول، ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة. والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما: التعريف والوعظ. وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر، ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر، وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه فذاك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه. فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة. قال رسول الله ﷺ "خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك" وقال ﷺ "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر" ووصف النبي ﷺ عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: "قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ماله من صديق" ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر، وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار، قدموا على ذلك موطنين أنفسهم وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل علماء السلف، وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام، و نقتصر الآن على حكايات يعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم.
    فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصوا رسول الله ﷺ بالسوء. وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال: قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشاً نالت من رسول الله ﷺ فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا وشتم أباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا، ولقد صبرنا منه على أمر عظيم - أو كما قالوا - فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله ﷺ فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفاً بالبيت، فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله ﷺ ثم مضى، فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام ثم مضى، فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ثم قال: "أتسمعون يا معشر قريش: أما والذي نفس محمد بيده فقد جئتكم بالذبح" قال: فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع، حتى أن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول، حتى إنه ليقول: انصرف يا أبا القاسم راشداً فوالله ما كنت جهولاً قال: فانصرف رسول الله ﷺ حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض: ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه؛ فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله ﷺ فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا? أنت الذي تقول كذا? لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم، قال: فيقول رسول الله ﷺ "نعم أنا الذي أقول ذلك" قال: فلقد رأيت رجل منهم أخذ بمجامع ردائه قال: وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول - وهو يبكي - ويلكم أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله?: ثم انصرفوا عنه وإن ذلك لأشد ما رأيت قريشاً بلغت منه وفي رواية أخرى عند عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: بينا رسول الله ﷺ بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله ﷺ فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقاً شديداً فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله ﷺ وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم? وروي أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له: يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك. قال: فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال لهم: مكانكم! وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال: إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول " الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليغتسل" وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم أنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم. وروي عن ضبة بن محصن العنزي قال كان عينا أبو موسى الأشعري أمير بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي ﷺ وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال: فغاظني ذلك منه، فقمت إليه فقلت له: أين أنت من صاحبه تفضله عليه? فضع ذلك جمعاً ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول: إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي. فكتب إليه عمر: أن أشخصه إلي. قال: فاشخصني إليه فقدمت فضربت عليه الباب لخرج إلي فقال: من أنت? فقلت: أنا ضبة فقال لي: لا مرحباً ولا أهلاً، قلت: أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال. فبماذا استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ولا شيء أتيته? فقال: ما الذي شجر بينك وبين عاملي? قال: قلت الآن أخبرك به، إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي ﷺ ثم أنشأ يدعو لك فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له أين أنت من صاحبه تفضله عليه? فضع ذلك جمعاً ثم كتب إليك يشكوني. قال: فاندفع عمر رضي الله عنه باكياً وهو يقول أنت والله أوفق منه وأرشد، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك? قال: قلت غفر الله لك يا أمير المؤمنين. قال: ثم اندفع باكياً وهو يقول: والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه. قلت: نعم، قال:
    أما الليلة: فإن رسول الله ﷺ لما أراد الخروج من مكة هارباً من المشركين خرج ليلاً فتبعه أبو بكر، فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره، فقال رسول الله ﷺ "ما هذا يا أبا بكر? ما أعرف هذا من فعلك" فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك، وأذكر الطلب فأكون خلفك، ومرة عن يمينك، ومرة عن يسارك، لا آمن عليك. قال: فمشي رسول الله ﷺ ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت؛ فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فمم الغار فأنزله، ثم قال: والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك، قال: فدخل فلم ير فيه شيئاً فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع فألقمه أبو بكر قدمه مخافة أن يخرج منه شيء إلى رسول الله ﷺ فيؤذيه، وجعلن يضربن أبا بكر في قدمه وجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألم ما يجد ورسول الله ﷺ يقول له "يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا"، فأنزل الله سكينته عليه والطمأنينة لأبي بكر فهذه ليلته.
    وأما يومه فلما توفي رسول الله ﷺ ارتدت العرب فقال بعضهم: نصلي ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحاً فقلت: يا خليفة رسول الله ﷺ تألف الناس وارفق بهم. فقال لي: أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام? فبماذا أتألفهم? قبض رسول الله ﷺ وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالاً كانوا يعطونه رسول الله ﷺ لقاتلتهم عليه، قال: فقاتلنا عليه فكان والله رشيد الأمر. فهذا يومه. ثم كتب إلى أبي موسى يلومه.
    وعن الأصمعي قال: دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان - وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجة في خلافته - فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له: يا أبا محمد ما حاجتك? فقال: يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة، واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس، واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين، وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم، واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم. فقال له: أجل أفعل، ثم نهض وقام. فقبض عليه عبد الملك فقال: يا أبا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت? فقال: مالي إلى مخلوق حاجة. ثم خرج فقال عبد الملك: هذا وأبيك الشرف! وقد روي أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يوماً: قف على الباب فإذا مر بك رجل فأدخله علي ليحدثني. فوقف الحاجب على الباب مدة فمر به عطاء بن أبي رباح وهو لا يعرفه فقال له: يا شيخ أدخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك؛ فدخل عطاء على الوليد على حاجبه وقال له. ويلك أمرتك أن تدخل إلى رجلاً يحدثني ويسامرني فأدخلت إلي رجلاً لم يرضى أن يسميني بالاسم الذي اختاره الله لي. فقال له حاجبه: ما مر بي أحد غيره، ثم قال لعطاء: اجلس، ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له: بلغنا أن في جهنم وادياً يقال له هبهب أعده الله لكل إمام جائر في حكمه. فصعق الوليد من قوله، وكان جالساً بين يدي عتبة باب المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشياً عليه؛ فقال عمر لعطاء: قتلت أمير المؤمنين. فقبض عطاء على ذراع عمر ابن عبد العزيز فغمزه غمرة شديدة وقال له: يا عمر إن الأمر جد فجد، ثم قام عطاء وانصرف. فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال: مكنت سنة أجد ألم غمزته في ذراعي. وكان ابن أبي شميلة يوصف بالعقل والأدب؛ فدخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك: تكلم، قال: بم أتكلم وقد علمت أن كل كلام تكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان لله? فبكي عبد الملك ثم قال: يرحمك الله لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون، فقال الرجل: يا أمير المؤمنين إن الناس في القيامة لا ينجون من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه؛ فبكى عبد الملك ثم قال: لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالاً نصب عيني ما عشت. ويروى عن ابن عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة فدخلنا عليه، ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل، فقال الحجاج مرحباً بأبي سعيد إلي إلي، ثم دعا بكرس فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه؛ فجعل الحجاج يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة له وفرقاً من شره؛ والحسن ساكت عاض على إبهامه؛ فقال: يا أبا سعيد مالي أراك ساكتاً? قال: ما عسيت أن أقول? قال: أخبرني برأيك في أبي تراب، قال: سمعت الله جل ذكره يقول: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم" فعلي ممن هدى الله من أهل الإيمان، فأقول: ابن عم النبي عليه السلام وختنه على ابنته وأحب الناس إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه ولا يحول بينه وبينها. وأقول: إن كانت لعلي هناة فالله حسبه والله ما أجد فيه قولاً أعدل من هذا. فبسروجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضباً فدخل بيتاً خلفه وخرجنا. قال عامر الشعبي: فأخذت بيد الحسن فقلت: يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره، فقال: إليك عني يا عامر، يقول الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة. أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر الشعبي عالم أهل الكوفة. أتيت شيطاناً من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلت فصدقت، أو سكت فسلمت? قال عامر: يا أبا سعيد قد قلتها وأنا أعلم ما فيها، قال الحسن: فذاك أعظم من الحجة عليك وأشد في التبعة. قال: وبعث الحجاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال: أنت الذي تقول قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار
    والدرهم? قال: نعم، قال ما حملك على هذا? قال: ما أخذ الله على العلماء من المواثيق "ليبيننه للناس ولا يكتمونه" قال يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرق بين رأسك وجسدك. وحكى أن حطيطاً الزيات جيء به إلى الحجاج فلما دخل عليه قال: أنت حطيط? قال: نعم، سل عما بدا لك، فإني عاهدت الله - عند المقام - على ثلاث خصال: إن سئلت لأصدقن، وإن ابتليت لأصبرن، وإن عوفيت لأشكرن. قال: فما تقول في? قال: أقول إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة. قال: فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان? قال: أقول إنه أعظم جرماً منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه. قال: فقال الحجاج، ضعوا عليه العذاب. قال: فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئاً. قال: فقيل للحجاج إنه في آخر رمق فقال: أخرجوه فارموا به في السوق. قال جعفر: فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له: حطيط ألك حاجة? قال: شربة ماء فأتوه بشربة ثم مات، وكان ابن ثمان عشرة سنة رحمة الله عليه. وروى أن عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامر الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علماً، ثم أقبل على الحسن البصري فسأله، ثم قال: هما هذان، هذا رجل أهل الكوفة - يعني الشعبي - وهذا رجل أهل البصرة - يعني الحسن - فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن. فأقبل على الشعبي فقال: يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما يصلحهم مع النصيحة لهم، وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه، وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة. فهل علي في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت? قال الشعبي. فقلت أصلح الله الأمير إنما السلطان والد يخطئ ويصيب، قال. فسر بقولي وأعجب به ورأيت البشر على وجهه وقال فلله الحمد، ثم أقبل على الحسن فقال: ما تقول يا أبا سعيد قال: قد سمعت قول الأمير يقول إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم، وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله ﷺ يقول: قال رسول الله ﷺ "من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة" ويقول: إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن يرجعوا إلى طاعتهم، فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه، وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، فأعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقاً لكتاب الله فخذ به وإن وجدته مخالفاً لكتاب الله فانبذه؛ يا ابن هبيرة اتق الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتقدم على ربك وتنزل على عملك؛ يا ابن هبيرة إن الله ليمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين. فقال ابن هبيرة: أربع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين؛ فإن أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى ما ولاه من أمر هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته. فقال الحسن: يا ابن هبيرة، الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد، يا ابن هبيرة: إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقي رجلاً يغريك ويمنيك. فقام ابن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه. قال الشعبي: فقلت يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره
    وحرمتنا معروفه وصلته فقال: إليك عني يا عامر، قال: فخرجت إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفينا فكان أهلاً لما أدى إليه كنا أهلاً أن يفعل ذلك بنا. فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف وما شهدنا مشهد إلا برز علينا. وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة لهم. قال عامر الشعبي: وأنا أعاهد الله أن لا أشهد سلطاناً بعد هذا المجلس فأحابيه. ودخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة فقال له: ما تقول في القدر? فقال: جيرانك أهل القبور فتفكر فيهم فإن فيهم شغلاً عن القدر.
    وعن الشافعي رضي الله عنه قال: حدثني عمي محمد بن علي قال: إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب، وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال: فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئاً من أمر الحسن ابن زيد، فقال الحسن: يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب قال: فسأله، فقال: ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب? فقال: أشد أنهم أهل تحطم في أعراض الناس كثير والأذى لهم. فقال أبو جعفر: قد سمعتم، فقال الغفاريون: يا أيمر المؤمنين سله عن الحسن بن زيد. فقال: يا ابن أبي ذؤيب ما تقول في الحسن بن زيد? فقال: أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه، فقال: قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح? فقال: يا أمير المؤمنين أسأله عن نفسك. فقال: مما تقول في? قال: تعفيني يا أمير المؤمنين، قال: أسألك بالله إلا أخبرتني. قال: تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك? قال: والله لتخبرني، قال: أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله، وأشهد أن الظلم ببابك فاش. قال: فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه ثم قال له: أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك بهذا المكان منك! قال: فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولي أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا آنافهم، قال: فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله وقال: والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك، فقال ابن أبي ذؤيب: والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي، قال: فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس المنصور لقيه سفيان الثوري فقال له: يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني قولك له ابنك المهدي، فقال: يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد.
    وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال: بعث إلى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته، فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني ثم قال لي: ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي? قال: قلت وما الذي تريد يا أمير المؤمنين? قال: أريد الأخذ عنكم والاقتباس منكم قال: فقلت فانظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئاً مما أقول لك، قال: وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وفيه وجهت إليك وأقدمتك له? قال: قلت أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به، قال: فاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال: هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة فطابت نفسي وانبسطت في الكلام. فقلت: يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال: قال رسول الله ﷺ "أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه وإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثماً يزداد الله بها سخطاً عليه" يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال: قال رسول الله ﷺ "أيما وال مات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة" يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله. إن الله هو الحق المبين. إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله ﷺ وقد كان بهم رءوفاً رحيماً مواسياً لهم بنفسه في ذات يده محموداً عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق. وأن تكون بالقسط له فيهم قائماً ولعوراتهم ساتراً. لا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقم دونهم الحجاب. تبتهج بالنعمة عندهم. وتبتئس بما أصابهم من سوء. يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم - أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم - وكل له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئمام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه? يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال: كانت بيد رسول الله ﷺ جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين، فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له: يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم رعباً? فكيف بمن شقق أستارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه? يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة "أن رسول الله ﷺ دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابياً لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله لم يبعثك جباراً ولا متكبراً. فدعا النبي ﷺ الأعرابي فقال: "اقتضي مني" فقال الأعرابي: قد أحللتك؛ بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبداً ولو أتيت على نفسي. فدعا له بخير" يا أمير المؤمنين رض نفسك لنفسك وخذ لها الأمان من بربك وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله ﷺ "لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها" يا أمير المؤمنين إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك، وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك. يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك "ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها" قال الصغيرة: التبسم، والكبيرة: الضحك، فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن? يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك? يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك "يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله" قال الله تعالى في الزبور: يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلح على صاحبه فأمحوك عن نبوتي ثم لا تكون خلفتي ولا كرامة، يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة ليجبرو الكسير ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء. يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه، يا أيمر المؤمنين حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن عمرة الأنصاري: أن عمر بن
    الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلاً من الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام مقيماً فقال له: ما منعك من الخروج إلى عملك? أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله قال: لا، قال: وكيف ذلك? قال: إنه بلغني أن رسول الله ﷺ قال "ما من وال يلي شيئاً من أمور الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه لا يفكها إلا عدله فيوقف على جسر من النار ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسناً نجا بإحسانه وإن كان مسيئاً انخرق به الجسر فيهوي به في النار سبعين خريفاً" فقال له عمر رضي الله عنه ممن سمعت هذا? قال: من أبي ذر وسلمان فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا: نعم سمعناه من رسول اله ﷺ فقال عمر: وا عمراء من يتولاها بما فيها? فقال أبو ذر رضي الله عنه: من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض. قال: فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني. ثم قلت: يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي ﷺ إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي ﷺ "يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها" نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغني عنه من الله شيئاً إذ أوحى الله إليه "وأنذر عشيرتك الأقربين" فقال: يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد إني لست أغني عنكم من الله شيئاً إن لي عمل ولكم عملكم وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا يطلع منه على عورة ولا يخاف منه على حرة ولا تأخذه في الله لومة لأئم. وقال: الأمراء أربعة؛ فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه بالرحمة، وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله، وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله ﷺ "شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده" وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعاً.
    وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي ﷺ فقال: "أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة، فقال له: يا جبريل صف لي النار فقال: إن الله تعالى أمر بها فأوقد عيها ألف عام حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت، ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها، والذي بعثك بالحق لو أن ثوباً من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعاً ولو أن ذنوباً من شرابها صب في مياه الأرض جميعاً لقتل من ذاقه ولو أن ذراعاً من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعاً لذابت وما استقلت، ولو أن رجلاً أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه؛ فبكى النبي ﷺ وبكى جبريل عليه السلام لبكائه فقال: أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر? فقال: "أفلا أكون عبداً شكوراً ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه" قال: أخاف أن أبتلي به هاروت وماروت فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء: يا جبريل ويا محمد إن الله قد آمنكما أن تعصياه فيعذبكما وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على سائر الملائكة" وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين. يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من طالب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلب بمعصية الله أذله الله ووضعه. فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك. ثم نهضت فقال لي: إلى أين? فقلت: إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله، فقال: قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة. قلت: أفعل إن شاء الله.
    قال محمد بن مصعب: فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال: أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا. وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك.
    وعن ابن المهاجر قال: قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجاً، فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به، فإذا طلع الفجر رجع إلى جار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فصلى بالناس، فخرج ذات اليلة حين اسخر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلاً عند الملتزم وهو يقول: اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع. فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله، ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له: أجب أمير المؤمنين؛ فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور؛ ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض ومنا يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم؛ فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني? فقال: يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل، فقال له: أنت آمن على نفسك فقال: الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت. فقال: ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي? قال: وهل دخل أحداً من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين? إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجاجاً من الجص والآجر وأبواباً من الحديد وحجبة معهم السلاح، ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعواناً ظلمة إن نسيت من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلائ النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك
    وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا تقسمها قالوا: هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا? فأئتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمراً إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره، فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك من بالهدايا والأموال ليتقؤوا بهم على ظلم رعيتك، ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغياً وفساداً وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل؛ فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلاً ينظر في مظالمهم؛ فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه ما يريد خوفاً منهم، فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه؛ فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضرباً مبرحاً ليكون نكالاً لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير؛ فما بقاء الإسلام وأهله على هذا؛ ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف؛ ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي: يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف؛ ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه: مالك تبكي لا بكت عيناك? فقال: أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته، ثم قال: أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس: ألا لا يلبس ثوباً أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوماً فينصفه? هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه، وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك؛ فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة؛ إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وما له على الأرض مال، وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يساء، وإن قلت: أجمع المال لأشيد سلطاني. فقد أراك الله عبراً فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت أجمع المال. لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد. وإن قلت أجمع المال. لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فيها، فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد القتل? قال: لا، قال: فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك? فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب? هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه ما شححت عليه من ملك الدنيا? فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال: يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئاً، ثم قال: من ملك الدنيا? فبكى المنصور بكاء شديداً حتى نحب وارتفع صوته ثم قال. يا ليتني لم أخلق ولم أرك شيئاً، ثم قال: كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائناً? قال: هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك، ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك. فقال المنصور. اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل. وجاء المؤذنون فسلموا
    عليه وأقيمت الصلاة فخرج فصلى بهم ثم قال للحرس: عليك بالرجل يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى ثم قال: يا ذا الرجل أما تتقي الله? قال: بلى، قال. أما تعرفه? قال: بلى، قال: فانطلق معي إلى الأمير فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك، قال: ليس لي إلى ذلك من سبيل، قال: يقتلني، قال: لا، قال: كيف? قال: تحسن تقرأ، قال: لا، فأخرج من مزود كان معه رقاً مكتوب فيه شيء فقال: خذه فجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج، قال: وما دعاء الفرج? قال: لا يرزقه إلا الشهداء، قلت: رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هاذ الدعاء وما فضله? قال: من دعابه مساء وصباحاً هدمت ذنوبه ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له رزقه وأعطى أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقاً ولا يموت إلا شهيداً، تقول: اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك، وكانت وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في عملك، وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجاً ومخرجاً. اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك ما لا أستوجبه مما قصرت فيه أدعوك آمناً وأسألك مستأنساً وإنك المحسن إلي وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلي بنعمتك وأتبغض إليك بالمعاصي ولكن القى بك حملتني على غير الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك على إنك أنت التواب الرحيم. قال: فأخذته صيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ثم قال: ويلك وتحسن السحر? فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين، ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ فقال: هات الرق الذي أعطاك، ثم جعل يبكي وقال: وقد نجوت، وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف، ثم قال: أتعرفه? قلت: لا، قال ذلك الخضر عليه السلام.
    وعن أبي عمران الجوني قال: لما ولي هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنوه بما صار إليه من أمر الخلافة ففتح بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية، وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد، وكان يظهر النسك والتقشف، وكان مؤاخياً لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديماً فهجره سفيان ولم يزره، فاشتاق هرون إلى زيارته ليخلوا به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه، فاشتد ذلك على هرون فكتب إليه كتاباً يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم هرون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر أما بعد، يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة، ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة، واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني وإني استبطأتك فلم تأتني، وقد كتبت لك كتاباً شوقاً مني إليك شديداً، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل مؤمن وزيارته ومواصلته، فإذا ورد عليه كتابي فالعجل العجل. فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته فقال: علي برجل من الباب، فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني. فقال: يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور، ثم سل عن سفيان الثوري فإذا رأيته فالق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به. فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان فقيل له هو في المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة، فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون ن عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته، فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا السلام علي برءوس الأصابع، فبقيت واقفاً فما منهم أحد يعرض على الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت إن المصلي هو سفيان فرميت بالكتاب إليه. فما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه، فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال: يأخذه بعضكم يقرؤون فإني أستغفر الله أن أمس شيئاً مسه ظالم بيده. قال عباد: فأخذه بعضهم فخله كأنه خائف من فم حية تنهشه، ثم فضه وقرأه، وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال: اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له: يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي. فقال: اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا. فقيل له: ما نكتب? فقال: اكتبوا: بسم الله الرحمن الرحيم، ن العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هرون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان. أما بعد: فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جلعتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك. أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غداً بين يدي الله تعالى، يا هرون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بغفك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل? أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والآرامل والأيتام? أم هل رضي بذلك خلق من
    رعيتك? فشد يا هرون منزرك وأعد للمسألة جواباً وللبلاء جلباباً، واعلم أنك تقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً وللظالمين إماماً، يا هرون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسبلت ستراً دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس ولا ينصفون? يشربون الخمور ويضربون من يشربها! ويزنون ويحدون الزاني? ويسرقون ويقطعون السارق! أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس? فكيف بك يا هرون غداً إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى: "احشروا الذين ظلموا وأزواجهم" أي الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك، والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار، كأني بك يا هرون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة عن سيئاتك، بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة، فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية، فاتق الله يا هرون في رعيتك واحفظ محمد ﷺ في أمته وأحسن الخلافة عليهم، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحد بعد واحد فمنهم من تزود زاداً نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته، وإني أحسبك يا هرون ممن خسر دنياه وآخرته فإياك إياك أن تكتب لي كتاباً بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام. قال عباد: فألقي إلي الكتاب منشوراً غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي فناديت: يا أهل الكوفة، فأجابوني فقلت لهم: يا قوم من يشتري رجلاً هرب من الله إلى الله? فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم، فقلت: لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية، قال: فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هرون حافياً راجلاً، فهزأ بي من كان على باب الخليفة. ثم استؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد، ثم قام قائماً وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول: انتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا مالي ولملك يزول عني سريعاً? ثم ألقيت الكتاب إليه منشوراً كما دفع إلي. فأقبل هرون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق فقال بعض جلسائه: يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن كنت تجعله عبرة لغيره. فقال هرون: اتركونا يا عبيد الدنيا، المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه، وإن سفيان أمة وجده فاتركوا سفيان وشأنه. ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هرون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله. فرحم الله عبداً نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غداً من عمله فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق.
    وعن عبد الله بن مهران قال: حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياماً ثم ضرب بالرحيل، فخرج الناس، وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به؛ إذ أقلت هوادج هرون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون نادى بأعلى صوته: يا أمير المؤمنين فكثف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال: لبيك يا بهلول فقال: يا أمير المؤمنين؛ حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال: رأيت النبي ﷺ منصرفاً من عرفة على ناقة له صهباء؛ لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك. قال: فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض، ثم قال: يا بهلول زدنا رحمك الله قال: نعم يا أمير المؤمنين، رجل آتاه الله مالاً وجمالاً فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار. قال: أحسنت يا بهلول، ودفع له جائزة: فقال: أردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها، قال: يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه، قال: يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز. قال: يا بهلول فنجري عليك ما يقوتك أو يقيمك، قال: فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال: يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني. قال: فأسبل هرون السجاف ومضى.
    وعن أبي العباس الهاشمي عن صالح بن المأمون قال: دخلت على الحرث المحاسبي رحمه الله فقلت له: يا أبا عبد الله هل حاسبت نفسك? فقال: كان هذا مرة، قلت له: فاليوم? قال: أكاتم حالي? إني لأقرأ آية من كتاب الله تعالى فأضن بها أن تسمعها نفسي ولولا أن يغلبني فهيا فرح ما أعلنت بها. ولقد كنت ليلة قاعداً في محرابي فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة فسلم علي ثم قعد بين يدي فقلت له من أنت? فقال: أنا واحد من السياحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهاداً فأي شيء عملك? قال: قلت له: كتمان المصائب واستجلاب الفوائد، قال: فصاح وقال: ما علمت أن أحداً بين جنبي المشرق والمغرب هذه صفته? قال الحرث: فأردت أن أزيد عليه فقلت له: أما علمت أن أهل القلوب يخفون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم? قال: فصاح صيحة غشي عليه منها فمكث عندي يومين لا يعقل، ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه، فعلمت إزالة عقله فأخرجت له ثوباً جديداً وقلت له: هذا كفني قد آثرتك به فاغتسل وأعد صلاتك فقال: هات الماء فاغتسل وصلى ثم التحف بالثوب وخرج فقلت له: أين تريد? فقال لي? قم معي، فلم يزل يمشي حتى دخل على المأمون فسلم عليه وقال: يا ظالم أنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم، أستغفر الله من تقصيري فيك، أما تتقي الله تعالى فيما قد ملكك? وتكلم بكلام كثير ثم أقبل يريد الخروج وأنا جالس بالباب فأقبل عليه المأمون وقال: من أنت? قال: أنا رجل من السياحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه حظاً فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم، قال: فأمر بضرب عنقه، فأخرج وأنا قاعد على الباب ملقوفاً في ذلك الثوب ومناد ينادي: من ولي هذا فليأخذه، قال الحرث: فاختبأت عنه فأخذه أقوام غرباء فدفنوه وكنت معهم لا أعلمهم بحاله. فأقمت في مسجد بالمقابر محزوناً على الفتى فغلبتني عيناي فإذا هو بين وصائف لم أر أحسن منهن وهو يقول: يا حارث أنت والله من الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم، قلت: وما فعلوا? قال الساعة يلقونك، فنظرت إلى جماعة ركبان فقلت: من أنتم? قالوا: الكاتمون أحوالهم حرك هذا الفتى كلامك له فلم يكن في قلبه مما وصفت شيء فخرج للأمر والنهي وإن الله تعالى أنزله معنا وغضب لعبده.
    وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال؛ كان أبو الحسين النوري رجلاً قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه، وكان إذا رأى منكراً غيره ولو كان فيه تلفه، فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقاً فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار "لطف" فقرأه وأنكره لأنه لم يعلم في التجارات ولا في البيوع شيئاً يعبر عنه بلطف. فقال للملاح: إيش في هذه الدنان? قال: وإيش عليك امض في شغلك? فلما سمع النوري من الملاح هذا القول ازداد تعطشاً إلى معرفته فقال: أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان؛ قال: وإيش عليك أنت والله صوفي فضولي، هذا خمر للمعتضد يريد أن يعم به مجلسه? فقال النوري: وهذا خمر? قال: نعم، فقال: أحب أن تعطيني ذلك المدري، فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه: أعطه حتى انظر ما يصنع، فلما صارت المدري في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دناً دناً حتى أتى على آخرها إلا دناً واحداً، والملاح يستغيث، إلى أن ركب صاحب الجسر وهو يومئذ ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد - وكان المعتضد سيفه قبل كلامه ولم يشك الناس في أنه سيقتله - قال أبو الحسين: فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال: من أنت? قلت: محتسب، قال: ومن ولاك الحسبة? قلت: الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت? فقلت: شفقة يا أمير المؤمنين، قال: فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال: ما الذي حملك على ما صنعت? فقلت: شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه وقال فأطرق مفكراً في كلامي ثم رفع رأسه إلي وقال: كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان? فقلت: في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن، فقال: هات خبرني، فقلت: يا أمير المؤمنين إني أقبلت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى أن صرت إلى هذا الدن، فاستشعرت نفسي كبراً على أني أقدمت على مثلك فمنعت ولو أقدمت عليه بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال، فقال المعتضد: اذهب فقد أطلقنا يدك غير ما أحببت أن تغيره من المنكر. قال أبو الحسين فقلت: يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن شرطي فقال المعتضد: ما حاجتك? فقلت: يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالماً فأمر له بذلك وخرج إلى البصرة، فكان أكثر أيامه بها خوفاً من أن يسأله أحد حاجة يسألها المعتضد، فأقام بالبصرة إلى توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد.
    فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم، اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعلى أن يزقهم الشهادة، فلما أخصلوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها. وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا، ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا. ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء باستيلاء حب المال والجاه، ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر? والله المستعان على كل حال.
    تم كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحمد الله ودونه وحسن توفيقه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...