يا ربي ...

نسأل الله تعالى بجلاله، الموفى على كل نهاية، وجوده المجاوز كلغاية؛ أن يفيض علينا أنوار الهداية، ويقبض عنا ظلمات الضلال والغواية، وأن يجعلنا ممن رأى الحق حقاً فآثر اتباعه واقتفاءه، ورأى الباطل باطلا فاختار اجتنابه واجتواءه، وأن يلقنا السعادة التي وعد بها انبياءه وأولياءه، وأن يبلغنا من الغبطة والسرور والنعمة والحبور، اذا ارتحلنا عن دار الغرور، ما ينخفض دون اعليها مراقى الافهام، ويتضاءل دون اقاصيها مرامى سهام الاوهام، وأن يُنيلنا، بعد الورود على نعيم الفردوس والصدور من هول المحشر ، ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن يصلى على نبينا المصطفى محمد خير البشر ، وعلى آله الطيّبين وأصحابه الطاهرين مفاتيح الهدى ومصابيح الدجى ، ويسلم تسليماً.

Translate

الخميس، 30 مارس 2023

ج2. هاية الحياري بونط صغير






جحدهم بنبوة محمد نظير جحدهم نبوة المسيح
وجحدهم نبوة محمد من الكتب التي بأيديهم نظير «جحدهم نبوة المسيح» وقد صرحت باسمه، ففي نص التوراة: «لا يزول الملك من آل يهوذا، والراسم من بين ظهرانيهم إلى أن يأتي المسيح» وكانوا أصحاب دولة حتى ظهر المسيح فكذبوه، ورموه بالعظائم، وبهتوه وبهتوا أمه، فدمر الله عليهم وأزال ملكهم، وكذلك قوله: «جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» فأي نبوة أشرقت من ساعير غير نبوة المسيح، وهم لا ينكرون ذلك، ويزعمون أن قائما يقوم فيهم من ولد داود النبي إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم ولا يبقى إلا اليهود.
وهذا المنتظر بزعمهم هو المسيح الذي وعدوا به، قالوا: ومن علامة مجيئه أن الذئب والتيس يربضان معا، وأن البقرة والذئب يرعيان معا، وأن الأسد يأكل التبن كالبقر، فلما بعث الله المسيح كفروا به عند مبعثه، وأقاموا ينتظرون متى يأكل الأسد التبن حتى تصح لهم علامة مبعث المسيح، ويعتقدون أن هذا المنتظر متى جاءهم يجمعهم بأسرهم إلى القدس، وتصير لهم الدولة، ويخلو العالم من غيرهم، ويحجم الموت عن جنابهم المنيع مدة طويلة.
وقد عوضوا من الإيمان بالمسيح ابن مريم بانتظار مسيح الضلالة الدجال، فإنه هو الذي ينتظرونه حقا، وهم عسكره وأتبع الناس له، ويكون لهم في زمانه شوكة ودولة، إلى أن ينزل مسيح الهدى ابن مريم، فيقتل منتظرهم، ويضع هو أصحابه فيهم السيوف حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقولان: يا مسلم هذا يهودي ورائي، تعال فاقتله، فإذا نظف الأرض منهم، ومن عباد الصليب، فحينئذ يرعى الذئب والكبش معا، ويربضان معا، وترعى البقرة والذئب معا، ويأكل الأسد التبن، ويلقي الأمن في الأرض.
هكذا أخبر به شعيا في نبوته، وطابق خبره ما أخبر به النبي ﷺ في الحديث الصحيح: في خروج الدجال، وقتل المسيح ابن مريم له، وخروج يأجوج ومأجوج في أثره، ومحقهم من الأرض، وإرسال البركة والأمن في الأرض حتى ترعى الشاة والذئب، وحتى أن الحيات والسباع لا تضر الناس.
فصلوات الله وسلامه على من جاء بالهدى والنور، وتفصيل كل شيء وبيانه، فأهل الكتاب عندهم عن أنبيائهم حق كثير لا يعرفونه ولا يحسنون أن يضعوه مواضعه، ولقد أكمل الله سبحانه بمحمد صلوات الله وسلامه عليه ما أنزله على الأنبياء عليهم السلام من الحق وبينه وأظهره لأمته، وفصل على لسانه ما أجمله لهم وشرح ما رمزوا إليه، فجاء بالحق، وصدق المرسلين، وتمت نعمة الله على عباده المؤمنين.
فالمسلمون واليهود والنصارى تنتظر مسيحا يجيء في آخر الزمان، فمسيح اليهود هو الدجال، ومسيح النصارى لا حقيقة له، فإنه عندهم إله وابن إله وخالق ومميت ومحي.
فمسيحهم الذي ينتظرونه هو المصلوب المسمر المكلل بالشوك بين اللصوص، والمصفوع الذي هو مصفعة اليهود، وهو عندهم رب العالمين وخالق السموات والأرضين.
ومسيح المسلمين الذي ينتظرونه هو عبد الله ورسوله وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول عيسى ابن مريم، أخو عبد الله ورسوله محمد بن عبد الله، فيظهر دين الله وتوحيده، ويقتل أعداءه عباد الصليب الذين اتخذوه وأمه إلهين من دون الله، وأعداءه اليهود الذين رموه وأمه بالعظائم فهذا هو الذي ينتظره المسلمون، وهو نازل على المنارة الشرقية بدمشق، واضعا يديه لى منكبي ملكين، يراه الناس عيانا بأبصارهم نازلا من السماء. فيحكم بكتب الله وسنة رسول الله ﷺ، وينفذ ما أضاعه الظلمة والفجرة والخونة من دين رسول الله ﷺ، ويحي ما أماتوه، وتعود الملل كلها في زمانه ملة واحدة وهي ملته وملة أخيه محمد وملة أبيهما إبراهيم وملة سائر الأنبياء، وهي الإسلام الذي من يبتغي غيره دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين.
وقد حمل رسول الله ﷺ من أدركه من أمته السلام، وأمره أن يقرئه إياه منه، فأخبر عن موضع نزوله بأي بلد وبأي مكان منه، وبحاله وقت نزوله، وملبسه الذي كان عليه. وأنه ممصرتان أي: ثوبان وأخبر بما يفعل عند نزوله مفصلا حتى كأن المسلمين يشاهدونه عيانا قبل أن يروه، وهذا من جملة الغيوب التي أخبر بها فوقعت مطابقة لخبره حذو القذة بالقذة، فهذا منتظر المسلمين لا منتظر المغضوب عليهم والضالين، ولا منتظر إخوانهم من الروافض المارقين.
وسوف يعلم المغضوب عليهم إذا جاء منتظر المسلمين أنه ليس بابن يوسف النجار، ولا هو ولد زنية، ولا كان طبيبا حاذقا ماهرا في صناعته استولى على العقول بصناعته، ولا كان ساحرا ممخرقا، ولا مكنوا من صلبه وتسميره وصفعه وقتله؛ بل كانوا أهون على الله من ذلك.
ويعلم الضالون أنه ابن البشر، وأنه عبد الله ورسوله ليس بإله ولا ابن إله، وأنه بشر بنبوة محمد أخيه أولا، وحكم بشريعته ودينه آخرا، وأنه عدو المغضوب عليهم والضالين.
وولي رسول الله وأتباعه المؤمنين، وما كان أولياؤه الأرجاس الأنجاس عبدة الصلبان، والصور المدهونه في الحيطان، إن أولياءه إلا الموحدون عباد الرحمن أهل الإسلام والإيمان، الذين نزهوه وأمه عما رماهما به أعداؤهما اليهود، ونزهوا ربه، وخالقه، ومالكه، وسيده، عما رماه به أهل الشرك، والسب للواحد المعبود.-------

الفصل الثامن: التغيير في ألفاظ الكتب
فلنرجع إلى الجواب على طريق من يقول: «إنهم غيروا ألفاظ الكتب وزادوا ونقصوا» كما أجبنا على طريق من يقول: «إنما غيروا معانيها وتأولوها على غير تأويلها».
قال هؤلاء: نحن لا ندعي ولا طائفة من المسلمين أن ألفاظ كل نسخة في العالم غيرت وبدلت؛ بل من المسلمين من يقول: أنه غير بعض ألفاظها قبل مبعث رسول الله ﷺ، وغيرت بعض النسخ بعد مبعثه، ولا يقولون: أنه غيرت كل نسخة في العالم بعد المبعث؛ بل غير البعض وظهر عند كثير من الناس تلك النسخ المغيرة المبدلة دون التي لم تبدل، والنسخ التي لم تبدل موجودة في العالم.
ومعلوم أن هذا مما لا يمكن نفيه والجزم بعدم وقوعه؛ فإنه لا يمكن أحدا أن يعلم أن كل نسخة في العالم على لفظ واحد بسائر الألسنة ومن الذي أحاط بذلك علما وعقلا؟ أهل الكتاب يعلمون أن أحدا لا يمكنه ذلك.
وأما من قال من المسلمين: أن التغيير وقع في أول الأمر فإنهم قالوا: أنه وقع أولا من عازر الوراق، في «التوراة» في بعض الأمور إما عمدا وإما خطأ، فإنه لم يقم دليل على عصمته، ولا أن تلك الفصول التي جمعها من التوراة بعد احتراقها هي عين التوراة التي أنزلت على موسى، وقد ذكرنا أن فيها ما لا يجوز نسبته إلى الله وأنه أنزله على رسوله وكليمه، وتركنا كثيرا لم نذكره.--------
===


المناقضات في الإنجيل
وأما «الإنجيل» فهي أربعة أناجيل أخذت عن أربعة نفر، اثنان منهم لم يريا المسيح أصلا، واثنان رأياه واجتمعا به، وهما: متى ويوحنا، وكل منهم يزيد وينقص، ويخالف إنجيله إنجيل أصحابه في أشياء، وفيها ذكر القول ونقيضه كما فيه أنه قال: «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي غير مقبولة؛ ولكن غيري يشهد لي».
وقال في موضع آخر: «إن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين جئت وإلى أين أذهب».
وفيه أنه لما استشعر بوثوب اليهود عليه قال: «قد جزعت نفسي الآن فماذا أقول؟ يا أبتاه، سلمني من هذا الوقت، وأنه لما رفع على خشبة الصلب صاح صياحا عظيما، وقال: يا إلهي!لم أسلمتني؟ !».
فكيف يجتمع هذا مع قولكم: إنه هو الذي اختار إسلام نفسه إلى اليهود ليصلبوه، ويقتلوه، رحمة منه بعباده حتى فداهم بنفسه من الخطايا، وأخرج بذلك آدم، ونوحا، وإبراهيم، وموسى، وجميع الأنبياء من جهنم بالحيلة التي دبرها على إبليس؟
وكيف يجزع إله العالم من ذلك، وكيف يسأل السلامة منه وهو الذي اختاره ورضيه؟
وكيف يشتد صياحه ويقول: «يا إلهي لم أسلمتني» وهو الذي أسلم نفسه؟
وكيف لم يخلصه أبوه مع قدرته على تخليصه، وإنزال صاعقة على الصليب، وأهله أم كان ربا عاجزا مقهورا مع اليهود؟
وفيه أيضا: «أن اليهود سألته أن يظهر لهم برهانا أنه المسيح فقال: تهدمون هذا البيت - يعني بيت المقدس - وأبنيه لكم في ثلاثة أيام، فقالوا له: بيت مبني في خمس وأربعين سنة تبنيه أنت في ثلاثة أيام».
ثم ذكرتم في الإنجيل أيضا: «أنه لما ظفرت به اليهود، وحمل إلى بلاط عامل قيصر، واستدعيت عليه بينة أن شاهدي زور جاءا إليه، وقالا: سمعناه يقول: أنا قادر على بنيان بيت المقدس في ثلاثة أيام».
فيالله العجب كيف يدعي أن تلك المعجزة والقدرة له ويدعي أن الشاهدين عليه بها شاهدا زور؟
وفيه أيضا للوقا: «أن المسيح قال لرجلين من تلامذته: اذهبا إلى الحصن الذي يقابلكما، فإذا دخلتماه فستجدان فلوا مربوطا لم يركبه أحد، فحلاه وأقبلا به إلي».
وقال في إنجيل متى في هذه القصة: «أنها كانت حمارة متبعة».
وفيه أنه قال: «لا تحسبوا أني قدمت لا صلح بين أهل الأرض، لم آت لصلاحهم، لكن لألقي المحاربة بينهم؛ إنما قدمت لأفرق بين المرء وابنه، والبنت وأمها، حتى يصير أعداء المرء أهل بيته».
ثم فيه أيضا: «إنما قدمت لتحيوا، وتزدادوا خيرا، وأصلح بين الناس». وأنه قال: «من لطم خدك اليمين فانصب له الآخر».
وفيه أيضا أنه قال: «طوبا لك يا شمعون رأس الجماعة، وأنا أقول إنك ابن الحجر وعلى هذا الحجر تبني بيعتي، فكلما أحللته على الأرض يكون محللا في السماء، وما عقدته على الأرض يكون معقودا في السماء».
ثم فيه بعينه بعد أسطر يقول له: «اذهب يا شيطان، ولا تعارض فإنك جاهل» فكيف يكون شيطان جاهل مطاع في السموات.
وفي الإنجيل نص: «أنه لم تلد النساء مثل يحيى».
هذا في إنجيل متى، وفي إنجيل يوحنا: «أن اليهود بعثت إلى يحيى من يكشف عن أمره، فسألوه من هو، أهو المسيح؟ قال: لا، قالوا: نراك إلياس؟ قال: لا، قالوا: أنت نبي؟ قال: لا، قالوا: أخبرنا من أنت؟ قال: أنا صوت مناد المفاوز» ولا يجوز لنبي أن ينكر نبوته فإنه يكون مخبرا بالكذب.
ومن العجب أن في إنجيل متى نسبة المسيح إلى أنه ابن يوسف، فقال: عيسى بن يوسف بن فلان، ثم عد إلى إبراهيم الخليل تسعة وثلاثين أبا.
ثم نسبه لوقا أيضا في إنجيله إلى يوسف، وعد منه إلى إبراهيم نيفا وخمسين أبا، فبينا هو إله تام إذ صيروه ابن الإله، ثم جعلوه ابن يوسف النجار؟
والمقصود أن هذا الاضطراب في الإنجيل يشهد بأن التغيير وقع فيه قطعا، ولا يمكن أن يكون ذلك من عند الله؛ بل الاختلاف الكثير الذي فيه يدل على أن ذلك الاختلاف من عند غير الله، وأنت إذا اعتبرت نسخه ونسخ التوراة التي بأيدي اليهود، والسامرة، والنصارى، رأيتها مختلفة اختلافا يقطع من وقف عليه بأنه من جهة التغيير والتبديل، وكذلك نسخ الزبور مختلفة جدا.
ومن المعلوم أن نسخ التوراة والإنجيل إنما هي عند رؤساء اليهود والنصارى، وليست عند عامتهم، ولا يحفظونها في صدورهم كحفظ المسلمين للقرآن، ولا يمتنع على الجماعة القليلة التواطؤ على تغيير بعض النسخ، ولا سيما إذا كان بقيتهم لا يحفظونها، فإذا قصد طائفة منهم تغيير نسخة أو نسخ عندهم أمكن ذلك، ثم إذا تواطؤا على أن لا يذكروا ذلك لعوامهم وأتباعهم أمكن ذلك.
وهذا واقع في العالم كثيرا، فهؤلاء اليهود تواطئوا وتواصوا بكتمان نبوة المسيح، وجحد البشارة به، وتحريفها، واشتهر ذلك بين طائفتهم في الأرض مشارقها ومغاربها، وكذلك تواطئوا على أنه كان طبيبا ساحرا ممخرقا ابن زانية، وتواصوا به مع رؤيتهم الآيات الباهرات التي أرسل بها، وعلمهم أنه أبعد خلق الله مما رمي به، وشاع ما تواطئوا عليه، وملؤا به كتبهم شرقا وغربا.
وكذلك تواطئوا على أن لوطا نكح ابنتيه وأولدهما أولادا، وشاع ذلك فيهم جميعهم، وتواطئوا على أن الله ندم وبكى على الطوفان وعض أنامله، وصارع يعقوب فصرعه يعقوب، وأنه راقد عنهم، وأنهم يسألونه أن ينتبه من رقدته وشاع ذلك في جميعهم.
وكذلك تواطئوا على فصول لفقوها بعد زاول مملكتهم يصلون بها لم تعرف عن موسى، ولا عن أحد من أتباعه، كقولهم في صلاتهم: «اللهم اضرب ببوق عظيم لعتقنا، واقبضنا جميعا من أربعة أقطار الأرض إلى قدسك، سبحانك، يا جامع تشتيت قوم إسرائيل». وقولهم فيها: «أردد حكامنا منا كالأولين، وسيرتنا كالابتداء، وابن أورشليم قرية قدسك في أيامنا وأعزنا ببنائها، سبحانك، يا باني أورشليم» ولم يكن موسى وقومه يقولون في صلاتهم شيئا من ذلك، وكذلك تواطؤهم على قولهم في صلاتهم أول العام ما حكيناه عنهم.
وكذلك تواطؤهم على شرع صوم إحراق بيت المقدس، وصوم حصا، وصوم كدليا، وفرضهم ذلك، وصوم صلب هامان، وقد اعترفوا بأنهم زادوها لأسباب اقتضتها، وتواطؤا بذلك على مخالفة ما نصت عليه التوراة من قوله: «لا تزيدوا على الأمر الذي أنا موصيكم به شيئا، ولا تنقصوا منه شيئا» فتواطؤا على الزيادة والنقصان، وتبديل أحكام الله، كما تواطؤا على تعطيل فريضة الرجم على الزاني وهو في التوراة نصا.
وكذلك تواطؤهم على امتناع النسخ على الله فيما شرعه لعبادة تمسكا منهم باليهودية، وقد أكذبتهم التوراة وسائر النبوات.
ومن العجائب حجرهم على الله أن ينسخ ما شرعه لئلا يلزم البداء، ثم يقولون: أنه ندم وبكي على الطوفان، وعاد في رأيه، وندم على خلق الإنسان، وهذه مضارعة لإخوانهم من النصارى الذين نزهوا رهبانهم عن الصاحبة والولد، ثم نسبوهما إلى الفرد الصمد.
ومن ذلك تواطؤهم على أن الملك يعود إليهم، وترجع الملل كلها إلى ملة اليهودية، ويصيرون قاهرين لجميع أهل الملل.
ومن ذلك تواطؤهم على تعطيل أحكام التوراة وفرائضها، وتركها في جل أمورهم إلا اليسير منها، وهم معترفون بذلك، وأنه أكبر أسباب زوال ملكهم وعزهم.
فكيف ينكر من طائفة تواطأت على تكذيب المسيح، وجحد نبوته، وبهته وبهت أمه، والكذب الصريح على الله، وعلى أنبيائه، وتعطيل أحكام الله، والاستبدال بها، وعلى قتلهم أنبياء الله أن تتواطأ على تحريف بعض التوراة، وكتمان نعت محمد رسول الله ﷺ وصفته فيها.
وأما اليهود، وعباد الصليب والصور والمزوقة في الحيطان، وشاتموا خالقهم ورازقهم أقبح شتم، وجاعلوه مصفعة اليهود، وتواطؤهم على ذلك، وعلى ضروب المستحيلات وأنواع الأباطيل.
فلا إله إلا الله الذي أبرز للوجود مثل هذه الأمة... وخلى بينهم وبين سبه وشتمه، وتكذيب عبده ورسوله، ومعاداة حزبه وأوليائه، وموالاة الشيطان، والتعوض بعبادة الصور والصلبان عن عبادة الرحمن الرحيم، وعن قول "الله أكبر" بالتصليب على الوجه، وعن قراءة (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين) ب (اللهم أعطنا خبزنا الملائم لنا)، وعن السجود للواحد القهار، بالسجود للصور المدهونة في الحائط بالأحمر والأصفر واللازورد.
هذا بعض شأن هاتين الأمتين اللتين عندهما آثار النبوة والكتاب، فما الظن بسائر الأمم الذين ليس عندهم من النبوة والكتاب حس ولا خبر ولا عين ولا أثر.
==========

الرد على من طالب بالنسخ الصحيحة
قال السائل: إن قلتم أن عبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، ونحوهما، شهدوا لنا بذلك من كتبهم، فهلا أتى ابن سلام وأصحابه الذين أسلموا بالنسخ التي لهم كي تكون شاهدة علينا؟
والجواب من وجوه:
أحدها: أن شواهد النبوة وآياتها لا تنحصر فيما عند أهل الكتاب من نعت النبي ﷺ وصفته، بل آياتها وشواهدها متنوعة متعددة جدا، ونعته وصفته في الكتب المتقدمة فرد من أفرادها، وجمهور أهل الأرض لم يكن إسلامهم عن الشواهد والأخبار التي في كتبهم، وأكثرهم لا يعلمونها ولا سمعوا بها. بل أسلموا للشواهد التي عاينوها، والآيات التي شاهدوها، وجاءت تلك الشواهد التي عند أهل الكتاب مقوية عاضدة من باب تقوية البينة، وقد تم النصاب بدونها. فهؤلاء العرب من أولهم إلى آخرهم لم يتوقف إسلامهم على معرفة ما عند أهل الكتاب من الشواهد، وإن كان ذلك قد بلغ بعضهم وسمعه منهم قبل النبوة وبعدها، كما كان الأنصار يسمعون من اليهود صفة النبي ﷺ ونعته، ومخرجه. فلما عاينوه وأبصروه عرفوه بالنعت الذي أخبرهم به اليهود فسبقوهم إليه، فشرق أعداء الله بريقهم وغصوا بمائهم.
وقالوا: ليس هو الذي كنا نعدهم به، فالعلم بنبوة محمد، والمسيح، وموسى صلوات الله وسلامه عليهم، لا يتوقف على العلم بأن من قبلهم أخبر بهم، وبشر بنبوتهم، بل طرق العلم بها متعددة فإذا عرفت نبوة النبي ﷺ بطريق من الطرق ثبتت نبوته، ووجب اتباعه، وإن لم يكن من قبله بشر به، فإذا علمت نبوته بما قام عليها من البراهين: فإما أن يكون تبشير من قبله به لازما لنبوته، وإما أن لا يكون لازما، فإن لم يكن لازما لم يجب وقوعه، ولا يتوقف تصديق النبي عليه بل يجب تصديقه بدونه، وإن كان لازما علم قطعا أنه قد وقع، وعدم نقله إلينا لا يدل على عدم وقوعه إذ لا يلزم من وجود الشيء نقله العام، ولا الخاص. وليس كلما أخبر به موسى والمسيح، وغيرهما من الأنبياء المتقدمين وصل إلينا وهذا مما يعلم، بالاضطرار فلو قدر أن البشارة بنبوته ﷺ ليست في الكتب الموجودة بأيديكم لم يلزم أن لا يكون المسيح وغيره بشروا به، بل قد يبشرون ولا ينقل.
ويمكن أن يكون في كتب غير هذه المشهورة المتداولة بينكم، فلم يزل عند كل أمة كتب لا يطلع عليها إلا بعض خاصتهم فضلا عن جميع عامتهم، ويمكن أنه كان في بعضها فأزيل منه وبدل ونسخت النسخ من هذه التي قد غيرت، واشتهرت بحيث لا يعرف غيرها، وأخفي أمر تلك النسخ الأولى. وهذا كله ممكن، لا سيما من الأمة التي تواطأت على تبديل دين نبيها وشريعته، هذه كله على تقدير عدم البشارة به في شيء من كتبهم أصلا. ونحن قد ذكرنا من البشارات به التي في كتبهم ما لا يمكن لمن له أدنى معرفة منهم جحده والمكابرة فيه، وإن أمكنهم المغالطة بالتأويل عند رعاعهم وجهالهم.
الوجه الثاني: أن عبد الله بن سلام قد قابل اليهود، وأوقفهم بين يدي رسول الله ﷺ على أن ذكره، ونعته، وصفته في كتبهم، وأنهم يعلمون أنه رسول الله ﷺ، وقد شهدوا بأنه أعلمهم، وابن أعلمهم، وخيرهم وابن خيرهم، فلم يضر قولهم بعد ذلك: أنه شرهم، وابن شرهم، وجاهلهم، وابن جاهلهم.
كما إذا شهد على رجل شاهد عند الحاكم، فسأله عنه فعدله، وقال: إنه مقبول الشهادة عدل، رضي لا يشهد إلا بالحق، وشهادته جائزة علي، فلما أدى الشهادة قال: إنه كاذب شاهد زور، ومعلوم أن هذا لا يقدح في شهادته.
وأما كعب الأحبار فقد ملأ الدنيا من الأخبار بما في النبوات المتقدمة من البشارة به، وصرح بها بين أظهر المسلمين، واليهود، والنصارى، وأذن بها على رؤوس الملأ، وصدقه مسلموا أهل الكتاب عليها، وأقروه على ما أخبر به، وأنه كان أوسعهم علما بما في كتب الأنبياء.
وقد كان الصحابة يمتحنون ما ينقله، ويزنونه بما يعرفون صحته، فيعلمون أصدقه، وشهدوا له بأنه أصدق الذين يحكون لهم عن أهل الكتاب، أو من أصدقهم.
ونحن اليوم ننوب عن عبد الله بن سلام، وقد أوجدنا كم هذه البشارات في كتبكم، فهي شاهدة لنا عليكم، والكتب بأيديكم فأتوا بها فاتلوها إن كنتم صادقين، وعندنا ممن وفقه الله للإسلام منكم من يواقفكم، ويقابلكم، ويحاققكم عليها، وإلا فاشهدوا على أنفسكم بما شهد الله، وملائكته، وأنبيائه، ورسله، وعباده المؤمنون به، عليكم من الكفر والتكذيب، والجحد للحق، ومعاداة الله ورسوله.
الوجه الثالث: أنه لو أتاكم عبد الله بن سلام بكل نسخة متضمنة لغاية البيان والصراحة، لكان في بهتكم، وعنادكم، وكذبكم، ما يدفع في وجوهها ويحرفها أنواع التحريف ما وجد إليه سبيلا، فإذا جاءكم بما لا قبل لكم به، قلتم: ليس هو، ولم يأت بعد، وقلتم: نحن لا نفارق حكم التوراة، ولا نتبع نبي الأميين.
وقد صرح أسلافكم الذين شاهدوا رسول الله ﷺ، وعاينوه، أنه رسول حقا، وأنه المبشر به، الموعود به، على ألسنة الأنبياء المتقدمين، وقال من قال منهم في وجهه: نشهد أنك نبي فقال: «ما يمنعك من اتباعي»؟ قال: إنا نخاف أن يقتلنا يهود.
وقد قال تعالى: (إن الذي حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون، ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم)، وقد جاءكم بآيات هي أعظم من بشارات الأنبياء به وأظهر، بحيث أن كل آية منها يصلح أن يؤمن على مثلها البشر، فما زادكم ذلك إلا نفورا، وتكذيبا، وإباء لقبول الحق، فلو نزل الله إليكم ملائكته، وكلمكم الموتى، وشهد له بالنبوة كل رطب ويابس، لغلبت عليكم الشقوة وصرتم إلى ما سبق لكم في أم الكتاب.
وقد رأى من كان أعقل منكم وأبعد من الحسد من آيات الأنبياء ما رأوا، وما زادهم ذلك إلا تكذيبا وعنادا، فأسلافكم وقدوتكم في تكذيب الأنبياء من الأمم، لا يحصيهم إلا الله حتى كأنكم تواصيتم بذلك أوصى به الأول للآخر، واقتدى فيه الآخر بالأول قال تعالى:
(كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون)، وهبنا ضربنا عن إخبار الأنبياء المتقدمين به صفحا، أفليس في الآيات والبراهين التي ظهرت على يديه ما يشهد بصحة نبوته؟
وسنذكر منها بعد الفراغ من الأجوبة طرفا يقطع المعذرة، ويقيم الحجة والله المستعان.
==============

الرد على من قال بعدم كفر هاتين الأمتين
قال السائل: «إنكم نسبتم الأمتين العظيمتين المذكورتين إلى اختيار الكفر على الإيمان للغرض المذكور، فابن سلام وأصحابه أولى بذلك الغرض، لأنهم قليلون جدا، وأضداده كثيرون لا يحصيهم عدد»
والجواب من وجوه:
أحدها: إنا قد بينا أن جمهور هاتين الأمتين المذكورتين آمن به، وصدقه، وقد كانوا ملء الأرض وهذه الشام ومصر وما جاورهما، واتصل بهما من أعمالها، والجزيرة والموصل وأعمالهما، وأكثر بلاد المغرب، وكثير من بلاد المشرق، كانوا كلهم نصارى. فأصبحت هذه البلاد كلها مسلمين، فالمتخلف من هاتين الأمتين عن الإيمان به أقل القليل بالإضافة إلى من آمن به وصدقه، وهؤلاء عباد الأوثان كلهم أطبقوا على الإسلام، إلا من كان منهم في أطراف الأرض بحيث لم تصل إليه الدعوة، وهذه أمة المجوس توازي هاتين الأمتين كثرة، وشوكة، وعددا، دخلوا في دينه، وبقي من بقي منهم كما بقيتم أنتم تحت الذلة والجزية.
الثاني: إنا قد بينا أن الغرض الحامل لهم على الكفر ليس هو مجرد المأكلة ولا رياسة فقط، وإن كان من جملة الأغراض؛ بل منهم من حمله ذلك.
ومنهم من حله الحسد.
ومنهم من حمله الكبر.
ومنهم من حمله الهوى.
ومنهم من حمله محبة الآباء، والأسلاف وحسن الظن بهم.
ومنهم من حمله ألفه للدين الذي نشأ عليه، وجبل بطبعه، فصار انتقاله عنه كمفارقة الإنسان ما طبع عليه.
وأنت ترى هذه السبب كيف هو الغالب المستولي على أكثر بني آدم في إثارهم ما اعتادوه من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمساكن، والديانات، على ما هو خير منه وأوفق بكثير.
منهم من حمله التقليد والجهل، وهم الأتباع الذين ليس لهم علم.
ومنهم من حمله الخوف من فوات محبوب أو حصول مرهوب، فلم تنسب هاتين الأمتين إلى الغرض المذكور وحده.
الثالث: إنا قد بينا أن الأمم الذين كانوا قبلهم كانوا أكثر عددا، وأغزر عقولا منهم، وكلهم اختاروا العمى على الهدى، والكفر على الإيمان بعد البصيرة، فلهاتين الأمتين سلف كثير وهم أكثر الخلق.
الرابع: أن عبد الله بن سلام، وذويه، إنما أسلموا في وقت شدة من الأمر، وقلة من المسلمين وضعف، وحاجة، وأهل الأرض مطبقون على عداوتهم، واليهود والمشركين هم أهل الشوكة، والعدة، والحلقة، والسلاح، ورسول الله ﷺ وأصحابه إذ ذاك قد أووا إلى المدينة، وأعداؤهم يتطلبونهم في كل وجه، وقد بذلوا الرغائب لمن جاءهم بهم. فخرج رسول الله ﷺ، وصاحبه، وخادمهما، فاستخفوا ثلاثا في غار تحت الأرض.
ثم خرجوا بعد ثلاث على غير الطريق إلى أن قدموا المدينة، والشوكة، والعدد، والعدة فيها لليهود والمشركين. فأسلم عبد الله بن سلام حين مقدم النبي ﷺ المدينة، لما رأى أعلام النبوة التي كان يعرفها وشاهدها فيه، وترك الأغراض التي منعت المغضوب عليهم من الإسلام، من الرياسة، والمال، والجاه بينهم، وقد شهدوا له كلهم عند رسول الله ﷺ أنه رئيسهم، وخيرهم، وسيدهم، فعلم أنهم إن علموا بإسلامه أخرجوه من تلك الرياسة والسيادة، فأحب أن يعلم رسول الله ﷺ بذلك، فقال: أدخلني بعض بيوتك، وسلهم عني، ففعل، وسألهم عنه، فأخبروه أنه: سيدهم، ورئيسهم، وعالمهم، فخرج عليهم وذكرهم، وأوقفهم على أنهم يعلمون أنه رسول الله، وقابلهم بذلك، فسبوه، وقدحوا فيه، وأنكروا رياسته، وسيادته، وعلمه.
فلو كان عبد الله بن سلام ممن يؤثر عرض الدنيا، والرياسة، لفعل كما فعله اليهود، وهكذا شأن من أسلم من اليهود حينئذ، وأما المتخلفون فكثير منهم صرح بغرضه لخاصته وعامته، وقال: إن هؤلاء القوم قد عظمونا ورأسونا، ومولونا فلو اتبعناه لنزعوا ذلك كله منا، وهذا قد رأيناه نحن في زماننا، وشاهدناه عيانا، ولقد ناظرت بعض علماء النصارى معظم يوم، فلما تبين له الحق بهت، فقلت له وأنا وهو خاليين: ما يمنعك الآن من اتباع الحق؟
فقال لي: إذا قدمت على هؤلاء الحمير - هكذا لفظه - فرشوا لنا الشقاق تحت حوافر دابتي، وحكموني في أموالهم، ونسائهم، ولم يعصموني فيما آمرهم به، وأنا لا أعرف صنعه، ولا أحفظ قرآنا، ولا نحوا، ولا فقها، فلو أسلمت لدرت في الأسواق أتكفف الناس، فمن الذي يطيب نفسا بهذا؟
فقلت: هذا لا يكون، وكيف تظن بالله أنك إذا آثرت رضاه على هواك يخزيك، ويذلك، ويحوجك؟
ولو فرضنا أن ذلك أصابك فما ظفرت به من الحق، والنجاة من النار، ومن سخط الله وغضبه، فيه أتم العوض عما فاتك! فقال: حتى يأذن الله، فقلت: القدر لا يحتج به، ولو كان القدر حجة لكان حجة لليهود على تكذيب المسيح، وحجة للمشركين على تكذيب الرسل، ولا سيما أنتم تكذبون بالقدر، فكيف تحتج به؟ فقال: دعنا الآن من هذا وأمسك.
الخامس: أن جوابك في نفس سؤالك، فإنك اعترفت أن عبد الله بن سلام وذويه كانوا قليلين جدا، وأضدادهم لا يحصون كثرة، ومعلوم أن الغرض الداعي لموافقة الجمهور الذين لا يحصون كثرة، وهم أولو القوة، والشوكة، أقوى من الغرض الداعي لموافقة الأقلين المستضعفين والله الموفق.
==========

فصل الرد على من طعن بالصحابة
قال السائل: «تدخل علينا الريبة من جهة عبد الله بن سلام وأصحابه، وهو أنكم قد بنيتم أكثر أساس شرائعكم في الحلال والحرام، والأمر والنهي، على أحاديث عوام من الصحابة، الذين ليس لهم بحث في علم، ولا دراسة، ولا كتابة، قبل مبعث نبيكم. فابن سلام هو وأصحابه أولى أن يؤخذ بأحاديثهم، ورواياتهم، لأنهم كانوا أهل علم، وبحث، ودراسة، وكتابة، قبل مبعث نبيكم وبعده، ولا نراكم تروون عنهم من الحلال والحرام، والأمر والنهي، إلا شيئا يسيرا جدا، وهو ضعيف عندكم»
والجواب من وجوه:
أحدها: أن هذا بهت من قائله، فإنا لن نبن أساس شريعتنا في الحلال والحرام، والأمر والنهي، إلا على كتاب ربنا المجيد، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. الذي أنزله على رسوله محمد ﷺ، الذي تحدى به الأمم كلها، على اختلاف علومها، وأجناسها، وطبائعها، وهو في غاية الضعف، وأعداؤه طبقوا الأرض أن يعارضوه بمثله، فيكونوا أولى بالحق منه، ويظهر كذبه وصدقهم. فعجزوا عن ذلك، فتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا، هذا وأعداؤه الأدنون إليه أفصح الخلق، وهم أهل البلاغة، والفصاحة، واللسن، والنظم، والنثر، والخطب، وأنواع الكلام، فما منهم من فاه في معارضته ببنت شفة، وكانوا أحرص الناس على تكذيبه، وأشدهم أذى له بالقول والفعل، والتنفير عنه بكل طريق، فما نقل عن أحدهم منهم سورة واحدة عارضة بها؛ إلا مسيلمة الكذاب بمثل قوله: «ياضفدع بنت ضفدعين، نقي كم تنقين، لا الشارب تمنعين، ولا الماء تكدرين، ومثل الطاحنات طحنا، والعاجنات عجنا، فالخابزات خبزا، أهالة وسمنا». وأمثال هذه الألفاظ التي هي بألفاظ أهل الجنون، والمعتوهين، أشبه منها بألفاظ العقلاء، فالمسلمون إنما بنوا أساس دينهم، ومعالم حلالهم وحرامهم، على الكتاب الذي لم ينزل من السماء كتاب أعظم منه، فيه بيان كل شيء، وتفصيل كل شيء، وهدى، ورحمة، وشفاء لما في الصدور، به هدى الله رسوله وأمته، فهو أساس دينهم.
الثاني: أن قولكم: «إن المسلمين بنوا أساس دينهم على رواية عوام من الصحابة» من أعظم البهت، وأفحش الكذب، فإنهم وإن كانوا أميين فمذ بعث الله فيهم رسوله زكاهم، وعلمهم الكتاب والحكمة، وفضلهم في العلم، والعمل والهدى، والمعارف الإلهية، والعلوم النافعة المكملة للنفوس، على جميع الأمم.
فلم تبق أمة من الأمم تدانيهم في فضلهم، وعلومهم، وأعمالهم، ومعارفهم، فلو قيس ما عند جميع الأمم من معرفة، وعلم، وهدى، وبصيرة، إلى ما عندهم لم يظهر له نسبة إليه بوجه ما؛وإن كان غيرهم من الأمم أعلم بالحساب، والهندسة، والكم المتصل، والكم المنفصل، والنبض، والقارورة، والبول، والقسطة، ووزن الأنهار، ونقوش الحيطان، ووضع الآلات العجيبة، وصناعة الكيميا، وعلم الفلاحة، وعلم الهيئة، وتسير الكواكب، وعلم الموسيقا والألحان. وغير ذلك من العلوم، التي هي بين علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة، وبين علم نفعه في العاجلة، وليس من زاد المعاد.
فإن أردتم أن الصحابة كانوا عواما في هذه العلوم فنعم إذا «وتلك شكاة ظاهر عنك عارها».
وإن أردتم أنهم كانوا عواما في العلم بالله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، ودينه، وشرعه، وتفاصيله، واليوم الآخر وتفاصيله، وتفاصيل ما بعد الموت، وعلم سعادة النفوس وشقاوتها، وعلم صلاح القلوب وأمراضها، فمن بهت نبيهم بما بهته به، وجحد نبوته ورسالته، التي هي للبصائر أظهر من الشمس للأبصار، لم ينكر له أن يبهت أصحابه، ويجحد فضلهم، ومعرفتهم، وينكر ما خصهم الله به، وميزهم على من قبلهم، ومن هو كائن بعدهم إلى يوم القيامة؟
وكيف يكونون عواما في ذلك، وهم أذكى الناس فطرة، وأزكاهم نفوسا، وهم يتلقونه غضا طريا ومحضا لم يشب عن نبيهم، وهم أحرص الناس وأشوقهم إليه، وخبر السماء يأتيهم على لسانه في ساعات الليل، والنهار، والحضر، والسفر، وكتابهم قد اشتمل على علوم الأولين والآخرين، وعلم ما كان من المبدأ والمعاد، وتخليق العالم، وأحوال الأمم الماضية، والأنبياء وسيرهم، وأحوالهم مع أممهم، ودرجاتهم ومنازلهم عند الله، وعددهم وعدد المرسلين منهم، وذكر كتبهم، وأنواع العقوبات التي عذب الله بها أعداءهم، وما أكرم به أتباعهم، وذكر الملائكة وأصنافهم وأنواعهم، وما وكلوا به، واستعملوا فيه، وذكر اليوم الآخر، وتفاصيل أحواله، وذكر الجنة، وتفاصيل نعيمها، والنار وتفاصيل عذابها، وذكر البرزخ وتفاصيل أحوال الخلق فيه، وذكر أشراط الساعة، والإخبار بها، مفصلا بما لم يتضمنه كتاب غيره من حين قامت الدنيا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
كما أخبر به المسيح عنه من قوله في الإنجيل وقد بشرهم به فقال: «وكل شيء أعده الله تعالى لكم يخبركم به».
وفي موضع آخر منه: «ويخبركم بالحوادث، والغيوب».
وفي موضع آخر: «يعلمكم كل شيء».
وفي موضع آخر منه: «يحي لكم الأسرار، ويفسر لكم كل شيء، وأجيئكم بالأمثال، وهو يجيئكم بالتأويل».
وفي موضع آخر: «إن لي كلاما كثيرا أريد أن أقوله لكم، ولكنكم لا تستطيعون حمله، لكن إذا جاء روح الحق، ذلك يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه ليس ينطق من عنده، بل يتكلم بما يسمع، ويخبركم بكل ما يأتي، ويعرّفكم جميع ما للأب».
فمن هذا علمه بشهادة المسيح وأصحابه يتلقون ذلك جميعه عنه، وهم أذكى الخلق، وأحفظهم وأحرصهم، كيف تدانيهم أمة من الأمم في هذه العلوم والمعارف؟
«ولقد صلى رسول الله ﷺ يوما صلاة الصبح، ثم صعد المنبر، فخطبهم حتى حضرت الظهر، ثم نزل فصلّى، وصعد، فخطبهم حتى حضرت العصر، ثم نزل فصلّى، وخطبهم حتى حضرت المغرب، فلم يدع شيئا إلى قيام الساعة إلا أخبرهم به، فكان أعلمهم، أحفظهم».
وخطبهم مرة أخرى خطبة فذكر بدأ الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم، وأهل النار منازلهم.
وقال يهودي لسلمان: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة! قال: أجل؟ فهذا اليهودي كان أعلم بنبينا من هذا السائل وطائفته.
وكيف يدعى في أصحاب نبينا أنهم عوام، وهذه العلوم النافعة المبثوثة في الأمة على كثرتها، واتساعها، وتفنن ضروبها، إنما هي عنهم مأخوذة، ومن كلامهم وفتاويهم مستنبطة.
وهذا عبد الله بن عباس كان من صبيانهم، وفتيانهم، وقد طبق الأرض علما، وبلغت فتاويه نحوا من ثلاثين سفرا، وكان بحرا لا ينزف، لو نزل به أهل الأرض لأوسعهم علما، وكان إذا أخذ في الحلال والحرام، والفرائض، يقول القائل: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في تفسير القرآن، ومعانيه، يقول السامع: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في السنة، والرواية، عن النبي ﷺ يقول القائل: لا يحسن سواه، فإذا أخذ في القصص، وأخبار الأمم، وسير الماضين، فكذلك، فإذا أخذ في أنساب العرب، وقبائلها، وأصولها، وفروعها، فكذلك، فإذا أخذ في الشعر والغريب فكذلك.
قال مجاهد: العلماء أصحاب محمد ﷺ.
وقال قتادة: في قوله تعالى: (ويرى الذي أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق) قال: هم أصحاب محمد ﷺ.
ولما حضر معاذا الموت قيل: أوصنا، قال: أجلسوني إن العلم والإيمان بمكانهما من اقتفاهما وجدّهما عند أربعة رهط: عند عويمر أبي الدرداء، وعند سلمان الفارسي، وعند عبد الله بن مسعود، وعند عبد الله بن سلام، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إنه عاشر عشرة في الجنة».
وقال أبو إسحاق السبيعي: قال عبد الله: علماء الأرض ثلاثة؛ فرجل بالشام، وآخر بالكوفة، وآخر بالمدينة، فأما هذان فيسألان الذي بالمدينة، والذي بالمدينة لا يسألهما عن شيء.
وقيل لعلي ابن أبي طالب: حدثنا عن أصحاب رسول الله ﷺ، قال: عن أيهم؟ قالوا: عن عبد الله بن مسعود، قال: قرأ القرآن، وعلم السنة، ثم انتهى وكفى بذلك.
قالوا: فحدثنا عن حذيفة، قال: أعلم أصحاب محمد بالمنافقين.
قالوا: فأبو ذر؟ قال: كنيف ملئ علما عجن فيه.
قالوا: فعمار؟ قال: مؤمن نسي، إذا ذكرته ذكر خلط الله بالإيمان بلحمه، ودمه، ليس للنار فيه نصيب.
قالوا: فأبو موسى؟ قال: صبغ في العلم صبغة.
قالوا: فسلمان؟ قال: علم العلم الأول والآخر، بحر لا ينزح، هو منا أهل البيت.
قالوا: فحدثنا عن نفسك يا أمير المؤمنين؟ قال: إياها أردتم، كنت إذا سئلت أعطيت، وإذا سكت ابتديت.
وقال مسروق: شافهت أصحاب محمد ﷺ، فوجدت علمهم ينتهي إلى ستة: إلى علي، وعبد الله، وعمر، وزيد بن ثابت، وأبي الدرداء، وأبي بن كعب، ثم شافهت الستة، فوجدت علمهم ينتهي إلى علي، وعبد الله.
وقال مسروق: جالست أصحاب محمد ﷺ، وكانوا كالأخاذ الأخاذ، يروي الراكب، والأخاذ يروي الراكبين، والأخاذ العشرة، والأخاذ لو نزل به أهل الأرض لأصدرهم، وإن عبد الله من تلك الأخاذ.
وفي الصحيح عن النبي ﷺ قال: «بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن، فشربت منه حتى أرى الري يخرج من أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر، فقالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله، قال: «العلم».
وقال عبد الله: إني لأحسب أن عمر بن الخطاب، قد ذهب بتسعة أعشار العلم. وقال عبد الله: لو أن علم عمر بن الخطاب وضع في كفة الميزان، ووضع علم أهل الأرض في كفة، لرجح علم عمر. وقال حذيفة بن اليمان: كأن علم الناس مع علم عمر، دس في حجر.
وقال الشعبي قضاة هذه الأمة أربعة: عمر، وعلي، وزيد، وأبو موسى.
وقال قبيصة بن جابر: ما رأيت رجلا قط، أعلم بالله، ولا أقرأ لكتاب الله، ولا أفقه في دين الله، من عمر.
وقال علي: بعثني رسول الله ﷺ إلى اليمن، وأنا حديث السن، ليس لي علم بالقضاء، فقلت: إنك ترسلني إلى قوم يكون فيهم الأحداث، وليس لي علم بالقضاء، قال: فضرب في صدري، وقال: «إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك» قال: فما شككت في قضاء بين اثنين بعده. وفي الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال: كنت أرعى غنما لعقبة ابن أبي معيط، فمر بي رسول الله ﷺ، وأبو بكر، فقال لي: «يا غلام هل من لبن»؟ فقلت: نعم، ولكني مؤتمن، قال: «فهل من شاة لم ينز عليها الفحل»؟ قال: فأتيته بشاة فمسح ضرعها، فنزل لبن، فحلبه في إناء، فشرب وسقى أبا بكر، ثم قال للضرع: «اقلص» فقلص، قال: ثم أتيته بعد هذا فقلت: يا رسول الله علمني من هذا القول، فمسح رأسي، وقال: «يرحمك الله إنك عليم معلّم».
وقال عقبة بن عامر: ما أرى أحدا أعلم بما أنزل على محمد [ﷺ] من عبد الله، فقال أبو موسى: إن تقل ذلك فإنه كان يسمع حين لا نسمع، ويدخل حين لا ندخل.
وقال مسروق: قال عبد الله: ما أنزلت سورة إلا وأنا أعلم فيما أنزلت، ولو إني أعلم أن رجلا أعلم بكتاب الله مني، تبلغه الإبل، والمطايا لأتيته.
وقال عبد الله بن بريدة في قوله عز وجل: (حتى إذا خرجوا من عندك، قالوا للذين أوتوا العلم: ماذا قال آنفا)قال: هو عبد الله بن مسعود.
وقيل لمسروق: كانت عائشة تحسن الفرائض؟ قال: والله لقد رأيت الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ يسألونها عن الفرائض.
وقال أبو موسى: ما أشكل علينا أصحاب محمد ﷺ حديث قط، فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علما.
وقال شهر بن حوشب: كان أصحاب محمد ﷺ إذا تحدثوا، وفيهم معاذ بن جبل نظروا إليه هيبة له.
وقال علي بن أبي طالب: أبو ذر وعاء ملئ علما، ثم وكى عليه، فلم يخرج منه شيء حتى قبض.
وقال مسروق: قدمت المدينة، فوجدت زيد بن ثابت من الراسخين في العلم، ولما بلغ أبا الدرداء موت، عبد الله بن مسعود قال: أما إنه لم يخلف بعده مثله.
وقال أبو الدرداء: إن من الناس من أوتي علما، ولم يؤت حلما، وشداد بن أوس ممن أوتي علما وحلما.
ولما مات زيد بن ثابت، قام ابن عباس على قبره، وقال: هكذا يذهب العلم، وضم رسول الله ﷺ ابن عباس وقال: «اللهم علمه الحكمة، وتأويل الكتاب».
وقال محمد بن الحنفية لما مات ابن عباس: لقد مات رباني هذه الأمة.
وقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: ما رأيت أحدا أعلم بالسنة، ولا أجلد رأيا، ولا أثقب نظرا حين ينظر من ابن عباس.
وكان عمر بن الخطاب يقول له: قد طرأت علينا عضل أقضية أنت لها ولأمثالها، ثم يقول عبيد الله، وعمر عمر في جده، وحسن نظره للمسلمين.
وقال عطاء بن أبي رباح: ما رأيت مجلسا قط أكرم من مجلس ابن عباس: أكثر فقها، وأعظم جفنة، إن أصحاب الفقه عنده، وأصحاب القرآن عنده، وأصحاب الشعر، يصدرهم كلهم في وادٍ واسع، وكان عمر بن الخطاب يسأله مع الأكابر من أصحاب رسول الله ﷺ، ودعى له رسول الله ﷺ أن يزيده الله علما، وفقها.
وقال عبد الله بن مسعود: لو أن ابن عباس أدرك أسناننا، ما عشره منا رجل: أي ما بلغ عشره.
وقال ابن عباس: ما سألني أحد عن مسألة إلا عرفت أنه فقيه أو غير فقيه، وقيل له: أنى أصبت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤول وقلب عقول، وكان يسمى البحر من كثرة علمه.
وقال طاوس: أدركت نحو خمسين من أصحاب رسول الله ﷺ، إذا ذكر لهم ابن عباس شيئا فخالفوه لم يزل بهم حتى يقررهم.
وقال الأعمش: كان ابن عباس إذا رأيته، قلت: أجمل الناس، فإذا تكلم، قلت: أفصح الناس، فإذا حدّث، قلت: أعلم الناس.
وقال مجاهد: كان ابن عباس إذا فسر الشيء عليه النور.
وقال ابن سيرين: كانوا يرون أن الرجل الواحد يعلم من العلم، ما لا يعلمه الناس أجمعون. قال ابن عون: فكأنه رآني أنكرت ذلك، قال: فقال: أليس أبو بكر كان يعلم ما لا يعلم الناس، ثم كان عمر يعلم ما لا يعلم الناس؟
وقال عبد الله بن مسعود: لو وضع علم أحياء العرب في كفة، وعلم عمر في كفة، لرجح بهم علم عمر، قال الأعمش: فذكروا ذلك لإبراهيم، فقال: عبد الله إن كنا لنحسبه قد ذهب بتسعة أعشار العلم.
وقال سعيد بن المسيب: ما أعلم أحدا من الناس بعد رسول الله ﷺ أعلم من عمر بن الخطاب.
وقال الشعبي: قضاة الناس أربعة: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبو موسى الأشعري.
وكانت عائشة رضي الله عنها مقدّمة في العلم بالفرائض، والسنن، والأحكام، والحلال والحرام، والتفسير.
قال عروة بن الزبير: ما جالست أحدا قط أعلم بقضاء، ولا بحديث الجاهلية، ولا أروى للشعر، ولا أعلم بفريضة، ولا طب من عائشة.
وقال عطاء: كانت عائشة أعلم الناس، وأفقه الناس.
وقال البخاري في تاريخه: روى العلم عن أبي هريرة ثمانمائة رجل، ما بين صاحب وتابع.
وقال عبد الله ابن مسعود: إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد خير قلوب العباد، فاصطفاه وبعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد ﷺ، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلوا وزراءه.
وقال ابن عباس في قوله تعالى: (قل الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى) قال: هم أصحاب محمد ﷺ.
وقال ابن مسعود: من كان منكم مستنا، فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا يؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لإقامة دينه، وصحبة نبيه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.
وقد أثنى الله سبحانه عليهم بما لم يثنه على أمة من الأمم سواهم.
فقال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي عدولا خيارا: (لتكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليكم شهيدا).
وقال تعالى: (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).
وقال: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركعا سجدا، يبتغون فضلا من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، ذلك مثلهم في التوراة، ومثلهم في الإنجيل، كزرع أخرج شطأه، فآزره، فاستغلظ، فاستوى على سوقه، يعجب الزراع، ليغيظ بهم الكفار، وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة، وأجرا عظيما).
وقال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) وهم محمد وأصحابه.
وصح عنه ﷺ أنه قال: «أنتم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها، وأكرمها على الله عز وجل».
وقال تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين، والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، رضي الله عنهم ورضوا عنه، وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم).
وقال مالك عن نافع: كان ابن عباس، وابن عمر يجلسان للناس عند قدوم الحاج، وكنت أجلس إلى هذا يوما، وإلى هذا يوما، فكان ابن عباس يجيب، ويفتي في كل ما يسأل عنه، وكان ابن عمر يرد أكثر مما يفتي. قال مالك: وسمعت «أن معاذ بن جبل يكون إمام العلماء برتوة» يعني: يكون إمامهم يوم القيامة برمية حجر.
وقال مالك: أقام ابن عمر بعد النبي ﷺ ستين سنة، يفتي الناس في الموسم، وغير ذلك، وكان من أئمة الدين.
وقال عمر لجرير: يرحمك الله، إن كنت لسيدا في الجاهلية فقيها في الإسلام. وقال محمد بن المنكدر: ما قدم البصرة أحد أفضل من عمران بن حصين.
وكان لجابر بن عبد الله حلقة في مسجد رسول الله ﷺ، يؤخذ عنه العلم.
والعلم إنما انتشر في الآفاق عن أصحاب رسول الله ﷺ، فهم الذين فتحوا البلاد بالجهاد، والقلوب بالعلم والقرآن، فملؤا الدنيا خيرا وعلما، والناس اليوم في بقايا آثار علمهم.
قال الشافعي في رسالته وقد ذكر الصحابة فعظمهم وأثنى عليهم ثم قال: وهم فوقنا في كل علم، واجتهاد، وورع، وعقل، وأمر، أستدرك به علم، وآراؤهم لنا، أحمد وأولى بنا من آرائنا، ومن أدركنا ممن نرضى، أو حكي لنا عنه ببلدنا، صاروا فيما لم يعلموا فيه سنة، إلى قولهم إن اجتمعوا أو قول بعضهم إن تفرقوا، وكذلك نقول ولم نخرج من أقاويلهم كلهم.
وقال الشافعي: وقد أثنى الله على الصحابة في التوراة، والإنجيل، والقرآن، وسبق لهم على لسان نبيهم ﷺ من الفضل ما ليس لأحد بعدهم.
وقال أبو حنيفة: إذا جاء عن النبي ﷺ فعلى الرأس والعين، وإذا جاء عن الصحابة نختار من قولهم، ولم نخرج عنه.
وقال ابن القاسم: سمعت مالكا، يقول: لما دخل أصحاب رسول الله ﷺ الشام نظر إليهم رجل من أهل الكتاب، فقال: ما كان أصحاب عيسى ابن مريم الذين قطّعوا بالمناشير، وصلبوا على الخشب، بأشد اجتهادا من هؤلاء.
وقد شهد لهم الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، بأنهم خير القرون على الإطلاق، كما شهد لهم ربهم تبارك وتعالى، بأنهم خير الأمم على الإطلاق وعلماؤهم وتلاميذهم هم الذين ملاؤا الأرض علما، فعلماء الإسلام كلهم تلاميذهم، وتلاميذ تلاميذهم، وهلم جرا.
وهؤلاء الأئمة الأربعة الذين طبق علمهم الأرض شرقا وغربا، هم تلاميذ تلاميذهم، وخيار ما عندهم ما كان عن الصحابة، وخيار الفقه ما كان عنهم، وأصح التفسير ما أخذ عنهم.
وأما كلامهم في باب معرفة الله، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وقضائه وقدره، ففي أعلى المراتب، فمن وقف عليه، وعرف ما قالته الأنبياء، عرف أنه مشتق منه، مترجم عنه، وكل علم نافع في الأمة فهو مستنبط من كلامهم، ومأخوذ عنهم، وهؤلاء تلاميذهم، وتلاميذ تلاميذهم، قد طبقت تصانيفهم وفتاويهم الأرض.
فهذا مالك جمعت فتاويه في عدة أسفار، وكذلك أبو حنيفة، وهذه تصانيف الشافعي تقارب المائة، وهذا الإمام أحمد بلغت فتاويه وتآليفه نحو مائة سفر، وفتاويه عندنا في نحو عشرين سفرا، وغالب تصانيفه بل كلها عن رسول الله ﷺ، وعن الصحابة، والتابعين.
وهذا علامتهم المتأخر «شيخ الإسلام ابن تيمية» جمع بعض أصحابه فتاواه في ثلاثين مجلدا، ورأيتها في الديار المصرية، وهذه تآليف أئمة الإسلام التي لا يحصيها إلا الله، وكلهم من أولهم إلى آخرهم يقر للصحابة بالعلم، والفضل، ويعترف بأن علمه بالنسبة إلى علومهم، كعلومهم بالنسبة إلى علم نبيهم.
وفي الثقفيات حدثنا قتيبة بن سعيد، هن سعيد بن عبد الرحمن المعافري، عن أبيه، أن كعبا رأى حبر اليهود يبكي، فقال له: ما يبكيك؟ قال: ذكرت بعض الأمر، فقال كعب: أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني؟ قال: نعم، قال: أنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة، فقال: رب إني أجد أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر، ويقاتلون أهل الضلالة، حتى يقاتلون الأعور الدجال، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: فأنشدك الله، هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب إني أجد أمة هم الحمادون، رعاة الشمس، المحكمون إذا أرادوا أمرا، قالوا: نفعله إن شاء الله، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
فقال كعب: فأنشدك الله أتجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب إني أجد أمة إذا أشرف أحدهم على شرف كبّر الله، وإذا هبط حمد الله؛ الصعيد طهورهم، والأرض لهم مسجد، حيثما كانوا يتطهرون من الجنابة، طهورهم بالصعيد كطهورهم بالماء، حيث لا يجدون الماء، غرا محجلين من آثار الوضوء فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: فأنشدك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة، فقال: يا رب، إني أجد أمة مرحومة ضعفاء أورثتهم الكتاب، فاصطفيتهم لنفسك، فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم مقتصد، ومنهم سابق بالخيرات، فلا أجد أحدا منهم إلا مرحوما، فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
قال كعب: أنشدك الله أتجد في كتاب الله أن موسى نظر في التوراة فقال: يا رب إني أجد أمة مصاحفهم في صدورهم، يصفون في صلاتهم كصفوف الملائكة، أصواتهم في مساجدهم كدوي النحل، لا يدخل النار منهم أحد إلا من بريء من الحسنات مثل ما بريء الحجر من ورق الشجر، قال موسى: فاجعلهم أمتي، قال: هم أمة أحمد يا موسى؟ قال الحبر: نعم.
فلما عجب موسى من الخير الذي أعطى الله محمدا وأمته، قال: ليتني من أصحاب محمد، فأوحى الله إليه ثلاث آيات يرضيه بهن: (يا موسى إني اصطفيتك على الناس) الآية. (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون). (وكتبنا له في الألواح) الآية. قال: فرضي موسى كل الرضا.
وهذه الفصول بعضها في التوراة التي بأيديهم، وبعضها في نبوة شعيا، وبعضها في نبوة غيره.
والتوراة أعم من التوراة المعينة، وقد كان الله سبحانه كتب لموسى في الألواح من كل شيء موعظة، وتفصيلا لكل شيء، فلما كسرها رفع منها الكثير، وبقي خير كثير، فلا يقدح في هذا النقل جهل أكثر أهل الكتاب به، فلا يزال في العلم الموروث عن الأنبياء شيء لا يعرفه إلا الآحاد من الناس، أو الواحد وهذه الأمة على قرب عهدها بنبيها في العلم الموروث عنه، ما لا يعرفه إلا الأفراد القليلون جدا من أمته، وسائر الناس منكر له وجاهل به.
وسمع كعب رجلا يقول: رأيت في المنام، كأن الناس جمعوا للحساب، فدعي الأنبياء، فجاء مع كل نبي أمته، ورأيت لكل نبي نورين، ولكل من اتبعه نورا يمشي بين يديه، فدعي محمد ﷺ. فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما، فقال كعب: من حدّثك بهذا؟ قال: رؤيا رأيتها في منامي، قال: أنت رأيت هذا في منامك؟ قال: نعم، قال: والذي نفسي بيده إنها لصفة محمد وأمته، وصفة الأنبياء وأممهم، لكأنما قرأتها من كتاب الله.
وفي بعض الكتب القديمة أن عيسى ابن مريم صلوات الله وسلامه عليه، قيل له: يا روح الله! هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال: نعم، قيل: وأية أمة؟ قال: أمة أحمد، قيل: يا روح الله! وما أمة أحمد؟ قال: علماء، حكماء، أبرار، أتقياء، كأنهم من الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل، يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلا الله.
وقال كعب: علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، وفيه حديث مرفوع لا أعرف حاله.
ثم نقول: وما يدريكم معاشر اليهود والنصارى بالفقه والعلم؟ ومسمي هذا الاسم حيث تسلبونه أصحاب محمد الذين هم وتلاميذهم كأنبياء بني إسرائيل، وهل يميز بين العلماء والجهال، ويعرف مقادير العلماء، إلا من هو من جملتهم، ومعدود في زمرتهم؟
فأما طائفة شبه الله علماءهم بالحمير التي تحمل أسفارا، وطائفة علماؤها يقولون في الله ما لا ترضاه أمة من الأمم فيمن تعظمه وتجله، وتأخذ دينها عن كل كاذب، ومفتر على الله، وعلى أنبيائه، فمثلها مثل عريان يحارب شاكي السلاح، ومن سقف بيته زجاج، وهو يزاحم أصحاب القصور بالأحجار، ولا يستكثر على من قال في الله ورسوله ما قال أن يقول في أعلم الخلق أنهم عوام... فليهنأ اليهود علم «المشنا، والتلمود» وما فيهما من الكذب على الله، وعلى كليمه موسى.
وما يحدث لهم أحبارهم وعلماء السوء منهم كل وقت، ولتهنهم علوم دلتهم على أن الله ندم على خلق البشر حتى شق عليه، وبكى على الطوفان حتى رمد، وعادته الملائكة، ودلتهم على أن يناجوا في صلاتهم، بقولهم: يا إلهنا انتبه من رقدتك، كم تنام. ينخونه حتى يتنخى لهم، ويعيد دولتهم، ولتهن أمة اليهود علومهم التي فارقوا بها جميع شرائع الأنبياء، وخالفوا بها المسيح خلافا تتحققه علماؤهم في كل أمره كما ستمر بك، وعلومهم التي قالوا بها في رب العالمين ما قالوا مما كادت السموات تنشق منه، والأرض تنفطر، والجبال تنهد، لولا أن أمسكها الحليم الصبور.
وعلومهم التي دلتهم على التثليث، وعبادة خشبة الصليب، والصور المدهونة بالسيرقون والزنجفر، ودلتهم على قول عالمهم: أفريم إن اليد التي جبلت طينة آدم هي التي علقت على الصلبوب، وأن الشبر الذي ذرعت به السموات هو الذي سمر على الخشبة، وقول عالمهم عرقودس: من لم يقل إن مريم والدة الله فهو خارج عن ولاية الله!
======================

الفصل العاشر: معاصي الأمم لا تقدح في الرسل ولا في رسالتهم
قال السائل: «نرى في دينكم أكثر الفواحش، فيمن هو أعلم، وأفقه في دينكم، كالزنا، واللواط، والخيانة، والحسد، والبخل، والغدر، والتجبر، والتكبر، والخيلاء، وقلة الورع، واليقين، وقلة الرحمة، والمروءة، والحمية، وكثرة الهلع، والتكالب على الدنيا، والكسل في الخيرات، وهذا الحال يكذب لسان المقال»
والجواب من وجوه:
أحدها: أن يقال: ما ذا على الرسل الكرام من معاصي أممهم وأتباعهم؟
وهل يقدح ذلك شيئا في نبوتهم أو يغير وجه رسالتهم؟
وهل سلم من الذنوب على اختلاف أنواعها، وأجناسها إلا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم؟
وهل يجوز رد رسالتهم وتكذيبهم بمعصية بعض أتباعهم لهم؟
وهل هذا إلا من أقبح التعنت؟ وهو بمنزلة رجل مريض دعاه طبيب ناصح إلى سبب ينال به غابة عافيته، فقال: لو كنت طبيبا لم يكن فلان وفلان وفلان مرضى! وهل يلزم الرسل أن يشفوا جميع المرضى بحيث لا يبقى في العالم مريض؟ !
هل تعنت أحد من الناس للرسل بمثل هذا التعنت؟
الوجه الثاني: أن الذنوب والمعاصي أمر مشترك بين الأمم، لم تزل في العالم من طبقات بني آدم عالمهم، وجاهلهم، وزاهدهم في الدنيا، وراغبهم، وأميرهم، ومأمورهم، وليس ذلك أمرا اختصت به هذه الأمة حتى يقدح به فيها وفي نبيها.
الوجه الثالث: أن الذنوب والمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل، بل يجتمع في العبد الإسلام والإيمان والذنوب والمعاصي، فيكون فيه هذا وهذا. فالمعاصي لا تنافي الإيمان بالرسل وإن قدحت في كماله وتمامه.
الوجه الرابع: أن الذنوب تغفر بالتوبة النصوح، فلو بلغت ذنوب العبد عنان السماء، وعدد الرمل والحصا، ثم تاب منها تاب الله عليه، قال تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم). فهذا في حق التائب؛ فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، والتوحيد يكفر الذنوب.
كما في الحديث الصحيح الإلهي: «ابن آدم لو لقيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا، لقيتك بقرابها مغفرة» فالمسلمون ذنوبهم ذنوب موحد إن قوي التوحيد على محو آثارها بالكلية، وإلا فما معهم من التوحيد يخرجهم من النار إذا عذبوا بذنوبهم.
وأما المشركون، والكفار فإن شركهم وكفرهم يحبط حسناتهم، فلا يلقون ربهم بحسنة يرجون بها النجاة، ولا يغفر لهم شيء من ذنوبهم، قال تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء).
وقال تعالى في حق الكفار والمشركين: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا).
وقال رسول الله ﷺ: «أبى الله أن يقبل من مشرك عملا» فالذنوب تزول آثارها بالتوبة النصوح، والتوحيد الخالص، والحسنات الماحية، والمصائب المكفرة لها، وشفاعة الشافعين في الموحدين، وآخر ذلك إذا عذب بما يبقى عليه منها أخرجه توحيده من النار.
وأما الشرك بالله، والكفر بالرسول، فإنه يحبط جميع الحسنات بحيث لا تبقى معه حسنة.
الوجه الخامس: أن يقال لمورد هذا السؤال إن كان من أمة اليهود: ألا يستحي من إيراد هذا السؤال من آباؤه وأسلافه كانوا يشاهدون في كل يوم من الآيات ما لم يره غيرهم من الأمم؟ وقد فلق الله لهم البحر، وأنجاهم من عدوهم، وما جفت أقدامهم من ماء البحر، حتى قالوا لموسى:
(اجعل لنا إلها كما لهم ألهه، قال: إنكم قوما تجهلون) ولما ذهب لميقات ربه لم يمهلوه أن عبدوا بعد ذهابه العجل المصوغ، وغلب أخوه هرون معهم، ولم يقدر على الإنكار عليهم، وكانوا مع مشاهدتهم تلك الآيات، والعجائب، يهمون برجم موسى، وأخيه هرون في كثير من الأوقات، والوحي بين أظهرهم!!
ولما ندبهم إلى الجهاد قالوا: (اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون)، وآذوا موسى أنواع الأذى حتى قالوا: أنه آدر - أي منتفخ الخصية - ولهذا يغتسل وحده، فاغتسل يوما ووضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه فعدا خلفه عريانا حتى نظر بنو إسرائيل إلى عورته، فرأوه أحسن خلق الله متجردا.
ولما مات أخوه هرون قالوا: إن موسى قتله وغيبه. فرفعت الملائكة لهم تابوت بين السماء والأرض حتى عاينوه ميتا، وآثروا العود إلى مصر وإلى العبودية ليشبعوا من أكل اللحم، والبصل، والقثاء، والعدس. هكذا عندهم.
والذي حكاه الله عنهم أنهم آثروا ذلك على المن والسلوى؛ وإنهماكهم على الزنا وموسى بين أظهرهم، وعدوهم بإزائهم حتى ضعفوا عنهم ولم يظفروا بهم، وهذا معروف عندهم.
وعبادتهم الأصنام بعد عصر يوشع بن نون معروف، وتحيلهم على صيد الحيتان في يوم السبت لا تنسه، حتى مسخوا قردة خاسئين وقتلهم الأنبياء بغير حق حتى قتلوا في يوم واحد سبعين نبيا في أول النهار، وأقاموا السوق آخره، كأنهم جزروا غنما وذلك أمر معروف.
وقتلهم يحيى بن زكريا ونشرهم إياه بالمنشار، وإصرارهم على العظائم واتفاقهم على تغيير الكثير من أحكام التوراة، ورميهم لوطا بأنه وطئ ابنتيه وأولدهما، ورميهم يوسف بأنه حل سراويله، وجلس من امرأة العزيز من القابلة حتى انشق له الحائط، وخرجت له كف يعقوب، وهو عاض على أنامله، فقام وهرب.
وهذا لو رآه أفسق الناس، وأفجرهم لقام ولم يقض غرضه، وطاعتهم للخارج على ولد سليمان بن داود لما وضع لهم كبشين من ذهب فعكفت جماعتهم على عبادتهما، إلى أن جرت الحرب بينهم وبين المؤمنين الذين كانوا مع ولد سليمان، وقتل منهم في معركة واحدة ألوف مؤلفة.
أفلا يستحي عباد الكباش والبقر من تغيير الموحدين بذنوبهم؟
أولا تستحي ذرية قتلة الأنبياء من تعيير المجاهدين لأعداء الله؟
فأين ذرية من سيوف آبائهم تقطر من دماء الأنبياء ممن تقطر سيوفهم من دماء الكفار والمشركين؟
أولا يستحي من يقول في صلاته لربه: انتبه كم تنام يا رب، استيقظ من رقدتك، ينخيه بذلك ويحميه، من تعيير من يقول في صلاته: (الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، إياك نعبد وإياك نستعين) فلو بلغت ذنوب المسلمين عدد الحصا والرمال والتراب والأنفاس، ما بلغت مبلغ قتل نبي واحد، ولا وصلت إلى اليهود (إن الله فقير ونحن أغنياء).
وقولهم: (عزير ابن الله).
وقولهم: (نحن أبناء الله وأحباؤه).
وقولهم: إن الله بكر على الطوفان حتى رمد من البكاء، وجعلت الملائكة تعوده، وقولهم: أنه عض أنامله على ذلك.
وقولهم: إنه ندم على خلق البشر، وشق عليه لما رأى من معاصيهم وظلمهم.
وأعظم من ذلك نسبة هذا كله إلى التوارة التي أنزلها على كليمه، فلو بلغت ذنوب المسلمين ما بلغت، لكانت في جنب ذلك كتفلة في بحر، ولا تنس قصة أسلافهم مع شاؤل الخارج على داود فإن سوادهم الأعظم انضم إليه، وشدوا معه حرب داود.
ثم لما عادوا إلى طاعة داود، وجاءت وفودهم وعساكرهم مستغفرين معتذرين، بحيث اختصموا في السبق إليه فنبغ منهم شخص، ونادى بأعلى صوته: لا نصيب لنا في داود.
ولا حظ في شاؤل، ليمض كل منهم إلى خبائة يا إسرائيلين، فلم يكن بأوشك من أن ذهب جميع عسكر بني إسرائيل إلى أخبيتهم بسبب كلمته، ولما قتل هذا الصائح، عادت العساكر جميعها إلى خدمة داود، فما كان القوم إلا مثل همج رعاع، يجمعهم طبل ويفرقهم عصى!
===============

كتب اليهود
وهذه الأمة الغضيبة وإن كانوا متفرقين افتراقا كثيرا فيجمعهم فرقتان: القراؤون والربانيون وكان لهم أسلاف فقهاء، وهم صنفوا لهم كتابين: أحدهما يسمى المشنا ومبلغ حجمه نحو ثمانمائة ورقة.
والثاني يسمى التلمود ومبلغه قريب من نصف حمل بغل، ولم يكن المؤلفون له في عصر واحد، وإنما ألفوه في جيل بعد جيل.
فلما نظر متأخروهم إلى ذلك، وأنه كلما مر عليه الزمان زادوا فيه، وفي الزيادات المتأخرة ما ينقض كثيرا من أوله علموا أنهم إن لم يقفلوا باب الزيادة، وإلا أدى إلى الخلل الفاحش فقطعوا الزيادة، وحظروها على فقهائهم، وحرموا من يزيد عليه شيئا فوقف الكتاب على ذلك المقدار.
وكان فقهاؤهم قد حرموا عليهم في هذين الكتابين مؤاكلة من كان على غير ملتهم، وحظروا عليهم أكل اللحمان من ذبائح من لم يكن على دينهم، لأنهم علموا أن دينهم لا يبقى عليهم مع كونهم تحت الذل، والعبودية، وقهر الأمم لهم، إلا أن يصدوهم عن مخالطة من كان على غير ملتهم، وحرموا عليهم مناكحتهم، والأكل من ذبائحهم، ولم يمكنهم ذلك إلا بحجة يبتدعونها من أنفسهم، ويكذبون فيها على الله.
فإن التوارة إنما حرمت عليهم مناكحة غيرهم من الأمم لئلا يوافقوا أزواجهم في عبادة الأصنام والكفر بالله، وإنما حرمت عليهم أكل ذبائح الأمم التي يذبحونها قربانا للأصنام، لأنه سمى عليها اسم الله.
فأما ما ذكر عليه اسم الله وذبح لله، فلم تنطق التوارة بتحريمه البتة، بل نطقت بإباحة أكلهم من أيدي غيرهم من الأمم، وموسى إنما نهاهم عن مناحكة عباد الأصنام وأكل ما يذبحونه باسم الأصنام، قالوا: التوارة حرمت علينا أكل الطريفا، قيل لهم: الطريفا هي: الفريسة التي يفترسها الأسد، أو الذئب، أو غيرهما من السباع.
كما قال في التوارة: «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا وللكلب ألقوه» فلما نظر فقهاؤهم إلى أن التوارة غير ناطقة بتحريم مآكل الأمم عليهم إلا عباد الأصنام، وصرحت التوارة بأن تحريم مؤاكلتهم، ومخالطتهم خوف استدراج المخالطة إلى المناكحة، والمناكحة قد تستتبع الانتقال من دينهم إلى أديانهم، وموافقتهم في عبادة الأوثان، ووجدوا جميع هذا واضحا في التوارة، اختلقوا كتابا سموه: «هلكث شحيطا» وتفسيره علم الذباحة.
ووضعوا في هذا الكتاب من الآصار والأغلال ما شغلوهم به عما هم فيه من الذل والصغار والخزي فأمروهم فيه أن ينفخوا الرئة حتى يملؤها هواء ويتأملونها، هل يخرج الهواء من ثقب منها أم لا؟ فإن خرج منها الهواء حرموه، وإن كانت بعض أطراف الرئة لاصقة ببعض لم يأكلوه.
وأمروا الذي يتفقد الذبيحة أن يدخل يده في بطن الذبيحة ويتأمل بأصابعه، فإن وجد القلب ملتصقا إلى الظهر أو أحد الجانبين ولو كان الالتصاق بعرق دقيق كالشعرة حرموه ولم يأكلوه وسموه: طريفا ومعنى هذه اللفظة عندهم: أنه نجس حرام، وهذه التسمية عدوان منهم؛ فإن معناها في لغتهم هي: الفريسة التي يفترسها السبع، ليس لها معنى في لغتهم سواه.
ولذلك عندهم في التوارة: أن إخوة يوسف لما جاؤا بقميصه ملطخا بالدم قال يعقوب في جملة كلام: «طاروف طوارف يوسف» تفسيره: وحش ردي أكله افتراسا افترس يوسف، وفي التوارة: «ولحم في الصحراء فريسة لا تأكلوا» فهذا الذي حرمته التوارة من الطريفا، وهذا نزل عليهم وهم في التيه، وقد اشتد قرمهم إلى اللحم، فمنعوا من أكل الفريسة والميتة.
ثم اختلفوا في خرافات وهذيانات تتعلق بالرئة، وقالوا: ما كان من الذبائح سليما من هذه الشروط فهو دخيا وتفسيره: طاهر.
وما كان خارجا عن ذلك فهو طريفا وتفسيره: نجس حرام، ثم قالوا: معنى قوله في التوارة: «ولحم فريسة في الصحراء لا تأكلوه، للكلب ألقوه» يعني: إذا ذبحتم ذبيحة، ولم توجد فيها هذه الشروط فلا تأكلوها، بل بيعوها على من ليس من أهل ملتكم، قالوا: ومعنى قوله: «للكلب ألقوه» أي: لمن ليس على ملتكم فهو الكلب فأطعموه إياه بالثمن.
فتأمل هذا التحريف والكذب على الله وعلى التوراة وعلى موسى، ولذلك كذبهم الله على لسان رسوله في تحريم ذلك فقال في السورة المدنية التي خاطب فيها أهل الكتاب: (فكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله) الآية.
وقال في سورة الأنعام: (قل لا أجد فيما أوحي إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم. وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم) فهذا تحريم زائد على تحريم الأربعة المتقدمة.
وقال في سورة النحل، وهي بعد هذه السورة نزولا: (وعلى الذين هادوا حرمنا ما قصصنا عليك من قبل) فهذا المحرم عليهم بنص التوارة ونص القرآن.
فلما نظر القراؤون منهم وهم أصحاب عايان، وبنيامين إلى هذه المحالات الشنيعة، والافتراء الفاحش والكذب البارد على الله وعلى التوارة وعلى موسى، وأن أصحاب التلمود والمشنا كذابون على الله وعلى التوارة وعلى موسى، وأنهم أصحاب حماقات ورقاعات وأن أتباعهم ومشايخهم يزعمون أن الفقهاء منهم كانوا إذا اختلفوا في مسألة من هذه المسائل وغيرها يوحي الله إليهم بصوت يسمعونه الحق في هذه المسألة مع الفقيه فلان ويسمون هذا الصوت بث قول.
فلما نظر القراؤون إلى هذا الكذب المحال قالوا: قد فسق هؤلاء ولا يجوز قبول خبر فاسق ولا فتواه، فخالفوهم في سائر ما أصلوه من الأمور التي لم ينطق بها نص التوارة.
وأما تلك الترهات التي ألفها فقهاؤهم الذين يسمونهم الحخاميم في علم الذباحة، ورتبوها ونسبوها إلى الله فأطرحها القراؤون كلها وألغوها، وصاروا لا يحرمون شيئا من الذبائح التي يتولون ذبحها البتة، ولهم فقهاء أصحاب تصانيف إلا أنهم يبلغون في الكذب على الله، وهم أصحاب ظواهر مجردة والأولون أصحاب استنباط وقياسات.
والفرقة الثانية يقال لهم: الربانيون وهم أكثر عددا، وفيهم الحخاميم الكذابون على الله الذين زعموا أن الله كان يخاطب جميعهم في كل مسألة بالصوت الذي يسمونه بث قول.
وهذه الطائفة أشد اليهود عداوة لغيرهم من الأمم، فإن الحخاميم أوهموهم بأن الذبائح لا يحل منها إلا ما كان على الشروط التي ذكروها، فإن سائر الأمم لا تعرف هذا، وأنه شيء خصوا به وميزوا بهم عمن سواهم، وأن الله شرفهم به كرامة لهم، فصار الواحد منهم ينظر إلى من ليس على نحلته كما ينظر إلى الدابة، وينظر إلى ذبائحه كما ينظر إلى الميتة.
وأما القراؤون فأكثرهم خرجوا إلى دين الإسلام ونفعهم تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها إلى أن لم يبق منهم إلا القليل، لأنهم أقرب استعدادا لقبول الإسلام لأمرين:
أحدهما: إساءة ظنهم بالفقهاء الكذابين المفترين على الله، وطعنهم عليهم.
الثاني: تمسكهم بالظواهر، وعدم تحريفها، وإبطال معانيها.
وأما أولئك الربانيون فإن فقهاءهم وحخاميمهم حصروا في مثل سم الخياط بما وضعوا لهم من التشديدات والآصار والأغلال المضافة إلى الآصار والأغلال التي شرعها الله عقوبة لهم، وكان لهم في ذلك مقاصد
منها أنهم قصدوا بذلك مبالغتهم في مضادة مذاهب الأمم، حتى لا يختلطوا بهم، فيؤدي اختلاطهم بهم إلى موافقتهم والخروج من السبت واليهودية.
القصد الثاني أن اليهود مبدون في شرق الأرض وغربها وجنوبها وشمالها، كما قال تعالى: (وقطعناهم في الأرض أمما).
وما من جماعة منهم في بلدة إلا إذا قدم عليهم رجل من أهل دينهم من بلاد بعيدة يظهر لهم الخشونة في دينه والمبالغة في الاحتياط، فإن كان فقهائهم شرع في إنكار أشياء عليهم يوهمهم قلة دينهم وعلمهم، وكلما شدد عليهم قالوا: هذا هو العالم، فأعلمهم أعظمهم تشديدا عليهم، فتراه أول ما ينزل عليهم لا يأكل من أطعمتهم وذبائحهم، ويتأمل سكين الذباح، ويشرع في الإنكار عليه ببعض أمره، ويقول: لا آكل إلا من ذبيحة يدي، فتراهم معه في عذاب، ويقولون: هذا عالم غريب قدم علينا، فلا يزال ينكر عليهم الحلال، ويشدد عليهم الآصار والأغلال، ويفتح لهم أبواب المكر، والاحتيال، وكلما فعل هذا، قالوا: هذا العالم الرباني، والحخيم الفاضل، فإذا رآه رئيسهم قد مشى حاله، وقبل بينهم مقاله، وزن نفسه معه، فإذا رأى أنه ازدرى به، وطعن عليه لم يقبل منه، فإن الناس في الغالب يميلون مع الغريب، وينسبه أصحابه إلى الجهل وقلة الدين، ولا يصدقونه لأنهم يرون القادم قد شدد عليهم وضيق.
وكلما كان الرجل أعظم تضييقا وتشديدا، كان أفقه عندهم، فينصرف عن هذا الرأي، فيأخذ في مدحه وشكره، فيقول: لقد عظم ثواب فلان إذ قوّى ناموس الدين في قلوب هذه الجماعة، وشيّد أساسه، وأحكم سياج الشرع، فيبلغ القادم قوله، فيقول: ما عندكم أفقه منه، ولا أعلم بالتوراة، وإذا لقيه يقول: زين إليه بك أهل بلدنا، ونعش بك هذه الطائفة!
وإن كان القادم عليهم حبرا من أحبارهم، فهناك ترى العجب العجيب من الناموس التي تراه يعتمده، والسنن التي يحدثها، ولا يعترض عليه أحد، بل تراهم مسلمين له، وهو يحتلب درّهم، ويجتلب درهمهم.
وإذا بلغه عن يهودي طعن عليه، صبر عليه حتى يرى منه جلوسا على قارعة الطريق يوم السبت، أو يبلغه أنه اشترى من مسلم لبنا، أو خمرا، أو خرج عن بعض أحكام المشنا والتلمود، فحرمه بين ملأ اليهود، وأباحهم عرضه، ونسبه إلى الخروج عن اليهودية، فيضيق به البلد على هذه الحال، فلا يسعه إلا أن يصلح ما بينه وبين الحبر بما يقتضيه الحال، فيقول لليهود: إن فلانا قد أبصر رشده، وراجع الحق، وأقلع عما كان فيه، وهو اليوم يهودي على الوضع، فيعودون له بالتعظيم والإكرام.
====================

من شريعتهم نكاح امرأة الأخ أو العار
وأذكر لك مسألة من مسائل شرعهم المبدل، أو المنسوخ، تعرف بمسألة البياما والجالوس وهي أن عندهم في التوارة:
إذا أقام أخوان في موضع واحد، ومات أحدهما ولم يعقب ولدا، فلا تصير امرأة الميت إلى رجل أجنبي بل حموها ينكحها، وأول ولد يولدها ينسب إلى أخيه الدارج. فإن أبى أن ينكحها خرجت مشتكية إلى مشيخة قومه، قائلة: قد أبى حموي أن يستبقي اسما لأخيه في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، فيحضره ويكلفه أن يقف، ويقول: ما أردت نكاحها، فتتناول المرأة نعله فتخرجه من رجله، وتمسكه بيدها، وتبصق في وجهه، وتنادي عليه: كذا فيلصنع بالرجل الذي لا يبني بيت أخيه.
ويدعى فيما بعد: بالمخلوع النعل، وينتبز بنوه بهذا اللقب، وفي هذا كالتلجئة له إلى نكاحها، لأنه إذا علم أنه قد فرض على المرأة وعليه ذلك، فربما استحيا، وخجل من شيل نعله من رجله، والبصق في وجهه، ونبزه باللقب المستكره الذي يبقى عليه وعلى أولاده عاره، ولم يجد بدا من نكاحها.
فإن كان من الزهد فيها والكراهة لها، بحيث يرى أن هذا كله أسهل عليه من أن يبتلى بها، وهان عليه هذا كله، في التخلص منها لم يكره على نكاحها، هذا عندهم في التوارة.
ونشأ لهم من ذلك، فرع مرتب عليه وهو: أن يكون مريدا للمرأة، محبا لها، وهي في غاية الكراهة له، فأحدثوا لهذا الفرع حكما في غاية الظلم والفضيحة، فإذا جاءت إلى الحاكم أحضروه معها، ولقنوها أن تقول: إن حموي لا يقيم لأخيه اسما في بني إسرائيل، ولم يرد نكاحي، وهو عاشق لها - فيلزمونها بالكذب عليه، وأنها أرادته فامتنع - فإذا قالت ذلك، ألزمه الحاكم أن يقوم ويقول: ما أردت نكاحها - ونكاحها غاية سؤله، وأمنيته، فيأمرونه بالكذب عليها - فيخرج نعله من رجله إلا أنه لا مَسْكٌ هنا، ولا ضَرْب، بل يبصق في وجهه، وينادى عليه: هذا جزاء من لا يبني بيت أخيه.
فلم يكفهم أن كذبوا عليه حتى أقاموه مقام الخزي، وألزموه بالكذب، والبصاق في وجهه، والعتاب على ذنب جره غيره، كما قيل:
وجرم جره سفهاء قوم وحل بغير جارمه العذاب
أفلا يستحي من تعيير المسلمين من هذا شرعه ودينه؟ ولا يستبعد اصطلاح أمة اليهود على المحال، واتفاقهم على أنواع من الكفر والضلال. فإن الدولة إذا انقرضت عن أمة باستيلاء غيرها عليها، وأخذ بلادها انطمست حقائق سالف أخبارها، ودرست معالم دينها، وآثارها، وتعذر الوقوف على الصواب الذي كان عليه أولوها وأسلافها؛ لأن زوال الدولة عن الأمة إنما يكون بتتابع الغارات، وخراب البلاد، وإحراقها، وجلاء أهلها عنها، فلا تزال هذه البلايا متتابعة عليها، إلى أن تستحيل رسوم دياناتها، وتضمحل أصول شرعها، وتتلاشى قواعد دينها.
وكلما كانت الأمة أقدم، واختلفت عليها الدول المتناولة لها بالإذلال والصغار، كان حظها من اندراس دينها أوفر، وهذه أمة اليهود أوفر الأمم حظا من ذلك، فإنها أقدم الأمم عهدا، واستولت عليها سائر الأمم من الكندانيين، والكلدانيين، والبابليين، والفرس، واليونان، والنصارى، وما من هذه الأمم أمة إلا وقصدت استئصالهم، وإحراق كتبهم، وتخريب بلادهم، حتى لم يبق لهم مدينة، ولا جيش، ولا حصن، إلا بأرض الحجاز وخيبر، فأعز ما كانوا هناك.
فلما قام الإسلام، واستعلن الرب تعالى من جبال فاران صادفهم تحت ذمة الفرس والنصارى، وصادف هذه الشرذمة بخيبر والمدينة، فأذاقهم الله بالمسلمين من القتل، والسبي، وتخريب الديار، ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم.
وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء، فكتب الله عليهم الجلاء، وشتتهم ومزقهم بالإسلام كل ممزق، ومع هذا فلم يكونوا مع أمة من الأمم أطيب منهم مع المسلمين، ولا آمن، فإن الذي نالهم من النصارى، والفرس، وعباد الأصنام، لم ينلهم من المسلمين مثله.
وكذلك الذي نالهم مع ملوكهم العصاة الذين قتلوا الأنبياء، وبالغوا في طلبهم، وعبدوا الأصنام، وأحضروا من البلاد سدنة للأصنام لتعظيمها وتعظيم رسومها في العبادة، وبنوا لها البيع والهياكل، وعكفوا على عبادتها، وتركوا لها أحكام التوراة، وشرع موسى أزمنة طويلة، وأعصارا متصلة.
فإذا كان هذا شأنهم مع ملوكهم، فما الظن بشأنهم مع أعدائهم أشد الأعداء عليهم، كالنصارى الذين عندهم أنهم قتلوا المسيح وصلبوه وصفعوه وبصقوا في وجهه ووضعوا الشوك على رأسه، وكالفرس والكلدانيين وغيرهم.
وكثيرا ما منعهم ملوك الفرس من الختان وجعلوهم قلفا، وكثيرا ما منعوهم من الصلاة لمعرفتهم بأن معظم صلاتهم دعاء على الأمم بالبوار وعلى بلادهم بالخراب إلا أرض كنعان، فلما رأوا أن صلاتهم هكذا منعوهم من الصلاة.
فرأت اليهود أن الفرس قد جدوا في منعهم من الصلاة، فاخترعوا أدعية مزجوا بها صلاتهم، سموها الخزانة وصاغوا لها ألحانا عديدة، وصاروا يجتمعون على تلحينها وتلاوتها، والفرق بين الخزانة والصلاة أن الصلاة بغير لحن ويكون المصلي فيها وحده، والخزانة بلحن يشاركه غيره فيه.
فكانت الفرس إذا أنكروا ذلك عليهم، قالت اليهود: نحن نغني وننوح على أنفسنا، فيخلون بينهم وبين ذلك، فجاءت دولة الإسلام فأمنوا فيها غاية الأمن، وتمكنوا من صلاتهم في كنائسهم، واستمرت الخزانة سنة فيهم في الأعياد والمواسم والأفراح، وتعوضوا بها عن الصلاة.
والعجب أنهم مع ذهاب دولتهم وتفرق شملهم وعلمهم بالغضب الممدود المستمر عليهم ومسخ أسلافهم قردة لقتلهم الأنبياء وعدوانهم في السبت وخروجهم عن شريعة موسى والتوراة وتعطيلهم لأحكامها، يقولون في كل يوم في صلاتهم محبة الدهر: أحبنا يا إلهنا! يا أبانا! أنت أبونا منقذنا! ويمثلون أنفسهم بعناقيد العنب، وسائر الأمم بالشوك المحيط بالكرم لحفظه، وأنهم سيقيم الله لهم نبيا من آل داود إذا حرك شفتيه بالدعاء مات جميع الأمم، ولا يبقى على وجه الأرض إلا اليهود. وينبهون الله بزعمهم من رقدته في صلاتهم وينخونه ويحمونه، تعالى الله عن إفكهم وضلالهم علوا كبيرا. وضلال هذه أمة اليهود وكذبها وافتراؤها على الله ودينه وأنبيائه لا مزيد عليه.
وأما أكلهم الربا والسحت والرشا واستبدادهم دون العالم بالخبث والمكر والبهت وشدة الحرص على الدنيا وقسوة القلوب والذل والصغار والخزي والتحيل على الأغراض الفاسدة ورمي البرآء بالعيوب والطعن على الأنبياء: فأرخص شيء عندهم، وما عيروا به المسلمين مما ذكروه ومما لم يذكروه، فهو في بعضهم وليس في جميعهم، ونبيهم وكتابه ودينه وشرعه بريء منه، وما عليه من معاصي أمته وذنوبهم فإلى الله إيابهم وعلى الله حسابهم.
================

دين النصارى
وإن كان المعير للمسلمين من اليهود والنصارى، فيقال له:
ألا يستحي من أصل دينه الذي يدين به، اعتقاده أن رب السموات والأرض تبارك وتعالى نزل عن كرسي عظمته وعرشه، ودخل في فرج امرأة تأكل وتشرب وتبول وتتغوط وتحيض، فالتحم ببطنها وأقام هناك تسعة أشهر يتلبط بين نجو وبول ودم طمث، ثم خرج إلى القماط والسرير، كلما بكى ألقمته أمه ثديها، ثم انتقل إلى المكتب بين الصبيان، ثم آل أمره إلى لطم اليهود خديه وصفعهم قفاه وبصقهم في وجهه ووضعهم تاجا من الشوك على رأسه والقصبة في يده؛ استخفافا به وانتهاكا لحرمته، ثم قربوه من مركب خص بالبلاء راكبه، فشدوه عليه وربطوه بالحبال وسمروا يديه ورجليه، وهو يصيح ويبكي ويستغيث من حر الحديد وألم الصلب؛ هذا وهو الذي خلق السموات والأرض وقسم الأرزاق والآجال؟ ولكن اقتضت حكمته ورحمته أن يمكن أعداءه من نفسه لينالوا منه ما نالوا فيستحقوا بذلك العذاب والسجن في الجحيم، ويفدي أنبياءه ورسله وأولياءه بنفسه فيخرجهم من سجن إبليس؛ فإن روح آدم وإبراهيم ونوح وسائر النبيين عندهم، كانت في سجن إبليس في الناس حتى خلصها من سجنه بتمكينه أعداءه من صلبه.
===========================

مقالة أشباه الحمير في مريم وابنها
أما قولهم في «مريم» فإنهم يقولون: إنها أم المسيح ابن الله في الحقيقة ووالدته في الحقيقة، لا أم لابن الله إلا هي؛ ولا والدة له غيرها، ولا أب لابنها إلا الله، لا ولد له سواه، وإن الله اختارها لنفسه ولولادة ولده وابنه من بين سائر النساء.
ولو كانت كسائر النساء لما ولدت إلا عن وطء الرجال لها، ولكن اختصت عن النساء بأنها حبلت بابن الله، وولدت ابنه الذي لا ابن له في الحقيقة غيره، ولا والد له سواه، وإنها على العرش جالسة عن يسار الرب تبارك وتعالى والد ابنها، وابنها عن يمينه.
والنصارى يدعونها ويسألونها سعة الرزق وصحة البدن وطول العمر ومغفرة الذنوب، وأن تكون لهم عند ابنها ووالده - الذي يعتقد عامتهم أنه زوجها، ولا ينكرون ذلك عليهم - سورا وسندا وذخرا وشفيعا وركنا، ويقولون في دعائهم: يا والدة الإله، اشفعي لنا!
وهم يعظمونها ويرفعونها على الملائكة وعلى جميع النبيين والمرسلين، ويسألونها ما يسأل الإله من العافية والرزق والمغفرة، حتى أن اليعقوبية يقولون في مناجاتهم لها: يا مريم، يا والدة الإله، كوني لنا سورا وسندا وذخرا وركنا.
والنسطورية يقولون: يا والدة المسيح، كوني لنا كذلك!
ويقولون لليعقوبية: لا تقولوا يا والدة الإله، وقولوا: يا والدة المسيح، فقالت لهم اليعقوبية: المسيح عندنا وعندكم إله في الحقيقة، فأي فرق بيننا وبينكم في ذلك؟ ولكنكم أردتم مصالحة المسلمين ومقاربتهم في التوحيد.
هذا والأوقاح الأرجاس من هذه الأمة، تعتقد أن الله سبحانه اختار مريم لنفسه ولولده، وتخطاها كما يتخطى الرجل المرأة.
قال النظام بعد أن حكى ذلك عنهم: وهم يفصحون بهذا عند من يثقون به.
وقد قال ابن الأخشيد هذا عنهم في المعونة وقال: إليه يشيرون، ألا ترون أنهم يقولون: من لم يكن والدا يكون عقيما، والعقم آفة وعيب، وهذا قول جميعهم وإلى المباضعة يشيرون، ومن خالط القوم وطاولهم وباطنهم عرف ذلك منهم، فهذا كفرهم وشركهم برب العالمين ومسبتهم له، ولهذا قال فيهم أحد الخلفاء الراشدين: أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله مسبة ما سبه إياها أحد من البشر.
وقد أخبر النبي ﷺ عن ربه في الحديث الصحيح أنه قال: «شتمني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وكذبني ابن آدم، ولم يكن له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا، وأنا الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون علي من إعادته».
فلو أتى الموحدون بكل ذنب وفعلوا كل قبيح وارتكبوا كل معصية، ما بلغت مثقال ذرة في جنب هذا الكفر العظيم برب العالمين ومسبته هذا السب وقول العظائم فيه.
فما ظن هذه الطائفة برب العالمين أن يفعله بهم إذا لقوه (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) ويسأل المسيح على رؤس الأشهاد وهم يسمعون (يا عيسى ابن مريم ءأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله) فيقول المسيح مكذبا لهم ومتبرئا منهم: (سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك، إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم، وكنت عليه شهيدا ما دمت فيهم، فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم، وأنت على كل شيء شهيد)
فهذا أصل دينهم، وأساسه الذي قام عليه.
وأما فروعه وشرائعه فهم مخالفون للمسيح في جميعها، وأكثر ذلك بشهادتهم وإقرارهم ولكن يحيلون على البتاركة والأساقفة؛ فإن المسيح صلوات الله وسلامه عليه كان يتدين بالطهارة ويغتسل من الجنابة ويوجب غسل الحائض.
وطوائف النصارى عندهم أن ذلك كله غير واجب، وإن الإنسان يقوم من على بطن المرأة ويبول ويتغوط ولا يمس ماء ولا يستجمر، والبول والنجو ينحدر على ساقه وفخذه ويصلي كذلك، وصلاته صحيحة تامة، ولو تغوط وبال وهو يصلي لم يضره فضلا عن أن يفسو أو يضرط، ويقولون: إن الصلاة بالجنابة والبول والغائط أفضل من الصلاة بالطهارة، لأنها حينئذ أبعد من صلاة المسلمين واليهود وأقرب إلى مخالفة الأمتين.
ويستفتح الصلاة بالتصليب بين عينيه، وهذه الصلاة رب العالمين بريء منها، وكذلك المسيح وسائر النبيين؛ فإن هذه بالاستهزاء أشبه منها بالعبادة، وحاش المسيح أن تكون هذه صلاته، أو صلاة أحد من الحواريين، والمسيح كان يقرأ في صلاته ما كان الأنبياء وبنو إسرائيل يقرؤنه في صلاتهم من التوراة والزبور؛ وطوائف النصارى إنما يقرؤن في صلاتهم كلاما قد لحنه لهم الذين يتقدمون ويصلون بهم، يجري مجرى النوح والأغاني.
فيقولون: هذا قداس فلان، وهذا قداس فلان. ينسبونه إلى الذين وضعوه، وهم يصلون إلى الشرق. وما صلى المسيح إلى الشرق قط، وما صلى إلى أن توفاه الله إلا إلى بيت المقدس، وهي قبلة داود والأنبياء قبله، وقبلة بني إسرائيل.
والمسيح اختتن وأوجب الختان، كما أوجبه موسى وهارون والأنبياء قبل المسيح.
والمسيح حرم الخنزير ولعن آكله وبالغ في ذمه؛ والنصارى تقر بذلك، ولقي الله ولم يطعم من لحمه بوزن شعيرة؛ والنصارى تتقرب إليه بأكله.
والمسيح ما شرع لهم هذا الصوم الذي يصومونه قط ولا صامه في عمره مرة واحدة، ولا أحد من أصحابه، ولا صام صوم العذارى في عمره، ولا أكل في الصوم ما يأكلونه، ولا حرم فيه ما يحرمونه، ولا عطل السبت يوما واحدا حتى لقي الله، ولا اتخذ الأحد عيدا قط، والنصارى تقر أنه رقى مريم المجدلية، فأخرج منها سبع شياطين، وأن الشياطين قالت له: أين نأوي؟ فقال لها: اسلكي هذه الدابة النجسة، يعني الخنزير.
فهذه حكاية النصارى عنه وهم يزعمون أن الخنزير من أطهر الدواب وأجملها، والمسيح سار في الذبائح والمناكح والطلاق والمواريث والحدود سيرة الأنبياء قبله.
وليس عند النصارى على من زنا أو لاط أو سكر حد في الدنيا أبدا ولا عذاب في الآخرة؛ لأن القس والراهب يغفره لهم، فكلما أذنب أحدهم ذنبا أهدى للقس هدية أو أعطاه درهما أو غيره ليغفر له به.
وإذا زنت امرأة أحدهم بيّتها عند القس ليطيبها له فإذا انصرفت من عنده، وأخبرت زوجها أن القس طيبها قبل ذلك منها وتبرك به.
وهم يقرون أن المسيح قال: «إنما جئتكم لأعمل بالتوراة وبوصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضا بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى، ومن نقض شيئا من ذلك يدعى ناقضا في ملكوت السماء»، وما زال هو وأصحابه كذلك إلى أن خرج من الدنيا، وقال لأصحابه:
«اعملوا بما رأيتموني أعمل، وارضوا من الناس بما أرضيتكم به، ووصوا الناس بما وصيتكم به، وكونوا معهم كما كنت معكم، وكونوا لهم كما كنت لكم» وما زال أصحاب المسيح بعده على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة.
ثم أخذ القوم في التغيير والتبديل والتقرب إلى الناس بما يهوون، ومكايدة اليهود ومناقضتهم بما فيه ترك دين المسيح والانسلاخ منه جملة، فرأوا اليهود قد قالوا في المسيح: إنه ساحر مجنون ممخرق ولد زنية، فقالوا: هو إله تام وهو ابن الله!
ورأوا اليهود يختتنون فتركوا الختان!
ورأوهم يبالغون في الطهارة، فتركوها جملة!
ورأوهم يتجنبون مؤاكلة الحائض وملامستها ومخالطتها جملة، فجامعوها!
ورأوهم يحرمون الخنزير، فأباحوه وجعلوه شعار دينهم!
ورأوهم يحرمون كثيرا من الذبائح والحيوان، فأباحوا ما دون الفيل إلى البعوضة، وقالوا: كل ماشئت ودع ما شئت، لا حرج!
ورأوهم يستقبلون بيت المقدس في الصلاة، فاستقبلوا هم الشرق!
ورأوهم يحرمون على الله نسخ شريعة شرعها، فجوزا هم لأساقفتهم وبتاركتهم أن ينسخوا ما شاؤا ويحللوا ما شاؤا ويحرموا ما شاؤا!
ورأوهم يحرمون السبت ويحفظونه، فحرموا هم الأحد وأحلوا السبت، مع إقرارهم بأن المسيح كان يعظم السبت ويحفظه!
ورأوهم ينفرون من الصليب، فإن في التوراة «ملعون من تعلق بالصليب» والنصارى تقر بهذا، فعبدوا هم الصليب. كما أن في التوراة تحريم الخنزير نصا، فتعبدوا هم بأكله، وفيها الأمر بالختان، فتعبدوا هم بتركه، مع إقرار النصارى بأن المسيح قال لأصحابه:
«إنما جئتكم لأعمل بالتوراة، ووصايا الأنبياء قبلي، وما جئت ناقضا بل متمما، ولأن تقع السماء على الأرض أيسر عند الله من أن أنقض شيئا من شريعة موسى»، فذهبت النصارى تنقضها شريعة شريعة في مكايدة اليهود ومغايظتهم، وانضاف إلى هذا السبب ما في كتابهم المعروف عندهم بأفركسيس:
أن قوما من النصارى خرجوا من بيت المقدس وأتوا أنطاكية وغيرها من الشام، فدعوا الناس إلى دين المسيح الصحيح فدعوهم إلى العلم بالتوراة وتحريم ذبائح من ليس من أهلها وإلى الختان وإقامة السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة، فشق ذلك على الأمم واستثقلوه. فاجتمع النصارى ببيت المقدس وتشاوروا فيما يحتالون به على الأمم ليحببوهم إلى دين المسيح ويدخلوا فيه. فاتفق رأيهم على مداخلة الأمم والترخيص لهم والاختلاط بهم وأكل ذبائحم والانحطاط في أهوائهم والتخلق بأخلاقهم وإنشاء شريعة تكون بين شريعة الإنجيل وما عليه الأمم، وأنشأوا في ذلك كتابا، فهذا أحد مجامعهم الكبار.
وكانوا كلما أرادوا إحداث شيء اجتمعوا مجمعا وافترقوا فيه على ما يريدون إحداثه إلى أن اجتمعوا المجمع الذي لم يجتمع لهم أكبر منه في عهد قسطنطين الرومي ابن هيلانة الحرانية الفندقية، وفي زمنه بدل دين المسيح، وهو الذي أشاد دين النصارى المبتدع وقام به وقعد.
وكان عدتهم زهاء ألفي رجل، فقرروا تقريرا ثم رفضوه ولم يرتضوه، ثم اجتمع ثلاثمائة وثمانية عشر رجلا منهم، والنصارى يسمونهم: الآباء، فقرروا هذا التقرير الذي هم عليه اليوم، وهو أصل الأصول عند جميع طوائفهم لا يتم لأحد منهم نصرانية إلا به، ويسمونه: سنهودس وهي الأمانة.
ولفظها: «نؤمن بالله الأب الواحد، خالق ما يرى وما لا يرى، وبالرب الواحد يسوع المسيح ابن الله بكر أبيه، وليس بمصنوع إله حق من إله حق من جوهر أبيه، الذي بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء، الذي من أجلنا معشر الناس، ومن أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد من روح القدس ومن مريم البتول، وحبلت به مريم البتول وولدته، وأخذ وصلب، وقتل أيام فيلاطس الرومي. ومات ودفن، وقام في اليوم الثالث كما هو مكتوب، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، وهو مستعد للمجيء تارة أخرى للقضاء بين الأموات والأحياء. ونؤمن بالرب الواحد، روح القدس روح الحق الذي يخرج من أبيه روح محبته، وبمعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة واحدة قديسية سليحية جاثليقية، وبقيام أبداننا، وبالحياة الدائمة إلى أبد الآبدين».
فصرحوا فيها بأن المسيح رب، وأنه ابن الله وأنه بكره ليس له ولد غيره، وأنه ليس بمصنوع: أي ليس بعبد مخلوق، بل هو رب خالق، وإنه إله حق، استل وولد ومن إله حق، وأنه مساو لأبيه في الجوهر، وأنه بيده أتقنت العوالم، وهذه اليد التي أتقنت العوالم بها عندهم وهي التي ذاقت حر المسامير، كما صرحوا به في كتبهم، وهذه ألفاظهم.
قالوا: «وقد قال القدوة عندنا: إن اليد التي سمرها اليهود في الخشبة هي اليد التي عجنت طين آدم وخلقته، وهي اليد التي شبرت السماء، وهي اليد التي كتبت التوراة لموسى»!
قالوا: وقد وصفوا صنيع اليهود به، وهذه ألفاظهم: «وأنهم لطموا الإله وضربوه على رأسه»!
قالوا: «وفي بشارة الأنبياء به أن الإله تحبل به امرأة عذراء، وتلده، ويؤخذ، ويصلب، ويقتل»!
قالوا: وأما «سنهودس» دون الأمم، قد اجتمع عليه سبعمائة من الآباء وهو القدوة وفيه «أن مريم حبلت بالإله وولدته وأرضعته وسقته وأطعمته» قالوا: «وعندنا أن المسيح ابن آدم وهو ربه وخالقه ورازقه وابن ولده إبراهيم وربه وخالقه ورازقه وابن إسرائيل وربه وخالقه ورازقه وابن مريم وربها وخلقها ورازقها».
قالوا: وقد قال علماؤنا ومن هو القدوة عند جميع طوائفنا: اليسوع في البدء ولم يزل كلمة، والكلمة لم تزل الله، والله هو الكلمة، فذاك الذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله، وهو ابن الله وهو كلمة الله، هذه ألفاظهم. قالوا:
فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي عاينه الناس بأبصارهم ولمسوه بأيديهم، وهو الذي حبلت به مريم، وخاطب الناس من بطنها حيث قال للأعمى: أنت مؤمن بالله؟ قال الأعمى: ومن هو حتى أومن به؟ قال: هو المخاطب لك ابن مريم، فقال: آمنت بك وخر ساجدا.
قالوا: «فالذي حبلت به مريم هو الله وابن الله وكلمة الله».
وقالوا: «وهو الذي ولد ورضع وفطم وأخذ وصلب وصفع وكتفت يداه وسمر وبصق في وجهه ومات ودفن وذاق ألم الصلب والتسمير والقتل، لأجل خلاص النصارى من خطاياهم».
قالوا: وليس المسيح عند طوائفنا الثلاثة بنبي ولا عبد صالح، بل هو رب الأنبياء وخالقهم وباعثهم ومرسلهم وناصرهم ومؤيدهم ورب الملائكة. قالوا: وليس مع أمه بمعنى الخلق والتدبير واللطف والمعونة، فإنه لا يكون لها بذلك مزية على سائر الإناث ولا الحيوانات. ولكنه معها بحبلها به واحتواء بطنها عليه؛ فلهذا فارقت إناث جميع الحيوانات، وفارق ابنها جميع الخلق، فصار الله وابنه الذي نزل من السماء، وحبلت به مريم، وولدته إلها واحدا وربا واحدا وخالقا واحدا لا يقع بينهما فرق، ولا يبطل الاتحاد بينهما بوجه من الوجوه، لا في حبل ولا في ولادة ولا في حال نوم ولا مرض ولا صلب ولا موت ولا دفن. بل هو متحد به في حال الحبل، فهو في تلك الحال مسيح واحد وخالق واحد وإله واحد ورب واحد، وفي حال الولادة كذلك، وفي حال الصلب والموت كذلك.
قالوا: فمنا من يطلق في لفظه، وعبارته حقيقة هذا المعنى، فيقول: مريم حبلت بالإله، وولدت الإله، ومات الإله، ومنا من يمتنع من هذه العبارة لبشاعة لفظها، ويعطي معناها وحقيقتها، ويقول: مريم حبلت بالمسيح في الحقيقة، وولدت المسيح في الحقيقة، وهي أم المسيح في الحقيقة، والمسيح إله في الحقيقة، ورب في الحقيقة، وابن الله في الحقيقة، وكلمة الله في الحقيقة، لا ابن لله في الحقيقة سواه، ولا أب للمسيح في الحقيقة إلا هو.
قالوا: فهؤلاء يوافقون في المعنى قول من قال: حبلت بالإله، وولدت الإله، وقتل الإله، وصلب الإله، ومات ودفن، وإن منعوا اللفظ والعبارة.
قالوا: وإنما منعنا هذه العبارة التي أطلقها إخواننا، لئلا يتوهم علينا إذا قلنا: حبلت بالإله، وولدت الإله، وألم الإله، ومات الإله، أن هذا كله حل ونزل بالإله الذي هو أب، ولكنا نقول: حل هذا كله، ونزل بالمسيح، والمسيح عندنا وعند طوائفنا إله تام من إله تام من جوهر أبيه، فنحن وإخواننا في الحقيقة شيء واحد لا فرق بيننا إلا في العبارة فقط.
قالوا: فهذا حقيقة ديننا وإيماننا، والآباء والقدوة قد قالوه قبلنا، وسنوه لنا، ومهدوه، وهم أعلم بالمسيح منا.
ولا تختلف النصارى من أولهم إلى آخرهم أن المسيح ليس بنبي، ولا عبد صالح، ولكنه إله حق من إله حق من جوهر أبيه، وإنه إله تام من إله تام، وأنه خالق السموات والأرضين، والأولين والآخرين ورازقهم، ومحييهم ومميتهم، وباعثهم من القبور وحاشرهم، ومحاسبهم ومثيبهم ومعاقبهم، والنصارى تعتقد أن الأب انخلع من ملكه كله وجعله لابنه فهو الذي يخلق، ويرزق، ويميت، ويحي، ويدبر أمر السموات والأرض، ألا تراهم يقولونفي أمانتهم: «ابن الله وبكر أبيه وليس بمصنوع - إلى قولهم - بيده أتقنت العوالم، وخلق كل شيء - إلى قولهم - وهو مستعد للمجيء تارة أخرى لفصل القضاء بين الأموات والأحياء».
ويقولون في صلواتهم ومناجاتهم: «أنت أيها المسيح يسوع تحيينا وترزقنا وتخلق أولادنا وتقيم أجسادنا وتبعثنا وتجازينا»
وقد تضمن هذا كله تكذيبهم الصريح للمسيح، وإن أوهمتهم ظنونهم الكاذبة أنهم يصدقونه، فإن المسيح قال لهم: إن الله ربي وربكم، وإلهي وإلهكم» فشهد على نفسه أنه عبد لله، مربوب مصنوع، كما أنهم كذلك، وأنه مثلهم في العبودية والحاجة والفاقة إلى الله، وذكر أنه رسول الله إلى خلقه كما أرسل الأنبياء قبله.
ففي إنجيل يوحنا أن المسيح قال في دعائه: «إن الحياة الدائمة إنما تجب للناس بأن يشهدوا أنك أنت الله الواحد الحق، وأنك أرسلت يسوع المسيح».
وهذا حقيقة شهادة المسلمين أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله، وقال لبني إسرائيل: تريدون قتلي وأنا رجل قلت لكم الحق الذي سمعت الله يقوله». فذكر ما غايته أنه رجل بلغهم ما قاله الله، ولم يقل: وأنا إله ولا ابن الإله على معنى التوالد، وقال: «إني لم أجيء لأعمل بمشيئة نفسي، ولكن بمشيئة من أرسلني».
وقال: «إن الكلام الذي تسمعونه مني ليس من تلقاء، نفسي ولكن من الذي أرسلني، والويل لي أن قلت شيئا من تلقاء نفسي، ولكن بمشيئة، هو من أرسلني». وكان يواصل العبادة من الصلاة والصوم ويقول: «ما جئت لأُخدَم إنما جئت لأَخدم» فأنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله الله بها، وهي منزلة الخدام، وقال: «لست أدين العباد بأعمالهم، ولا أحاسبهم بأعمالهم، ولكن الذي أرسلني هو الذي يلي ذلك منهم». كل هذا في الإنجيل الذي بأيدي النصارى.
وفيه أن المسيح قال: «يا رب قد علموا إنك قد أرسلتني، وقد ذكرت لهم اسمك» فأخبر أن الله ربه، وإنه عبده ورسوله.
وفيه: «أن الله الواحد رب كل شيء. أرسل من أرسل من البشر إلى جميع العالم ليقبلوا إلى الحق».
وفيه أنه قال: «إن الأعمال التي أعمل هي الشاهدات لي بأن الله أرسلني إلى هذا العالم».
وفيه: «ما أبعدني وأتعبني إن أحدثت شيئا من قبل نفسي، ولكن أتكلم وأجيب بما علمني ربي».
وقال: «إن الله مسحني وأرسلني، وأنا عبد الله وإنما أعبد الله الواحد ليوم الخلاص».
وقال: «إن الله عز وجل ما أكل ولا يأكل وما شرب ولا يشرب ولم ينم ولا ينام، ولا ولد له ولا يلد ولا يولد ولا رآه أحد، ولا يراه أحد إلا مات».
وبهذا يظهر لك سر قوله تعالى في القرآن: (ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام) تذكيرا للنصارى بما قال لهم المسيح.
وقال في دعائه لما سأل ربه أن يحي الميت: «أنا أشكرك وأحمدك، لأنك تجيب دعائي في هذا الوقت، وفي كل وقت، فأسألك أن تحيي هذا الميت ليعلم بنو إسرائيل أنك أرسلتني وأنك تجيب دعائي».
وفي الإنجيل أن المسيح حين خرج من السامرية، ولحق بجلجال، قال: «لم يكرم أحد من الأنبياء في وطنه» فلم يزد على دعوى النبوة.
وفي إنجيل لوقا: «لم يقتل أحد من الأنبياء في وطنه، فيكف تقتلونني».
وفي إنجيل مرقس: «أن رجلا أقبل إلى المسيح، وقال: أيها المعلم الصالح، أي خير أعمل لأنال الحياة الدائمة؟ فقال له المسيح: لم قلت صالحا؟ إنما الصالح الله وحده، وقد عرفت الشروط، لا تسرق ولا تزن ولا تشهد بالزور ولا تخن، وأكرم أباك وأمك».
وفي إنجيل يوحنا أن اليهود لما أرادوا قبضه رفع بصره إلى السماء وقال: «قد دنا الوقت يا إلهي فشرفني لديك، واجعل لي سبيلا أن أملك كل من ملكتني الحياة الدائمة، وإنما الحياة الباقية أن يؤمنوا بك إلها واحدا، وبالمسيح الذي بعثت، وقد عظمتك على أهل الأرض واحتملت الذي أمرتني به فشرفني» فلم يدع سوى أنه عبد مرسل مأمور مبعوث.
وفي إنجيل متى: «لا تنسبوا أباكم الذي على الأرض، فإن أباكم الذي في السماء وحده، ولا تدعوا معلمين، فإنما معلمكم المسيح وحده».
والأب في لغتهم: الرب المربي، أي لا تقولوا إلهكم، وربكم في الأرض، ولكنه في السماء.
ثم أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه، وهو أن غايته أنه يعلم في الأرض، وإلههم هو الذي في السماء.
وفي إنجيل لوقا حين دعا الله فأحيا ولد المرأة فقالوا: «إن هذا النبي لعظيم، وإن الله قد تفقد أمته».
وفي إنجيل يوحنا إن المسيح أعلن صوته في البيت، وقال لليهود: «قد عرفتموني وموضعي، ولم آت من ذاتي، ولكن بعثني الحق، وأنتم تجهلونه، فإن قلت: إني أجهله، كنت كاذبا مثلكم، وأنا أعلم وأنتم تجهلونه، إني منه وهو بعثني» فما زاد في دعواه على ما ادعاه الأنبياء، فأمسكت المثلثة قوله: «إني منه» وقالوا: إله حق من إله حق.
وفي القرآن: (رسول من الله).
وقال هود: (ولكني رسول من رب العالمين)
وكذلك قال صالح. ولكن أمة الضلال كما أخبر الله عنهم يتبعون المتشابه، ويردون المحكم.
وفي الإنجيل أيضا أنه قال لليهود. وقد قالوا له: (نحن أبناء الله) فقال لهم: «لو كان الله أباكم لأطعتموني، لأني رسول منه، خرجت مقبلا، ولم أقبل من ذاتي، ولكن هو بعثني، لكنكم لا تقبلون وصيتي، وتعجزون عن سماع كلامي، إنما أنتم أبناء الشيطان، وتريدون إتمام شهواته».
وفي الإنجيل: «أن اليهود أحاطت به، وقالت له: إلى متى تخفي أمرك إن كنت المسيح الذي ننتظره فأعلمنا بذلك» ولم تقل إن كنت الله، أو ابن الله، فإنه لم يدع ذلك و لا فهمه عنه أحد من أعدائه ولا أتباعه.
وفي الإنجيل أيضا: «أن اليهود أرادوا القبض عليه، فبعثوا لذلك أعوان، وإن الأعوان رجعوا إلى قوادهم، فقالوا لهم: لِم لم تأخذوه؟ فقالوا: ما سمعنا آدميا أنصف منه، فقالت اليهود: وأنتم أيضا مخدوعون، أترون أنه آمن به أحد من القواد، أو من رؤساء أهل الكتب؟
فقال لهم بعض أكابرهم: أترون كتابكم يحكم على أحد قبل أن يسمع منه؟ فقالوا له: اكشف الكتب ترى أنه لا يجيء من جلجال نبي».
فما قالت اليهود ذلك إلا وقد أنزل نفسه بالمنزلة التي أنزله بها ربه، ومالكه أنه نبي، ولو علمت من دعواه الإلهية لذكرت ذلك له، وأنكرته عليه، وكان أعظم أسباب التنفير عن طاعته؛ لأن كذبه كان يعلم بالحس، والعقل، والفطرة، واتفاق الأنبياء.
ولقد كان يجب لله سبحانه - لو سبق في حكمته أنه يبرز لعباده، وينزل عن كرسي عظمته، ويباشرهم بنفسه - أن لا يدخل في فرج امرأة، ويقيم في بطنها بين البول والنجو والدم عدة أشهر، وإذ قد فعل ذلك لا يخرج صبيا صغيرا يرضع ويبكي، وإذ قد فعل ذلك لا يأكل مع الناس ويشرب معهم وينام، وإذ قد فعل ذلك فلا يبول ولا يتغوط ويمتنع من الخرأة، إذ هي منقصة ابتلى بها الإنسان في هذه الدار لنقصه وحاجته، وهو تعالى المختص بصفات الكمال المنعوت بنعوت الجلال، الذي ما وسعته سمواته ولا أرضه، وكرسيه وسع السموات والأرض، فكيف وسعه فرج امرأة. تعالى الله رب العالمين. وكلكم متفقون على أن المسيح كان يأكل ويشرب ويبول ويتغوط وينام.
فيا معشر معشر المثلثة وعباد الصليب: أخبرونا من كان الممسك للسموات والأرض، حين كان ربها وخالقها مربوطا على خشبة الصليب، وقد شدّت يداه ورجلاه بالحبال، وسمرت اليد التي أتقنت العوالم، فهل بقيت السموات والأرض خلوا من إلهها، وفاطرها، وقد جرى عليه هذا الأمر العظيم؟
أم تقولون: استخلف على تدبيرها غيره، وهبط عن عرشه، لربط نفسه على خشبة الصليب، وليذوق حر المسامير، وليوجب اللعنة على نفسه، حيث قال في التوراة: «ملعون من تعلق بالصليب» أم تقولون: كان هو المدبر لها في تلك الحال، فكيف وقد مات ودفن؟
أم تقولون - وهو حقيقة قولكم - لا ندري، ولكن هذا في الكتب، وقد قاله الآباء وهم القدوة.
والجواب عليهم: فنقول لكم، وللآباء معاشر المثلثة عباد الصليب: ما الذي دلكم على إلهية المسيح؟ فإن كنتم استدللتم عليها بالقبض من أعدائه عليه وسوقه إلى خشبة الصليب وعلى رأسه تاج من الشوك، وهم يبصقون في وجهه ويصفعونه. ثم أركبوه ذلك المركب الشنيع، وشدوا يديه ورجليه بالحبال وضربوا فيها المسامير وهو يستغيث وتعلق ثم فاضت نفسه، وأودع ضريحه؛ فما أصحه من استدلال عند أمثالكم ممن هم أضل من الأنعام؟ وهم عار على جميع الأنام!
وإن قلتم: إنما استدللنا على كونه إلها، بأنه لم يولد من البشر، ولو كان مخلوقا لكان مولودا من البشر، فإن كان هذا الاستدلال صحيحا، فآدم إله المسيح، وهو أحق بأن يكون إلها منه، لأنه لا أم له، ولا أب، والمسيح له أم، وحواء أيضا اجعلوها إلها خامسا، لأنها لا أم لها، وهي أعجب من خلق المسيح؟
والله سبحانه قد نوع خلق آدم وبينه، إظهارا لقدرته، وإنه يفعل ما يشاء، فخلق آدم لا من ذكر، ولا من أنثى، وخلق زوجه حوى من ذكر، لا من أنثى، وخلق عبده المسيح من أنثى لا من ذكر، وخلق سائر النوع من ذكر وأنثى.
وإن قلتم: استدللنا على كونه إلها، بأنه أحيا الموتى، ولا يحييهم إلا الله. فاجعلوا موسى إلها آخر، فإنه أتى من ذلك بشيء، لم يأت المسيح بنظيره ولا ما يقاربه، وهو جعل الخشبة حيوانا عظيما ثعبانا، فهذا أبلغ وأعجب من إعادة الحياة إلى جسم كانت فيه أولا.
فإن قلتم: هذا غير إحياء الموتى.
فهذا اليسع النبي أتى بإحياء الموتى، وهم يقرون بذلك.
وكذلك إيليا النبي أيضا أحيا صبيا بإذن الله.
وهذا موسى قد أحيا بإذن الله السبعين الذين ماتوا من قومه.
وفي كتبكم من ذلك كثير عن الأنبياء والحواريين، فهل صار أحد منهم إلها بذلك؟
وإن قلتم: جعلناه إلها للعجائب التي ظهرت على يديه، فعجائب موسى أعجب وأعجب، وهذا إيليا النبي بارك على دقيق العجوز ودهنها، فلم ينفد ما في جرابها من الدقيق وما في قارورتها من الدهن سبع سنين.
وإن جعلتموه إلها لكونه أطعم من الأرغفة اليسيرة آلافا من الناس، فهذا موسى قد أطعم أمته أربعين سنة من المن والسلوى.
وهذا محمد بن عبد الله قد أطعم العسكر كله من زاد يسير جدا، حتى شبعوا، وملؤا أوعيتهم، وسقاهم كلهم من ماء يسير، لا يملأ اليد حتى ملؤا كل سقاء في العسكر، وهذا منقول عنه بالتواتر.
وإن قلتم: جعلناه إلها، لأنه صاح بالبحر فسكنت أمواجه، فقد ضرب موسى البحر بعصاه، فانفلق اثني عشر طريقا، وقام الماء بين الطرق كالحيطان، وفجر من الحجر الصلد اثني عشر عينا سارحة.
وإن جعلتموه إلها لأنه أبرأ الأكمه والأبرص، فإحياء الموتى أعجب من ذلك، وآيات موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أعجب من ذلك.
وإن جعلتموه إلها لأنه ادعى ذلك، فلا يخلو إما أن يكون الأمر كما تقولون عنه، أو يكون إنما ادعى العبودية والافتقار، وأنه مربوب، مصنوع، مخلوق، فإن كان كما ادعيتم عليه فهو أخو المسيح الدجال، وليس بمؤمن، ولا صادق فضلا عن أن يكون نبيا كريما، وجزاؤه جهنم وبئس المصير، كما قال تعالى:
(ومن يقل منهم إني إله من دونه، فذلك نجزيه جهنم) وكل من ادعى الإلهية من دون الله، فهو من أعظم أعداء الله كفرعون، ونمرود، وأمثالهما من أعداء الله، فأخرجتم المسيح عن كرامة الله، ونبوته، ورسالته، وجعلتموه من أعظم أعداء الله، ولهذا كنتم أشد الناس عداوة للمسيح في صورة محب موال.
ومن أعظم ما يعرف به كذب المسيح الدجال أنه يدعي الإلهية، فيبعث الله عبده ورسوله مسيح الهدى ابن مريم، فيقتله، ويطهر للخلائق أنه كان كاذبا مفتريا، ولو كان إلها لم يقتل، فضلا عن أن يصلب ويسمر ويبصق في وجهه!
وإن كان المسيح إنما ادعى أنه عبد ونبي ورسول كما شهدت به الأناجيل كلها، ودل عليه العقل والفطرة، وشهدتم أنتم له بالإلهية - وهذا هو الواقع - فلِم تأتوا على إلهيته ببينة غير تكذيبه في دعواه، وقد ذكرتم عنه في أناجيلكم في مواضع عديدة ما يصرح بعبوديته، وأنه مربوب مخلوق وأنه ابن البشر وأنه لم يدع غير النبوة والرسالة، فكذبتموه في ذلك كله وصدقتم من كذب على الله وعليه!
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها لأنه أخبر بما يكون بعده من الأمور، فكذلك عامة الأنبياء، وكثير من الناس يخبر عن حوادث في المستقبل جزئية، ويكون ذلك كما أخبر به، ويقع من ذلك كثير للكهان والمنجمين والسحرة!
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها، لأنه سمى نفسه ابن الله في غير موضع من الإنجيل كقوله: «إني ذاهب إلى أبي» «وإني سائل أبي» ونحو ذلك، وابن الإله إله، قيل: فاجعلوا أنفسكم كلكم آلهة، في غير موضع إنه سماه «أباه وأباهم». كقوله: «اذهب إلى أبي وأبيكم».
وفيه: «ولا تسبوا أباكم على الأرض، فإن أباكم الذي في السماء وحده» وهذا كثير في الإنجيل، وهو يدل على أن الأب عندهم الرب.
وإن جعلتموه إلها، لأن تلاميذه ادعوا ذلك له وهم أعلم الناس به، كذبتم أناجيلكم التي بأيديكم فكلها صريحة أظهر صراحة بأنهم ما ادعوا له إلا ما ادعاه لنفسه من أنه عبد.
فهذا متى يقول في الفصل التاسع من إنجيله محتجا بنبوة شعيا في المسيح عن الله عز وجل: «هذا عبدي الذي اصطفيته وحبيبي الذي ارتاحت نفسي له».
وفي الفصل الثامن من إنجيله: «إني أشكرك يا رب» «ويا رب السموات والأرض».
وهذا لوقا يقول في آخر إنجيله: «أن المسيح عرض له، ولآخر من تلاميذه في الطريق ملك وهما محزونان فقال لهما وهما لا يعرفانه: ما بالكما محزونين؟ فقالا: كأنك غريب في بيت المقدس إذ كنت لا تعلم ما حدث فيها في هذه الأيام من أمر الناصري، فإنه كان رجلا نبيا قويا تقيا في قوله وفعله عند الله وعند الأمة، أخذوه وقتلوه».
وهذا كثير جدا في الإنجيل.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها لأنه صعد إلى السماء، فهذا أخنوخ وإلياس قد صعدا إلى السماء، وهما حيان مكرمان، لم تشكهما شوكة ولا طمع فيهما طامع، والمسلمون مجمعون على أن محمدا ﷺ صعد إلى السماء، وهو عبد محض، وهذه الملائكة تصعد إلى السماء، وهذه أرواح المؤمنين تصعد إلى السماء بعد مفارقتها الأبدان ولا تخرج بذلك عن العبودية، وهل كان الصعود إلى السماء مخرج عن العبودية بوجه من الوجوه؟
وإن جعلتموه إلها لأن الأنبياء سمته إلها وربا وسيدا ونحو ذلك، فلم يزل كثير من أسماء إله عز وجل تقع على غيره عند جميع الأمم وفي سائر الكتب، وما زالت الروم والفرس والهند والسريانيون والعبرانيون والقبط وغيرهم يسمون ملوكهم آلهة وأربابا.
وفي السفر الأول من التوراة: «أن بني الله دخلوا على بنات الناس ورأوهن بارعات الجمال، فتزوجوا منهن».
وفي السفر الثاني من التوراة في قصة المخرج من مصر: «إني جعلتك إلها لفرعون».
وفي المزمور الثاني والثمانين لداود «قام الله لجميع الآلهة» هكذا في العبرانية، وأما من نقله إلى السريانية فإنه حرفه فقال: «قام الله في جماعة الملائكة».
وقال في هذا المزمور وهو يخاطب قوما بالروح: «لقد ظننت أنكم آلهة، وأنكم أبناء الله كلكم».
وقد سمى الله سبحانه عبده بالملك، كما سمى نفسه بذلك، وسماه بالرؤوف الرحيم، كما سمى نفسه بذلك، وسماه بالعزيز، وسمى نفسه بذلك.
واسم الرب واقع على غير الله تعالى في لغة أمة التوحيد، كما يقال: هذا رب المنزل، ورب الإبل، ورب هذا المتاع.
وقد قال شعيا: «عرف الثور من اقتناه، والحمار مربط ربه، ولم يعرف بنو إسرائيل».
وإن جعلتموه إلها لأنه صنع من الطين صورة طائر، ثم نفخ فيها، فصارت لحما، ودما، وطائرا حقيقة، ولا يفعل هذا إلا الله، قيل: فاجعلوا موسى بن عمران إله الآلهة، فإنه ألقى عصا فصارت ثعبانا عظيما، ثم أمسكها بيده، فصارت عصا كما كانت!
وإن قلتم: جعلناه إلها لشهادة الأنبياء والرسل له بذلك، قال عزرا حيث سباهم بختنصر إلى أرض بابل إلى أربعمائة واثنين وثمانين سنة: «يأتي المسيح ويخلّص الشعوب والأمم».
وعند انتهاء هذه المدة أتى المسيح، ومن يطيق تخليص الأمم غير الإله التام، قيل لكم: فاجعلوا جميع الرسل إلهة، فإنهم خلّصوا الأمم من الكفر والشرك، وأخلصوهم من النار بإذن الله وحده، ولا شك أن المسيح خلّص من آمن به واتبعه من ذل الدنيا وعذاب الآخرة.
كما خلص موسى بني إسرائيل من فرعون وقومه، وخلّصهم بالإيمان بالله واليوم الآخر من عذاب الآخرة، وخلّص الله سبحانه بمحمد بن عبد الله ﷺ عبده، ورسوله من الأمم والشعوب ما لم يخلصه نبي سواه، فإن وجبت بذلك الإلهية لعيسى، فموسى، ومحمد أحق بها منه.
وإن قلتم: أوجبنا له بذلك الإلهية، لقول أرمياء النبي عن ولادته: «وفي ذلك الزمان يقوم لداود ابن، وهو ضوء النور، يملك الملك ويقيم الحق والعدل في الأرض ويخلص من آمن به من اليهود ومن بني إسرائيل ومن غيرهم، ويبقى بيت المقدس من غير مقاتل، ويسمى الإله».
فقد تقدم أن اسم الإله في الكتب المتقدمة وغيرها، قد أطلق على غيره، وهو بمنزلة الرب والسيد والأب، ولو كان عيسى هو الله لكان أجل من أن يقال ويسمى الإله، وكان يقول: وهو الله، فإن الله سبحانه لا يعرف بمثل هذا، وفي هذا الدليل الذي جعلتموه به إلها أعظم الأدلة على أنه عبد وأنه ابن البشر، فإنه قال: «يقوم لداود ابن» فهذا الذي قام لداود هو الذي سمى بالإله، فعلم أن هذا الاسم لمخلوق مصنوع مولود، لا لرب العالمين وخالق السموات والأرضين.
وإن قلتم: إنما جعلناه إلها من جهة، قول شعيا النبي: قل لصهيون يفرح ويتهلل فإن الله يأتي ويخلّص الشعوب ويخلّص من آمن به ويخلص مدينة بيت المقدس، ويظهر الله ذراعه الطاهر فيها لجميع الأمم المتبددين ويجعلهم أمة واحدة، ويصرّ جميع أهل الأرض خلاص الله، لأنه يمشي معهم وبين أيديهم ويجمعهم إله إسرائيل».
قيل لهم: هذا يحتاج:
أولا: إلى أن يعلم أن ذلك في نبوة أشعيا بهذا اللفظ، بغير تحريف للفظه، ولا غلط في الترجمة، وهذا غير معلوم، وإن ثبت ذلك لم يكن فيه دليل على أنه إله تام، وأنه غير مصنوع، ولا مخلوق، فإنه نظير ما في التوراة: «جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران» وليس في هذا ما يدل على أن موسى ومحمدا إلهان، والمراد بهذا مجيء دينه وكتابه وشرعه وهداه ونوره.
وأما قوله: «ويظهر ذراعه الطاهر لجميع الأمم المبددين» ففي التوارة مثل هذا، وأبلغ منه في غير موضع، وأما قوله: «ويصرّ جميع أهل الأرض خلاص الله لأنه يمشي معهم ومن بين أيديهم».
فقد قال في التوراة في السفر الخامس لبني إسرائيل: «لا تهابوهم ولا تخافوهم لأن الله ربكم السائر بين أيديكم وهو محارب عنكم» وفي موضع آخر قال موسى: «إن الشعب هو شعبك، فقال: أنا أمضي أمامك، فقال: إن لم تمض أنت أمامنا وإلا فلا تصعدنا من ههنا، فكيف أعلم أنا؟ وهذا الشعب أني وجدت نعمة كذا إلا بسيرك معنا».
وفي السفر الرابع: «إني أصعدت هؤلاء بقدرتك، فيقولان لأهل هذه الأرض: الذي سمعوا منك الله، فيما بين هؤلاء القوم يرونه عينا بعين، وغمامك تغيم عليهم، ويعود عماما يسير بين أيديهم نهارا، ويعود نارا ليلا».
وفي التوراة أيضا: «يقول الله لموسى: إني آتٍ إليك في غلظ الغمام، لكي يسمع القوم مخاطبتي لك». وفي الكتب الإلهية، وكلام الأنبياء من هذا كثير.
وفيما حكى خاتم الأنبياء عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: «ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي».
وإن قلتم: جعلناه إلها، لقول زكريا في نبوته لصهيون: «لأني آتيك وأحل فيك، واترائي، وتؤمن بالله في ذلك اليوم الأمم الكثيرة، ويكونون له شعبا واحدا، ويحل هو فيهم، ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك، ويأخذ الله في ذلك اليوم الملك من يهوذا، ويملك عليهم إلى الأبد».
قيل لكم: إن أوجبتم له الإلهية بهذا، فلتجب لإبراهيم وغيره من الأنبياء؛ فإن عند أهل الكتاب وأنتم معهم «أن الله تجلى لإبراهيم واستعلن له وترائى له».
وأما قوله: «وأحل فيك» لم يرد سبحانه بهذا حلول ذاته، التي لا تسعها السموات والأرض في بيت المقدس، وكيف تحل ذاته في مكان يكون فيه مقهورا مغلوبا، مع شرار الخلق؟ كيف وقد قال: «ويعرفون أني أنا الله القوي الساكن فيك». أفترى عرفوا قوته بالقبض عليه وشد يديه بالحبال وربطه على خشبة الصليب ودق المسامير في يديه ورجليه ووضع تاج الشوك على رأسه وهو يستغيث ولا يغاث، وما كان المسيح يدخل بيت المقدس إلا وهو مغلوب مقهور مستخف في غالب أحواله.
ولو صح مجيء هذه الألفاظ صحة لا تدفع وصحت ترجمتها كما ذكروه، لكان معناها أن معرفة الله والإيمان به وذكره ودينه وشرعه حل في تلك البقعة وبيت المقدس لما ظهر فيه دين المسيح بعد دفعه حصل فيه من الإيمان بالله ومعرفته ما لم يكن قبل ذلك.
وجماع الأمر: أن النبوات المتقدمة، والكتب الإلهية، لم تنطق بحرف واحد يقتضي أن يكون ابن البشر إلها تاما: إله حق من إله حق وأنه غير مصنوع ولا مربوب، بل بِمَ يخصه إلا بما خص به أخوه وأولى الناس به محمد بن عبد الله، في قوله: «أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم، وروح منه».
وكتب الأنبياء المتقدمة، وسائر النبوات موافقة لما أخبر به محمد ﷺ، وذلك كله يصدّق بعضه بعضا، وجميع ما تستدل به النصارى على إلهية المسيح من ألفاظ وكلمات في الكتب، فإنها مشتركة بين المسيح وغيره، كتسميته أبا وكلمة وروح حق، وإلها، وكذلك ما أطلق من حلول روح القدس فيه وظهور الرب فيه أو في مكانه.
وقد وقع في نظير شركهم وكفرهم طوائف من المنتسبين إلى الإسلام، واشتبه عليهم ما يحل في قلوب العارفين من الإيمان به ومعرفته ونوره وهداه فظنوا أن ذلك نفس ذات الرب.
وقد قال تعالى: (المثل الأعلى).
وقال: (وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم)، وهو ما في قلوب ملائكته وأنبيائه وعباده المؤمنين من الإيمان به ومعرفته ومحبته وإجلاله وتعظيمه.
وهو نظير قوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به، فقد اهتدوا).
وقوله: (وهو الله في السموات وفي الأرض، يعلم سركم وجهركم، ويعلم ما تكسبون).
وقوله: (وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، وهو الحكيم العليم). فأولياء الله يعرفونه ويحبونه ويجلّونه.
ويقال: هو في قلوبهم، والمراد: محبته ومعرفته، والمثل الأعلى في قلوبهم، لا نفس ذاته وهذا أمر يعتاده الناس في مخاطباتهم ومحاوراتهم، يقول الإنسان لغيره: أنت في قلبي، ولا زلت في عيني، كما قال القائل:
ومن عجب أني أحن إليهم *** وأسأل عنهم من لقيت وهم معي
وتطلبهم عيني وهم في سوادها *** ويشتاقهم قلبي وهم بين أضلعي
وقال آخر:
خيالك في عيني وذكرك في فمي*** ومثواك في قلبي فأين تغيب
وقال آخر:
ساكن في القلب يعمره*** لست أنساه فأذكره
وقال آخر:
إن قلت غبت فقلبي لا يصدقني **** إذ أنت فيه لم تغب
أو قلت ما غبت قال الطرف ذا كذب *** فقد تحيرت بين الصدق والكذب
وقال الآخر:
أحن إليه وهو في القلب ساكن *** فيا عجبا لمن يحن لقلبه
ومن غلظ طبعه، وكشف فهمه عن فهم مثل هذا لم يكثر عليه أن يفهم من ألفاظ الكتب، أن ذات الله سبحانه تحل في الصورة البشرية، وتتحد بها، وتمتزج بها (تعالى الله عما يقول الكافرون علوا كبيرا).
وإن قلتم أوجبنا له الإلهية من قول شعيا: «من أعجب الأعاجيب أن رب الملائكة سيولد من البشر».
قيل لكم: هذا مع أنه يحتاج إلى صحة هذا الكلام عن شعيا، وأنه لم يحرف بالنقل من ترجمة إلى ترجمة، وأنه كلام منقطع عما قبله وبعده ببينة، فهو دليل على أنه مخلوق مصنوع وأنه ابن البشر مولود منه؛ لا من الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد.
وإن قلتم: جعلناه إلها، من قول متى في إنجيله: «أن ابن الإنسان يرسل ملائكته، ويجمعون كل الملوك، فيلقونهم في أتون النار»
قيل: هذا كالذي قبله سواء، ولم يرد أن المسيح هو رب الأرباب ولا أنه خالق الملائكة، وحاش لله أن يطلق عليه أنه رب الملائكة، بل هذا من أقبح الكذب والافتراء؛ بل رب الملائكة أوصى الملائكة بحفظ المسيح وتأييده ونصره بشهادة لوقا النبي القائل عندهم: «أن الله يوصي ملائكته بك ليحفظوك».
ثم بشهادة لوقا: «أن الله أرسل له ملكا من السماء ليقويه» هذا الذي نطقت به الكتب، فحرف الكذّابون على الله وعلى مسيحه ذلك ونسبوا إلى الأنبياء أنهم قالوا: هو رب الملائكة.
وإذا شهد الإنجيل واتفاق الأنبياء والرسل أن الله يوصي ملائكته بالمسيح ليحفظوه، علم أن الملائكة والمسيح عبيد الله منفذون لأمره ليسوا أربابا ولا آلهة وقال المسيح لتلامذته: «من قبلكم فقد قبلني، ومن قبلني فقد قبل من أرسلني».
وقال المسيح لتلامذته أيضا: «من أنكرني قدام الناس، أنكرته قدام ملائكة الله».
وقال للذي ضرب عبد رئيس الكهنة: «أغمد سيفك، ولا تظن أني أستطيع أن أدعو الله الأب فيقيم لي أكثر من اثني عشر من الملائكة» فهل يقول هذا من هو رب الملائكة وإلههم وخالقهم؟
وإن أوجبتم له الإلهية بما نقلتموه عن شعيا: «تخرج عصا من بيت نبي، وينبت منها نور، ويحلّ فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله، وبه يؤمنون، وعليه يتوكلون، ويكون لهم التاج والكرامة إلى دهر الداهرين»
قيل لكم: هذا الكلام بعد المطالبة بصحة نقله عن شعيا، وصحة الترجمة له باللسان العربي، وأنه لم يحرفه المترجم، هو حجة على لا لهم؛ فإنه لا يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض؛ بل يدل على مثل ما دل عليه القرآن، وأن المسيح أيد بروح القدس؛ فإنه قال:
«ويحل فيه روح القدس، روح الله، روح الكلمة والفهم، روح الحيل والقوة، روح العلم وخوف الله» ولم يقل تحل فيه حياة الله، فضلا عن أن يحلّ الله فيه ويتحد به ويتخذ حجابا من ناسوته، وهذه روح تكون مع الأنبياء والصديقين.
وعندهم في التوراة: «أن الذين كانوا يعملون في قبة الزمان، حلّت فيهم روح الحكمة» وروح الفهم والعلم هي ما يحصل به الهدى، والنصر، والتأييد، وقوله: «هي روح الله» لا تدل على أنها صفة فضلا عن أن يكون هو الله!
وجبريل يسمى روح الله، والمسيح اسمه روح الله.
والمضاف إذا كان ذاتا قائمة بنفسها فهو إضافة مملوك إلى مالك كبيت الله وناقة الله وروح الله؛ ليس المراد به بيت يسكنه ولا ناقة يركبها ولا روح قائمة به، وقد قال تعالى: (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه).
وقال تعالى: (وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا) فهذه الروح أيد بها عباده المؤمنين.
أما قوله: «وبه يؤمنون وعليه يتوكلون» فهو عائد إلى الله لا إلى العصا التي تبت من بيت النبوة، وقد جمع الله سبحانه بين هذين الأصلين في قوله: (قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا) وقال موسى لقومه: (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين).
وهو كثير في القرآن، وقد أخبر أنه أيده بروح العلم وخوف الله فجمع بين العلم والخشية، وهما الأصلان اللذان جمع القرآن بينهما، في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء).
وفي قول النبي ﷺ: «إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية» وهذا شأن العبد المحض.
وأما الإله الحق ورب العالمين فلا يلحقه خوف ولا خشية ولا يعبد غيره، والمسيح كان قائما بأوراد العبادات لله أتم القيام.
وإن أوجبتم له الإلهية بقول شعيا: «أن غلاما ولد لنا، وإننا أعطيناه كذا وكذا، ورياسته على عاتقيه، وبين منكبيه، ويدعي اسمه ملكا عظيما عجيبا إلها قويا مسلّطا رئيسا، قوي السلامة، في كل الدهور وسلطانه، كامل ليس له فناء»
قيل لكم: ليس في هذه البشارة ما يدل على أن المراد بها المسيح بوجه من الوجوه، ولو كان المراد بها المسيح، لم يدل على مطلوبهم.
أما «المقام الأول»: فدلالتها على محمد بن عبد الله، ظهر من دلالتها على المسيح، فإنه هو الذي رياسته على عاتقيه، وبين منكبيه، من جهتين:
من جهة أن خاتم النبوة علا نغض كتفيه، وهو من أعلام النبوة التي أخبرت به الأنبياء وعلامة ختم ديوانهم ولذلك كان في ظهوره.
ومن جهة أنه بعث بالسيف الذي يتقلد به على عاتقه ويرفعه إذا ضرب به على عاتقه، ويدل عليه قوله: «رئيس مسلط، قوي السلامة»، وهذه صفة محمد ﷺ المؤيد المنصور رئيس السلامة، فإن دينه الإسلام، ومن اتبعه سلم من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة ومن استيلاء عدوه عليه، والمسيح لم يسلط على أعدائه كما سلط محمد ﷺ؛ بل كان أعداؤه مسلطين عليه قاهرين له حتى عملوا به ما عملوا عند النصارى، فأين مطابقة هذه الصفات للمسيح بوجه من الوجوه؟ وهي مطابقة لمحمد بن عبد الله ﷺ من كل وجه، وهو الذي سلطانه كامل ليس له فناء إلى آخر الدهور.
فإن قيل: إنكم لا تدعون محمد إلها، بل هو عندكم عبد محض؟ قيل: نعم، والله إنه لكذلك عبد محض لله، والعبودية أجَل مراتبه، واسم «الإله» من جهة التراجم جاء، والمراد به السيد المطاع لا الإله المعبود الخالق الرازق.
وإن أوجبتم له الإلهية من قول شعيا فيما زعمتم: «ها هي العذراء تحبل وتلد ابنا يدعى اسمه عمانويل» وعمانويل كلمة عبرانية تفسيرها بالعربية: (إلهنا معنا)، فقد شهد له النبي أنه إله
قيل لكم: بعد ثبوت هذا الكلام وتفسيره، لا يدل على أن العذراء ولدت رب العالمين وخالق السموات والأرضين؛ فإنه قال تلد ابنا، وهذا دليل على أنه ابن من جملة البنين ليس هو رب العالمين.
وقوله: «ويدعى اسمه عمانويل» فإنما يدل على أنه يسمى بهذا الاسم، كما يسمي الناس أبناءهم بأنواع من الصفات والأسماء والأفعال، والجمل المركبة من اسمين أو اسم وفعل.
وكثير من أهل الكتاب يسمون أولادهم عمانويل، ومن علمائكم من يقول: المراد بالعذراء ههنا غير مريم، ويذكر في ذلك قصة، ويدل على هذا أن المسيح لا يعرف اسمه «عمانويل» وإن كان ذلك اسمه فكونه يسمى إلهنا معنا أو بالله حسبي أو الله وحده ونحو ذلك.
وقد حرف بعض النصارى هذه الكلمة وقال: معناها: «الله معنا»، ورد عليهم بعض من أنصف من علمائهم وحكم رشده على هواه وهداه الله للحق وبصره من عماه، وقال: أهذا هو القائل «أنا الرب ولا إله غيري وأنا أحيي وأميت وأخلق وأرزق؟»
أم هو القائل لله: «إنك أنت الإله الحق وحدك، الذي أرسلت اليسوع المسيح؟ !»
قال: والأول باطل قطعا.
والثاني: هو الذي شهد به الإنجيل.
ويجب تصديق الإنجيل، وتكذيب من زعم أن المسيح إله معبود.
قال: وليس المسيح مخصوصا بهذا الاسم، فإن «عمانويل» اسم تسمي به النصارى واليهود أولادهما، قال: وهذا موجود في عصرنا هذا، ومعنى هذه التسمية بينهم شريف القدر.
قال: وكذلك السريان يسمون أولادهم «عمانويل». والمسلمون وغيرهم يقولون للرجل: الله معك فإذا سمي الرجل بقوله: الله معك، كان هذا تبركا بمعنى هذا الاسم.
وإن أوجبتم له الإلهية بقول حنقوق فيما حكيتموه عن: «أن الله في الأرض يترائى، ويختلط مع الناس، ويمشي معهم». ويقول أرميا أيضا: «بعد هذا، الله يظهر في الأرض، وينقلب مع البشر»
قيل لكم: هذا بعد احتياجه إلى ثبوت نبوة هذين الشخصين أولا وإلى ثبوت هذا النقل عنهما وإلى مطابقة الترجمة من غير تحريف - وهذه «ثلاث مقامات» يعز عليكم إثباتها - لا يدل على أن المسيح هو خالق السموات والأرض وأنه إله حق ليس بمخلوق ولا مصنوع، ففي التوراة ما هو من هذا الجنس وأبلغ ولم يدل ذلك على أن موسى إله ولا أنه خارج عن جملة العبيد.
وقوله: «يترائى» مثل: تجلّى وظهر واستعلن ونحو ذلك من ألفاظ التوراة وغيرها من الكتب الإلهية.
وقد ذكر في التوراة: «أن الله تجلّى وترائى لإبراهيم وغيره من الأنبياء» ولم يدل ذلك على الإلهية لأحد منه، ولم يزل في عرف الناس ومخاطبتهم أن يقولوا: فلان معنا وهو بين أظهرنا، ولم يمت إذا كان عمله وسنته وسيرته بينهم ووصاياه يعمل بها بينهم.
وكذلك يقول القائل لمن مات والده: ما مات من خلف مثلك، وأنا والدك، وإذا رأوا تلميذا لعالم تعلم علمه، قالوا: هذا فلان باسم أستاذه. كما كان يقال عن عكرمة: هذا ابن عباس، وعن أبي حامد: هذا الشافعي.
وإذا بعث الملك نائبا يقوم مقامه في بلد، يقول الناس: جاء الملك، وحكم الملك، ورسم الملك.
وفي الحديث الصحيح الإلهي يقول الله عز وجل يوم القيامة: «عبدي مرضت فلم تعدني، فيقول: يا رب، كيف أعودك، وأنت رب العالمين؟ قال: أما إن عبدي فلانا مرض، فلم تعده أما لو عدته لوجدتني عنده. عبدي جعت فلم تطعمني، فيقول: رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا استطعمك فلم تطعمه، أما لو أطعمته لوجدت ذلك عندي. عبدي استسقيتك فلم تسقني، فيقول: رب كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ فيقول: أما أن عبدي فلانا عطش فاستسقاك فلم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي».
وأبلغ من هذا قوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم).
ومن هذا قوله تعالى: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) فلو استحل المسلمون ما استحللتم لكان استدلالهم بذلك على أن محمدا إله من جنس استدلالكم لا فرق بينهما.
وإن أوجبتم له الإلهية بقوله في السفر الثالث من أسفار الملوك: «والآن يا رب إله إسرائيل، يتحقق كلامك لداود، لأنه حق، إن يكون أنه سيسكن الله مع الناس على الأرض، اسمعوا أيتها الشعوب كلكم، ولتنصت الأرض، وكل من فيها، فيكون الرب عليها شاهدا، ويخرج من موضعه، وينزل ويطأ على مشارق الأرض في شأن خطيئة بني يعقوب».
قيل لكم: هذا السفر يحتاج أولا إلى أن يثبت أن الذي تكلم به نبي، وأن هذا لفظه، وأن الترجمة مطابقة له، وليس ذلك بمعلوم، وبعد ذلك فالقول في هذا الكلام كالقول في نظائره مما ذكرتموه، وما لم تذكروه، وليس في هذا الكلام ما يدل على أن المسيح خالق السموات والأرض، وأنه إله حق غير مصنوع، ولا مخلوق، فإن قوله: «إن الله سيسكن مع الناس في الأرض» هو مثل كونه معهم، وإذا صار في الأرض نوره، وهداه، ودينه، ونبيه، كانت هذه سكناه، لا أنه بذاته المقدسة نزل عن عرشه، وسكن مع أهل الأرض، ولو قدر تقدير المحالات أن ذلك واقع، لم يلزم أن يكون هو المسيح، فقد سكن الرسل والأنبياء قبله وبعده، فما الموجب لأن يكون المسيح هو الإله دون إخوانه من المرسلين؟
أترى ذلك للقوة والسلطان الذي كان له، وهو في الأرض، وقد قلتم: أنه قبض عليه، وفعل به ما فعل، من غاية الإهانة، والإذلال، والقهر، فهذا ثمرة سكناه في الأرض مع خلقه.
فإن قلتم: سكناه، وفي الأرض هو ظهوره في ناسوت المسيح. قيل لكم: أما الظهور الممكن المعقول، وهو ظهور محبته، ومعرفته، ودينه، وكلامه، فهذا لا فرق فيه بين ناسوت المسيح وناسوت سائر الأنبياء والمرسلين، وليس في اللفظ على هذا التقدير ما يدل على اختصاصه بناسوت المسيح.
وأما الظهور المستحيل الذي تأباه العقول، والفطر، والشرائع، وجميع النبوات، وهو ظهور ذات الرب في ناسوت مخلوق من مخلوقاته، واتحاده به، وامتزاجه، واختلاطه، فهذا محال عقلا وشرعا، فلا يمكن أن تنطق به نبوة أصلا؛ بل جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول: أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه.
الثاني: أنه لا والد له ولا ولد ولا كفؤ ولا نسيب بوجه من الوجوه ولا زوجة.
الثالث: أنه غني بذاته فلا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.
الرابع: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم والخوف والهم والحزن ونحو ذلك.
الخامس: أنه لا يماثل شيئا من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
السادس: أنه لا يحل في شيء من مخلوقاته ولا يحل في ذاته شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السابع: أنه أعظم من كل شيء وأكبر من كل شيء وفوق كل شيء وعال على كل شيء وليس فوقه شيء البتة.
الثامن: أنه قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء يريده، بل هو الفعال لما يريد.
التاسع: أنه عالم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، (وما تسقط من ورقة إلا بعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولارطب ولا يابس) ولا متحرك إلا وهو يعلمه على حقيقته.
العاشر: أنه سميع بصير يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فقد أحاط سمعه بجميع المسموعات وبصره بجميع المبصرات وعلمه بجميع المعلومات وقدرته بجميع المقدورات ونفذت مشيئته في جميع البريات وعمت رحمته جميع المخلوقات ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب ولا يستخلف أحدا على تدبير ملكه ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه عليها أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.
الثاني عشر: أنه الأبدي، الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت.
الثالث عشر: أنه المتكلم الآمر الناهي قائل الحق وهادي السبيل ومرسل الرسل ومنزل الكتب والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.
الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلا وإلا أصدق منه حديثا، وهو لا يخلف الميعاد.
الخامس عشر: أنه تعالى صمد بجميع الصمدية، فيستحيل عليه ما يناقض صمديته.
السادس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السابع عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
الثامن عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عباده منه ظلما.
فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه ولا يخبر نبي بخلافه أصلا، فترك النصارى هذه كله وتمسكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الألفاظ وأقوال من ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل، وأصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين تخالف هذا كله أشد المخالفة وتباينه أعظم المباينة.
==========================
==========================
==========================
==============

الفصل الثاني عشر: لو لم يظهر محمد لبطلت نبوة سائر الأنبياء
في أنه لو لم يظهر محمد بن عبد الله ﷺ لبطلت بنوة سائر الأنبياء، فظهور نبوته تصديق لنبواتهم، وشهادة لها بالصدق، فإرساله من آيات الأنبياء قبله، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بعينه، في قوله: (جاء بالحق وصدق المرسلين) فإن المرسلين بشروا به، وأخبروا بمجيئه؛ فمجيئه هو نفس صدق خبرهم.
فكأن مجيئه تصديقا لهم، إذ هو تأويل ما أخبروا به، ولا تنافي بين هذا، وبين القول الآخر: إن تصديقه المرسلين شهادته بصدقهم، وإيمانه بهم، فإنه صدقهم بقوله: ومجيئه فشهد بصدقهم بنفس مجيئه، وشهد بصدقهم بقوله.
ومثل هذا قول المسيح: (ومصدقا لما بين يديه من التوارة، ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) فإن التوراة لما بشرت به وبنبوته كان نفس ظهوره تصديقا لها، ثم بشر برسول يأتي من بعده فكان ظهور الرسول المبشر به تصديقا له كما كان ظهوره تصديقا للتوراة، فعادة الله في رسله أن السابق يبشر باللاحق، واللاحق يصدق السابق.
فلو لم يظهر محمد بن عبد الله ولم يبعث لبطلت نبوة الأنبياء قبله، والله سبحانه لا يخلف وعده ولا يكذب خبره، وقد كان بشر إبراهيم وهاجر بشارات بينات، ولم نرها تمت ولا ظهرت إلا بظهور رسول الله ﷺ.
فقد بشرت هاجر من ذلك بما لم تبشر به امرأة من العالمين غير مريم ابنة عمران بالمسيح، على أن مريم بشرت به مرة واحدة، وبشرت هاجر بإسماعيل مرتين، وبشر به إبراهيم مرارا، ثم ذكر الله سبحانه هاجر بعد وفاته، كالمخاطب لها على ألسنة الأنبياء، ففي التوراة أن الله تعالى قال لإبراهيم: «قد أجبت دعائك في إسماعيل وباركت عليه وكبرته وعظمته» هكذا في ترجمة بعض المترجمين.
وأما في الترجمة التي ترجمها اثنان وسبعون حبرا من أحبار اليهود فإنه يقول: «وسيلد اثني عشر أمة من الأمم».
وفيها: «لما هربت هاجر من سارة ترائى لها ملك الله وقال: يا هاجر أمة سارة من أين أقبلت وإلى أين تذهبين؟ قالت: هربت من سيدتي، فقال لها الملك: ارجعي إلى سيدتك واخضعي لها، فإني سأكثر ذريتك وزرعك حتى لا يحصون كثرة، وها أنت تحبلين وتلدين ابنا تسميه إسماعيل؛ لأن الله قد سمع بذلك خشوعك، وهو يكون عين الناس ويكون يده فوق الجميع ويد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع، ويكون مسكنه على تخوم جميع إخوته».
وفي موضع آخر قصة إسكانها وابنها إسماعيل في برية فاران.
وفيها: «فقال لها الملك: يا هاجر ليفرح روعك، فقد سمع الله تعالى صوت الصبي، قومي فاحمليه، وتمسكي به، فإن الله جاعله لأمة عظيمة، وإن الله فتح عليها، فإذا ببئر ماء، فذهبت وملأت المزادة منه، وسقت الصبي منه، وكان الله معها، ومع الصبي حتى تربّى، وكان مسكنه في برية فاران».
فهذه أربع بشارات خالصة لأم إسماعيل: نزلت اثنتان منها على إبراهيم، واثنتان على هاجر.
وفي التوراة أيضا بشارات أخرى بإسماعيل وولده وأنهم أمة عظيمة جدا وأن نجوم السماء تحصى ولا يحصون، وهذه البشارة إنما تمت بظهور محمد بن عبد الله وأمته.
فإن «بني إسحاق» كانوا لم يزالوا مطرودين مشردين، خولا للفراعنة والقبط حتى أنقذهم الله بنبيه وكليمه موسى بن عمران، وأورثهم أرض الشام، فكانت كرسي مملكتهم ثم سلبهم ذلك، وقطعهم في الأرض أمما مسلوبا عزهم وملكهم: قد أخذتهم سيوف السودان وعلتهم أعلاج الحمران. حتى إذا ظهر النبي ﷺ تمت تلك النبوات وظهرت تلك البشارات بعد دهر طويل، وعلت بنو إسماعيل على من حولهم فهشموهم هشما وطحنوهم طحنا وانتشروا في آفاق الدنيا، ومدت الأمم أيديهم إليهم بالذل والخضوع وعلوهم علو الثريا فيما بين الهند والحبشة، والسوس الأقصى وبلاد الترك والصقالبة والخزر. وملكوا ما بين الخافقين وحيث ملتقى أمواج البحرين، وظهر ذكر إبراهيم على ألسنة الأمم، فليس صبي من بعد ظهور النبي ﷺ ولا امرأة ولا حر ولا عبد ولا ذكر ولا أنثى إلا وهو يعرف إبراهيم وآل ابراهيم.
وأما النصرانية وإن كانت قد ظهرت في أمم كثيرة جليلة فإنه لم يكن لهم في محل إسماعيل وأمه هاجر سلطان ظاهر ولا عز قاهر البتة، ولا صارت أيدي هذه الأمة فوق أيدي الجميع ولا امتدت إليهم أيدي الأمم بالخضوع.
وكذلك سائر ما تقدم من البشارات التي تفيد بمجموعها العلم القطعي بأن المراد بها محمد بن عبد الله ﷺ وأمته، فإنه لو لم يقع تأويلها بظهوره ﷺ لبطلت تلك النبوات؛ ولهذا لما علم الكفار من أهل الكتاب أنه لا يمكن الإيمان بالأنبياء المتقدمين إلا بالإيمان بالنبي الذي بشروا به قالوا: نحن في انتظاره، ولم يجئ بعد.
ولما علم بعض الغلاة في كفره وتكذيبه منهم أن هذا النبي في ولد إسماعيل أنكروا أن يكون لإبراهيم ولد اسمه إسماعيل وأن هذا لم يخلقه الله.
ولا يكثر على اليهود مثل ذلك، كما لم يكثر على النصارى الذين سبوا رب العالمين أعظم مسبة أن يطعنوا في ديننا وينتقصوا نبينا ﷺ. ونحن نبين أنهم لا يمكنهم أن يثبتوا للمسيح فضيلة ولا نبوة ولا آية ولا معجزة إلا بإقرارهم أن محمدا رسول الله؛ وإلا فمع تكذيبه لا يمكن أن يثبت للمسيح شيء من ذلك البتة.
فنقول: إذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن وبمحمد ﷺ، فمن أين لكم أن تثبتوا لعيسى فضيلة أو معجزة، ومن نقل إليكم عنه آية أو معجزة؟ فإنكم إنما تبعتم من بعده بنيف على مائتين وعشرات من السنين أخبرتم عن منام رؤى فأسرعتم إلى تصديقه، وكان الأولى لمن كفر بالقرآن أن ينكر وجود عيسى في العالم لأنه لا يقبل قول اليهود فيه، ولا سيما وهم أعظم أعدائه الذين رموه وأمه بالعظائم.
فأخبار المسيح والصليب إنما شيوخكم فيها اليهود، وهم فيما بينهم مختلفون في أمره أعظم اختلاف، وأنتم مختلفون معهم في أمره، فاليهود تزعم أنهم حين أخذوه حبسوه في السجن أربعين يوما، و قالوا ما كان لك أن تحبسوه أكثر من ثلاثة أيام ثم تقتلوه إلا أنه كان يعضده أحد قواد الروم لأنه كان يداخله في صناعة الطب عندهم.
وفي الأناجيل التي بأيديكم «أنه أخذ صبح يوم الجمعة، وصلب في الساعة التاسعة من اليوم بعينه» فمتى تتوافقون مع اليهود في خبره، واليهود مجمعون أنه لم يظهر له معجزة ولا بدت منه لهم آية غير أنه طار يوما وقد هموا بأخذه فطار على أثره آخر منهم فعلاه في طيرانه فسقط إلى الأرض بزعمهم.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم في غير موضع ما يشهد أنه لا معجزة له ولا آية.
فمن ذلك أن فيه منصوصا أن اليهود قالوا له يوما: «ماذا نفعل حتى نعمل أعمال الله تعالى؟ فقال: أمر الله أن تؤمنوا بمن بعثه، فقالوا له: وما آيتك التي ترينا لنؤمن بك وأنت تعلم أن آبائنا قد أكلوا المن والسلوى بالمفاوز؟ قال: إن كان أطعمكم موسى خبزا فأنا أطعمكم خبزا سماويا» يريد نعيم الآخرة، فلو عرفوا له معجزة ما قالوا ذلك.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أن اليهود قالت له: «ما آيتك التي نصدقك بها؟ قال: اهدموا البيت أبنيه لكم في ثلاثة أيام». فلو كانت اليهود تعرف له آية لم تقل هذا ولو كان قد أظهر لهم معجزة لذكرهم بها حينئذ.
وفي الإنجيل الذي بأيديكم أيضا أنهم جاؤا يسألونه آية فقذفهم وقال: «إن القبيلة الفاجرة الخبيثة تطلب آية، فلا تعطى ذلك».
وفيه أيضا أنهم كانوا يقولون له وهو على الخشبة بظنكم «إن كنت المسيح فأنزل نفسك فنؤمن بك» يطلبون بذلك آية فلم يفعل.
فإذا كفرتم معاشر النصارى بالقرآن لم يتحقق لعيسى بن مريم آية ولا فضيلة؛ فإن أخباركم عنه وأخبار اليهود لا يلتفت إليها لاختلافكم في شأنه أشد الاختلاف وعدم تيقنكم لجميع أمره.
وكذلك اجتمعت اليهود على أنه لم يدع شيئا من الإلهية التي نسبتم إليه أنه ادعاها، وكان أقصى مرادهم أن يدعي، فيكون أبلغ في تسلطهم عليه، وقد ذكر السبب في استفاضة ذلك عنه، وهو أن أحبارهم وعلماءهم لما مضى وبقي ذكره خافوا أن تصير عامتهم إليه إذ كان على سنن تقبله قلوب الذي لا غرض لهم فشنعوا عليه أمورا كثيرة ونسبوا إليه دعوى الإلهية تزهيدا للناس في أمره.
ثم إن اليهود عندهم من الاختلاف في أمره ما يدل على عدم تيقنهم بشيء من أخباره. فمنهم من يقول: إنه كان رجلا منهم ويعرفون أباه وأمه وينسبونه لزانية، وحاشاه وحاشا أمه الصديقة الطاهرة البتول التي لم يقرعها فحل قط، قاتلهم الله أنى يؤفكون، ويسمون أباه الزاني باندرا الرومي وأمه مريم الماشطة.
ويزعمون أن زوجها يوسف بن يهودا وجد باندرا عندها على فراشها وشعر بذلك فهجرها وأنكر ابنها، ومن اليهود من رغب عن هذا القول وقال: إنما أبوه يوسف بن يهودا الذي كان زوجا لمريم.
ويذكرون أن السبب في استفاضة اسم الزنا عليه أنه بينا هو يوما مع معلمه بهشوع بن برخيا وسائر التلاميذ في سفر فنزلوا موضعا فجاءت امرأة من أهله وجعلت تبالغ في كرامتهم، فقال بهشوع: ما أحسن هذه المرأة؟ يريد أفعالها، فقال عيسى بزعمهم: لولا عور في عينها، فصاح بهشوع وقال له: يا ممزار - ترجمته: يا زنيم - أتزني بالنظر، وغضب غضبا شديدا وعاد إلى بيت المقدس وحرم اسمه ولعنه في أربعمائة قرن، فحينئذ لحق ببعض قواد الروم وداخله بصناعة الطب فقوي بذلك على اليهود، وهم يومئذ في ذمة قيصر بتاريوش وجعل يخالف حكم التوراة ويستدرك عليها ويعرض عن بعضها إلى أن كان من أمره ما كان.
وطوائف من اليهود يقولون غير هذا: أنه كان يلاعب الصبيان بالكرة فوقعت منهم بين جماعة من مشايخ اليهود فضعف الصبيان عن استخراجها من بينهم حياء من المشايخ فقوي عيسى، وتخطى رقابهم وأخذها، فقالوا له: ما نظنك إلا زنيما.
ومن اختلاف اليهود في أمره أنهم يسمون أباه بزعمهم الذي كان خطب مريم يوسف بن يهودا النجار.
وبعضهم يقول: إنما هو يوسف الحداد.
والنصارى تزعم أنها كانت ذات بعل، وأن زوجها يوسف بن يعقوب.
وبعضهم يقول: يوسف بن آل.
وهم يختلفون أيضا في آبائه وعددهم إلى إبراهيم، فمن مقل ومن مكثر.
فهذا ما عند اليهود، وهم شيوخكم في نقل الصلب وأمره وإلا فمن المعلوم أنه لم يحضره أحد من النصارى، وإنما حضره اليهود وقالوا: قتلناه وصلبناه، وهم الذين قالوا فيه ما حكيناه عنهم، فإن صدقتموهم في الصلب فصدقوهم في سائر ما ذكروه، وإن كذبتم فيما نقلوه عنه فما الموجب لتصديقهم في الصلب وتكذيبهم أصدق الصادقين الذي قامت البراهين القطعية على صدقه أنهم ما قتلوه وما صلبوه؛ بل صانه الله وحماه وحفظه، وكان أكرم على الله وأوجه عنده من أن يبتليه بما تقولون أنتم واليهود.
====================

النصارى أشد الأمم افتراقا في دينهم
وأما خبر ما عندكم أنتم فلا نعلم أمة أشد اختلافا في معبودها ونبيها ودينها منكم، فلو سألت الرجل وامرأته وابنته وأمه وأباه عن دينهم لأجابك كل منهم بغير جواب الآخر.
ولو اجتمع عشرة منهم يتذاكرون الدين لتفرقوا عن أحد عشر مذهبا مع اتفاق فرقهم المشهورة اليوم على القول بالتثليث وعبادة الصليب وأن المسيح ابن مريم ليس بعبد صالح ولا نبي ولا رسول، وأنه إله في الحقيقة وأنه هو خالق السموات والأرض والملائكة والنبيين، وأنه هو الذي أرسل الرسل وأظهر على أيديهم المعجزات والآيات، وأن للعالم إلها هو أب والد لم يزل، وأن ابنه نزل من السماء، وتجسم من روح القدس ومن مريم، وصار هو وابنها الناسوتي إلها واحدا ومسيحا واحدا وخالقا واحدا ورازقا واحدا، وحبلت به مريم وولدته وأخذ وصلب وألم ومات ودفن وقام بعد ثلاثة أيام، وصعد إلى السماء وجلس عن يمين أبيه، قالوا: والذي ولدته مريم وعاينه الناس وكان بينهم هو الله وهو ابن الله وهو كلمة الله، فالقديم الأزلي خالق السموات والأرض هو الذي حبلت به مريم وأقام هناك تسعة أشهر وهو الذي ولد ورضع وفطم وأكل وشرب وتغوط وأخذ وصلب وشد بالحبال وسمرت يداه.
===============

اختلاف فرقهم المشهورة في شخصية المسيح
ثم اختلفوا: فقالت «اليعقوبية» - أتباع يعقوب البرادعي، ولقب بذلك لأن لباسه كان من خرق برادع الدواب يرقع بعضها ببعض، ويلبسها، إن المسيح طبيعة واحدة من طبيعتين: أحداهما طبيعة الناسوت، والأخرى طبيعة اللاهوت، وإن هاتين الطبيعتين تركبتا فصار إنسانا واحدا وجوهرا واحدا وشخصا واحدا، فهذه الطبيعة الواحدة والشخص الواحد هو المسيح، وهو إله كله وإنسان كله وهو شخص واحد وطبيعة واحدة من طبيعتين.
وقالوا: إن مريم ولدت الله وإن الله سبحانه قبض عليه وصلب وسمر ومات ودفن ثم عاش بعد ذلك.
وقالت الملكية، وهم الروم نسبة إلى دين الملك، لا إلى رجل يدعى ملكانيا، هو صاحب مقالتهم كما يقوله بعض من لا علم له بذلك، إن الابن الأزلي الذي هو الكلمة تجسدت من مريم تجسدا كاملا كسائر أجساد الناس وركبت في ذلك الجسد نفسا كاملة بالعقل والمعرفة والعلم كسائر أنفس الناس، وأنه صار إنسانا بالجسد والنفس اللذين هما من جوهر الناس إلها بجوهر اللاهوت كمثل أبيه لم يزل، وهو إنسان بجوهر الناس، مثل إبراهيم وموسى وداود، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وثبت له جوهر اللاهوت، كما لم يزل، وصح له جوهر الناسوت الذي لبسه ابن مريم، وهو شخص واحد لم يزد عدده، وطبيعتان، ولكل واحدة من الطبيعتين مشيئة كاملة، فله بلاهوته مشيئة مثل الأب، وله بناسوته مشيئة كمشيئة إبراهيم وداود.
وقالوا: إن مريم ولدت المسيح وهو اسم يجمع اللاهوت والناسوت، وقالوا: إن الذي مات هو الذي ولدته مريم وهو الذي وقع عليه الصلب والتسمير والصفع والربط بالحبال، واللاهوت لم يمت ولم يألم ولم يدفن.
قالوا: وهو إله تام بجوهر لاهوته، وإنسان تام بجوهر ناسوته، وله المشيئتان: مشيئة اللاهوت، ومشيئة الناسوت.
فأتوا بمثل ما أتى به اليعقوبية من أن مريم ولدت الإله، إلا أنهم بزعمهم نزهوا الإله عن الموت.
وإذا تدبرت قولهم وجدته في الحقيقة هو قول اليعقوبية مع تنازعهم وتناقضهم فيه، فاليعقوبية أطرد لكفرهم لفظا ومعنى.
وأما النسطورية فذهبوا إلى القول بأن المسيح شخصان وطبيعتان لهما مشيئة واحدة، وأن طبيعة اللاهوت لما وجدت بالناسوت صار لهما إرادة واحدة، واللاهوت لا يقبل زيادة ولا نقصان ولا يمتزج بشيء، والناسوت يقبل الزيادة والنقصان، فكان المسيح بذلك إلها وإنسانا، فهو الإله بجوهر اللاهوت الذي لا يقبل الزيادة والنقصان، وهو إنسان بجوهر الناسوت الذي يقبل الزيادة والنقصان.
وقالوا: إن مريم ولدت المسيح بناسوته، وإن اللاهوت لم يفارقه قط.
وكل هذه الفرق استنكفت أن يكون المسيح عبد الله، وهو لم يستنكف من ذلك، ورغبت به عن عبودية الله، وهو لم يرغب عنها؛ بل أعلى منازل العبودية عبودية الله، ومحمد وإبراهيم خير منه وأعلى منازلهما تكميل مراتب العبودية، فالله رضيه أن يكون له عبدا، فلم ترض المثلثة بذلك.
وقالت الأريوسية منهم وهم أتباع أريوس: إن المسيح عبد الله كسائر الأنبياء والرسل، وهو مربوب مخلوق مصنوع. وكان النجاشي على هذا المذهب.
وإذا ظفرت المثلثة بواحد من هؤلاء قتلته شر قتلة، وفعلوا به ما يفعل بمن سب المسيح وشتمه أعظم سب.
والكل من تلك الفرق الثلاث، عوامهم لا تفهم مقالة خواصهم على حقيقتها؛ بل يقولون: إن الله تخطى مريم كما يتخطى الرجل المرأة وأحبلها فولدت له ابنا، ولا يعرفون تلك الهذيانات التي وضعها خواصهم. فهم يقولون الذي تدندنون حوله، نحن نعتقده بغير حاجة منا إلى معرفة الأقانيم الثلاثة من الطبيعتين والمشيئتين، وذلك للتهويل والتطويل، وهم يصرحون بأن مريم والدة الإله، والله أبوه، وهو الابن.
فهذا الزوج، والزوجة، والولد (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السموات يتفطرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدا، إن دعوا للرحمن ولدا، وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا، إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا، لقد أحصاهم وعدهم عدا، وكلهم آتيه يوم القيمة فردا).
فهذه أقوال أعداء المسيح من اليهود، والغالين فيه من النصارى، فبعث الله محمدا ﷺ، وبما أزال الشبهة في أمره وكشف الغمة وبرأ المسيح وأمه من افتراء اليهود وبهتهم وكذبهم عليهما، ونزه رب العالمين وخالق المسيح وأمه مما افتراه عليه النصارى الذين سبوه أعظم السب. فأنزل المسيح أخاه بالمنزلة التي أنزله الله بها وهي أشرف منازله، فآمن به وصدقه وشهد له بأنه عبد الله ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول الطاهرة الصديقة، سيدة نساء العالمين في زمانها، وقرر معجزات المسيح وآياته، وأخبر عن ربه تعالى بتخليد من كفر بالمسيح في النار وأن ربه تعالى أكرم عبده ورسوله، ونزهه وصانه أن ينال النصارى منه ما زعمته النصارى أنهم نالوه منه.بل رفعه إليه مؤيدا منصورا لم يشكه أعداؤه بشوكة ولا نالته أيديهم بأذى، فرفعه إليه وأسكنه سماءه، وسيعيده إلى الأرض ينتقم به من مسيح الضلال وأتباعه ثم يكسر به الصليب ويقتل به الخنزير ويعلي به الإسلام وينصر به ملة أخيه وأولى الناس به محمد عليهما أفضل الصلاة والسلام.
فإذا وضع هذا القول في المسيح في كفة وقول النصارى، تبين لكل من له أدنى مسكة من عقل ما بينهما من التفاوت وأن تفاوتهما كتفاوت ما بينه وبين قول اليهود فيه، وبالله التوفيق.
فلولا محمد ﷺ لما عرفنا أن المسيح ابن مريم الذي هو رسول الله وعبده وكلمته وروحه موجود أصلا؛ فإن هذا المسيح الذي أثبته اليهود، من شرار خلق الله، ليس بمسيح الهدى، والمسيح الذي أثبته النصارى من أبطل الباطل لا يمكن وجوده في عقل ولا فطرة ويستحيل أن يدخل في الوجود أعظم استحالة.
ولو صح وجوده لبطلت أدلة العقول، ولم يبق لأحد ثقة بمعقول أصلا؛ فإن استحالة وجوده فوق استحالة جميع المحالات ولو صح ما يقول لبطل العالم واضمحلت السموات والأرض، وعدمت الملائكة والعرش والكرسي ولم يكن بعث ولا نشور ولا جنة ولا نار.
ولا يستعجب من إطباق أمة الضلال الذين شهد الله أنهم أضل من الأنعام على ذلك، فكل باطل في الوجود ينسب إلى أمة من الأمم فإنها مطبقة عليه، وقد تقدم ذكر إطباق الأمم العظيمة التي لا يحصيها إلا الله على الكفر والضلال، معاينة الآيات البينات، فللنصارى أسوة بإخوانهم من أهل الشرك والضلال.
=====================

فصل تاريخ المجامع النصرانية
في ذكر استنادهم في دينهم إلى أصحاب المجامع الذين كفر بعضهم بعضا، وتلقيهم أصول دينهم عنهم، ونحن نذكر الآن الأمر كيف ابتدأ وتوسط وانتهى، حتى كأنك تراه عيانا.
كان الله سبحانه قد بشر بالمسيح على ألسنة أنبيائه من لدن موسى إلى زمن داود ومن بعده من الأنبياء، وأكثر الأنبياء تبشيرا به داود، وكانت اليهود تنتظره وتصدق به قبل مبعثه فلما بعث كفروا به بغيا وحسدا، وشردوه في البلاد، وطردوه وحبسوه وهموا بقتله مرارا إلى أن أجمعوا على القبض عليه وعلى قتله، فصانه الله وأنقذه من أيديهم ولم يهنه بأيديهم، وشبه لهم بأنهم صلبوه، ولم يصلبوه، كما قال تعالى:
(وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما، وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم، رسول الله، وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم، وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه. ما لهم به من علم إلا اتباع الظن. وما قتلوه يقينا بل رفعه الله إليه، وكان الله عزيزا حكيما).
وقد اختلف في معنى قوله: (ولكن شبه لهم) فقيل: المعنى ولكن شبه للذين صلبوه بأن ألقى شبهه على غيره فصلبوا الشبه، وقيل: المعنى ولكن شبه النصارى، أي حصلت لهم الشبهة في أمره، وليس لهم علم، بأنه ما قتل، وما صلب.
ولكن لما قال أعداؤه إنهم قتلوه وصلبوه، واتفق رفعه من الأرض، وقعت الشبهة في أمره، وصدقهم النصارى في صلبه لتتم الشناعة عليهم، وكيف ما كان فالمسيح صلوات الله وسلامه عليه لم يقتل ولم يصلب يقينا لا شك فيه.
ثم تفرق الحواريون في البلاد بعد رفعه على دينه ومنهاجه يدعون الأمم إلى توحيد الله ودينه والإيمان بعبده ورسوله ومسيحه، فدخل كثير من الناس في دينه ما بين ظاهر مشهور ومختف مستور، وأعداء الله اليهود في غاية الشدة والأذى لأصحابه وأتباعه، ولقي تلاميذ المسيح وأتباعه من اليهود ومن الروم شدة شديدة من قتل وعذاب وتشريد وحبس وغير ذلك.
وكان اليهود في زمن المسيح في ذمة الروم وكانوا ملوكا عليهم، وكتب نائب الملك ببيت المقدس إلى الملك يعلمه بأمر المسيح وتلاميذه وما يفعل من العجائب الكثيرة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، فهمّ أن يؤمن به ويتبع دينه فلم يتابعه أصحابه، ثم هلك وولى بعده ملك آخر فكان شديدا على تلامذة المسيح.
ثم مات وولي بعده آخر، وفي زمنه كتب مرقس إنجيله بالعبرانية، وفي زمانه صار إلى الإسكندرية فدعا إلى الإيمان بالمسيح، وهو أول شخص جعل بتركا على الإسكندرية، وصير معه اثني عشر قسيسا على عدة نقباء بني إسرائيل في زمن موسى، وأمرهم إذا مات البترك أن يختاروا من الاثني عشر واحدا يجعلونه مكانه، ويضع الاثني عشر أيديهم على رأسه ويبركونه، ثم يختارون رجلا فاضلا قسيسا يصيرونه تمام العدة، ولم يزل أمر القوم كذلك إلى زمن قسطنطين.
ثم انقطع هذا الرسم واصطلحوا على أن ينصبوا البترك من أي بلد كان من أولئك القسيسين أو من غيرهم، ثم سموه بابا ومعناه أبو الآباء، وخرج مرقس إلى برقة يدعو الناس إلى دين المسيح.
ثم ملك آخر، فأهاج على أتباع المسيح الشر والبلاء وأخذهم بأنواع العذاب، وفي عصره كتب بطرس رئيس الحواريين إنجيل مرقس عنه بالرومية ونسبه إلى مرقس.
وفي عصره كتب لوقا إنجيله بالرومية لرجل شريف من عظماء الروم، وكتب له الأبركسيس الذي فيه أخبار التلاميذ.
وفي زمنه صلب بطرس وزعموا أن بطرس قال له: إن أردت أن تصلبني فاصلبني منكسا لئلا أكون مثل سيدي المسيح فإنه صلب قائما، وضرب عنق بولس بالسيف، وأقام بعد صعود المسيح اثنين وعشرين سنة. وأقام مرقس بالإسكندرية وبرقة سبع سنين يدعو الناس إلى الإيمان بالمسيح.
ثم قتل بالإسكندرية وأحرق جسده بالنار، ثم استمرت القياصرة ملوك الروم على هذه السيرة إلى أن ملك مصر قيصر يسمى طيطس فخرب بيت المقدس بعد المسيح بسبعين سنة بعد أن حاصرها وأصاب أهلها جوع عظيم، وقتل من كان بها من ذكر وأنثى حتى كانوا يشقون بطون الحبالى ويضربون بأطفالهن الصخور، وخرب المدينة وأضرم فيها النار وأحصى القتلى على يده فبلغوا ثلاثة آلاف ألف.
ثم ملك ملوك آخرون فكان منهم واحد شديد على اليهود جدا، فبلغوه أن النصارى يقولون إن المسيح ملكهم وإن ملكه يدوم إلى آخر الدهر، فاشتد غضبه وأمر بقتل النصارى وأن لا يبقى في ملكه نصراني، وكان يوحنا صاحب الإنجيل هناك فهرب، ثم أمر الملك بإكرامهم وترك الاعتراض عليهم.
ثم ملك بعده آخر، فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل بترك أنطاكية برومية وقتل أسقف بيت المقدس وصلبه وله يومئذ مائة وعشرون سنة، وأمر باستعباد النصارى فاشتد عليهم البلاء إلى أن رحمتهم الروم، وقال له وزراؤه إن لهم دينا وشريعة وإنه لا يحل استعبادهم، فكف عنهم. وفي عصره كتب يوحنا إنجيله بالرومية، وفي ذلك العصر رجع اليهود إلى بيت المقدس فلما كثروا وامتلأت منهم المدينة عزموا على أن يملكوا منهم ملكا، فبلغ الخبر قيصر فوجه إليهم جيشا فقتل منهم من لا يحصى.
ثم ملك بعده آخر وأخذ الناس بعبادة الأصنام وقتل من النصارى خلقا كثيرا، ثم ملك بعده ابنه وفي زمانه قتل اليهود ببيت المقدس قتلا ذريعا وخرب بيت المقدس، وهرب اليهود إلى مصر وإلى الشام والجبال والأغوار وتقطعوا في الأرض.
وأمر الملك أن لا يسكن بالمدينة يهودي وأن يقتل اليهود ويستأصلوا وأن يسكن المدينة اليونانيون، وامتلأت بيت المقدس من اليونانيين، والنصارى ذمة تحت أيديهم، فرأوهم يأتون إلى مزبلة هناك فيصلون فيها، فمنعوهم من ذلك وبنوا على المزبلة هيكلا باسم الزهرة، فلم يمكن النصارى بعد ذلك قربان ذلك الموضع.
ثم هلك هذا الملك، وقام بعده آخر فنصب يهودا أسقفا على بيت المقدس. قال ابن البطريق: فمن يعقوب أسقف بيت المقدس الأول إلى يهودا أسقفه، هكذا كانت الأساقفة الذين على بيت المقدس كلهم مختونين.
ثم ولي بعده آخر وأثار على النصارى بلاء شديدا وحربا طويلا، ووقع في أيامه قحط شديد كاد الناس أن يهلكوا، فسألوا النصارى أن يبتهلوا إلى إلههم فدعوا وابتهلوا إلى الله، فمطروا وارتفع عنهم القحط والوباء.
قال ابن البطريق: وفي زمانه كتب بترك الإسكندرية إلى أسقف بيت المقدس وبترك أنطاكية وبترك رومية في كتاب فصح النصارى وصومهم، وكيف يستخرج من فصح اليهود، فوضعوا فيها كتبا على ما هي اليوم. قال: وذلك أن النصارى كانوا بعد صعود المسيح إذا عيدوا عيد الغطاس من الغد يصومون أربعين يوما ويفطرون كما فعل المسيح، لأنه لما اعتمد بالأردن خرج إلى البرية فأقام بها أربعين يوما، وكان النصارى إذا أفصح اليهود عيدوا هم الفصح، فوضع هؤلاء البتاركة حسابا للفصح ليكون فطرهم يوم الفصح، وكان المسيح يعيد مع اليهود في عيدهم، واستمر على ذلك أصحابه إلى أن ابتدعوا تغيير الصوم، فلم يصوموا عقيب الغطاس بل نقلوا الصوم إلى وقت لا يكون عيدهم مع اليهود.
ثم مات ذلك الملك وقام بعده آخر، وفي زمنه كان جالينوس وفي زمنه ظهرت الفرس، وغلبت على بابل وآمد وفارس.
وتملك أزدشير بن بابك في أصطخر، وهو أول ملك، ملك على فارس في المدة الثانية. ثم مات قيصر وقام بعده آخر ثم آخر، وكان شديدا على النصارى عذبهم عذابا عظيما وقتل خلقا كثيرا منهم، وقتل كل عالم فيهم، ثم قتل من كان بمصر والإسكندرية من النصارى، وهدم الكنائس وبنى بالإسكندرية هيكلا وسماه هيكل الآلهة.
ثم قام بعده قيصر آخر ثم آخر، وكانت النصارى في زمنه في هدوء وسلامة، وكانت أمه تحب النصارى.
ثم قام بعده آخر فأثار على النصارى بلاء عظيما وقتل منهم خلقا كثيرا، وأخذ الناس بعبادة الأصنام، وقتل من الأساقفة خلقا كثيرا وقتل بترك أنطاكية، فلما سمع بترك بيت المقدس بقتله هرب وترك الكرسي.
ثم هلك وقام بعده آخر ثم آخر.
==============

ذكر ماني الكذاب
وفي أيام هذا ظهر ماني الكذاب وزعم أنه نبي، وكان كثير الحيل والمخاريق فأخذه بهرام ملك الفرس فشقه نصفين، وأخذ من أتباعه مائتي رجل فغرس رؤوسهم في الطين منكسين حتى ماتوا.
ثم قام من بعده فيلبس فآمن بالمسيح فوثب عليه بعض قواده، فقتله. ثم قام بعده دانقيوس، ويسمى دقيانوس، فلقي النصارى منه بلاء عظيما، وقتل منهم ما لا يحصى وقتل بترك رومية، وبنى هيكلا عظيما وجعل فيه الأصنام وأمر أن يسجد لها ويذبح لها، ومن لم يفعل قتل. فقتل خلقا كثيرا من النصارى وصلبوا على الهيكل، واتخذ من أولاد عظماء المدينة سبعة غلمان فجعلهم خاصته وقدّمهم على جميع من عنده، وكانوا لا يسجدون للأصنام، فأعلم الملك بخبرهم فحبسهم ثم أطلقهم. وخرج إلى مخرج له فأخذ الفتية كل مالهم فتصدقوا به ثم خرجوا إلى جبل فيه كهف كبير فاختفوا فيه، وصب الله عليهم النعاس فناموا كالأموات، وأمر الملك أن يبنى عليهم باب الكهف ليموتوا فأخذ قائد من قواده صفيحة من نحاس فكتب فيها أسماءهم وقصتهم مع دقيانوس، وصيرها في صندوق من نحاس، ودفنه داخل الكهف وسده. ثم مات الملك.
=================

بولس أول من ابتدع اللاهوت والناسوت في شأن المسيح
ثم قام بعده قيصر آخر، وفي زمنه جعل في أنطاكية بتركا مسمى بولس الشمشاطي وهو أول من ابتدع في شأن المسيح اللاهوت والناسوت، وكانت النصارى قبله كلمتهم واحدة أنه عبد رسول مخلوق مصنوع مربوب، لا يختلف فيه اثنان منهم، فقال بولس هذا، وهو أول من أفسد دين النصارى، إن سيدنا المسيح خلق من اللاهوت إنسانا كواحد منا في جوهره وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفى ليكون مخلصا للجوهر الإنسي صحبته النعمة الإلهية، فحلت فيه بالمحبة والمشيئة، ولذلك سمي ابن الله. وقال إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد.
قال سعيد بن البطريق: وبعد موته اجتمع ثلاثة عشر أسقفا في مدينة أنطاكية ونظروا في مقالة بولس فأوجبوا عليه اللعن، فلعنوه ولعنوا من يقول بقوله وانصرفوا.
ثم قام قيصر آخر، فكانت النصارى في زمنه يصلون في المطامير والبيوت فزعا من الروم، ولم يكن بترك الإسكندرية يظهر خوفا أن يقتل، فقام بارون بتركا فلم يزل يداري الروم حتى بنى بالإسكندرية كنيسة.
ثم قام قياصرة أخر، منهم اثنان تملكا على الروم إحدى وعشرين سنة، فأثارا على النصارى بلاء عظيما وعذابا أليما وشدة تجل عن الوصف من القتل والعذاب واستباحة الحريم والأموال، وقتل ألوف مؤلفة من النصارى، وعذبوا "مارجرجس" أصناف العذاب ثم قتلوه، وفي زمنهما ضربت عنق بطرس بترك الإسكندرية، وكان له تلميذان.
وكان في زمنه أريوس يقول: إن الأب وحده الله الفرد الصمد، والابن مخلوق مصنوع، وقد كان الأب إذ لم يكن الابن. فقال بطرس لتلميذيه: إن المسيح لعن أريوس فاحذرا أن تقبلا قوله؛ فإني رأيت المسيح في النوم مشقوق الثوب، فقلت: يا سيدي! من شق ثوبك؟ فقال لي: أريوس، فاحذروا أن تقبلوه أو يدخل معكم الكنيسة. وبعد قتل بطرس بخمس سنين، صير أحد تلميذيه بتركا على الإسكندرية، فأقام ستة أشهر ومات، ولما جرى على أريوس ما جرى أظهر أنه قد رجع عن مقالته فقبله هذا البترك وأدخله الكنيسة وجعله قسيسا.
ثم قام قيصر آخر، فجعل يتطلب النصارى ويقتلهم حتى صب الله عليه النقمة فهلك شر هلكة.
ثم قام بعده قيصران: أحدهما ملك الشام وأرض الروم وبعض الشرق. والآخر رومية وما جاورها. وكانا كالسباع الضارية على النصارى فعلا بهم من القتل والسبي والجلاء ما لم يفعله بهم ملك قبله.
وملك معهما قسطنطين أبو قسطنطين، وكان دينا يبغض الأصنام محبا للنصارى، فخرج إلى ناحية الجزيرة والرها، فنزل في قرية من قرى الرها فرأى امرأة جميلة يقال لها هيلانة. وكانت قد تنصرت على يدي أسقف الرها وتعلمت قراءة الكتب فخطبها قسطنطين من أبيها فزوجه إياها، فحبلت منه وولدت قسطنطين، فتربى بالرها وتعلم حكمة اليونان، وكان جميل الوجه، قليل الشر محبا للحكمة.
وكان عليانوس ملك الروم حينئذ رجلا فاجرا شديد البأس، مبغضا للنصارى جدا كثير القتل فيهم محبا للنساء، لم يترك للنصارى بنتا جميلة إلا أفسدها، وكذلك أصحابه.
وكان النصارى في جهد جهيد معه، فبلغه خبر قسطنطين وأنه غلام هاد قليل الشر كثير العلم، وأخبره المنجمون والكهنة أنه سيملك ملكا عظيما فهمّ بقتله، فهرب قسطنطين من الرها ووصل إلى أبيه فسلم إليه الملك.
ثم مات أبوه، وصب الله على عليانوس أنواعا من البلاء حتى تعجب الناس مما ناله ورحمه أعداؤه مما حل به، فرجع إلى نفسه وقال: لعل هذا بسبب ظلم النصارى. فكتب إلى جميع عماله أن يطلقوا النصارى من الحبوس وأن يكرموهم ويسألوهم أن يدعوا له في صلواتهم.
فوهب الله له العافية ورجع إلى أفضل ما كان عليه من الصحة والقوة، فلما صح وقوي رجع إلى شر مما كان عليه، وكتب إلى عماله أن يقتلوا النصارى ولا يدعوا في مملكته نصرانيا ولا يسكنوا له مدينة ولا قرية، فكان القتلى يحملون على العجل ويرمى بهم في البحر والصحارى.
وأما قيصر الآخر الذي كان معه فكان شديدا على النصارى واستعبد من كان برومية من النصارى ونهب أموالهم وقتل رجالهم ونساءهم وصبيانهم.
==================

أول من ابتدع شارة الصليب قسطنطين
فلما سمع أهل رومية بقسطنطين وأنه مبغض للشر محب للخير وأن أهل مملكته معه في هدو، وسلامة، كتب رؤساءهم إليه يسألونه أن يخلصهم من عبودية ملكهم، فلما قرأ كتبهم اغتم غما شديدا وبقي متحيرا لا يدري كيف يصنع.
قال سعيد بن البطريق: فظهر له على ما يزعم النصارى نصف النهار في السماء صليب من كوكب مكتوبا حوله: بهذا تغلب. فقال لأصحابه: رأيتم ما رأيت؟ قالوا: نعم. فآمن حينئذ بالنصرانية، فتجهز لمحاربة قيصر المذكور وصنع صليبا كبيرا من ذهب وصيره على رأس البند، وخرج بأصحابه فأعطي النصر على قيصر، فقتل من أصحابه مقتلة عظيمة.
وهرب الملك ومن بقي من أصحابه، فخرج أهل رومية إلى قسطنطين بالأكليل الذهب، وبكل أنواع اللهو واللعب فتلقوه وفرحوا به فرحا عظيما، فلما دخل المدينة أكرم النصارى وردهم إلى بلادهم بعد النفي والتشريد، وأقام أهل رومية سبعة أيام يعيدون للملك وللصليب.
فلما سمع عليانوس جمع جموعه وتجهز للقتال مع قسطنطين، فلما وقعت العين في العين انهزموا وأخذتهم السيوف، وأفلت عليانوس فلم يزل من قرية إلى قرية حتى وصل إلى بلده، فجمع السحرة والكهنة والعرافين الذين كان يحبهم ويقبل منهم فضرب أعناقهم لئلا يقعوا في يد قسطنطين، وأمر ببناء الكنائس.
وأقام في كل بلد من بيت المال الخراج فيما تعمل به أبنية الكنائس، وقام بدين النصرانية حتى ضرب بجرانه في زمانه فلما تم له خمس عشر سنة من ملكه حاج النصارى في أمر المسيح واضطربوا.
فأمر بالمجمع في مدينة نيقية، وهي التي رتبت فيها "الأمانة" بعد هذا المجمع كما سيأتي، فأراد أريوس أن يدخل معهم فمنعه بترك الإسكندرية وقال على أن بطرسا قال لهم: إن الله لعن أريوس فلا تقبلوه ولا تدخلوه الكنيسة، وكان على مدينة أسيوط من عمل مصر أسقف يقول بقول أريوس، فلعنه أيضا، وكان بالإسكندرية هيكل عظيم على اسم زحل وكان فيه صنم من نحاس يسمى ميكائيل.
وكان أهل مصر والإسكندرية في اثني عشر يوما من شهر هتور، وهو تشرين الثاني، يعيدون لذلك الصنم عيدا عظيما ويذبحون له الذبائح الكثيرة، فلما ظهرت النصرانية بالإسكندرية أراد بتركها أن يكسر الصنم ويبطل الذبائح له فامتنع عليه أهلها، فاحتال عليهم بحيلة وقال: لو جعلتم هذا العيد لميكائيل ملك الله لكان أولى، فإن هذا الصنم لا ينفع ولا يضر. فأجابوه إلى ذلك، فكسر الصنم وجعل منه صليبا وسمى الهيكل كنيسة ميكائيل، فلما منع بترك الإسكندرية أريوس من دخول الكنيسة ولعنه خرج أريوس مستعديا عليه ومعه أسقفان فاستغاثوا إلى قسطنطين، وقال أريوس إنه تعدى علي وأخرجني من الكنيسة ظلما، وسئل الملك أن يشخص بترك الإسكندرية يناظره قدام الملك، فوجه قسطنطين برسول إلى الإسكندرية، فأشخص البترك وجمع بينه وبين أريوس ليناظره.
فقال قسطنطين لأريوس: اشرح مقالتك. قال أريوس: أقول إن الأب كان إذا لم يكن الابن، ثم إنه أحدث الابن فكان كلمة له، إلا أنه محدث مخلوق، ثم فوض الأمر إلى ذلك الابن المسمى كلمة، فكان هو خالق السموات والأرض وما بينهما، كما قال ففي إنجيله إن يقول: «وهب لي سلطانا على السماء، والأرض» فكان هو الخالق لهما بما أعطي من ذلك، ثم إن الكلمة تجسدت من مريم العذراء ومن روح القدس، فصار ذلك مسيحا واحدا، فالمسيح الآن معنيان: كلمة وجسد، إلا أنهما جميعا مخلوقان.
فأجابه عند ذلك بترك الإسكندرية وقال: تخبرنا الآن، أيما أوجب علينا عندك عبادة من خلقنا أو عبادة من لم يخلقنا؟ قال أريوس: بل عبادة من خلقنا، فقال له البترك: فإن كان خالقنا الابن كما وصفت، وكان الابن مخلوقا، فعبادة الابن المخلوق أوجب من عبادة الأب الذي ليس بخالق بل تصير عبادة الأب الذي خلق الابن كفرا، وعبادة الابن المخلوق إيمانا، وذلك من أقبح الأقاويل. فاستحسن الملك وكل من حضر مقالة البترك وشنع عندهم مقالة أريوس، ودارت بينهما أيضا مسائل كثيرة، فأمر قسطنطين البترك أن يكفر أريوس وكل من قال بمقالته، فقال له: بل يوجه الملك بشخص للبتاركة والأساقفة حتى يكون لنا مجمع ونصنع فيه قضية، ويكفر أريوس ويشرح الدين ويوضحه للناس.
====================

المجمع الأول
فبعث قسطنطين الملك إلى جميع البلدان، فجمع البتاركة والأساقفة فاجتمع في مدينة نيقية بعد سنة وشهرين ألفان وثمانية وأربعون أسقفا.
فكانوا مختلفي الآراء مختلفي الأديان:
فمنهم من يقول: المسيح ومريم إلهان، من دون الله، وهم المريمانية.
ومنهم من يقول: المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار تعلقت من شعلة نار، فلم ينقص الأولى لإيقاد الثانية منها.
ومنهم من كان يقول: لم تحبل مريم لتسعة أشهر وإنما مر نور في بطن مريم كما يمر الماء في الميزاب؛ لأن كلمة الله دخلت من أذنها وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها، وهذه مقالة الباريليدس وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره، وإن ابتداء الابن من مريم، وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجواهر إلانسية، صحبته النعمة الإلهية، فحلت منه بالمحبة والمشيئة، فلذلك سمى ابن الله، ويقولون: إن الله جوهر واحد وأقنوم واحد، ويسمونه بثلاثة أسماء، ولا يؤمنون بالكلمة ولا بروح القدس، وهذه مقالة بولس وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: ثلاثة آلهة لم تزل، صالح وطالح وعدل بينهما، وهذه مقالة مرقيون وأشياعه.
ومنهم من كان يقول: ربنا هو المسيح، وهي مقالة ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا.
قال ابن البطريق: ولما سمع قسطنطين الملك مقالتهم عجب من ذلك وأخلى لهم دارا، وتقدم لهم بالإكرام والضيافة وأمرهم أن يتناظروا فيما بينهم لينظر من معه الحق فيتبعه، فاتفق منهم ثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا على دين واحد ورأي واحد، وناظروا بقية الأساقفة المختلفين ففلجوا عليهم في المناظرة، وكان باقي الأساقفة مختلفي الآراء، والأديان. فصنع الملك للثلاثمائة والثمانية عشر أسقفا مجلسا عظيما وجلس في وسطه وأخذ خاتمه وسيفه وقضيبه. فدفع ذلك إليهم، وقال لهم: قد سلطتكم اليوم على المملكة فاصنعوا ما بدا لكم، وما ينبغي لكم أن تضيعوا ما فيه قوام الدين وصلاح الأمة، فباركوا على الملك وقلدوه سيفه، وقالوا له: أظهر دين النصرانية وذب عنه، ووضعوا له أربعين كتابا فيها السنن والشرائع، وفيها ما يصلح أن يعمل به الأساقفة وما يصلح للملك أن يعمل بما فيها، وكان رئيس القوم والمجمع والمقدم فيه بترك الإسكندرية وبترك أنطاكية وأسقف بيت المقدس، ووجه بترك رومية من عنده رجلين، فاتفق الكل على لعن أريوس وأصحابه، ولعنوه وكل من قال بمقالته.
ووضعوا الأمانة وقالوا: إن الابن مولود من الأب قبل كون الخلائق، وإن الابن من طبيعة الأب غير مخلوق. واتفقوا على أن يكون فصح النصارى يوم الأحد ليكون بعد فصح اليهود، وأن لا يكون فصح اليهود مع فصحهم في يوم واحد، ومنعوا أن يكون للأسقف زوجة.
وذلك أن الأساقفة منذ وقت الحواريين إلى مجمع الثلاثمائة وثمانية عشر كان لهم نساء لأنهم كانوا إذا صيروا واحدا أسقفا وكانت له زوجة ثبتت معه ولم تتنح عنه، ما خلا البتاركة فإنهم لم يكن لهم نساء ولا كانوا أيضا يصيرون أحدا له زوجة بتركا. قال: وانصرفوا مكرمين محظوظين وذلك في سبعة عشر سنة من ملك قسطنطين الملك، ومكث بعد ذلك ثلاث سنين.
أحداها: كسر الأصنام، وقتل من يعبدها.
والثانية: أمر أن لا يثبت في الديوان إلا أولاد النصارى، ويكونون هم الأمراء والقواد.
والثالثة: أن يقيم للناس جمعة الفصح والجمعة التي بعدها لا يعملون فيها عملا ولا يكون فيها حرب، وتقدم قسطنطين إلى أسقف بيت المقدس أن يطلب موضع المقبرة والصليب ويبني الكنائس ويبدأ ببناء القيامة، فقالت هيلانة أمه: إني نذرت أن أسير إلى بيت المقدس وأطلب المواضع المقدسة وأبنيها، فدفع إليها الملك أموالا جزيلة، وسارت مع أسقف بيت المقدس، فبنت كنيسة القيامة في موضع الصليب وكنيسة قسطنطين.
========================

المجمع الثاني
ثم اجتمعوا بعد هذا مجمعا عظيما ببيت المقدس، وكان معهم رجل دسه بترك القسطنطينية، وجماعة معه، ليسألوا بترك الإسكندرية، وكان هذا الرجل لما رجع إلى الملك، أظهر أنه مخالف لأريوس، وكان يرى رأيه، ويقول بمقالته، فقام الرجل، وقال: إن أريوس لم يقل إن المسيح خلق الإنسان، ولكن قال به خلقت الأشياء، لأنه كلمة الله التي بها خلقت السموات والأرض، وإنما خلق الله الأشياء بكلمته ولم تخلق الأشياء كلمته، كما قال المسيح في الإنجيل: «كل بيده كان ومن دونه لم يكن شيء» وقال: «به كانت الحيا، والحياة نور البشر» وقال: «العالم به يكون» فأخبر أن الأشياء به تكونت.
قال ابن البطريق: فهذه كانت مقالة أريوس ولكن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا تعدوا عليه وحرفوه ظلما وعدوانا، فرد عليه بترك الإسكندرية، وقال: أما أريوس، فلم تكذب عليه الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولا ظلموه لأنه إنما قال: الابن خالق الأشياء دون الأب، وإذا كانت الأشياء إنما خلقت بالابن دون أن يكون الأب لها خالقا فقد أعطى أنه ما خلق منها شيئا.
وفي ذلك تكذيب قوله: «الأب يخلق وأنا أخلق».
وقال: «إن أنا لم أعمل عمل أبي فلا تصدقوني».
وقال: «كما أن الأب يحيي من يشاء ويميته، كذلك الابن يحيي من يشاء ويميته».
قالوا: فدل على أنه يحيي ويخلق، وفي هذا تكذيب لمن زعم أنه ليس بخالق وإنما خلقت الأشياء به دون أن يكون خالقا.
وأما قولك: إن الأشياء كونت به، فإنا لما قلنا: لا شك أن المسيح حي فعال، وكان قد دل بقوله: «إني أفعل الخلق والحياة» كان قولك: به كونت الأشياء إنما هو راجع في المعنى إلى أنه كونها وكانت به مكونة، ولو لم يكن ذلك لتناقض القولان.
قال: وأما قول من قال من أصحاب أريوس: إن الأب يريد الشيء فيكونه الابن، والإرادة للأب والتكوين للابن، فإن ذلك يفسد أيضا، إذا كان الابن عنده مخلوقا، فقد صار حظ المخلوق في الخلق أوفى من حظ الخالق فيه، وذلك أن هذا أراد وفعل، وذلك أراد ولم يفعل، فهذا أوفر حظا في فعله من ذلك، ولابد لهذا أن يكون في فعله لما يريد ذلك، بمنزلة كل فاعل من الخلق لما يريد الخالق منه، ويكون حكمه كحكمه في الخير والاختيار، فإن كان مجبورا فلا شيء له في الفعل، وإن كان مختارا، فجائز أن يطاع، وجائز أن يعصى، وجائز أن يثاب، وجائز أن يعاقب. وهذا أشنع في القول، ورد عليه أيضا وقال: إن كان الخالق إنما خلق خلقه بمخلوق، والمخلوق غير الخالق بلا شك، فقد زعمتم أن الخالق يفعل بغيره، والفاعل بغيره محتاج إلى متمم ليفعل به، إذ كان لا يتم له الفعل إلا به، والمحتاج إلى غيره منقوص، والخالق متعال عن هذا كله.
قال: فلما دحض بترك الإسكندرية حجج أولئك المخالفين، وظهر لمن حضر بطلان قولهم وتحيروا وخجلوا، فوثبوا على بترك الإسكندرية فضربوه حتى كاد يموت، فخلصه من أيديهم ابن أخت قسطنطين، وهرب بترك الإسكندرية وصار إلى بيت المقدس من غير حضور أحد من الأساقفة، ثم أصلح دهن الميرون وقدس الكنائس ومسحها بدهن الميرون، وسار إلى الملك فأعلمه الخبر فصرفه إلى الإسكندرية.
قال ابن البطريق: وأمر الملك أن لا يسكن يهودي ببيت المقدس ولا يجوز بها، ومن لم يتنصر قتل، فظهر دين النصرانية، وتنصر من اليهود خلق، فقيل للملك: إن اليهود يتنصرون من خوف القتل وهم على دينهم، فقال: كيف لنا أن نعلم ذلك منهم؟ فقال له بولس البترك: إن الخنزير في التوراة حرام، واليهود لا يأكلون لحم الخنزير، فأمر أن تذبح الخنازير ويطبخ لحومها ويطعم منها، فمن لم يأكل منه علم أنه مقيم على دين اليهودية. فقال الملك: إذا كان الخنزير في التوراة حراما فكيف يحل لنا أن نأكله ونطعمه الناس؟ فقال له بولس: إن سيدنا المسيح قد أبطل كل ما في التوراة وجاء بنواميس أخر وبتوراة جديدة وهو الإنجيل، وفي إنجيله: أن كل ما يدخل البطن فليس بحرام ولا نجس، وإنما ينجس الإنسان ما يخرج من فيه.
وقال بولس: إن بطرس رئيس الحواريين، بينما هو يصلي في ست ساعات من النهار، وقع عليه سبات فنظر إلى السماء قد تفتحت وإذا زاد قد نزل من السماء حتى بلغ الأرض، وفيه كل ذي أربع قوائم على الأرض، من السباع والدواب وغير ذلك من طير السماء، وسمع صوتا يقول له: يا بطرس قم فاذبح وكل، فقال بطرس: يا رب ما أكلت شيئا نجسا قط ولا دنسا قط، فجاء صوت ثان كل ما طهره الله فليس بنجس.
وفي نسخة أخرى: ما طهره الله فلا تنجسه أنت، ثم جاءه الصوت بهذا ثلاث مرات، ثم إن الزاد ارتفع إلى السماء، فتعجب بطرس وتحير فيما بينه وبين نفسه، فأمر الملك أن تذبح الخنازير وتطبخ لحومها وتقطع صغارا، وتصير على أبواب الكنائس في كل مملكته يوم أحد الفصح، وكل من خرج من الكنيسة يلقم لقمة من لحم الخنازير، فمن لم يأكل منه يقتل، فقتل لأجل ذلك خلق كثير، ثم هلك قسطنطين.
وقام بعده أكبر أولاده، واسمه قسطنطين، وفي أيامه اجتمع أصحاب أريوس ومن قال بمقالته إليه، فحسنوا لهم دينهم ومقالتهم، وقالوا: إن الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا الذين كانوا اجتمعوا بنيقية قد أخطأوا وحادوا عن الحق في قولهم إن الابن متفق مع الأب في الجوهر.
فأمر أن لا يقال هذا، فإنه خطأ، فعزم الملك على فعله، فكتب إليه أسقف بيت المقدس أن لا يقبل قول أصحاب أريوس فإنهم حائدون عن الحق وكفار، وقد لعنهم الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا ولعنوا كل من يقول بمقالتهم، فقبل قوله.
قال ابن البطريق: وفي ذلك الوقت أعلنت مقالة أريوس على قسطنطينية وأنطاكية والإسكندرية، وفي ثاني سنة من ملك قسطنطين هذا صار على أنطاكية بترك أريوسي، ثم بعده آخر مثله. قال: وأما أهل مصر والإسكندرية، وكان أكثرهم أريوسيين ومانيين، فغلبوا على كنائس مصر فأخذوها، ووثبوا على بترك الإسكندرية ليقتلوه فهرب منهم واستخفى. ثم ذكر جماعة من البتاركة والأساقفة من طوائف النصارى وما جرى لهم مع بعضهم بعضا وما تعصبت به كل طائقة لبتركها حتى قتل بعضهم بعضا. واختلف النصارى أشد الاختلاف وكثرت مقالاتهم، واجتمعوا عدة مجامع، كل مجمع يلعن فيه بعضهم بعضا، ونحن نذكر بعض مجامعهم بعد هذين المجمعين.
=====================

المجمع الثالث
فكان لهم مجمع ثالث، بعد ثمان وخمسين سنة من المجمع الأول بنيقية، فاجتمع الوزراء والقواد إلى الملك، وقالوا: إن مقالة الناس قد فسدت وغلبت عليهم مقالة أريوس ومقدونيس، فاكتب إلى جميع الأساقفة والبتاركة أن يجتمعوا ويوضحوا دين النصرانية، فكتب الملك إلى سائر بلاده، فاجتمع في قسطنطينية مائة وخمسون أسقفا، فنظروا وبحثوا في مقالة أريوس، فوجدوها أن روح القدس مخلوق ومصنوع، ليس بإله. فقال بترك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا غير روح الله، وليس روح الله غير حياته. فإذا قلنا إن روح الله مخلوق فقد قلنا إن حياته مخلوقة، وإذا قلنا إن حياته مخلوقة فقد جعلناه غير حي، وذلك كفر به. فلعنوا جميعهم من يقول بهذه المقالة، ولعنوا جماعة من أساقفتهم وبتاركتهم كانوا يقولون بمقالات أخر لم يرتضوها، وبينوا أن روح القدس خالق غير مخلوق، إله حق من إله حق، من طبيعة الأب والابن. وزادوا في الأمانة التي وضعتها الثلاثمائة والثمانية عشر: «ونؤمن بروح القدس، الرب المحيي الذي من الأب منبثق، الذي مع الأب والابن، وهو مسجود له وممجد».
وكان في تلك الأمانة، «وبروح القدس» فقط، وبينوا أن الابن والأب وروح القدس ثلاثة أقانيم وثلاث وجوه وثلاث خواص، وأنها وحدة في تثليث، وتثليث في وحدة، وبينوا أن جسد المسيح بنفس ناطقة عقلية، فانفض هذا الجمع، وقد لعنوا فيه كثيرا من أساقفتهم وأشياعهم.
==================

المجمع الرابع
ثم بعد إحدى وخمسين سنة من هذا المجمع كان لهم مجمع رابع على نسطورس، وكان رأيه أن مريم ليست بوالدة الإله على الحقيقة، ولذلك كان اثنان: أحدهما الإله الذي هو موجود من الأب، والآخر إنسان وهو الموجود من مريم، وأن هذا الإنسان الذي نقول أنه المسيح متوحد مع الابن الإله، ويقال له إله وابن الإله ليس على الحقيقة، ولكن موهبة، واتفاق الاسمين على طريق الكرامة.
فبلغ ذلك بتاركة سائر البلاد فجرت بينهم مراسلات واتفقوا على تخطئته.
واجتمع منهم مائتا أسقف في مدينة أفسيس، وأرسلوا إليه للمناظرة فامتنع ثلاثا مرات، فأجمعوا على لعنه فلعنوه ونفوه وبينوا أن مريم ولدت إلها وأن المسيح إله حق من إله حق، وهو إنسان، وله طبيعتان، فلما لعنوا نسطورس تعصب له بترك أنطاكية فجمع الأساقفة فلم يزل الملك حتى الذين قدموا معه وناظرهم وقطعهم، فتقاتلوا وتلاعنوا، وجرى بينهم شر فتفاقم أمرهم. ثم أصلح بينهم، فكتب أولئك صحيفة أن مريم القديسة ولدت إلها، وهو ربنا يسوع المسيح الذي هو مع الله في الطبيعة، ومع الناس في الناسوت، وأقروا بطبيعتين وبوجه واحد وأقنوم واحد، وأنفذوا لعن نسطورس، فلما لعنوه ونفي سار إلى مصر، وأقام في أخميم سبع سنين ومات ودفن بها، وماتت مقالته إلى أن أحياها ابن صرما مطران نصيبين، وبثها في بلاد المشرق. فأكثر نصارى المشرق والعراق نسطورية. فانفض ذلك المجمع الرابع أيضا وقد أطبقوا على لعن نسطورس وأشياعه ومن قال بمقالته.
==========

المجمع الخامس
ثم كان لهم بعد هذا المجمع مجمع خامس، وذلك أنه كان بالقسطنطينية طبيب راهب يقال له أوطيسوس يقول إن جسد المسيح ليس هو مع أجسادنا بالطبيعة وإن المسيح قبل التجسد من طبيعتين، وبعد التجسد طبيعة واحدة، وهو أول من أحدث هذه المقالة، وهي مقالة اليعقوبية.
فرحل إليه بعض الأساقفة فناظره وقطعه ودحض حجته، ثم صار إلى قسطنطينية فأخبر بتركها بالمناظرة وبانقطاعه، فأرسل بترك القسطنطينية إليه فاستحضره وجمع جمعا عظيما وناظره. فقال أوطيسوس: إن قلنا إن المسيح طبيعتين فقد قلنا بقول نسطورس، ولكنا نقول إن المسيح طبيعة واحدة وأقنوم واحد لأنه من طبيعتين كانتا قبل التجسد، فلما قبل التجسد زالت عنه وصار طبيعة وأقنوما واحدا. فقال له بترك القسطنطينية: إن كان المسيح طبيعة واحدة، فالطبيعة القديمة هي الطبيعة المحدثة، وإن كان القديم هو المحدث، فالذي لم يزل هو الذي لم يكن، ولو جاز أن يكون القديم هو المحدث لكان القائم هو القاعد والحار هو البارد، فأبى أن يرجع عن مقالته، فلعنوه. فاستعدى إلى الملك وزعم أنهم ظلموه، وسأله أن يكتب إلى جميع البتاركة للمناظرة، فاستحضر الملك البتاركة والأساقفة من سائر البلاد إلى مدينة أفسيس.
فثبت بترك الإسكندرية مقالة أوطيسوس، وقطع بتارك القسطنطينية وأنطاكية وبيت المقدس وسائر البتاركة والأساقفة، وكتب إلى بترك رومية وإلى جماعة الكهنة فحرمهم ومنعهم من القربان إن لم يقبلوا مقالة أوطيسوس، ففسدت الأمانة وصارت مقالة أوطيسوس خاصة بمصر والإسكندرية، وهو مذهب اليعقوبية، فافترق هذا المجمع الخامس وكل فريق يلعن الآخر ويحرمه ويبرأ من مقالته.
===================

المجمع السادس
ثم كان لهم بعد هذا مجمع سادس في مدينة خلقدون، فإنه لما مات الملك ولي بعده مرقيون فاجتمع إليه الأساقفة من سائر البلاد فأعلموه ما كان من ظلم ذلك المجمع وقلة الإنصاف وأن مقالة أوطيسوس قد غلبت على الناس وأفسدت دين النصرانية.
فأمر الملك باستحضار سائر البتاركة والمطارنة والأساقفة إلى مدينة خلقدون، فاجتمع فيها ستمائة وثلاثون أسقفا، فنظروا في مقالة أوطيسوس وبترك الإسكندرية الذي قطع جميع البتاركة، فأفسد الجميع مقالتهما ولعنوهما، وأثبتوا أن المسيح إله وإنسان، في المكان مع الله باللاهوت، وفي المكان معنا بالناسوت، يعرف بطبيعتين، تام باللاهوت وتام بالناسوت، ومسيح واحد، وثبتوا أقوال الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا وقبلوا قولهم بأن الابن مع الله في المكان نور من نور، إله حق من إله حق، ولعنوا أريوس. وقالوا إن روح القدس إله، وإن الأب والابن وروح القدس واحد بطبيعة واحدة وأقانيم ثلاثة، وثبتوا قول المجمع الثالث في مدينة أفسيس، أعني المائتي أسقف على نسطورس، وقالوا إن مريم العذراء ولدت إلها، ربنا يسوع المسيح، الذي هو مع الله بالطبيعة ومع الناسوت بالطبيعة. وشهدوا أن للمسيح طبيعتين وأقنوما واحدا، ولعنوا نسطورس وبترك الإسكندرية، ولعنوا المجمع الثاني الذي كان بأفسيس، ثم المجمع الثالث، المائتي أسقف بمدينة أفسيس أول مرة، ولعنوا نسطورس. وبين نسطورس إلى مجمع خلقدون أحد وعشرون سنة، فانفض هذا المجمع وقد لعنوا من مقدميهم وأساقفتهم من ذكرنا، وكفروهم وتبرؤا منهم ومن قال مقالاتهم.
==============

المجمع السابع
ثم كان لهم بعد هذا المجمع مجمع سابع في أيام أنسطاس الملك، وذلك أن سورس القسطنطيني كان على رأى أوطيسوس فجاء إلى الملك فقال إن المجمع الحلقدوني الستمائة وثلاثين قد أخطأوا في لعن أوطسيوس وبترك الإسكندرية، والدين الصحيح ما قالاه فلا يقبل دين من سواهما، ولكن اكتب إلى جميع عمالك أن يلعنوا الستمائة وثلاثين، ويأخذوا الناس بطبيعة واحدة وأقنوم واحد، فأجابه الملك إلى ذلك.
فلما بلغ ذلك إيليا بترك بيت المقدس جمع الرهبان ولعنوا أنسطاس الملك وسورس ومن يقول بمقالتهما، فبلغ ذلك أنسطاس ونفاه إلى أيلة، وبعث يوحنا بتركا على بيت المقدس لأن يوحنا كان قد ضمن له أن يلعن المجمع الخلقدوني الستمائة وثلاثين.
فلما قدم إلى بيت المقدس اجتمع بالرهبان وقالوا إياك أن تقبل من سورس، ولكن قاتل عن المجمع الخلقدوني ونحن معك، فضمن لهم ذلك وخالف أمر الملك، فبلغ ذلك الملك فأرسل قائدا وأمره أن يأخذ يوحنا بطرح المجمع الخلقدوني فإن لم يفعل ينفيه عن الكرسي.
فقدم القائد وطرح يوحنا في الحبس فصار إليه الرهبان في الحبس، وأشاروا عليه بأن يضمن للقائد أن يفعل ذلك، فإذا حضر فليقر بلعنة من لعنه الرهبان، ففعل ذلك واجتمع الرهبان وكانوا عشرة آلاف راهب ومعهم مدرس وسابا ورؤساء الديرات، فلعنوا أوطسيوس وسورس ومن لا يقبل المجمع الخلقدوني.
وفزع رسول الملك من الرهبان، وبلغ ذلك الملك فهم بنفي يوحنا، فاجتمع الرهبان والأساقفة فكتبوا إلى أنسطاس الملك أنهم لا يقبلون مقالة سورس ولا أحد من المخالفين ولو أهريقت دماؤهم، وسألوه أن يكف أذاه عنهم، وكتب بترك رومية إلى الملك يقبح فعله ويلعنه، فانفض هذا المجمع أيضا وقد تلاعنت فيه هذه الجموع على ما وصفنا.
وكان لسورس تلميذ يقال له يعقوب يقول بمقالة سورس، وكان يسمى البرادعي وإليه تنسب اليعاقبة، فأفسد أمانة النصارى. ثم مات أنسطاس وولي قسطنطين فرد كل من نفاه أنسطاس الملك إلى موضعه، واجتمع الرهبان وأظهروا كتاب الملك وعيدوا عيدا حسنا، بزعمهم، وأثبتوا المجمع الحلقدوني بالستمائة وثلاثين أسقفا. ثم ولي ملك آخر، وكانت اليعقوبية قد غلبوا على الإسكندرية وقتلوا بتركا لهم يقال له بولس كان ملكيا، فأرسل القائد ومعه عسكر عظيم إلى الإسكندرية، فدخل الكنيسة في ثياب البترك وتقدم وقدس، فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، فانصرف.
ثم أظهر لهم من بعد ثلاثة أيام أنه قد أتاه كتاب الملك، وضرب الجرس ليجتمع الناس يوم الأحد في الكنيسة، فلم يبق أحد بالإسكندرية حتى حضر لسماع كتاب الملك، وقد جعل بينه وبين جنده علامة: إذا رجعتم إلى الحق وتركتم مقالة اليعاقبة وإلا لن تأمنوا أن يرسل إليكم الملك من يسفك دمائكم.
فرموه بالحجارة حتى خاف على نفسه أن يقتل، فأظهر العلامة فوضعوا السيف على كل من في الكنيسة فقتل داخلها وخارجها أمم لا تحصى كثرة حتى خاض الجند في الدماء، وهرب منهم خلق كثير وظهرت مقالة الملكية.
========================

المجمع الثامن
ثم كان لهم بعد ذلك مجمع ثامن بعد المجمع الحلقدوني الذي لعن فيه اليعقوبية بمائة سنة وثلاث سنين. وذلك أن أسقف منبج، وهي بلدة شرقي حلب بالقرب منها وهي مخسوفة الآن، كان يقول بالتناسخ وأن ليس قيامة، وكان أسقف الرها وأسقف المصيصة وأسقف آخر يقولون إن جسد المسيح خيال غير حقيقة، فحشرهم الملك إلى قسطنطينية فقال لهم بتركها: إن كان جسده خيالا فيجب أن يكون فعله خيالا وقوله خيالا، وكل جسد يعاين لأحد الناس أو فعل أو قول فهو كذلك. وقال لأسقف منبج إن المسيح قد قام من الموت وأعلمنا أنه كذلك يقوم الناس من الموت يوم الدينونة.
وقال في إنجيله: لن تأتي الساعة حتى إن كل من في القبور إذا سمعوا قول ابن الله يجيبوا، فكيف تقولون ليس قيامة؟
فأوجب عليهم الخزي واللعن، وأمر الملك أن يكون لهم مجمع يلعنون فيه واستحضر بتاركة البلاد، فاجتمع في هذا المجمع مائة وأربعة وستون أسقف فلعنوا أسقف منبج وأسقف المصيصة، وثبتوا على قول أسقف الرها: إن جسد المسيح حقيقة لا خيال، وإنه إله تام وإنسان تام، معروف بطبيعتين ومشيئتين وفعلين وأقنوم واحد، وثبتوا المجامع الأربعة التي قبلهم بعد المجمع الحلقدوني، وإن الدنيا زائلة وإن القيامة كائنة، وإن المسيح يأتي بمجد عظيم فيدين الأحياء والأموات، كما قال الثلاثمائة والثمانية عشر.
==================

المجمع التاسع
ثم كان لهم مجمع تاسع في أيام معاوية بن أبي سفيان تلاعنوا فيه. وذلك أنه كان برومية راهب قديس يقال له مقسلمس وله تلميذان، فجاء إلى قسطا الوالي فوبخه على قبح مذهبه وشناعة كفره، فأمر به قسطا فقطعت يداه، ورجلاه ونزع لسانه، وفعل بأحد التلميذين مثله وضرب آخر بالسياط، ونفاه فبلغ ذلك ملك قسطنطينية. فأرسل إليه يوجه إليه من أفاضل الأساقفة ليعلم وجه هذه الحجة ومن الذي كان ابتدأها لكيما يطرح جميع الآباء القديسين كل من استحق اللعنة، فبعث إليه مائة وأربعين أسقفا وثلاث شمامسة، فلما وصلوا إلى قسطنطينية جمع الملك مائة وثمانية وستين أسقفا فصاروا ثلاثمائة وثمانية، وأسقطوا الشمامسة في البرطحة.
وكان رئيس هذا المجمع بترك قسطنطينية وبترك أنطاكية، ولم يكن لبيت المقدس والإسكندرية بترك. فلعنوا من تقدم من القديسين الذين خالفوهم، وسموهم واحدا واحدا وهم جماعة، ولعنوا أصحاب المشيئة الواحدة، ولما لعنوا هؤلاء جلسوا فلخصوا الأمانة المستقيمة، بزعمهم، فقالوا: «نؤمن بأن الواحد من اللاهوت، الابن الوحيد الذي هو الكلمة الأزلية، الدائم المستوي مع الأب الإله في الجوهر، الذي هو ربنا يسوع المسيح، بطبيعتين تامتين وفعلين ومشيئتين في أقنوم واحد ووجه واحد، يعرف تاما بلاهوته تاما بناسوته، وشهدت كما شهد مجمع الخلقدونية على ما سبق أن الإله الابن في آخر الأيام اتحدا مع العذراء السيدة مريم القديسة جسدا إنسانا بنفسين، وذلك برحمة الله تعالى محب البشر، ولم يلحقه اختلاط ولا فساد ولا فرقة ولا فصل، ولكن هو واحد، يعمل بما يشبه الإنسان أن يعمله في طبيعته، وما يشبه الإله أن يعمل في طبيعته، الذي هو الابن الوحيد والكلمة الأزلية المتجسدة إلى أن صارت في الحقيقة لحما، كما يقول الإنجيل المقدس، من غير أن تنتقل عن محلها الأزلي، وليست يمتغيرة لكنها بفعلين ومشيئتين وطبيعتين: إلهي وأنسي، الذي بهما يكون القول الحق، وكل واحدة من الطبيعتين تعمل مع شركة صاحبتها، مشيئتين غير متضادتين ولا متضارعتين، ولكن مع المشيئة الأنسية في المشيئة الإلهية القادرة على كل شيء».
هذه شهادتهم وأمانة المجمع السادس من المجمع الحلقدوني، وثبتوا ما ثبته الخمس مجامع التي كانت قبلهم، ولعنوا من لعنوه، وبين المجمع الخامس إلى هذا المجمع مائة سنة.
=================

المجمع العاشر
فصل ثم كان لهم مجمع عاشر لما مات الملك وولي بعده ابنه واجتمع فريق المجمع السادس وزعموا أن اجتماعهم كان على الباطل، فجمع الملك مائة وثلاثين أسقفا فثبتوا قول المجمع السادس ولعنوا من لعنهم وخالفهم، وثبتوا قول المجامع الخمسة ولعنوا من لعنوا وانصرفوا، فانقرضت هذه المجامع والحشود، وهم علماء النصارى وقدماؤهم وناقلوا الدين إلى المتأخرين وإليهم يستند من بعدهم.
وقد اشتملت هذه المجامع العشرة المشهورة على زهاء أربعة عشر ألفا من الأساقفة والبتاركة والرهبان، كلهم يكفر بعضهم بعضا ويلعن بعضهم بعضا، فدينهم إنما قام على اللعنة بشهادة بعضهم على بعض، وكل منهم لاعن ملعون.
===============

لو عرض دين النصرانية على قوم لم يعرفوا لهم إلها لا متنعوا من قبوله
فإذا كانت هذه حال المتقدمين مع قرب زمنهم من أيام المسيح وبقاء أخيارهم فيهم والدولة دولتهم والكلمة لهم، وعلماؤهم إذ ذاك أوفر ما كانوا واحتفالهم بأمر دينهم واهتمامهم به كما ترى، ثم هم مع ذلك تائهون حائرون بين لاعن وملعون، لا يثبت لهم قدم ولا يتحصل لهم قول في معرفة معبودهم، بل كل منهم قد اتخذ إلهه هواه وباح باللعن والبراءة ممن اتبع سواه؛ فما الظن بحثالة الماضين ونفاية الغابرين وزبالة الحائرين وذرية الضالين، وقد طال عليهم الأمد وبعد العهد وصار دينهم ما يتلقونه عن الرهبان وقوم إذا كشفت عنهم وجدتهم أشبه شيء بالأنعام وإن كانوا في صور الأنام.
بل هم كما قال تعالى: (ومن أصدق من الله قيلا إن هم الا كالأنعام بل هم أضل سبيلا).
وهؤلاء هم الذين عناهم الله سبحانه بقوله: (يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل) ومن أمة الضلال، بشهادة الله ورسوله عليهم، وأمة اللعن بشهادتهم على نفوسهم بلعن بعضهم بعضا، وقد لعنهم الله سبحانه على لسان رسوله، في قوله ﷺ: «لعن الله اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.» يحذر ما فعلوه. هذا والكتاب واحد والرب واحد والنبي واحد والدعوى واحدة، وكلهم يتمسك بالمسيح وإنجيله وتلاميذه، ثم يختلفون فيه هذا الاختلاف المتباين.
فمنهم من يقول: إنه إله، ومنهم من يقول: ابن الله، ومنهم من يقول: ثالث ثلاثة، ومنهم من يقول: إنه عبد، ومنهم من يقول: إنه أقنوم وطبيعة، ومنهم من يقول: أقنومان وطبيعتان.
إلى غير ذلك من المقالات التي حكوها عن أسلافهم، وكل منهم يكفر صاحبه، فلو أن قوما لم يعرفوا لهم إلها ثم عرض عليهم دين النصرانية هكذا لتوقفوا عنه وامتنعوا من قبوله.
فوازن بين هذا وبين ما جاء به خاتم الأنبياء والرسل صلوات الله عليه وسلامه، تعلم علما يضارع المحسوسات أو يزيد عليها: إن الدين عند الله الإسلام.
===================

الفصل الثالث عشر: يستحيل الإيمان بنبي من الأنبياء مع جحد نبوة محمد
فصل في أنه لا يمكن الإيمان بنبي من الأنبياء أصلا مع جحود نبوة محمد رسول الله ﷺ، وأنه من جحد نبوته فهو لنبوة غيره من الأنبياء أشد جحدا، وهذا يتبين بوجوه:
أحدها: إن الأنبياء المتقدمين بشروا بنبوته وأمروا أممهم بالإيمان به، فمن جحد نبوته فقد كذب الأنبياء قبله فيما أخبروا به وخالفهم فيما أمروا وأوصوا به من الإيمان به. والتصديق به لازم من لوازم التصديق بهم، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه قطعا. وبيان الملازمة ما تقدم من الوجوه الكثيرة التي تفيد بمجموعها القطع على أنه ﷺ قد ذكر في الكتب الإلهية على ألسن الأنبياء. وإذا ثبت الملازمة فانتفاء اللازم موجب لانتفاء ملزومه.
الوجه الثاني: إن دعوة محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، هي دعوة جميع المرسلين قبله من أولهم إلى آخرهم، فالمكذب بدعوته مكذب بدعوة إخوانه كلهم، فإن جميع الرسل جاؤوا بما جاء به، فإذا كذبه المكذب فقد زعم أن ما جاء به باطل وفي ذلك تكذيب كل رسول أرسله الله وكل كتاب أنزله الله، ولا يمكن أن يعتقد أن ما جاء به صدق وأنه كاذب مفتر على الله. وهذا في غاية الوضوح، وهذا بمنزلة شهود شهدوا بحق فصدقهم الخصم، وقال: هؤلاء كلهم شهود عدول صادقون. ثم شهد آخر على شهادتهم سواء، فقال الخصم: هذه الشهادة باطلة وكذب، لا أصل لها. وذلك تكذيب بشهادة جميع الشهود قطعا، ولا ينجيه من تكذيبهم اعترافه بصحة شهادتهم وأنها شهادة حق مع قوله إن الشاهد بها كاذب فيما شهد. فكما أنه لو لم يظهر محمد ﷺ لبطلت نبوات الأنبياء قبله، فكذلك إن لم يصدق لم يمكن تصديق نبي من الأنبياء قبله,
الوجه الثالث: إن الآيات والبراهين التي دلت على صحة نبوته وصدقه أضعاف أضعاف آيات من قبله من الرسل. فليس لنبي من الأنبياء آية توجب الإيمان به، إلا ولمحمد ﷺ مثلها أو ما هو في الدلالة مثلها، وإن لم يكن من جنسها. فآيات نبوته أعظم وأكبر وأبهر وأدل، والعلم بنقلها قطعي لقرب العهد وكثرة النقلة واختلاف أمصارهم وأعصارهم واستحالة تواطئهم على الكذب، فالعلم بآيات نبوته كالعلم بنفس وجوده وظهوره وبلده، بحيث لا تمكن المكابرة في ذلك، والمكابر فيه في غاية الوقاحة والبهت، كالمكابرة في وجود ما يشاهده الناس، ولم يشاهده هو من البلاد والأقاليم والجبال والأنهار.
فإن جاز القدح في ذلك كله، فالقدح في وجود عيسى وموسى وآيات نبوتهما أجوز وأجوز. وإن امتنع القدح فيهما وفي آيات نبوتهما فامتناعه في محمد ﷺ وآيات نبوته أشد. ولذلك لما علم بعض علماء أهل الكتاب أن الإيمان بموسى لا يتم مع التكذيب بمحمد أبدا كفره بالجميع وقال: (ما أنزل الله على بشر من شيء).
كما قال تعالى: (ما قدروا الله حق قدره إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء. قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس، تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا، وعلمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون).
قال سعيد بن جبير: جاء رجل من اليهود يقال له مالك بن الصيف، يخاصم النبي ﷺ، فقال له النبي ﷺ: «أنشدك بالذي أنزل التوارة على موسى، أما تجد في التوراة، أنّ الله يبغض الحبر السمين؟»، وكان حبرا سمينا، فغضب عدو الله وقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فقال له أصحابه الذين معه: ويحك ولا موسى، فقال: والله ما أنزل الله على بشر من شيء. فأنزل الله عز وجل (وما قدروا الله حق قدره) الآية وهذا قول عكرمة.
قال محمد بن كعب: جاء ناس من اليهود إلى النبي ﷺ وهو محتّب، فقالوا: يا أبا القاسم ألا تأتينا بكتاب من السماء كما جاء به موسى ألواحا يحملها من عند الله عز وجل؟
فأنزل الله عز وجل (يسئلك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) الآية.
وجاء رجل من اليهود فقال: ما أنزل الله عليك ولا على موسى ولا على عيسى ولا على أحد شيئا. ما أنزل الله على بشر من شيء. فحل رسول الله ﷺ حبوته، وجعل يقول: «ولا على أحد؟».
وذهب جماعة منهم مجاهد إلى أن الآية نزلت في مشركي قريش، فهم الذين جحدوا أصل الرسالة وكذبوا بالرسل، وأما أهل الكتاب فلم يجحدوا نبوة موسى وعيسى. وهذا اختيار ابن جرير قال: وهو أولى الأقاويل بالصواب لأن ذلك في سياق الخبر عنهم، فهو أشبه من أن يكون خبرا عن اليهود، ولم يجر لهم ذكر، يكون هذا به متصلا مع ما في الخبر عن من أخبر الله عنه من هذه الآية من إنكاره أن يكون الله أنزل على بشر شيئا من الكتب، وليس ذلك مما تدين به اليهود. بل المعروف من دين اليهود الإقرار بصحف إبراهيم وموسى وزبور داود، والخبر من أول السورة إلى هذا الموضع خبر عن المشركين من عبدة الأوثان، وقوله: (وما قدروا الله حق قدره) موصول به غير مفصول عنه. قلت: ويقوي قوله أن السورة مكية، فهي خبر عن زنادقة العرب المنكرين لأصل النبوة. ولكن بقي أن يقال: فكيف يحسن الرد عليهم بما لا يقرون به من إنزال الكتاب الذي جاء به موسى؟ وكيف يقال لهم تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا، ولا سيما على قراءة من قرأ بتاء الخطاب؟ وهل ذلك صالح لغير اليهود؟
فإنهم كانوا يخفون من الكتاب مالا يوافق أهواءهم وأغراضهم ويبدون منه ما سواه، فاحتج عليهم بما يقرون به من كتاب موسى، ثم وبخهم بأنهم خانوا الله ورسوله فيه، فأخفوا بعضه وأظهروا بعضه.
وهذا استطراد من ذكر جحدهم النبوة بالكلية، وذلك إخفاء لها وكتمان، إلى جحد ما أقروا به كتابهم بإخفائه وكتمانه، فتلك سجية لهم معروفة لا تنكر. إذ من أخفى بعض كتابه الذي يقر بأنه من عند الله كيف لا يجحد أصل النبوة؟
ثم احتج عليهم بأنهم قد علموا بالوحي ما لم يكونوا يعلمونه هم ولا آباؤهم، ولولا الوحي الذي أنزله على أنبيائه ورسله لم يصلوا إليه.
ثم أمر رسوله أن يجيب عن هذا السؤال وهو قوله: (من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى)؟ (فقال: قل الله) أي: الله الذي أنزله. أي إن كفروا به وجحدوه فصدق به أنت، وأقر به (ثم ذرهم في خوضهم يلعبون).
وجواب هذا السؤال أن يقال: إن الله سبحانه احتج عليهم بما يقر به أهل الكتابين، وهم أولوا العلم دون الأمم التي لا كتاب لها، أي إن جحدتم أصل النبوة وأن يكون الله أنزل على بشر شيئا، فهذا كتاب موسى تقر به أهل الكتاب وهم أعلم منكم فاسألوهم عنه. ونظائر هذا في القرآن كثيرة يستشهد سبحانه بأهل الكتاب على منكري النبوات والتوحيد، والمعنى أنكم إن أنكرتم أن يكون الله أنزل على بشر شيئا فمن أنزل كتاب موسى؟ فإن لم تعلموا ذلك فاسألوا أهل الكتاب.
وأما قوله تعالى: (يجعلونه قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا) فمن قرأها بالياء فهو إخبار عن اليهود، بلفظ الغيبة، ومن قرأها بلفظ التاء للخطاب فهو خطاب لهذا الجنس الذي فعلوا ذلك. أي تجعلونه يا من أنزل عليه كذلك، وهذا من أعلام نبوته أن يخبر أهل الكتاب بما اعتمدوه في كتابهم وأنهم جعلوه قراطيس وأبدوا بعضه وأخفوا كثيرا منه، وهذا لا يعلم من غير جهتهم إلا بوحي من الله، ولا يلزم أن يكون قوله: (تجعلونه قراطيس) خطابا لمن حكى عنهم أنهم قالوا: (ما أنزل الله على بشر من شيء) بل هذا استطراد من الشيء إلى نظيره وشبهه ولازمه، وله نظائر في القرآن كثيرة، كقوله تعالى: (ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة) إلى آخر الآية.
فاستطرد من الشخص المخلوق من الطين، وهو آدم، إلى النوع المخلوق من النطفة، وهم أولاده، وأوقع الضمير على الجميع بلفظ واحد.
ومثله قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين فلما آتاهما صلحا جعلا له شركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون) إلى آخر الآيات.
ويشبه هذا قوله تعالى: (ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم، الذي جعل لكم الأرض مهدا وجعل لكم فيها سبلا لعلكم تهتدون، والذي نزل من السماء ماء بقدر فأنشرنا به بلدة ميتا، كذلك تخرجون، والذي خلق الأزواج كلها) إلى آخر الآيات.
وعلى التقديرين، فهؤلاء لم يتم لهم إنكار نبوة النبي ﷺ ومكابرتهم إلا بهذا الجحد والتكذيب العام، ورأوا أنهم إن أقروا ببعض النبوات وجحدوا نبوته ظهر تناقضهم وتفريقهم بين المتماثلين وأنهم لا يمكنهم الإيمان بنبي وجحد نبوة مَن نبوته أظهر وآياتها أكثر وأعظم ممن أقروا به، وأخبر سبحانه أن من جحد أن يكون قد أرسل رسله وأنزل كتبه لم يقدره حق قدره وأنه نسبه إلى ما لا يليق به، بل يتعالى ويتنزه عنه.
فإن في ذلك إنكار دينه وإلهيّته وملكه وحكمته ورحمته، والظن السيء به أنه خلق خلقه عبثا باطلا وأنه خلاهم سدا مهملا، وهذا ينافي كماله المقدس، وهو متعال عن كل ما ينافي كماله، فمن أنكر كلامه وتكليمه وإرساله الرسل إلى خلقه فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق عظمته، كما أن من عبد معه إلها غيره لم يقدره حق قدره، معطل جاحد لصفات كماله ونعوت جلاله وإرسال رسله وإنزال كتبه ولا عظمه حق عظمته.
ولذلك كان جحد نبوة خاتم أنبيائه ورسله وإنزال كتبه وتكذيبه إنكارا للرب تعالى في الحقيقة وجحودا له، فلا يمكن الإقرار بربوبيته وإلهيّته وملكه، بل ولا بوجوده، مع تكذيب محمد بن عبد الله ﷺ.
وقد أشرنا إلى ذلك في المناظرة التي تقدمت، فلا يجامع الكفر برسول الله ﷺ الإقرار بالرب تعالى وصفاته أصلا، كما لا يجامع الكفر بالمعاد واليوم الآخر الإقرار بوجود الصانع أصلا، وقد ذكر سبحانه ذلك في موضعين من كتابه:
في سورة الرعد في قوله: (وإن تعجب فعجب قولهم أئذا كنا ترابا أئنا لفي خلق جديد، أولئك الذين كفروا بربهم).
والثاني: في سورة الكهف في قوله تعالى: (ودخل جنته وهو ظالم لنفسه، قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وما أظن الساعة قائمة، ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا، قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا، لكنا هو الله ربي ولا أشرك بربي أحدا).
فالرسول صلوات الله وسلامه عليه إنما جاء بتعريف الرب تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله والتعريف بحقوقه على عباده، فمن أنكر رسالاته فقد أنكر الرب الذي دعا إليه وحقوقه التي أمر بها؛ بل نقول لا يمكن الاعتراف بالحقائق على ما هي عليه مع تكذيب رسوله، وهذا ظاهر جدا لمن تأمل مقالات أهل الأرض وأديانهم.
===============

إنكار النبوات شيمة الفلاسفة والمجوس وعباد الأصنام
فإن الفلاسفة لم يمكنهم الاعتراف بالملائكة والجن والمبدأ والمعاد وتفاصيل صفات الرب تعالى وأفعاله مع إنكار النبوات؛ بل والحقائق المشاهدة التي لا يمكن إنكارها لم يثبتوها على ما هي عليه ولا أثبتوا حقيقة واحدة على ما هي عليه البتة، وهذا ثمرة إنكارهم النبوات. فسلبهم الله إدراك الحقائق التي زعموا أن عقولهم كافية في إدراكها، فلم يدركوا منها شيئا على ما هو عليه، حتى ولا الماء ولا الهواء ولا الشمس ولا غيرها.
فمن تأمل مذاهبهم فيها علم أنهم لم يدركوها، وإن عرفوا من ذلك بعض ما خفي على غيرهم.
وأما المجوس فأضل وأضل.
وأما عباد الأصنام فلا عرفوا الخالق ولا عرفوا حقيقة المخلوقات ولا ميزوا بين الشياطين والملائكة، وبين الأرواح الطيبة والخبيثة، وبين أحسن الحسن وأقبح القبيح، ولا عرفوا كمال النفس وما تسعد به، ونقصها وما تشقى به.
وأما النصارى فقد عرفت ما الذي أدركوه من معبودهم وما وصفوه به وما الذي قالوه في نبيهم، وكيف لم يدركوا حقيقته البتة، ووصفوا الله بما هو من أعظم العيوب والنقائص، ووصفوا عبده ورسوله بما ليس له بوجه من الوجوه.
وما عرفوا الله ولا رسوله، والمعاد الذي أقروا به لم يدركوا حقيقته، ولم يؤمنوا بما جاءت به الرسل من حقيقته، إذ لا أكل عندهم في الجنة ولا شرب ولا زوجة هناك، ولا حور عين يلذ بهن الرجال كلذاتهم في الدنيا، ولا عرفوا حقيقة أنفسهم وما تسعد به وتشقى، ومن لم يعرف ذلك فهو أجدر أن لا يعرف حقيقة شيء كما ينبغي البتة، فلا لأنفسهم عرفوا، ولا لفاطرهم وبارئها، ولا لمن جعله إليه سببا في فلاحها وسعادتها، ولا للموجودات وأنها جميعها فقيرة مربوبة مصنوعة، ناطقها وصامتها آدميها وجنيها وملكها، فكل من في السموات عبده وملكه، وهو مخلوق مصنوع مربوب فقير من كل وجه، ومن لم يعرف هذا لم يعرف شيئا.
================

غباوة اليهود
وأما «اليهود» فقد حكى الله لك عن جهل أسلافهم وغباوتهم وضلالهم ما يدل على ما وراءه من ظلمات الجهل التي بعضها فوق بعض، ويكفي في ذلك عبادتهم العجل الذي صنعته أيديهم من ذهب، ومن عبادتهم أن جعلوه على صورة أبلد الحيوان وأقله فطانة الذي يضرب المثل به في قلة الفهم.
فانظر إلى هذه الجهالة والغباوة المتجاوزة للحد، كيف عبدوا مع الله إلها آخر، وقد شاهدوا من أدلة التوحيد وعظمة الرب وجلاله ما لم يشاهده سواهم؟
وإذا قد عزموا على اتخاذ إله دون الله، فاتخذوه ونبيهم حي بين أظهرهم لم ينتظروا موته!
وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الملائكة المقربين ولا من الأحياء الناطقين بل اتخذوه من الجمادات!
وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر العلوية كالشمس والقمر والنجوم بل من الجواهر الأرضية!
وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من الجواهر التي خلقت فوق الأرض عالية عليها كالجبال ونحوها، بل من جواهر لا تكون إلا تحت الأرض و الصخور والأحجار عالية عليها!
وإذ قد فعلوا فلم يتخذوه من جوهر يستغني عن الصنعة وإدخال النار وتقليبه وجوها مختلفة وضربه بالحديد وسبكه، بل من جوهر يحتاج إلى نيل الأيدي له بضروب مختلفة وإدخاله النار وإحراقه واستخراج خبثه! وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال ملك كريم ولا نبي مرسل، ولا على تمثال جوهر علوي لا تناله الأيدي بل على تمثال حيوان أرضي!
وإذ قد فعلوا فلم يصوغوه على تمثال أشرف الحيوانات وأقواها وأشدها امتناعا من الضيم، كالأسد والفيل ونحوهما، بل صاغوه على تمثال أبلد الحيوان وأقبله للضيم والذل، بحيث يحرث عليه الأرض ويسقى عليه بالسواقي والدواليب، ولا له قوة يمتنع بها من كبير ولا صغير.
فأي معرفة لهؤلاء بمعبودهم ونبيهم وحقائق الموجودات؟
وحقيق بمن سأل نبيه أن يجعل له إلها فيعبد إلها مجعولا بعد ما شاهد تلك الآيات الباهرات أن لا يعرف حقيقة الإله ولا أسماءه وصفاته ونعوته ودينه، ولا يعرف حقيقة المخلوق وحاجته وفقره.
ولو عرف هؤلاء معبودهم ورسولهم لما قالوا لنبيهم: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) ولا قالوا له: (اذهب أنت وربك فقاتلا) ولا قتلوا نفسا وطرحوا المقتول على أبواب البرآء من قتله، ونبيهم حي بين أظهرهم وخبر السماء والوحي يأتيه صباحا ومساء، فكأنهم جووزا أن يخفى هذا على الله كما يخفى على الناس.
ولو عرفوا معبودهم لما قالوا في بعض مخاطباتهم له: «يا أبانا انتبه من رقدتك كم تنام».
ولو عرفوه لما سارعوا إلى محاربة أنبيائه وقتلهم وحبسهم ونفيهم، ولما تحيلوا على تحليل محارمه وإسقاط فرائضه بأنواع الحيل. ولقد شهدت التوراة بعدم فطانتهم وأنهم من الأغبياء، ولو عرفوه لما حجروا عليه بعقولهم الفاسدة أن يأمر بالشيء في وقت لمصلحة ثم يزيل الأمر به في وقت آخر لحصول المصلحة وتبدله بما هو خير منه، وينهى عنه ثم يبيحه في وقت آخر لاختلاف الأوقات والأحوال في المصالح والمفاسد، كما هو مشاهد في أحكامه القدرية الكونية التي لا يتم نظام العالم ولا مصلحته إلا بتبديلها واختلافها بحسب الأحوال والأوقات والأماكن، فلو اعتمد طبيب أن لا يغير الأدوية والأغذية بحسب اختلاف الزمان والأماكن والأحوال لأهلك الحرث والنسل وعد من الجهال، فكيف يحجر على طبيب القلوب والأديان أن تتبدل أحكامه بحسب اختلاف المصالح؟
وهل ذلك إلا قدح في حكمته ورحمته وقدرته وملكه التام وتدبيره لخلقه؟
ومن جهلهم بمعبودهم ورسوله وأمره أنهم أمروا أن يدخلوا باب المدينة التي فتحها الله عليهم سجدا ويقولوا حطة، فيدخلوا متواضعين لله سائلين منه أن يحط عنهم خطاياهم، فدخلوا يزحفون على أستاههم بدل السجود لله، ويقولون: «هنطا سقمانا» أي حنطة سمراء، فذلك سجودهم وخشوعهم، وهذا استغفارهم واستقالتهم من ذنوبهم.
ومن جهلهم وغباوتهم أن الله سبحانه أراهم من آيات قدرته وعظيم سلطانه وصدق رسوله ما لا مزيد عليه، ثم أنزل عليهم بعد ذلك كتابه وعهد إليهم فيه عهده وأمرهم أن يأخذوه بقوة فيعبدوه بما فيه، كما خلصهم من عبودية فرعون والقبط فأبوا أن يقبلوا ذلك وامتنعوا منه، فنتق الجبل العظيم فوق رؤوسهم على قدرهم، وقيل لهم: إن لم تقبلوا أطبقته عليكم فقبلوه من تحت الجبل.
قال ابن عباس: رفع الله الجبل فوق رؤوسهم وبعث نارا من قبل وجوههم وأتاهم البحر من تحتهم، ونودوا: إن لم تقبلوا أرضختكم بهذا وأحرقتكم بهذا وأغرقتكم بهذا، فقبلوه، وقالوا: سمعنا وأطعنا، ولولا الجبل ما أطعناك، ولما آمنوا بعد ذلك قالوا: (سمعنا وعصينا).
ومن جهلهم أنهم شاهدوا الآيات ورأوا العجائب التي يؤمن على بعضها البشر، ثم قالوا بعد ذلك: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة) وكان الله سبحانه قد أمر موسى أن يختار من خيارهم سبعين رجلا لميقاته، فاختارهم موسى وذهب بهم إلى الجبل، فلما دنى موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل، وقال للقوم: ادنوا ودنى القوم حتى إذا دخلوا في الحجاب، وقعوا سجدا فسمعوا الرب تعالى وهو يكلم موسى ويأمره، وينهاه ويعهد إليه فلما انكشف الغمام، قالوا: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة).
ومن جهلهم أن هارون لما مات ودفنه موسى، قالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته، حسدته على خلقه ولينه ومحبة بني إسرائيل له، قال: فاختاروا سبعين رجلا، فوقفوا على قبر هارون، فقال موسى: يا هارون: أقتلت أم مت؟ قال: بل مت، وما قتلني أحد.
فحسبك من جهالة أمة وجفائهم أنهم اتهموا نبيهم ونسبوه إلى قتل أخيه، فقال موسى ما قتلته. فلم يصدقوه حتى أسمعهم كلامه وبراءة أخيه مما رموه به.
ومن جهلهم أن الله سبحانه شبههم في حملهم التوراة وعدم الفقه فيها والعمل بها بالحمار يحمل أسفارا، وفي هذا التشبيه من النداء على جهالتهم وجوه متعددة:
منها: أن الحمار من أبلد الحيوانات التي يضرب بها المثل في البلادة. و منها: أنه لو حمل غير الأسفار من طعام أو علف أو ماء لكان له به شعور بخلاف الأسفار.
ومنها: أنهم حملوها لا أنهم حيث حملوها طوعا واختيارا، بل كانوا كالمكلفين لما حملوه لم يرفعوا به رأسا.
ومنها: أنهم حيث حملوها تكليفا وقهرا، لم يرضوا بها ولم يحملوها رضا واختيارا، وقد علموا أنهم لا بد لهم منها، وأنهم إن حملوها اختيارا كانت لهم العاقبة في الدنيا والآخرة.
ومنها: أنها مشتملة على مصالح معاشهم ومعادهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، فإعراضهم عن التزام ما فيه سعادتهم وفلاحهم إلى ضده من غاية الجهل والغباوة وعدم الفطانة.
ومن جهلهم وقلة معرفتهم أنهم طلبوا عوض المن والسلوى، اللذين هما أطيب الأطعمة وأنفعها وأوفقها للغذاء الصالح، البقل والقثاء والثوم والعدس والبصل، ومن رضي باستبدال هذه الأغذية عوضا عن المن والسلوى لم يكثر عليه أن يستبدل الكفر بإلايمان والضلالة بالهدى والغضب بالرضى والعقوبة بالرحمة، وهذه حال من لم يعرف ربه ولا كتابه ولا رسوله ولا نفسه.
وأما نقضهم ميثاقهم وتبديلهم أحكام التوراة وتحريفهم الكلم عن مواضعه وأكلهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم الرشا، واعتدائهم في السبت حتى مسخوا قردة، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وتكذيبهم عيسى ابن مريم رسول الله ورميهم له ولأمه بالعظائم، وحرصهم على قتله، وتفردهم دون الأمم بالخبث والبهت، وشدة تكالبهم على الدنيا وحرصهم عليها وقسوة قلوبهم وحسدهم وكثرة سخرهم: فإليه النهاية.
وهذا وأضعافه من الجهل وفساد العقل قليل على من كذب رسل الله وجاهر بمعاداته ومعادة ملائكته وأنبيائه وأهل ولايته، فأي شيء عرف من لم يعرف الله ورسله؟ وأي حقيقة أدرك من فاتته هذه الحقيقة؟
وأي علم أو عمل حصل لمن فاته العلم بالله والعمل بمرضاته ومعرفة الطريق الموصلة إليه ومآله بعد الوصول إليه؟
===============

إشراق الأرض بالنبوة
ولذلك بعث الله رسله ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، فمن أجابهم خرج إلى الفضاء والنور والضياء، ومن لم يجبهم بقي في الضيق والظلمة التي خلق فيها، وهي ظلمة الطبع وظلمة الجهل وظلمة الهوى وظلمة الغفلة عن نفسه وكمالها وما تسعد به في معاشها ومعادها.
فهذه جملتها، ظلمات خلق فيها العبد، فبعث الله رسله لإخراجه منها إلى العلم والمعرفة والإيمان والهدى الذي لا سعادة للنفس بدونه البتة.
فمن أخطأه هذا النور أخطأه حظه وكماله وسعادته، وصار يتقلب في ظلمات بعضها فوق بعض، فمدخله ظلمة ومخرجه ظلمة وقوله ظلمة وعمله ظلمة وقصده ظلمة وهو متخبظ في ظلمات طبعه وهواه وجهله وقلبه مظلم ووجهه مظلم؛ لأنه يبقى على الظلمة الأصلية ولا يناسبه من الأقوال والأعمال والإرادات والعقائد إلا ظلماتها، فلو أشرق له شيء من نور النبوة لكان بمنزلة إشراق الشمس على بصائر الخفاش.
بصائر أغشاها النهار بضوئه *** ولائمها قطع من الليل مظلم
يكاد نور النبوة يعمي تلك البصائر ويخطفها لشدته وضعفها، فتهرب إلى الظلمات لموافقتها لها وملائمتها إياها، والمؤمن عمله نور وقوله نور ومدخله نور ومخرجه نور وقصده نور، فهو يتقلب في النور في جميع أحواله.
قال الله تعالى: (الله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضئ ولو لم تمسسه نار، نور على نور، يهدي الله لنوره من يشاء، ويضرب الله الأمثال للناس، والله بكل شيء عليم).
ثم ذكر حال الكفار وأعمالهم، وتقلبهم في الظلمات فقال: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب، أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فماله من نور).
والحمد لله أولا وآخرا وباطنا وظاهرا
وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

القلوب لك مُفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت

اللهم أنت أحق من ذُكر، وأحق من عُبد، وأنصر من ابتُغي، وأرأف من مَلَك، وأجود من سُئل، وأوسع مَن أعطى. أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند ...